كان سري النفس، نبيل الخلق، طيب العنصر، يغبطه كل من عرفه على ما وهب من خلال، وما تهيأ له من وسائل الرفاهة وأسباب النعيم؛ وما دروا أن الأمر في السعادة والشقاء إلى ما في داخل النفس لا ما في خارجها، وأن نفوسا قد تشقى في النعيم، ونفوسا قد تسعد في الشقاء.
جزعت لموته واستكنت للعبرة، وفقدت بفقده السلطان على دمعي وقلبي، فرحمه الله ورحمني. •••
ولكن ما الجزع من الموت وقد طال عهدنا به وعرفه بنو آدم منذ عرفوا الحياة؟ ولم لم يألفوه كما ألفوا كثيرا من المر حتى اعتادوه؟ وليس الموت في ذاته مرا ولا أليما، وكما قال أحد الرواقين: «إن الموت هو وحده المصيبة التي لا تمسنا، ففي حياتنا لا موت، وإذا جاء الموت فلا حياة». وقد نظم المتنبي هذا المعنى فقال:
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق
ولكن أعظم الناس شأن الموت لما أحاط به من ظروف، وما اتصل به من خيالات، وأثير حوله من رعب - بالغ بعض رجال الدين في تفظيع الموت، وهولوا من شأنه تهويلا تنخلع له القلوب، وتقشعر منه الجلود؛ لأنهم رأوا في ذلك درسا قاسيا يردع المجرم عن إجرامه، ويزع الآثم عن إثمه؛ ولكن أخشى أن يكونوا قد أفرطوا إفراطا شل النفس وأشاع فيها اليأس، وأنهم - وقد عهد إليهم أن يعادلوا بين الترغيب والترهيب - قد أرهقوا كفة الترهيب حتى ثقلت وهوت، وخففوا كفة الترغيب حتى شالت وعلت؛ ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتنا نتسخط الحياة ونتبرم بها، ثم ما هذه الأخلاق التي هي أشبه ما تكون بأخلاق العبيد! لا ندعى للخير إلا بالعصا، ولا تطلب منا الفضيلة إلا بالسياط! - أليس خيرا من ذلك أن يحدونا إلى خير الحب، لا أن يسوقونا إليه الرعب؟
ثم زاد الموت سوءا ما أحاطه به الأحياء من مظاهر الفزع والألم؛ فصراخ تنفطر له المرائر، وبكاء يذيب لفائف القلوب، والناس حول الميت بين ساهم البصر، ومطرق الطرف، ومكروب النفس، وناكس الرأس، يتأوه الآهة تنقصف منها ضلوعه، ويزفر الزفرة تتصدع منها نفسه. لست أظن أن هذا وأمثاله من طبيعة الإنسان. قد يكون من طبيعته الحزن على فقد القريب والصديق، ولكن ليس من طبيعته الجزع؛ فلو اعتاد قوم أن يقابلوا الموت كما يقابلون أي ظاهرة طبيعية في الحياة لزال الجزع وخف الألم، كما حدث عند بعض الأمم، استطاعوا أن يضبطوا عواطفهم وينفقوا من الحزن بقدر، وأن يرددوا قول القائل: «مات الميت فليحيى الحي»، وتفاخروا بالجلد كما نتفاخر بالجزع، وتواسوا بالثبات، كما نتواسى بالهلع.
ثم كان من الأدباء ما كان من رجال الدين: حزنوا للشيب إذ فقدوا الشباب أكثر مما فرحوا بالشباب يوم أن كان، ووقفوا في مراثيهم موقف النادبات في المآتم، يعجبون كيف كان الموت وكيف نزل، ويلهبون عواطف الناس، ويثيرون أشجانهم، ويعدون أقدارهم على القول وأقربهم إلى الإجادة من عرف كيف يستخرج الدمع ويستنزف الشئون، فكان من هذا وذاك إفساد عواطف الناس من الموت ودفعهم إلى المغالاة في المشاعر.
ثم أخطأ الناس في القياس، فظنوا أن النفس تألم في الحياة الأخرى بما تألم به في الحياة الدنيا؛ ظنوا أن القبر يوحش بعزلته كما يستوحش الحي من عزلته، وأن القبر يرهب بضيقه وظلمته، كما يتبرم الحي بضيق المكان وظلمته، وأن الميت يألم من البرد القارس كما نألم، ويضجر من الحر القاسي كما نضجر، وغاب عنهم إدراك الفرق بين الحياتين، والاختلاف الواسع بين الطبيعتين:
إذا افترقت أجزاء جسمي لم أبل
अज्ञात पृष्ठ