عرف منذ شب بهذه اللوثة، تظهر في حركاته ورمش عينه، وزادت بترديه في بئر أمام بيته، يهيج أحيانا فيطرح ثيابه ويمشي عاريا في الطريق، على عورته خرقة، وعلى أكتافه خرقة، وبيده عصا ومصحف، ويروح إلى الجامع وهو على هذا الحال يعظ ويتزهد؛ وأحيانا تهدأ ثأرته فينادم الأمراء والوزراء، ويعجبون بلطفه وظرفه، وتقول زوجه: إنه إنما كان يهيج إذا لم يأكل اللحم والدسم، فإذا أكلهما هدأ.
قلت: إن لوثته سر عظمته، فإذا هاج أتى بالنوادر الطريفة والكلم السيار؛ ولذلك قالوا فيه: «إنه إذا لم يكن له من يهيجه لم يخرج علمه».
سب مرة خازن الإخشيد أو وزير ماليته، فأخذه وعذبه، ثم أطلقه وأجرى عليه الرزق؛ فكان الصبيان أحيانا إذا رأوه يتصايحون: «يا خازن اخرج عليه» فيهيج ما به وينطق بالقول اللطيف.
كان يقول القول على سجيته، لا يرهب أحدا ولا يخشى سلطانا، قد أدخل مرة مستشفى المجاذيب، ثم أخرجه كافور الإخشيد، فلما مثل بين يديه قال له سيبويه: «ما مثلك يصطنع بعشرين ألف دينار ولا بثلاثين ألفا إذا كنت عادلا، فأما إذا كنت جائرا فأسود بعشرة دنانير يقوم مقامك».
وكان أكثر قوله سجعا، ومن ثم كان أكثر دورانا على الألسنة وأسهل حفظا.
لقي المحتسب وبين يديه أجراسه فقال: «ما هذه الأجراس يا أنجاس، والله ما ثم حق أقمتموه، ولا سعر أصلحتموه، ولا جان أدبتموه، ولا ذو حسب وقرتموه، وما هي إلا أجراس تسمع، لباطل يوضع، وأقفاء تصفع، وبراطيل تقطع ، لا حفظ الله من جعلك محتسبا ، ولا رحم لك ولا له أما ولا أبا».
وكان مخشي اللسان، يهرب الوجهاء والأعيان إذا سمعوا صوته من بعيد، حتى لا يقذفهم بقذيفة من لذعاته تسير في الناس؛ وكان كافور يعجب كيف يسكت المصريون على سبه ويقول: «سبحان من سلط سيبويه عليكم ينتقم منكم وما تقدرون على الانتصار».
وما السبب في هذا إلا أنه كان يعمد إلى الرؤساء فيرميهم بكلماته القارصة، تصيب منهم مقتلا، ويسر الشعب من هذا؛ لأنه يعبر عما في نفوسهم، وينتقم من خصومهم، ويجرؤ بجنونه على ما لم يجرؤ عليه عقلاؤهم؛ وكان يستطيع بلسانه أن يصل إلى ما يتحرج من ذكره المتدينون. لقد كان يوما يؤاكل ابن المادراني الوزير وعنده هارون العباسي، فقدمت هريسة، فقال هارون: أكثر منها يا سيبويه فإنها تذهب بالوسواس من رأسك؛ فكف سيبويه عن الطعام وأخذ يفكر، فقالوا: فيم تفكر؟ قال: أفكر في امتناع إبليس عن السجود لآدم، والآن ظهر عذره - علم إبليس أن هذا في صلب آدم فلم يسجد له، ولو عرض على كلاب اليهود أن تسجد لنسبة هذا في ظهرها ما فعلت.
ونحو هذا من أنواع الهجاء القاسي.
وهو مع هذا أديب ظريف، له نظرات في الأدب جميلة. يقول: إن أفضل الكلام ما اعتدلت مبانيه، وعذبت معانيه، واستسلس على ألسنة ناطقيه، ولم يستأذن على آذان سامعيه.
अज्ञात पृष्ठ