وكان منظره في استامبول غريبا: يجلس في مقهى عرفه البؤساء والمحتاجون، فهو يمنحهم ما أمكنه، وهو الفقير الذي لا دخل له إلا معاشه الخمسة والعشرون جنيها، ينفق منها ثلثها على نفسه؛ وثلثيها على مروءته، وطويل أن نعد مآثره في هذا الباب.
أحب العزلة وأكثر التفكير؛ فهو في بيته وحده، إذ لا زوجة له ولا ولد، وفي تروضه وحده غالبا، وهو وحده في أكثر أوقاته، صديقه الكتاب؛ ثم ضعفت أعصابه ففقد صداقة الكتاب أيضا إلا نادرا، وكان تفكيره في العالم حينا وفي نفسه كثيرا.
وهذه حالة تستتبع الوحشة، وتستتبع التشاؤم، وتستتبع الحزن والانقباض، وكذلك كان شأنه.
غلب عليه الخجل في غلو والخجل - كما يقول بعض علماء النفس - سببه كثرة تفكير الإنسان في نفسه، فهو إذا مشى ظن أن الناس كلهم ينظرون إليه وينقدون مشيته، وإذا تكلم ظن أن الناس كلهم ينصتون إليه وينقدون كلامه، وإذا تحرك أو سكن أو تنفس فالناس يعدون حركاته وسكناته وأنفاسه، فكان هذا الخلق فيه أكبر شقائه؛ وبلغت به الحالة أن كان في آخر أيامه إذا جلس في مقهى اختار مكانه وراء عمود، وإذا سكن في «بنسيون» صحا قبل أن يصحو الناس، وعاد بعد أن ينام الناس، حتى لا يراه الناس، وإذا عزم على الرياضة فليلا حتى تستره ظلمة الليل، وإذا مشى في الشارع ليلا اختار من الشوارع أخلاها من الناس. •••
تملكه خلق الرحمة فظهر منه في كل شيء. رحم الناس فخرج لهم عن ماله، ورحم المرأة فأبى أن يتزوج، ورحم الحيوان فعاش نباتيا، وأخيرا رحم نفسه. وويل للإنسان إذا رحم نفسه وأشفق عليها، إنه ليعذب في ذلك عذابا لا يعذبه أحد؛ نعمة كبرى أن يرحم الإنسان غيره، وشقوة كبرى أن يرحم الإنسان نفسه؛ فالرحمة استضعاف للمرحوم، فإذا استضعف نقسه فهناك الألم والحسرة، وهناك فقدان الثقة بالنفس، وهناك انسحاب من الجهاد في الحياة، وهل الحياة إلا جهاد.
رحم الله «علي فوزي»، فقد عاش غريبا، ومات غريبا، وأخشى أن يبعث غريبا.
الشمس
أي شيء أحب إلى النفس، من المتعة هذه الأيام بالشمس، والحديث عن الشمس؟
فقد أقرسنا البرد حتى اصطكت منه أسناننا، وانكمش جلدنا، ويبست أطرافنا، وحتى وددنا - إذا رأينا النار - أن نحتضنها، وإذا رأينا الجمرة أن نلتهمها. ولوددت في هذه الأيام أن أكون فرانا، أو طباخا، أو سائق قطار، حتى لا أفارق النار. •••
كل شيء في الطبيعة جميل، وأجمل ما فيها شمسها.
अज्ञात पृष्ठ