فليس لهذه الأبيات في نظر أنصار التميع والرخاوة أي جمال موسيقي، وألفاظها ذات قسوة وجفوة في اعتبارهم، ولكننا نعدها جد ملائمة لموضوعها ونحفل بقوتها، ونعتبر موسيقاها طبيعية منسجمة وموضوعها ومستمدة من صميم معانيه. ويقول المتفلسفون منهم: إن الموسيقى الساحرة ضرورية للشعر (وهم لا يعنون في الواقع إلا الموسيقى الناعمة) لأنها تخدر أعصاب القارئ أو المستمع أو عقلهما الباطن إلى درجة تجعل معانيه تتسلل إلى الذهن غير مستأذنة فتبلغ معانيه غايتها من النفس وتؤدي رسالتها. وعندنا أن هذا لا ينطبق عادة إلا على أصحاب العقول البدائية من أشباه العامة أو على أهل الثقافة المحدودة أو على ذوي الأمزجة العصبية الشديدة، وأما ذوو الثقافة الواسعة المتزنون فتكفي لاستهوائهم تلك القوة التصويرية الرائعة في أبيات ابن الرومي الأربعة، فإذا بهم يتمثلون أمامهم أصدق التمثل حالة الهاجرة في الصحراء وكأنهم فيها، وحسب الشعر أن يكون له من ذاتية خياله هذا التأثير الغلاب على النفوس المثقفة دون أن يحتاج إلى الصناعة الموسيقية لإثبات شخصيته الفنية التي لا تحتاج إلى وصي عليها لا من الموسيقى ولا من غيرها.
ومن هذا القبيل قصيدة «أعمار الإنسان السبعة» لشكسبير؛ فإنها من الشعر المرسل، وليست لها أية موسيقى بالمعنى الذي ألفه أصحابنا المحافظون ومن شايعهم، ومع ذلك فهي آية من الشعر التصويري الفلسفي، وكل أديب مثقف يعرف الإنجليزية يستمتع بتلاوتها كما يستمتع بتلاوة «خطاب مارك أنطوان على جثة قيصر» لشاعرنا نفسه وبأمثال هذا الشعر العبقري في مؤلفاته العديدة، ومعظمه من الشعر المرسل البعيد عن الموسيقى الغنائية الرتيبة - ذلك لأن قوة هذا الشعر الذاتية كافية من تلقاء نفسها لاستهواء النفوس المثقفة المتزنة بغير ما حاجة إلى الصناعة الموسيقية التي لا محل لها في غير الشعر الليريكي الخالص. وكم من جنايات على الشعر يرتكبها باسمه أولئك المزماريون الذين ليس لهم حظ كبير من الطاقة الشعرية وإنما كل حظهم محصور في قدرتهم الموسيقية! فيشجعهم تصفيق الجمهور الذي يستهوونه على العبث بتعريف الشعر وأغراضه، ولا يغنم الأدب الصحيح منهم شيئا، بل هم يسيئون إليه بصرف المتأدبين عن إنتاج أعلامه المنجبين الحريصين على استقلاله. •••
وبديهي أننا لا ننكر أثر الموسيقى العظيم على النفوس، بل لن ننكر أثر جميع الفنون الجميلة، ولا ننكر أن للشعر نبعا من الموسيقى، ولكن ذلك هو الشعر الغنائي الديني والوجداني الأصيل، ولا ينسحب هذا الحكم على الشعر العالي الذي يستند إلى ذاتيته قبل أن يستند إلى عون الموسيقى. ومن ذا الذي ينكر أثر الموسيقى النفساني في رفاهة السلم وفي عنف الحرب، أو ينكر أثرها الشديد في النفوس العصبية، حتى إن القدماء كانوا يستعملونها في تخفيف ألم المصاب بلدغ العناكب السامة، وما يزال السحرة في أفريقيا وغيرها يعتمدون عليها في تطبيبهم؟ ولعل من أبرز الأمثلة للتأثر الموسيقي ما حكي عن المغنية الإسبانية الشهيرة أديلينا باتي فقد كانت تبدو العبرات إلى مقلتيها وتضطر إلى مغادرة الردهة كلما طرقت سمعها أنشودة راعتها من أناشيد بيتهوفن! فالصلة الوثيقة بين الموسيقى والأعصاب أمر غير منكور، وعلينا أن نكبر الشاعر البارع الذي يستطيع أن يمزج فنه بين أسر الموسيقى الخلابة وقوة العاطفة وروعة الخيال وإشراق الديباجة في وحدة متجانسة ساحرة. ولكن هذا المزيج غير مستطاع إلا في النادر مهما تكن براعة الشاعر - ذلك لأن الشعر العالي يتطلب التعمق الفكري والسمو الخيالي والتطلع الإنساني البعيد، وهذه عناصر تستدعي تحرر الشاعر وطلاقته اللفظية حتى تتجه شاعريته إلى الإبداع القوي الحر بدل أن تكون أسيرة الموسيقى. وهذا ملحوظ عند أبي تمام، والمعري، ودانتي، وشيلي، وجيته، وملتون، وأضرابهم بصورة واضحة لا نزاع فيها. وهيهات أن يصل إلى مرتبتهم الشعرية العالية أمثال البحتري، وابن زيدون، وسوينبرن، وديفز، وأشباههم ممن كان طبعهم موسيقيا غنائيا قبل أن يكون شعريا عاليا. ولا غرابة في ذلك فإن المزاج الفني قد يتوزع أو قد يتداعى، وخصوصا في ذوي الأمزجة العصبية المرهفة، ومن الأمثلة البارزة في وقتنا هذا النجمتان السينمائيتان ماي كلاك، وليليان بوند فإن لهما شعرا رائعا مرددا في أمريكا ومتناقلا في غيرها.
لنرحب بالشعر الموسيقي الحبيب وبالشعر العاطفي الخالص، ولنعرف لمثل هذا الشعر قدره. ولكن يجب ألا ننسى أن الشعر ليس هذا فحسب، بل إن فلسفة الشعر تذهب إلى أبعد من هذا
3
وإن أسمى الشعر ليس وليد الألحان الرتيبة، وليس الشعر الغنائي بالمقصور على الشعر العاطفي وحده
4
دع عنك شعر الرخاوة والتميع أو شعر الخشونة الفظ الذي ينعته بعض الأدباء بشعر الرجولة، كأنما الحب الظافر الحقيقي أمر واغتصاب وليس تجاوبا تاما بين الجنسين!
5
وليس من شك في أن جمهرة الناس لا تعنى بالخواطر الشعرية العميقة ولا بالمثل العليا في الشعر، وإنما كل ما يشجيها هو النغم الآسر، ومن ثمة كانت الموسيقى مقدمة على التعابير في الأناشيد العامة بعكس ما يتخيله معظم شعرائنا. ولولا الروح العامية في الأدب لما أنكرت طويلا شاعرية الفحول المفكرين من أعلام الشعر العربي ولما بقي أبو تمام إلى وقتنا هذا لا يعنى بعبقريته العناية الواجبة.
अज्ञात पृष्ठ