[مُقَدِّمَة الْكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيُّ ﵁ وَأَرْضَاهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ابْتَدَأَ الْإِنْسَانَ بِنِعْمَتِهِ.
ــ
[الفواكه الدواني]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَظِيمِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمَانِّ عَلَيْنَا بِنِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُبَيِّنِ لَنَا مَعَالِمَ حُدُودِ الْأَحْكَامِ، مُفَرِّقًا لَنَا فِيهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَيْسَ لِنِهَايَتِهِ أَمَدٌ، الْمُنَزَّهُ عَنْ الصَّاحِبَةِ. وَالشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، مَنْ بِخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ انْفَرَدَ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي كُلِّ أَمَدٍ.
(وَبَعْدُ): فَيَقُولُ الْعَبْدُ الْحَقِيرُ الضَّعِيفُ، وَالْمُفْتَقِرُ إلَى مَوْلَاهُ الْقَوِيِّ اللَّطِيفِ، أَحْمَدُ بْنُ غُنَيْمِ بْنِ سَالِمٍ النَّفْرَاوِيُّ بَلَدًا، الْأَزْهَرِيُّ مَوْطِنًا الْمَالِكِيُّ مَذْهَبًا، قَدْ كَثُرَ اشْتِغَالُ النَّاسِ بِرِسَالَةِ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبَةِ بِبَاكُورَةِ السَّعْدِ وَبِزُبْدَةِ الْمَذْهَبِ، لِمَا ظَهَرَ فِي الْخَافِقَيْنِ مِنْ أَثَرِهَا وَبَرَكَتِهَا، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مُخْتَصَرٍ ظَهَرَ فِي الْمَذْهَبِ بَعْدَ تَفْرِيعِ ابْنِ الْجَلَّابِ وَكَثُرَتْ الشُّرَّاحُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ يُسْتَغْنَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ غَيْرِهِ، أَرَدْت أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا شَرْحًا مُشْتَمِلًا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِفَضْلِهِ الْعَمِيمِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، بِحَيْثُ إنَّ الشَّيْخَ أَوْ الطَّالِبَ يَسْتَغْنِي بِهِ عِنْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ وَسَمَّيْته: (الْفَوَاكِهُ الدَّوَانِي عَلَى رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ) .
وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْمَانَّ بِفَضْلِهِ أَنْ يَرْزُقَنِي الْإِخْلَاصَ بِوَضْعِهِ لِيَكُونَ مُوجِبًا لِلْفَوْزِ لَدَيْهِ لِلْقَطْعِ بِعَجْزِنَا وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَمْرَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَسَلَكْت فِيهِ صَنْعَةَ الْمَزْجِ لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُهُ، فَقُلْت مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ إنَّهُ مُفِيضُ الْخَيْرِ وَالْجُودِ.
قَوْلُهُ: (بِسْمِ) ابْتَدَأَ بِهَا لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الِابْتِدَاءُ بِهَا اقْتِدَاءً بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي أَشْرَفُهَا الْقُرْآنُ لِمَا قَالَهُ الْعَلَامَةُ أَبُو بَكْرٍ التُّونُسِيُّ مِنْ إجْمَاعِ عُلَمَاءِ كُلِّ مِلَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ جَمِيعَ كُتُبِهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَشْهَدُ لَهُ خَبَرُ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَاتِحَةُ كُلِّ كِتَابٍ»، وَقَوْلُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ أَنَّهَا مَبْدَأُ كَلِمَاتِ اللَّهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ عَلَى آدَمَ ثُمَّ رُفِعَتْ وَأُنْزِلَتْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ حَتَّى أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِينَ اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ بَلْ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَلَمْ تَزُلْ النَّاسُ تَقْتَدِي بِالْأَشْرَفِ وَعَمَلًا بِخَبَرِ «كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ بِحَمْدٍ أَوْ لَا يُفْتَتَحُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ أَوْ أَبْتَرُ أَوْ أَجْذَمُ» أَيْ قَلِيلُ الْبَرَكَةِ أَوْ مَقْطُوعُهَا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ مِنْهَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ، فَكُلُّ لَفْظٍ اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْهَا يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ ذِكْرٍ.
وَلَا يُقَالُ: الْقَاعِدَةُ عَكْسُ هَذَا الْحَمْلِ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا فِي آيَتَيْ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي الظِّهَارِ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالْمُؤْمِنَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: قَاعِدَةُ الْأُصُولِيِّينَ مَشْرُوطَةٌ بِكَوْنِ الْقَيْدِ وَاحِدًا، وَأَمَّا إذَا تَعَدَّدَتْ الْقُيُودُ وَتَخَالَفَتْ فَيُرْجَعُ لِلْمُطْلَقِ أَوْ يُحْمَلُ حَدِيثُ الْبَسْمَلَةِ عَلَى الْبَدْءِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ أَوَّلُ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِحَيْثُ لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ.
وَحَدِيثُ الْحَمْدَلَةِ عَلَى الْإِضَافِيِّ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ أَمَامَ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ فَيَصَدَّقُ بِمَا بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ، وَلَمْ يُعْكَسْ لِقُوَّةِ حَدِيثِ الْبَسْمَلَةِ وَلِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْوَارِدِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، أَوْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الرِّوَايَاتِ تَخْيِيرُ الْبَادِئِ فِي الْعَمَلِ بِرِوَايَةٍ مِنْهَا، لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَلَمْ يُعْلَمْ سَبْقٌ وَلَا نَسْخٌ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فِي الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا كَمَا فِي الْأُصُولِ، ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ مُرْشِدُ الشِّيرَازِيِّ، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ يُوقَفُ عَنْ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَهَذَا التَّعَارُضُ الْمُحْتَاجُ
1 / 3
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
لِتِلْكَ الْأَجْوِبَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى حَمْلِ الْبَاءِ فِي بِسْمِ اللَّهِ وَفِي بِالْحَمْدِ لِلَّهِ صِلَةً لِيُبْدَأَ.
وَأَمَّا إنْ جُعِلَتْ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ التَّبَرُّكِيَّةِ أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ فَلَا تَعَارُضَ، لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِشَيْءٍ لَا تُنَافِي الِاسْتِعَانَةَ بِغَيْرِهِ، وَمَعْنَى الْبَالِ الْحَالُ وَالشَّأْنُ، وَمَعْنَى أَقْطَعُ وَأَجْذَمُ وَأَبْتَرُ نَاقِصٌ قَلِيلُ الْبَرَكَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَهُوَ مَا حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ نَحْوُ زَيْدٌ حِمَارٌ أَوْ أَسَدٌ أَيْ كَأَجْذَمَ أَوْ كَأَبْتَرَ فِي النَّقْصِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ الْأَجْذَمَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّلِيمِ، وَالشَّاةُ ذَاتُ الذَّنَبِ كَامِلَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَقْطُوعَتِهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ النَّقْصِ الْمَعْنَوِيِّ بِالْحِسِّيِّ، لِأَنَّ الْحِسِّيَّ قَرِيبٌ لِلنَّفْسِ تُدْرِكُهُ سَرِيعًا فَشَبَّهَ ﷺ بِهِ لِذَلِكَ، وَقَيَّدَ الْأَمْرَ بِذِي الْبَالِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْأُمُورِ غَيْرِ ذَاتِ الْبَالِ وَهِيَ سَفَاسِفُ الْأُمُورِ وَمُحَقِّرَاتِهَا، فَلَا تُطْلَبُ فِيهَا بَسْمَلَةٌ لِعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِهَا أَوْ يُهْتَمُّ بِهَا لَا شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا تَسْمِيَةٌ بَلْ تَحْرُمُ فِي الْمُحَرَّمِ وَتُكْرَهُ فِي الْمَكْرُوهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْبَسْمَلَةُ وَالْحَمْدَلَةُ مِنْ الْأُمُورِ ذَوَاتِ الْبَالِ فَتَحْتَاجُ إلَى الْبَسْمَلَةِ وَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ.
أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ الَّذِي يُقْصَدُ فِي ذَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ وَسِيلَةً لِغَيْرِهِ.
ثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ كُلٌّ مِنْ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ، كَمَا يُحَصِّلُ الْبَرَكَةَ لِغَيْرِهِ وَيَمْنَعُ نَقْصَهُ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُحَصِّلَ الْبَرَكَةَ لِنَفْسِهِ كَالشَّاةِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ تُزْكِي نَفْسَهَا وَغَيْرَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ الْوَسِيلَةَ قَدْ تُطْلَبُ فِيهَا الْبَسْمَلَةُ كَالْوُضُوءِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَثِيرٌ مِنْ الْأُمُورِ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَلَا يَتِمُّ وَكَثِيرٌ بِالْعَكْسِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمَامِ فِي الْحَدِيثِ كَوْنُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا بِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ وَيُحَصِّلُ الْبَرَكَةَ، وَيُعْدِمُ تَمَامُهُ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ فِي الشَّرْعِ، فَالْمُرَادُ بِتَمَامِهِ تَمَامُهُ فِي الْمَعْنَى، وَبِعَدَمِ تَمَامِهِ نَقْصِهِ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَمُلَ فِي الْحِسِّ.
فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى الْحَدِيثِ ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: ٣٠] فَإِنَّهُ لَمْ يُصَدِّرْ اسْمَ اللَّهِ لِأَنَّ صُورَةَ الْكِتَابِ الَّذِي أَرْسَلَهُ سُلَيْمَانُ ﵇ لِبِلْقِيسَ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُد إلَى بِلْقِيسَ مَلِكَةِ سَبَأٍ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴿أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: ٣١] ثُمَّ طَبَّقَهُ بِالْمِسْكِ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ ثُمَّ قَالَ لِلْهُدْهُدِ: اذْهَبْ بِكِتَابِي، هَذَا فَأَلْقِهِ إلَيْهِمْ أَيْ إلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا مَعَ أَنَّ الْكِتَابَ مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحْسَنِهَا وَعَلَيْهِ نَقْتَصِرُ أَنَّ بِلْقِيسَ لَمَّا كَانَتْ كَافِرَةً خَافَ سُلَيْمَانُ أَنْ تُهِينَ اسْمَ اللَّهِ إذَا رَأَتْهُ مُصَدَّرًا بِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَصَدَّرَ سُلَيْمَانُ اسْمَهُ لِيَكُونَ وِقَايَةً لِاسْمِهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: مُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ بِاَللَّهِ بَدَلَ بِسْمِ اللَّهِ حَتَّى يَصْدُقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الِابْتِدَاءِ بِاسْمِ اللَّهِ فَلِمَاذَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ؟ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ وَرَدَ عَلَى اسْمٍ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ وَارِدٌ عَلَى مَدْلُولِهِ إلَّا لِقَرِينَةٍ كَضَرَبَ فِعْلُ مَاضٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ: ذَكَرْت اسْمَ زَيْدٍ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ اسْمٍ بَلْ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ زَيْدٍ لِأَنَّهُ مَدْلُولُ اسْمِ زَيْدٍ، إذْ مَدْلُولُ اللَّفْظِ الدَّالُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَفْظُ زَيْدٍ، فَكَذَا قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ مَعْنَاهُ أَبْتَدِئُ بِمَدْلُولِ اسْمِ اللَّهِ وَهُوَ لَفْظُ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِاَللَّهِ أَبْتَدِئُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ لِأَنَّ التَّبَرُّكَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِذِكْرِ اسْمِهِ أَوْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ أَيْ الْحَلِفِ وَالتَّيَمُّنِ أَيْ التَّبَرُّكِ، وَلِأَنَّ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ لَا يُذْكَرُ بَلْ اسْمُهُ وَحَضْرَتُهُ وَجَنَابُهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَامٌ عَلَى الْمَجْلِسِ الْعَالِي وَعَلَى الْحَضْرَةِ الْعَالِيَةِ، وَقَوْلُنَا ضَرَبَ فِعْلٌ مَاضٍ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالْفِعْلِيَّةِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ وَارِدٌ عَلَى ضَرْبِ نَفْسِهِ لَا عَلَى مَدْلُولِهِ مِنْ الْحَدَثِ وَالزَّمَنِ بِقَرِينَةِ امْتِنَاعِ وُرُودِهِ عَلَيْهِ، إذْ الْفِعْلِيَّةُ الْمَحْكُومُ بِهَا إنَّمَا يَتَّصِفُ بِهَا اللَّفْظُ لَا الْحَدَثُ وَالزَّمَانُ.
وَالِاسْمُ لُغَةً مَا دَلَّ عَلَى مُسَمًّى، وَعُرْفًا مَا دَلَّ مُفْرَدًا عَلَى مَعْنًى بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ بِبَيِّنَتِهِ لِلزَّمَانِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ لِأَنَّهُ يُعْلِي مُسَمَّاهُ وَيُظْهِرُهُ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ مُشْتَقٌّ مِنْ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الثُّلَاثِيَّةِ الْمَحْذُوفَةِ مِنْهَا، وَأَوْ هِيَ لَامُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ أَصْلَهُ عِنْدَهُمْ سَمَوَ، وَفَاؤُهُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ لِأَنَّ أَصْلَهُ عِنْدَهُمْ وَسْمٌ، فَوَزْنُ اسْمٍ إمَّا افْعَ أَوْ اعْلَ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الِاشْتِقَاقِ تَظْهَرُ فِي صِفَاتِ الْبَارِئِ ﷾، فَعَلَى كَلَامِ الْبَصْرِيِّينَ تَكُونُ صِفَاتُهُ تَعَالَى قَدِيمَةً، وَعَلَى كَلَامِ الْكُوفِيِّينَ تَكُونُ حَادِثَةً.
وَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْكُوفِيِّينَ مُعْتَزِلَةً.
لِأَنَّا نَقُولُ: لَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عَلَى الصَّوَابِ عَلَى أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ.
وَجَرَى خِلَافٌ فِي كَوْنِ الِاسْمِ عَيْنَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرَهُ أَوْ وَلَا، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ اللَّفْظُ فَغَيْرُ الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ يَتَأَلَّفُ مِنْ أَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ وَالْمُسَمَّى لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ
1 / 4
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
ذَاتُ الشَّيْءِ فَهُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى لَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَمَّا لَوْ أُرِيدَ بِالِاسْمِ الصِّفَةُ لَانْقَسَمَ انْقِسَامَهَا فَيَكُونُ عَيْنُ الْمُسَمَّى فِي الْوَاحِدِ وَالْقَدِيمِ وَغَيْرِهِ فِي كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ، وَيَكُونُ لَا عَيْنًا وَلَا غَيْرًا فِي نَحْوِ الْحَيِّ وَالسَّمِيعِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الذَّاتِ.
(اللَّهُ) عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ فَهُوَ جُزْئِيٌّ، وَقَوْلُنَا: الْوَاجِبُ الْوُجُودِ إلَخْ تَعْيِينٌ لِلْمَوْضُوعِ لَهُ، فَلَا يُقَالُ: إنَّ الْوَاجِبَ الْوُجُودِ كُلِّيٌّ فَلَا يَكُونُ الْمَوْضُوعُ لَهُ مُعِينًا، فَلَا تُفِيدُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ التَّوْحِيدَ وَهُوَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَدَمُ الِاسْتِجَابَةِ لِكَثِيرِينَ لِعَدَمِ اسْتِجْمَاعِهِمْ شُرُوطَ الدُّعَاءِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَكْلُ الْحَلَالِ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَيُقَالُ: إنَّ بَعْضَ الْجَبَّارِينَ عَزَمَ أَنْ يُسَمِّيَ وَلَدَهُ بِلَفْظِ اللَّهِ فَابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ عَلَيْهِ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ الَّذِي تَرَكَّبَتْ مِنْهُ، فَقِيلَ: أَصْلُهُ لَاهٍ بِالتَّنْوِينِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ مَصْدَرُ لَاهٍ يَلِيهِ لَيْهًا وَلَاهَا إذَا احْتَجَبَ أَوْ ارْتَفَعَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَحْجُوبٌ عَنْ إدْرَاكِ الْأَبْصَارِ وَمُرْتَفِعٌ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَأُدْغِمَ وَفُخِّمَ فَصَارَ اللَّهَ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.
وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إلَهٌ بِالتَّنْوِينِ فَيَكُونُ وَصْفًا لِأَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ وَمَعْنَاهُ الْمَعْبُودُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مُشْتَقًّا، ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ أَلْ فَصَارَ الْإِلَهُ، ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَمْزَةُ وَأُدْغِمَ وَفُخِّمَ، وَمَعْنَاهُ قَبْلَ دُخُولِ أَلْ عَلَيْهِ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْبُودِ مُطْلَقًا، وَبَعْدَ دُخُولِهَا يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، لَكِنْ قَبْلَ الْإِدْغَامِ وَالْحَذْفِ غَلَبَتْهُ تَحْقِيقِيَّةٌ وَبَعْدَهُمَا تَقْدِيرِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّحْقِيقِيَّةَ اللَّفْظُ أُطْلِقَ بِالْفِعْلِيِّ عَلَى غَيْرِ مَا غَلَبَ فِيهِ مِنْ الْأَفْرَادِ، وَالتَّقْدِيرِيَّة اللَّفْظُ فِيهَا صَالِحٌ لِإِطْلَاقِهِ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهَا، لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا الْفَرْدُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللَّفْظُ كَلَفْظِ الْجَلَالَةِ، فَإِنَّ ذَاتَ الْبَارِّي وَاحِدَةٌ وَحَقِيقَةُ الْغَلَبَةِ قَصْرُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ إمَّا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَعَلَى أَنَّ أَصْلَ اللَّهِ إلَهٌ وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَإِنَّهُ وَصْفٌ، فَاخْتُلِفَ فِيمَا اُشْتُقَّ مِنْهُ فَقِيلَ مِنْ أَلِهَ يَأْلَهُ أَلَاهَةً وَأُلُوهَةً بِمَعْنَى عَبَدَ، وَقِيلَ مِنْ أَلِهَ إذَا تَحَيَّرَ؛ لِأَنَّ الْعُقُولَ تَتَحَيَّرُ فِي مَعْرِفَتِهِ، أَوْ مِنْ أَلْهَمْت إلَى فُلَانٍ أَيْ سَكَنْت إلَيْهِ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَطْمَئِنُّ بِذَكَرِهِ وَالْأَرْوَاحَ تَسْكُنُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، أَوْ مِنْ أَلِهَ إذَا فَرَغَ مِنْ أَمْرٍ نَزَلَ إلَيْهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ، فَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا أَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ بِالِاشْتِقَاقِ وَعَدَمِهِ إنَّمَا هُوَ أَصْلُ لَفْظِ الْجَلَالَةِ لَا لَفْظِهَا، خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْأَلْسِنَةُ وَفِي عِبَارَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ، وَنَقْلِ الْأُسْتَاذِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ تَعَالَى صَالِحَةٌ لِلتَّخَلُّقِ بِهَا أَوْ التَّعَلُّقِ إلَّا لَفْظَ الْجَلَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا لِلتَّعَلُّقِ، وَمَعْنَى التَّعَلُّقِ الِاعْتِمَادُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالِافْتِقَارُ إلَيْهِ، وَمَعْنَى التَّخَلُّقِ.
الِاتِّصَافُ فَإِنَّ نَحْوَ الرَّحْمَنِ وَالْحَلِيمِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِمَعْنَاهُمَا بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ نَحْوُ فُلَانٌ حَلِيمٌ أَوْ عِنْدَهُ رَحْمَةٌ.
(الرَّحْمَنِ) أَيْ الْبَالِغُ فِي الرَّحْمَةِ وَالْإِنْعَامِ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ (الرَّحِيمِ) الْمُنْعِمِ بِدَقَائِقِ النِّعَمِ، وَالرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ بُنِيَتَا لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ رَحِمَ كَالْعَلِيمِ مِنْ عَلِمَ، وَاسْتُعْمِلَتَا مَجَازًا فِي الْكَثْرَةِ كَسَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كَغَفُورٍ وَشَكُورٍ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا، لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ الْحَقِيقِيَّةَ إثْبَاتُك لِلشَّيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، وَصِفَاتُهُ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ لِبُلُوغِهَا الْغَايَةَ، وَلَا يُقَالُ: الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ إنَّمَا تُصَاغُ مِنْ اللَّازِمِ وَرَحِمَ مُتَعَدٍّ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْفِعْلُ الْمُتَعَدَّى إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَدْحُ أَوْ الذَّمُّ يُجْعَلُ لَازِمًا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْغَرِيزَةِ، فَيُنْقَلُ إلَى بَابِ فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ ثُمَّ تُشْتَقُّ مِنْهُ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ أَوْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَمَا جُعِلَ لَازِمًا أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَدٍّ لِلْمَفْعُولِ لَكِنْ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَفْعُولِهِ فَلَا يُذْكَرُ وَلَا يُقَدَّرُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالرَّحْمَةُ الْمَفْهُومَةُ مِنْ رَحْمَنٍ وَرَحِيمٍ لُغَةً رِقَّةٌ فِي الْقَلْبِ وَانْعِطَافٌ تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ وَالْإِحْسَانَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ حَمْلُهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عَلَى الْغَايَةِ لَا عَلَى الْمَبْدَأِ، فَالتَّفَضُّلُ وَالْإِحْسَانُ غَايَةُ الرَّحْمَةِ وَالرِّقَّةُ مَبْدَؤُهَا، وَكَذَا سَائِرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا تُؤْخَذُ فِي حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ الْمَبَادِئِ الَّتِي هِيَ انْفِعَالَاتٌ، فَالرَّحْمَةُ فِي حَقِّهِ إرَادَةُ التَّفَضُّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ ذَاتٍ أَوْ نَفْسِ التَّفَضُّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ فِعْلٍ، فَهِيَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي الْإِحْسَانِ أَوْ فِي إرَادَتِهِ بِإِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ أَوْ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، وَهِيَ مَا يَكُونُ وَجْهُ الشَّبَهِ فِيهَا مُنْتَزَعًا مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ، بِأَنْ يُمَثَّلَ حَالُهُ تَعَالَى بِحَالِ مَلِكٍ عَطَفَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَرَقَّ لَهُمْ فَعَمَّهُمْ مَعْرُوفُهُ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَأُرِيدَ غَايَتُهُ الَّتِي هِيَ الْإِحْسَانُ أَوْ إرَادَتُهُ، وَمِنْ هُنَا يُؤْخَذُ أَنَّ الرَّحْمَنَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عَلَى نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ مِنْ فَنِّ الْبَيَانِ يَطُولُ ذِكْرُهُ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ اللَّهُ عَلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّهُ اسْمٌ.
بِخِلَافِهِمَا، وَالذَّاتُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الصِّفَاتِ، وَقَدَّمَ الرَّحْمَنَ عَلَى الرَّحِيمِ
1 / 5
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
لِأُمُورٍ: مِنْهَا اخْتِصَاصُهُ بِالْبَارِئِ بِخِلَافِ الرَّحِيمِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَالْمُخْتَصُّ الْمُعَرَّفُ بِالْأَلْفِ وَاللَّامِ فَلَا يَرِدُ لَا زِلْت رَحْمَانًا، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ لَا زِلْت ذَا رَحْمَةٍ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَاعْتَرَضَ الْجَوَابَ بِأَنَّهُ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٌ.
وَمِنْهَا أَبْلَغِيَّتَهُ دُونَ الرَّحِيمِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى كَمَا فِي قَطَعَ وَقَطَّعَ بِالتَّشْدِيدِ وَلَا يَنْتَقِضُ بِحَذَرٍ وَحَاذِرٍ، لِأَنَّ هَذَا أَكْثَرِيٌّ أَوْ مَشْرُوطٌ بِاتِّحَادِ نَوْعِ الِاسْمِيَّةِ، وَحَذِرٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، وَحَاذِرٌ اسْمُ فَاعِلٍ، وَأَبْلَغِيَّةُ الرَّحْمَنِ إمَّا بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ إفْرَادُ مَدْلُولِهِ التَّضَمُّنِيِّ وَهُوَ الرَّحْمَةُ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي هِيَ قُوَّةُ مَدْلُولِهِ التَّضَمُّنِيِّ وَعَظَمَتُهُ فِي نَفْسِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ عَلَمٌ أَوْ صَارَ كَالْعَلَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِمَنْ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الرَّحِيمَ مَعْنَاهُ الْمُنْعِمُ بِدَقَائِقِ النِّعَمِ، فَذَكَرَ بَعْدَ الرَّحْمَنِ الْمُنْعِمَ بِالْجَلَائِلِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْبَسْمَلَةُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِيَعْلَمَ الْعَارِفُ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَأَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ فِي مَجَامِعِ الْأُمُورِ هُوَ الْمَعْبُودُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي هُوَ مَوْلَى النِّعَمِ كُلِّهَا عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا.
وَاخْتُلِفَ فِي الْبَاءِ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ فَقِيلَ: زَائِدَةٌ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ، وَعَلَيْهِ فَاسْمٌ مُبْتَدَأٌ مَرْفُوعٌ تَقْدِيرًا وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اسْمُ اللَّهِ مُبْتَدَأٌ بِهِ أَوْ مُسْتَعَانٌ بِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَصْلِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَصِحُّ كَوْنُهُ اسْمًا أَوْ فِعْلًا خَاصًّا أَوْ عَامًّا مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوْلَى مِنْهَا كَوْنُهُ فِعْلًا خَاصًّا مُؤَخَّرًا.
أَمَّا أَوْلَوِيَّةُ كَوْنِهِ فِعْلًا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِلْأَفْعَالِ، وَلِمَا فِي تَقْدِيرِ الِاسْمِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ يُضْمَرُ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ، وَمُتَعَلَّقُ الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ إنْ جُعِلَ خَبَرًا، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ الْمَجْرُورُ خَبَرًا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثِهِ أُمُورٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ فَإِنَّهُمَا كَلِمَتَانِ، وَكَوْنُهُ خَاصًّا لِأَنَّ كُلَّ شَارِعٍ فِي شَيْءٍ يُضْمِرُ مَا تُجْعَلُ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأٌ لَهُ وَكَوْنُهُ مُؤَخَّرًا عَنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ هَهُنَا أَوْقَعُ كَمَا فِي ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] لِأَنَّهُ أَهَمُّ وَأَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَبْدَءُونَ بِأَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ فَيَقُولُونَ: بِاسْمِ الْلَاتِ بِاسْمِ الْعُزَّى، فَقَصْدُ الْمُوَحِّدِ تَخْصِيصُ اسْمِ اللَّهِ بِالِابْتِدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، فَنُكْتَةُ التَّقْدِيمِ الِاهْتِمَامُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ وَإِفَادَةُ الِاخْتِصَاصِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحَصْرِ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ لِلنَّحْوِيِّينَ الِاهْتِمَامُ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ لِلْبَيَانِيِّينَ الْحَصْرُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لَا يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ بَلْ لِكُلٍّ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاهْتِمَامِ وَالْحَصْرِ أَنَّ الْحَصْرَ يَقْتَضِي الرَّدَّ عَلَى مُدَّعِي الشَّرِكَةِ أَوْ الْعَكْسِ بِخِلَافِهِ الِاهْتِمَامُ لَا يَقْتَضِي رَدًّا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُهْتَمُّ وَلَا يَرُدُّ عَلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُ بِسْمِ اللَّهِ بِالِابْتِدَاءِ وَحَمْلُهُ مِنْ بَيْنِ أَسْمَاءِ اللَّهِ مُخْتَصًّا بِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ هُنَا جَعَلَ التَّأْلِيفَ مُخْتَصًّا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ هُنَا جَعَلَ التَّأْلِيفَ مَقْصُورًا عَلَى التَّبَرُّكِ أَوْ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْمِهِ تَعَالَى، لَا التَّبَرُّكُ أَوْ الِاسْتِعَانَةُ بِاسْمِ الْلَاتِ أَوْ الْعُزَّى وَهُوَ مِنْ بَابِ قَصْرِ الْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ الشَّرِكَةَ، وَالْكُفَّارُ إنَّمَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِأَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ لِلتَّبَرُّكِ لِلِاخْتِصَاصِ لَا لِاعْتِرَافِهِمْ بِصِحَّةِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِمْ: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: ٣] .
وَمُسَلَّمُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَصْرِ الْأَفْرَادِ وَالْقَلْبِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ الشَّرِكَةَ، وَالْقَلْبُ يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَدَّعِي الْعَكْسَ، وَقَيَّدْنَا التَّقْدِيمَ بِهَا هُنَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نَحْوِ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١] فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْعَامِلِ فِيهِ أَوْقَعُ وَأَبْلَغُ، لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْعَامِلِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أَوْ أَوَّلُ آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ أَهَمَّ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ أَهَمَّ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ الْأَهَمِّيَّةَ الْعَارِضَةَ تُقَدَّمُ مُرَاعَاتُهَا عَلَى الذَّاتِيَّةِ، لِأَنَّ الْعَارِضَةَ فِي مُرَاعَاتِهَا بَلَاغَةٌ لَيْسَتْ لِلذَّاتِيَّةِ، لِأَنَّ بَلَاغَةَ الْكَلَامِ مُطَابِقَةٌ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، أَوْ أَنَّ بِسْمِ رَبِّك مُتَعَلِّقٌ بِاقْرَأْ الثَّانِي تَعَلُّقَ الْمَفْعُولِيَّةِ وَدَخَلَتْ فِيهِ الْبَاءُ مَعَ تَعُدِّي الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرِيرِ، وَاقْرَأْ الْأَوَّلُ لَا مَفْعُولَ لَهُ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَمَعْنَاهُ أُوجِدُ الْقِرَاءَةَ نَحْوَ: فُلَانٌ يُعْطِي.
فَإِنْ قِيلَ: مَا حُكْمُ حَذْفِ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقِ هَلْ الْوُجُوبُ أَوْ الْجَوَازُ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ خَاصًّا وَدَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ مَا جَازَ حَذْفُهُ، وَالْقَرِينَةُ عَلَيْهِ هُنَا هِيَ الشُّرُوعُ فِي التَّأْلِيفِ وَأَيْضًا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ مَعَ فَهْمِ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ خَاصًّا وَلَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ فَيَجِبُ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ لَا يُحْذَفُ إلَّا مَا عُلِمَ، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَامًّا نَحْوُ: كَائِنٌ أَوْ مُسْتَقِرٌّ فَلَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ اخْتِيَارًا فَلَا يَرِدُ.
فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهَوْنِ كَائِنٌ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَحَلُّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي مِثْلِ هَذَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا مُحَصَّلُهُ إنْ قُدِّرَ الْعَامِلُ فِعْلًا كَمَا يَقُولُهُ الْكُوفِيُّونَ كَانَ مَحَلُّهُ نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ مِنْ فَاعِلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالتَّقْدِيرُ أُؤَلِّفُ مُتَبَرِّكًا أَوْ مُسْتَعِينًا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَذَا لَوْ قُدِّرَ
1 / 6
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
الْمَحْذُوفُ مَصْدَرًا مُبْتَدَأً عَلَى مَا يَقُولُهُ الْبَصْرِيُّونَ وَعَلَّقَاهُ بِنَفْسِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ ثَابِتٌ أَوْ حَاصِلٌ وَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ حَذْفُ الْمَصْدَرِ وَإِبْقَاءُ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ يُتَوَسَّعُ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ بِحَذْفِ عَامِلِهِمَا، عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ فِي الْعَمَلِ إنَّمَا هُوَ فِي عَمَلِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْفِعْلِ فَمَا هُنَا عَمَلُهُ بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنْ رَائِحَةِ الْفِعْلِ، لِهَذَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ، وَاشْتِرَاطُ الذِّكْرِ وَالتَّقْدِيمِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَمَلِهِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَكَذَا لَوْ قُدِّرَ تَعَلُّقُهُ بِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ، وَأَمَّا لَوْ جُعِلَ نَفْسُ الْخَبَرِ أَوْ هُوَ مَعَ كَائِنٍ لَجَازَ الْحُكْمُ عَلَى مَحَلِّهِ بِالرَّفْعِ وَبِالنَّصْبِ، أَمَّا الْحُكْمُ بِالرَّفْعِ فَلِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ، وَأَمَّا بِالنَّصْبِ فَلِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِكَائِنِ الْمَحْذُوفِ، وَمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْعَرَبِيَّةِ يُدْرِكُ ذَلِكَ.
وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ مَجْرُورٌ بِالْمُضَافِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالرَّحْمَنُ نَعْتُ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ، وَالرَّحِيمُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا عَلَى عِلْمِيَّةِ الرَّحْمَنِ فَيَكُونُ بَيَانًا أَوْ بَدَلًا، وَالرَّحِيمُ نَعْتٌ لَهُ لَا لِلَّهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَقْدِيمُ الْبَدَلِ عَلَى النَّعْتِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَيَجُوزُ أَيْضًا جَعْلُ الرَّحْمَنِ نَعْتًا لِلَّهِ مَعَ كَوْنِهِ عَلَمًا نَظَرًا لِمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَتْنِ الْبَسْمَلَةِ: وَهَذَا الْإِعْرَابُ مُسْتَعْمَلٌ عَرَبِيَّةً وَقِرَاءَةً، وَيَجُوزُ قَطْعُ النَّعْتِ هُنَا لِلْعِلْمِ بِالْمَنْعُوتِ فَيُرْفَعُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ أَوْ يُنْصَبَانِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَارْفَعْ أَوْ انْصِبْ إنْ قَطَعْت مُضْمَرًا ... مُبْتَدَأً أَوْ نَاصِبًا لَنْ يَظْهَرَا
وَالْأَوْجُهُ تِسْعَةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ ثَلَاثَةٍ، وَهِيَ: رَفْعُ الرَّحْمَنِ أَوْ نَصْبُهُ أَوْ جَرُّهُ فِي الثَّلَاثَةِ فِي الرَّحِيمِ الْمُجْمَعِ عَلَى جَوَازِهِ مِنْهَا جَرُّ الْجَمِيعِ، وَأَمَّا رَفْعُهُمَا أَوْ نَصْبُهُمَا أَوْ نَصْبُ الرَّحِيمِ أَوْ رَفْعُهُ مَعَ جَرِّ الرَّحْمَنِ فَيَجُوزُ عَرَبِيَّةً لَا قِرَاءَةً بِخِلَافِ جَرِّهِ مَعَ نَصْبِ الرَّحْمَنِ أَوْ رَفْعِهِ فَيَمْتَنِعُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الِاتِّبَاعِ بَعْدَ الْقَطْعِ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ أَبِي الرَّبِيعِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَسِيطِ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ الْجَوَازُ فَلَا مَنْعَ، وَمَا فِي نَظْمِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيِّ حَيْثُ قَالَ:
إنْ يُنْصَبْ الرَّحْمَنُ أَوْ يَرْتَفِعَا ... فَالْجَرُّ فِي الرَّحِيمِ قَطْعًا مُنِعَا
وَإِنْ يَجُرُّ فَأَجِزْ فِي الثَّانِي ... ثَلَاثَةَ الْأَوْجُهِ خُذْ بَيَانِي
فَعَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ لِشُهْرَتِهَا، وَإِلَّا فَالشَّيْخُ وَاسِعُ الِاطِّلَاعِ وَأَكْثَرُ إحَاطَةً بِمَا طَرَقَ الْأَسْمَاعَ.
١ -
تَتِمَّةٌ: فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فَائِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، ابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ كِتَابَهُ بِالْبَسْمَلَةِ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَإِنَّهُ مُفْتَتَحٌ بِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ قِرَاءَةً وَكِتَابَةً، وَكَذَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ خَلَا سُورَةَ بَرَاءَةٍ، وَبَيَّنَ قَوْلَ مَالِكٍ إنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ، وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَكَفَرَ جَاحِدُهَا، لِأَنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ: لَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ لَكَفَرَ مُثْبِتُهَا.
وَفِي التَّتَّائِيِّ: وَقَدْ يُجَابُ عَنْ الْمَالِكِيِّ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ ابْتَدَأَ بِهَا فِي الْكِتَابَةِ أَيْ وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهَا قُرْآنًا، وَقَوْلُنَا فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهَا فِي آيَةِ النَّمْلِ فَإِنَّهَا آيَةٌ قَطْعًا ثَانِيَتُهُمَا: رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الزَّبَانِيَةِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَلْيَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ جَنَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنَّ بِي صُدَاعًا لَا يَسْكُنُ فَابْعَثْ لِي دَوَاءً فَبَعَثَ إلَيَّ قَلَنْسُوَةً، فَكَانَ إذَا وَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ سَكَنَ صُدَاعُهُ وَإِذَا رَفَعَهَا عَادَ الصُّدَاعُ إلَيْهِ، فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا لَمَسِّ الْحَاجَةِ إلَى مَا ذَكَرْنَا
وَلِمَا اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبُدَاءَةَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَبِالْحَمْدَلَةِ لِكُلِّ مُصَنِّفٍ وَمُدَرِّسٍ وَقَارِئٍ بَيْنَ يَدَيْ شَيْخِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَبْدُوءُ أَوْ الْمَقْرُوءُ فِقْهًا أَوْ حَدِيثًا أَوْ غَيْرَهُمَا ذَكَرَهُمَا عَقِبَ الْبَسْمَلَةِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَقَالَ: (وَصَلَّى اللَّهُ) بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ الطَّلَبُ أَيْ أَنْزِلْ يَا اللَّهُ الرَّحْمَةَ الْمَقْرُونَةَ بِالتَّعْظِيمِ أَوْ مُطْلَقَهَا، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَمِنْ غَيْرِهِمْ التَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ بِخَيْرٍ (عَلَى سَيِّدِنَا) أَيْ فَائِقُنَا وَعَظِيمُنَا فِي سَائِرِ خِصَالِ الْخَيْرِ مِنْ سَادَ قَوْمَهُ يَسُودُهُمْ سِيَادَةً وَهُوَ سَيِّدٌ وَأَصْلُهُ سَيْوِدٌ عَلَى وَزْنِ فَيْعِلْ اجْتَمَعَتْ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسَبَقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَيُطْلَقُ السَّيِّدُ عَلَى الْحَلِيمِ الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ، وَعَلَى الْكَرِيمِ وَعَلَى الْمَالِكِ وَعَلَى الشَّخْصِ الْكَامِلِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، وَعَبَّرَ بِسَيِّدِنَا إشَارَةً إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ ﷺ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ فِي التَّحْقِيقِ: وَاسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ اللَّهِ كَثِيرٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] .
﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا﴾ [يوسف: ٢٥] وَاخْتُلِفَ
1 / 7
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
فِي إطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَعَنْ مَالِكٍ مَنْعُهُ وَقِيلَ يُكْرَهُ وَقِيلَ يَجُوزُ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ «قَالَ ﵊ فِي الْحَسَنِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَفِي سَعْدٍ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» .
(مُحَمَّدٌ) بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَهُوَ عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنْ اسْمِ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمُضَعَّفِ، سُمِّيَ بِهِ أَفْضَلُ الْخَلْقِ نَبِيُّنَا ﷺ لِكَثْرَةِ خِصَالِهِ الْمَحْمُودَةِ، وَالْمُسَمِّي لَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجَاءَ أَنْ يَحْمَدَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَحَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ.
(وَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَى (آلِهِ) أَيْ أَتْقِيَاءِ أُمَّتِهِ ﵊ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ﵁ لِتَعْمِيمِ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، بِخِلَافِ بَابِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَقَارِبُهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ، وَآلُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مُشْتَقٌّ مِنْ آلَ يَئُولُ إذَا رَجَعَ إلَيْك بِقَرَابَةٍ وَنَحْوِهَا أَصْلُهُ أَوَلُ كَجَمَلٍ تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا قُلِبَتْ أَلِفًا، وَقِيلَ أَصْلُهُ أَهْلٌ قُلِبَتْ الْهَاءُ هَمْزَةً ثُمَّ الْهَمْزَةُ أَلِفًا لِوُقُوعِهَا سَاكِنَةً بَعْدَ فَتْحَةٍ، وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ تَصْغِيرُهُ عَلَى أُوَيْلُ، وَالثَّانِي تَصْغِيرُهُ عَلَى أُهَيْلُ، وَلَا يُضَافُ إلَّا لِمَنْ لَهُ شَرَفٌ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ الدُّنْيَا فَيَدْخُلُ آلُ فِرْعَوْنَ، فَلَا يُقَالُ آلُ الْإِسْكَافِيِّ وَنَحْوُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحِرَفِ الرَّذِلَةِ بِخِلَافِ هَلْ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ شَيْءٍ وَأَضَافَهُ لِلضَّمِيرِ إشَارَةً لِلْجَوَازِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ.
(وَ) صَلَّى اللَّهُ أَيْضًا عَلَى (صَحْبِهِ) اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِمَعْنَى الصَّحَابِيُّ وَجَمْعٌ لَهُ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَبِهِ جَزَمَ الْجَوْهَرِيُّ كَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ، وَالصَّحَابِيُّ عُرْفًا كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ ﷺ مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمُجَالَسَةِ وَالْمُمَاشَاةِ، وَوُصُولِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ وَإِنْ لَمْ يُكَالِمْهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ رُؤْيَةُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، سَوَاءٌ كَانَ اللِّقَاءُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِاللِّقَاءِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: الصَّحَابِيُّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَنَحْوَهُ مِنْ الْعُمْيَانِ وَهُمْ صَحَابَةٌ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَقَوْلِي مُؤْمِنًا كَالْفَصْلِ يُخْرِجُ مَنْ حَصَلَ لَهُ اللِّقَاءُ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَقَوْلِي بِهِ فَصْلٌ ثَانٍ يُخْرِجُ بِهِ مَنْ لَقِيَهُ مُؤْمِنًا بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، لَكِنْ هَلْ يُخْرِجُ مَنْ لَقِيَهُ مُؤْمِنًا بِأَنَّهُ سَيُبْعَثُ وَلَمْ يُدْرِكْ الْبَعْثَةَ فِيهِ نَظَرٌ، وَاَلَّذِي مَالَ إلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اعْتِبَارُ لَقِيَهُ بَعْدَ نُبُوَّتِهِ، وَنَقَلَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَاعْتَبَرَ جَمَاعَةٌ التَّمْيِيزَ وَأَلْغَاهُ آخَرُونَ، وَجَزَمَ الْجَلَالُ بِعَدِّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﵊ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ عَدُّ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ نَبِيٌّ وَصَحَابِيٌّ فَإِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ فَهُوَ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي اللَّقَى التَّعَارُفَ، وَقَدْ اعْتَبَرَهُ آخَرُونَ فَأَخْرَجُوهُمْ وَالْحَقُّ الدُّخُولُ، وَلَمَّا اُشْتُهِرَ عِنْدَ بَعْضِ الشُّيُوخِ كَرَاهَةُ إفْرَادِ الصَّلَاةِ عَنْ السَّلَامِ وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا لِبَعْضِهِمْ جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ بِالْعِطْفِ عَلَى صَلَّى اللَّهُ.
(وَسَلَّمَ) أَيْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ فَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْلَالِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى قَصَدَ بِهَا التَّضَرُّعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَرْحَمَ وَيُحْيِي نَبِيَّهُ، وَالْمُرَادُ بِرَحْمَتِهِ لِنَبِيِّهِ زِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ لَهُ وَإِنْعَامٍ، وَبِالسَّلَامِ عَلَيْهِ تَأْمِينُهُ بِطَيِّبِ تَحِيَّةٍ وَإِعْظَامٍ، فَإِنْ قِيلَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفَاضَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ كُلَّ كَمَالٍ لِبَشَرٍ أَوْ مَلَكٍ حَتَّى لَمْ يَبْقَ كَمَالٌ مِنْهَا إلَّا وَقَدْ أُفِيضَ عَلَيْهِ فَأَيُّ شَيْءٍ يُطْلَبُ حُصُولُهُ لَهُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: مِنْهَا أَنَّ أَمْرَهُ ﷾ إيَّانَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَحْضُ تَعَبُّدٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الشُّكْرِ لَهُ مِنَّا لِلْمُكَافَأَةِ لَهُ ﵊ لِمَا فِي الْوُسْعِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ لِطَلَبِ كَمَالٍ فِي سَعَةِ كَرْمِهِ تَعَالَى، عَلَّقَ حُصُولَهُ عَلَى الصَّلَاةِ مَثَلًا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ جَمْعِهِ لِلْكَمَالَاتِ الْمُفَرَّقَةِ فِي الْمَلَكِ وَالْبَشَرِ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ تَعَالَى زِيَادَةٌ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الْكَامِلُ يَقْبَلُ الْكَمَالَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فَائِدَةَ الصَّلَاةِ عَائِدَةٌ عَلَيْنَا بِسَبَبِهِ ﷺ حَالَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ أَحَدُنَا صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا.
١ -
(تَتِمَّةٌ) الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ﷺ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيَانِ فَوَائِدِهَا وَهِيَ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ ﵇ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ مِنْ الْأَعْمَالِ مَقْبُولًا وَمَرْدُودًا إلَّا الصَّلَاةَ عَلَيْك فَإِنَّهَا مَقْبُولَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ» وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَبْدَأَهُ الدَّاعِي وَيَخْتِمَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ﷺ: وَسُئِلَ الشَّيْخُ السَّنُوسِيُّ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ مَقْبُولَةً غَيْرَ مَرْدُودَةٍ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مُشْكِلٌ إذْ لَوْ قَطَعَ بِقَبُولِهَا لَقَطَعَ لِلْمُصَلِّي عَلَيْهِ ﷺ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ مَعْنَى الْقَطْعِ بِقَبُولِهَا إذَا خُتِمَ لِلْمُصَلِّي بِالْإِيمَانِ وَجَدَ حَسَنَتَهَا قَطْعًا مَقْبُولَةً مِنْ غَيْرِ رَيْبٍ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَسَنَاتِ لَا وُثُوقَ بِقَبُولِهِمَا وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُهَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَبُولَهَا عَلَى الْقَطْعِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ صَاحِبِهَا مَحَبَّةً فِي الْمُصْطَفَى فَيُقْطَعُ بِانْتِفَاعِهِ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَلَوْ بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ إنْ قَضَى عَلَيْهِ بِهِ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُودِ لِعِظَمِ مَحَبَّتِهِ ﷺ، وَانْتِفَاعِ أَبِي لَهَبٍ بِسَقْيِهِ فِي نُقْرَةِ إيهَامِهِ وَتَخْفِيفِ عَذَابِهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِعِتْقِهِ مُبَشِّرَتَهُ بِوِلَادَتِهِ ﷺ فَإِذَا حَصَلَ انْتِفَاعُهَا بِحُبٍّ طَبِيعِيٍّ وَكَانَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَكَيْفَ بِحُبِّ الْمُؤْمِنِ لَهُ ﷺ؟ انْتَهَى مِنْ كِفَايَةِ الْمُحْتَاجِ.
وَلَهَا فَضَائِلُ لَا تُحْصَى فَمِنْهَا قَوْلُهُ ﷺ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ
1 / 8
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
رَاضٍ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» .
وَقَالَ أَيْضًا ﵊: «أَكْثِرُوا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فَإِنَّهَا تَحُلُّ الْعُقَدَ وَتَكْشِفُ الْكَرْبَ» وَالْكَثْرَةُ كَمَا قَالَ بَعْضٌ أَقَلُّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَفَضْلُهَا مَشْهُورٌ حَتَّى وَرَدَ أَنَّهَا أَمْحَقُ لِلذُّنُوبِ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ لِلنَّارِ، وَوَرَدَ «إنَّ السَّلَامَ عَلَيَّ أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ الرِّقَابِ» وَحُكْمُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الْوُجُوبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَكَذَلِكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ سُنَّةٌ، وَمِمَّا هُوَ وَاجِبٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّعَوُّذُ وَالْحَوْقَلَةُ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ أُمِّ الْبَرَاهِينِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوُرُودِ الْمَذْكُورَاتِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ نَحْوُ: فَسَبِّحْ وَكَبِّرْ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ، وَيَتَأَكَّدُ الْحَثُّ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا لِأَنَّهَا فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِهَا أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِهَا فِي غَيْرِهِمَا حَتَّى قِيلَ: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، كَمَا يَتَأَكَّدُ الْحَثُّ عَلَيْهَا عِنْدَ ذِكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَفِي آخِرِ الدُّعَاءِ وَفِي آخِرِ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ ثَوَابُهَا لِلْمُصَلِّي إلَّا إذَا قَالَهَا بِقَصْدِ الدُّعَاءِ وَالتَّحِيَّةِ، فَلَا يُثَابُ الْبَيَّاعُ عَلَيْهَا إذَا قَالَهَا لِيُعْجِبَ غَيْرَهُ مِنْ حُسْنِ بِضَاعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ قَوْلُهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا تُكْرَهُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالْعُطَاسِ وَفِي الْحَمَّامِ وَالْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ وَفِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ وَعِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّهَا قَدْ تَجِبُ وَقَدْ تَحْرُمُ كَقَوْلِهِ عِنْدَ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَقَدْ تُكْرَهُ وَقَدْ تُسْتَحَبُّ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْإِبَاحَةُ، وَثَبَتَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْقَلِيلَةِ لَفْظُ.
(قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ) كَتَبَهُ الْمُصَنِّفُ وَهِيَ جَائِزَةٌ لِمَنْ بَلَغَ دَرَجَةَ التَّعْظِيمِ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَلِإِشْعَارِهَا بِالتَّعْظِيمِ امْتَنَعَ تَكْنِيَةُ الْكَافِرِ الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ إلَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهَا، أَوْ خِيفَ مِنْ ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ فِتْنَةٌ، فَقَدْ كُنِّيَ عَبْدُ الْعُزَّى بِأَبِي لَهَبٍ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهَا أَوْ كَرَاهَةٌ فِي اسْمِهِ حَيْثُ جُعِلَ عَبْدُ الصَّنَمِ، وَكُنِّيَ إبْلِيسُ بِأَبِي مُرَّةَ وَبِأَبِي الْغِمْرِ وَبِأَبِي كُرْدُوسٍ وَعَلَمُهُ الْأَصْلُ قَبْلَ عِصْيَانِهِ عَزَازِيلُ، وَعَبَّرَ بِقَالَ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِ الْمَقُولِ نَحْوُ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وَالْكَثِيرُ أَنَّهَا مِنْ وَضْعِ التَّلَامِذَةِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ سَيَذْكُرُهَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ فَالتَّعْبِيرُ يُقَالُ فِي مَحِلِّهِ وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ النُّسَخِ عَلَى حَذْفِهَا هُنَا.
(عَبْدُ اللَّهِ) اسْمُ الْمُصَنِّفِ فَهُوَ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. (بْنُ أَبِي زَيْدٍ) بِحَذْفِ أَلْفِ ابْنِ وَرَفْعُهُ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي زَيْدٍ كُنْيَةٌ لِأَبِي الْمُصَنِّفِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. (الْقَيْرَوَانِيُّ) بِالرَّفْعِ نَعْتٌ لِعَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَيْرَوَانِيُّ نِسْبَةٌ لِلْقَيْرَوَانِ بَلْدَةٍ مَعْرُوفَةٍ بِالْمَغْرِبِ نُسِبَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهَا لِأَنَّهَا مَسْكَنُهُ وَمَوْلِدُهُ ﵁ سَنَةَ سِتَّ عَشَرَةَ وَثَلَثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ، فَعُمْرُهُ حِينَئِذٍ ثَمَانُونَ سَنَةً عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَمَنَاقِبُ الْمُصَنِّفِ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ مِنْهَا كَثْرَةُ حِفْظِهِ وَدِيَانَتُهُ وَكَمَالُ وَرَعِهِ وَزُهْدِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِسَعَةِ الْمَالِ وَبَسْطَةِ الْيَدِ، وَيُقَالُ إنَّ مَنْ عَمِلَ بِكِتَابِهِ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْحِسَانِ مَا كَانَ فِي الْمُصَنِّفِ أَوْ مُعْظَمِهَا، وَمِنْ أَعْظَمِ أَوْصَافِهِ عُلُوُّ سَنَدِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْوِي عَنْ سَحْنُونٍ بِوَاسِطَةٍ وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ بِوَاسِطَتَيْنِ وَعَنْ مَالِكٍ بِثَلَاثٍ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِمَالِكٍ الصَّغِيرِ وَبِخَلِيفَةِ مَالِكٍ، وَكَانَ يُقَالُ فِيهِ قُطْبُ الْمَذْهَبِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُصَنِّفُ إمَامٌ عَظِيمٌ جَمَعَ فِي كِتَابِهِ هَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَمِمَّا يُسَنُّ أَوْ يُنْدَبُ مِنْ الْآدَابِ، وَلَمَّا ابْتَدَأَ بِالْبَسْمَلَةِ ابْتِدَاءً حَقِيقِيًّا وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ، ابْتَدَأَ بِالْحَمْدَلَةِ ابْتِدَاءً إضَافِيًّا وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْمَقْصُودِ سَبَقَهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَقَالَ:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ مَمْلُوكٌ وَمُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ: وَلَمْ يَقُلْ لِلْخَالِقِ أَوْ الرَّازِقِ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، إذْ يُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا يُضَافُ إلَى غَيْرِهِ، فَيُقَالُ الرَّحْمَنُ مَثَلًا اسْمُ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ اللَّهُ اسْمُ الرَّحْمَنِ، وَأَيْضًا لِلْإِشَارَةِ إلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْحَمْدَ لِذَاتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلْخَالِقِ أَوْ الرَّازِقِ لَتُوُهِّمَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ الْحَمْدَ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ خَالِقًا أَوْ رَازِقًا، وَعَبَّرَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ كَحَمِدْتُ أَوْ نَحْمَدُ لِإِفَادَةِ الِاسْمِيَّةِ ثَلَاثَ فَوَائِدَ: الدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى الْحَمْدَ، وَلِشُمُولِ لَفْظِ الْحَمْدِ لِلْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ، وَصَيْرُورَةِ اللَّفْظِ مَحْضَ صِدْقٍ.
بَيَانُ الْأُولَى: أَنَّ حَمِدْتَ أَوْ نَحْمَدُهُ مَحْضُ إخْبَارٍ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى الْحَمْدَ لِفَقْدِ آلَةِ التَّعْرِيفِ.
وَبَيَانُ الثَّانِيَةِ: أَنَّ لَفْظَ حَمِدْت أَوْ نَحْمَدُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَادِثِ فَقَطْ، وَبَيَانُ الثَّالِثَةِ: أَنَّ حَمِدْت أَوْ نَحْمَدُ خَبَرٌ فَإِنْ صَدَرَ مِنْهُ فَهُوَ صِدْقٌ وَإِلَّا كَانَ كَذِبًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ صِدْقٌ حَمِدَهُ أَوْ لَمْ يَحْمَدْهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْأَلْفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِ فَقِيلَ لِلْجِنْسِ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا فَاللَّامُ الْحَقِيقَةِ، فَتُفِيدُ قَصْرَ الْحَمْدِ عَلَى اللَّهِ لِلْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ إذَا كَانَ مُعَرَّفًا فَاللَّامُ الْجِنْسِ يَكُونُ مَحْصُورًا فِي الْمُسْنَدِ وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ، وَاخْتِصَاصُ الْجِنْسِ بِاَللَّهِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْحَمْدِ لِلَّهِ.
وَقِيلَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَقِيلَ لِلْعَهْدِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ أَفْرَادَ الْمَحَامِدِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمَا الْقَدِيمَانِ وَالْحَادِثَانِ لِلَّهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا لِلْجِنْسِ دَلَالَتُهَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى الْحَمْدَ الَّذِي هُوَ الثَّنَاءُ، لِأَنَّ الْحَمْدَ إنْ كَانَ قَدِيمًا فَهُوَ وَصْفُهُ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا
1 / 9
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
فَهُوَ خُلُقُهُ، فَتَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْحَمْدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا حَمْدُ النَّاسِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضِ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ: «مِنْ لَمْ يَحْمَدْ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ» فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَمْدٌ لِلَّهِ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ الْحَادِثِ مَجَازٌ لِأَنَّ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ، لِأَنَّ تَوْحِيدَ الْعِبَادِ لِلْإِحْسَانِ لِغَيْرِهِمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى كَوْنِهَا لِلْعَهْدِ دَلَالَتُهَا عَلَى الْحَمْدِ الَّذِي صَدَرَ مِنْ الْمَوْلَى فِي الْأَزَلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ عَجْزَ خَلْقِهِ عَنْ كُنْهِ حَمْدِهِ حَمِدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فِي أَزَلِهِ نِيَابَةً عَنْ خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْمَدُوهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ ذِكْرِيٌّ أَوْ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ فِي ذِهْنِ آدَمَ ثُمَّ نَطَقَ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ ذِهْنِيٌّ، وَجُمْلَةَ الْحَمْدِ لِلَّهِ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى لِحُصُولِ الْحَمْدِ بِهَا مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَدْلُولِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً شَرْعًا لِلْإِنْشَاءِ وَهُوَ كَلَامٌ يَحْصُلُ مَدْلُولُهُ فِي الْخَارِجِ بِالتَّلَفُّظِ بِهِ نَحْوُ: أَنْتَ حُرٌّ وَقُمْ، وَالْخَبَرُ كَلَامٌ يَحْصُلُ مَدْلُولُهُ فِي الْخَارِجِ قَبْلَ النُّطْقِ بِهِ وَالتَّلَفُّظِ بِهِ حِكَايَةً لَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْإِنْشَاءُ يَتْبَعُهُ مَدْلُولُهُ وَالْخَبَرُ يَتْبَعُ مَدْلُولَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ جُمْلَةُ الْحَمْدِ لِلَّهِ إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى لِأُمُورٍ: مِنْهَا حُصُولُ الْحَمْدِ بِالتَّكَلُّمِ بِهَا مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَدْلُولِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ قَائِلَ الْحَمْدِ لِلَّهِ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ حَمْدِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ إيجَادَ الْحَمْدِ مِنْهُ لَهُ تَعَالَى، كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنَّمَا يَقْصِدُ إيجَادَ الْعِتْقِ وَصُدُورَهُ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِجَعْلِ الْجُمْلَةِ إنْشَائِيَّةً.
وَمِنْهَا: أَنَّ وَصْفَ الْمُتَكَلِّمِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، كَمَا أَنَّ وَصْفَ الْعَبْدِ بِالْحُرِّيَّةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْإِنْشَاءِ.
وَمِنْهَا: إنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُثَابُ عَلَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ حَامِدًا بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً لَمْ يُثَبْ، إذْ الثَّوَابُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِهِ لَا عَلَى الْإِخْبَارِ، وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ مُعَارِضًا بِهِ الشَّيْخَ عَلَاءَ الدِّينِ وَمَنْ تَبِعَهُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنَّ الْمُخْبِرَ بِأَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ مُثْنٍ عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ بِمَحْضِ الْخَبَرِ، وَحَقِيقَةُ الْحَمْدِ اللَّفْظِيِّ لُغَةً الثَّنَاءُ بِالْجَمِيلِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَسَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِالْفَضَائِلِ وَهِيَ الْمَزَايَا غَيْرُ الْمُتَعَدِّيَةِ أَوْ بِالْفَضَائِلِ وَهِيَ الْمَزَايَا الْمُتَعَدِّيَةُ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا مُتَعَدِّيَةً أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقِهَا عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْغَيْرِ، مِثَالُ الْقَاصِرَةِ: الْحُسْنُ وَالْعِلْمُ وَالشَّجَاعَةُ، وَمِثَالُ الْمُتَعَدِّيَةِ: الْإِنْعَامُ وَالْكَرَمُ، وَبِهَذَا عَلِمْت أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَعَدِّي ذَوَاتِ الْكِمَالَاتِ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ ذَوَاتِهَا يُجَاوِزُ مَحَلَّهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَعَدِّي الْأَثَرِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ يَتَعَدَّى أَثَرُهُمَا إلَى الْغَيْرِ مَعَ حُكْمِنَا عَلَيْهِمَا بِالْقُصُورِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالتَّعَدِّي تَوَقُّفُ اتِّصَافِ الْمَوْصُوفِ بِهِ عَلَى وُصُولِ الْأَثَرِ لِلْغَيْرِ، وَالْقَاصِرَةُ مَا يَصِحُّ اتِّصَافُ مَوْصُوفِهِ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَدَّ أَثَرُهُ لِلْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَدَّى نَحْوُ الْعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْوَصْفُ بِهِمَا وَلَوْ لَمْ يَتَعَدَّ أَثَرُهُمَا لِلْغَيْرِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَظْهَرُ بِنَحْوِ السُّؤَالِ مَثَلًا، وَالشَّجَاعَةُ بِنَحْوِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحُرُوبِ.
وَالْحَمْدُ يَتَوَقَّفُ عَلَى خَمْسَةِ أُمُورٍ: مَحْمُودٍ بِهِ وَمَحْمُودٍ عَلَيْهِ وَحَامِدٍ وَمَحْمُودٍ وَمَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْمَحْمُودِيَّةِ.
فَالْمَحْمُودِيَّةُ صِفَةٌ تُظْهِرُ اتِّصَافَ شَيْءٍ بِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ صِفَةَ كَمَالٍ شَرْعًا عِنْدَ صَاحِبِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَحْمُودِيَّةِ بِهِ كَوْنُهُ اخْتِيَارِيًّا، فَلَوْ وَصَفَهُ بِالْحَسَنِ الذَّاتِيِّ مَعَ بَقِيَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فِي الْحَمْدِ كَانَ حَمْدًا وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَا كَانَ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ بِإِزَائِهِ وَمُقَابَلَتِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا وَأَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا وَلَوْ حُكْمًا لِيَشْمَلَ حَمْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْحَامِدُ فَهُوَ مَنْ يَتَحَقَّقُ الْحَمْدُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الْخَامِسُ فَهُوَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْمَحْمُودِيَّةِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ اصْطِلَاحًا فَهُوَ فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا، وَالشُّكْرُ لُغَةً هُوَ الْحَمْدُ اصْطِلَاحًا، وَأَمَّا الشُّكْرُ اصْطِلَاحًا فَهُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَغَيْرِهِمَا إلَى مَا خُلِقَ لَهُ وَأَعْطَاهُ لِأَجْلِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ السَّعْدِ فِي الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ شُمُولُهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ لِلشَّاكِرِ وَغَيْرِهِ، وَكَلَامُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ تَقْيِيدُهَا بِوَصْلِهَا لِلشَّاكِرِ، وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ لُغَةً الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ مُطْلَقًا عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ، وَاصْطِلَاحًا اخْتِصَاصُ الْمَمْدُوحِ بِنَوْعٍ مِنْ الْفَضَائِلِ أَوْ الْفَوَاضِلِ، فَبَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ لِصِدْقِهِمَا بِالثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ، وَانْفِرَادِ الشُّكْرِ الْمَذْكُورِ بِصِدْقِهِ بِغَيْرِ اللِّسَانِ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ، فَمَوْرِدُ الْحَمْدِ أَخَصُّ فَيُحْلَمُ أَعَمُّ، وَالشُّكْرُ بِعَكْسِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ أَيْضًا لِمُسَاوَاةِ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ لِلشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّكْرِ الْعُرْفِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلِقٌ لِشُمُولٍ فَيُحْلَمُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِغَيْرِهِ وَاخْتِصَاصُ مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ بِهِ تَعَالَى، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْحِ اللُّغَوِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ أَيْضًا لِصِدْقِ الْحَمْدِ بِالِاخْتِيَارِيِّ فَقَطْ وَصِدْقِ الْمَدْحِ بِالِاخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْحِ الْعُرْفِيِّ كَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَبَيْنَ الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ
1 / 10
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَالْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ تَسَاوٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّكْرِ الْعُرْفِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ لِصِدْقِ اللُّغَوِيِّ بِالنِّعْمَةِ فَقَطْ وَصِدْقِ الْعُرْفِيِّ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ كَذَلِكَ لِصِدْقِ الشُّكْرِ بِالثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ وَصِدْقِ الْحَمْدِ الْمَذْكُورِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَمَعْنَى الْوَجْهَيْنِ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَادَّةٍ بِجِهَتَيْ خُصُوصِهِمَا وَانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ بِجِهَةِ عُمُومِهِ، وَمَعْنَى الْمُطْلَقِ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ بِجِهَةِ عُمُومِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النِّسَبَ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْحَمَدَيْنِ وَالشُّكْرَيْنِ وَالْمَدْحَيْنِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بِحَسَبِ الْحَمْلِ وَبِحَسَبِ التَّحَقُّقِ وَالْوُجُودِ إلَّا النِّسْبَةَ بَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالشُّكْرِ الِاصْطِلَاحِيِّ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِحُّ بِحَسَبِ التَّحَقُّقِ وَالْوُجُودِ لَا بِحَسَبِ الْحَمْلِ، إذْ لَا يَصِحُّ حَمْلُ الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ إلَخْ عَلَى صَرْفِ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ وَلَا عَكْسِهِ، وَلَكِنْ كُلَّمَا وُجِدَ صَرْفُ الْعَبْدِ إلَخْ يُوجَدُ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ بِلَا عَكْسٍ.
١ -
(تَتِمَّةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَمْدِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ انْقِسَامِهِ إلَى قَدِيمٍ وَهُوَ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ بِكَلَامِهِ، وَحَادِثٍ وَهُوَ ثَنَاءُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ انْقِسَامُهُ إلَى مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، فَالْمُطْلَقُ هُوَ الْحَمْدُ عَلَى مُجَرَّدِ الذَّاتِ نَحْوُ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَالْمُقَيَّدُ هُوَ الْحَمْدُ لِلذَّاتِ لِأَجْلِ شَيْءٍ نَحْوُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّازِقِ، أَوْ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْأَفْضَلِ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ الْمُقَيَّدَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُطْلَقِ، بِالْإِثْبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُقَيَّدِ بِالنَّفْيِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ السَّلْبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمُقَيَّدِ كَثْرَةُ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلِأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُهُ فِي مُقَابِلَةِ نِعْمَةٍ، وَفَضْلُ الثَّنَاءِ نَفْيُ الْمُطْلَقِ لِصِدْقِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي أَفْضَلِ الْمَحَامِدِ فَقِيلَ أَفْضَلُهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: عَدَدَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ مَا عَلِمْت مِنْهُمْ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَقِيلَ أَفْضَلُهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي، نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، لِمَا وَرَدَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ آدَمَ ﵇ إلَى الْأَرْضِ قَالَ: يَا رَبِّ شَغَلْتنِي بِكَسْبِ يَدِي فَعَلِّمْنِي شَيْئًا فِيهِ مَجَامِعُ الْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ قُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ وَعِنْدَ كُلِّ مَسَاءٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، فَقَدْ جَمَعْت لَك فِيهَا جَمِيعَ الْمَحَامِدِ» .
وَقِيلَ أَفْضَلُ الصِّيَغِ: اللَّهُمَّ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي بِرِّ مَنْ حَلَفَ لَيُثْنِيَنَّ عَلَى اللَّهِ بِأَفْضَلِ الثَّنَاءَاتِ وَالْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي بِرِّهِ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهَا، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ هَذَا بِالنَّظَرِ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحَمْدُ يَقَعُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، بِخِلَافِ الشُّكْرِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى السَّرَّاءِ، وَحُكْمُ الْحَمْدِ الْوُجُوبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً بِقَصْدِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ كَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَوْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ، وَمَا زَادَ عَلَى الْمَرَّةِ فَمُسْتَحَبٌّ، وَوَصَفَ مَدْلُولَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي) اسْمٌ مَوْصُولٌ صِلَتُهُ (ابْتَدَأَ) أَيْ أَوْجَدَ جَمِيعَ أَفْرَادِ (الْإِنْسَانِ) مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مِثَالٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْ الْبَشَرِ الشَّامِلِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ التَّأَنُّسِ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ نَاسَ يَنُوسُ إذَا تَدَلَّى وَتَحَرَّكَ فَلِيَشْمَلَ الْجِنَّ، فَأَلْ فِي الْإِنْسَانِ لِلِاسْتِغْرَاقِ الشَّامِلِ لِآدَمَ وَعِيسَى ﵉، وَيَكُونُ قَوْلُهُ الْآتِي: وَصَوَّرَهُ فِي الْأَرْحَامِ رَاجِعًا لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُصَوَّرْ فِي رَحِمٍ وَكَثِيرًا مَا يُذْكَرُ الْعَامُّ، وَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] فَإِنَّ ضَمِيرَ الْمُطَلَّقَاتِ عَامٌّ وَضَمِيرَ بُعُولَتِهِنَّ خَاصٌّ بِالرَّجْعِيَّاتِ، وَبَدَأَ بِالْهَمْزِ وَابْتَدَأَ بِمَعْنًى، وَأَيْضًا الْمُصَنِّفُ لَمْ يَقْصِدْ الْإِتْيَانَ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَلَا بِمَعْنَاهُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ رِوَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُتَعَبَّدُ بِلَفْظِهِ، وَالْوَصْفُ هُنَا كَاشِفٌ؛ لِأَنَّ الْخَالِقَ وَالْمُبْتَدِئَ لَيْسَ إلَّا اللَّهُ، قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٣] فَالْأَوَّلُ آدَم وَالثَّانِي ذُرِّيَّتُهُ، لَكِنَّ غَيْرَ عِيسَى خُلِقَ مِنْ مَاءِ الْأُمِّ وَالْأَبِ، وَأَمَّا عِيسَى فَإِنَّهُ مِنْ نُطْفَةِ أُمِّهِ فَقَطْ إذْ لَا أَبَ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ تَمَثَّلَ لَهَا بِصُورَةِ بَشَرٍ شَابٍّ أَمْرَدَ حَسَنِ الصُّورَةِ لِشِدَّةِ اللَّذَّةِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ فَنَزَلَ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى الرَّحِمِ فَتَوَلَّدَ عِيسَى ﵇ بِمُجَرَّدِ النَّفْخَةِ الْمُوجِبَةِ لِلَّذَّةِ مِنْهَا، فَهُوَ مِنْ نُطْفَةِ أُمِّهِ فَقَطْ قَالَهُ الْحَلَبِيُّ.
وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ فِي إنْكَارِهِمْ وُجُودَ مَوْلُودٍ مِنْ مَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفَسِّرِ بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَرْيَمَ حِينَ قَوْلِهَا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: ٢٠ - ٢١] بِأَنْ يَنْفُخَ - بِأَمْرِي - جِبْرِيلُ فِيكِ فَتَحْمِلِي بِهِ، فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَائِهَا وَحَرَّرَهُ وَصِلَةُ ابْتَدَأَ. (بِنِعْمَتِهِ) تَعَالَى وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِنِعْمَتِهِ فَقِيلَ قُدْرَتُهُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ
1 / 11
وَصَوَّرَ: فِي الْأَرْحَامِ بِحِكْمَتِهِ؛ وَأَبْرَزَهُ إلَى رِفْقِهِ، وَمَا يَسَّرَ لَهُ مِنْ رِزْقِهِ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْإِنْعَامُ وَهُوَ أَظْهَرُ، فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً أَيْ ابْتَدَأَهُ.
بِسَبَبِ إنْعَامِهِ عَلَيْهِ الْإِيجَادَ مِنْ الْعَدَمِ، وَحَقِيقَةُ النِّعْمَةِ بِكَسْرِ النُّونِ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ كُلِّ مُلَائِمٍ تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ، وَمِنْ ثَمَّ اُخْتُلِفَ هَلْ الْكَافِرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ: فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَذَابٍ إلَّا وَثَمَّ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَقِيلَ: مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا النَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ فَهِيَ الْمَصْدَرُ أَيْ النِّعَمُ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ فَهِيَ السُّرُورُ، وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ لَا تُحْصَى.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: ١٨] أَيْ إنْ تُرِيدُوا عَدَّهَا لَا يُمْكِنُكُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ فَمَا وَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِنْسَانِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ جَمِيعَ الْمُوجِدَاتِ عَمَّتْهَا نِعْمَةُ الْإِيجَادِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ نِعْمَةٍ عَلَى الْعَبْدِ فَقِيلَ الْوُجُودُ وَهَذِهِ عَامَّةٌ حَتَّى لِلْكَافِرِ، وَقِيلَ الْحَيَاةُ الَّتِي تُؤَوَّلُ إلَى إدْرَاكِ اللَّذَّاتِ الَّتِي لَا يَعْقُبُهَا ضَرَرٌ.
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: وَقَعَ التَّوَقُّفُ مِنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ غَيْرِ الْحَيَوَانَاتِ كَالْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ هَلْ هِيَ مُنْعَمٌ عَلَيْهَا أَوْ وُجُودُهَا نِعْمَةٌ عَلَى الْغَيْرِ؟ وَأَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّ النِّعْمَةِ هُوَ الثَّانِي، لِأَنَّ وُجُودَ الْجَمَادَاتِ وَنَحْوِهَا كُلِّ مَا لَا نَفْعَ لَهُ بِوُجُودِ نَفْسِهِ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِهِ انْتِفَاعٌ بِهِ وَلَيْسَ مُنْعَمًا عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ بِنَحْوِ الصِّحَّةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَالْإِنْسَانِ.
الثَّانِي: أَفْضَلُ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ كَتَبَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْخُلُودِ فِي الْجَنَّةِ، وَلِمَا ثَبَتَ عَنْهُ ﵊ «أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا قَدْ حَمِدْت اللَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةٍ لَمْ تَحْمَدْهُ عَلَى نِعْمَةٍ أَفْضَلَ مِنْهَا» .
وَلِذَا قَالَ فِي الْجَزَائِرِيَّةِ:
فَلَيْسَ يُحْصَى الَّذِي أَوْلَاهُ مِنْ نِعَمٍ ... أَجَلُّهَا نِعْمَةُ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ
مَنْ ذَا مِنْ الْخَلْقِ يُحْصِي شُكْرَ وَاهِبِهَا ... لَوْ كَانَ يَشْكُرُ طُولَ الدَّهْرِ لَمْ يَصِلْ
وَأَمَّا فَضْلُهَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فَتَأْخِيرُ عُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: تَوْفِيقُهُ لِمَا يُجَازَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ خَيْرًا كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا.
(وَصَوَّرَهُ) أَيْ وَشَكَّلَ اللَّهُ مُعْظَمَ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّكْلِ الَّذِي أَرَادَهُ (فِي الْأَرْحَامِ) جَمْعُ رَحِمٍ وَهُوَ مَوْضِعُ نُطْفَةِ الذَّكَرِ فِي فَرْجِ الْأُنْثَى، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي هِيَ الْبَطْنُ وَالرَّحِمُ وَالْمَشِيمَةُ.
(بِحِكْمَتِهِ) أَيْ بِإِتْقَانِهِ وَابْتِدَاعِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لَهُ، حَيْثُ خَلَقَ لَهُ بَصَرًا وَجَعَلَهُ فِي أَعْلَاهُ لِتَكُونَ مَنْفَعَتُهُ أَعَمَّ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ أَجْفَانًا كَالْأَغْطِيَةِ تَقِيهِ مِنْ سَائِرِ الْآفَاتِ، وَجَعَلَهَا مُتَحَرِّكَةً تَنْطَبِقُ وَتَنْفَتِحُ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ، وَجَعَلَ فِي أَطْرَافِهَا شَعْرًا لِمَنْعِ لَدْغِ الذُّبَابِ وَالْهَوَامِّ إنْ نَزَلَتْ عَلَيْهَا، وَجَعَلَهَا زِينَةً لَهَا كَحِلْيَةِ مَا يُحَلَّى، وَجَعَلَ عَظْمَ الْحَاجِبِ بَارِزًا يَقِيهَا وَيَدْفَعُ عَنْهَا لِأَنَّهَا لَطِيفَةٌ فِي شَكْلِهَا، وَجَعَلَ وَجْهَهُ لِظَهْرِ أُمِّهِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِحَرِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَجَعَلَ غِذَاءَهُ فِي سُرَّتِهِ وَأَنْفِهِ بَيْنَ فَخِذَيْهِ لِيَتَنَفَّسَ فِي فَارِغٍ، وَفَسَّرْنَا الْحِكْمَةَ بِالْإِتْقَانِ إلَخْ، لِأَنَّ التَّصْوِيرَ تَأْثِيرٌ فَلَا يَحْسُنُ تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةُ إحَاطَةٍ، وَالتَّصْوِيرَ تَشْكِيلٌ وَنَقْلٌ لِلشَّيْءِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، فَهُوَ تَأْثِيرٌ بِالْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى وَفْقِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَخَصَّصَتْهُ إرَادَتُهُ، فَالْحِكْمَةُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ؛ وَبِقَوْلِنَا التَّصْوِيرُ نَقْلٌ لِلشَّيْءِ إلَخْ ظَهَرَ صِحَّةُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَالْأَحْكَامِ بِالتَّصْوِيرِ، وَعَدَمِ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ فِي الْمَوْجُودِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مَوْجُودٍ كَمُلَ وُجُودُهُ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ حُصُولِ النُّطْفَةِ فِي الْفَرْجِ فَتَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ بَاقٍ فِيهَا حَتَّى تَصَوَّرَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي أَرَادَهَا الْخَالِقُ وَسَبَقَ عِلْمُهُ بِهَا.
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي صَوَّرَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَالْبَارِزَ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِحِكْمَتِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ.
الثَّانِي: أَشَارَ بِقَوْلِهِ بِنِعْمَتِهِ إلَخْ إلَى زِيَادَةِ الصِّفَاتِ عَلَى الذَّاتِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ النِّعْمَةَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النُّفَاتِ وَعَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى فَاعِلٌ بِالذَّاتِ لَا بِالِاخْتِيَارِ، وَعَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، لِأَنَّ الْمُصَوِّرَ بِالْكَسْرِ لَا يَكُونُ أَبًا لِلْمُصَوَّرِ بِالْفَتْحِ حَتَّى غَيَّرُوا قَوْله تَعَالَى، فِي التَّوْرَاةِ: عِيسَى نَبِيُّ اللَّهِ وَأَنَا وَلَّدْته بِتَشْدِيدِ اللَّامِ بِعِيسَى بُنَيَّ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ وَأَنَا وَلَدْته بِفَتْحِ اللَّامِ مُخَفَّفَةً مِنْ الْوِلَادَةِ، وَإِنَّمَا قُلْت أَفْرَادَ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ مِنْهُ مَنْ لَمْ يُصَوَّرْ فِي رَحِمٍ كَآدَمَ ﵊، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَنْ لَا أَبَ وَلَا أُمَّ وَهُوَ آدَم وَحَوَّاءُ، وَمَنْ لَهُ أُمٌّ دُونَ أَبٍ وَهُوَ عِيسَى ﵊ وَمَنْ لَهُ الْأَبُ وَالْأُمُّ وَهُوَ الْبَاقِي.
1 / 12
عَظِيمًا.
وَنَبَّهَهُ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ، وَأَعْذَرَ إلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ، الْخِيرَةِ مِنْ خَلْقِهِ فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهِ، وَأَضَلَّ مَنْ
ــ
[الفواكه الدواني]
(وَأَبْرَزَهُ) أَيْ وَأَخْرَجَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مِنْ ضِيقِ الْبَطْنِ بَعْدَ تَصْوِيرِهِ.
(إلَى رِفْقِهِ) أَيْ ارْتِفَاقِهِ بِمَا يَجِدُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ فَاعِلَ الرِّفْقِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ وَأَبْرَزَ تَعَالَى الْإِنْسَانَ إلَى إرْفَاقِهِ تَعَالَى بِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي رِفْقِهِ إلَى الْإِنْسَانِ وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُمٌّ كَآدَمَ وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَرِفْقُهُ بِهِ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ وَإِقْدَارُهُ عَلَى النُّطْقِ لِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِمَا لَذَّةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ، فَأَنْوَاعُ رِفْقِ اللَّهِ بِالْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ وَلَا حَصْرَ لَهَا، فَفِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ خُرُوجُهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِرَأْسِهِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ دُونَ رِجْلَيْهِ، وَجَعَلَ حِجْرَ أُمِّهِ لَهُ وِطَاءً وَثَدْيَهَا لَهُ سِقَاءً وَلَبَنَهَا مُعْتَدِلًا بَيْنَ الْعُذُوبَةِ وَالْمُلُوحَةِ إذْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ لَسَئِمَهُ، وَجَعَلَ بَارِدًا فِي الصَّيْفِ حَارًّا فِي الشِّتَاءِ.
(وَ) أَبْرَزَهُ أَيْضًا إلَى تَنَاوُلِ (مَا يَسَّرَ) أَيْ مُسَهَّلٌ (لَهُ مِنْ رِزْقِهِ) وَهُوَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَكْلًا أَوْ شُرْبًا أَوْ لُبْسًا، إذْ الرِّزْقُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، تَكَفَّلَ ﷾ لِكُلِّ حَيَوَانٍ بِمَحْضِ فَضْلَةِ لَا عَنْ إيجَادٍ وَلَا جَوَابٍ، إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ لِمَخْلُوقِهِ شَيْءٌ وَمَا أُوهِمَ الْوُجُوبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: ٦] وَنَحْوِ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤]، فَمَعَنَا بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَبِكَوْنِ الرِّزْقِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ فَالْبَهَائِمُ مَرْزُوقَةٌ، وَقِيلَ الرِّزْقُ مَا مَلَكَ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَالُ لَهُ مَرْزُوقٌ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَلِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْبَهَائِمَ وَكُلَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ غَيْرُ مَرْزُوقٍ، وَلِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ رِزْقَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ رِزْقِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
وَالرِّزْقُ عِنْدَ الْقَوْمِ مَا بِهِ انْتُفِعْ ... وَقِيلَ لَا بَلْ مَا مُلِكْ وَمَا اتُّبِعْ
فَيَرْزُقُ اللَّهُ الْحَلَالَ فَاعْلَمَا ... وَيَرْزُقُ الْمَكْرُوهَ وَالْمُحَرَّمَا
وَالْأَرْزَاقُ مَقْسُومَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا تَزِيدُ بِتَقْوَى وَلَا تَنْقُصُ بِفُجُورٍ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: ٣٢] وَهَذَا لَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ فِي الْبَرَكَةِ وَالنُّقْصَانَ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، إذْ الْمَنْفِيُّ الزِّيَادَةُ الْحِسِّيَّةُ وَالنَّقْصُ الْحِسِّيُّ.
وَلَمَّا بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ الْإِنْسَانَ وَأَحْسَنَ تَقْوِيمَهُ، شَرَحَ فِي تَعْدِيدِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَعَلَّمَهُ) أَيْ وَعَلَّمَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ وَمَفْعُولُ عَلَّمَ (مَا لَمْ يَكُنْ) عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ (يَعْلَمُ) قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ﴾ [النحل: ٧٨] الْآيَةَ، فَشَمِلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَالْآيَةِ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِإِلْهَامٍ وَاكْتِسَابٍ، وَأَوَّلُ مَا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةُ آبَائِهِ وَأَقَارِبِهِ، ثُمَّ تَمَيُّزُهُ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ الضَّرُورِيَّاتِ مِنْ الْآلَامِ وَاللَّذَّاتِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ وُجُوبِ وُجُودِهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الْجَهْلُ حَتَّى بَنَوْا عَلَيْهِ مَسْأَلَةً فِقْهِيَّةً وَهِيَ: لَوْ حَازَ شَخْصٌ شَيْئًا وَادَّعَى الْمُحَازُ عَنْهُ الْجَهْلَ وَادَّعَى الْحَائِزُ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحَازِ عَنْهُ.
(وَ) بِسَبَبِ ابْتِدَائِهِ وَامْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْلِيمِهِ (كَانَ) أَيْ صَارَ (فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَظِيمًا) بِسَبَبِ مَا امْتَنَّ عَلَيْهِ مِنْ إيجَادِهِ وَتَعْلِيمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الَّذِي أَعْظَمُهُ مَعْرِفَةُ الْبَارِي الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهَا الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، إذْ لَا فَضْلٌ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، وَالْفَضْلُ إعْطَاءُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَالِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَالَ عَظِيمًا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ لِانْدِرَاجِ كُلِّ صِفَةٍ حَسَنَةٍ تَحْتَ الْعَظَمَةِ تَنْبِيهٌ فِي قَوْلِهِ وَعِلْمِهِ تَلْمِيحٌ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةُ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِلْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِهَا، وَلَيْسَ بِاقْتِبَاسٍ أَيْضًا لِكَثْرَةِ التَّغْيِيرِ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَ) مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ (نَبَّهَهُ) أَيْ أَيْقَظَهُ مِنْ غَفْلَتِهِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُ عَقْلًا يَهْتَدِي بِهِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ (بِآثَارِ) أَيْ مُحْدَثَاتِ (صَنْعَتِهِ) عَلَى مَعْرِفَةِ صَانِعِهِ، وَالْمُرَادُ بِصَنْعَتِهِ صُنْعُهُ أَيْ إيجَادُهُ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِعَبْدِهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ وُجُوبِ وُجُودِ خَالِقِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَهُ ﷾ وَهِيَ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ آثَارُ صَنْعَتِهِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِيهَا يُوَصِّلُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الصَّنْعَةَ بِالصُّنْعِ الَّذِي هُوَ الْإِيجَادُ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ حَقِيقَةً هِيَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ مِنْ التَّمَرُّنِ فِي الْعَمَلِ وَلَا تَصِحُّ إرَادَتُهَا هُنَا، وَطَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآثَارِ عَلَى مَعْرِفَةِ وُجُوبِ وُجُودِهِ أَنْ تَرَكَّبَ قِيَاسًا بِأَنْ تَقُولَ: هَذِهِ الْآثَارُ مَصْنُوعَاتٌ، وَهَذِهِ يُقَالُ لَهَا مُقَدِّمَةٌ صُغْرَى، وَكُلُّ مَصْنُوعٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَانِعٍ تَامِّ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَيُقَالُ لِهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ كُبْرَى يُنْتِجُ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ لَهَا صَانِعٌ، وَمِنْ
1 / 13
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْخَالِقِ أَيْضًا أَنْ تَنْظُرَ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَيْك وَهِيَ نَفْسُك فَتَعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّك لَمْ تَكُنْ ثُمَّ كُنْت، فَتَعْلَمَ أَنَّ لَك مَوْجُودًا أَوْجَدَكَ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ تُوجِدَ نَفْسَك، وَهُوَ مُحَالٌ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقَدُّمِ عَلَى نَفْسِهِ وَالتَّأَخُّرِ عَنْهَا لِوُجُوبِ سَبْقٍ لِلْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِهِ.
تَنْبِيهٌ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ نَظَرِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ الْوُجُوبُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالدَّلِيلِ لِيَخْرُجَ مِنْ التَّقْلِيدِ إلَى التَّحْقِيقِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَإِنْ كَانَ إيمَانُ الْمُقَلِّدِ صَحِيحًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ مُشِيرًا إلَى وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ وَمَا يُوَصِّلُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ:
وَاجْزِمْ بِأَنْ أَوَّلًا مِمَّا يَجِبُ ... مَعْرِفَةً وَفِيهِ خَلْفٌ مُنْتَصِبُ
فَانْظُرْ لِنَفْسِك ثُمَّ انْتَقِلْ ... لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ ثُمَّ السُّفْلِيِّ
تَجِدْ بِهِ صُنْعًا بَدِيعَ الْحُكْمِ ... لَكِنْ بِهِ قَامَ دَلِيلُ الْعَدَمِ
فَالْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
(وَ) مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ (أَعْذَرَ إلَيْهِ) أَيْ قَطَعَ عُذْرَهُ بِإِرْسَالِهِ إلَيْهِ الْأَحْكَامَ.
(عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ الْخِيَرَةِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْخُلَاصَةِ الْمُنْتَخَبِينَ الْخِبْرَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْإِيضَاحِ.
(مِنْ خَلْقِهِ) تَعَالَى وَإِنَّمَا أَعْذَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ، وَالْمُرَادُ جَمِيعَ أَفْرَادِهِ بِإِرْسَالِ الْمُرْسَلِينَ فَيُبَلِّغُوا لَهُمْ الْأَحْكَامَ وَيُوَضِّحُوا لَهُمْ الشَّرَائِعَ لِيَقْطَعُوا بِذَلِكَ حُجَّتَهُمْ وَيُزِيحُوا عَنْهُمْ عِلَلَهُمْ فِيمَا قَصَرَتْ عَنْ إدْرَاكِهِ عُقُولُهُمْ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] فَلَوْلَا إعْذَارُهُ ﷾ إلَيْهِمْ وَقَطْعُهُ عُذْرَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ وَإِقَامَتُهُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِبِعْثَتِهِ أَهْلَ خِيرَتِهِ الْمُرْشِدِينَ لَتَوَهَّمُوا أَنَّ لَهُمْ حُجَّةً وَعُذْرًا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: ١٣٤] لَا سِيَّمَا وَقَدْ جُعِلَتْ أَجْسَامُنَا تَقْبَلُ السَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْنَا الشَّيَاطِينُ وَالشَّهْوَةُ وَالْهَوَى؛ فَإِهْمَالُك إيَّانَا مِنْ غَيْرِ إرْسَالِ مَنْ يُعَلِّمُنَا بِمَا يَجِبُ أَوْ يُحَرِّمُ عَلَيْنَا إغْرَاءً لَنَا عَلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، لَا سِيَّمَا مَعَ رَغْبَةِ النَّفْسِ إلَى نَيْلِ مُشْتَهَاهَا وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِهَلَاكِهَا وَرَدَاهَا، وَالْمُرْسَلِينَ جَمْعُ مُرْسَلٌ وَهُوَ إنْسَانٌ حُرٌّ ذَكَرٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ لِلْعِبَادِ حَتَّى إلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ إذَا بَلَّغَ الْأُمَّةَ حُكْمًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ لَهُمْ، وَبِهَذَا عَرَفْت أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَأَعْذَرَ إلَيْهِ أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ الْمُوهِمِ خُرُوجُهُ ﷺ مِنْ أَفْرَادِهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ مُغَايِرَتُهُ لِلْمُرْسَلِ إلَيْهِ إلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَ حَالُ الْمُرْسَلِينَ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أُرْسِلَ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ كَنَبِيِّنَا ﵊، وَمَنْ عَدَاهُ إنَّمَا أُرْسِلَ إلَى الْبَعْضِ.
وَاسْتُعْمِلَ جَمْعُ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ مَجَازًا لِأَنَّ عِدَّتَهُمْ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْأَوْلَى عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى عَدَدٍ فِيهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ أَوَّلُهُمْ لَهُمْ آدَم ﵊ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ وَمَنْ فِي خُلُقِهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيُفِيدُ تَفْضِيلُ رُسُلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَأَفْضَلُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ ﷺ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلِقَوْلِهِ ﷺ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَيَلِيهِ ﵊ فِي الْفَضْلِ أُولُوا الْعَزْمِ أَيْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَشَاقِّ كَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِسْمَاعِيلَ، لِصَبْرِ إبْرَاهِيمَ عَلَى النَّارِ، وَنُوحٍ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَإِسْمَاعِيلَ عَلَى الذَّبْحِ لِأَنَّهُ الذَّبِيحُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا إِسْحَاقَ، وَعِدَّتُهُمْ عَشَرَةٌ وَقِيلَ خَمْسَةٌ، وَلِشِدَّةِ صَبْرِهِمْ وَعَظَمَتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إنَّمَا كَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ إنَّمَا كَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي النَّوْمِ دُونَ الْيَقِظَةِ، وَيَلِي الْأَنْبِيَاءَ مُطْلَقًا فِي الْفَضْلِ الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ... نَبِيُّنَا فَمِلْ عَنْ الشِّقَاقِ
وَالْأَنْبِيَاءُ يَلُونَهُ فِي الْفَضْلِ ... وَبَعْدَهُمْ مَلَائِكَةُ ذِي الْفَضْلِ
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَشَاعِرَةِ وَفِيهَا تَفْضِيلُ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ غَيْرُ الرُّسُلِ عَلَى عَوَامِّ الْبَشَرِ كَالْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ نَحْوُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَمُقَابِلُهَا طَرِيقَةُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ تَفْضِيلَ خَوَاصِّ الْبَشَرِ وَهُمْ الرُّسُلُ عَلَى سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ، وَتَفْضِيلُ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ رُسُلُهُمْ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى عَوَامِّ الْبَشَرِ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعَوَامِّ الْبَشَرِ عَلَى عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ.
وَفِي مَنْهَجِ الْأُصُولِيِّينَ لِلسَّرَّاجِ الْبُلْقِينِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْخَوَاصَّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ الرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ غَيْرِ الرُّسُلِ، وَالتَّفْضِيلُ حَيْثُ قِيلَ بِهِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَالْعَمَلُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةِ الْمُصْطَفَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مُعْجِزَاتٌ كَمُعْجِزَاتِهِ كَمِّيَّةٌ وَلَا كَيْفِيَّةٌ، وَلَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ كَعَدَدِ نُزُولِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ وَقِيلَ سِتًّا
1 / 14
خَذَلَهُ بِعَدْلِهِ، وَيَسَّرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيُسْرَى وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلذِّكْرَى، فَآمَنُوا بِاَللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينَ.
وَبِقُلُوبِهِمْ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ كَمَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيّ وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ هَذَا، وَجِبْرِيلُ أَوَّلُ مَنْ سَجَدَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ ﵇.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إنَّمَا قُلْنَا: وَمِنْ فَضْلِهِ أَنْ أَعْذَرَ إلَيْهِ إشَارَةً إلَّا أَنَّ إرْسَالَ الرُّسُلِ مِنْ الْجَائِزَاتِ الْعَقْلِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِ فِرَقِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي قَوْلِهِمْ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَبَثٌ لَا عَنْ الْعَقْلِ عَنْهُ أَوْ أَنَّهُ مُحَالٌ، فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كَوْنِ الْإِرْسَالِ مِنْ قَبِيلِ الْجَائِزِ عَقْلًا الْوَاجِبِ سَمْعًا وَشَرْعًا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ:
وَمِنْهُ إرْسَالُ جَمِيعِ الرُّسُلِ ... فَلَا وُجُوبَ بَلْ بِمَحْضِ الْفَضْلِ
لَكِنْ بِذَا إيمَانُنَا قَدْ وَجَبَا ... فَدَعْ هَوَى قَوْمٍ بِهِمْ قَدْ لَعِبَا
وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ لِلْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ.
الثَّانِي: الرَّسُولُ عُرْفًا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْإِنْسِ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ الْجِنِّ، وَالْعَامُّ الرِّسَالَةُ مِنْ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ ﷺ فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ حَتَّى لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِيمَانُ الْجِنِّ بِالتَّوَاتُرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف: ٣٠] لَا يَدُلُّ عَلَى إرْسَالِهِ لَهُمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إيمَانُهُمْ بِهِ تَبَرُّعًا مِنْهُمْ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] فَالْمُرَادُ مِنْ أَحَدِكُمْ وَهُمْ الْإِنْسُ عَلَى حَدِّ: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ إحْدَاهُمَا.
الثَّالِثُ: لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا، وَأَعْذَرَ إلَيْهِ الْمُقْتَضِي لِقَصْرِ الْإِرْسَالِ عَلَى جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ أَيْ إلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ، لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لِلْإِنْسَانِ لَا يُنَافِي الْإِرْسَالَ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ بَعْدَ تَرْجِيحِهِ إرْسَالَهُ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَرَجَّحَهُ الْبَارِزِيُّ وَزَادَ: أَنَّهُ مُرْسَلٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى نَفْسِهِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَلَبِيُّ.
الرَّابِعُ: فُهِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْإِرْسَالَ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ [الإسراء: ١٥] وَيَكُونُ قَرَارُهُ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ كَالْبُلْهِ وَالْمَجَانِينِ وَمَنْ وُلِدَ أَكْمَهُ أَعْمَى أَصَمُّ، لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَا يُنَالُ بِعَمَلٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، لَكِنْ لَا ثَوَابَ لَهُمْ لِأَنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ فِي نَظِيرِ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ، وَأَيْضًا النَّارُ إنَّمَا يَخْلُدُ فِيهَا الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْفَتْرَةِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ غَيْرُ كُفَّارٍ، وَقِيلَ هَؤُلَاءِ فِي الْمَشِيئَةِ، وَقِيلَ يُبْعَثُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَذِيرٌ فَإِنْ أَطَاعُوهُ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَإِنْ عَصَوْهُ دَخَلُوا النَّارَ، وَلَمَّا كَانَ التَّنْبِيهُ بِآثَارِ مَصْنُوعَاتِهِ وَالْإِعْذَارُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ لِلْإِيمَانِ وَفَقْدُهُمَا سَبَبًا لِلْغَوَايَةِ وَالْكُفْرَانِ قَالَ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَسَبُّبِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا.
(فَهَدَى) اللَّهُ ﷾ بِمَعْنَى أَرْشَدَ وَدَلَّ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْهِدَايَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا اُشْتُهِرَ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى طَرِيقٍ تُوَصِّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ، سَوَاءٌ حَصَلَ الْوُصُولُ وَالِاهْتِدَاءُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ آيَةُ: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت: ١٧] لِأَنَّهُمْ لَوْ وَصَلُوا لَمَا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَيَدُلُّ لِأَهْلِ السُّنَّةِ آيَةُ: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦] لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُوَصِّلُ، وَأَمَّا إرْشَادُهُ إدْلَالُهُ فَمَعْلُومٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَعْنَى هَدَى خَلَقَ قُدْرَةَ الطَّاعَةِ فِي قَلْبِ مَنْ أَرَادَ تَوْفِيقَهُ لِلْإِيمَانِ، لِأَنَّ فَاعِلَ هَدَى هُوَ اللَّهُ ﷾، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ: وَأَضَلَّ مَنْ خَذَلَهُ بِعَدْلِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى أَضَلَّ خَلَقَ قُدْرَةَ الْمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِ مَنْ أَرَادَ خِذْلَانَهُ كَمَا يَأْتِي، وَالْأَوَّلُ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: فَآمَنُوا بِاَللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ هُنَا فَهَدَى.
(مَنْ وَفَّقَهُ) أَيْ أَرَادَ تَوْفِيقَهُ لِلْإِيمَانِ إذْ الْمُوَفَّقُ بِالْفِعْلِ مُؤْمِنٌ، وَحَقِيقَةُ التَّوْفِيقِ فِي اللُّغَةِ التَّأْلِيفُ وَجَعْلُ الْأَشْيَاءِ مُتَوَافِقَةً وَشَرْعًا.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: خَلَقَ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالدَّاعِيَةَ إلَيْهَا فِي الْعَبْدِ، وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: خَلَقَ قُدْرَةَ الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى الْكَافِرِ أَنَّهُ مُوَفَّقٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْقُدْرَةِ الْعَرْضَ الْمُقَارِنَ لِفِعْلِ الطَّاعَةِ لَا سَلَامَةَ الْآلَاتِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْأَوَّلَ، فَزَادَ قَيْدَ الدَّاعِيَةِ لِإِخْرَاجِهِ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا هَلْ الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ تُخْلَقُ قَبْلَهَا أَوْ مُقَارِنَةً لَهَا؟ فَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ تُخْلَقُ قَبْلَهَا فَاحْتَاجَ إلَى زِيَادَةِ قَيْدِ الدَّاعِيَةِ، وَالْأَشْعَرِيُّ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ تُخْلَقُ مُقَارِنَةً لَهَا فَالْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مُوَفَّقَيْنِ لِعَدَمِ حُصُولِهَا مِنْهُمَا وَصِلَةُ فَهَدَى.
(بِفَضْلِهِ) أَيْ بِمَحْضِ عَطَائِهِ وَامْتِنَانِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ لِخَلْقِهِ لِإِصْلَاحٍ وَلَا أَصْلَحَ.
(وَأَضَلَّ) بِمَعْنَى خَلَقَ ﷾ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ فِي قَلْبِ (مَنْ خَذَلَهُ) أَيْ أَرَادَ خِذْلَانَهُ أَيْ عَدَمَ إيمَانِهِ
1 / 15
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَتَوْفِيقِهِ، لِأَنَّ الْخِذْلَانَ ضِدُّ التَّوْفِيقِ فَهُوَ خَلَقَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فِي الْعَبْدِ وَالدَّاعِيَةِ إلَيْهَا، أَوْ خَلَقَ قُدْرَةَ الْمَعْصِيَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى الرَّأْيَيْنِ فِي التَّوْفِيقِ، وَيُرَادِفُهُ اللُّطْفُ وَهُوَ مَا يَقَعُ عِنْدَهُ صَلَاحُ الْعَبْدِ آخِرَةً بِأَنْ تَقَعَ مِنْهُ الطَّاعَةُ دُونَ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِآخِرَةٍ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يُرِيدَ فِعْلَ الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ يَعْدِلَ عَنْهَا إلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ لِآخِرِ عُمْرِهِ.
قَالَ اللَّقَانِيُّ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ: فَبِهَذَا ظَهَرَ تَرَادُفُ التَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ وَاللُّطْفِ وَالضَّلَالِ وَالْخِذْلَانِ وَالْكُفْرِ عُرْفًا أَوْ تُسَاوِيهَا وَصِلَةُ خَذَلَهُ (بِعَدْلِهِ) أَيْ بِوَضْعِهِ الشَّيْءَ فِي مَحَلِّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: ٤٠] وَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ [يونس: ٤٤] وَالْعَدْلُ مَا لِلْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَوْفِيقَهُ تَعَالَى لِبَعْضِ خَلْقِهِ مَحْضُ فَضْلٍ وَإِضْلَالَهُ لِبَعْضِهِمْ مَحْضُ عَدْلٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِخَلْقِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ عَلَى اللَّهِ لِعِبَادِهِ لِبُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
وَقَوْلُهُمْ إنَّ الصَّلَاحَ وَاجِبٌ ... عَلَيْهِ زُورٌ مَا عَلَيْهِ وَاجِبُ
أَلَمْ يَرَوْا إيلَامَهُ الْأَطْفَالَا وَشَبَهَهَا فَحَاذِرْ الْمُحَالَا.
وَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ وَقَدْ أَمَاتَ الْمُرْسَلِينَ وَالْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يُرْشِدُونَ الْخَلْقَ إلَى مَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَمَا يَحْرُمُ، وَأَحْيَا إبْلِيسَ وَأَعْوَانَهُ السَّاعِينَ فِي الْفَسَادِ وَالْإِضْلَالِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَخَلَقَ الْكَافِرَ الْفَقِيرَ الْمُعَذَّبَ فِي الدُّنْيَا بِالْفَقْرِ وَالْأَسْقَامِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ، وَمِمَّا يُبْطِلُ مَذْهَبَهُمْ مَا حُكِيَ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ إمَامِ هَذَا الْفَنِّ وَبَيْنَ شَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ، لِأَنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ تِلْمِيذًا لَهُ فِي مُبْتَدَأِ أَمْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِهِ إلَى كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ مَذْهَبِهِ، وَاَلَّذِي نَاظَرَهُ فِيهِ قِصَّةُ الْإِخْوَةِ الْمَشْهُورَةِ قَائِلًا لَهُ: مَاذَا تَقُولُ فِي ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ مَاتَ أَحَدُهُمْ صَغِيرًا وَكَبُرَ اثْنَانِ فَكَفَرَ أَحَدُهُمَا وَآمَنَ الْآخَرُ مَا حُكْمُهُمْ؟ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي الْجَوَابِ: الْمُطِيعُ وَالصَّغِيرُ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ وَالْكَافِرُ يَدْخُلُ النَّارَ، فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَرِيُّ: هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: لَا، لِأَنَّ الْكَبِيرَ عَمِلَ الطَّاعَاتِ.
قَالَ لَهُ الْأَشْعَرِيُّ: فَلَوْ قَالَ لَهُ الصَّغِيرُ يَا رَبِّ كَانَ الْأَصْلَحُ أَنْ تُحْيِيَنِي حَتَّى أَصِيرَ كَبِيرًا وَأَعْمَلَ الطَّاعَاتِ فَلِمَ فَوَّتَّ عَلَيَّ ذَلِكَ مَا يَكُونُ جَوَابُهُ؟ فَقَالَ لَهُ الْجُبَّائِيُّ: يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: عَلِمْت أَنَّك لَوْ كَبُرْت كُنْت تَكْفُرُ وَتَدْخُلُ النَّارَ فَفَعَلْتُ مَعَك الْأَصْلَحَ لَك، فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَرِيُّ: حِينَئِذٍ يَقُومُ أَهْلُ النَّارِ جَمِيعًا يَقُولُونَ يَا رَبَّنَا كَانَ الْأَصْلَحُ فِي حَقِّنَا أَنْ تُمِيتَنَا صِغَارًا لِنَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلِمَ فَوَّتَّ عَلَيْنَا ذَلِكَ فَمَا يَكُونُ جَوَابُهُ لَهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ الْجُبَّائِيُّ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا بَلْ وَقَفَ حِمَارُ الشَّيْخِ فِي الْعَقَبَةِ، وَقَدْ رَوَيْت هَذِهِ الْقِصَّةَ بِوُجُوهٍ.
ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ فَهَدَى قَوْلَهُ: (وَيَسَّرَ) اللَّهُ تَعَالَى بِمَعْنَى هَيَّأَ وَوَفَّقَ (الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ الْمُصَدِّقِينَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ (لِ) فِعْلِ (الْيُسْرَى) أَيْ الطَّاعَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيُسْرَى الْجَنَّةُ وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: (وَشَرَحَ) أَيْ فَتَحَ وَوَسَّعَ (صُدُورَهُمْ) أَيْ قُلُوبَهُمْ (لِلذِّكْرَى) أَيْ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ وَثُبُوتِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَإِلَّا فَالشَّرْحُ حَقِيقَةً مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَعَلَامَةُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ الْعَمَلُ لِدَارِ الْآخِرَةِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَيُفْهَمُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسَّرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيُسْرَى أَنَّ الْكَافِرِينَ مُيَسَّرُونَ إلَى ضِدِّهَا، لِأَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ أَيْ مُهَيَّأٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ صَادِرًا مِنْ الْخَلْقِ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى، إلَّا أَنَّ الْخَيْرَاتِ مُرَادَةٌ وَمَأْمُورٌ بِهَا وَالشُّرُورَ مُرَادَةٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَتَعَالَى أَنْ يَقَعَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَعَبَّرَ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِتَلَازُمِهِمَا شَرْعًا وَلِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ فِي، مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِالْفَاءِ التَّفْرِيعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَسَبُّبِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا قَوْلُهُ: (فَآمَنُوا بِاَللَّهِ) أَيْ صَدَّقُوا بِوُجُوبِ وُجُودِهِ تَعَالَى.
وَفِي كَلَامِهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَبِرُسُلِهِ أَيْضًا.
وَإِنَّمَا حَذَفَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ إذْ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمَا فَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ بَعْدُ: وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي آمَنُوا رَاجِعٌ إلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ وَجَمَعَهُ نَظَرًا إلَى مَعْنَاهَا عَلَى حَدِّ ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ﴾ [يونس: ٤٢] الْآيَةَ، وَيَحْتَمِلُ عَوْدُهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي يُسْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَأَوُّلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ إيمَانَهُمْ لِتَصِيرَ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَّنَ الْإِيمَانَ بِقَوْلِهِ: (بِأَلْسِنَتِهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (نَاطِقِينَ) الْوَاقِعُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ آمَنُوا، وَالتَّقْدِيرُ: فَآمَنُوا أَيْ صَدَّقُوا بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ حَالَ كَوْنِهِمْ نَاطِقِينَ أَيْ قَائِلِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، عَلَى مَا ارْتَضَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَمَا يُؤَدِّي مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ تِلْمِيذُهُ الْأَبِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ وَإِلَّا اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَذِكْرِ الْأَلْسِنَةِ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ إذْ النُّطْقُ لَا يَكُونُ إلَّا بِهَا.
1 / 16
مُخْلِصِينَ، وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، وَتَعَلَّمُوا مَا عَلَّمَهُمْ، وَوَقَفُوا عِنْدَ مَا حَدَّ لَهُمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا أَحَلَّ لَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ.
ــ
[الفواكه الدواني]
(وَبِقُلُوبِهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (مُخْلِصِينَ) الْوَاقِعِ حَالًا ثَانِيَةً مِنْ فَاعِلِ آمَنُوا، وَمَعْنَى الْمُخْلِصِينَ مُصَدِّقِينَ بِمَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ ضَرُورَةً، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِخْلَاصِ هُنَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ شَرْطٍ فِي الْإِيمَانِ، عَلَى أَنَّ إخْلَاصَ الْعَمَلِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، لَا يُقَالُ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ هُوَ نَفْسُ التَّصْدِيقِ، فَمَا فَائِدَةُ النَّصِّ عَلَى ذَلِكَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَبِقُلُوبِهِمْ مُخْلِصِينَ؟ لِأَنَّا نَقُولُ قَصَدَ بِذَلِكَ مَعْنَى التَّصْدِيقِ الْكَافِي فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مَعَ الْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ لَا مُجَرَّدُ نِسْبَةِ الصِّدْقِ إلَيْهِ، فَلَا يَكْفِي لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي نَحْوِ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ يُشْبِهُهُ مِمَّنْ يُصَدِّقُ بِلِسَانِهِ وَهُوَ جَاحِدٌ بِقَلْبِهِ اسْتِكْبَارًا أَوْ عِنَادًا فَلَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ وَالْقُلُوبُ جَمْعُ قَلْبٍ يُطْلَقُ عَلَى اللَّحْمَةِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ وَعَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِهَا وَهُوَ الْعَقْلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَحَلُّهُ الْقَلْبَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْقَلْبُ الَّذِي يَقَعُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ وَيُثَابُ وَيُعَاقَبُ لَطِيفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَلْبِ بِمَعْنَى اللَّحْمَةِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ تَعَلُّقَ الْأَعْرَاضِ بِالْجَوَاهِرِ، وَيُسَمَّى رُوحًا وَنَفْسًا وَهُوَ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ فِي غَلَيَانِهِ.
(وَبِمَا أَتَتْهُمْ) أَيْ جَاءَتْهُمْ (بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ) الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (عَامِلِينَ) الْوَاقِعِ حَالًا ثَالِثَةً لَكِنْ مُقَدَّرَةً لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْإِيمَانِ، وَمَعْنَى الْعَمَلِ بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَرَى هُنَا وَفِي آخِرِ بَابٍ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: النُّطْقُ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ، لَكِنَّ الْأَعْمَالَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ لِكَمَالِهِ، وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ فَقَطْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَكِنْ بِحَمْلِ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَى الْكَمَالِ صَارَ كَلَامُهُ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَثَالِثًا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ النُّطْقِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ شَرْطٌ لِكَمَالِهِ، وَالْخِلَافُ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ شَهِيرٌ عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهُرِهَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَنَّهُ التَّصْدِيقُ بِمَا عُلِمَ مَجِيءُ الرُّسُلِ بِهِ ضَرُورَةً، وَأَمَّا النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا الْأَعْمَالُ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ حَيْثُ قَالَ:
وَفُسِّرَ الْإِيمَانُ بِالتَّصْدِيقِ ... وَالنُّطْقُ فِيهِ الْخُلْفُ بِالتَّحْقِيقِ
فَقِيلَ شَرْطٌ كَالْعَمَلِ وَقِيلَ بَلْ ... شَطْرٌ وَالْإِسْلَامُ اشْرَحْنَ بِالْعَمَلِ
وَمَا عَدَا مَذْهَبِ السَّلَفِ وَمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنْ الْمَذَاهِبِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَجْرُورَاتِ عَلَى عَوَامِلِهَا لِاسْتِقَامَةِ الْفَوَاصِلِ، وَهُوَ يُورِثُ الْكَلَامَ حَلَاوَةً وَعَطَفَ عَلَى آمَنُوا قَوْلَهُ: (وَتَعَلَّمُوا) أَيْ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَعْنَى فَهِمُوا مَعْنَى (مَا عَلَّمَهُمْ) اللَّهُ ﷾ أَيْ وَصَلَهُ إلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﵊ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧] الْآيَةَ، فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْهُ جَمِيعَ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَهُ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ مِمَّا يُحِبُّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَفَعَلُوا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَوَقَفُوا عِنْدَمَا) أَيْ الْحَدِّ الَّذِي (حَدَّ) أَيْ بَيَّنَ (لَهُمْ) وَالْمُرَادُ بِالْوُقُوفِ هُنَا الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا الْوُقُوفُ الْحِسِّيِّ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِّ الَّذِي حَدَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْوَاجِبَاتُ وَالْمَنْهِيَّاتُ، فَوُقُوفُهُمْ عَلَى الْمَأْمُورَاتِ بِالِامْتِثَالِ إلَى فِعْلِهَا وَعَلَى الْمُنْهَيَاتِ بِمُجَرَّدِ اجْتِنَابِهَا، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهَا وَلَوْ بِتَرْكِهَا مُكْرَهًا، إذْ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى نِيَّةِ الِامْتِثَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا إنَّمَا هُوَ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى نِيَّتِهِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورَاتِ لَا يَخْرُجُ مِنْ عِدَّتِهَا إلَّا أَنْ يَأْتِيَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّارِعِ بِهَا لَا إنْ فَعَلَهَا لِقَصْدِ غَيْرِ اللَّهِ.
قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ الثَّوَابِ فِيهِ عَلَى النِّيَّةِ مَعَ قَصْدِ الِامْتِثَالِ أَوَّلًا مَعَ قَصْدِ امْتِثَالٍ وَلَا عَدَمِهِ، وَأَمَّا مَعَ قَصْدِ عَدَمِ الِامْتِثَالِ فَلَا ثَوَابَ فِيهِ، وَأَمَّا مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ فَيَتَوَقَّفُ الثَّوَابُ فِيهِ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ وَإِلَّا لَا فَلَا ثَوَابَ فِيهِ.
قَالَهُ فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَعَدَمُ الثَّوَابِ فِي فِعْلِهِ لَا يُنَافِي الْخُرُوجَ مِنْ عُهْدَتِهِ بِفِعْلِهِ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، كَمَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ التَّوَقُّفَ عِنْدَ تَرْكِهِ إنَّمَا هُوَ ثَوَابُ الِامْتِثَالِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَأْمُورَاتِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ نِيَّةَ الْمُكْرِهِ لِتَارِكِ الصَّلَاةِ عِنَادًا أَوْ الزَّكَاةِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ وَنِيَّتُهُ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الْمُكْرَهِ بِالْفَتْحِ.
1 / 17
أَمَّا بَعْدُ) .
أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ عَلَى رِعَايَةِ وَدَائِعِهِ، وَحِفْظِ مَا أَوْدَعَنَا مِنْ شَرَائِعِهِ: فَإِنَّك سَأَلْتنِي أَنْ أَكْتُبَ لَك جُمْلَةً
ــ
[الفواكه الدواني]
(وَاسْتَغْنَوْا) أَيْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْإِيمَانِ بِمَعْنَى اكْتَفُوا.
(بِمَا أَحَلَّ) اللَّهُ (لَهُمْ) بِالنَّصِّ عَلَى حِلِّهِ مُقْتَصِرِينَ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَرَغِبُوا (عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ) بِالنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُونَ شَيْئًا مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ مُطْلَقُ الدَّلِيلِ لِيَشْمَلَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَالْإِجْمَاعَ لَهُ، وَلَوْ قَيَّدْنَا بِالْكَامِلِينَ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَى الْحَلَالِ لَا يَكُونُ إلَّا كَامِلَ الْإِيمَانِ، وَبَقِيَ عَلَى الْمُؤَلِّفِ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِحِلٍّ وَلَا تَحْرِيمٍ هَلْ يَكُونُ حَلَالًا أَوْ يُوقَفُ عَنْهُ؟ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَكِنْ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشَّرْعِ لَا أَصْلِيًّا وَلَا فَرْعِيًّا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي تَحْكِيمِهِمْ الْعَقْلَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْوَقْفُ فَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشَّرْعِ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبَيَانُ فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ مَذْكُورٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ، وَهَذَا آخِرُ الْخُطْبَةِ.
وَشَرَعَ الْآنَ فِي بَيَانِ السَّبَبِ الْحَامِلِ عَلَى تَأْلِيفِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ: (أَمَّا بَعْدُ) أَمَّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ حَرْفٌ بَسِيطٌ، وَبَعْدُ ظَرْفٌ زَمَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ النُّطْقِ وَمَكَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ الرَّقْمِ، وَأَصْلُ أَمَّا بَعْدُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَمَا مَعَهُمَا فَأَقُولُ: إنَّك سَأَلْتنِي وَمَهْمَا مُبْتَدَأٌ وَالِاسْمِيَّةُ لَازِمَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ وَيَكُنْ شَرْطٌ وَالْفَاءُ لَازِمَةٌ لَهُ غَالِبًا، فَحِينَ تَضَمَّنَتْ أَمَّا مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَالشَّرْطِ أَيْ حَلَّتْ مَحَلَّهُمَا فَحَذَفَهُمَا اخْتِصَارًا لِلُزُومِهَا الْفَاءَ غَالِبًا، وَلُصُوقِ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ إقَامَةِ اللَّازِمِ مَقَامَ الْمَلْزُومِ وَإِبْقَاءً لِأَثَرِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا قَائِمَةٌ مَقَامَ شَيْئَيْنِ، وَبَعْدُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَلِذَا بُنِيَتْ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَاهُ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ سَبَبَ الْحَذْفِ الِاخْتِصَارُ، وَسَبَبُ تَقْدِيرِ مَا ذُكِرَ الْإِشَارَةُ إلَى تَحَقُّقِ الْجَوَابِ، لِأَنَّك إذَا أَرَدْت الْإِخْبَارَ عَنْ وُقُوعِ أَمْرٍ وَلَا مَحَالَةَ تَقُولُ أَمَّا بَعْدُ فَيَكُونُ كَذَا، لَا أَنَّ الْمَعْنَى مَهْمَا يُوجَدُ شَيْءٌ فِي الْكَوْنِ يَكُونُ كَذَا، وَالْكَوْنُ لَا يَخْلُو عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الْمُحَقَّقِ مُحَقِّقٌ، فَهِيَ حَرْفُ شَرْطٍ وَتَوْكِيدٍ دَائِمًا وَتَفْصِيلٍ غَالِبًا، وَيَجِبُ تَوَسُّطُ جُزْءٍ مِمَّا فِي حَيِّزِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَاءِ، إمَّا مُبْتَدَأٌ نَحْوُ: أَمَّا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، أَوْ مَفْعُولٌ نَحْوُ: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: ٩] أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ ظَرْفٍ أَوْ حَالٍ، كَرَاهَةَ تُوَالِي لَفْظَتَيْ إرَادَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ الْمُوهِمِ أَنَّ تِلْكَ الْفَاءَ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ وَالْوَاقِعُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُنَا غَالِبًا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا إذَا كَانَ جَوَابُهَا قَوْلًا وَأُقِيمَتْ حِكَايَتُهُ مَقَامَهُ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ حَذْفُهُمَا بِكَثْرَةٍ نَحْوُ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ؟
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ قَوْلًا فَلَا يُحْذَفُ إلَّا نُدُورًا نَحْوُ: أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ رِجَالِ الْحَدِيثِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْدَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ مَبَاحِثَ: الْأَوَّلُ: فِي إعْرَابِهَا أَوْ بِنَائِهَا وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهَا تُبْنَى عِنْدَ حَذْفِ مَا تُضَافُ إلَيْهِ إنْ كَانَ مَعْرِفَةً وَنَوَى ثُبُوتَ مَعْنَاهُ لِشَبَهِهَا بِالْحَرْفِ فِي الِافْتِقَارِ، وَبُنِيَتْ عَلَى حَرَكَةٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَصْلِهَا وَهُوَ الْإِعْرَابُ، وَكَانَتْ الْحَرَكَةُ ضَمَّةً جَبْرًا لِمَا فَإِنَّهَا مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ ذَكَرَ الْمُضَافَ إلَيْهِ أَوْ حَذَفَ وَنَوَى ثُبُوتَ لَفْظِهِ أَوْ حَذَفَ وَنَوَى ثُبُوتَ مَعْنَاهُ وَكَانَ نَكِرَةً أَوْ حَذَفَ وَلَمْ يَنْوِ لَفْظَهُ وَلَا مَعْنَاهُ فَإِنَّهَا تُعْرَبُ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَوْ مَعَ الْجَرِّ بِمِنْ خَاصَّةً.
الثَّانِي: فِي الْعَامِلِ فِيهَا، وَمُحَصِّلُ مَا قَالَهُ الدَّمَامِينِيُّ أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ لَفْظًا أَوْ مَحَلًّا، إمَّا بِفِعْلِ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ يَكُنْ أَوْ يُوجَدُ، وَإِمَّا بِلَفْظِ إمَّا لِنِيَابَتِهَا عَنْ فِعْلِ الشَّرْطِ، وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْجَوَابِ فَتَكُونُ مَعْمُولَةً لِمَا بَعْدَ الْفَاءِ.
الثَّالِثُ: حُكْمُ الْإِتْيَانِ بِبَعْدِ فِي الْخُطَبِ الِاسْتِحْبَابُ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ يَأْتِي بِهَا فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ وَتُسْتَعْمَلُ مَقْرُونَةً بِأَمَّا أَوْ بِالْوَاوِ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إلَّا عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ اسْتِئْنَافِيَّةً، وَعِنْدَ انْفِرَادِ الْوَاوِ تَكُونُ نَائِبَةً عَنْ أَمَّا فَتَكُونُ نَائِبَةَ النَّائِبِ.
الرَّابِعُ: اُخْتُلِفَ فِيمَا نَطَقَ بِهَا أَوَّلًا عَلَى أَقْوَالٍ سَبْعَةٍ: فَقِيلَ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ، وَقِيلَ دَاوُد، وَقِيلَ يَعْقُوبُ، وَقِيلَ سَحْبَانُ، وَقِيلَ قَيْسٌ، وَقِيلَ كَعْبٌ، وَأَقْرَبُهَا أَنَّهُ دَاوُد وَهِيَ فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، وَجُمِعَ بَيْنَ الْأَقْوَالِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَوَّلَ بِاعْتِبَارِ قَوْمِهِ.
: (أَعَانَنَا اللَّهُ) أَيْ اللَّهُمَّ أَعِنَّا، فَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةُ اللَّفْظِ إنْشَائِيَّةُ الْمَعْنَى.
(وَإِيَّاكَ) يَا سَائِلُ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي أَعَانَتَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْأَوْلَى اهْتِمَامًا بِهِ لِيُحَقِّقَ دُخُولَهُ فِي الدُّعَاءِ، وَعَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمُصَنِّفِ يَكُونُ أَتَى بِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي أَعَانَنَا إظْهَارًا لِلُزُومِهَا الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ لَهُ بِتَأْهِيلِهِ لِلْعِلْمِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: ١١] وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ التَّعَاظُمِ بِالْعِلْمِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَعَاظَمْ بِالْعِلْمِ» .
وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
1 / 18
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
لَا يَحِلُّ الْفَخْرُ لِأَحَدٍ إلَّا لِلْعَالِمِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ نُورُ الْعَالِمِ وَرُوحٌ فِيهِ، فَإِنْ تَعَاظَمَ بِهِ أَوْ افْتَخَرَ فَيَحِقُّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لِبَاسٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْعَالِمِ لِأَنَّهُ يَفْتَخِرُ بِأَمْرٍ بَاطِنٍ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ فَيَصِيرُ مُدَّعِيًا، وَإِيَّاكَ أَنْ تَفْهَمَ أَنَّ مَعْنَى التَّعَاظُمِ رُؤْيَةُ النَّفْسِ مُرْتَفِعَةً عَلَى الْغَيْرِ بِحَيْثُ يَحْتَقِرُ سِوَاهُ، فَإِنَّ هَذَا يُنْهَى عَنْهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ﵊ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَعَاظَمْ بِالْعِلْمِ» فَمَعْنَاهُ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ عَظِيمًا بِالْعِلْمِ حَيْثُ جَعَلَهُ مَحَلًّا لَهُ وَمَوْصُوفًا بِهِ، وَلَمْ يَسْتَرْذِلْهُ بِحَيْثُ يَحْظُرُهُ عَلَيْهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إذَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا حَظَرَ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْآدِبِ» وَالسَّائِلُ الَّذِي خَاطَبَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُؤَدِّبُ الْأَطْفَالِ مُحْرَزٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مُحْرَزًا لَقِيَ الْمُصَنِّفَ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤَلِّفُ بِالْقَيْرَوَانِ حِينَ التَّأْلِيفِ وَمُحْرَزٌ بِتُونُسَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَضَرَ لَهُ لِخُصُوصِ السُّؤَالِ فِي تَأْلِيفِهَا وَرَجَعَ إلَى تُونُسَ سَرِيعًا، بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِقَرِينَةِ الْخِطَابِ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا حِينَ سُؤَالِهِ لَقَالَ: أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُ، وَعَلَى فَرْضِ عَدَمِ حُضُورِهِ يَجُوزُ الدُّعَاءُ لَهُ مَعَ غِيبَتِهِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَأَيْضًا الدُّعَاءُ لِلْغَائِبِ فِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ.
قَالَ ﵌: «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ وَعِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ آمِينَ وَلَك بِمِثْلِ ذَلِكَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَقَدَّمَ نَفْسَهُ فِي الدُّعَاءِ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَالْكِتَابُ حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ [نوح: ٢٨] وَالسُّنَّةُ مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْهُ ﷺ كَانَ إذَا دَعَا بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يُصَلِّ، وَالْجَوَابُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى فِي نَفْسِهِ أَوْ اكْتَفَى بِالصَّلَاةِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ.
تَنْبِيهٌ: فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: أَعَانَنَا اللَّهُ إلَخْ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ يَكْتَسِبُ بِهَا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ كَالنَّخْلَةِ تُمِيلُهَا الرِّيَاحُ وَكَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ يُمِيلُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَعَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ مُشِيرًا لِلْمَذَاهِبِ الثَّلَاثِ:
وَعِنْدَنَا لِلْعَبْدِ كَسْبٌ كُلِّفَا ... بِهِ وَلَكِنْ لَمْ يُؤْثِرْ فَاعْرِفَا
فَلَيْسَ مَجْبُورًا وَلَا اخْتِيَارًا ... وَلَيْسَ كُلًّا يَفْعَلُ اخْتِيَارًا وَمُتَعَلِّقُ
أَعَانَنَا (عَلَى رِعَايَةِ) أَيْ حِفْظِ (وَدَائِعِهِ) تَعَالَى وَهِيَ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ، وَأُضِيفَتْ لَهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لَهَا، وَيُقَالُ لَهَا الْكَوَاسِبُ وَهِيَ سَبْعٌ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللِّسَانُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ، وَحِفْظُهَا أَنْ لَا يُرْتَكَبَ بِهَا مَنْهِيًّا عَنْهُ، لِأَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ عَضُدُ الْجَوَارِحِ السَّبْعِ، مَنْ عَصَى رَبَّهُ بِجَارِحَةٍ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ تِلْكَ، وَمَنْ أَطَاعَهُ بِجَوَارِحِهِ السَّبْعِ غَلَقَ عَنْهُ الْأَبْوَابَ السَّبْعِ، وَتَفْسِيرُ الْوَدَائِعِ بِالْجَوَارِحِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِالشَّرَائِعِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَأْمُورَاتِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي كَلَامِهِ لِقَوْلِهِ: وَحِفْظُ مَا أَوْدَعَنَا مِنْ شَرَائِعِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْأَمَانَاتُ، وَيَجُوزُ إرَادَةُ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ رَاعٍ عَلَى جَمِيعِ جَوَارِحِهِ وَعِبَادَتِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ» وَأَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ يَا مُحْرَزُ عَلَى (حِفْظِ مَا أَوْدَعَنَا) أَيْ ائْتَمَنَنَا عَلَيْهِ وَكَلَّفَنَا بِهِ (مِنْ شَرَائِعِهِ) جَمْعُ شَرِيعَةٍ وَهِيَ لُغَةً الطَّرِيقُ، وَشَرَائِعُ اللَّهِ أَحْكَامُهُ وَتَكَالِيفُهُ، وَحِفْظُهَا الْإِتْيَانُ بِهَا مَعَ الْمُدَاوَمَةِ فِيمَا تَطْلُبُ إدَامَتَهُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ، وَقَالَ الطَّيَالِسِيُّ: قُلْت لِأَبِي مُحَمَّدٍ: مَا الْوَدَائِعُ الَّتِي أَرَدْت؟ قَالَ: الْإِيمَانُ، قُلْت: مَا الشَّرَائِعُ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ، قُلْت: لَمْ لِمَ تَجْعَلْهَا شَيْئًا وَاحِدًا؟ قَالَ: وَدِيعَةُ الْإِيمَانِ عَقْدٌ خَفِيٌّ وَدِيعَةُ الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ مَعَ عَمَلٍ ظَاهِرٍ جَلِيٍّ.
قُلْت: وَلِمَ لَمْ تَقُلْ وَحِفْظِ مَا كَلَّفَنَا مِنْ شَرَائِعِهِ؟ فَسَكَتَ اهـ.
وَأَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ إنَّمَا عَبَّرَ بِلَفْظِ الْوَدَائِعِ تَلْمِيحًا بِالْآيَةِ، وقَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ [الأحزاب: ٧٢] الْآيَةَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّكَالِيفُ، فَلَمَّا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَانَةً نَاسَبَ التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالْوَدَائِعِ جَمْعُ وَدِيعَةٍ وَهِيَ أَمَانَةٌ وَالتَّلْمِيحُ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَعَلَى تَفْسِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْوَدَائِعُ وَالشَّرَائِعُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ يَكُونُ عَبَّرَ عَنْ كُلٍّ مِنْهَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا أَوْ بِالنَّظَرِ لِتَعَدُّدِ مُتَعَلِّقِ كُلٍّ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.
1 / 19
مُخْتَصَرَةً.
مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ، مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ، وَتَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ
ــ
[الفواكه الدواني]
(تَنَبُّهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا أَتَى بِهَذَا الدُّعَاءِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ لِمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ الْمُلَازَمَةُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَلَا سِيَّمَا الشَّارِعُ فِي تَأْلِيفٍ يَنْبَغِي لَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُتَسَبِّبِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مَنْ أَهْمَلَ الدُّعَاءَ فَقَدْ اُسْتُهْدِفَ لِلْبَلَاءِ، وَقَالَ ﷺ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ»، وَاقْتَصَرَ عَلَى تِينِك الدَّعْوَتَيْنِ لِأَجْلِ الِاخْتِصَارِ فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَسْطَهُ أَفْضَلُ مِنْ اخْتِصَارِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَدْعِيَةَ السَّلَفِ لَا تَزِيدُ عَلَى سَبْعِ كَلِمَاتٍ غَيْرِ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ، أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْإِخْبَارِ بِمَا اتَّفَقَ مِنْهُمْ فَلَا يُنَافِي أَنَّ الزِّيَادَةَ أَفْضَلُ.
الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ هَلْ الْأَفْضَلُ لِلدَّاعِي التَّصْرِيحُ بِحَاجَتِهِ أَوْ عَدَمُ التَّصْرِيحِ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا فَإِنَّهُ شِعَارُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَلَا تَرَى أَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: ٨٣] فَعَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ، وَكَذَا مُوسَى عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤] .
الثَّالِثُ: آدَابُهُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا أَنْ يُصْلِحَ لِسَانَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ بِأَدَبٍ حُصُولَ أَمْرٍ مُمْكِنٍ عَادَةً وَشَرْعًا فَلَا يَدْعُو بِمُسْتَحِيلٍ وَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ مِمَّا يُعَدُّ إسَاءَةَ أَدَبٍ فِي الْمُخَاطَبَاتِ لِوُجُوبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَلْحُونًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعْرَابِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يُقْبَلُ دُعَاءٌ مَلْحُونٌ» قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إلَّا أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ غَيْرَهُ فَيُعْذَرُ.
(فَإِنَّك) الْفَاءُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ أَمَّا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
(سَأَلْتنِي) الْخِطَابُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِمُحْرَزٍ لِأَنَّهُ السَّائِلُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُ جُمْلَةِ " فَإِنَّك سَأَلْتنِي " جَوَابًا مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَكُونُ إلَّا مُسْتَقْبَلًا لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الشَّرْطِ، فَالشَّرْطُ سَابِقٌ عَلَيْهِ ضَرُورَةً وَالْوَاقِعُ هُنَا خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ سُؤَالَ مُحْرَزٍ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِسَأَلْتَنِي قَدْ وَقَعَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّك سَأَلْتنِي بِأَنَّهَا جَوَابٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّ الْجَوَابِ، وَالْجَوَابُ حَقِيقَةً مَحْذُوفٌ، وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ مَعْمُولَةٌ لَهُ أُقِيمَتْ وَمَقَامُهُ عِنْدَ حَذْفِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمَّا بَعْدُ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَى قَائِلٌ لَك إنَّك سَأَلْتنِي أَيْ طَلَبْت مِنِّي لِخُضُوعِ السَّائِلِ، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الطَّلَبِ يَكُونُ مَعَ اسْتِعْلَاءِ الطَّالِبِ أَمْرًا، وَمَعَ خُضُوعِهِ سُؤَالًا، وَمَعَ التَّسَاوِي الْتِمَاسًا.
وَلِبَعْضِ السُّؤَالِ وَالِالْتِمَاسِ يَكُونَانِ مِنْ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَالدُّعَاءُ طَلَبُ الْأَدْنَى مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَمْرُ عَكْسُهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ حُكْمَ السُّؤَالِ عَمَّا يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ مَعْرِفَتُهُ الْوُجُوبُ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ وَاجِبٍ أَوْ كَانَ وَسِيلَةً لِنَفْعِ غَيْرِ السَّائِلِ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَالْيَاءُ فِي سَأَلْتنِي هِيَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي (أَنْ أَكْتُبَ لَك) يَا مُحْرَزُ وَالْمُرَادُ أُؤَلِّفُ لَك، وَعَدَلَ عَنْهُ إلَى أَكْتُبُ تَوَاضُعًا لِمَا فِي التَّعْبِيرِ بِالتَّأْلِيفِ مِنْ الْإِشْعَارِ بِالتَّعْظِيمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَأَيْضًا فِي التَّعْبِيرِ بِالْكِتَابَةِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ كِتَابَتَهُ لِئَلَّا يُعْتَمَدَ عَلَى الْمَكْتُوبِ وَيُتْرَكَ الْحِفْظُ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُخْتَلَفُ فِي الْجَوَازِ لِقِصَرِ الْهِمَمِ، وَلِذَلِكَ «قَالَ لِلَّذِي شَكَا إلَيْهِ سُوءَ الْحِفْظِ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِيَمِينِك» .
وَقَالَ سَحْنُونٌ: الْعِلْمُ صَيْدٌ وَالْكِتَابَةُ قَيْدٌ وَمَفْعُولُ أَكْتُبُ.
(جُمْلَةٌ) أَيْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَقْصُودَةِ لِلسَّائِلِ (مُخْتَصَرَةٌ) مِنْ الِاخْتِصَارِ بِمَعْنَى الْإِيجَازِ أَيْ قَلِيلَةُ اللَّفْظِ كَثِيرَةُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا طَلَبَهَا مُخْتَصَرَةً لِسُهُولَةِ حِفْظِ الْمُخْتَصَرِ وَضَبْطِهِ، وَتَرْغِيبًا لِلطَّالِبِ فِي تَنَاوُلِهَا.
وَلِبَعْضِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ وَهِيَ أَنَّ الِاخْتِصَارَ يَكُونُ فِي اللَّفْظِ وَالْإِيجَازَ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الِاقْتِصَارِ وَالِاخْتِصَارِ بِأَنَّ الِاقْتِصَارَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ وَتَرْكُ بَعْضِهِ وَالِاخْتِصَارُ تَجْرِيدُ اللَّفْظِ الْيَسِيرِ مِنْ الْكَثِيرِ مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ. وَلِبَعْضِ الِاخْتِصَارِ حَذْفُ بَعْضِ الْكَلَامِ لِدَلِيلٍ، وَالِاقْتِصَارُ حَذْفُ بَعْضِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ) فَمِنْ دَاخِلَةٌ عَلَى وَاجِبٍ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالْوَاجِبُ لَقَبٌ لِأَحَدِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَهُ أَلْقَابٌ أُخَرُ: الْفَرْضُ وَالْمَكْتُوبُ وَالْمُحَتَّمُ وَالْمُسْتَحَقُّ وَاللَّازِمُ فَهَذِهِ سِتَّةٌ.
وَأُمُورٌ جَمْعُ أَمْرٍ بِمَعْنَى الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ جُمِعَ عَلَى أَوَامِرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ إضَافَةِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ.
وَالدِّيَانَةُ مُفْرَدُ الدِّيَانَاتِ مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ إذَا طَاعَ، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْأَمْرِ بِالشَّأْنِ لِأَجْلِ شُمُولِهِ لِلْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ أُمُورَ الدِّينِ الَّتِي سَيَذْكُرُهَا مِنْهَا الْقَوْلُ وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَمِنْهَا الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ، وَمِنْهَا أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الدِّيَانَاتُ بِالْجَمْعِ أَوْرَدَ عَلَيْهَا أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ أَشْخَاصِ الْمُكَلَّفِينَ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَالْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَحْكَامِ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُذَمُّ تَارِكُهُ وَالْحَرَامُ عَكْسُهُ.
وَعَرَّفَ بَعْضُهُمْ الْوَاجِبَ بِأَنَّهُ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ امْتِثَالًا وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ اخْتِيَارًا غَالِبًا فِيهِمَا.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا كُلُّ حَرَامٍ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ، فَنَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ وِرْدُ الْغُصُوبَاتِ وَالدُّيُونِ وَالْعَوَارِيّ إذَا فَعَلَهَا
1 / 20
مِنْ ذَلِكَ مِنْ السُّنَنِ: مِنْ مُؤَكَّدِهَا، وَنَوَافِلِهَا، وَرَغَائِبِهَا.
الْمُرَادِ بِهِ وَشَيْءٍ مِنْ الْآدَابِ مِنْهَا.
وَجُمَلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُنُونِهِ:
ــ
[الفواكه الدواني]
الْمُكَلَّفُ غَافِلًا عَنْ نِيَّةِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِيهَا وَقَعَتْ وَاجِبَةً مُبَرِّئَةً لِلذِّمَّةِ، وَلَا يُثَابُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى يَنْوِيَ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ، قِيلَ: وَمِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الثَّوَابَ يَتَّبِعُ النِّيَّةَ وَالنِّيَّةَ هُنَا مَمْنُوعَةٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ الشَّيْءِ بِالشَّرْعِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ فَلَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِالنِّيَّةِ امْتِثَالًا، وَإِذَا انْتَفَى فِعْلُهُ بِالنِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ انْتَفَى الثَّوَابُ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَقَالَ اللَّقَانِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: لَا تَحْتَاجُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ إلَى نِيَّةٍ بَلْ لَا يُمْكِنُ تَوَقُّفُهَا عَلَيْهَا لِأَنَّ النِّيَّةَ قَصْدُ الْمَنْوِيِّ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْعَاقِلُ مَا يَعْرِفُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ فِيهِ قَائِلًا: إنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَشْعُرُ بِأَنَّ لَهُ مَنْ يُدَبِّرُهُ فَإِذَا نَظَرَ فِي الدَّلِيلِ لِيَتَحَقَّقَهُ لَمْ تَكُنْ النِّيَّةُ مُحَالَةً، وَنُقِلَ عَنْ السَّعْدِ أَنَّ الْحَقَّ تَرَتَّبَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهَا فَإِنَّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ وَحُصُولُهَا بَعْدَ النَّظَرِ عَادِيٌّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمُحَرَّمُ الَّذِي لَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَقَتْلُ النَّفْسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهَا بِتَرْكِهَا وَلَا يُثَابُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِالتَّرْكِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ وَاجِبُ أُمُورِ الدِّيَانَةِ مُبْهَمًا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسُنُ) كَالشَّهَادَتَيْنِ لِلْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ بِهِمَا، وَكَقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَالْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْقَوْلِيَّةِ، وَالْأَلْسِنَةُ جَمْعُ لِسَانٍ آلَةُ النُّطْقِ الْمَعْرُوفَةِ.
(وَ) مِمَّا (تَعْتَقِدُهُ) أَيْ تَجْزِمُ بِهِ وَتُصَمِّمُ عَلَيْهِ (الْقُلُوبُ) كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْأَفْئِدَةُ بَدَلُ الْقُلُوبِ جَمْعُ قَلْبٍ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ.
(وَ) مِمَّا (تَعْمَلُهُ) أَيْ تَكْتَسِبُهُ (الْجَوَارِحُ) وَهِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللِّسَانُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْفَرْجُ وَالْبَطْنُ، وَتُسَمَّى الْكَوَاسِبُ لِأَنَّ بِهَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.
ثُمَّ عَطَفَ عَلَى وَاجِبٍ قَوْلَهُ: (وَمَا يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ) أَظْهَرَ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ أَيْ فَإِنَّك سَأَلْتَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَك جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهِ. (مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ رَاجِعَةٌ لِلثَّلَاثَةِ، وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ لِمَا تَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ فَقَطْ بِدَلِيلِ بَيَانِ الْمُتَّصِلِ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: مِنْ السُّنَنِ وَنَوَافِلِهَا وَرَغَائِبِهَا، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ إنَّمَا تَتَّصِلُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بِخِلَافِ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ فَلَا تَتَّصِلُ بِهِ رَغِيبَةٌ، وَمَا تَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ لَا تَتَّصِلُ بِهِ سُنَّةٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ مِنْهَا مَا هُوَ سُنَّةٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ رَغِيبَةٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ فَضِيلَةٌ، فَيَتَّصِلُ جَمِيعُ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ مِنْهَا، وَمَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ فِيهِ السُّنَّةُ وَالْفَضِيلَةُ، فَالْمُتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ مِنْهُ فِيهِ السُّنَّةُ وَالْفَضِيلَةُ فَقَطْ، وَمَا تَعْتَقِدُهُ الْأَفْئِدَةُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْوَاجِبُ وَالْفَضِيلَةُ، وَالْمُتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ فِيهِ الْفَضِيلَةُ فَقَطْ، كَاعْتِقَادِ فَضْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَنْفَعُ عِلْمُهُ وَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَمَعْنَى الِاتِّصَالِ بِالْوَاجِبِ فِعْلُهُ عَقِبَ فِعْلِهِ، وَيَحْتَمِلُ انْخِفَاضَ رُتْبَتِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْوَاجِبِ وَإِنْ فُعِلَ قَبْلَهُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَحْسَنُ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ لَا يُفْعَلُ بَعْدَ فَرْضٍ كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْعِيدَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ أَيْ يَلِيهِ فِي رُتْبَتِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ بِقَوْلِهِ: (مِنْ السُّنَنِ) جَمْعُ سُنَّةٍ وَالْمُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِهِ مَا قَابَلَ الْفَرْدَ بِقَرِينَةِ الْإِبْدَالِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: (مِنْ مُؤَكَّدِهَا وَنَوَافِلِهَا وَرَغَائِبِهَا) وَأَمَّا مَعْنَى السُّنَّةِ فِي غَيْرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَيَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَنْ تُضَافُ إلَيْهِ، فَفِي اللُّغَةِ الطَّرِيقَةُ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ أَقْوَالُهُ ﷺ وَأَفْعَالُهُ وَتَقْرِيرَاتُهُ وَهَمُّهُ، وَيُزَادُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ وَصِفَتُهُ.
وَفِي اصْطِلَاحِ عُلَمَائِنَا مَا فَعَلَهُ ﷺ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ أَوْ فُهِمَ مِنْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ وَاقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَقِيلَ: مَا فَعَلَهُ ﷺ وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي تَدْخُلُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُمَا وَدَاوَمَ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يُظْهِرْهُمَا فِي جَمَاعَةٍ، وَإِطْلَاقُ السُّنَّةِ عَلَى مَا قَابَلَ الْفَرْضَ اصْطِلَاحُ الْبَغْدَادِيِّينَ لِأَنَّ كُلَّ مَا طُلِبَ شَرْعًا مِنْ الْعِبَادَاتِ فَعَلَهُ ﷺ، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَإِطْلَاقُ السُّنَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي اصْطِلَاحُ غَيْرِ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤَكَّدِ مِنْهَا مَا كَثُرَ ثَوَابُهُ وَهُوَ السُّنَّةُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الَّتِي هِيَ قِسْمُ الرَّغِيبَةِ، وَالْمَنْدُوبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالنَّافِلَةِ كَالْعِيدَيْنِ وَالْوِتْرِ وَالْكُسُوفِ، وَالنَّوَافِلُ جَمْعُ نَافِلَةٍ وَهِيَ لُغَةً الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَرْضِ وَاصْطِلَاحًا مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَرَغَّبَ فِيهِ وَلَمْ يَحُدَّهُ سِوَى الَّذِي لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ أَوْ دَاوَمَ عَلَيْهِ كَأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهُ وَقَبْلَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالرَّغَائِبُ جَمْعُ رَغِيبَةٍ وَهِيَ كُلُّ مَا حَضَّ عَلَى فِعْلِهِ ﷺ وَحْدَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فِي جَمَاعَةٍ خَرَجَتْ السُّنَّةُ وَتَمَحَّضَ التَّعْرِيفُ لِلرَّغِيبَةِ.
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ تَعْرِيفَ السُّنَّةِ بِمَا فَعَلَهُ ﷺ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ مُتَعَيِّنٌ عَلَى طَرِيقِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ السُّنَّةِ
1 / 21
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَالرَّغِيبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الرَّغِيبَةَ وَالنَّافِلَةَ خَرَجَتَا مِنْهُ بِقَيْدِ الْإِظْهَارِ فِي جَمَاعَةٍ، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّغِيبَةِ، وَبَعْدَ الْفَجْرِ سُنَّةٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَدِّ السُّنَّةِ قَيْدٌ وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ يَجْعَلُ الْفَجْرَ رَغِيبَةً يَعْتَبِرُ فِي حَدِّ السُّنَّةِ قَيْدَ الْفِعْلِ فِي جَمَاعَةٍ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا رَغِيبَةً يُسْقِطُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالرَّغِيبَةِ أَنَّ الرَّغِيبَةَ دَاوَمَ عَلَيْهَا وَحْدَهَا بِخِلَافِ النَّافِلَةِ فَإِنَّهَا مَا فَعَلَهُ ﷺ وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ أَوْ دَاوَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَحُدَّهُ أَوْ حَدَّهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَمَعْنَى الْإِظْهَارِ فِي جَمَاعَةٍ فِعْلُهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَمَعْنَى الْحَدِّ التَّعْيِينُ فِي عَدَدٍ مَخْصُوصٍ بِحَيْثُ تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَالنَّقْصُ عَنْهُ مُفَوِّتًا لِلثَّوَابِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَتْ مُدَاوَمَتُهُ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا وَأَرْبَعٍ قَبْلَ الْعَصْرِ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ التَّحْدِيدَ فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَتَمَيَّزُ هَذِهِ عَنْ الرَّغِيبَةِ؟ قُلْت: هَذَا مَفْهُومُ عَدَدٍ لَا يُفِيدُ قَصْرَ فِعْلِهِ عَلَى أَرْبَعٍ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّ مَنْ يُوَاظِبُ عَلَى مِائَةِ رَكْعَةٍ قَبْلَ الظُّهْرِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهُ كَانَ ﷺ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّغِيبَةَ فَعَلَهَا وَحَضَّ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مُطْلَقِ النَّافِلَةِ فَتَأَمَّلْهُ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ قَائِلًا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ الثَّانِي: إذَا عَرَفْت أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَنِ فِي كَلَامِهِ مَا قَابَلَ الْفَرْضَ ظَهَرَ لَك عَدَمُ الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: بَعْدُ: وَنَوَافِلِهَا وَرَغَائِبِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّأْكِيدَ مُخْتَلِفٌ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَالْوِتْرُ سُنَّةٌ آكَدُ ثُمَّ عِيدٌ ثُمَّ كُسُوفٌ ثُمَّ اسْتِسْقَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَشْتَدَّ طَلَبُهُ يَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
(وَشَيْءٌ مِنْ الْآدَابِ) جَمْعُ أَدَبٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ مَا يَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا تَحْسُنُ بِهِ حَالَةُ الْإِنْسَانِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَسَائِرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ تَعَرَّضَ لِلْجَمِيعِ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ، فَاَلَّذِي تَحْسُنُ حَالَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَجَنُّبُهُ عَنْ كُلِّ مَا يُؤْثِمُ وَهُوَ التَّقْوَى، وَاَلَّذِي تَحْسُنُ بِهِ حَالَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُتُبِ اللَّهِ احْتِرَامُهَا وَتَعْظِيمُهَا بِحَيْثُ لَا يَمَسُّهَا إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ، وَلَا يَقْرَؤُهَا فِي مَوَاضِعِ الْأَقْذَارِ، وَمَعَ الرُّسُلِ وَالنَّاسِ التَّأَدُّبُ مَعَ الْجَمِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ: الْأَدَبُ أَنْ يُؤَدِّبَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَبَاطِنَهُ بِالْحَقِيقَةِ بِأَنْ يَرْضَى بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَيَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَيُعِدُّهُ نِعْمَةً إمَّا عَاجِلَةً وَإِمَّا آجِلَةً، فَالْعَاجِلَةُ بُلُوغُ النَّفْسِ فِي الْحَالِ مَحْبُوبَهَا وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالْآجِلَةُ كَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا آجِلًا أَوْ يَحُطُّ عَنْهَا بِهَا خَطِيئَةً فَهِيَ نِعْمَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْآدَابَ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّافِلَةِ قَالَ: (مِنْهَا) أَيْ إنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي أَذْكُرُهُ مِنْ الْآدَابِ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ الَّتِي هِيَ الْوَاجِبُ وَالسُّنَّةُ وَالنَّافِلَةُ فَعَوْدُ الضَّمِيرِ فِي مِنْهَا لِلْوَاجِبِ، وَالسُّنَّةُ وَالنَّافِلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي بَابٍ جَامِعٍ مِنْ الْآدَابِ بَعْضُهُ وَاجِبٌ وَبَعْضُهُ سُنَّةٌ وَبَعْضُهُ نَفْلٌ، وَأَمَّا عَوْدُ ضَمِيرِ مِنْهَا لِلْجُمْلَةِ فَبَعِيدٌ إذْ هُوَ بِصَدَدِ بَيَانِ مَا تَكُونُ مِنْهُ الْجُمْلَةُ.
(تَتِمَّةٌ) الْأَدَبُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: طَبِيعِيٌّ: وَذَلِكَ كَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَتَعْظِيمِ مَنْ يُطْلَبُ تَعْظِيمُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ الْجِبِلِّيَّةِ الْحِسِّيَّةِ.
وَكَسْبِيٌّ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَصُوفِيٌّ: وَهُوَ ضَبْطُ الْحَوَاسِّ وَمُرَاعَاةُ الْأَنْفَاسِ وَالِاشْتِغَالِ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ.
وَشَرْعِيٌّ: وَهُوَ مَا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
(وَجُمَلٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُنُونِهِ) وَالْأُصُولُ جَمْعُ أَصْلٍ وَهُوَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَأَصْلِ الْجِدَارِ وَهُوَ أَسَاسُهُ، وَالْفُنُونُ جَمْعُ فَنٍّ وَهُوَ الْفَرْعُ الْمَبْنِيُّ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِمَعْنَاهُمَا لُغَةً، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِمَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأُصُولِ أُمَّهَاتُ الْمَسَائِلِ كَمَسْأَلَةِ بُيُوعِ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَشَعَّبُ مِنْهَا مَسَائِلُ كَمَسْأَلَةِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَبِالْفُنُونِ مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأُصُولِ الْأَدِلَّةُ وَبِالْفُنُونِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا، وَاَلَّذِي قَالَهُ الطَّيَالِسِيُّ نَقْلًا عَنْ الْمُصَنِّفِ خِلَافُ هَذَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُصُولِ الْأَحَادِيثُ الْمُلَخَّصَةُ الْأَسَانِيدِ أَيْ الْمَحْذُوفَةُ الْأَسَانِيدِ، وَبِالْفُنُونِ الْآرَاءُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى الْعُلَمَاءِ.
قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى خَطَأِ مَنْ فَسَّرَ أُصُولَ الْفِقْهِ فِي كَلَامِهِ بِأُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ وَالْفُنُونِ بِمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا، وَعَلَى تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ يَكُونُ عِطْفُ جُمَلٍ عَلَى وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مِنْ عِطْفِ الْمُغَايِرِ، وَيَصِحُّ نَصْبُ جُمَلٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ إنْ ثَبَتَ نَصْبُهَا فِي الْمُصَنَّفِ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ خُرُوجُهَا مِنْ الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّهَا بَعْضُهَا، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ مِنْ عِطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِخِلَافِ الْجَرِّ فَإِنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْمُغَايِرِ، وَالْفِقْهُ لُغَةً الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ، يُقَالُ: فَقِهَ بِكَسْرِ الْقَافِ إذَا فَهِمَ، وَبِفَتْحِهَا إذَا سَبَقَ غَيْرَهُ لِلْفَهْمِ، وَبِضَمِّهَا إذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَاحْتَرَزَ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ عَنْ مَعْرِفَةِ الذَّوَاتِ
1 / 22