الفَوَائِدُ الجِسَامُ عَلى قَواعِدِ ابنِ عَبْدِ السَّلامِ
لشيخ الإسلام البلقيني
سراج الدين عمر بن رسلان
(٧٢٤ - ٨٠٥ هـ)
وهي فوائدُ ونكاتٌ وتنبيهاتٌ، أَملاها البَلقينيُّ عَلى قواعدِ الأحكام، للإمام العِزِّ بنِ عَبدِ السَّلام
نُشر لأوَّل مرة، عَن نسخةٍ وَحيدةٍ نَسَخَها وَقَرأها عَلَى البَلقيني
تلميذه / تقي الدين يحيى بن شارح البخاري شمس الدين الكرماني
(٧٦٢ - ٨٣٣ هـ)
حققه وقدم له بدراسة مفصلة
د. محمد يحيى بلال منيار
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الطائف
باحثٌ سابقٌ بمعلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية
تقديم / د. علي أحمد الندوي
الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية
خبير أول قسم الضوابط الفقهية بمعلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية
إصدارات
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
بتمويل الإدارة العامة للأوقاف
إدارة الشؤون الإسلامية
دَولَة قَطَر
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 2
الفَوَائِدُ الجِسَامُ عَلى قَواعِدِ ابنِ عَبْدِ السَّلامِ
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
الطبعة الأولى
١٤٣٤ - هـ- ٢٠١٣ م
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مُقَدِّمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر -وقد وفقها الله لأن تضرب بسهم في نشر الكتب النافعة للأمة- لَتحمد الله ﷾ على أن ما أصدرته قد نال الرضا والقبول من أهل العلم.
والمتابع لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهود دولة قطر في خدمة العلوم الشرعية، ورفد المكتبة الإسلامية بنفائس الكتب القديمة والمعاصرة وذلك منذ تسعة عقود، عندما وجه الشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني حاكم قطر آنذاك بطباعة كتابي (الفروع) و(تصحيح الفروع)، سنة ١٣٤٥ هـ، وكان المؤسس الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني رحمه الله تعالى قد سن تلك السنة من قبل.
وقد جاء مشروع إحياء التراث الإسلامي والنشر العلمي الذي بدأته الوزارة في السنوات الأخيرة امتدادًا لتلك الجهود، وسيرًا على تلك المحجة التي عُرفت بها دولة قطر.
ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسَّر الله جلَّ وعلا للوزارة إخراج مجموعة من أمهات كتب العلم والدراسات المعاصرة المتميزة في فنون مختلفة، تُطبع لأول مرة، نذكر منها:
• في التفسير وعلوم القرآن:
أصدرت الوزارة عدة كتب، منها: (فتح الرحمن في تفسير القرآن)
1 / 5
للعُليمي، و(المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) لابن عطية في طبعته الثانية.
وفي علم رسم المصحف أصدرت الوزارة: كتاب (مرسوم المصحف) للعُقيلي، و(الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة) لأبي بكر اللبيب.
وفي علم القراءات أصدرت الوزارة كتاب: (البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة) لأبي حفص النشار، و(معاني الأحرف السبعة) لأبي الفضل الرازي.
• وفي السنة النبوية وشروحها:
أصدرت الوزارة عدة كتب، منها: (التقاسيم والأنواع) لابن حبان، و(مطالع الأنوار) لابن قرقول، و(التوضيح شرح الجامع الصحيح) لابن الملقن، و(حاشية مسند الإمام أحمد) للسندي، وشرحين لموطأ الإمام مالك؛ لكُلٍّ من (القنازعي)، و(البوني)، و(المخلصيات) لأبي طاهر المخلص، و(شرح مسند الإمام الشافعي) للرافعي، و(نخب الأفكار شرح معاني الآثار) للعيني، و(مصابيح الجامع) للدَّمَاميني.
ومما تشرفت الوزارة بإصداره في تحقيق جديد متقن: (صحيح ابن خزيمة)، و(السنن الكبرى) للإمام النسائي، والمحقّقين على عدة نسخ خطية، و(جامع الأصول في أحاديث الرسول)، و(النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير.
• وفي الفقه وما يتصل به:
أصدرت الوزارة عدة كتب في المذاهب الأربعة، منها: كتاب: (الأصل) لمحمد بن الحسن الشيباني (ت ١٨٩ هـ) كاملًا محققًا على أصول عدة، و(التبصرة) للخمي، و(نهاية المطلب في دراية المذهب) للإمام الجويني
1 / 6
بتحقيقه المتقن للأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله تعالى عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي، و(حاشية الخلوتي).
كما أصدرت الوزارة: (الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف) للإمام ابن المنذر بمراجعة دقيقة للشيخ الدكتور عبد الله الفقيه عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي، و(بقية المتتبع لحل ألفاظ روض المربع) للعوفي الصالحي، و(منحة السلوك في شرح تحفة الملوك) للعيني.
• وفي السيرة النبوية:
أصدرت الوزارة الموسوعة الإسنادية: (جامع الآثار في السير ومولد المختار) لابن ناصر الدين الدمشقي، وغيرها.
• وفي العقيدة والتوحيد:
أصدرت الوزارة كتابًا نفيسًا لطيفًا هو: (الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد) لابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله تعالى، كما أعادت نشر كتاب (الرد على الجهمية) للإمام أحمد رحمه الله تعالى، وغيرها من كتب عقيدة أهل السنة والجماعة.
• وفي مجال الدراسات المعاصرة المتميزة:
أصدرت: (القيمة الاقتصادية للزمن)، و(نوازل الإنجاب)، و(مجموعة القره داغي الاقتصادية)، و(التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي)، و(صكوك الإجارة)، و(الأحكام الفقهية المتعلقة بالتدخين)، و(التورق المصرفي)، و(حاجة العلوم الإسلامية إلى اللغة العربية)، و(روايات الجامع الصحيح ونسخه دراسة نظرية تطبيقية)، وغيرها.
كما قامت الوزارة بشراء وتوزيع بعض الكتب المطبوعة لما لها من أهمية، مثل: (مسند الإمام أحمد)، و(صحيح الإمام مسلم)، و(الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي، و(الجامع لشعب الإيمان) للبيهقي، و(تاريخ
1 / 7
الخلفاء) للسيوطي، و(التاريخ الأندلسي) لعبد الرحمن علي الحجي، و(الإقناع في مسائل الإجماع) لابن القطان الفاسي، و(شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي، و(قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) للعز ابن عبد السلام.
ومثل: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي، و(الرسالة المحمدية) لسليمان الندوي، وغيرها.
ويسرنا اليوم أن نقدم لإصدار جديد هو كتاب (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام) لشيخ الإسلام البُلقيني، المتوفى سنة (٨٠٥ هـ)، رحمه الله تعالى، والذي قيل فيه: إنه مجدد القرن التاسع، كما في (شذرات الذهب).
وهذا الكتاب جليل القدر، عظيم المنزلة، إذ أنه فوائد وتعقبات أملاها البُلقيني على كتاب (قواعد الأحكام) للعز بن عبد السلام، المتوفى سنة (٦٦٠ هـ)، رحمه الله تعالى، وأهميته غير خافية على أهل العلم.
ومما يميز الكتاب أن الفوائد المذكورة ليست قاصرة على علم القواعد الفقهية، بل تشتمل على نكت في فنون عدة من فنون الشريعة، مع تنوع تلك الفوائد؛ فقد تكون تعقبات أو تحريرات أو استدلالات لقول المصنف، أو غير ذلك.
وتتشرف الوزارة بإخراج هذا الكتاب لأول مرة، خدمة للمشتغلين بالقواعد الفقهية خاصة، وطلبة العلم عامة.
والحمد لله على توفيقه، ونسأله المزيد من فضله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إدارة الشؤون الإسلامية
1 / 8
صورة ما كتبه بخطّه شيخ الإسلام البلقيني
في آخر مخطوطة هذا الكتاب (من بداية قوله: حسبنا الله ...)
لوحة ٦٢ نهاية كتاب الفوائد الجسام، ثم تبدأ كتابة للبلقيني بخطه بقراءة الناسخ هذا الكتاب عليه، مع التعريف به
1 / 9
لوحة ٦٣ تكملة كتابة البلقيني بخطه عن التعريف بتلميذه ناسخ هذه النسخة، ثم في الجانب الأيسر أورد الناسخ قصيدة البلقيني عن هذا الكتاب
1 / 10
نص البلقيني السابق (نهاية اللوحة ٦٢ / ب واللوحة التالية لها)
(حسبنا الله ونعم الوكيل. أما بعد حمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد والتابعين.
فقد قرأ عليّ الشيخ الفاضل جمال الفضلاء والمدرسين مفيد الفاضلين تقي الدين أَبو السعادات يحيى، ابن الشيخ الإمام العالم أحد الأعيان، ومَنْ يُشار إليه في ذلك الزمان: شمس الدين أبي عبد الله محمد، ابن الشيخ المرحوم جمال الدين يوسف الكرماني، منحنا الله تعالى وإياه في الدارين الأماني، قطعة كبيرة من (الفوائد الجسام على قواعد شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام)، فبحث في ذلك وحَقَّق، وغاص على المعاني ودَقَّق.
وسمع عليّ (صحيح البخاري) ثلاث مرات بفواتات مذكورة في الطبقات، و(صحيح مسلم) بفوات أيضًا، و(سنن أبي داود) كاملًا، وكتاب (دلائل النبوة) للبيهقي بفوات مجلس واحد، وغير ذلك من الأربعين المخرّجة لي.
وسمع من التفسير من (النهر) تصنيف شيخنا أثير الدين أبي حيان بقراءة الشيخ المرحوم نجم الدين الباهي الحنبلي. وحضر مجالس الإفتاء كثيرًا، وكم كَتَب في ذلك صغيرًا وكبيرًا، وأورد الأسئلة الحسان، فبان بذلك أنه من الأعيان.
وقد أجزتُ له أن يروي عني جميع مصنفاتي، وما لي من إملاء،
1 / 11
وتأليف، ومنظوم ومنثور، وأن يفيد الطالبين، ويجيب السائلين بما ظهر من الأمر المستبين، ويراعي في ذلك كله الأمر المبين.
ووصَّيتُه بتقوى الله وطاعته ومراقبته في سرّه وعلانيته، فإن من سَلَك السراط المستقيم، نجا، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢].
وقد كَتَب من أجوبتي على الفتاوى جملةً صالحة. جعلنا الله وإياه ممن تكون بضاعته في الدارين رابحة. وحَضَر مجالس الوعظ، وكَتَب معها مجالس كثيرة، وقد قرأ منها ومن غيرها فوائد غزيرة.
والله تعالى يحقق رجانا، ويجيب دُعانا، ويدفع عنا الأعدا، في جميع الأَبَدَا، ويجمع شملنا في الدارين بالمقصود، وأن يجعلنا من أهل الشهود، وأن يسلّمنا في الدنيا والآخرة، ويُسبغ علينا من نعمه الفاخرة. آمين. والحمد لله رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد والتابعين، واجعلْنا -اللهُ تعالى- ممن صحِبتْهم في الأحوال السلامة، واكفنا شر الندامة، واجعلنا من الناجين في يوم القيامة. آمين. والحمد لله رب العالمين.
قال ذلك، وكتبه الفقير إلى عفو ربه، عمر البلقيني، حامدًا ومصلِّيًا ومسلِّمًا. ومولدي ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان المكرّم، سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
* * *
1 / 12
تقديم بقلم الأستاذ الجليل الدكتور علي أحمد الندوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله النبي الكريم، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذا الكتاب المسمى بـ (الفوائد الجسام على قواعد الأحكام) قد أملاه الإمام سراج الدين البلقيني على تلاميذه، وهو عبارة عن تعليقات سنحت بخاطره أثناء تدريسه، وقَصَد منها إتمامَ فائدة، أو توضيحَ مقصود، أو تنقيحَ رأي، أو إضافة قيد، في مناسبات مختلفة من الكتاب الجليل الذي ألّفه سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام. وبهذا يمثل هذا الكتاب نموذجًا فريدًا لاجتهادات إمامين في فهم بعض القضايا المتصلة بالتأصيل الفقهي.
ومن المعهود المألوف في مجال العلم: وجودُ شروح أو تعليقات على متونٍ وكتبٍ، وذلك لكشف غامضٍ أو استدراك أمرٍ في الغالب، ولكن قلّما يتوافر عنصر القيمة المعنوية كما صادف ذلك في هذا الكتاب بمشاركة إمامين في مرتبة متقاربة؛ فكل منهما له علوُّ كعب، وشخصية متميزة، ومكانة اجتماعية في عصره.
وإذا كان الإمام العز اشتهر بلقب (سلطان العلماء)، فالبلقيني عُرف بلقب (شيخ الإسلام) في عصره. ومن الجدير بأن أسجل كلمة ابن خلدون في شأنه، إذ يقول في معرض حديثه عن تاريخ الفقه:
1 / 13
(ثم انقرض فقه أهل السنة والجماعة من مصر بظهور دولة الرافضة، وتداول بها فقه أهل البيت ...، إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة ...، فذهب منها فقه أهل البيت، وعاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم، ورجع إليهم فقهُ الشافعي ... فعاد إلى أحسن ما كان، ونَفَقَتْ سوقه ...، إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد، وهو سراج الدين البلقيني؛ فهو اليوم كبير الشافعية بمصر، لا، بل كبيرُ العلماء من أهل العصر) (١).
وبهذا يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة؛ إذ هذه المزية المشار إليها في حد ذاتها، كَسَتْه حُلّةَ عزٍّ، وتَوَّجَتْه وسامَ شرفٍ، بغضّ النظر عن فحوى التعليقات وأهميتها العلمية.
وقبل أن أنوِّه بما يتصل بـ (قواعد الأحكام) للإمام العز، وفوائد الإمام البلقيني، أود الإشارة إلى أن صلتي بهذا الكتاب (الفوائد الجسام للبلقيني) تعود إلى أبعد من ربع قرن، وذلك حين زيارتي المكتبة السليمانية بإصطنبول، فوقفتُ هناك على هذا الكتاب (الفوائد الجسام)، وتصفحتُه حينئذ تصفحًا عابرًا، وبقي في نفسي لهفٌ لمزيد من الغوص فيه، ثم مع تمادي الزمن أصبح التفكير فيه نسيًا منسيًا.
ولكن قَدَّر اللهُ ﷿ أن ألتقي بالأخ الكريم الشيخ منصور العتيقي بالكويت، وذلك قبل سنوات، بمناسبة حضوري دورة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، فإذا هو يزوّدني بنسخة مصورة من الكتاب مع رجاء وحفز إلى تحقيقه، وكان بي حَفِيًّا؛ ثم بفضل الله تعالى تحقق أخيرًا ما كنا نطمح ونصبو إليه على يد أخينا الدكتور الشيخ يحيى بلال، فهذا الكتاب المطبوع المحقق ثمرةُ جهده.
_________
(١) مقدمة ابن خلدون، اعتناء ودراسة: أحمد الزعبي، ص ٤٨٧، دار الأرقم، بيروت.
1 / 14
وفي هذا العصر الذي شهد نهضةَ تأليف وتحقيق في الحقل المعرفي المتصل بالتقعيد الفقهي، يخرج هذا الكتاب إلى النور، فيثرى به رصيد العلم في هذا التخصص البارز.
وعسى أن لا يكون من نافلة القول أن أُشيد بأصل الكتاب (قواعد الأحكام) بلفت الأنظار إلى أنه على الرغم من وفرة المؤلفات في موضوع القواعد، لا يكاد يوجد كتاب آخر يضارعه في كثير من مضامينه، وهو ينخرط في سِلك الكتب الأصيلة المبتكرة المتميزة برصانتها العلمية، وقد صاغه الفقيه المفكر العالم الرباني الإمام عز الدين بن عبد السلام، وناهيك به علمًا وفضلًا.
هذا وأما التعليق عليه من قِبل الإمام البلقيني فهو لا يغضّ من مقام الأصل، بل يرفعه قدرًا بما فيه من توجيهات وتنبيهات. على أنه ليس بحتم أن يُسلَّم له كلُّ ما اقتَرَحه وأَورَدَه. وفي الواقع بذل المحقق الفاضل الدكتور يحيى بلال جهدًا كبيرًا في إبراز نماذج منتقاة من التعليقات، تُنوِّر بصيرة القارئ في معرفة طبيعة الكتاب.
وربما عَكَّر صفوَ الكتاب ما اعتراه من غموض وتعقيد في مواضع منه؛ إذ الإملاءُ قد يفوته الصقل والتهذيب، وقد يكون الالتباس واقعًا من الناسخ، أو راجعًا لسبب آخر.
وأسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل، ويُثقل به موازين المؤلف والمحقق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
علي أحمد الندوي
يوم الجمعة ١٤/ ٨ / ١٤٣٢ هـ
1 / 15
مقدمة التحقيق
يسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الكريم سيدنا محمد وآل سيدنا محمد وصحبه والتابعين.
وبعد، فإن (علم القواعد الفقهية) منذ أن برز في الحقبة الأخيرة على الساحة العلمية، إذ به يأخذ بمجامع القلوب، لِما فيه من صقل ملكة الفقه، وتدريبِ مداركه، وتفتيقِ آفاقه في الربط بين الصيغ القواعدية التي وصل إليها الفقهاء وبين الفروع الفقهية المخرّجة عليها، المنبثة في بطون ما لا يُحصى من الكتب.
ومن هنا هفَتْ أنظار الدارسين إلى هذا العلم، وخصوصًا ممن كانوا في مراحل الدراسات العليا الجامعية (الماجستير والدكتوراه)، فنشطوا في العناية به من جوانب متعددة.
ومن بين تلك الجوانب: الإقبال على تحقيق الكتب المؤلفة فيه التي كانت ما تزال قابعة في خزائن المخطوطات، فأدى ذلك إلى ازدهار حركة النشر لتلك الكتب حتى صار الواحد يرى الآن أمام عينيه ثروة طيبة من تلك الذخائر النفيسة المؤلفة في هذا العلم، قد خرجتْ مطبوعةً -في جملتها- بأحسن حُلّةٍ وإتقانٍ وعنايةٍ.
ولكن بقيتْ من بين تلك الكتب، روائعُ ونوادرُ، كانت ما تزال تنتظر من يزيح عنها الأستار ويَعتني بإخراجها لروّاد العلم وأهله، ومنها هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ: (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام)
1 / 16
للبلقيني، فإنه يُعدّ أحد تلك الروائع التي لها صلة بعلم (القواعد الفقهية)، وكان ما يزال بعيدًا عن الأنظار طوال هذا الوقت، فقُدِّر له أن يخرج إلى عالم المطبوعات في هذا الحين بتوفيق الله تعالى وفضله.
إن مما يكشف عن قيمة كتاب (الفوائد الجسام) أنه تعليق على أحد أساطين الكتب القواعدية، وهو (قواعد الأحكام) لعبقري زمانه النابغة الفذ سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، وجزاه عن العلم وأهله خير الجزاء.
إن كتاب (قواعد الأحكام)، من الكتب الذهبية -في علم القواعد الفقهية- الممتعة المشبعة التي تأخذ بالألباب، والتي لم يُنسج على منوالها كتابٌ غيرُه في هذا العلم فـ (قد شاع اسمه كأنه عَلَمٌ في رأسه نارٌ، وجاء هذا الكتاب على وفق مطلوبه، كاملًا في أسلوبه، شاملًا للفضل بعيدِه وقريبِه) كما يقوله التاج السبكي عنه (١).
وهو وإن اشتهر بأنه من كتب القواعد الفقهية، إلا أنه يعتبر أيضًا من كتب (قواعد المقاصد)، ويمكن أن يقال بتدقيق أكثر: إنه من كتب (تأصيل قواعد المقاصد) (٢).
ثم إنه ليس خاصًّا محصورًا في دائرة (القواعد الفقهية) أو (القواعد المقاصدية) كما قد يُظن به من خلال عنوانه، وإنما يشمل أنواعًا من التقعيد والتأصيل المتعلق بالأحكام الشرعية، فمثلًا يشتمل على:
- قواعد شرعية عامة كبرى، مثل: (قاعدة النية)، و(قاعدة المصالح والمفاسد)، و(قاعدة حقائق التصرفات)، و(قاعدة ألفاظ التصرفات)، و(قاعدة الحقوق) ونحو ذلك من القواعد الكبرى العامة.
_________
(١) الأشباه والنظائر ١: ٧٠٦.
(٢) ينظر مقدمة الأستاذ عمر القِيّام لكتاب (الفروق) للقرافي ص ١٥ و١٧.
1 / 17
- ومباحث لقواعد أصولية.
-كما نجد فيه ضبطًا لبعض التقاسيم الشرعية.
- وكذلك ضبطًا لبعض ما يتعلق بالترغيب والترهيب والرقائق، وغير ذلك من الجوانب القواعدية. . .
وهكذا، فإن الكتاب يدور في مجمله في فلك (التقعيد والتأصيل) لكن من نواح وجوانب مختلفة، وربما لا تظهر بادئ ذي بدء هذه الجوانب التقعيدية المختلفة في الكتاب من خلال نظرةٍ عابرةٍ فيه؛ لأن مؤلفه الشيخ ابن عبد السلام لم يمشِ فيه على نمط تقليدي معيّن في ترتيب وتبويب وعرض مباحث القواعد التي تناولها، وإنما أَرسَل ﵀ سجيته حسبما فتح الله عليه من العلوم والمعارف المتعلقة بموضوع التقعيد.
وبالجملة فهو كتابٌ موهوبٌ في التقعيد والتأصيل في جوانب مختلفة من العلوم الشرعية، خاصة فيما يتعلق بالمقصد الأسمى للشريعة، وهو إصلاحُ الأنام أو مراعاة مصالحهم (١).
هذا ومما يكفي كتابَ (قواعد الأحكام) فخرًا وذكرًا، أنه كان يُعدّ -في نفس عصر مؤلفه- أحدَ الكتب التي اعتُبرت مرجعًا رئيسيًّا في بابها، لِما وصلت إليه من الذروة والسمو العلمي في موضوعاتها مع الندرة والابتكار (٢).
هذا الكتاب الرفيع الراقي، لم يكن من السهل أن يُدرك أحدٌ أنه يحتاج -في مواضع منه- إلى تعليق وتعقيب عليه إلا أن يتفطن لذلك شخص ضليع راسخ في العلم، بحيث ينفذ بثاقب نظره إلى المواضع التي تحتاج فيه إلى تحرير وتعليق، فيتمكن من إبداء ما حولها من النظر السديد بكل جدارةٍ ودقةٍ
_________
(١) ما سبق من المضمون مستفاد من الدكتور علي الندوي جزاه الله خيرًا.
(٢) ينظر كتاب (رجال الفكر والدعوة في الإسلام) للشيخ أبي الحسن الندوي ٢٠١: ٤٤٤.
1 / 18
نظرٍ وإنصافٍ، مع الاحتفاظ بالتقدير والإجلال التام لصاحب الكتاب الأصل.
فكان هذا العمل من نصيب شيخ الإسلام البلقيني المعروف بجلالة قدره الذي يعدّ (مفخرة القرن التاسع في الجمع بين علوم التفسير والحديث والأصول والفقه) (١)، بل إنه لُقّب بكونه من المجدّدين على رأس القرن التاسع (٢)، فرأى هذا الشيخ أثناء قراءة كتاب (قواعد الأحكام) عليه، أن فيه مواضع تحتاج إلى نظر، فكان يُملي أثناء تلك القراءة ما يتبدى له من الفوائد والتعقيبات والنكات حول تلك المواضع، وكان أحدُ تلامذته في هذا الدرس -وهو تقي الدين يحيى بن محمد بن يوسف الكرماني (وهو ابن الكرماني المشهور شارح صحيح البخاري) - يقيّد ما يتلقاه شفهيًّا من شيخه البلقيني من هذه التعليقات، وهي التي جُمعت في هذا الكتاب المسمى بـ (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام).
والخلاصة أن هذا الكتاب (الفوائد الجسام) يكمُن جوهرُه وندرته العلمية، في أنه مساجلة علمية بين إمامين جليلين اجتمع أهل الشان على أنهما قد بلغا من المجد العلمي غايته ورفعته في عصرهما، وهما: سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني رحمهما الله تعالى.
وهي مساجلة علمية تتعلق بكتاب (قواعد الأحكام) الذي يُعدّ في حد ذاته أيضًا من الأصالة والجودة والابتكار العلمي فيما احتواه، بحيث ربما لا يضاهيه كتابٌ آخر في نفس موضوعه.
وبهذا يمكن أن يقال: إن كتاب (الفوائد الجسام) يتبطن في داخله ثلاثة جوانب من الرفعة في آن واحد، وهي:
_________
(١) دراسات الكاشف للذهبي، للشيخ محمد عوامة ص ٢٦٥.
(٢) كذا في شذرات الذهب في ترجمته ٧: ٥٠.
1 / 19
١ - أنه تعليقٌ من عالمٍ جليلٍ مثل شيخ الإسلام البلقيني.
٢ - وهو تعليقٌ على كلامِ عالمٍ عبقريٍّ مثل سلطان العلماء العز بن عبد السلام.
٣ - وهو تعليقٌ حول كتابٍ فَذٍّ في بابه، ألا وهو كتاب (قواعد الأحكام) للشيخ ابن عبد السلام.
وفيما يلي دراسة مفصلة عن هذا الكتاب، مع التعريف بمنهج خدمته وتحقيقه، وذلك في أربعة مباحث، على النحو التالي:
المبحث الأول: التعريف بكتاب (الفوائد الجسام).
المبحث الثاني: التعريف بابن عبد السلام، والبلقيني، والناسخ يحيى الكرماني.
المبحث الثالث: وصف المخطوط.
المبحث الرابع: عملي في خدمة الكتاب.
وأسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل، وأن يرزقنا به العلمَ النافع، والعملَ الصالح، وأن يجزيَ خيرَ الجزاء كلَّ من كان سببًا، أو مَدَّ يد العون والمساعدة بوقته وجهده في إخراج هذا الكتاب النادر.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، ﷺ، وعلى آله وصحبه وأهل بيته أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
انتهيتُ من النظر فيه
ليلة عرفة المباركة من عام ١٤٣٢ هـ
الموافق لنوفمبر من عام ٢٠١١ م
كتبه
محمد يحيى بلال منيار
مكة المكرمة
1 / 20