अरबों का मिस्र पर विजय
فتح العرب لمصر
शैलियों
وقد رأينا فيما سلف أن إحدى سفن الغلال التي كانت للكنيسة في الإسكندرية كانت تحمل عشرين ألف مد (كل مد خمس الإردب)، ولم يذكر أحد أن حمل هذه السفينة كان فذا، وأكبر الظن أن تلك السفن التجارية كانت أكبر كثيرا مما اعتاد الناس أن يظنوا فيها، وكذلك كان حال السفن الحربية. وقد حدث بعد سنين عدة من هذا الوقت عندما أصبحت مصر في ملك العرب أن أمر معاوية الزعيم العربي في الشام ببناء عدد من السفن الحربية في الإسكندرية وسواها من المواني التي في حكم الدولة العربية، وذلك في وقت لم يكن فيه بمراسي الإسكندرية أحد من بنائي السفن الذين هم من أصل بيزنطي محض؛ إذ كانوا لا بد قد خرجوا منها جميعا. ويقول «سبيوس» إن السفن كانت على نوعين؛ أحدهما يمكن أن نسميه «البوارج»، والآخر «الطرادات». وكانت البارجة تحمل ألف رجل، في حين أن السفن الصغرى كانت تحمل كل منها مائة رجل،
40
وكانت تجعل للسير السريع واللف حول السفن الكبرى. ويذكر ذلك المؤرخ وصفا مسهبا عظيم القيمة لما كان في سفن الحرب من الآلات والسلاح؛ فكان بها عدد القذف «مجانيق وآلات رمي الحجارة»، وكان في بعضها صروح عالية فوق ظهرها، حتى إذا ما جاءت السفن بحذاء أسوار محصنة استطاع المهاجمون أن يكونوا هم والمدافعون على علو سواء، وأمكنهم أن يثبوا من تلك الصروح إلى الأسوار، أو أن يقيموا قنطرة على الفضاء القليل الذي بينهما ويعبروا عليها إلى حصون الأسوار.
وأعظم شأنا من هذا ما جاء في كتب «سبيوس» من الوصف الصريح لما شهده من تلك السفن الكبرى، وأنها كانت مجهزة ب «آلات تقذف النار»، وهي آلات ترمي بالنار المهلكة المعروفة ب «النار الإغريقية»، وكانت مزيجا قويا من مواد سريعة الالتهاب، وكانت تشتعل اشتعالا شديدا لا يمكن إطفاؤه، ولعلها كانت فوق ذلك ذات قوة على النسف والتمزيق، وكانت لذلك تحدث تخريبا كبيرا وخوفا شديدا، ولكن أكبر ما يسترعي النظر فيما جاء في كتاب «سبيوس» من ذلك الوصف أنه يقول: إن السفن التي بنيت في مصر بعد الفتح العربي بأمر العرب كانت مجهزة بالمجانيق لقذف المواد الملتهبة. وهي المواد التي قيل إن تجهيزها كان إلى القرن السابع على الأقل سرا مكنونا اختص به أهل بيزنطة. وقد جرت العادة أن يقولوا إن أول من اخترع النار الإغريقية رجل اسمه «قلينيكوس»، وهو مهندس في مدينة «هليوبوليس»، ويقولون في تسرع إن «هليوبوليس» المقصودة هي التي بالشام، وليست هي المدينة القديمة الشهيرة بمصر. أما المؤرخ «جبون» فإنه يعتمد على ما جاء في كتاب «قدرينوس»، ويقول إن «قلينيكوس» كان مصريا، ولكنه يزعم خطأ أن «هليوبوليس» كانت عند ذلك أطلالا بالية.
41
وإننا لا يمكن أن نتصور أنه كان من الممكن أن تبنى سفن في الإسكندرية بعد فتح العرب لمصر بما لا يزيد إلا قليلا على عشرين سنة، ثم أن تجهز بتلك الآلات التي تقذف النار الإغريقية، اللهم إلا إذا كان اختراع مزيج تلك النار وعمل آلاتها أصله في مصر ذاتها.
ومهما كان من أمر هذه النار، فإنه لا شك على كل حال في أن صناعة بناء السفن كانت عظيمة في الإسكندرية في النصف الأول من القرن السابع، وأنها لم تضمحل عندما انتهى أمر الدولة البيزنطية في مصر. وفي هذا ما يدل على أن الصانع القبطي في هذه الصناعة وفي غيرها من الصناعات الكبرى في وادي النيل كان مستقلا بنفسه بغير إرشاد ولا تسيير من الروم، إذا لم نقل إنه كان في الحقيقة الصانع المعلم.
قد ألجأنا هذا الفصل المجمل في كلامنا على الفنون والآداب في الإسكندرية حوالي وقت غزو الفرس لمصر إلى أن نخوض في تاريخ ما سبقه وما جاء بعده من العصور، ولكنا قصدنا إلى ذلك قصدا لأمرين؛ أولهما: أن نبين على وجه الإجمال والتقريب ما كانت عليه المدنية المادية في هذا العصر. وثانيهما: أن ندل على أن سير تلك المدنية كان متصلا، ولم يقطعه على الأقل فتح الفرس للبلاد؛ فإن جيوش كسرى لم تسبب أذى كبيرا للتحف الكبرى في العاصمة، سواء كان ذلك بنيانا أو علما؛ فإن غزاة الفرس لم يكونوا هم الذين دمروا مكاتب الإسكندرية إذا كانت لم تزل إلى ذلك الوقت باقية، وكانت المنارة الكبرى منارة «فاروس»، إحدى عجائب الدنيا السبع، لا تزال إلى ذلك الوقت ماثلة مشرفة فيما بين المدينة والبحر، تكلل هامتها سحب من الدخان في النهار، ولهب من النيران بالليل. ولم يهدم من أبنية الإسكندرية ما اشتهرت به المدينة من المعابد القديمة وساحات العمد الفسيحة والقصور التي لا تقع تحت حصر، بل إن الكنائس ذاتها التي كانت في داخل أسوار المدينة لم يمسسها أذى يستحق الذكر، وكان المصلون يزدحمون في الكنيسة الكبرى كنيسة «القيصريون»، أو في كنيسة القديس «مرقص»، حيث كان رفات «رسول مصر»
42
لا تزال في مقرها يعلوها المذبح المنيف.
अज्ञात पृष्ठ