अरबों का मिस्र पर विजय
فتح العرب لمصر
शैलियों
30
وقد أورد فيها الكاتب ذكر الغزو الفارسي وجعله في صورة نبوءة، ولكنه كتبها ولا يزال في الأحياء جماعة من الشيوخ أدركوا الحوادث التي يذكرها، وها هي الكلمة: «سيأتي الفرس إلى مصر يسفكون فيها الدماء، ويسلبون أموال المصريين، ويسبون أبناءهم يبيعونهم بالذهب؛ فإنهم قوم ظالمون معتدون، وستنزل المصائب على أيديهم بمصر، يغصبون الكنائس ما بها من آنية مقدسة، ويشربون الخمر في المحراب لا يبالون، ويهتكون أعراض النساء على مرأى من رجالهن، وسيبلغ الشر أعظمه والشقاء قصاراه، وسيهلك ثلث من يبقى من الناس في بؤس وعذاب، وسيبقى الفرس في مصر حينا من الدهر ثم يخرجون منها.»
ولسنا نطمع في دليل أوضح من هذا ولا أبلغ دلالة؛ فهو يهدم كل ما زعم «شارب»؛ إذ زعم أن القبط فرحوا بالفرس، كما أنه يهدم ما ذهب إليه من أن سبب ذلك الفرح الموهوم هو صلة نسب وقرابة زعم أنها كانت بين المصريين وجنود الفرس. وإليك ما قاله «ساويرس» مجملا وصفه لقائد الفرس، قال: «قد اقترف ذلك «السلار» كثيرا من الظلم والقسوة؛ لأنه كان لا يعرف الله، وإن الوقت ليضيق عن ذكر كل ما ارتكبه.» وقد ظل التاريخ صامتا لا يذكر شيئا عن غزو الفرس لمصر حتى عرفت كلمة «ساويرس» الأخيرة التي اقتبسناها، ثم ظهرت بعد ذلك الصحيفتان اللتان تخلفتا عن ذلك العصر نفسه أو قريبا منه، وعند ذلك تجلت الحقيقة. غير أن صمت التاريخ اتخذ أساسا بنيت عليه قصة قوامها الظن والحدس، فيها حط من شأن القبط لا مبرر له، فلنشهد الآن انهيار ذلك البناء.
بقي الفرس سادة البلاد عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة، ولعلهم قضوا ثلاث سنوات
31
يمهدون لسلطانهم في طول البلاد وعرضها في مصر و«بنطابوليس»، ولكن لا يرد ذكر لمقاومة عنيفة، أو لقتال استطالت به المدة، اللهم إلا عند الإسكندرية. وإن مضي هذه المدة هو أكبر علة لاضطراب ترتيب الحوادث في هذه الفترة وقلة الضبط في تواريخها، وكان الفرس في أثناء القتال يظهرون قسوة عنيفة. فلما أن خبت سورتهم واستقر أمرهم، صار حكمهم أبعد شيء عن أن يكون ظالما. فلما أن أخرج جند الروم أو من بقي منهم من وادي النيل، وفروا في البحر، استقر القبط على شيء من الاطمئنان، وخضعوا مرة أخرى لسيد جديد بعد زوال سلطان السيد القديم عنهم. وقد كان هذا شأن تاريخهم السياسي من أقدم الأزمان أن تتبدل عليهم السادة وتتعاقب.
وما هو إلا أن عاد السلم حتى أمنت الكنيسة المصرية، واستطاعت أن تداوي بعض ما أصابها من الجروح بعد ما عانته من السلب والتخريب، وبعد أن كادت آثارها تمحى في بعض المواضع. على أن «أندرونيكوس» لم يقم بشيء في سبيل إعادة بناء الأديرة المخربة. وأغلب الظن أن الفرس فرضوا على الكنائس جزية تؤديها، أو لعلهم على الأقل استصفوا ما كان للكنائس الملكانية الطريدة من أوقاف وأرزاق. وأما الأبنية الأهلية فقد لقيت من الفرس رفقا لم يرفقوا مثله في مكان آخر؛ فقد قدمنا أنهم كانوا في الشام يمنون على المدائن والناس في أثناء الحرب كلها إذا هم سلموا إليهم أمانا، وأما إذا كانت مقاومة فقد كانت عادتهم أن ينهبوا ما فتحوه عنوة، فيسلبوا منه كل ما استطاعوا حمله من تحف أو كنوز، ثم كانوا فوق ذلك يهدمون البناء نفسه كي يأخذوا ما فيه من العمد البديعة، والإطارات الجميلة، والمرمر الثمين، ويرسلوه إلى الملك الأعظم يحلي به قصرا من قصوره. وأما مصر فقد حماها بعدها الشاسع من مثل هذا التخريب الشنيع؛ لأن الروم كانوا لا يزالون سادة البحار، وكان بمصر السفلى عدد لا حصر له من الترع لا قناطر عليها، وكان بين مصر والشام شقة واسعة من صحراء ذات رمال، فكان حمل ما ثقل من الأشياء من قطر إلى آخر أمرا عسيرا فوق الطاقة، وكذلك نعرف أدلة تدل صراحة على أن الأبنية العامة الشامخة بالإسكندرية لم يصبها أذى من الفرس في أكثر الأحوال، على خلاف ما حدث للأديرة التي في ظاهر أسوار المدينة. وفي الحق أن أثر هؤلاء الغزاة في البناء كان أعظم من أثرهم في التدمير في تلك العاصمة؛ إذ بنوا بها قصرا عظيما بقي معروفا إلى زمن بعيد بعد ذلك باسم قصر الفرس.
32
وأكبر ظننا أن أخبار تدميرهم وتخريبهم للمواضع الأخرى مبالغ فيها؛ فمثلا يقول «جبون» إنهم محوا من الوجود مدينتي «قيرين» و«برقة»، في حين أن العرب وجدوا هاتين المدينتين بعد سنين من ذلك الوقت، وكانتا جديرتين بفتح جديد، بل إن هاتين المدينتين في هذا الوقت الذي نصفه لم تذهبا وتنمحيا، بل إنا لا نستطيع أن نفسر قوله هذا بأنهما نزعتا إلى الأبد من الدولة الرومانية؛ فإن ذلك لم يكن، وليس في الأخبار ما يبرر أن حظ هاتين المدينتين كان غير حظ مصر؛ فإنها جميعا دخلت في حكم كسرى، وبقيت على ذلك حينا من الدهر، ثم قدر لها أن تعود إلى حكم هرقل قبل أن تدخل في الإسلام وتصير إلى الأبد في حكمه.
33
अज्ञात पृष्ठ