قال ألفونس وكأنه قد تذكر أمرا كان قد ذهب عن باله: «سامحني، فإني نسيت وصية والدي ألا أسألك عن الصلاة. ما رأيك في عمي المطران؟ إني في حاجة إليه.»
فقال يعقوب: «قل وأنا أستقدمه على عجل، ولو كان في رومية.» قال ذلك وتبسم، فأدرك ألفونس أنه يلمح إلى ما بينهم وبين رومية من التنافر، فاستحسن منه هذا المجون وقال له: «لا أظنه بعيدا بهذا القدر، إلي به.»
فخرج يعقوب إلى غرفة الخدم، فبعث خادما يفتش عن المطران في الكنيسة، وآخر يفتش عنه في بيته، وآخر في مكان آخر من مظانه، ورجع وهو في هم من أمر ألفونس، ولكنه لم يجرؤ على استطلاع أمره، فلما وصل إلى الغرفة أخبر ألفونس بما فعله، وظل واقفا وهو يداعب أطراف لحيته بين أصابعه وينتظر أمره، فلم ينتبه ألفونس له لاستغراقه في هواجسه وقد تزاحمت الأفكار في مخيلته، وأكثرها وضوحا أمر الملك، وكيف استبد رودريك به واستخف بشأنه، وكيف أنه بعد أن كان مطمح أنظار وجهاء المملكة أصبح شبيها بأحقرهم، وفكر في وسيلة لاستلاب الملك منه، فإذا هو قاصر عن كل شيء، لا مال عنده ولا رجال، ولا شيء يقاوم به. ثم تذكر فلورندا وأنه عاهدها على استرداد الملك من رودريك، فكيف يرجع عن عهده عاجزا مقهورا؟ فتجسم لديه المصاب وثقل عليه الفشل، وندم على ما فرط منه بين يدي حبيبته من القسم؛ فضاق صدره، وصغرت نفسه، وغلب عليه اليأس، فتناثرت الدموع من عينيه بالرغم منه، والدمع يفرج الكرب إن عزت على المرء وسائل التخلص من الضيق.
وكان يعقوب لا يزال واقفا، فسمع تنهد ألفونس ثم لحظ من بعض الحركات أنه يبكي، فأدرك أنه يفعل ذلك وهو يحسب نفسه في خلوة، فانسل - ولم يشعر به ألفونس - حتى جلس على كرسيه بجانب الباب، وقد انشغل خاطره بألفونس، فعزم على استطلاع أمره من المطران بعد مجيئه، وقد كانت له عليه دالة كبرى.
المطران أوباس
ولم تمض برهة حتى عاد أحد الرسل وأنبأ يعقوب بقدوم المطران، فتذرع بذلك لمخاطبة ألفونس، فدخل عليه وأخبره بمقدم عمه. وكان ألفونس قد فرغ من بكائه وذهب بعض انقباضه، فلما علم بمقدم عمه، لم يصبر على الابتسام؛ لما كان له من الثقة فيه لأنه اشتهر بسداد الرأي والتعقل مع محبته لألفونس.
وكان اسمه أوباس (عباس) وهو طبعا مثل ألفونس يعتبر رودريك مختلسا، وكان قد بذل جهده في عدم انتخابه فلم يفلح؛ لأن حزب الأساقفة الرومانيين غلبه على رأيه، ولأنه المطران الوحيد من أمة القوط، أما سائر أساقفة طليطلة فهم من الرومان أو الذين ينتمون لرومية؛ ولذلك غلب رأيهم. وكان أوباس - منذ تولي رودريك - قد اعتزل الأعمال إلا عند الضرورة، وكان في ذلك اليوم قد صلى صلاة العيد في منزله، ثم خرج بعد الصلاة للجلوس في حديقة المنزل لأنه لم يكن يطيق أن يرى رودريك في ذلك الموكب بدلا من ابن أخيه، فلما جاءه الرسول يدعوه إلى ألفونس، لبس رداءه وقلنسوته وجاء مسرعا.
وكان أوباس حيوي المزاج، طويل القامة، طويل الأطراف، عريض المنكبين، عريض الجبهة، بارز الوجنتين والفكين، واسع الصدر، أسمر اللون، أسود الشعر غزيره، وخاصة شعر لحيته فقد كان مرسلا على صدره إلى أسفل منطقته، وأصحاب هذا المزاج في الغالب فيهم قوة الإرادة مع علو الهمة وقوة البدن وعظم الهيبة. وهم عظام في كل شيء: في الحرب، أو في التجارة، أو في السياسة، أو في أي شيء يقومون به، فهم يمتازون غالبا عن أصحاب الأمزجة الأخرى ويفوقونهم في كل شيء. وكان أوباس مع ذلك بطيء الخطوات، كثير التفكير، قليل الكلام، جهوري الصوت، وكان قوله سديدا ورأيه صائبا.
ولم تمض برهة حتى سمع ألفونس خطوات عمه، وكان يعرفها ببطئها وثباتها وشدة وقعها، فوقف لاستقباله، فلما دنا من باب الغرفة تقدم إليه وقبل يده فباركه، ثم تقدم يعقوب فقبل يده فباركه وهو يبتسم له، وكان أوباس قلما يبتسم لأحد.
دخل أوباس الغرفة مع ألفونس، فأسرع ألفونس للحال وأغلق الباب التماسا للخلوة، فنزع المطران قلنسوته، فاسترسل شعر رأسه إلى كتفه، وكان غزيرا جدا ولم يخطه الشيب مع أنه في نحو الخمسين من عمره. ونظر أوباس في وجه ألفونس، فرآه يبتسم ولكنه تبين الدمع في عينيه وأثر الانقباض في أساريره، فأثر منظره في نفسه، فقال له: «ما لي أراك كاسف البال يا بني؟»
अज्ञात पृष्ठ