فظنها لا تصدق شدة حبه لها، وأنها تخشى أن يكون قد أراد خداعها، فوقف هو أيضا وقال: «يظهر لي أنك لم تصدقي قولي، ويحق لك أن تستغربي ما يبدو من تفريطي، ولكنني أعترف لك يا فلورندا أنك قد ملكت قلبي وروحي وتسلطت على كل مشاعري، فتعطفي علي وتلطفي بالقبول.»
قال ذلك وهو ينظر إليها وقد انحنى نحوها انحناء المتذلل المستعطف، وبسط يديه وهما ترتعدان من شدة الهياج.
أما هي فلم تعبأ بهذه الظواهر الخادعة، فظلت على هدوئها وثبات جأشها، وقالت بصوت هادئ: «أقبل ماذا؟» فتوسم الملك في سؤالها الرغبة في القبول، فقال: «تقبلين أن تكوني شريكة حياتي، فتعيشين معي عيشة السعادة والرفاء، وتكونين أنت الآمرة الناهية.»
فنظرت إليه فلورندا نظرة التوبيخ والاحتقار، وقالت: «وجلالة الملكة؟»
وكانت تلك العبارة أشد وقعا من الصاعقة على رأسه، ولم يكن يتوقع تلك الأنفة من فلورندا؛ لأنه لم يكن يعرف قيمة العفة ولا يدرك قيمة الحرية الشخصية ؛ ولذلك كان يظن أنه إذا ابتسم لفلورندا ابتسامة واحدة ترامت عند قدميه وسلمت نفسها له، وقد فاته أن العفة أثمن مما في خزائن الملوك وأسمى مما على عروشهم وأرقى مما تبلغ إليه مدنيتهم، بل هي سيف قاطع تقف به الفتاة أمام الملوك وتحسب أنها أقوى منهم سلطانا وأعز شأنا؛ ولذلك كان موقف فلورندا بين يدي رودريك موقف الملك أمام الملك، ولم يكن تواضعها في أول الأمر إلا رغبة في التخلص بالحسنى، فلما رأت استرساله في القول أجابته بكلمة اضطربت لها كل جوارحه، كلمة ذكرته بارتباطه بزوجته بالرباط المقدس الذي لا يجيز له مخاطبة سواها بمثل ذلك.
أما هو فقد ساءه أن تخجله بتلك العبارة لما تتضمنه من التوبيخ والتعنيف، ولكنه تجاهل ما تريد وظل على أسلوبه في الملاطفة، فقال: «يا للعجب من جهلك وغرورك، أدعوك إلى السعادة والشرف وأسهل لك الطريق إليهما وأنت تقيمين العقبات أمامك! ألا تعلمين يا فلورندا أن الأمر الذي أدعوك إليه ليس في هذه المملكة ولا في غيرها فتاة إلا وتنذر النذور للحصول عليه؟ تعقلي وارجعي إلى رشدك واعلمي أنك ترفضين سعادة لا ينالها إلا نفر قليل من خيرة الأنام، وشرفا تتطاول إليه أعناق ربات الحجال، وهل تجهلين أنك إذا أطعتني تنالين عزا لم يحلم به أحد من أهلك، وأنك إذا ظللت على غيك أسأت إلى أبيك؟ لأنني إذا رأيت منك الرضاء بما عرضته عليك جعلت والدك من أقرب المقربين في البلاط.»
فلما سمعت قوله لم تصبر عن الغضب وأحست بسلطان لها يفوق سلطانه، فخاطبته بما لا يخاطب به الملوك، قالت وهي تشير بأصبعها إلى نفسها: «تزعم يا رودريك أنك تدعوني إلى السعادة والشرف، وأنت إنما تدعوني إلى الشقاء والدناءة، وأنت حين تخاطبني بهذا القول - ولو تلميحا - قد أهنتني واستصغرتني، بل أنت إن توهمت قبولي لذلك تجعلني أدنى خلق الله، فأقلع عن ذلك ودعني وشأني، فإنك صاحب عز وسلطان ولك الرقاب والأموال، وأما أنا فليس لي إلا هذه الجوهرة، أفتسلبني إياها؟ وهل تظن أنك إذا أردت ذلك تستطيعه؟» وارتعشت يداها وارتجفت شفتاها وابيضتا من شدة التأثر، فاستطردت قائلة: «كلا، لا يستطيع أحد أن يسلبني هذه الجوهرة، فإنها أثمن من خزائن العالم بأسره، وهي سلاحي وترسي ودرعي، وهي سبيلي إلى السعادة الأبدية.»
فعظم على الملك ما سمعه من توبيخها حتى رقصت لحيته على صدره، ولكن هيبة الحق وسلطان العدل غلبا على غضبه، فلم يجسر على إهانتها، غير أنه كان ما يزال يرجو قبولها، فأراد أن يطيل معها الكلام بأن يخلط الجد بالهزل، فقال: «وهل ذلك الغلام أحق بك مني؟»
فلم يزدها قوله إلا عزيمة وثباتا، وقد أدركت أنه يريد الحط من قدر ألفونس، فقالت: «مهما يكن من أمره فإنه نصيبي في هذا العالم، وهو خطيبي بشرع الله.»
فازداد دهشة لجسارتها، وحدثته نفسه بأن يجافيها ويأخذها بالقسوة، ولكنه أجل ذلك إلى أن تفرغ جعبته من حيلة يحتال بها لإقناعها، فقال لها: «يظهر يا فلورندا أن صغر سنك لا يزال غالبا على عقلك، ولولا ذلك لم تفضلي غلاما لا شأن له ولا مقام على ملك ملوك الإسبان، ولكنني أعذرك على طيشك، وأبيح لك التفكير في أمرك حتى ترجعي إلى صوابك ولا ترفضي النعمة التي أبذلها لك، فلا تضيعي هذه الفرصة بما تتمسكين به من الأوهام الباطلة والاعتبارات الفارغة، وهذا آخر ما أبذله لك من النصيحة فتدبري أمرك.»
अज्ञात पृष्ठ