فأجبت: التملق والمداراة يُرَاد بهما التَّوَاضُع للْغَيْر وَعدم الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَله أَو يصدر عَنهُ، وَقد يَنْضَم إِلَى ذَلِك مدح أَفعاله والانتصار لصِحَّة أَحْوَاله وأقواله مَعَ البشاشة لَهُ والإجلال والتعظيم، وَحكم ذَلِك كُله أَنه إِن ترَتّب عَلَيْهِ إِعَانَة على بَاطِل أَو تَحْسِين مَا قبحه الشَّرْع أَو تقبيح مَا حسنه الشَّرْع أَو غير ذَلِك من الْمَفَاسِد الَّتِي لَا يُدْرِكهَا إِلَّا الْعلمَاء الْحُكَمَاء الْعَالمُونَ بِالْكتاب وَالسّنة الآخذون أنفسهم بِالْحَقِّ فِي كل نفس ولحظة، كَانَ كل مِنْهُمَا حَرَامًا شَدِيد التَّحْرِيم إِن تحققت الْمفْسدَة، أَو غلب على الظَّن وُقُوعهَا وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوها، وَإِن لم يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك أُبِيح، وَإِن ترَتّب عَلَيْهِ إِعَانَة على الْحق أَو تألف لقبوله أَو نَحْوهمَا من الْمصَالح الْخَاصَّة والعامة كَانَ مَنْدُوبًا متأكد النّدب بل قد يرتقي الْحَال إِلَى الْوُجُوب كَمَا قَالَ بعض أَئِمَّتنَا فِي الْقيام قَالَ: فَإِن تَركه الْآن صَار علما على القطيعة وَوُقُوع الْفِتْنَة فَيجب دفعا لذَلِك، وَلَا شكّ أَن الْقيام إِذا خشى من تَركه ضَرَر أَو فتْنَة أَو تنافر الْقُلُوب أَو نَحْو ذَلِك يكون من المداراة وَهِي فِي نَحْو ذَلِك إِمَّا متأكدة النّدب أَو الْوُجُوب، وَالْكَلَام فِيمَن لم تُوجد فِيهِ الصِّفَات الْمُقْتَضِيَة لندب الْقيام من نَحْو علم أَو صَلَاح أَو قرَابَة أَو شرف نسب أَو صداقة، فَافْهَم هَذَا التَّفْصِيل الْمَأْخُوذ من أَفعاله ﷺ وأقواله فَإِنَّهُ ملتبس على كثير مِمَّن لم يُحِطْ بِالسنةِ وَكَلَام الْأَئِمَّة فَرُبمَا أفرط فَمنع المداراة مُطلقًا وَرُبمَا فرط فمدحها مُطلقًا وكل من هذَيْن خطأ وَالصَّوَاب مَا فصلته وقررته. ٢٦ وسئلت: هَل الْحفظَة يتأذون من أكل الْأَشْيَاء الكريهة الرّيح وَمن كَثْرَة التَّرَدُّد إِلَى الْخَلَاء والأماكن النَّجِسَة والمغصوبة وَمَا فِيهَا شُبْهَة وَمن الجشاء الْمُتَغَيّر وَمن نَحْو الصنان؟ وَإِذا تأذوا فَهَل يدعونَ بِمَوْت المؤذي أَو بإصلاح حَاله ليستريحوا؟ وَكم هم على كل إِنْسَان؟ وَهل يحفظون الْجَنِين فِي بطن أمه؟ وَهل على الْكَافِر حفظَة وَمَا حَقِيقَة حفظهم إِذْ مَا قدره الله لَا بُد مِنْهُ؟ وَهل على غير الْإِنْسَان حفظَة؟ وَإِذا مَاتَ الْإِنْسَان إِلَى أَيْن يُصَار بهم؟ وَهل هم غير الْكَاتِبين الكريمين وَمَا حَقِيقَة كتبهما؟ فَأُجِيب: الَّذِي فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن الْمَلَائِكَة تتأذى مِمَّا يتَأَذَّى مِنْهُ بَنو آدم ذكر ﷺ ذَلِك تعليلًا لنَهْيه عَمَّن أكل منتنًا كثوم أَو بصل أَو كراث أَو فجل أَن لَا يدْخل الْمَسْجِد فَقَالَ: (من أكل ثومًا أَو بصلًا أَو كراثًا أَو فجلًا فَلَا يقربنّ مَسْجِدنَا أَو الْمَسَاجِد فَإِن الْمَلَائِكَة تتأذى مِمَّا يتَأَذَّى مِنْهُ بَنو آدم) . وَهَذَا ظَاهر فِي شُمُوله للحفظة وَفِي عُمُوم تأذيهم مِمَّا يتَأَذَّى مِنْهُ الْآدَمِيّ فَيشْمَل ذَلِك تأذيهم بِكُل ذِي ريح كريه سَوَاء ريح الْخَلَاء أَو غَيره إِلَّا أَنه سَيَأْتِي أَن الْحفظَة يفارقونه حَالَة دُخُول الْخَلَاء، وعَلى فرض تأذيهم فَظَاهر النُّصُوص أَنهم لَا يدعونَ على الْآدَمِيّ وَإِنَّمَا يدعونَ لَهُ قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَ اغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غَافِر: ٧] إِلَى قَوْله: ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وَالْمرَاد بِمن حوله الْمَلَائِكَة كَمَا قَالَ قَتَادَة. وَأخرج عبد الرَّزَّاق: وَعبد اللَّه بن حميد عَن قَتَادَة فِي قَوْله: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَءَامَنُواْ﴾ [غَافِر: ٧] قَالَ مطرف: وجدنَا أَن أنصح عباد الله لعباد الله الْمَلَائِكَة وَوجدنَا أغش عباد الله لعباد الله الشَّيَاطِين، وَأَخْرَجَا عَن قَتَادَة أَيْضا فِي قَوْله: ﴿﴾ [غَافِر: ٧] قَالَ: تَابُوا عَن الشّرك وَاتبعُوا سَبِيلك: أَي طَاعَتك، وَفِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ [غَافِر: ٩] قَالَ: الْعَذَاب، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَلَائِكَة أَيْضا: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأٌّرْضِ﴾ [الشورى: ٥] فهاتان الْآيَتَانِ ظاهرتان فِي أَن الْمَلَائِكَة لَا يدعونَ على أحد بِمَوْت، وَإِن تأذوا مِنْهُ وَإِنَّمَا يدعونَ لَهُ بِمَا ذكر فِي الْآيَتَيْنِ من الْمَغْفِرَة والوقاية من الْعَذَاب نعم يَأْتِي قَرِيبا أَنهم يَقُولُونَ لمن يصرّ على السَّيئَة أراحنا الله مِنْهُ، وَلَكِن هَذَا دُعَاء لأَنْفُسِهِمْ لَا دُعَاء عَلَيْهِ. وَقَول السَّائِل: وَكم هم على كل إِنْسَان؟ جَوَابه: أَنه ورد فِي ذَلِك أُمُور مُخْتَلفَة. أخرج ابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن جريج قَالَ: (لكل إِنْسَان ملكان أَحدهمَا عَن يَمِينه يكْتب الْحَسَنَات وَملك عَن يسَاره يكْتب السَّيِّئَات، وَالَّذِي عَن يَمِينه يكْتب بِغَيْر شَهَادَة من صَاحبه وَالَّذِي عَن يسَاره لَا يكْتب إِلَّا عَن شَهَادَة من صَاحبه، إِن قعد فأحدهما عَن يَمِينه وَالْآخر عَن يسَاره، وَإِن مَشى فأحدهما أَمَامه وَالْآخر خَلفه، وَإِن رقد فأحدهما عِنْد رَأسه وَالْآخر عِنْد رجلَيْهِ) . وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: وكل بِهِ خَمْسَة أَمْلَاك: ملكان بِاللَّيْلِ، وملكان بِالنَّهَارِ يجيئان ويذهبان وَملك خَامِس لَا يُفَارِقهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارا وَأخرج ابْن جرير عَن كنَانَة الْعَدوي قَالَ: دخل عُثْمَان بن عَفَّان ﵁ على رَسُول الله ﷺ قَالَ: (يَا رَسُول الله
1 / 23