وهم الخليفة أن يتناول الشراب مجاراة لحمدون؛ لأن معدته قد امتلأت بالأطعمة والأشربة؛ فأزعجه دبيب جواد مسرع وقف بباب السرادق وعليه راكب ملثم والجواد يلهث لهثا شديدا وقد تصبب العرق منه من الجهد.
وترجل فارسه وهم بالدخول بلا استئذان فمنعه الحجاب فلم يبال واخترق الصفوف ركضا وبيده أسطوانة من الغاب الهندي حتى دنا من المعز، فخاف القوم أن يكون من جسارته خطر على الخليفة فنهض القائد جوهر والقدح بيده وأمره أن يرجع، فلم يبال بل ظل مسرعا وبانت بقع الدم على لثامه، فلما دنا من الخليفة دفع إليه الأسطوانة وأشار بإصبعه أن يقرأها حالا؛ فتناولها منه وهو يتفرس فيه، وكان الحضور منذ دخل الرسول قد استأنسوا بثوبه وخصوصا؛ حمدون فإنه عرف ابنته من ثوبها فصاح: «لمياء!»
فلم تجبه فلما سمعه الخليفة يناديها انتبه أنها قد تكون هي فقال: «هل أنت لمياء؟» قالت: «لا تعمل عملا يا سيدي قبل أن تقرأ هذه الرسالة.»
فلما سمع صوت ابنته عرفها فأراد أن يدنو منها لمخاطبتها فخانته قدماه وأحس بدوار شديد فسقط على الأرض؛ فاشتغل الغلمان بإسعافه ونقلوه إلى فسطاط قريب، والخليفة ينظر إلى الكتاب وهو يقول للمياء: «من أين هذا؟» ولم يكترثوا لدوار حمدون لاعتقادهم أنه بنج من كثرة الأكل فقالت لمياء: «هو من مكان بعيد وقد أمر حامله أن يعطيه للخليفة حال وصوله ... وإذا كان نائما يوقظ، وإذا كان متكئا لا يمهل حتى يجلس قبل قراءته؛ وهذا ما جرأني على إزعاجكم وأنتم على المائدة ...»
فدفع الخليفة الأسطوانة إلى القائد جوهر ففضها وأخرج منها لفافة عرف من شكلها أنها من مصر لكنه لم يعهد بينه وبين أميرها صداقة أو علاقة توجب مخابرة ودفع جوهر الرسالة إلى المعز؛ لعلمه أنه يحب أن يقرأ المراسلات بنفسه، وكان القدح لا يزال في يده فأدناه من فيه ليشربه قبل قراءة الرسالة، فأسرعت لمياء وأبعدت القدح عن فيه، وقالت: «قد أمر حامل الرسالة أن يمنع أمير المؤمنين عن كل عمل قبل قراءتها.»
فاستغرب المعز ذلك وأخذ بالقراءة لنفسه والحضور ينظرون في وجهه وخصوصا جوهرا، فرأوا الخليفة قد تغيرت سحنته وبدا الغضب في وجهه وخامره القلق، وأما الحسين فكان في أثناء ذلك لا يرفع بصره عن لمياء وقد أدهشه ما رآه من حالها والدم قد لطخ نقابها وبعض ثوبها، ولم يتجاسر أن يخاطبها في حضرة الخليفة ولاسيما بعد أن رأى تغير وجهه ... وأطال المعز نظره في الكتاب وأعاد تلاوته وهو كالمستغرب لما يقرؤه. وتطاول الحضور بأعناقهم لمعرفة ما حواه الكتاب، لكنهم لم يجسروا على التماس ذلك.
وبعد هنيهة أشار الخليفة إلى جوهر وابنه أن يضعا الأقداح ودفع الكتاب إلى جوهر ونظر إلى لمياء وقال لها: «أين حامل هذه الرسالة؟ ادعيه إلى هنا.»
قالت: «إن حاملها قتل يا سيدي وكدت أقتل معه ولكن الله أعانني لإيصاله إليكم وأنا على آخر رمق.»
فأشار إلى من في السرادق أن يخرجوا إلا جوهرا ولمياء، وأمر الحجاب أن يمنعوا الناس من الدخول حتى الأمير حمدون نفسه ففعلوا، وكان جوهر مستغرقا في تلاوة الكتاب لنفسه وقد أصابه من الدهشة أضعاف ما أصاب المعز، فلما خلا السرادق من الغرباء التفت الخليفة إلى لمياء وقال: «اكشفي عن وجهك وقصي علينا خبرك، إني أرى عجبا وأقرأ أعجب منه.»
فلم يسعها إلا الطاعة فرفعت اللثام عن وجهها وقد لصق بعضه بعنقها من الدم وتغيرت ملامحها من عظم ما ألم بها في تلك الليلة وازدادت عيناها حدة وبسالة وإبراقا.
अज्ञात पृष्ठ