مقدمة الطبعة الأولى
1 - الشيعة العلوية في المغرب والدولة الفاطمية
2 - القيروان والمنصورية
3 - المعز لدين الله وقائده جوهر
4 - أبو عبد الله الشيعي
5 - حمدون
6 - لمياء فتاة القيروان
7 - أم الأمراء
8 - المناجاة
9 - لمياء وأم الأمراء
10 - التصريح
11 - الخطبة
12 - الحيرة
13 - المعارضة
14 - أبو حامد
15 - التحميس
16 - عز الملك
17 - التحريض
18 - الرجوع
19 - صدفة غريبة
20 - الشهامة
21 - الفشل
22 - الحقيقة
23 - الضمير
24 - إفطار رمضان
25 - حديث الزفاف
26 - المناجاة
27 - المراوغة
28 - رأي لمياء
29 - الثعلب
30 - أبو حامد
31 - التدبير
32 - الاستعداد
33 - موكب الخليفة والسباق
34 - لمياء بين المواشط
35 - لمياء على الجواد
36 - رسول غريب
37 - المائدة
38 - قادم مفاجئ
39 - نص الرسالة
40 - حمدون
41 - لمياء وأم الأمراء
42 - الحسين
43 - بنت الإخشيد
44 - فج الأخيار
45 - الحسين ولمياء
46 - التعاهد
47 - أم الأمراء
48 - الكتاب
49 - الفسطاط
50 - الشيعة بمصر
51 - يعقوب بن كلس
52 - مسلم بن عبيد الله الشيعي
53 - الحيرة
54 - يعقوب وكافور
55 - الطبيب شالوم
56 - غلام الطبيب
57 - سرادق كافور
58 - أبو حامد وسالم
59 - الحديث
60 - الحلم
61 - في اليقظة
62 - الصلح
63 - بنت الإخشيد
64 - الطعام
65 - الجلسة
66 - جلسة أخرى
67 - الرأي
68 - الحرب
69 - الرسالة
70 - العلم
71 - النصر
72 - أبو حامد وسالم
مقدمة الطبعة الأولى
1 - الشيعة العلوية في المغرب والدولة الفاطمية
2 - القيروان والمنصورية
3 - المعز لدين الله وقائده جوهر
4 - أبو عبد الله الشيعي
5 - حمدون
6 - لمياء فتاة القيروان
7 - أم الأمراء
8 - المناجاة
9 - لمياء وأم الأمراء
10 - التصريح
11 - الخطبة
12 - الحيرة
13 - المعارضة
14 - أبو حامد
15 - التحميس
16 - عز الملك
17 - التحريض
18 - الرجوع
19 - صدفة غريبة
20 - الشهامة
21 - الفشل
22 - الحقيقة
23 - الضمير
24 - إفطار رمضان
25 - حديث الزفاف
26 - المناجاة
27 - المراوغة
28 - رأي لمياء
29 - الثعلب
30 - أبو حامد
31 - التدبير
32 - الاستعداد
33 - موكب الخليفة والسباق
34 - لمياء بين المواشط
35 - لمياء على الجواد
36 - رسول غريب
37 - المائدة
38 - قادم مفاجئ
39 - نص الرسالة
40 - حمدون
41 - لمياء وأم الأمراء
42 - الحسين
43 - بنت الإخشيد
44 - فج الأخيار
45 - الحسين ولمياء
46 - التعاهد
47 - أم الأمراء
48 - الكتاب
49 - الفسطاط
50 - الشيعة بمصر
51 - يعقوب بن كلس
52 - مسلم بن عبيد الله الشيعي
53 - الحيرة
54 - يعقوب وكافور
55 - الطبيب شالوم
56 - غلام الطبيب
57 - سرادق كافور
58 - أبو حامد وسالم
59 - الحديث
60 - الحلم
61 - في اليقظة
62 - الصلح
63 - بنت الإخشيد
64 - الطعام
65 - الجلسة
66 - جلسة أخرى
67 - الرأي
68 - الحرب
69 - الرسالة
70 - العلم
71 - النصر
72 - أبو حامد وسالم
فتاة القيروان
فتاة القيروان
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة الطبعة الأولى
سنة 1912
هذه الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة روايات تاريخ الإسلام - غير رواية الانقلاب العثماني الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة التي قدمنا صدورها لغرض ذكرناه في مقدمتها. ونحن نزداد تحققا كل يوم أننا أحسنا في إصدار هذه الروايات؛ لما فيها من اللذة والفائدة، فإنها تشوق إلى مطالعة تاريخ الإسلام وتشرح أحوال الأعصر والأمم الاجتماعية والأدبية والسياسية وتمثلها تمثيلا لا تتسع له كتب التاريخ. ولذلك كان وضع الروايات التاريخية أكثر وعورة من تأليف التاريخ ولا سيما لمن يتوخى التحقيق وضبط الوقائع والمحافظة على الأصل التاريخي مع تطبيقه على حديث الغرام كما نفعل نحن.
ويؤيد موافقة هذا الأسلوب لحاجة القراء ما نراه من إقبال قراء العربية على مطالعة هذه الروايات وإقدام أدباء الأمم الأخرى على نقلها إلى ألسنتهم. فإنها قد نقلت حتى الآن إلى ثماني لغات، وهي: (1)
اللغة الفارسية: نشر فيها إلى الآن روايات فتاة غسان وأرمانوسة المصرية و17 رمضان وغادة كربلاء والحجاج بن يوسف وفتح الأندلس وأبو مسلم الخراساني. (2)
اللغة الهندية (الأوردية أو الهندستانية): ظهر فيها حتى الآن فتاة غسان وأرمانوسة المصرية وفتح الأندلس. (3)
لغة التاميل من اللغات الهندية الدورية في سنقابور وغيرها: نقلت إليها فتاة غسان والمملوك الشارد. (4)
اللغة التركية العثمانية: نقلت إليها رواية أبي مسلم الخراساني. وهي تنشر تباعا في جريدة إقدام. (5)
اللغة التركية الأذربيجانية في باكو وأذربيجان: نقلت إليها عذراء قريش. (6)
اللغة الروسية: نقلت إليها رواية المملوك الشارد (لم تطبع بعد). (7)
اللغة الفرنساوية: نقلت إليها رواية العباسة أخت الرشيد وهي تنشر في الفيغارو تباعا. وأسير المتمهدي لم تنشر بعد. (8)
اللغة الإنكليزية: نقلت إليها فتاة غسان وعذراء قريش وستنشران قريبا.
هذه هي اللغات التي عرفنا نقل بعض هذه الروايات إليها، وقد يوجد غيرها مما لم نطلع عليه.
ونحن باذلون الجهد في إتمام هذه السلسلة مع تحري الحقيقة والمحافظة على الوقائع التاريخية من حيث زمانها ومكانها ودمجها في القصة الغرامية على أسلوب يشوق للمطالعة. والغرض من هذه الروايات ليس تقرير الحقائق التاريخية ليرجع إليها في التحقيق وإنما المراد بها التشويق لمطالعة التاريخ وبسط الأحوال الاجتماعية والسياسية المحدقة بالوقائع مع تمثيل عادات الأمم وأخلاقهم وآدابهم وبالله التوفيق.
الفصل الأول
الشيعة العلوية في المغرب والدولة الفاطمية
قاسى الشيعة في زمن بني أمية في الشام عذابا شديدا من القتل والصلب. وكذلك في الدولة العباسية - ولا سيما في أيام المنصور والرشيد والمتوكل - فحملهم ذلك على الفرار إلى أطراف المملكة الإسلامية، فهاموا على وجوههم شرقا وغربا، وكان في من جاء منهم نحو المغرب إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى أخو محمد بن عبد الله الذي بايعه المنصور ثم نكث بيعته. فأتى إدريس مصر وهي يومئذ في حوزة العباسيين فاستخفى في مكان أتاه إليه بعض الشيعة سرا ومنهم صاحب البريد فحمله إلى المغرب في أيام الرشيد فتلقاه الشيعة هناك وبايعوه فأنشأ دولة في مراكش عرفت بالدولة الإدريسية من سنة 172-375ه على أن هؤلاء لم يسموا أنفسهم خلفاء.
أما ظهور الشيعة وتغلبهم وارتفاع شأنهم حقيقة فالفضل فيه للدولة الفاطمية نسبة إلى بنت النبي؛ لأن أصحابها ينتسبون إليها، وتسمى أيضا الدولة العبيدية نسبة إلى مؤسسها عبيد الله المهدي. وكان شأن الشيعة قد بدأ بالظهور في المشرق على يد بني بويه في أواسط القرن الرابع للهجرة.
ولما تغلب البويهيون على بغداد كانت الدولة الفاطمية قد اشتد ساعدها في المغرب وهمت بفتح مصر. وكان آل بويه يغالون في التشيع، ويعتقدون أن العباسيين قد غصبوا الخلافة من مستحقيها فأشار بعضهم على معز الدولة البويهي أن ينقل الخلافة إلى العبيديين أو إلى غيرهم من العلويين فاعترض عليه بعض خاصته قائلا: «ليس هذا برأي؛ فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، لو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته فلو أمرهم بقتلك لقتلوك.» فرجع معز الدولة عن عزمه.
على أن ظهور الشيعة في الشرق هون على الدولة العبيدية فتح مصر والانتقال إليها، وكانت قصبتها أولا المهدية بإفريقية وخلفاؤها ينتسبون إلى الحسين بن علي، وللمؤرخين في انتسابهم إليه أقوال متناقضة، فالذين يتعصبون للعباسيين ينكرون ذلك عليهم. ويغلب في اعتقادنا صحة انتسابهم إليه، وأن السبب في وقوع الشبهة طعن العباسيين فيه؛ تصغيرا لشأنهم .
والمصريون كانوا يحبون عليا من صدر الإسلام، وكانوا من حزبه يوم مقتل عثمان ولكن قلما كان لهم شأن في الشيعة العلوية؛ لأن العلويين استنصروا أولا أهل العراق وفارس. فلما قامت الدولة العباسية وتأثرهم المنصور بالقتل والحبس وقتل محمد بن عبد الله الحسني وبعض أهله من بني حسن وفر سائر العلويين من وجه الدولة العباسية كان في جملتهم علي بن محمد بن عبد الله فجاء مصر بأمر دعوته بعض رجال الشيعة لكنه ما لبث أن حمل إلى المنصور واختفى.
وكان حال الشيعة العلوية بمصر يتقلب بين الشدة والرخاء بتقلب أحوال الخلفاء في بغداد، فإن تولى خليفة يكره العلويين ضيق على الشيعة واضطهدهم والعكس بالعكس. فلما تولى المتوكل واضطهد الشيعة العلوية كتب إلى عامله بمصر بإخراج آل أبي طالب إلى العراق فأخرجهم سنة 236ه، ولما قدموا العراق أرسلوهم إلى المدينة واستتر من بقي في مصر على رأي العلوية؛ لأن عمال المتوكل كانوا يبالغون في إظهار الكره للشيعة؛ تزلفا من الخليفة.
يحكى أن رجلا من الجند اقترف ذنبا أوجب جلده فأمر يزيد بن عبد الله عامل مصر يومئذ بجلده، فأقسم عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه فزاده ثلاثين ضربة. ورفع صاحب البريد إلى المتوكل ذلك الخبر فورد كتابه إلى العامل أن يضرب الجندي المذكور مائة سوط فضربه.
وتتبع يزيد المشار إليه آثار العلويين فعلم برجل منهم له دعاة وأنصار، فقبض عليه وأرسله إلى العراق مع أهله وضرب الذين بايعوه.
ولما تولى المنتصر بن المتوكل سنة 247ه كتب إلى عامله بمصر أن لا يضمن علوي ضيعة ولا يركب فرسا ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطراف مصر، وأن يمنعوهم من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد. وإذا كان بينهم وبين أحد الناس خصومة قبل قول خصمهم فيهم بغير أن يطالب فقاسى العلويون عذابا شديدا بسبب ذلك.
ولما استقل أحمد بن طولون بإمارة مصر سنة 254ه اضطهد الشيعة؛ لأنه تركي، ولأنه على رأي الخليفة العباسي فاقتص آثار العلويين وحاربهم مرارا. حتى إذا ضعف أمر بنى طولون بمصر واختلت أحوال الدولة العباسية في بغداد وتغلب آل بويه عليها في القرن الرابع للهجرة أخذ حزب الشيعة ينتعش ويتقوى فلما جاءهم جند المعز لدين الله الفاطمي سنة 358ه بقيادة جوهر الصقلي كانت الأذهان متأهبة لقبول تلك الدعوة ففتح جوهر مصر على أهون سبيل.
الفصل الثاني
القيروان والمنصورية
القيروان من المدن الإسلامية التي اختطها العرب. بعد الفتح كالبصرة والكوفة والفسطاط. اختطها عقبة بن نافع الفهري سنة 60 للهجرة بما يقرب من تونس وهو الذي افتتح أكثر المغرب. وكانت القيروان في زمن روايتنا هذه «في أواسط القرن الرابع للهجرة» قصبة بلاد المغرب، وقد تقاطر الناس من أنحاء العالم لتعميرها فقطنها العرب من قريش وسائر البطون من مصر وربيعة وقحطان وأصناف من العجم من أهل خراسان وأصناف من البربر والروم وأشباه ذلك. وكان شربهم من ماء المطر ينصب من الأودية إلى برك عظام يقال لها المؤاجل فمنها شرب السقاة ولهم واد يسمى وادي السراويل في قبلة المدينة.
وكان بنو الأغلب لما نزلوها في القرن الثالث قد ابتنوا على ميلين منها قصورا لأنفسهم ثم ابتنوا محلة على ثمانية أميال منها سموها رقادة. حتى إذا نزلها الفاطميون في أول القرن الرابع للهجرة ابتنوا لأنفسهم حصنا مستديرا بالقرب منها سموه صبرة ويسمى أيضا المنصورية جعلوه مستقرا لهم ولأهلهم. كما فعل المنصور ببناء بغداد قبل ذلك بقرنين، فالمنصورية بلدة مستديرة الشكل قرب القيروان بناها إسماعيل بن القاسم بن عبد الله المهدى سنة 337ه واستوطنها وجعل قصره في وسطها والماء يجري فيها وأنشأ بها أسواقا جميلة وجامعا وعرض سورها 21 ذراعا وهي منفصلة عن القيروان بعرض الطريق. ومن أبوابها باب الفتوح وباب زويلة وباب وادي القصارين وكلها مصفحة بالحديد.
1
وأول الخلفاء الفاطميين عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق، من نسل الحسين بن فاطمة الزهراء. قام له بالدعوة رجل شيعي اسمه أبو عبد الله الشيعي بمساعدة قبائل البربر وخصوصا كتامة وصنهاجة كما قام أبو مسلم الخراساني في المشرق بدعوة العباسيين بمساعدة الخراسانيين. ولما استقر لعبيد الله المهدي الملك قتل أبا عبد الله الشيعي كما قتل المنصور أبا مسلم.
2
وكان عبيد الله في أول الدعوة يقيم في المهدية على ساحل تونس، ثم نقل إلى القيروان وتوفي سنة 322ه، فخلفه ابنه القاسم ولقب القائم بأمر الله وتوفي سنة 334ه، فخلفه ابنه المنصور أبو طاهر وتوفي 341ه فخلفه المعز لدين الله وعلى عهده فتحت مصر على يد قائده جوهر الصقلي. وفي أيامهما جرت حوادث هذه الرواية.
الفصل الثالث
المعز لدين الله وقائده جوهر
خرج المعز في ليلة مقمرة من ليالي سنة 357ه إلى حديقة قصره في المنصورية قرب القيروان وفى الحديقة بركة واسعة يصب فيها الماء من نبع جر ماءه المعز إليها من جبل بقرب المنصورية، وفرقه بأنابيب الرصاص إلى قصور المدينة ومسجدها وأسواقها، وينصرف ما بقي من ذلك الماء إلى القيروان - وقد علمت أن المنصورية خاصة بالخليفة وأهله وحاشيته وأعوانه لا يشاركهم فيها أحد. وقد أحاطوها بسور ضخم عال فهي أشبه بالحصون منها بالمدن. وهو هناك في مأمن من غدر الغادرين لأنها محاطة بسور منيع أبوابه مصفحة بالحديد تقفل وتفتح عند الحاجة.
خرج المعز في تلك الليلة وهو مطمئن الخاطر لا يخاف غدرا، حتى إذا توغل في الحديقة ولا شيء فيها من زخارف المدينة أشرف على تلك البركة وليست هي مما يستجلب النظر أو يستلفت الانتباه لكن لها حديثا يطرب له المعز ولا يطرب له سواه إلا قائده جوهر البطل الصقلي. وكان قد أسكنه في مدينته واختصه بقصر من قصورها وبالغ في إكرامه ورفع منزلته.
وصل البركة والقمر قد تكبد السماء فأسرع البستاني إلى مقعد معد لجلوس الخليفة إذا نزل في تلك الساعة وأهل القصر نيام حتى الخدم. وإنما أرقه أمر شغل خاطره وأخذ بمجامع قلبه لم يكاشف به أحدا من أعوانه؛ لأنه كان حريصا على سره لا يطلع عليه أحدا إلا إذا نضج وآن إخراجه إلى حيز الفعل. شأن رجال العمل وأهل الحزم. على أنه ضاق ذرعا في تلك الليلة عن الاحتفاظ بذلك السر فخطر له أن يكاشف به قائده جوهرا.
وكان المعز عالي الهمة عظيم الهيبة واسع المطامع أدرك الأربعين من عمره وقد لبس في تلك الليلة رداء أبيض بسيطا والتف بالعباءة وجعل على رأسه عمامة صغيرة. فلما استقر به الجلوس صفق ونادى «خفيف» وهو غلام صقلي كان قد اختصه بخدمته فحضر، فقال: «ادع قائدنا جوهرا.»
فمضى خفيف وما عتم أن عاد ومعه جوهر. وهو كهل في السادسة والخمسين من عمره وقد وخطه الشيب، وكان طويل القامة ثابت الجأش عظيم الهيبة. وكان لما جاءه رسول المعز قد ذهب إلى فراشه فنهض وارتدى ثيابه وبادر إلى ملاقاة مولاه. فلما شعر المعز بقدومه تحفز للنهوض ورحب به وبش له فخجل جوهر من ذلك الإكرام فأكب على يدي الخليفة فقبلهما وقبل ركبتيه وأوشك أن يقبل قدميه فأنهضه المعز ودعاه للجلوس بجانبه فجلس متأدبا فبادره المعز قائلا: «مرحبا بقائدنا الحازم وحبيبنا الباسل.»
فتأدب جوهر وقال: «إني عبد مولانا أمير المؤمنين ضارب بسيفه وأفديه بروحي.»
قال: «بل أنت سيفنا المسلول وحامى دولتنا وإني لا أجلس إلى هذه البركة وأرى السمك يسبح فيها إلا ذكرت بلاءك في سبيل الحق. إن هذا السمك يشهد بما لك من الأفضال على هذه الدولة أليست هذه الأسماك من نسل ما حملته إلينا من سمك البحر المحيط في القلل يوم جردت وفتحت أفريقية وأخضعت قبائلها. لا أنسى يوم جئتنا بتلك القلل وفيها السمك من ذلك البحر العظيم إشارة إلى ما أدركته من تلك الفتوح العظيمة التي لم يسبق إليها سواك فلا غرو إذا اختصصتك بصداقتي وفضلتك على سائر بطانتي وأهلي ...»
فخجل جوهر من هذا الإطراء وقال: «العفو يا مولاي إني لم أفعل شيئا إلا باسمك. والله إنما نصرني بك؛ لأنك سلالة أحق الناس بالخلافة ابن عم الرسول
صلى الله عليه وسلم
وصهره، أنت ابن فاطمة الزهراء فكيف لا ينصرك الله ولو قام بهذه الدعوة غلام لأفلح؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.»
فأسكته المعز قائلا: «إن الحق لا يعلو دائما، وكم ظل أجدادي العلويون يجاهدون وقد ذاقوا أنواع العذاب ممن استأثر بالسيادة دونهم. ولو أتيح لهم سيف مثل سيفك لغلبوا، ألم تفتح هذه البلاد من هنا إلى البحر المحيط وأخضعت أهلها - بارك الله فيك - وهذا ما لا ريب فيه فإذا رفعنا منزلتك فقد أعطيناك حقك.» وسكت وقد بدا الاهتمام في وجهه وجوهر ينتظر ما يبدو منه لاعتقاده أنه لم يدعه في تلك الساعة إلا لأمر هام. فاعتدل في مجلسه وتوجه بكليته نحوه كأنه يستفهم عما يريده.
أما المعز فمد يده واستخرج من تحت العباءة قضيبا من عود طوله شبر ونصف مكسو بالذهب. فلما رآه جوهر علم أنه قضيب الملك فتأدب احتراما له فابتدره المعز قائلا: «أليس هذا قضيب الملك يا جوهر؟»
قال: «نعم يا مولاي إنه قضيب الحق وصاحبه صاحب الخلافة الحقة.»
قال: «هل يكون في الدنيا خليفتان على حق؟»
فأدرك جوهر أنه يشير إلى خلافة العباسيين في بغداد أنها على غير الحق، ولحظ ما وراء ذلك من الأمور، فقال: «كلا يا سيدي إن النبي واحد وخليفته واحد.»
قال: «إلى متى نترك أولئك القوم في ظلمائهم؟»
فأجاب جوهر على الفور: «نتركهم حتى يأمر مولانا أمير المؤمنين.»
فأكبر المعز هذا الجواب الدال على حزم جوهر واستهلاكه في سبيل نصرة العلويين، فابتسم وقد أشرق وجهه - وكان القمر مواجها له بحيث يظهر ذلك لجوهر - وقال: «بارك الله فيك هذا ما كنت أرجوه منك، وقد جال هذا الفكر في خاطري منذ أعوام وأنا أتردد فيه أستطلع المنجمين ولا أبوح به لأحد حتى إذا كانت الليلة رأيت أن أسره إليك وكنت أحسبه جديدا عليك فإذا أنت أكثر تفكيرا به مني. أما وقد اطلعت على سري - وأنت الوحيد الذي اطلع عليه مني - فأرجو أن تشير علي.»
قال: «ليس لهذا العبد أن يشير وإنما عليه أن يطيع ... فوالله لو أمرتني أن أركب الأسنة وأذهب في الأرض فاتحا لفعلت؛ لعلمي أني ذاهب في نصرة الحق.»
قال: «لله درك من قائد باسل وصديق حميم. ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها. فالآن اكتم ما دار بيننا وأخبرني عن رأيك في قوادنا.»
قال: «إنهم نعم الرجال يستهلكون في نصرة مولانا ولا سيما شيوخ كتامة؛ فإنهم قاموا بنصرة أمير المؤمنين خير قيام وعليهم المعول في أمرنا ...»
الفصل الرابع
أبو عبد الله الشيعي
فسكت المعز برهة وعاد إلى الاهتمام وأخذ يلاعب قضيب الملك بين أصابعه وهو يتأمله، ثم قال: «ولكنني أخاف عليهم الجنوح إلى الترف فيأخذهم ما أخذ أعداءنا في بغداد من أسباب المدنية حتى صاروا إلى ما صاروا إليه من الذل فغلبهم مواليهم الأتراك والديلم ولم يتركوا لهم من الخلافة إلا اسمها - ولا أخفي عنك أني لم أطمع بهم إلا لما بلغني من ترفهم وانهماكهم واسترسالهم في الملذات، فإذا أصاب رجالنا ما أصابهم صرنا إلى مصيرهم.»
قال: «ليس هذا ما أخافه يا سيدي؛ فإن قومنا بعيدون عن الترف. وكيف نخاف عليهم ذلك وهم يرون أمير المؤمنين ابن بنت الرسول يتولى الدولة بنفسه. يجلس في برد الشتاء على اللبود وعليه جبة وحوله أبواب مفتحة تفضي إلى خزائن كتب وبين يديه دواة وكتب لا يأكل ولا يشرب ولا يتقلب في الديباج والحرير والفنك والسمور والمسك والخمر كما يفعل أرباب الدنيا
1
كيف يرونه في مثل ذلك لا يفضل أحدا منهم في أحوالهم بل هو مشغول بكتب ترد عليه من المشرق والمغرب، يجيب عنها بخطه، لا يشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما يصون أرواحهم ويعمر بلادهم ويذل أعداءهم، هل يجسرون على شيء غير ذلك؟»
فأعجب المعز بما سمعه منه فقال: «إن هذا لا يكفي يا أبا الحسين إني أخاف على رجالي الاستكثار من النساء. إني لا أرى للواحد منهم أن يقتني غير المرأة الواحدة؛ لئلا يتنغص عيشهم وتعود المضرة عليهم وتنهك أبدانهم وتذهب قوتهم. وكثيرا ما أوصيتهم بذلك ليقرب الله منا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب.»
قال: «إن سهر مولاي على دولته بمثل ما تقدم كفيل بالنجاة من الوقوع في ما تخوفه ولكنني أخاف ...» وسكت وهو يتشاغل بإصلاح عمامته وخماره.
فلحظ المعز في وجهه شيئا يكتمه فقال: «وما الذي تخافه يا جوهر ؟ قل!»
قال: «أخاف الدسائس السرية.»
قال: «وما تعني؟ أي الدسائس؟»
قال : «أخاف قوما لا نعرفهم ولا نعرف نياتهم.»
قال: «من تعني ... كيف نخافهم ونحن لا نعرفهم؟»
قال: «لو عرفتهم لبددت شملهم ولكنني أتوسم خطرا من جماعة يزعمون أنهم موتورون ... لا أعرف من هم ولكنني أتنسم رائحة ذلك من بعض الأحاديث ...»
قال: «صرح يا جوهر ... إنك في مأمن.»
قال: «ألا تعلم يا سيدي ما أصاب أبا عبد الله الشيعي الذي قام بالدعوة في أول أمرها ومهد الدولة لجدك المهدي - رحمه الله؟»
فلما سمع اسم أبي عبد الله تغير لونه ولكنه أظهر الاستخفاف وقال: «أظنك تعني أن ذلك الرجل قتل مظلوما.»
قال: «لا أعني ذلك ولكن بين أصحابه الذين أعانوه في نصرة دعوة مولانا الملك من يتوهم أنه ظلم؛ لأنه جمع القبائل لنصرة مولانا ولما استتب له الأمر قتله وقتل أخاه أبا العباس. أما أنا فأعتقد أنه قتل حقا بعد أن غير نيته وطمع بالأمر لنفسه فلا بد أن يكون لأصحابه مطمع في إفساد أمرنا وإن كنت لا أخاف فوزهم. ولو سألتني عن واحد منهم لاعترفت أني لا أعرف أحدا وإنما هو سوء الظن لا بد منه في مثل هذه الحال.»
فاعتدل المعز في مجلسه وقال: «صدقت ولكن لا خوف من ذلك غير أني أسمع إن ذلك المقتول كان عنده مال خبأه في مكان لا أعرفه وقد تعجل جدي في قتله قبل معرفة مستودع المال. سمعت أنه مال كثير. ولا يخفى عليك شدة الحاجة إلى المال في هذه الأحوال.»
قال: «نعم يا سيدي سمعت بخبر المال المخبأ لكنني لا أعرف مكانه ولو عرفته لاستخرجته ولا يبعد أنه قد تبعثر وسأوالي البحث عنه.»
قال: «ومع ذلك لا يهمنا المال وعندنا صناديق منه قد شذ عني ترتيبها لكثرتها قد ادخرتها للقيام بذلك العمل؛ لعلمي أن أعداءنا قد أصابهم الفقر حتى تغيرت قلوب الناس عليهم.»
قال جوهر: «صدق مولاي ولكني أرى مع ذلك أن نحتاط ونسيء الظن حتى برجالنا وأمراء القبائل البربرية، ولا سيما الذين كانوا حكاما وعرفوا الدسائس. أخص منهم حمدون صاحب سجلماسة؛ فإن هذا الرجل حاربناه وهو صاحب دولة فأخضعناه وسلم لكني أحسبه مكرها، فإذا رأى مولاي أن نقيده برهن كان ذلك أقرب إلى الصواب!»
قال: «وما هو الرهن؟»
قال: «لهذا الأمير ابنة اسمها لمياء هو عالق بها، وشاهدت منها في أثناء حربنا معه بسالة وأنفة لم أعهدها بفتاة قبلها؛ فقد كانت تحارب كأكبر القواد على جواد من خير الجياد. ولم نستطع القبض عليها إلا بعد الجهد الكثير، وقد أراد الفارس الذي قبض عليها أن يتخذها سبية فمنعته وأنقذتها من السبي وأكرمتها. ولا ريب أن والدها يحبها ويضن بها فإذا اتخذناها رهنا على تصرفه في طاعتنا لا يقدم على الخيانة.»
قال: «قد رأيت حسنا، وأين هي الآن؟»
قال: «هي في فسطاط أبيها المضروب في هذا السهل خارج القيروان.»
قال: «ولكني أخاف أن ننبهه إلى الحقد إذا طلبناها منه الآن.»
قال: «لا خوف من ذلك؛ فإني أطلبها منه لتكون مكرمة معززة في قصر أمير المؤمنين في خدمة أم الأمراء (زوجة المعز) وهذا الشرف لا يتأتى لأحد سواه وأنا على يقين أن مولاتنا أم الأمراء سترتاح إلى رؤيتها. فإن في وجهها مهابة وجمالا مع تعقل وبسالة، وقد تحققت مع ذلك أنها من أشد الناس غيرة على دعوة الحق فإنها تجل مقام الإمام علي وتنصر شيعته مما لم أره في سواها من جماعة البربر كافة، ومن الجهة الأخرى أرى أن نصاهره فنكتسب حزبه.»
قال: «وكيف ذلك؟»
قال: «سأجعل القصد من نقل ابنته إلى قصر أم الأمراء أني أريد أن أتخذها زوجة لابني الحسين. وهو بلا شك سيكون سعيدا بهذا الاقتران فنكسب الفتاة ونكسب قلب أبيها.»
قال: «حسنا. افعل بارك الله فيك ولا حرمنا سعيك الحميد.» وتزحزح الخليفة فنهض جوهر واستأذن في الانصراف.
الفصل الخامس
حمدون
خرج جوهر من حضرة المعز، وقضى بقية ليلته مفكرا بما سمعه، وكان شديد الاهتمام بأمور الدولة كثير الغيرة على الدعوة العبيدية. وإن لمح به للمعز عن الدساسين شيعة أبي عبد الله لم يكن وهما بل هو حقيقة. ولكن تلك الأحزاب لم تكن تستطيع الظهور لتغلب القوة فهي تتربص فرصة للوثوب بالدولة. وكان يخاف صاحب سجلماسة على الخصوص؛ لأنه صاحب سطوة وله حزب كبير وهو مجازف لا يقدر العواقب. فرأى من حسن السياسة أن يقيده بالرهن على تلك الصورة ثم يقربه بالزواج فيخطب ابنته لابنه فيكتسب ثقته ومساعدته أو يتخلص من شره - على الأقل.
ولم يكن صاحب سجلماسة يشعر بشيء مما في خاطر جوهر عليه، بل كان يحسبه في غفلة عن حركاته وخطواته ففي صباح ذلك اليوم جاءه غلام جوهر يدعوه إليه في قصره بالمنصورية، فبادر إلى ذلك. وكان حمدون هذا كهلا طويل القامة دقيقها أسود العينين غائرهما لا تستقر حدقاتهما على حال. ولم يكن عنده من الولد غير لمياء. وماتت والدتها فتزوج غيرها وترك تربية الابنة إلى رجل من خاصته كان شديد التشيع لأهل البيت. فشبت على ذلك. وأما حمدون فلم يكن تشيعه إلا ظاهريا جريا مع تيار القوة. ولو ترك لنفسه لاختار أن يكون مهديا يدعو الناس إلى نفسه فكانت مطامعه أعلى ما يخطر للبشر. وكان قد هم أن يدعي المهدوية وهو في سجلماسة ولكنه غلب على أمره وقيد أسيرا إلى القيروان، فأظهر الطاعة على غل وشعر جوهر بشيء من ذلك - كما رأيت.
وكان حمدون مع سعة مطامعه ليس من أهل الدهاء لكنه كان إذا خطر له أمر بادر إلى تنفيذه لا يبالي بما قد يكون في سبيله من الخطر. وكان عرش سجلماسة قد اتصل إليه بالإرث من أجداده واتصل بخدمته شيخ اسمه أبو حامد زعم أنه من أهل الكرامة نزل عليه منذ أعوام ومعه شاب جميل الصورة اسمه سالم قال انه ابن أخيه وهو فارس شجاع. نزل كلاهما في دار صاحب سجلماسة وهو في إبان إمارته. وكان سالم يرى لمياء وهي تذهب وتجيء أو تركب الجواد - والبربر أقل حجبا لنسائهم من سائر المسلمين - فوقعت من خاطره موقعا جميلا وتعارفا وتحابا، فتقدم أبو حامد إلى حمدون في خطبة لمياء إلى ابن أخيه سالم فأجابه. وقبل أن يحين الاقتران أتى جوهر القائد بجيشه وفتح سجلماسة وأسر أميرها وأهله وفي جملتهم لمياء وأبو حامد ولم يقفوا لسالم على خبر فظنوه قتل في المعركة فبكته لمياء وهي في ريب من أمره.
أما حمدون فكان يعتقد أن سالما قتل لا محالة وكأنه شاهد شبحا مثله ملقى على الصعيد في أثناء القتال. ولم يمض على قيامهم من القيروان أيام قليلة حتى خطر لجوهر ما خطر له فبعث إليه في ذلك الصباح فأتاه في قصره وحده، فبالغ في إكرامه وتقديمه وهو لا يعلم سبب هذا الإكرام. ثم قال جوهر: «أتعلم لماذا دعوتك أيها الأمير؟»
قال: «كلا يا سيدي.»
قال: «أنت تعلم أننا كنا بالأمس أعداء يستحل أحدنا دم الآخر فصرنا الآن إخوانا نتعاون في نصرة الحق وخدمة أمير المؤمنين، وأحببت أن تزيد تلك الروابط متانة فأرجو أن توافقني على ذلك.»
فلم يفهم حمدون قصده، لكنه بادر إلى الثناء على هذه الرغبة فقال: «إن ذلك غاية مناي، وفيه شرف لي.»
قال: «لا شرف ولا تشريف ... أتعرف ولدنا الحسين؟»
قال: «نعم أعرفه، حفظه الله.»
قال: «وأنا أعرف ابنتك لمياء، وقد شهدت منها في أثناء حربنا ما حبب إلي أن تكون زوجة لابني الحسين، وأنت تعلم مقدار حبي له، فبهذا المقدار سيكون حبي لها.»
فلما سمع حمدون ذلك الطلب أطرق هنيهة يفكر، ثم أبرقت أسرته ليس رغبة في الشرف الذي سيناله من مصاهرة أكبر قواد المعز الفاطمي ولكنه توسم من ذلك عونا على أمر قام في نفسه فقال: «إن مثلى يا مولاي لا يطمع بمثل ذلك فكيف بأكثر منه.»
فأثنى جوهر على قبوله وقال له: «لكنني زيادة في رفعة قدرها أحب أن يكون العقد عليها في منزل أم الأمراء زوج أمير المؤمنين؛ وخصوصا لأن لمياء يتيمة الأم هل ترى بأسا من ذلك؟»
فنهض وهو يظهر الامتنان وقال: «أي بأس أرى فيه؟ إنه شرف عظيم.»
قال: «إني مرسل الساعة غلامي إليك في الفسطاط، فترسل معه لمياء إلى دار أمير المؤمنين .»
قال: «سمعا وطاعة.» وخرج وقد أدهشه توفيقه إلى فرصة طالما تمناها وسار توا إلى صديقه أبي حامد فقص عليه ما دار بينه وبين جوهر وأظهر أنه يستشيره فصاح فيه: «يعرض عليك أن تكون لك يد وعينان في قصر المعز وقائده وتستشيرني؟ اقبل ...» قال ذلك وهو يحك ذقنه ليخفي ما خامره من الفرح بتلك البشارة وله في ذلك غرض يشبه غرض حمدون فقال حمدون: «لم أتردد في قبول ذلك الطلب لحظة. ولكنني توقفت أولا؛ لأن ولدنا سالما أولى بها و...»
فقطع أبو حامد كلامه قائلا: «دع سالما الآن إنه بعيد ولا ندرى متى يعود.»
فاطمأن حمدون؛ إذ ظهر له من ذلك القول أن سالما لا يزال حيا، وكان يحسبه قتل، فقال: «وأين هو سالم الآن؟»
قال: «ليس هو قريبا ... وسأخبرك بمكانه. أما الآن فلا ترفض ما عرضه عليك القائد الفاتح ...» وتنحنح.
فذهب حمدون للحال وقص الخبر على ابنته وحسن لها الذهاب، فامتنعت في بادئ الرأي؛ لأنها عالقة القلب بسالم فأكد لها أن سالما قتل أو هرب ولا أمل برجوعه. ونظرا لما يعلمه من تعلقها بأهل البيت ضرب لها على وتر الدين فقال: «إنك تكونين هناك قرب أمير المؤمنين ابن بنت الرسول.»
فرضيت وذهبت مع الرسول إلى المنصورية حتى أتت قصر المعز.
الفصل السادس
لمياء فتاة القيروان
وكان المعز قد بات تلك الليلة وخف بلباله بعد ما دار بينه وبين قائده من الحديث. وفى صباح اليوم التالي قام بفروض الصلاة ثم ذهب إلى العمل، وبينما هو جالس في ديوانه ينظر في أعماله ويقرأ كتب العمال، ويجيب عليها بنفسه جاء غلامه خفيف الصقلي وأستأذنه في كلمة فقال: «ما وراؤك؟»
قال: «إن مولاي القائد بعث فتاة قال إنها لقصر مولانا.»
فقال المعز: «أدخلها ... أين هي؟»
فدخلت الفتاة وهي تنظر إلى ما في تلك القاعة من صناديق الكتب وليس فيها غير الخليفة وكاتب. وكانت لمياء طويلة القامة أشبه في مشيتها بالرجال منها بالنساء مع جمال وهيبة. سمراء اللون كبيرة العينين إذا نظرت فيهما توهمت أنهما تخاطبانك بصيغة الأمر. مقوسة الحاجبين متناسبة الملامح غليظة الشفتين قليلا عريضة الوجنتين مما يدل على القوة. حول رأسها عصابة تدل منها خيوط في أطرافها كرات من الذهب أو قطع أخرى من المصوغات. وقد أرسل شعرها على كتفيها متجعدا وأحاط به رداء كالخمار عقد في أعلى الصدر بعروة من الذهب. وحول عنقها عقود من الجزع ونحوه - كما ترى في الشكل.
فلما وقع نظر المعز عليها لم يتمالك عن الإعجاب بها، وخصوصا بعد ما سمعه عنها من قائده فاستدناها وهش لها تلطفا وقال: «تقدمي يا فتاة ... ما هو اسمك؟»
قالت: «لمياء يا أمير المؤمنين.»
قال: «ألعلك ابنة نصيرنا صاحب سجلماسة؟»
قالت: «نعم يا مولاي.»
قال: «وهل سرك أن تكوني في قصرنا؟»
لمياء فتاة القيروان.
قالت: «هذا شرف لا أستحقه.» وابتسمت بامتنان.
قال: «بل أنت أهل لأكثر من ذلك. ألعلك متزوجة؟»
فلما سمعت سؤاله أطرقت وبان الخجل في محياها من الدم الذي تصاعد إلى وجنتيها ولم تجب.
فعلم أنها عذراء فاكتفى بذلك الجواب وقال لها: «اذهبي مع غلامنا هذا إلى أم الأمراء؛ فإني أوصيتها بك خيرا، وستحسن وفادتك. لكني أرجو أن تكوني حسنة الاعتقاد بنا.»
فرفعت بصرها نحوه وقالت: «إذا كنت تعني غير الاعتقاد بصحة خلافة آل البيت فلا ...»
فأعجب بصراحة جوابها وقال: «إنك لنعم الفتاة العلوية، لولا ما أراه من كثرة الحلي على رأسك وصدرك؛ فإننا لا نرى الجنوح إلى شيء من أسباب الترف.»
ولم يتم كلامه حتى أسرعت بيدها إلى رأسها وصدرها واستخرجت ما كان عليهما من الحلي والعقود ورمت بها إلى الأرض وقالت: «لم أكن أعلم ذلك يا سيدي ... وقد كان لي بما شاهدته من بساطة ردائك عبرة وعظة ... هذه جواهري أرميها تحت قدميك ...»
فازداد المعز فرحا بها وابتسم لها ابتسام الرضا والإعجاب، وقال: «بورك فيك، أنت ستنالين أضعاف ما نزعته من الجواهر. فضلا عن سرور أم الأمراء بك.» وأشار إلى الصقلي فمشى بها وعاد المعز إلى عمله.
الفصل السابع
أم الأمراء
وكانت أم الأمراء امرأة عاقلة حكيمة ذات مبرات وحسنات ولها رأي وحزم. وكثيرا ما كان المعز يباحثها ويستشيرها وكان قد أخبرها في ذلك الصباح عن لمياء وأوصاها بها.
دخلت لمياء قصر أم الأمراء ولو كانت ممن دخل قصور الأمراء في مصر أو بغداد في ذلك العهد لحسبته منزل بعض الخدم؛ لأنه كان من البساطة بحيث يقرب من حال البداوة، تلك كنت سياسة المعز خوفا من عواقب الترف؛ لعلمه أن الترف والرخاء من أكبر العوامل في سقوط الدولة - كما علمت من كلامه لقائده.
وكانت أم الأمراء جالسة في غرفتها على بساط من السجاد بلا وشي ولا تطريز، وعليه مساند من الديباج البسيط وقد لبست لباسا بسيطا واتشحت بمطرف وأرسلت شعرها مضفورا بأبسط ما يكون. فسرت لمياء لتسرعها في نزع حليها قبل الدخول على تلك الأميرة. فتقدم خفيف الصقلي أولا فأنبأ أم الأمراء بمجيء لمياء، فأمرتها أن تتقدم، فتقدمت ولم يقع نظر لمياء على أم الأمراء حتى استأنست بها كأنها ربيت في منزلها وأشارت إليها أم الأمراء أن تقعد فقعدت متأدبة وانصرف خفيف. فقالت أم الأمراء: «أهلا بالضيفة الجديدة.»
فقالت: «أشكرك يا سيدتي على هذا اللطف، إنما أنا جارية في قصرك.»
فقالت: «بل أنت ضيفة مكرمة فإن قائدنا جوهرا أثنى كثيرا على أدبك وتعقلك وقال إنه لم يرض لك العبودية فأطلق سراحك.»
قالت وهي تنظر في البساط مبالغة في التأدب: «إن ذلك فضل كبير له لا أنساه في عمري. أما فضل مولاتي زوج أمير المؤمنين فلا أقدر على القيام بشكره.»
فتجاهلت أم الأمراء عند سماع ذلك الإطراء وغيرت الحديث، فقالت: «لم أفعل شيئا بعد، ولعلي أستطيع أن أفعله في المستقبل إذ يكون لك قصر مثل هذا القصر تعيشين فيه آمرة ناهية؛ لأن مثلك ينبغي أن يكون لها أحسن نصيب من كبار الرجال.»
فهمت لمياء أنها تشير إلى رغبتها في تزويجها من أحد الأمراء فلم يعجبها ذلك؛ لأنها عالقة القلب بسواه، فبدا ذلك في وجهها وتساقطت من عينيها دمعتان تدحرجتا على خديها فمسحتهما بكمها وهي تبتسم إخفاء لما ظهر من عواطفها فأدركت أم الأمراء ذلك فبادرتها قائلة: «يظهر أنك مشغولة القلب بسوانا .» فلم تتمالك لمياء عن البكاء وهي تخجل من بكائها فغطت وجهها بيديها وكأنها استضعفت نفسها وأنفت من ظهور ضعفها فتجلدت وتشاغلت بالابتسام وهي تنظر إلى أم الأمراء والدمع يتلألأ في عينيها. فأحست أم الأمراء معها فأرادت استطلاع حقيقة حالها لعلها تنفعها في شيء فدنت منها وهي تظهر الاهتمام بها، وقالت: «لا يشق عليك تعرضي لك في أمر تريدين كتمانه وإنما أردت أن أباسطك. ونظرا أنك مشغولة الخاطر بسواه. ألا تجدين في الثقة لتطلعيني على سرك وإن كانت هذه أول مرة رأيتني فيها؟»
فغلب الخجل على لمياء بعد هذا التنازل وقالت: «العفو يا سيدتي إنك تتنازلين كثيرا في مخاطبتي وما أنا أهل لشيء من ذلك ...»
فأحست أم الأمراء أنها ضايقتها في الحديث لأول مقابلة فرأت أن تتركها على أن تعود إلى هذا البحث في فرصة أخرى فقالت: «بل أنت خير لأحسن منه ... والآن قد آن لك أن تستريحي.» وصفقت فأتتها قيمة الدار فأمرتها أن تعد غرفة خصوصية للضيفة وأن تساعدها في تبديل ثيابها وتؤانسها. فنهضت لمياء ومشت مع القيمة وقد تنبهت عواطفها وهاجت أشجانها.
فأخذتها القيمة إلى غرفة من القصر تطل على الحديقة التي فيها البركة من ناحية وعلى المسجد الجامع من جهة أخرى فساعدتها في تبديل ثيابها فألبستها ثوبا من أثواب الأميرات وهو مع غلاء قيمته بسيط في زيه بلا زركشة ولا تأنق. وقد أعجبت لمياء بكل ما شاهدته هناك من أدلة البساطة والجنوح إلى العمل. وقلما وجدت شيئا يراد به الزخرفة فقط. مع أن قصر أبيها في سجلماسة لم يكن يخلو من الترف والرخاء؛ يقلد بهما حضارة بغداد أو مصر أو الأندلس فيأتي من كل بأفخر مصنوعاتها. وأما المعز فكان يخاف ذلك الرخاء فيميل إلى التمسك بالبساطة والبعد عن الترف.
الفصل الثامن
المناجاة
ولما خلت لمياء في تلك الغرفة تصورت ما أصابها من الانتقال في ذلك اليوم. باتت أمس في فسطاط أبيها خارج القيروان وهي الآن في قصر الخليفة المعز لدين الله معززة مكرمة. وتذكرت أن المعز من نسل الإمام علي وفاطمة الزهراء، فاختلج قلبها من الفرح؛ لحصولها على الحظ بالتقرب من ذلك الدم الطاهر والشرف العظيم. ومشت إلى شرفة مطلة على الحديقة ولم تكد تجلس حتى تقاذفتها الهواجس وتذكرت خطيبها سالما وكانت قد أحبته ووطنت النفس على الاقتران به. فلما آن وقت العقد أخذت أسيرة مع أبيها ولم تعد ترى سالما ولا علمت أين هو. وكانت تعلم من أسراره ما لا يعرفه عمه وكان في ما أطلعها عليه من أغراضه أمور تنكرها عليه ولا يعلم عمه أبو حامد باطلاعها على تلك الأسرار، ولعله لو علم لم يسمح بتقربها من المعز.
فأطرقت حينا وهي غارقة في التفكير وجعلت تناجي نفسها قائلة: «أين أنت يا سالم؟ لا، لا أصدق أنك قتلت ... لا. لم تقتل بل أنت مختبئ أو متنكر ... أو لعلك تفكر في ذلك الأمر ... ليتني أستطيع أن أراك؛ لأطلعك على أمور تهون عليك العدول عن عزمك ... وأتخلص مما يعرضونه علي ... إني لا أحب الزواج إلا بك؛ لأني لم أحب سواك ولكنني مع ذلك لا أوافقك على عزمك؛ لأن فيه خطرا. آه، أين أنت؟»
وهي في ذلك سمعت حركة وحديثا في الحديقة، فتحولت مجاري أفكارها نحو ما سمعته، وجلست تتوقع أن ترى أحدا - وكانت قد ضفرت شعرها ضفيرتين جانبيتين ولفت رأسها بخمار كبير كالحبرة يغطي كتفيها وجنبيها - وما لبث أن سمعت خفق نعال على مقربة من النافذة فتراجعت وهي لا تزال تنظر نحو الحديقة؛ وإذا هي برجلين عرفت منهما القائد جوهرا وبجانبه شاب في مقتبل العمر يظهر من ملامحه أنه ابنه الحسين، وتذكرت ما قيل لها عن رغبته فيها، فأحست بنفور وانزوت مخافة أن يقع نظره عليها.
أما جوهر فكان ماشيا وعليه الجبة والقفطان وفوق رأسه العمامة الصغيرة وحولها الخمار وقد تقلد السيف. وفى مشيته وثبات قدميه ما يدل على أنه قائد عظيم، وأما ابنه فكان في مثل لباسه لكنه لا يزال يانعا وفي محياه نضارة الشباب مع هيبة القواد، والبسالة بادية في عينيه وجبينه.
ولحظت لمياء وهي منزوية أن الحسين بن جوهر لما وصل إلى جانب غرفتها التفت كأنه يلتمس أن يرى أحدا وسمعت أباه يقول له بصوت منخفض: «لا شك أنك لو رأيتها ما تمالكت عن الإعجاب بها؛ لأنها جمعت بين مهابة الرجال ولطف النساء.»
فقال الحسين: «إني لا أراجعك في شيء تراه ... وأنت أعلم مني وأوسع اختبارا لكنني لا أثق بأبيها ولا أظنك تجهل ما في خاطره و...»
وكانا يتكلمان وهما ماشيان، فلم تسمع لمياء من حديثهما إلا نتفا فهمت منها أنهما يتحادثان بشأن خطبتها له فوقعت في حيرة وخافت أن يطلب منها الزواج به وهي عالقة القلب بسالم وإن كانت لا تعرف مقره.
وكانت لمياء مع بسالتها وقوة بدنها قوية العواطف إذا أحبت تمكن الحب من قلبها حتى يشغلها عن كل شاغل لا سيما وأن سالما أول شاب عرفته وأحبته.
ثم عادت فسمعت جوهرا يخاطب ابنه وقد عادا من حيث أتيا وأتما الحديث، فأصغت لعلها تسمع تتمة الكلام فسمعت جوهرا يقول: «إن معاملة هؤلاء بالحسنى أولى بنا وأقرب إلى جمع القلوب، وصاحب سجلماسة من أولى الأمراء بذلك ...» ثم انقطع الحديث من البعد فأصبحت لمياء أشد رغبة في الاطلاع عليه فأصغت لسماعه عبثا. فقعدت وهي تصلح خمارها وتعمل فكرتها وإذا هي تسمع لغطا فيه صوت أبيها فأجفلت ثم رأت أباها وجوهرا ماشيين وجوهر يحتفي بحمدون ويلاطفه. ومن قوله له: «لا ريب أن مولانا المعز يقدر صاحب سجلماسة حق قدره وطالما ذكرك في غيابك وأثنى على علو همتك.»
فقال حمدون: «نحن نفتخر أن نقوم بنصرة ابن فاطمة الزهراء.»
ثم بعد الصوت، وعلمت لمياء من هذا الحديث أن أباها وجوهرا ذاهبان إلى المعز بزيارة وربما كان ذلك بشأنها. فاشتغل خاطرها؛ لئلا يعدهم أبوها بها أو يخطبها للحسين وهي لا تريد. فمشت من غرفتها وهي تود أن تحضر تلك الجلسة لتعلم ما يدور بين أبيها والمعز بشأنها. ولكنها لم تجد وسيلة إلى ذلك إلا على يد أم الأمراء وكانت تسمع بمشاركتها زوجها بالآراء أحيانا حتى كثيرا ما كانت تحضر مجالس المداولة من وراء ستار.
1
الفصل التاسع
لمياء وأم الأمراء
وكانت أم الأمراء قد أعجبت بلمياء كل الإعجاب وأحبتها من كل قلبها. وكذلك لمياء؛ فإنها أحبت أم الأمراء واستأنست بها كأنها تعرفها من أعوام وقد هان عليها أن تكاشفها بما يكنه قلبها وتستشيرها في أمرها وتستعينها في حاجتها. فذهبت تطلبها في غرفتها فلم تجدها فلقيت حاضنتها - وهي امرأة رومية الأصل استجلبها المعز من صقلية لما دخلت في حوزته في جملة نساء حملهن للخدمة وتدبير المنزل. وقد استلطفتها لمياء ورأت منها انعطافا نحوها - فسألتها عن أم الأمراء فقالت: «قد ذهبت في شغل وستعود قريبا.» ودعتها للقعود.
فقعدت وخاطرها مشغول بمسير والدها إلى المعز مع جوهر فأحبت أن تشغل نفسها ريثما تأتي أم الأمراء فقالت للحاضنة: «يا خالة يظهر لي من ملامحك أنك لست من أهل هذه البلاد ...»
قالت: «صدقت؛ إني من صقلية يا سيدتي.»
قالت: «فأنت إذن رومية الأصل ...»
قالت: «نعم وأفتخر بأني من نفس البلد الذي منه أكبر قواد أمير المؤمنين.»
فعلمت أنها تعني جوهرا القائد، فقالت: «وهل القائد جوهر من صقلية أيضا؟»
قالت: «نعم يا سيدتي، إنه من نفس ذلك البلد. ألا يحق لي أن أفتخر به؟»
قالت: «كيف لا؟ وهو موضع فخر أهل هذه الدولة. نصره الله على أعدائه.»
وهي في ذلك جاءت أم الأمراء وهي تمشي مشية النشاط لا تتثاقل تثاقل أهل الترف فتراجعت الحاضنة وخرجت. ووقفت لمياء وهي تبتسم وتنظر إلى أم الأمراء نظر شاكر بهج فأجابتها تلك بمثل ذلك، وتناولتها بيدها على غير كلفة ودخلت بها إلى مخدعها الخصوصي وهي تقول: «أحب أن أراك تستأنسين بي وأن تعدي نفسك ابنة لي.»
فأكبت لمياء على يدها فقبلتها ودموع الفرح تتساقط من عينيها، وقالت: «لقد غمرتني بفضلك يا سيدتي بما لم يعد في إمكاني القيام بشكره ... كفى ... إن ذلك فوق ما أستحقه أو يخطر ببالي.»
قالت وهي تقربها من وسادة في صدر الحجرة وتقعدها بجانبها: «إنك أهل لأكثر من ذلك يا لمياء ولا فضل لي إذا أحببتك؛ فإني لم أسمع أحدا ذكرك إلا أعجب بك وبكمالك وهيبتك ... هذا قائدنا جوهر شديد الإعجاب بك وقد رغب في تقريب والدك من أمير المؤمنين إكراما لخاطرك. وقد جاء به الآن وسيدخلان إليه ولا شك أن المعز سيحل أباك محلا رفيعا؛ إكراما لقائده ...» وسكتت وبلعت ريقها وهي تنظر إلى لمياء وتتأمل ملامحها وما يبدو منها فرأتها مصغية لا يبدو على وجهها شيء من الاضطراب. فعادت إلى إتمام حديثها فقالت: «وبلغ من افتتان قائدنا بك أنه أحب أن يأخذك إليه ويجعلك ابنة له ...»
فظهرت البغتة على لمياء وأطرقت حياء، فابتدرتها أم الأمراء قائلة: «لا أعني أن تصيري ابنة له دون أبيك بل هو ينوي أن يخطبك ... إلى ابنه الحسين ... هل رأيت هذا الشاب؟ لا ينبغي أن تخجلي مني ... اتخذيني أما لك.»
فتصاعد الدم إلى وجنتي لمياء، وأبرقت عيناها من التفكير وقالت: «أشكر لك هذا الإحسان يا سيدتي. نعم أني يتيمة الأم ولكنني في حضن أم تتمنى كل فتاة أن تكون أمها، نعم ينبغي لي أن أخاطبك بحرية، أما من جهة رؤية الحسين بن جوهر فإني لم أره إلا في هذا النهار عرضا وهو مار في الحديقة مع أبيه ...»
فقطعت أم الأمراء كلامها قائلة: «لم يكن مجيئه عرضا، ولكنه جاء عمدا ليرى الفتاة التي حدثه أبوه عنها ... طيب وماذا تضمرين بعد ذلك؟» فتنهدت لمياء وهمت بالكلام وأسكتها الحياء فأدركت أم الأمراء أنها تخفي شيئا من قبيل الحب - والنساء يتفاهمن بلغات القلوب أسرع من تفاهم الرجال - فقدمت لها مذبة كانت في يدها تروح بها على سبيل المؤانسة، وقالت لها: «لا ينبغي لك أن تستحي مني يا لمياء بعد ما لقيته من حبي لك. ويكفي دليلا على هذا الحب أن أسعى في تزويجك بأحسن شاب في القيروان بعد أبناء الخليفة ... وهؤلاء يا لمياء لم يبلغوا سن الزواج بعد.» وضحكت فازدادت لمياء خجلا من هذا التلميح الممزوج بالتقريع على الكبرياء ولم تعد ترى باعثا على الحياء فتناولت المذبة من يدها ثم أعادتها إليها بلطف وشكر، وقالت: «لا تظني يا سيدتي أني جاهلة حقيقة قدري أو أني لم أدرك مقدار فضلك في ما تعرضينه علي، فاسمحي لي أن أصرح بحقيقة حالي. إني يا سيدتي مخطوبة ...» وصبغ الحياء وجهها.
لم تستغرب أم الأمراء قولها؛ لأنها لحظت ذلك فيها من قبل لكنها تجاهلت لتسمع منها هذا التصريح فأجابتها وهي تبتسم: «من هو ذلك الخطيب السعيد الذي حظي بك وما اسمه؟»
فخجلت من هذا الإطراء وقالت: «إنه يا سيدتي شاب من أصدقاء والدي عرفته في سجلماسة وله عم كثير التودد لأسرتنا فخطبني إليه، واسمه سالم ...»
فقالت: «أين هو؟»
فأجابت لمياء وهي تهز كتفيها إلى الأعلى إشارة الإنكار: «لا أدري أين هو ولكنني أعلم أنه كان في جملة من شهد المعركة الأخيرة التي قضي بها لأمير المؤمنين فقادوني ووالدي أسيرين. ولم أعلم أين ذهب سالم!»
فضحكت أم الأمراء وقالت: «يظهر أنك تحبينه كثيرا حتى إنك مع شكك بوجوده لا تزالين ثابتة في وده.»
فتنهدت تنهدا عميقا وأطرقت وقد صبغ الحياء وجهها ولم تجب.
فتشاغلت أم الأمراء بإصلاح ضفائر الشعر المرسلة على صدرها من الخمار وقالت: «قد يصح ذلك، ولكن هل تحسبينه ثابتا في حبك لا يلتفت إلى سواك؟ إن هؤلاء الرجال لا يركن إليهم. ولا تظني الحسين بن قائدنا جوهر يتأتى العثور على مثله في جيل من الناس ... ومع ذلك فالخاطر لك. وأنا إنما أردت خيرك؛ لأنني أحببتك و...» قالت ذلك وبان العتب في عينيها.
الفصل العاشر
التصريح
فأثر ذلك التوبيخ في نفس لمياء تأثيرا شديدا، ورأت قولها معقولا ولكن قلبها لم يطاوعها على العمل به ولا طاوعها عقلها على الرفض. وهي مع ذلك لا تعلم أين هو سالم. ميت أو حي ولم تر فرجا من تلك الحيرة إلا بالبكاء فجاشت خواطرها وهمت بالبكاء ثم أمسكت عواطفها تجلدا وسكتت وهي تبلع ريقها وتغالب نفسها وقد أطرقت لا تبدي حراكا.
وأظهرت أنها تتفرس في جلد أسد مفروش هناك.
فلم تبال أم الأمراء بسكوتها فأتمت كلامها قائلة: «ومع ذلك فقد سمعت قائدنا جوهرا يطري شجاعتك وثباتك في حومة الوغى ... فما لي أرى فيك هذا الضعف الآن؟»
فلم تعد لمياء تستطيع التمالك فتنهدت تنهدا شديدا ورفعت عينيها إلى أم الأمراء والدمع يتلألأ فيهما وجلست جثوا على سبيل التأدب وقالت - وهي تغص بالكلام: «لقد غمرتني بلطفك يا سيدتي ... إني لا أستحق هذا الالتفات ... نعم لا أستحق النعمة التي تعرضينها علي ولكنني ... آه ... لا أملك قياد قلبي ... سامحيني على التصريح لك. لقد رأيت من عطفك ولطفك ما يخولني الدالة عليك وإن خالفت العادة والطبع أني يا مولاتي لا أملك من قياد نفسي شيئا. نعم إني شجاعة في الحرب لا أهاب لقاء الأبطال ولكنني مع سالم ضعيفة ... لا أذكره إلا وأشعر بانحلال عزائمي وخفقان قلبي ... ألعل ذلك ما يعبرون عنه بالحب؟ وقد سألتني إذا كان يحبني، فكيف يمكن أن لا يكون كذلك وأنا لا أرى للحياة قيمة بدونه؟»
ولما وصلت إلى هنا انتبهت لنفسها وأحست أنها تورطت في التصريح بما لا يجوز لمثلها وإنما غلبت على عواطفها فلم تملك إمساك هواها. وخجلت من أم الأمراء فحولت وجهها نحو الحائط وأخذت في البكاء وقد بكت هذه المرة أسفا على ضعفها وتطلعا إلى رؤية حبيبها سالم وهي لا تعلم أين هو. أما أم الأمراء فاستغربت تعلق لمياء بخطيبها ولم تكن تتوقع أن ترى منها ثباتا وشغفا إلى هذا الحد. فلما آنست منها ذلك قالت: «يسرني يا بنية أنك تحبين خطيبك إلى هذا الحد؛ فإن المحبة من أكبر النعم. وأطلب إلى الله أن يجمعك به وإذا رأيت أني قادرة على مساعدتك في ذلك قولي ... أما الحسين فإني استمهله؛ لنرى ما يكون - إذ لا يعلم ما في الغيب إلا الله ...»
فهمت لمياء بتقبيل يدها شكرا على صنيعها فأبت عليها ذلك وقبلتها برأسها ونهضت وهي تقول: «قد تعودت أن أذهب في مثل هذه الساعة إلى مقعد لي يشرف على قاعة أمير المؤمنين التي يقابل الناس فيها أطل عليها من وراء حجاب فأشاهد مجلس الأمراء وأسمع ما يدور بينهم إني كثيرة الاهتمام بشئون الدولة ...»
فأعجبت لمياء بعلو همتها وقالت: «سمعت بذلك عنك.» وقد سرها أن تبدأ هي بالعزم على ذلك ومالت إلى مرافقتها فقالت: «وهل ترين بأسا من أن أكون معك؟»
قالت: «كلا ... وبالعكس فإني أستأنس بك.»
ومشتا في دهليز إلى غرفة في أحد جدرانها مقعد على دكة يصعد إليه ببضع درجات، وراءه ستر يحجبه. وفى الستر ثقوب إذا شاء الجالس أن يشرف على من في القاعة الكبراء رآهم وسمع أقوالهم. فتناولتها أم الأمراء بيدها حتى أجلستها بجانبها على المقعد، وقالت لها: «انظري من هذا الثقب.» فنظرت فإذا هي تشرف على مجلس الخليفة من أعلى الحائط بحيث ترى الجلوس هناك ولا يرونها.
رأت قاعة واسعة قد فرشت أرضها باللبود البسيط وقد جلس المعز لدين الله في صدرها على منصة كالوسادة الصغيرة وهو في لباس بسيط بالنسبة إلى سواه من الملوك والخلفاء. على رأسه العمامة وعلى كتفيه برنس كالعباءة يغطي أثوابه. وقد التف به وأقعد الأربعاء قعود من أتعبه العمل فتربع وألقى كوعيه على فخديه. وإلى جانبه حسام مغمد وفي يمينه قلم. وفى يساره ورقة من الكاغد ينظر إليها وكاتبه واقف أمامه ينتظر أمره فبعد أن تأمل الورقة وضع القلم بجانب دواة بين يديه ودفع الورقة إلى الكاتب وأشار إليه أن يذهب. ثم تنفس الصعداء وقال: «إذا شاء الأمراء والمشائخ الدخول فليتفضلوا.»
فلما سمعت أم الأمراء قوله قالت للمياء: «إنه يدعو مشائخ كتامة وصنهاجة وهوارة، وهم رجال دولته من أمراء البربر؛ لعله يريد النظر في أمر هام!»
فسرت لمياء لهذه الفرصة؛ لترى كيف يعقد مجلس الملوك. على أنها ما لبثت أن رأت جماعة من المشائخ والأمراء دخلوا وألقوا التحية بصوت عال كالعادة. وأشار إليهم المعز فقعدوا على وسادات مثل وسادته محيطة بالقاعة. وجعلت لمياء تتفرس فيهم فرأت بينهم وجوها تعرفها من قبل ولما استقر بهم الجلوس جعل المعز يرحب بهم وهم يدعون له.
ثم قال: «قد تكبدتم المشقة في المجيء إلينا، وإنما دعوتكم لأريكم حالي من العمل. إذ قد يتصور بعض الذين لا يعلمون أن الإمامة من أسباب الراحة والتنعم والانقطاع عن العمل. نعم هي كذلك لمن شغلوا بالترف عن مصالح الدولة كما يفعل صاحب بغداد وصاحب قرطبة وأمراؤهم في الأطراف؛ لأن الدنيا شغلتهم عن الإمامة الحقة فانغمسوا بالملذات وتقلبوا في المثقل والديباج والحرير والسمور والمسك والخمر مثل سائر أرباب الدنيا.
وأما أنا فقد أحببت استقدامكم لأريكم كيف ينبغي أن يكون الإمام: انظروا إلى هذا الكساء والجبة وها أنا جالس على اللبود وهذه الأبواب مفتحة تفضي إلى خزائن الكتب، وأنا أشتغل بمكاتبة الأطراف بيدي لا ألتفت إلى أمور الدنيا إلا بما يصون أرواحكم ويقمع أضدادكم، فافعلوا يا شيوخ في خلواتكم مثل ما أفعله ولا تظهروا التكبر والتجبر فينزع الله النعمة عنكم وينقلهما إلى غيركم.»
فتصدى شيخ منهم - أكبرهم سنا - وقال: «يا أمير المؤمنين قدوتنا ونعم المثال هو.»
فقال: «إذا فعلتم ذلك يقرب الله منا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب ... انهضوا - رحمكم الله ونصركم.»
فوقفوا وحيوه وخرجوا وقد امتلأت قلوبهم هيبة ولمياء تعجب لسرعة صرفهم وأدركت أم الأمراء فيها ذلك فقالت: «لا بد لسرعة صرفهم من سبب فقد تعودت أن أجلس هنا ساعات أسمع مباحثاتهم في أهم الأمور.»
ولم تتم كلامها حتى سمعت المعز يصفق وهو يقول: «خفيف!» فحضر غلامه فقال: «ذكرت لي منذ هنيهة أن قائدنا يحب أن يرانا على حدة فأسرعنا في صرف شيوخ كتامة لنتفرغ له. ادعه.»
فخرج الغلام وهمست أم الأمراء قائلة: «هذا هو السبب في سرعة صرفهم ... أن جوهرا قادم إليه ... لله دره من رجل باسل.»
فلما سمعت لمياء اسمه تذكرت أنها رأته ذلك اليوم في الحديقة مع أبيها وخطر لها أنها رأته أيضا مع ابنه الحسين فخفق قلبها؛ لأنها أصبحت تخاف أن تراه بعد أن دار ما دار بينها وبين أم الأمراء بشأنه وتخاف إذا تكرر الترغيب فيه أن يخونها قلبها فتميل إليه وهي لا تريد أن يكون لأحد نصيب من فؤادها غير سالم.
الفصل الحادي عشر
الخطبة
وما كادت تفكر في ذلك حتى رأت جوهرا في وسط القاعة وقد أمسك أباها حمدون بيده كأنه يقدمه إلى المعز، وهو يقول: «أقدم لمولانا أمير المؤمنين الأمير حمدون صاحب سجلماسة صديقنا الجديد.»
فنظر المعز إليه وابتسم ابتسام الملوك وقال: «أهلا بصديقنا ... أرجو أن لا يكون في خاطره شيء من نحونا.»
فأسرع حمدون وترامى بين يدي المعز كالمستغيث، وقد فعل ذلك مبالغة بالتزلف وقال: «لقد أسعدنا الحظ بهذه الصداقة وهي شرف لنا ولو عرفنا مناقب الإمام من قبل لجئناه بغير حرب.»
فأنهضه المعز بيده.
وأشار إليه أن يجلس بجانبه على وسادة وهو يرحب به ويبتسم، وأشار إلى جوهر أن يقعد فقعد وهو مسرور من نجاح مهمته في مصلحة الدولة بتقريب هذا الأمير للطاعة؛ لأنه صاحب جاه واسع وحزب كبير.
جلس حمدون وهو يظهر التأدب بحضرة المعز لكن عينيه كانتا تجولان خلسة في أطراف القاعة لا تستقران على حال كأنهما عينا لص. على أنه كان في وجهه هيبة الأمراء.
أما لمياء فلما رأت والدها هناك سرت لتقربه من المعز؛ لأنها كانت تعلم ما في خاطره عليه وأنه لم يكن أثقل على قلبه من ذلك الأسر. فسرها أولا أنه رضي بإرسالها إلى بيت الخليفة وزاد سرورها أنه تقرب منه. وهي تود ذلك من جملة وجوه أهمها اعتقادها الكرامة بالمعز؛ لأنه من نسل فاطمة الزهراء وهي حسنة الاعتقاد بالشيعة. وإنما كان همها بعد ذلك أن يأتي سالم ويتقرب إلى المعز فيتم لها السرور. وان كانت من فطرتها عزيزة الجانب ميالة إلى الاستقلال وقد حاربت في سبيله ولم تسلم إلا قهرا. لكنها لم تكن راضية عن أعمال والدها فإن بين أخلاقها وأخلاقه بونا عظيما. وقد لقيت من المعز وامرأته كل رعاية وإكرام فوطنت النفس على التفاني في مصلحتهما وإنما ينقصها العثور على سالم وإقناعه بالتسليم معها. ومع علمها بصعوبة تسليمه كانت تعتقد أنها تقدر أن تتغلب عليه بالدالة والبرهان.
أما المعز فالتفت إلى جوهر لفتة صديق معجب بصديقه وقال: «يسرني كثيرا أن تجتمع كلمة شيعتنا على المطالبة بحقوقنا.»
فقال جوهر: «إن ذلك هين بتوفيق مولانا - أعزه الله - وأنا أعد تقريب أمير سجلماسة الباسل فألا مباركا؛ لأنه رجل حرب وله أعوان يتفانون في نصرته، فبمثله يعز الملك.»
فقال حمدون: «إني أفاخر سائر الأمراء بهذه الحظوة بين يدي أمير المؤمنين وقد أصبحت الآن سيفا من سيوفه أناضل عنه إلى آخر نسمة من حياتي، أقول ذلك عني وعن رجال قبيلتي.»
فابتسم المعز وقال: «إنك إذا فعلت ذلك إنما تنصر الحق كما أنصره أنا. وإن إمامتي على رجالي لا تميزني عنهم بشيء من مرافق الحياة. بل أنا أكثرهم تعبا وسهرا كما ترى مما بين يدي من الأعمال، إني أعمل بيدي ما لا يعمله صاحب بغداد ولا صاحب قرطبة. أنظر في كل شيء بنفسي، لا أقول ذلك افتخارا ولكنني أقول الحق فما أنا إمامكم إلا بما خصني به الله من النسب الطاهر وأما فيما خلا ذلك فأنا واحد منكم.»
فقال حمدون - وهو يظهر الإخلاص: «إني أحمد الله بما من علي به من نعم أمير المؤمنين وسيرى مني ما تقر به عينه وتنبسط نفسه.»
فأبرقت أسرة جوهر فرحا بنجاح مسعاه، ونظر إلى المعز نظرة فهم المعز مراده منها، فالتفت إلى حمدون لفتة تودد وقال: «وما أنا راض لأمير سجلماسة بما أردته لغيره من الأمراء المقربين. بل أنا أحب أختصه بإكرام لم ينله سواه. أنت تعلم منزلة قائدنا جوهر حامي حمى هذه الدولة. إنه صاحب المنزلة الأولى عندنا فنحب أن نزيد أسباب القربى بينك وبينه. وهي قربى لنا أيضا.»
فأدرك حمدون غرضه ولكنه تجاهل، وقال: «إن أمر مولانا مقبول على الرأس والعين ... فليأمر بما يراه.»
قال: «نحب أن نخطب ابنتك لمياء إلى الحسين بن قائدنا جوهر وهو من خيرة الشبان، فهل توافقني على ذلك؟»
فبادر حمدون إلى الجواب بلهفة وقال: «إن هذا شرف عظيم لنا يا سيدي ... إن لمياء لا تستحق هذه النعمة؛ لأن جوهرا حفظه الله قدوة القواد، وإن لمياء جارية أمير المؤمنين يضعها حيثما شاء ... لأمير المؤمنين الأمر ولنا الطاعة .»
وكانت لمياء وهي تسمع كلامهم من وراء الستر تخاف أن يفضي الحديث إلى هذه الغاية فلما سمعت اتفاقهما على الخطبة أجفلت وارتبكت والتفتت إلى أم الأمراء لفتة مستغيث. فضمتها إلى صدرها ولم تزد. فرفعت لمياء رأسها لتنظر في عيني أم الأمراء لعلها تفهم مرادها من ذلك التحبب فرأتها تضحك ضحك من ظفر بغنيمة. فاشتبه عليها أمرها وهي لا تدري ماذا تعمل وأخذتها الرعدة وترقرق الدمع في عينيها.
فهمست أم الأمراء في أذنها قائلة: «لم تقبلي ذلك الطلب مني فها قد اتفق عليه والدك وأمير المؤمنين فهل من سبيل إلى الرفض؟»
فأجابتها لمياء بهز رأسها هز الإنكار ولسان حالها يقول: «إني لا أزال على عزمي.»
فأشارت أم الأمراء بسبابتها على فمها: «إن اصبري الآن وسنرى.»
فسكتت وإذا هي تسمع المعز يقول: «بارك الله فيك، إني أهنئ ابن قائدنا بهذه الفتاة كما أهنئها به؛ لأنه من خيرة الشبان فعسى أن تكون راضية بذلك.»
فقال حمدون: «إنها لا شك راضية ... كيف لا ترضى بما رضي به لها أمير المؤمنين ووافق عليه والدها؟»
فلم تعد لمياء تصبر على سماع ذلك فنهضت تريد الانزواء؛ نفورا من ذلك الحديث فأمسكتها أم الأمراء وأجلستها. فأطاعت وسكتت وهي تكاد تتميز غيظا ولا تعلم ما تعمل.
أما المعز فتزحزح من مجلسه إشارة للصرف. فوقف جوهر وحمدون واستأذنا بالانصراف فأذن لهما وهو يقول: «نترك تعيين وقت العقد لقائدنا ونحب أن يكون ذلك في حضرتنا إكراما للعروسين.»
انصرفا وتركا لمياء على مثل الجمر وقد جمد الدم في عروقها وتولتها الدهشة وحق لها ذلك؛ فإنها مع شدة تعلقها بسالم لا ترى مندوحة عن طاعة والدها وأمير المؤمنين.
الفصل الثاني عشر
الحيرة
نهضت أم الأمراء وأخذت لمياء بيدها تخفيفا عنها. وقد شعرت بما هي فيه من الارتباك فمشت لمياء معها وهي مستغرقة في الهواجس لا تنبس ببنت شفة.
حتى إذا وصلتا إلى حجرة أم الأمراء استأذنت لمياء بالانصراف إلى الغرفة التي أعدت لمنامها. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فدعتها أم الأمراء إلى البقاء عندها فاعتذرت أنها تشعر بصداع شديد لا ترى وسيلة للتخلص منه بغير النوم. فأذنت لها حبا بإطلاق الحرية لها لئلا يؤثر الضغط على نفسها وأضمرت أن تتفقدها بعد هنيهة.
سارت لمياء وهي تتعثر بأذيالها ولم تصل غرفتها حتى أحست بخوار قواها فاستلقت على فراشها وقد انقبضت نفسها وزادها غروب الشمس انقباضا.
وأخذت تفكر في ما هي فيه من الضيق فرأت أنها لولا حبها سالما لكانت في سعادة لا مثيل لها؛ لأنها ستخطب لابن أكبر القواد على يد أحسن الخلفاء في دار الملك وقد تقربت من أم الأمراء وتصادقتا. وهي تشعر أن هذه الملكة تحبها حقيقة، فلم يكن أسعد حالا منها لولا تعلقها بسالم وأرادت أن تقنع نفسها بتركه والرضى بتلك النعم فلم تستطع. وحالما خطر لها ذلك الخاطر أحست بشيء كالملقط قبض على قلبها.
وأخذت تغالب عواطفها وتخاطب نفسها وهي جالسة على الفراش قائلة: «لعل أم الأمراء مصيبة في قولها عن الرجال إنهم لا يحفظون ذماما كالنساء ... ولكن سالما ليس مثله سواه. كيف أفكر في غيره وقد تعاقدنا ... لله ما هذه الأفكار الشيطانية ليس في الدنيا أكبر نفسا وأجمل خلقا من سالم، ليست السعادة بالمال ولا في الجاه ... إن السعادة في الحب ... مهما عارضتني صروف الدهر وعاندتني وتراكمت علي فإذا تذكرت سالما وأنه يحبني شعرت بلذة وراحة لا مثيل لهما، ما أجمل الحب وأحلاه ... ولكن هل سالم يحبني كما أحبه؟»
وهي في ذلك طرق الباب فأجفلت فرأت صقلبيا يحمل مصباحا وقف بالباب وهو يقول: «إن مولاتي أم الأمراء أمرتني أن أنير لك هذا المصباح.» ووضعه على رف في الحائط مصنوع لهذه الغاية، وقال: «ألا تريد مولاتي أن آتيها بالطعام للعشاء.»
قالت: «كلا، إني لا أشعر بالجوع، وأرجو أن تبلغ مولاتنا أم الأمراء شكري الجزيل على أفضالها.»
فانحنى وهم بالخروج. فاستوقفته وقد خطر لها خاطر جديد، فقالت: «هل أنت من خدم هذا القصر؟»
قال: «نعم يا سيدتي هل تحتاجين إلى شيء؟»
قالت: «أحب أن أرى مولاتنا أين هي؟»
فقال: «هي هنا يا سيدتي» وتنحى.
فاستغربت قوله. وإذا بأم الأمراء بالباب فبغتت لمياء لوجودها هناك وقالت: «كيف حضرت يا سيدتي ... وأين كنت؟»
فضحكت وأشارت إلى الخصي فانصرف وضمت لمياء إلى صدرها وقبلتها وقالت: «أتظنين أني غافلة عما أنت فيه؟ أذنت لك بالانصراف إلى مخدعك وقلبي يراعيك ولم أتمالك عن أن أجيء بنفسي؛ لأراقب حركاتك. وإنما أرسلت الصقلبي قبلي ليرى هل أنت نائمة؟»
فلما سمعت كلامها أكبت على يديها وجعلت تقبلهما قائلة: «بالله يا سيدتي ما هذه النفس الكريمة ما هذه الأخلاق العالية ما هذا الحنو الوالدي ... هل أستحق منك هذه العناية؟ إن شعورك معي في هذه المشاكل خففها»، وسكتت وهي تدعو أم الأمراء للجلوس على فراشها.
فأجابتها: «قلت لك إني أحببتك وأنا لا أقول جزافا. ثم إني أعلم الناس بما يكنه قبلك فقلت في نفسي لعلي إذا جئتها وكانت مضطربة أن أخفف عنها شيئا.»
فتنهدت لمياء وسبقتها العبرات وقالت: «لقد خففت عني كثيرا ولكن ...»
فمسحت أم الأمراء دموع لمياء بمنديلها، وقالت: «إنك يا بنية حملت نفسك التعب باختيارك ... إن النصيب الذي عرض عليك لو عرض على أحسن نساء العالمين لفرحت به وأنت لا ...» وبلعت ريقها واستغنت عن التصريح بالإشارة.
فقالت لمياء: «هذا كله أعلمه وقد حاولت أن أقنع نفسي فإذا أنا عاجزة عن ذلك ... إني ضعيفة مسكينة ... آه من الحب ... سامحيني يا سيدتي على هذه الحرية في خطابي ... أردت أن أقنع نفسي أن ما سيدعوني إليه والدي سعادة لا ترد فشعرت بقشعريرة ارتعدت لها فرائصي ... لا أقدر ... لا أقدر أن أتسلط على نفسي ... إني لا أملك رشدي يظهر أني مجنونة ...»
فضحكت أم الأمراء على سبيل المداعبة وقالت: «هل تشكين في ذلك؟ ألا تعلمين أن العلماء يسمون الحب الشديد جنونا ...»
قالت: «مهما يكن فإني غير قادرة على التخلص من هذه الهواجس ... بالله أشفقي علي وارفقي بي ...»
قالت: «إني مستعدة لما تريدينه. نعم أحب أن تكوني من نصيب الحسين بن جوهر ولكنني أفضل راحتك. فإذا كنت تظنين أني في قدرة على مساعدتك في شيء قولي.»
فأطرقت وسبابتها على شفتها السفلى وهي تفكر وأم الأمراء تنظر إليها وتنتظر ما تقوله فإذا هي رفعت بصرها إليها وقالت: «إني أطلب منك أمرا لا يصعب عليك إني أحب الذهاب إلى والدي لأراه وأباحثه في الأمر الذي عرض عليه اليوم؛ لعله إذا علم بما في خاطري يعفيني منه. وأنت تكملين فضلك في إرجاع أمير المؤمنين عن عزمه.»
ففكرت أم الأمراء لحظة وهي تعلم أن زيجة لمياء للحسين يراد بها غرض سياسي لاكتساب قلب حمدون، فضلا عن ملاءمة العروسين فلم تشأ أن تعدها بإقناع زوجها لكنها طيبت خاطرها وقالت: «لك علي ذلك ... متى تذهبين إلى والدك؟»
قالت: «الآن يا سيدتي ... إني لا أستطيع رقادا إن لم أره وأباحثه.»
قالت: «كيف تذهبين الآن وقد داهمنا الظلام ووالدك في معسكره خارج المنصورية وقد أقفلت الأبواب، ومثلك لا يؤذن بخروجها من هذا القصر.»
قالت: «أخرج متنكرة وأنا لا أبالي بالظلام إنما أطلب إليك أن تأمري بثوب أحد الصقالبة خدم القصر ألبسه وأخرج بحجة رسالة أحملها من أمير المؤمنين إلى صاحب سجلماسة.»
ففكرت أم الأمراء لحظة ثم قالت: «ذلك هين علي، ولكنني أخاف أن يستغشك الخفر على الأبواب.»
قالت: «لا تخافي.»
فقالت: «ها أنا ذاهبة إلى حجرتي وبعد قليل تعالي إلي تجدي الثوب حاضرا.»
فأكبت على يدها لتقبلها شكرا على هذا الصنيع. فمنعتها أم الأمراء من ذلك وتركتها وخرجت.
الفصل الثالث عشر
المعارضة
فمكثت لمياء برهة ثم مشت إلى أم الأمراء فرأتها قد أعدت الثوب فلبسته وأصلحت من شأنها حتى لا يشك من يراها أنها غلام صقلبي وودعتها. فأرشدتها إلى الطريق الأقرب المؤدي إلى باب البلد.
فمشت وهي ثابتة القدم لا يعتريها خوف. فمرت في الحديقة لا يستغشها أحد وأهل القصر مشغولون في مهامهم حتى وصلت باب البلد فإذا هو موصد والخفر وقوف عنده بأسلحتهم. فطلبت إليهم أن يفتحوا لها الباب؛ لأنها ذاهبة في مهمة مستعجلة إلى معسكر صاحب سجلماسة. ففتحوه ولا يشك أحد منهم أنها رسول صقلبي.
ففرحت بانطلاء حيلتها وخرجت فإذا هي في الخلاء. ونظرت نحو معسكر والدها فعرفت مكانه من النار الموقدة عنده فمشت بسرعة والظلام حالك والمكان خال وكل شيء هادئ. فلم تمش يسيرا حتى رأت شبحا طويلا يدنو منها وعليه عباءة سوداء قد التف بها ومشى نحوها بهدوء فتحولت عن جهته لئلا يعترضها. فإذا هو قد وقف لها ونادى: «من الرجل؟»
فقالت: «رسول من أمير المؤمنين إلى هذا المعسكر.»
فقال: «قف عندك.»
ولما سمعت الصوت اقشعر بدنها؛ لأنها تذكرت صوتا تعرفه لكنها تجلدت وتجاهلت وقالت: «دعني ... إني سائر لأمر مستعجل.»
فناداها قائلا: «لا يخرج الرسل من هذا القصر ليلا.»
قالت: «إنها رسالة هامة مستعجلة وقد رآني الخفر بالباب ولم يعترضوني.»
قال: «أنا أعترضك ... قف عندك أو تعال معي إلى النور لأرى وجهك ... إني أعرف غلمان القصر جميعا.»
فتحيرت في أمرها وتفرست بمخاطبها وأخذت تفكر فيمن عساه أن يكون وصوته يشبه صوت الحسين بن جوهر واستبعدت أن يكون هو هناك وليست الخفارة من شأنه. فتجاهلت وظلت ماشية وهي تقول: «إني ذاهب في مهمة سرية لا يجوز للخفر أن يطلع عليها ولا أن يعرف من أنا.»
قال: «إذا كان ذلك لا يجوز لسواي فهو جائز لي.» قال ذلك ومد يده يريد أن يمسكها من يدها فنفرت منه وخبأت يدها وراء ظهرها وقالت: «قل لي من أنت قبلا.»
قال: «أنا الحسين بن القائد جوهر.»
فلما تأكدت أنه هو بعينه ارتج عليها ولم تخف على نفسها منه لكنها خافت كشف سرها. فحولت وجهها عنه ومشت وهي تقول: «لا نعهد الحسين بن أكبر القواد ينتحل مهنة الخفر ليتعرض لرسول أمير المؤمنين ... دعني وشأني وإلا فإن تأخري تعود عاقبته عليك.»
فاعترضها وهم أن يمسك يدها فأفلتت يدها منه بجسارة فقال لها: «ليس من شأنك أن تعين لكل إنسان مهمته. نحن جميعا نخدم مصلحة أمير المؤمنين نضرب بسيفه ونخفر قصره. دع عنك ذلك واتبعني وإذا كنت رسولا كما تزعم فلا خوف عليك بل أكون لك عونا في إبلاغ الرسالة.»
فلم تجد لمياء بدا من الطاعة فقالت: «ها إني واقف ما الذي تريده مني ... اكشف اللثام عن وجهك أولا ثم خاطبني.»
فأزاح اللثام فإذا هو الحسين بعينه فخفق قلبها واستغربت تلك المصادفة وقالت: «نعم أنت مولانا الحسين بن القائد جوهر فما الذي يريده مني؟»
قال: «إني لا أرى وجه صقلبي ولا أسمع صوت صقلبي إني أسمع صوت امرأة.»
فضحكت استخفافا، وقالت: «أرأيت كيف أنك مخدوع؟ فحسبتني امرأة وأنا غلام؟»
قال: «إذا كنت غلاما صقلبيا فاصدقني ولا تخف.»
فتماسكت لمياء ولم تجد بدا من التصريح فقالت: «تأمل في وجهي جيدا» فتفرس فيها على شعاع النور وقال: «أنت فتاة ... وكأني رأيت هذا الوجه في صباح هذا اليوم ... ألست لمياء بنت صاحب سجلماسة؟»
فلم تطاوعها نفسها على الإنكار فقالت: «نعم أنا هي وما الذي تريده مني؟»
فتنهد وابتسم، ثم قال: «إن ما أريده منك ليس هنا محل الكلام فيه يا لمياء. ولكنني أطمئنك أن لا خوف عليك مني لسبب سوف تعلمينه ولكنني أعجب لخروجك في هذا الليل متنكرة ومثلك لا يؤذن لها في الخروج من قصر أمير المؤمنين! كيف خرجت؟»
قالت: «ألم أقل لك إني خارجة في مهمة لصاحب سجلماسة.»
قال: «أنت ذاهبة إلى أبيك.»
قالت: «نعم ... ها قد قلت لك ... فأنت وشأنك.»
قال بلحن التودد: «إن شأني شأن المأمور المطيع يا لمياء، ولو كان الخارج في هذا الليل سواك لكانت حياته في خطر. وأما أنت فإني في خدمتك حتى ترجعي إلى مأمنك، إنما أرجو أن تذكري هذا لي إذا ذكرت به.»
فشعرت أنه يحملها فضلا سيطالبها به يوما ما فقالت: «لم أخرج من هذا القصر في هذا الليل وحدي وأنا خائفة من أحد. فإذا شئت أن تبقى على اعتراضك فإني لا أبالي.»
وكان الحسين قد علم في ذلك النهار أن أباه وأباها زارا المعز وأنه خطبها له من أبيها ورضي أبوها. ولكنه كان على يقين أنها لم تطلع على شيء من ذلك بعد. وتوسم في اجتماعها بوالدها في تلك الساعة خيرا لنفسه إذ يبلغها أبوها ما كان من طلب أمير المؤمنين لها باسم الحسين، فقال: «قلت لك إن شأني معك أن أكون في خدمتك حتى تبلغي مأمنك وتشاهدي والدك. ولعلك وأنت راجعة يتغير لحن خطابك معي.»
فأدركت كل ما جال في خاطره وفهمت ما يشير إليه لكنها تجاهلت وقالت: «إني لا أقدر أن أذكر ابن القائد جوهر بعد هذه المكارم إلا بالشكر والثناء في كل حال فهل تأذن بانصرافي الآن؟»
قال: «نعم ولكنني أكون في خدمتك لئلا يعترضك سواي فإن في هذه الطرق خفراء آخرين أقامهم والدي سرا لزيادة الحرص على سلامة أمير المؤمنين. ولا أحب أن يعرف أحد منهم ولا سواهم بخروجك ولا أريد أن يخاطبك أحد ولا أن يقول لك كلمة ولو كانت سلاما واحتراما ... إني أكثر حرصا عليك منك ...» قال ذلك بلحن الحب.
فظلت على تجاهلها وقالت: «بارك الله فيك فأنا واثقة بمروءتك وأحب أن تكتم ما رأيت عن كل أحد كأنك لم تشاهد أحدا.»
فاستأنس بهذه الوصية واستدل بها على ميل نحوه وقال: «قلت لك إني أحرص منك عليك ... وهذا يكفي.»
فلم تجبه ولكنها مشت ومشى هو في أثرها عن بعد حتى دنت من معسكر أبيها.
الفصل الرابع عشر
أبو حامد
وكان ذلك المعسكر خياما مضروبة أكبرها فسطاط الأمير فلما دنت من الفسطاط صاح بها رجل من الواقفين للحراسة: «من القادم؟»
فظلت على تنكرها وقالت: «رسول من أمير المؤمنين إلى الأمير حمدون.»
فنظر في أثوابها فحسبها غلاما صقلبيا فدخل ليستأذن لها بالدخول.
وكان حمدون قد عاد في ذلك بعد مثوله بين يدي الخليفة وصدره مملوء بالأماني واختلى بصديقه أبي حامد مدة طويلة ودعاه للعشاء معا فقضيا ساعات وهما يتساران لا يأذنان لأحد في الدخول عليهما. فلما دخل الحرس يستأذن لرسول من عند أمير المؤمنين قال حمدون: «ماذا عسى أن يكون من أمر هذا الرسول؟ فليدخل.»
فدخلت لمياء ولم تقع عين أبيها عليها حتى عرفها فهم أن يناديها فأشارت إليه بالسبابة على فمها أن يكتم أمرها. فأشار إلى الحاجب أن يخرج ويبعد سائر الحجاب عن الفسطاط.
وكان فسطاط الأمير حمدون خيمة كبيرة من الأدم المدبوغ بلون أحمر وقد فرشت ببساط كبير حمله معه من سجلماسة وهو في الأصل مجلوب من إسبانيا مما كان أمراء الأندلس يفرشونه في قصورهم؛ لأنه كان وهو أمير يقلدهم بأسباب المدنية. والخيمة قائمة على ستة أعمدة علقوا عليها الأسلحة والدروع وأنيرت أطراف الفسطاط بالمصابيح.
فدعا لمياء للجلوس على وسادة بجانبه وأخذ يرحب بها وأبو حامد إلى جانبه الآخر، وهو كهل قصير القامة دقيق العضل كبير الرأس بارز الجبهة خفيف اللحية قد برز فكاه ونتأت سناه المتوسطتان من فكه الأعلى نتوءا كثيرا وافترقتا. وله عينان غائرتان متقاربتان تبرقان دهاء ومكرا كأنهما مصباحان متجاوران قد اختلط نورهما. وفى إحداهما انحراف نحو الأعلى وبينهم أنف كبير أعقف كأنف النسر وقد أرسل شاربيه على شفتيه ليخفي سنيه البارزتين. وأهمل لحيته الخفيفة بلا تمشيط. وكان قد تخفف بلباس الليل وغطى رأسه بعرقية سوداء زادت تلك السحنة غرابة. إذا لقيه الرجل استخف به واحتقره فلا يلبث أن يخاطبه حتى يهابه لقوة عارضته وفصاحة لسانه.
فلما رأى حمدون يرحب بلمياء شاركه في الترحاب وهش لها وسبق والدها إلى مخاطبتها فقال: «بارك الله فيك لقد جئت في إبان الحاجة إليك ... ولكن ما الذي جاء بك في هذا الليل؟»
فضحك أبوها وقال: «يظهر أن روحنا خاطبت روحها عن بعد فلبت الطلب.»
فقالت لمياء والاهتمام باد في عينيها البراقتين: «جئت يا سيدي لأمر همني كثيرا.»
قال وهو يبتسم: «ولعلهم أنبئوك بما دار بيننا وبين المعز في هذا الصباح!»
قالت: «لم ينبئوني ولكنني سمعت الحديث في أذني.»
فتصدى أبو حامد للكلام قائلا: «أهنئك يا لمياء بهذا النصيب الحسن.»
فنظرت إليه نظرة عتاب وقالت: «وأنت تقول ذلك أيضا؟»
قال: «كيف لا أقوله؟» ونظر إلى أبيها كأنه يستشيره.
فقال حمدون: «نعم يحق لنا أن نهنئك يا بنية؛ فإن هذا النصيب لا يتأتى لأحد من أهل القيروان.»
فالتفتت إلى أبي حامد وقالت: «وسالم؟» وهي تتوقع أن تفحمه بذلك الاعتراض.
فقال: «سالم؟ حتى سالم يفرح لك بهذا النصيب ...»
فدهشت لهذا الجواب وقالت: «سالم؟ لا. لا. لا أظنه يفرح ولا أنا فرحت به.»
فالتفت أبوها إليها لفتة استغراب وقال: «وأنت لم تفرحي به؟ يا لله ما الذي تتوقعينه أحسن من هذا؟»
قالت: «أتوقع أن ...» وغلب عليها الحياء فسكتت.
فقال أبو حامد: «إن كنت ترفضين هذه النعمة مراعاة لخاطر سالم فأنا أضمن ارتياحه إليها.»
قالت: «سالم لا يرضى أن أكون لسواه؟ كلا.»
فضحك أبو حامد ملء فيه وهز رأسه باستخفاف وقال: «يظهر أنك تنظرين إلى هذا الزواج من وجه واحد فقط.»
فاستغربت هذا التعبير وقالت: «وهل ينظر في هذا الأمر من عدة وجوه؟»
فأخذ حمدون وأبو حامد ينظر كل منهما إلى صاحبه ويضحك. وأغرق أبو حامد في الضحك حتى كاد يستلقي على قفاه وقد برز سناه من بين شعر شاربيه. فشق ذلك على لمياء فابتدرها أبوها قائلا: «ألا يكفي لقبولك بهذا النصيب أن يكون قد تم الاتفاق عليه بين أبيك وأمير المؤمنين؟ وإذا كنت لا تبالين بخاطر والدك ألا تهابين أمر الخليفة؟» قال ذلك بلحن العتاب والتوبيخ.
فخجلت من هذا التعريض لكنها لم تقتنع فسكتت وأطرقت وفي سكوتها إنكار لما يطلبونه منها. فتصدى أبو حامد وهو يظهر التلطف والاهتمام ويتشاغل بإصلاح طاقيته وقال لها: «أنا لا أشك في تعقلك وحكمتك؛ ولذلك فأنا أخاطبك بصراحة ... أؤكد لك لو كان سالم هنا الآن لأمرك أن تطيعي والدك وتقبلي بما عرض عليك؛ ليس؛ لأنه لا يحبك ولكنه يرجو من ذلك خيرا لنا جميعا.»
فلما سمعت قوله استغربت ما فيه من التلميح ولم تفهم مراده وهي تعلم أن سالما إذا كان يحبها كما تحبه لا يرضى أن تكون لسواه ولو أعطي مال العالم كله ... ولم تفهم ما هو النفع الذي يرجوه من قبولها. فوقعت في حيرة وظلت ساكتة وقد بان الارتباك في عينيها فتنحنح أبو حامد فنهض والدها وخرج من الخيمة وهو يظهر أنه يريد حاجة عرضت له. فبقيت لمياء مع أبي حامد فتوجه نحوها باهتمام وقال: «أرجو أن تكوني قد فهمت مرادي.»
فرفعت بصرها إليه، وقالت: «كلا يا سيدي ... أعترف لك أني لم أفهم مرادك. وأنا أعلم أن سالما إذا كان يحبني - كما تقولون - لا يمكن أن يرضى بهذا الأمر ... أقيس ذلك على نفسي.» وأطرقت وقد توردت وجنتاها من الخجل وأخذت بإصلاح المنطقة حول خصرها كأن ثوب الصقالبة قد ضايقها؛ لأنها لم تتعوده.
فقال أبو حامد وهو يخفض صوته كأنه يسر إليها أمرا هاما: «إني أجل ذكاءك عن أن يخفى عليك مرادنا ... أم أنت الآن راضية بالقعود أسيرة كالجارية في بيت ذلك الأمير المغرور.»
قال ذلك وفي صوته لحن الاحتقار. فتذكرت لمياء ما كانت تعلمه من نقمته على المعز قبل أن تغلب عليه. ولكنها كانت تحسبه غير عزمه واقتنع بما صار لعجزه عن مناهضته. وأحست لما سمعت أسلوب تعبيره بغيرة هبت في صدرها للدفاع عن نفسها وعن المعز فقالت: «لم أكن أتوقع منك يا عماه ما سمعته فما أنا جارية ولا المعز مغرور.»
فقال: «لله أنت ما أطيب سريرك، إنهم خدعوك حتى حولوا قلبك عن والدك وأهلك وصرت تجدين الأسر عزا والذل سعادة ... أين أنفة لمياء راعية الجواد الأدهم سليلة آل مدرار أصحاب سجلماسة؟ أم غرك ما ناله أولئك من الظفر صدفة؟ إنهم غير أهل للملك والتحكم في الرقاب ... ألم تري منازلهم لا تتميز عن منازل العامة يجلس أميرهم على اللبود ويلبس كسائر الناس؟ أين أبهة الدولة التي كانت لوالدك وأجدادك؟ إن آل مدرار وحدهم أهل للسيادة وبهم وحدهم يليق الملك ... أقول ذلك وما أنا لسوء حظي منهم ولكنني أعرف منزلتهم ولا غرض لي غير الانتصار للحق، ولو كان والدك هنا لاتخذ هذه الحرية بمخاطبتك.»
الفصل الخامس عشر
التحميس
وكانت لمياء تسمع وتعجب ولم تستطع صبرا على السكوت فقالت: «أراك يا عماه قد بالغت في التقريع ولا أرى حاجة إلى ذلك ... إن المعز لدين الله لم يبلغ ما بلغ إليه من سعة الملك إلا لأنه أحق بهذا الأمر بما له من النسب الشريف؛ إنه من أبناء بنت الرسول وقد حاربنا وحاربناه ولو كان الحق في جانبنا لظفرنا به. كنت في مقدمة المحاربين المدافعين ولا أزال أحب الاستقلال، ولكنني لا أجد إليه سبيلا. وهذا أمير المؤمنين قد أكرم وفادتنا وأحسن الظن بنا وأخلصنا النية، فلا ينبغي أن نخونه.»
فضحك ثم قطع ضحكته فجأة وقال: «لم أستغرب من قولك إلا اعتقادك صحة النسب الذي يدعيه هؤلاء لأنفسهم ... أنا أعلم الناس بأنسابهم ولكن الإنسان إذا تغلب انتحل النسب الذي يريده. أما قولك إنهم تغلبوا وإن ذلك دليل على حقهم في الخلافة فهو منقوض؛ لأنهم لم ينالوا هذا الأمر ببطشهم وأنت تعلمين أن أبا عبد الله الشيعي هو الذي سلم إليهم هذا السلطان وأنصاره هم أهل هذه البلاد. ثم كافأه هؤلاء الخلفاء بالقتل ... أليس كذلك؟ وتقولين مع هذا إنهم أكرموا وفادتنا وأحسنوا الظن بنا؟ ما الذي أكرموكم به وقد سلبوكم سلطانكم واغتنموا أموالكم ونهبوا منازلكم يكفي ما أخذوه من قصرك من التحف والأثاث والرياش، أين جوادك بل أين مرآتك الذهبية التي كانت في غرفتك؟ أين حاضنتك التي كانت تعتني بلبسك وتدبير شئونك أين ماشطتك ومربيتك ألم يكن الخدم عشرات في منزلك وإذا ركبت وقفوا وإذا مشيت تطامنوا وإذا أمرت أطاعوا. وكنت الملكة الآمرة الناهية لا يسمع في القصر غير أمرك ونهيك؟ نسيت كل ذلك وأعجبك أن تكوني رهنا عند هذا الرجل وتقولين إنه أكرمك وأحسن وفادتك؟ إنهم لم يكرموا أحدا مثل إكرامهم أبا عبد الله المأسوف عليه ثم قتلوه غدرا ...» قال ذلك وغص بريقه وكاد يشرق بدموعه.
فتأثرت لمياء من خطابه وكانت تعلم غدر الفاطميين بأبي عبد الله لكن تعلقها بطهارة نسبهم كان يحببهم إليها مع اعتقادها عجز والدها عن التغلب وخصوصا بعد ما شاهدته من لطف المعز وامرأته وقائده وسائر أهل ذلك القصر. على أنها لما سمعت تذكار سابق عزها ومجدها وشرف أسرتها وفخامة ملكهم تنبهت فيها شهوة الملك ونعرة السيادة فخفت لهجتها في المقاومة وأرادت أن تباحث أبا حامد في الأمر وهي لا ترى بأسا من ذلك فقالت: «إن ما قلته صحيح لا شك فيه لكن ما الفائدة منه ونحن لا حول لنا ولا طول و...»
فقطع كلامها قائلا: «هذا شيء آخر سنبحث فيه وقد سرني أنك رجعت إلى ما هو جدير بك من المحافظة على شرف أبيك وعز الملك. أنتم آل مدرار توارثتم السيادة كابرا عن كابر. وأحرزتم الملك بحد السيف لا بالحيلة وادعاء النسب الشريف.»
فتحيرت لمياء لما سمعته من التناقض فقالت: «إذا كان الأمر كذلك فما بالكم ترغبونني في ابن ذلك القائد وهو مولى بن مولى وعنفتموني على ترددي في أمره؟!»
فابتسم وقال: «إن شعرة من رأسك تساوي ملك هذا الخليفة وكل قواده ... إن ذلك الطالب لا يساوي قلامة من ظفرك ...»
فاستغربت قوله وظنته يمزح فقالت: «لم أفهم مرادك يا سيدي.»
فقال: «مرادي؟ ألم تفهمي مرادي؟ وعهدي بك الذكاء أو لعلك تتجاهلين ... أتظنين سالما يرضى أن يحظى بك أحد من العالمين وهو حي؟»
فازدادت دهشتها وقالت: «قلت لكم ذلك فغضبتم علي، لكنني لا أزال جاهلة مرادك ...»
فضحك ونظر نحو باب الخيمة وهم كأنه يتحفز للنهوض. فالتفتت ورأت أباها داخلا ومعه رجل ملثم ملتف بعباءة لا يبدو منه إلا عيناه.
فلم تعرفه وابتدرها أبوها قائلا وهو يهش لها: «ألعلك لا تزالين على تمسكك بالرفض ومقاومة أمر الخليفة وإرادة والدك.» قال ذلك وهو يتقدم حتى جلس في مكانه والرجل الملثم واقف بجانب أحد أعمدة الخيمة كأنه متكئ عليه. فشغل خاطرها به وخافت أن يكون في الأمر دسيسة لكنها لم تستغش والدها. ولما سمعته يطرح ذلك السؤال عليها قالت: «ولكن العم أبا حامد يقول إنكم تبخلون بي حتى على الخليفة ولا تعطون شعرة مني بكل ملكه.»
فضحك ضحكة تهكم وقال: «هل قال لك ذلك؟ هل صدقته؟ لا. لا. كيف نخرج من أسر أمير المؤمنين ... كيف ننكر فضله علينا؟ إننا مدينون له بحياتنا.» قال ذلك وتنحنح ونظرت لمياء في وجهه فرأت في عينيه معنى غير الذي نطق به لسانه. والعين أصدق تعبيرا من اللسان، فعلمت أنه يتهكم ولكنها تجاهلت وقالت: «لقد حيرتموني في أمري فلا أدري من أصدق!»
ونظرت إلى والدها فرأت الغضب في عينيه وهما تكادان تقدحان شررا وشارباه يرقصان في وجهه وقد تعودت ذلك فيه إذا اشتد غضبه فتهيبت وأثر منظره فيها وتوقعت أن تسمع جوابه فرأته نهض مسرعا وهو يتعثر بحمائل سيفه وأردان جبته ومشى على البساط مشية ملك يتخطر تيها وعجبا وليس في قدميه نعال - وكان قد نزعهما بباب الفسطاط كالعادة - فالتفتت نحوه وهي تراعيه في تخطره وتنظر خلسة إلى الرجل الملثم وقد ازدادت دهشة ولبثت صامتة. ووقع نظرها على أبي حامد فرأته ينظر إليها ويشير بسبابته على شفته السفلى أن «اسكتي لنرى.»
الفصل السادس عشر
عز الملك
أما حمدون فبعد أن خطر مرتين ذهابا وإيابا وهو يلاعب شاربيه وسيفه يجر على البساط وقد انحرفت عمامته من مكانها ولم ينتبه لها من الغضب وقف بين يدي لمياء وقال: «لمياء يا لمياء إلى متى تتجاهلين ومثلك لا يحتاج إلى إيضاح هل تصدقين أن أباك أمير سجلماسة سلالة آل مدرار السادة الفاتحين يرضى بمصاهرة عبد صقلي يباع أمثاله في الأسواق بدنانير قليلة؟ هل صدقت أننا نعير طلب صاحب القيروان التفاتا. وإنما نحن وافقناه حتى يتيسر لنا ما نريده ... لا تكوني ساذجة وأنت ابنة حمدون صاحب سجلماسة قائدة الجند في ساحة الحرب. ما أسرع ما نسيت مجدنا وملكنا نحن أصحاب سجلماسة ونصاهر العبيد؟ لا يغرنك ما أتيح لهم من النصر إنها فلتة لا تستقر لهم طويلا ... لا تستقر إلا ريثما توافقينني على ما أطلبه منك فيذهب ملكهم ونسترجع ملكنا. ونخضعهم لأسيافنا.» قال ذلك وهو يرتعش من الغضب.
فتحمست لمياء وعادت إليها روح السيادة وحب الرئاسة وتأثرت مما ظهر من تحمس والدها لكنها أعملت فكرتها فلم تجد كلامه مبنيا على شيء واضح ثابت؛ لعلمها أنهم هناك كالأسرى عند المعز لدين الله وأن جند والدها وإن كثر لا يعد شيئا في جانب جند المعز وأتباعه. ولكنها انصاعت لقوله بنفوذ الوالدية؛ فإن الولد كثير التصديق لما يسمعه من والده ومعلمه ولو كان مستحيلا. ومع ذلك فهي لم تفهم حقيقة ما يريدونه من ذلك التناقض فقالت: «صدقت يا أبتاه وهل ترى وسيلة لإرجاع ما كان إلى ما كان؟ إني أبذل روحي في هذا السبيل.»
فلما سمع قولها أكب عليها وضمها إلى صدره وقبل رأسها وابتسم ابتسام من فاز بضالة كان يبحث عنها، وقال: «بورك فيك من ابنة عاقلة ... إنك جديرة أن تكوني ملكة سجلماسة والملك سيئول طبعا إليك؛ إذ ليس لي أبناء سواك.»
فأخذتها عزة الملك وشغلتها عن انعطافها إلى المعز وأهله وتذكرت ما كانت فيه من الرفعة والكلمة النافذة، وكيف كانت الرءوس تطأطئ لها واللحى ترتجف تهيبا منها. فنهضت عن تحمس ووقفت بين يدي والدها قائلة: «إنكم تخاطبونني بالألغاز والأحاجي. ما معنى هذا التناقض قل يا أبتاه ما الذي تريدونه مني؟ وقبل كل شيء أحب أن أتحقق عدولك عن الرضا بطلب المعز لدين الله.»
قال: «أما هذا فلا ... لا أعدل عنه؛ إنها فرصة لا ينبغي أن نضيعها ... إنها فرصة ثمينة لنيل مرادنا ...»
فلم تفهم قصده فقالت: «كيف تريدون أن أكون ملكة في سجلماسة وتطلبون إلي أن أتزوج أحد أتباع صاحب القيروان؟»
فقطع كلامها قائلا: «لا أعني أن تتزوجيه إن باعه أقصر من ذلك كثيرا ... كيف تتزوجينه وسالم حي؟ لو بلغ ذلك سالما ماذا يقول عنا بل ما يقول عنك وأنت راعية الجواد صاحبة السيف حامية حمى آل مدرار؟ أنا لا أعني بقبولك أن تتزوجي ذلك الرجل فعلا ... ولكننا نريد أن يكون قبولك وسيلة لاسترجاع ملكنا بكيفية سأشرحها لك، وإنما أريد أن أعلم قبل كل شيء، هل فهمت مرادي؟»
قالت: «ألم أفهمه بعد؟»
قال: «إن مرادي أن نتخلص من صاحب القيروان وقائده ... وإذا تخلصنا منهما لا يبقى في أفريقية كلها من يقف في سبيلنا ولا أن يمنع سيادتنا.»
قالت: «وكيف نتخلص منهما؟»
قال ويده على قبضة حسامه كأنه يستله: «نقتلهما.»
فأجفلت وتراجعت واستغربت هذا التصريح وهي تعرف تهور والدها واندفاعه ولم يكن يخطر لها أنه يتصور قدرته على هذا العمل ولكنها اعتقدت أنه لا يقول ذلك إلا وهو على ثقة من قدرته عليه. فالتفتت إلى أبي حامد - وكان لا يزال قاعدا الأربعاء ويداه متصالبتان وقد أطرق في الأرض كأنه يفكر باهتمام - ثم حولت نظرها إلى الرجل الملثم بجانب العمود وقالت في نفسها: من عساه أن يكون هذا الملثم الذي شهد هذا التصريح الخطر لا بد أن يكون من الأقرباء وخطر لها أن يكون سالما نفسه وحالما خطر ذلك خفق قلبها ولم تعد تستطيع صبرا عن استطلاع الحقيقة فنظرت إلى والدها - وكان قد عاد إلى التمشي - فمشت نحوه حتى قبضت على يده وقالت بصوت ضعيف: «أراك تقول ما تقوله على مسمع من هذا الملثم فمن هو؟»
قال: «ستعلمين حالا ... ولكن بعد أن توافقينني على ما قلته لك؛ إني لم أعد أستطيع صبرا على الذل ... يكلفوننا إذا دخلنا على صاحب القيروان أن نحييه تحية الإمارة وأن نؤمن على كل ما يقوله وأن ندعو له بطول البقاء وأن نقول له بأننا عبيده الطائعون. وإننا لنضرب بسيفه ونجاهد في سبيله وإنه صاحب الحق في الخلافة. وإنه من نسل فاطمة الزهراء و... و... و... إن ذلك فوق طاقة البشر. نحن أصحاب سجلماسة من أجيال متوالية وقد تأصلت السيادة في عروقنا فلا نستطيع احتمال هذا الذل فإما التغلب وإما الموت.»
فازدادت لمياء تحمسا بهذا القول وتناست كل شيء في سبيل العود إلى مجدها وعزها. وسرها فوق ذلك أنهم لا ينوون إكراهها على القبول بابن جوهر بدلا من سالم حبيبها. فاقتنعت بهذه النتيجة وفرحت لكنها لم تفهم سر ذلك التضاد إذ يريدونها أن تقبل الزواج بالحسين وهم لا يسمحون بشعرة منها له ... كيف يتفق ذلك فقالت لوالدها «إن ما تطلبه يا سيدي هو غاية مرادي ولا بد من مراقبة الفرص للحصول عليه، أما الآن فأرجو أن تطاوعني على التخلص من طلبة المعز ليطمئن بالي.»
فقطع كلامها قائلا: «لن تسنح لنا فرصة أوفق من هذه.»
قالت: «وأي فرصة تعني؟»
قال: «قبولك بما طلبه صاحب القيروان ... وقبل إتمام الزواج تذهب روحه وروح قائده وابن قائده والسلام ...» قال ذلك بعجلة ومشى مسرعا إلى مجلسه وقعد وهو يفتل شاربيه وتركها واقفة متحيرة، فأدركت بعض مراده ولحظت أنه يريد أن يتخذ العقد عليها ذريعة للفتك بالمعز وقائده وابن قائده ولا يكون ذلك إلا غيلة. فأجفلت ولكنها تجاهلت ولم تشأ أن تباحثه في التفاصيل وإنما اقتنعت أنه وافقها على التخلص من الزواج بغير سالم - وعادت إلى التفكير بذلك الملثم وهو واقف كالصنم لا يتحرك فاقتربت منه وتفرست في عينيه ولم يكن ظاهرا من وجهه سواهما وقد وقع نور المصباح عليهما فأبرقتا. ولم تتفرس فيهما قليلا حتى اختلج قلبها في صدرها وصاحت: «سالم!»
فمد يده إلى اللثام وأزاحه فإذا هو سالم بعينه. فلما بان وجهه خجلت وأطرقت وتسارعت دقات قلبها وخارت قواها على عادتها معه وغلب الحياء عليها وأخذتها البغتة؛ لأنها لم تكن تحسب سالما في تلك الديار فتراجعت وأطرقت.
الفصل السابع عشر
التحريض
وكان سالم شابا جميل الخلقة ممتلئ الجسم وكانت قد أحبته كثيرا فهي ترى فيه طبعا كل الحسنات ولا ترى في الدنيا أجمل منه، وكانت قوية الإرادة مع كل إنسان إلا معه فإنها كانت أطوع له من بنانه. فلما كشف وجهه وأطرقت قال لها: «بورك فيك يا لمياء ... كنت أعتقد أنك تحبينني ولكن ليس إلى هذا الحد. ولا فضل لك فإني أحبك مثل هذا الحب وأكثر ... ولكن حبنا لا فائدة منه إن لم نسترجع مجدنا أو بالحري مجد والدك وسلطانه ... بعد المسير على الخطة التي يرسمها لك.»
فلم تتمالك أن صاحت فيه: «وأنت أيضا تريد أن أرضى بما عرضوه علي ... عرضوا علي أن أكون لرجل سواك!» قالت ذلك وهي تتوقع منه أن ينكره ويعترض عليه فإذا هو يقول: «أريد ذلك وقتيا ... نعم أريد أن تظهري قبولك به ونحن ندبر ما يلزم في حينه.» ومشى حتى قعد بجانب عمه أبي حامد وأشار إلى لمياء أن تقعد.
أما هي فشغلها فرحها بتلك المقابلة عن كل خطر تتوقعه، ودهشة اللقاء تنسي المحبين كل شيء لاشتغال عواطفهم بالحاضر عن سواه.
ورأى أبو حامد أن الطبخة أوشكت أن تنضج فبادر إلى إتمام معداتها فتزحزح من مكانه كأنه يستعد لحديث طويل ونظر في أطراف الخيمة ولسان حاله يقول: «هل يسمعنا أحد؟» فقال حمدون: «أنت في مأمن يا أبا حامد؛ لأني أمرت الحرس بالوقوف بعيدا وأن يمنعوا أيا كان من الوصول إلينا.»
فمسح شاربيه ولحيته بأنامله ونظر إلى لمياء باهتمام، وقال لها: «قد وصلنا الآن إلى الحد يا لمياء، هذا هو سالم صاحب الشأن وقد سمعت قوله، أنا غريب عن آل مدرار وإن كنت صديقا لهم، ولكنني مستعد أن أبذل حياتي في سبيل نصرة الحق ومقاومة أولئك الخونة الذين نالوا هذه السيادة بالغدر والنفاق - كما تعلمين - فلا يغرك ما يبدونه من التقشف باللباس والأثاث؛ فإن الذهب عندهم بالقناطير وإنما يموهون على الناس ليطيعوهم ثم يفتكوا بهم كما فتكوا بأبي عبد الله الشيعي.»
وتنهد ثم عاد إلى الكلام فقال: «وهذا والدك صديقي الأمير حمدون أولى الناس بالإمارة ولا حاجة إلى دعوى كاذبة مثل دعواهم من الانتساب إلى فاطمة الزهراء وإنما يكفيكم الانتساب إلى آل مدرار وشرفهم معروف لا يختلف فيه اثنان. لا تظني هذا الفكر حديثا عندنا، ولعل والدك لم يقله لك ولكننا بحثنا فيه ونحن في سجلماسة ودبرنا المهمات اللازمة للتغلب على أفريقية كلها ففسد تدبيرنا لأسباب قهرية وأفلح ذلك الصقلي وتغلب علينا ولكن تغلبه لا ينبغي أن يضعف عزمنا عن طلب حقنا.
وقد تتوهمين أن رجالنا أضعف من أن يستطيعوا محاربة جند القيروان! إن ذلك صحيح بحسب الظاهر وقد ينخدع به غير العارف، أما أنا فأؤكد لك أن هؤلاء الأمراء والمشائخ من كتامة وصنهاجة الذين يظهرون الطاعة لهذا الرجل إنما يفعلون ذلك تملقا له، وهم يتوقعون فرصة للخروج عليه ولا بد من واحد يبدأ بهذا العمل فيتبعه سائر الأمراء وتكون السيادة له فأحب أن يكون ذلك الشرف لوالدك؛ فإنه أعرقهم حسبا ونسبا، فلا يكاد ينهض حتى ينهضوا معه، فكيف إذا دبرنا وسيلة لقتل المعز وقائده وهما روح تلك القوة الموهومة، فإن القوم كلهم يأتون معنا، حتى أهل الخليفة أنفسهم؛ لأنهم ناقمون متحاسدون ...» وتنحنح ومسح شاربيه بمنديله - تشاغل بذلك لحظة وهو ينتظر ما يبدو من لمياء.
أما هي فكانت قد غلبت عليها شهوة الشرف وحب الاستقلال، وتذكرت ما كان لها من السيادة والأبهة في زمن والدها، فغشى ذلك على احترامها للمعز وحبها لأم الأمراء. وكان أبو حامد صاحب نفوذ في حديثه وسلطان في برهانه، فأقنعها كلامه ورأت الحق في جانبه وتأثرت منه حتى شغلها عن وجود سالم هناك. لكنها ما زالت ترى صعوبة ذلك العمل فظلت ساكتة؛ لتسمع تمام الحديث وترى ما يراه سالم. وأدرك أبو حامد ما في خاطرها فقال: «إني أوجه الكلام لك يا لمياء لعلمي أنك عاقلة، وعليك المعول في هذا الأمر، فلا تغرك كثرة جند القيروان للأسباب التي قدمناها وعندنا مع ذلك جند يظهر عند الحاجة وعندنا أموال مدفونة لو أخرجناها لدهش العالم من كثرتها وهي مهيأة قبل ولادتك وولادة سالم لمقاومة هؤلاء الغادرين وإرجاع الملك إلى أصحابه وليس في أفريقية أولى به من والدك.»
فظهر لها من كلامه أمور كانت قد عرفت بعضها من أحاديثها مع سالم قبل الأسر - والمحب لا يؤتمن على سر لا يبوح إلى حبيبه فإذا شئت أن يبقى سرك مكتوما احذر أن تستودعه محبا - لكنها أظهرت أنها لم تكن عالمة بشيء من هذا القبيل إلا في تلك الساعة ونظرت إلى والدها فرأته ساكتا والتفتت إلى سالم فإذا هو ينظر إليها كأنه يتوقع أن يسمع رأيها فقالت: «إنكم تسعون في أمر هام تقطع دونه الرقاب وتزهق النفوس ولكن بذل الحياة في هذا السبيل لذيذ. إني يا عماه أبذل حياتي إذا كان في بذلها مصلحة لوالدي على أني أستميحكم عذرا في كلمة أقولها وإن كنت فتاة ضعيفة العقل ... أن ما تنهضون له من جمع كلمة القبائل تحت سلطان رجل واحد لم نسمع أنه تم لغير الخلفاء أصحاب النسب في قريش. إن الناس لا يخضعون لسواهم، حتى صاحب القيروان لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بهذا النسب سواء كان صحيحا أو غير صحيح. وبغير ذلك لا يتم شيء و ...»
فقطع أبو حامد كلامها وهو يضحك ضحك الإعجاب بتعقلها وسداد رأيها، وقال: «بورك فيك من حكيمة عاقلة؛ قد استدركت علينا أمرا لم يستدركه أحد سواك ولا ينتبه له غير العقلاء الدهاة ... صدقت، إن الأمراء لا تجتمع كلمتهم إلا باسم الدين، وهذا أمر قد دبرناه وخابرنا بشأنه خلافة أرسخ قدما وأصدق نسبا من هذه، كوني مطمئنة؛ لم يبق الآن إلا خطوة واحدة، وهي أن نتخلص من هذين الرجلين وثالثهما إذا أمكن، وهذا لا يتم إلا على يدك ... لا أطلب إليك أن تباشري ذلك بنفسك وإنما يطلب منك أن تظهري أنك رضيت بابن جوهر ونحن ندبر ما بقي ونقول ما ينبغي.»
فأطرقت هنيهة تفكر في ما رأته من الغرائب في تلك الليلة وكيف أتت وصدرها مملوء من الإعجاب بالمعز والإخلاص له ولامرأته وما لاقاها به الحسين بن جوهر في الطريق من دلائل التعفف وصدق المودة وهي الآن تكاد تؤامر على قتلهم! فأجفلت وظهر التردد في عينيها فتلقاها سالم بالحديث قائلا: «لم أكن أشك أنك لو طلب منك أن تقتلي ذلك الرجل بيدك في سبيل إرجاع سلطة والدك لفعلت، فكيف وهم إنما يطلبون سكوتك ورضاك؟ أطيعي؛ لئلا يقال إنك وقفت عثرة في طريقهم وأنا على يقين أنهم ظافرون، وسترين أن ما يبدو لك من مظاهر القوة في هؤلاء العبيديين إنما هو سحابة صيف.»
وكان لكلام سالم وقع خاص على أذني لمياء ولو خاطبها في أن ترمي نفسها في النار لفعلت. فلم تجد بدا من إظهار الرضا واعتقدت أنهم على صواب، ومع ذلك تركت الأمر للمستقبل؛ فإن الوقت يفعل ما تعجز عنه حيل الرجال، فقالت لسالم: «إنما كنت أتمنع رغبة فيك عن سواك فإذا كنت تريد ذلك فأنا فاعلة.»
فقطع كلامها بلحن الحب وقال: «لا أعني أن تقبلي إلى الآخر ... ولكن اقبلي فإذا لم أستطع قطع الحبل قبل أن يقبضوا عليه فما أنا أهل للحصول عليك، وتكونين قد حصلت على أعظم شاب عندهم .» قال ذلك وتنحنح وابتسم يظهر المداعبة وهو بالحقيقة يعني ما يقول - وهو الواقع.
الفصل الثامن عشر
الرجوع
فتصدى والدها عند ذلك وقد سره اقتناع ابنته فقال: «بورك فيك يا ابنة صاحب سجلماسة، انهضي الآن وارجعي إلى قصر المعز إذا شئت ومتى سئلت عن الرضا بالخطبة فاجعلي أنك رضيت لأن أباك وأمير المؤمنين رضيا ... فهمت؟ هل أرسل معك من يوصلك إلى المنصورة (قصر المعز)؟»
فنهضت وهي تقول: «لا أحتاج إلى أحد.»
فاعترض سالم على ذلك وقال: «كيف تذهبين وحدك في هذا الليل أنا أرافقك إلى هناك ...»
فتذكرت أنها لا تلبث عند خروجها من معسكر أبيها أن تلتقي بالحسين بن جوهر، فكيف تجمع بين المتناظرين؟ فألحت على سالم أن لا يرافقها هو ولا سواه؛ لأنها أتت وحدها وتعود وحدها وهي متنكرة بلباس خدم القصر ولا تخاف أحدا. فقال لها أبوها: «ومع ذلك لا بأس من إرسال بعض الحرس في أثرك ولو عن بعد؛ لأننا لا نعلم ما يحدث.»
فاستحلفته أن لا يفعل فسكت وقبلها وودعها وودعت سالما والعم أبا حامد - ولكل منهم وداع خاص على شكل خاص - وأصلحت هندامها وخرجت وقد اشتد الظلام والأرض خالية بين المعسكرين لا أنيس فيها. فمشت حتى خرجت من معسكر والدها فما لبثت أن رأت شبحا يقترب نحوها عرفت حالا أنه الحسين كان في انتظارها وجاء لتشييعها إلى المنصورة فأحست عند رؤيته بوخز في ضميرها واحتقرت نفسها؛ لأنها كانت منذ ساعة صادقة اللهجة شريفة النفس لا يخامر ذهنها غش أو خداع وهي الآن خادعة غاشة، وهذا الشاب ينبغي أن تظهر له أنها تريده مكرا وكذبا وأصبحت تعد نفسها كالمؤامرة على قتله وقتل والده والخليفة المعز الذي هو ساهر على سلامته يفديه بروحه.
مرت هذه التصورات في ذهنها مرور البرق والحسين يمشي نحوها. فلما اقترب منها حياها باحترام ولم يزد على أن مشى بجانبها والإمام كالخادم المولج بإيصال مولاه إلى مقصد. فأكبرت منه هذا التلطف ولم تتمالك عن أن قالت: «لقد اتعبت نفسك يا سيدي في الانتظار طويلا في هذا الليل ...»
قال وهو يماشيها على مهل: «لم أتعب نفسي يا سيدتي؛ فإن ذلك فرض علي بل هو من بواعث سروري. كيف وجدت والدك الأمير؟ عساه أن يكون في خير!» قال ذلك وهو يشير إلى ما كان يتوقعه من أن يطلعها على خبر خطبته إياها ولم يكن يشك في أنها ستفرح به وتحسب نفسها سعيدة وأدركت هي غرضه من ذلك السؤال وأثر فيها تلطفه كثيرا فقالت: «إن والدي في خير، الحمد لله» وكانت تريد أن تزيد على ذلك أنه شاكر راض وأنه مشمول برضا أمير المؤمنين فلم تشأ أن تكذب فاقتصرت على هذا الجواب المختصر. فحمل ذلك منها محمل الحياء فعمد إلى مداعبتها فقال: «يسرني أن يكون والدك مسرورا ولكن يهمني أن تكوني أنت مسرورة أيضا.»
ففهمت مراده وشعرت بصدق طويته وخلوص نيته في حبها، وكيف هي تضمر غير ما تقول، فعظم ذلك عليها وشعرت بصغر نفسها وتلجلجت. لكنها تجلدت وأجابت «وأنا أيضا مسرورة لما أراه من التفات أمير المؤمنين وأم الأمراء، إنها بالحقيقة قدوة الأميرات - حفظها الله.»
وأراد الحسين أن يغتنم تلك الفرصة لمخاطبتها صريحا بأمر الخطبة وليس هناك من يسمع، ومهما يكن من تحجب الفتيات عن طلابهن أمام الناس فإذا خلت إحداهن بخطيبها يرتفع الحجاب ويتشاكيان. ولم يجد الحسين فرصة أثمن من هذه ولا أوفق منها وهما في غفلة عن الرقباء. ولم يكن يشك أبدا أن أباها فاتحها بشأن خطبته، وأنها رضيت ولكن الحياء يمنعها من التصريح فعمد إلى تجريئها فقال: «أتشعرين يا لمياء بالسرور الذي أشعر به أنا؟» فشق عليها أن يفاتحها بالمشاكاة وأحاديث الغرام وهي فيما علمت من التردد والارتباك فقالت «لا أعلم مقدار سرورك ولا نوعه ولكنني أعلم أني مسرورة من حسن وفادة أمير المؤمنين وأم الأمراء ...» وأظهرت البغتة وهي تقول: «أظننا صرنا على مقربة من المنصورة فإني أرى أنوارها ... فأشكرك شكرا جزيلا على تنازلك يا سيدي فقد أتعبتك ...» وهمت بفراقه فقال: «لا نزال بعيدين عن تلك المدينة وإن كنت ترين أنوارها فلا تتعجلي في الفراق، إلا أن أكون قد ثقلت عليك بالحديث، ولعلي تطوحت إلى وراء ما يجوز لي ... سامحيني» قال ذلك بلحن العتاب.
فخجلت لمياء وودت لو أنها لم تقابل أباها في تلك الليلة؛ لأنها كانت تعرف ما تجيب على هذه الأسئلة بصراحة. فربما أجابت: أنها تحبه وتحترمه ولكنها مخطوبة لسواه. أما الآن فمع اعتقادها أنها كذلك فهم يطلبون منها إظهار رضاها به. وقد يهون عليها إذا سألها عن ذلك الخليفة أو أم الأمراء وأما هو فيصعب عليها الكذب عليه وهي تشعر أنه يحبها من كل قلبه، فكيف تخادعه؟ ولما سمعت عتابه غلب عليها طيب عنصرها فقالت: «العفو يا سيدي إنك تبالغ في توبيخي فهل أسأت الأدب في خطابك؟ أو كان ينبغي لي أن أعرف حدي فأقف عنده؟» فغلبته في العتاب وأحس أنه أساء إليها وجرح إحساسها بكلامه فقال: «إني لا أستحق هذا التقريع يا لمياء، وإنما أنا أحتال في سماع كلمة تدل على رضاك وكفى.»
الفصل التاسع عشر
صدفة غريبة
فلم تجد لمياء خيرا من السكوت المطلق؛ لأن الكلام يجر الكلام وهي لا تعرف ما تقول. وسكت هو تهيبا من سكوتها. وهما في تلك الحالة سمعا وقع حوافر فرس مسرع وراءهما فالتفتت فرأت فارسا قادما من معسكر أبيها ولم يقترب منها حتى علمت أنه سالم فأجفلت من ذلك الاتفاق الغريب وخافت على سالم أن ينكشف أمره؛ لأن أهل قصر المعز يعلمون أنه غائب، والمعز يحب القبض عليه، وهو لم يلحق بها إلا مبالغة في إكرامها لتثبت في وعدها وهم يبنون على ذلك الوعد العلالي والقصور، ولكنه أظهر أنه جاء ليخفرها. فلما رأى الحسين بلبس الخفر وهو يمشى في خدمتها ظنه من الحراس ولم يخطر له مطلقا أنه الحسين بن جوهر نفسه. فوقعت لمياء في حيرة لكنها تجاهلت.
أما الحسين فالتفت إلى الفارس وصاح فيه: «من أنت؟»
فقال سالم «وما يعنيك من أمري؟ سر في طريقك.»
فقال: «بل يعنيني ... قف حالا.»
وكان سالم قد وصل إلى لمياء فلم يجبه لكنه خاطب لمياء قائلا: «لمياء من هو هذا الرجل الذي تسايرينه.»
فارتبكت في أمرها وهي لا تعلم هل يريد الحسين أن يذكر اسمه أم يحب أن يبقى مكتوما. فتلجلجت في الجواب لحظة وهي تنظر إلى الحسين كأنها تنتظر أن يكون الجواب منه.
أما هو فاستغرب خطاب الرجل بهذه الدالة على لمياء مما لا يكون إلا بين الأقرباء فتبادر إلى ذهنه أنه من أقاربها الأقربين فخف غضبه إكراما لها وسألها قائلا: «من هو هذا ألعله من بعض أهلك؟»
قالت: «نعم يا سيدي إنه من أبناء عمي ويظهر أنهم رأوني ماشية مع رجل لا يعرفونه فظنوا علي بأسا فجاء أحدهم لنجدتي ...»
فوجه الحسين خطابه إلى سالم وقال: «لا تخف يا صاحبي إني صديق محب وأنا في خدمة ابنة عمك حتى أوصلها إلى مأمنها.»
فلم يرض سالم بهذا الجواب؛ لأن لمياء متنكرة بلباس الصقالبة فكيف تأتى لهذا الرجل أن يعرفها ويماشيها على انفراد؟ فسبق إلى ذهنه سوء الظن فقال: «من أنت يا صاحب ألعلك متنكر مثلها ومن أخبرك أنها فتاة وأنها لمياء؟»
فاستنكف الحسين من لهجته في خطابه وهم أن يخبره عن حقيقة حاله لكنه فضل الكتمان؛ حفظا لكرامة لمياء فقال: «أنا أيضا في خدمة قصر أمير المؤمنين وعرفت بخروجها بمهمة إلى والدها الأمير فجئت لمرافقتها في ذهابها وانتظرت عودتها وها أنا معها إلى مأمنها - كما قلت لك.»
فاستحسنت لمياء منه هذا الأسلوب وتوقعت أن ينتهي الجدال هنا؛ لكنها ما لبثت أن رأت سالما ترجل عن جواده وهو لا يزال ملثما ووقف بين لمياء والحسين وولى وجهه نحوها وقال لها: «لا حاجة إلى مماشاة الخدم إني أسير في خدمتك ... ألم أقل لك أني مزمع على إيصالك فأبيت؟»
فتجلدت وهي تخاف أن يغضب الحسين لهذه الجسارة وقالت: «لم أرض أن يأتي منكم أحد معي؛ لأني على يقين من وجود هذا الرفيق.» قالت ذلك ومشت فمشى سالم بجانبها بينها وبين الحسين وهو يقول «لماذا لم تقولي لي عنه من هناك.»
فاستثقلت ذلك الاعتراض وتحيرت في أمرها وقالت: «لم أجد حاجة إلى ذلك.»
قال: «كيف؟ إنك بنت الأمير حمدون صاحب سجلماسة لا ينبغي أن يستهان بك وأن يكون رفيقك في هذا الطريق المظلم أحد الغلمان ... قولي له أن ينصرف وأنا أسير معك.»
فارتبكت في أمرها وخافت أن يغضب الحسين ويجر الجدال إلى القتال أو إلى كشف أمر سالم. وصارت ترتعد من التأثر وهي لا تدري ماذا تعمل، فأجابه الحسين برزانة ولطف قائلا: «إن مسيرك معها لا يخلو من الخطر عليك يا سيدي؛ لأن حراس المدينة يستغشونك وربما آذوك أو قبضوا عليك.»
فضحك ضحك الاستهزاء وقال بتهكم: «لا. لا يقبضون علي. فأنت لا تعرف من أنا سر بطريقك ودعني ...» قال ذلك ومشى وهو يقود الجواد وراءه وأومأ إلى لمياء أن تتبعه فأغضبها عناد سالم ولم تعرف كيف تتخلص من هذه الورطة وهي تتوقع أن يغضب الحسين ويفتضح أمرها.
فرأته ظل ساكنا فعلمت أنه سكت إكراما لها وصيانة لشرفها؛ لئلا يقال إنهم رأوه معها في ذلك الظلام. فتراجعت وقالت لسالم: «لا حاجة بي إلى من يحرسني وخصوصا أني صرت على مقربة من السور بالله إلا رجعت وخليتني أسير وحدي.»
فلم يجبها بل ظل ماشيا، وظل الحسين واقفا مكانه لا يبدي حراكا.
ولم يمشيا يسيرا حتى سمعا دبدبة وقرقعة وإذا بكوكبة من الفرسان خارجين من السور مسرعين نحوهما فقالت: «لماذا فعلت بنا هذا يا سالم؟ إنني أخاف عليك ... لأن الأوامر شديدة في القبض على من كان يرونه خارج السور وأنت تعلم أن القوم يطلبونك فلا أحب أن نفتح بابا للقيل والقال. عزمت عليك ألا رجعت من هنا ... اركب جوادك إلى معسكر والدي ...»
فعظم عليه قولها واستخف بإنذارها وقال: «إنهم لن يدركوا مني وطرا.»
قالت: «ولكنهم ربما آذوني بسببك ... بالله ارجع ... ارجع ... رباه ما هذا العناد!»
الفصل العشرون
الشهامة
والتفتت نحو الحسين فلم تره فظنت الظلام حجبه لبعده فوقفت وأعادت التوسل إلى سالم أن يرجع فأبى خجلا من نفسه أن يفر. فازدادت حيرتها وقد دهمها الوقت؛ لأن الفرسان - وهم عشرة - أصبحوا على مقربة منها. وتقدم واحد منهم وصوب سنان رمحه نحوهما، وقال: «من أنتم .»
فتصدت لمياء لهم وقالت: «إني رسول أمير المؤمنين - كما تعلمون.»
فقال: «ومن هذا» وأشار إلى سالم.
فقالت: «أحد فرسان الأمير حمدون جاء لمرافقتي في هذا الطريق.»
قال: «قد ذهبت بالرسالة بلا حارس ... وكيف يحتاج غلام أمير المؤمنين إلى من يحرسه في بلده ... وقد يكون هذا الرفيق جاسوسا فلا بد من القبض عليه.» قال ذلك وأشار إلى رفاقه الفرسان فأحاطوا بسالم وقد صوبوا الأسنة نحوه وأمروه أن يمشي أمامهم. وتقدم اثنان ليأخذا الفرس منه.
أما سالم فانتتر منهما وصاح «اخسئوا. لا يقترب مني أحد إلا أرديته.»
وهم أن يستل سيفه. فصاح فيه مقدمهم وقال: «لا تتعب نفسك بالمحال إنك في قبضتنا، ولا نريد بك سوءا وإنما نطلب إليك أن تدخل معنا وتمكث عندنا إلى الصباح فنعرضك على القائد جوهر فإذا أمر بإطلاقك أطلقناك وليس لك وجه آخر.»
فوقع الرعب في قلبه وندم؛ لأنه لم يصغ لنصيحة لمياء ورفيقها ولكنه أكبر الرضوخ وهو يخاف أن يكون في القبض عليه خطر على حياته، فوقع في حيرة. والتفت إلى لمياء لفتة استغاثة فتقدمت نحو الفارس وقالت: «ألا تعرفني أيها الفارس؟ أنا أضمن ما تريدونه. احبسوني مكانه إلى الغد وقدموني إلى القائد. وأنا المسئول لديه عن هذا الفارس.»
فقال: «قد كان ذلك ميسورا لولا ما أبداه من الوقاحة وهو ملثم ويظهر من كلامه أنه من أهل سجلماسة فلا بد من القبض عليه.» قال ذلك وأشار إلى سالم إشارة التهديد أن يمشي أمامهم.
فقال: «لا أمشي ...»
فترجل بضعة منهم وهموا أن يوثقوه ولمياء تتقدم إليهم أن يتركوه، ولعلها لو كانت على جوادها ومعها سلاحها لم تبال بهم. ولكنها كانت راغبة في التستر ولعنت الساعة التي جاء بها سالم.
وهي في ذلك وعيناها نحو الجهة التي تركت الحسين فيها وإذا بشبح يتقدم من تلك الجهة نحوها مسرعا. فعرفت أنه الحسين فلبثت صامتة لترى ما يكون وخافت أن يتعمد البحث عن سالم ويكشف وجهه. لكنها رأته حالما وصل إلى المكان صاح في الفرسان قائلا: «خلوا هذا الفارس؛ فإنه من الأصدقاء.»
فأجفلوا والتفتوا إليه وقالوا: «ومن أنت؟»
فتقدم خطوة أخرى حتى صار بينهم وقال: «اتركوه أنا أعرفه.»
فلما دنا منهم عرفوه من صوته فتلملموا وتأدبوا وتراجعوا وتقدم رئيسهم وتفرس في وجه الحسين وهو ملثم فلم يعرفه وإن كان قد عرف صوته. فلما رآه الحسين يتفرس فيه أزاح اللثام عن وجهه وقال: «اتركوه.»
فصاحوا جميعا: «مولانا الحسين بن القائد جوهر! أنت هنا يا مولانا؟» وابتعدوا عن سالم ورئيسهم يخاطبه قائلا: «أرجو المعذرة يا سيدي لم أكن أعرف أن ابن قائدنا الأكبر يعرفك.» وأكب على يد الحسين يريد تقبيلها وهو يقول: «العفو أننا تجاسرنا ...»
فقطع الحسين كلامه قائلا: «لا حاجة إلى الاعتذار فقد فعلتم ما عليكم، وستنالون الجوائز على سهركم. ولكنني أتفق أني أعرف هذا الفارس، وهو من الأصدقاء فأطلقوا سراحه.» واقترب من سالم وهمس في أذنه وقال: «ألم أقل لك إني أخاف عليك من حرس المدينة؟ لأنهم لا يعرفونك ... ولا أنا أعرفك ولكنني صدقت شهادة هذا الرسول ... سر بحراسة الله.» ومد إليه يده ليصافحه مصافحة الصديق.
الفصل الحادي والعشرون
الفشل
فمد سالم يده وقد غلب على أمره وأخذ الخجل منه مأخذا عظيما. واستغرب تلك المقابلة وكيف التقى بالرجل الذي كانوا يتحدثون عنه ويدبرون المكيدة له وخامرته الغيرة من الجهة الأخرى ولم يفهم سببا لوجود الحسين مع لمياء غير تواطؤهما على ذلك. وكيف يتواطآن على الاجتماع سرا في ذلك الليل هناك وهي تزعم أنها لا تريده خطيبا لها. فدارت الهواجس في رأسه لكنه لم يستطع غير إظهار الامتنان من محاسنة الحسين وكبر نفسه؛ وخصوصا؛ لأنه لم يسأله عن اسمه ولا طلب منه أن يكشف وجهه فودعه ورجع ولم يصدق أنه نجا قبل انكشاف أمره.
وأشار الحسين إلى الفرسان فرجعوا إلى السور وتقدم إلى لمياء وقال لها: «أفلت صاحبنا بلثامه وهو يعتقد أنني لم أعرفه. وإنما أطلقته إكراما لك وحرصا على كرامتك.»
فأجفلت من قوله وأرادت أن تغالطه فابتدرها قائلا: «أليس هذا سالما طلبة أمير المؤمنين إنهم يبحثون عنه ولو علم والدي بوجوده لبعث الجيوش للقبض عليه ولكنني رأيت فيك ميلا إلى كتمان أمره فأطعتك وأخليت سبيله رغم ما أبداه من الوقاحة، لا يخامرك شك في أني عرفته، وكيف أجهله وقد رأيته في حربنا مع والدك وتبارزنا في سجلماسة وفر مني؟ وها قد نجا الآن من أجلك، ولكنني أتقدم إليك أن تكتمي أمره وأحب أن لا يطلع أحد على ما جرى.»
فنظرت إليه نظر إعجاب وامتنان وقالت: «لقد غمرتني بفضلك يا سيدي وأشكرك على مروءتك وكرم أخلاقك ... إنها أخلاق كبار القواد. وقد عرفت ذلك لك.»
فمد يده نحوها وهو يقول: «إنها أخلاق المحبين ... أتأذنين لي أن أصافحك وأودعك.»
فلم تستطع الرفض بعد أن غمرها بفضله مع ما أبداه من الأريحية وسعة الصدر وكبر النفس رغم ما كان من عجرفة سالم وخشونته فاحتمل منه الإهانة وصفح عنه وأنقذه من الموت وهو مع ذلك يطلب من لمياء كتمان ذلك حرصا على كرامتها وكرامة رفيقها. فمدت يدها نحوه وهي لا تبدي غير الاحترام ولكنها شعرت عند المصافحة شعورا جديدا تمشى في مفاصلها. فأسرعت في جذب يدها منه وأظهرت أنه قد آن وقت انصرافها وأشارت برأسها إشارة الوداع وتحولت نحو المنصورية.
فودعها هو بقوله: «بحراسة الله يا لمياء!»
فارقته ومشت وهي تائهة الأفكار من هول ما شاهدته. وقد قدرت مروءة الحسين حق قدرها وأحست نحوه بشيء غير الإعجاب والامتنان.
أحست بميل وانعطاف لم تشعر بهما من قبل لكنها غالطت نفسها وكذبت عواطفها؛ لأنها لا تريد أن يكون في قلبها محل لغير سالم حبيبها الأول.
دخلت باب السور فوسع لها الحراس لاعتقادهم أنها غلام صقلبي من غلمان القصر يحمل رسالة إلى أمير المؤمنين. وما زالت حتى دخلت القصر وسارت توا إلى غرفتها وقد انقضى معظم الليل. فدخلت الغرفة وأقفلت الباب وراءها كأنها تفر من شبح يطاردها. فلما خلت بنفسها لم تشأ أن تنير المصباح مبالغة في الانزواء والتستر - ولا باعث على التستر وهي في مأمن ولكن هواجسها حدثتها بذلك.
وجدت نفسها تحاول عبثا؛ لأنها تريد الفرار من شعور في داخلها لا يحجبه الظلام ولا تمنعه الأقفال، بل رأت الظلام يضاعف هواجسها ويجسم خوفها؛ لأنها لم تكد تقعد على الفراش حتى تصور لها سالم بأقبح الصور، رأته دنيئا غادرا خائنا وقحا جبانا ورأت الحسين شهما فاضلا واسع الصدر كبير النفس، فاقشعر بدنها وتوهمت أنها ارتكبت ذنبا بذلك التصور؛ لأن سالما حبيبها الأول وقد أحبته وتركت كل شيء لأجله وعرضت نفسها لغضب أبيها والخليفة حبا به فكيف ترى فيه تلك الخسة حتى يحملها على التواطؤ معه لقتل أعظم الناس قدرا وأفضلهم نسبا ومروءة؟ وتذكرت كيف رجع سالم في تلك الليلة مرذولا بعد أن عرف أن خصمه هو الحسين بن جوهر، وبماذا عساه أن يعلل وجودها مع الحسين في ذلك الليل هناك؟ وراجعت ما دار بينها وبين والدها وأبى حامد من الحديث، فأظلم قلبها وودت لو أنها لم تذهب في تلك المهمة.
ولكنها صبرت نفسها إلى الغد؛ لترى ما يكون، وأخذت في تبديل ثيابها طلبا للرقاد ... وكيف تنام وهي في تلك الحال وقد تراكمت عليها الهواجس وأحست بصدمة عنيفة زعزعت أوتار قلبها وشوشت أفكارها. وأصبحت لا تجد راحة إلا في النوم لعلها إذا أفاقت في الصباح وجدت ما مر بها حلما مزعجا، وكثيرا ما يقضي الإنسان أمثال هذه الاضطرابات في نومه وتظهر له في الصباح أضغاث أحلام. فتوسدت الفراش وتغطت إلى فوق رأسها وقضت تلك الليلة في أشد الاضطراب والقلق.
أما سالم فلما انفرد بعد رجوعه أحس بصغر نفسه وعظم عليه ما أصابه من الفشل بين يدي خطيبته وخصوصا مع مناظره عليها - وكان منذ ساعة يحرضها على احتقاره واحتقار والده وخليفته - وزعم أنه قاتلهم على أهون سبيل ليعيد الملك إلى والدها فتصير هي الملكة ... وغير ذلك مما دار بينها وبينهم في تلك الليلة غير ما أظهرته هي من التفاني في حبه والثقة ببسالته.
كل هذه الهواجس خطرت له وهو عائد على جواده يمشي الهويناء ويتوهم - لفرط خجله - أن الحسين يتبعه، وأخذ يفكر في ما دار بينهما في ذلك الموقف ويزن أقواله ليرى هل فرط بكرامته وهل له عذر مقبول بذلك الرجوع البارد؟ وأخذ يئول ما قاله أو ما سمعه وينتحل الأعذار ويهيئ الأسباب ويقدر العواقب لو أنه ظل على جسارته. فاقتنع أنه أحسن بالرجوع محافظة على كرامة لمياء وأنه لو تمسك بقوله وأراد تخليصها من أيدي أولئك القوم لانفضح أمرها وهي قد تقدمت إليه أن يقتصر ويعود.
فارتاح عند هذا العذر السفسطي - وكذلك الإنسان قد يصدق المحال تبريرا لعمله وردا لكرامته وحفظا لمنزلته عند نفسه.
ولما اطمأن خاطره من هذه الوجهة عاد إلى التفكير في سبب تلك العلاقة بينها وبين الحسين حتى يصطحبها في ذلك الليل على موعد وتواطؤ. فلما تصور ذلك اقشعر بدنه وهبت الغيرة في بدنه. والغيور سيئ الظن ويتعاظم سوء ظنه كلما تعاظم حبه - قد يرى بعض الرجال رجلا يخاطب امرأة في ريبة فيغار منه وتحدثه نفسه أن يعترضه، وقد يسيء الظن به لكنه لا يلبث أن يلتمس عذرا ويحسن الظن. أما إذا كان الخطاب مع فتاة يحبها فإنه يبني العلالي والقصور على ما رآه أو سمعه ويتعاظم سوء ظنه كثيرا ولا يقبل عذرا.
وكان سالم يحب لمياء ويعجب ببسالتها وجمالها ويرتاح إلى الاقتران بها، ولكنه لم يكن يعشقها كما كانت تعشقه هي، وإنما صمم على خطبتها لغرض سياسي سيظهر بعد قليل.
الفصل الثاني والعشرون
الحقيقة
دخل سالم معسكر حمدون وتجاوز فسطاطه وهو لا يشعر، وكان في عزمه أن يعود إلى ذلك الفسطاط ليقص ما رآه على أبيها، فما شعر إلا وهو بباب خيمة عمه أبي حامد فأراد أن يثني عنان جواده نحو فسطاط حمدون وإذا بأبي حامد قد خرج من تلك الخيمة وأشار إليه أن يدخل فترجل ودخل. فرأى أبا حامد وحده هناك وقد أحمرت عيناه وبان الاهتمام في وجهه. وكان قد تعود أن يرى ذلك فيه إذا طال التفكير في أمر عظيم.
فلما دخل ابتدره أبو حامد قائلا: «قد وصلنا يا سالم إلى الغرض المطلوب اقعد.» وأشار إلى وسادة على البساط فقعد وقعد أبو حامد إلى جانبه وهو يقول له: «أين كنت؟»
قال: «ذهبت لأشيع لمياء إلى المنصورية وليتني لم أذهب.»
فقال: «ولماذا؟»
فقص عليه ما جرى من حيث وجود الحسين هناك وكيف كان في انتظار لمياء وقد رافقها على غير كلفة ولم يذكر فشله.
فقال أبو حامد «وهل ساءك ذلك؟»
قال: «كيف لا؟ وقد كنا منذ ساعة نتحدث في إقناعها أن تقبل به وهي تظهر أنها لا تريده، فكيف تكون على موعد منه وترافقه في هذا الليل؟»
فضحك ضحكة اغتصابية لا تلتئم مع ما كان فيه من الاهتمام، وقال: يظهر أنك لا تزال تهتم بهذه الصغائر ... هل يحول ذلك الاجتماع دون غرضنا الذي أوقفنا حياتنا من أجله؟ كلا بل هو يهونه علينا، وخفض صوته وقال: «أم نسيت الغرض الأصلي من علاقتنا مع هذا الأمير المغرور؟»
فسكت سالم وأطرق كأنه يفكر في حديث دار بينه وبين أبي حامد من عهد بعيد.
فقال أبو حامد: «لا أنكر أن لمياء فتاة شجاعة وجميلة، وهي تجلك ولكن هل خطبناها؛ لأننا لم نجد بين نساء هذه القبائل من يليق بك؟ إنك ستجد خيرا منها ولا سيما بعد أن ننال بغيتنا ونتخلص من أولئك الخائنين ... كن رجلا واعمل عمل الرجال وانظر إلى الغاية التي نحن سائرون إليها. يكفي أننا أقنعنا هذه الفتاة أن تمهد لنا السبيل لقتل ذلك الرجل وقائده، فإذا قتلناهما لا يبقى لهذا الغلام حظ من الحياة فتكون لمياء لك عند ذلك.» وسكت وهو يتلفت يمينا وشمالا كأنه يحاذر أن يسمعه أحد، وقال: «ألا تعلم متى تزوجت لمياء بعد ذلك كنت أنت صاحب القيروان؟»
وكان لأبي حامد سلطة عظيمة على أفكار سالم، فإذا قال قولا صدقه - ولو كان مستحيلا - لكنه أحب الاستفهام فقال: «وكيف ذلك؟»
قال: «ما هو الغرض الذي أوقفت حياتي من أجله؟»
قال: «هو الأخذ بثأر أبي عبد الله، المقتول ظلما.»
قال: «وهل نكون قد أخذنا بالثأر إن لم نخرج هذا السلطان من أيدي هؤلاء الخونة؟»
قال: «أنت أعلم.»
قال: «أنا أقول لك إن عظام أبي عبد الله - رحمة الله عليه - تنادينا من ظلمة القبر أن نأخذ بثأره ونخرج الملك من أيدي هؤلاء الخائنين، وأنت تعلم أننا كنا ندبر ذلك قبل أن يؤخذ صاحب سجلماسة أسيرا. وكنت أحسبه رجلا يعول عليه في العظائم فإذا هو ثرثار مغرور بنفسه يقول ما لا يفعل، وليس هو أهلا لغير الادعاء الفارغ ولا يغرك ما سمعته من إطرائي أجداده ومبالغتي في مدحه ... لو كان رجلا لما صار إلى الأسر واضطر إلى طاعة هذا الرجل. وإنما أنا أداجيه لنستخدم ابنته في تمهيد السبيل لقتل المعز وقائده فنجعله صاحب القيروان، وإذا تزوجت أنت بابنته وهو ليس له ذكر يرثه صارت الإمارة إليك أو نجعلها إليك قبل موته بما أعددناه من الأحزاب والأموال وسائر المعدات ... وعند ذلك نكون قد انتقمنا لذلك المقتول.»
ورغم ما غرس في ذهن سالم من مقدرة أبي حامد العجيبة لم يفته ما يحول دون الوصول إلى تلك الغاية من العقبات، فقال: «اسمح لي يا سيدي أن أستفهم عن أمر ...»
فقطع كلامه وقال: «لا تخف يا سالم؛ إني لا أخطو خطوة قبل أن أقدر ما وراءها، إنك تقول في نفسك كيف تنتهي مهمتنا بقتل ذينك الرجلين وهذه قبائل البربر من كتامة وصنهاجة وهوارة كلها من أنصارهما - وهم يعدون بمئات الألوف - ونحن ليس عندنا غير رجال صاحب سجلماسة ... إن تلك القبائل يا ولدي لم تذعن للمعز إلا لتخاذل أمرائها وتفرق كلمتهم مع اعتقادهم صحة انتسابه إلى الإمام علي، وهذا على تدبيره. ألا يكفيك أني عالم بهذا الاعتراض؟ أم أنك تخاف أن أسيء التدبير ولا أحسن الحيلة؟ ألا يكفي هؤلاء الأمراء من هذه الغنيمة أن يعود كل منهم أميرا مستقلا بحكومته، وأن من يفوز بقتل صاحب القيروان يكون له الحق بامتلاكها؟ وهي ستكون حصة صاحب سجلماسة. وهل تظن أهل القيروان يرمون نبلا علينا بعد قتل خليفتهم؟ إن رجال سجلماسة معنا، وهم أشداء قادرون على أخذ القيروان وإن لم يساعدهم أحد من سائر القبائل، فكيف إذا ساعدوهم؟»
فازداد إعجاب سالم بدهاء عمه، وقال : «لله درك من ملك قادر ... إنك - والله - أولى بهذا الأمر مني ومن سواي.»
فأسرع أبو حامد فوضع كفه على فم سالم يريد إسكاته عنوة وقال: «لا تقل ذلك إن هذا الملك مقدر لك هذه وصية إمامنا المرحوم وكفى.»
قال ذلك ونهض وهو ممسك بيد سالم لينهض معه، فنهض وقد تهيب وود لو يستزيده بيانا؛ لأنه مع طول صحبته لم يسمع منه التصريح بالوصاية، وأما أبو حامد فقال وهو يصلح عمامته: «لا حاجة بي إن أوصيك بالكتمان، حتى الحديث الذي ذكرته عن لمياء والحسين أخفه واجعل أنك لم تر شيئا» ثم سكت وبان الاهتمام في وجهه وقال: «أما أنت فلا ينبغي أن تبقى هنا بعد هذه المقابلة لا بد من سفرك إلى مصر في صباح الغد باكرا لمهمة مثل التي أتيت منها بالأمس ... فتقابل ذلك العبد الأسود أميرها (كافور) وتعقد معه عهدا على هؤلاء الفاطميين؛ فإنه يخافهم - كما تعلم - وسيكون عونا لنا في تأييد دولتنا مع صاحب بغداد ... إذ لا بد من خلافة ثابتة تتأيد بها دعوتنا. أظنك فهمت مرادي. ولا ينبغي أن يعلم حمدون بهذه المساعي ولا غيرها ... فهمت؟»
فأشار بعينيه أنه فهم، وهم بالخروج فاستوقفه وقال: «لابد من سفرك في الصباح خلسة فإني أخاف من دسيسة عليك ...»
قال: «سأسافر.»
ثم وقف أبو حامد فجأة وقد تذكر أمرا هاما ونظر في عيني سالم.
وحدق فيهما طويلا كأنه يستطلع ما يجول في خاطره. فأطرق سالم تهيبا فقال أبو حامد: «أخاف أن تكون قد بحت لأحد بما أعددناه في فج الأخيار هناك. هناك في فج الأخيار قوتنا التي سيتم لنا بها الأمر فتنشئ دولة تخفق أعلامها على ضفاف النيل وضفاف الفرات.»
فلما سمع قوله اختلج قلبه في صدره؛ لعلمه أنه لم يحافظ على ذلك السر لكنه أسرع إلى طمأنته بأنه يستحيل أن يبوح بذلك السر، فهز رأسه وقال: «كيف أبوح به وعليه معولنا؟ كن مطمئنا.»
فصدقه وقال: «فاذهب إلى فراشك ... ولا تثق بأحد سواي.»
فهم بتقبيل يده، وخرج وظل أبو حامد وحده وقد أصبح بعد هذا الحديث كالجمل الهائج. وازداد احمرار عينيه حتى صارتا مثل عيني المحموم من شدة ما هاج في خاطره من البواعث. فلما خلا بنفسه جعل يخطر بالغرفة ذهابا وإيابا وهو يقضم أطراف شاربيه بأسنانه. وقد جعل يديه متصالبتين وراء ظهره وأخذ يناجي نفسه قائلا رحمك الله يا أبا عبد الله ... قد آن لي أن أنتقم لك من هؤلاء الغادرين ... فج الأخيار ... فج الأخيار في جبل إيكجان ... هناك دار الهجرة التي جعلها أبو عبد الله هجرة للأحزاب التي نصر بها العبيديين ... هي الآن هجرتنا وفيها الأموال التي ضربها أبو عبد الله عند أول الفتح ... هناك قوتنا ... وضحك ضحكة ظافر وقال: «أحب أن يبعث أبو عبد الله ويرى نجاحنا ... ولكن ...» وسكت وبلغ ريقه وأخذ في تبديل ثيابه للرقاد.
الفصل الثالث والعشرون
الضمير
أما لمياء فإنها قضت تلك الليلة وهي تتقلب كأنها على فراش من شوك القتاد ولم يغمض جفنها إلا في الفجر فنامت وتوالت عليها الأحلام المزعجة، واستغرقت في النوم من شدة التعب حتى صار الضحى فأفاقت على قرع الباب فاستيقظت مذعورة وتحركت عيناها وتذكرت حالها أمس فأسفت أنه لم يكن حلما. وبادرت إلى الباب ففتحته فرأت حاضنة أم الأمراء وحالما وقع بصرها عليها قالت: «كيف أم الأمراء عساها في خير!»
قالت: «قد استبطأتك فأرسلتني في السؤال عنك.»
فأحست بوخز ضميرها من ذلك التلطف؛ لعلمها بما دبروه لزوجها من المكائد لكنها تجلدت وقالت: «كان ينبغي لي أن أسرع إليها باكرا لكنني استغرقت في النوم.»
قالت: «لا بأس يا سيدتي فأنا ذاهبة لأطمئنها عنك.»
قالت: «وقولي لها إني مسرعة لتقبيل يدها حالا.»
فعادت الحاضنة وعمدت لمياء إلى تبديل ثيابها وخرجت تطلب غرفة أم الأمراء ولحظت وهي سائرة في الدهليز أن أهل القصر في حركة غير اعتيادية كأنهم يتأهبون لاحتفال. ثم علمت أنهم يتأهبون لصوم رمضان فتذكرت أنهم دخلوا في شهر رمضان وقد أصبحوا في ذلك اليوم صائمين.
وصلت غرفة أم الأمراء فرأتها جالسة على مقعد. وحالما دخلت لمياء نهضت لها وهي تبتسم كأنها تستقبل بعض أولادها فلم تتمالك لمياء من فرط امتنانها لذلك التلطف أن أكبت على يدها تقبلها وقد سبقتها العبرات.
فاستغربت أم الأمراء بكاءها لكنها ظنتها تبكي لأمر يتعلق بخطبتها للحسين، وهي إنما تبكي أسفا لما فرط منها في حق الخليفة من المؤامرة. فضمتها أم الأمراء إلى صدرها وقالت: «ما بالك تبكين يا بنية؟»
فأغرقت في البكاء وغلبت على أمرها حتى لم تعد تستطيع إمساك نفسها. فجعلت تخفف عنها وقالت لها: «أرجو أنك لم تنجحي في مهمتك؟» وهي تشير بهذه المداعبة إلى رغبتها في زفافها إلى الحسين.
فتماسكت وتجلدت وقالت وهي تمسح عينيها: «نعم يا سيدتي إني لم أنجح والظاهر أن الله قد أراد ما أراده أمير المؤمنين.»
فبان السرور في وجه أم الأمراء وأجلست لمياء إلى جانبها وقالت: «ألذلك تبكين يا لمياء؟ لا ينبغي أن تحزني وسوف تتحققين أنك أحرزت نصيبا حسنا. وأحمد الله؛ لأنه قدر لك أن تكوني زوجة لهذا الشاب النادر المثال. وبرهانا على سروري بذلك فإني سأجعل لك مهرا لم تنله فتاة من أهل القيروان؛ لأنك عزيزة علينا. ومتى علمت أني سأقوم بتأدية مهرك يطمئن خاطرك أنه سيكون مهرا يليق بك ... وسأجعل أمير المؤمنين يهبك قصرا من قصوره الفخمة أفرشه أحسن فرش وأملأه بالتحف والجواري بحيث يجعلك تنسي ذلك الرجل الذي كاد يسبقنا إلى نيلك.»
فلم يزدها هذا الكلام إلا غيظا من نفسها وندما على ما فرط منها، ولكنها تجلدت وقالت: «أشكرك يا سيدتي على هذه النعم إني لا أستحق شيئا من ذلك.» وهي تعني حقيقة ما تقوله. ولكن أم الأمراء حملت قولها محمل التواضع فقالت: «بل أنت أهل لأكثر منه ولكن لا بد من الانتظار إلى انقضاء رمضان؛ لأننا دخلنا في هذا الشهر المبارك من صباح اليوم وأظن أمير المؤمنين يؤجل الزفاف إلى عيد الفطر أو ما بعده وسننتظر في ذلك.»
فسرها أن يطول أجل الاقتران لعلها تتمكن في أثنائه من تدبير طريقة للتخلص من هذه الورطة. فبان الارتياح في محياها وقالت: «إني أمتك ولساني قاصر عن أداء حق شكرك جزاك الله خيرا.»
فقالت: «إنما يهمني يا لمياء أن تكوني مسرورة وأحب أن يكون قرانك بالحسين سعيدا لأفرح أنا أيضا. وقد أخذت أشعر منذ الآن أنك صرت من أهلنا وأصبح والدك يفضل سائر أمرائنا بحقوق القربى من قائدنا. وأنت تعلمين منزلة جوهر من نفس أمير المؤمنين، فإنه يفضله على كثيرين من آله وذوي قرابته. وسترين في هذا المساء متى جلسوا للإفطار عند الغروب كيف يجلسه بجانبه ويقربه إليه دون سائر العبيديين. ولا ريب أنه سيقرب الأمير حمدون والدك أيضا إكراما لك.»
فلم تعد لمياء تستطيع سماع هذا الإطراء وودت لو أنها تسمع عكسه عسى أن يخف بعض ما بها من وخز الضمير. فأحبت تغيير الموضوع فقالت: «سندخل الليلة في شهر رمضان جعله الله شهرا مباركا عليك وزادك من نعمه ومتعك بأبنائك. ما هي العادة في تناول الإفطار عندكم؟»
قالت: «إن لأمير المؤمنين عناية خصوصية في هذا الشهر. يأمر أصحاب المطابخ بإعداد طعام الإفطار لأهل القصر فتمد الأسمطة للخليفة وأهله وقواده وأمرائه وسائر رجال حكومته حسب درجاتهم فيأكلون معا وتمد الموائد أيضا للنساء من أهل هذا القصر فأتولى أنا تدبيره على أيدي الجواري. وستكونين أنت في من يفطر معي وسأجعل مجلسك بالقرب مني؛ لأستأنس بك. وكذلك نفعل في طعام السحور أحيانا وأما أنت فستكونين معي كل هذا الشهر في السحور والفطور. وسأريك في ساعة الغروب كيف تمد الأسمطة وكيف يجلس الخليفة والأمراء عليها وسترين والدك معهم.»
فشكرت لها فضلها وأحبت الاستئذان في الذهاب إلى غرفتها فرارا من ذلك الحديث ولكي تريح دماغها؛ لأنها أحست بألم في رأسها بسبب ما قاسته أمس من الانزعاج. وزادها حديث أم الأمراء انزعاجا فأظهرت التعب ولم تكن تحتاج في إظهاره إلى تكلف؛ لأنه كان باديا في وجهها وقالت: «ألا تأذن مولاتي في انصرافي فقد شغلتها عن شئونها وأنا أحس بحاجة إلى الراحة.»
قالت: «إني أقرأ ذلك في عينيك وهو طبيعي في مثل هذه الحالة ولكنني أرجو أن تنسي ذلك بعد قليل ...» وصفقت فجاءت حاضنتها فقالت: «أحب أن تكون عزيزتي لمياء في غرفة قريبة من غرفتي. قولي لقيمة القصر أن تهيئ لها الغرفة بما تحتاج إليه؛ فإنها ذاهبة بعد قليل للراحة فيها.»
فأشارت مطيعة، وخرجت ولم تفرح لمياء بهذا الإكرام؛ لأنها كانت تود البقاء بعيدة على انفراد خوفا من أن يظهر شيء منها على حين غفلة فيفضح أمرها. لكنها لم تجد بدا من الثناء على ذلك الإنعام. وبعد قليل جاءت الحاضنة وقالت: «إن الغرفة مهيأة.»
فنهضت لمياء وودعت. فقالت لها أم الأمراء: «سنلتقي هنا قبل الغروب.» فأومأت لمياء مطيعة ومشت إلى غرفتها الجديدة وهي تعرف طريقها إليها، لكنها لا تدري ماذا تعمل. فلما وصلت الغرفة رأتها أحسن أثاثا وفرشا من تلك. وفيها مرآة جميلة من الفضة الصقيلة مستديرة الشكل. وهناك منضدة عليها المكحلة والمشط والسواك وسائر ما تحتاج إليه المرأة في إصلاح شأنها.
وسريرها من الأبنوس وهو مع بساطته ثمين وكل ما في الغرفة ثمين وبسيط، على أنها لم تنتبه إلى شيء؛ لفرط قلقها، وما صدقت أنها دخلت الغرفة حتى أغلقت بابها وتوسدت الفراش واستغرقت في الأفكار. وقد سرها تأجيل الزفاف شهرا كاملا؛ إذ يكون لها فرصة للتفكير والتدبير. وأخذت تفكر في استنباط طريقة تريح بها ضميرها، فتبقى هذه النعمة لها وتعرف حق المعز وامرأته وفضلهما عليها فلا تخونهما، ومع ذلك تريد أن تحفظ كرامة والدها.
وأما سالم فحالما تصور لها خفق قلبها لما تذكرته من أمره في أمس وكيف عاد خائبا وما أظهره الحسين من المروءة وكبر النفس في شأنه وأحست بانعطاف نحو الحسين، فكذبت نفسها وأخذت في تحويل فكرها عنه وصورته لا تغيب عن مخيلتها كما رأته في آخر لحظة وهو يودعها ويوصيها بكتمان ما جرى لسالم. وقدرت تلك الأريحية حق قدرها وجعلت تقنع نفسها أن ما تحس به من الانعطاف نحوه إنما هو من قبيل الامتنان؛ لأنها لم تكن تريد بدلا من سالم وهو أول من طرق حبه قلبها وهي صغيرة، تسرب حبه إليها تدريجا؛ لأنهما تعارفا منذ الصغر فلم يأتها الحب دفعة كما أصابها هذه المرة. ولذلك لم تقتنع أن شعورها نحو الحسين من قبيل الحب الذي لا يلبث أن يتمكن. وخصوصا أنها أصبحت تنتظر ساعة الإفطار بفارغ الصبر لكي تراه جالسا على السماط في جملة الجالسين - كما قالت لها أم الأمراء.
الفصل الرابع والعشرون
إفطار رمضان
على أن التعب غلب عليها فنامت واستغرقت في النوم. وما أفاقت إلا على أصوات المؤذنين في العصر فنهضت وأصلحت من شأنها ونظرت إلى وجهها في المرآة فإذا هي قد امتقع لونها قليلا وذبلت عيناها. فأحبت أن تتشاغل عن تلك الهواجس فخرجت لملاقاة أم الأمراء فرأتها في انتظارها فهشت وسألتها عن صحتها. فقالت إنها في خير فأشارت إليها أن تتبعها لتطلعها على ما يعدونه من أسمطة الإفطار. فمشت معها حتى دخلتا روشنا يشرف على ساحة بعيدة الأطراف في جانب الحديقة قد نصب فيها سرادق كبير وأخذ الخدم في مد الأسمطة والموائد. فأشارت إليها أم الأمراء فقعدت على مقعد أمامه ستر فيه منافذ صغيرة تأذن للجالسين هناك في رؤية كل حركة في تلك الساحة بدون أن يراهم أحد من أهلها. وقعدت أم الأمراء إلى جانبها وجعلت تقص عليها ما تعودوه في الإفطار. وهي ترى الخدم يهيئون الأسمطة على شكل خاص.
أعلاها في الصدر سماط يسع بضعة عشر رجلا يجلسون على الوسائد حوله، وقد وضعت عليه أنواع الأطعمة والأثمار. ونحو ذلك في أسمطة أخرى بين يدي ذاك هنا وهناك. وعليها الأطعمة من اللحوم والأفاويه وقد تصاعدت عنها روائح البهارات وغيرها. وما زالت رائحة الند المحروق في أطراف الحديقة غالبة على سواها حتى تكامل وضع أطباق الطعام فتغلبت رائح الأطعمة وبهاراتها. واشتغل جماعة من الخدم السود في إنارة المصابيح المعلقة بأعمدة السرادق. وأما الصقالبة البيض فأكثر اشتغالهم في حمل أطباق الأطعمة. ووقف جماعة منهم يحملون الأباريق الفضية والأقداح الزجاج حول الأسمطة يسكبون الماء لمن يريد حسب الطلب.
أعد كل شيء قبل الغروب ولمياء تتشاغل برؤية الخدم يذهبون ويجيئون في ترتيب تلك الموائد وهي صامتة . وشاركتها أم الأمراء بالصمت ثم قالت: «إذا شئت أن نذهب إلى مائدتنا هلمي إليها؛ فإنهم يعدونها كما يعدون هذه.»
فأظهرت أنها تفضل البقاء هناك حتى يجلس الخليفة والأمراء على الطعام ثم تنصرف فأطاعتها. وبعد قليل أصبح أهل الحديقة في هرج واهتمام يتسابقون إلى التأدب في مواقفهم استعدادا لاستقبال أمير المؤمنين. ثم أطل الخليفة ماشيا الهويناء وبجانبه القائد جوهر. ووراءهما ابنه الحسين ثم أولاد الخليفة وأهله. ثم جماعة الأمراء والقواد فتفرقوا إلى مقاعدهم على الوسائد حول الأسمطة. فجلس المعز في صدر السماط الأول وأومأ إلى جوهر أن يجلس إلى يمينه ونادى الحسين فأجلسه بجانب أبيه. ثم جلس أبناء الخليفة وأهله حول ذلك السماط. وجلس سائر الأمراء والقواد حول الأسمطة الأخرى. وبعد قليل علت أصوات المؤذنين فأخذ القراء يتلون الفاتحة وضج المكان بتلاوتها. وجعلت لمياء تتفرس في الوجوه فرأت والدها في جملة المدعوين وقد دعاه المعز إلى أقرب الأسمطة إليه وهو يبش له ويرحب به. وظنت أم الأمراء أن لمياء لم تنتبه إلى ذلك فقالت لها: «هذا والدك قد جاء ... ويسرني ما أراه من إكرام أمير المؤمنين له.»
وكانت لمياء مشتغلة الخاطر بالتفرس في الوجوه ولا سيما في وجه الحسين. وكانت حالما وقع نظرها عليه خفق قلبها وتصاعد الدم إلى وجهها رغم إرادتها. ومع رغبتها في رؤيته وأنها أتت إلى هناك لتراه فلما أحست بخفقان قلبها ندمت وحولت نظرها عنه وأخذت تغالب عواطفها ونهضت وأظهرت أنها مستعدة لمرافقة أم الأمراء إلى مائدتها متى شاءت. فأظهرت أنها تود البقاء هناك وقالت: «هذا الحسين أراه جالسا بجانب والده إن هذا المنظر يغنيني عن الإفطار. كيف أنت؟» قالت ذلك على سبيل المداعبة. فسكتت لمياء وصبغ الحياء وجهها ولم يصبغه الحياء بل الارتباك أيضا. ولم تجد سبيلا إلى إخفاء عواطفها إلا بالتحول من ذلك المكان فأطاعتها أم الأمراء فتحولتا إلى قاعة مد فيها سماطها الخاص فجلست إليه وأجلست لمياء إلى جانبها وتناولتا الإفطار على نحو ما وصفناه من إفطار الخليفة وأمرائه.
ولحظت أم الأمراء أن لمياء تسرع في تناول الطعام وهي ساكتة والاهتمام باد في عينيها فأدركت أنها تود الرجوع إلى الروشن فاختصرت في الأكل حتى إذا فرغت منه قالت لها: «هلم بنا إلى الروشن لنسمع ما يدور من الحديث هناك.»
الفصل الخامس والعشرون
حديث الزفاف
فنهضت ومشت معها وتناست ندمها - وإنما سيقت إلى هناك بدافع لا سلطان للعقل عليه فيأتيه المحب رغم إرادته وقد يرتكب في سبيل ذلك أمورا يوبخ نفسه عليها ولا يرى مندوحة له عنها - قعدتا فرأتا الأسمطة قد رفعت وانصرف معظم المدعوين وجلس من بقي منهم بين يدي المعز وفيهم جوهر وحمدون والحسين وقد جلس حمدون بقرب جوهر وهما يتحادثان كأعز الأصدقاء. ويتخلل حديثهما ضحك وتودد. فأصاخت لمياء بسمعها لتسمع ما يدور. فسمعت الخليفة يقول لأبيها: «قد سرني ما تجدد بيننا من روابط القرابة بخطبة لمياء إلى ابن قائدنا وإنهما لنعم العروسان. وسرور أم الأمراء لا يقل عن سروري وهي تود أن تختص عروسنا لمياء بالتفات هي أهل له وستؤدي لها المهر عن قائدنا. وسنسوقه إليكم قريبا وسنخص العروسين بقصر من قصورنا فيكونان مثل بعض أهلنا.»
فأسرع جوهر إلى مقابلة هذا الإنعام بالنهوض ثم أكب على يدي المعز ليقبلهما علامة للشكر فمنعه المعز وقال: «إن الحسين ابننا ولمياء بنتنا لا موجب للشكر وإنما يهمنا أن يكون زفافهما سعيدا مباركا.»
فقال حمدون - وهو يظهر الامتنان: «إن نعم مولانا فوق ما نستحق ويكفي شرفا لنا أن يكون ذلك العقد على يده. فهو لا شك يكون مباركا ويزيد بركة إذا تنازل مولانا بحضور حفلة الزفاف. وإن كان ذلك مما لا يطمع فيه أحد ولكني تجرأت عليه لما ظهر من تلطف المولى في محاسنتنا.»
فلما سمعت لمياء هذا القول أكبرته وخافت أن يكون أبوها قد تطوح في طلبه إلى ما لا يمكن الإجابة عليه. ورأت مثل هذا الاستغراب من جوهر أيضا. أما المعز فابتسم وقال: «إن ذلك هين علي، ولا مانع عندي منه؛ لأن قائدنا جوهرا أهل لما هو فوق ذلك. وإنما أخاف أن يكون فيه ثقلة عليكم.»
فترامى جوهر على ركبة المعز وقبلها وهو يقول: «قد غمرني أمير المؤمنين بفضله وإحسانه، وكان الأمير حمدون قد خاطبني بهذا الأمر فلم أجسر على عرضه والتماسه، فكان هو أحسن مني تقديرا للطف أمير المؤمنين.» فأسرع حمدون إلى الكلام قائلا: «لم أقل ما قلته إلا وأنا أعرف منزلة القائد جوهر عند مولانا - أعزه الله - وقد جرأني على ذلك أن أمير المؤمنين جعل نفسه بمنزلة والد الحسين وخطب له جاريته ابنتنا لمياء، فسبق إلى ذهني أنه لا يرفض طلبنا ولا شك فإن ذلك تنازل كبير منه. أما ما أشار إليه من الثقلة علينا فأي ثقلة فيه ونحن لو مشينا على رءوسنا بين يديه لا نكافئه على إنعامه.»
فكانت لمياء تسمع هذا الحديث وقلبها يطفح سرورا لما توسمت فيه من تغير رأي والدها في المعز فظنته يعدل عن الفتك ... ولما تصورت ذلك اعترضها شبح سالم كأنه يوبخها على رضاها بالحسين دونه؛ لأنها إذا تم الزفاف بلا فتك صارت عروسا للحسين فارتبكت في تفكيرها ولبثت صامتة وأفكارها تائهة وأم الأمراء تراعي حركاتها فلحظت ارتباكها لكنها لم يخطر لها ما كان يجول في خاطرها.
ولما فرغ حمدون من قوله أجابه المعز وهو يبتسم قائلا: «إن ظنك في محله أيها الأمير، ولكن قائدنا لم يعرف حقيقة منزلته عندنا، إننا سنحضر حفلة الزفاف معه ولا بد أن يكون ذلك في معسكركم حيث تقيم العروس قبل زفافها إلى عريسها» وسكت ...
فأجاب حمدون: «أينما كنا فنحن في ظل أمير المؤمنين، وليس لأحد منا معسكر ولا قصر إلا من نعمه. وإذا تنازل المولى بأن يكون ذلك في ظاهر المنصورية أريناه عادة السجلماسيين في الاحتفال بأعراسهم. وسيجري الفرسان هناك في حلبة السباق ويلعبون على ظهور الخيل، ولعله يسر أن يرى رجاله وعبيده يتسابقون على الأفراس بين يديه. ولو كان في المنصورية متسع لهذه الألعاب أو لو أمر سيدي بذلك؛ فإننا مطيعون.»
قال المعز: «بل نذهب إلى معسكركم ونشاهد احتفالكم. إني كثير الشغف برؤية الفرسان يتسابقون ولا سيما فرسان سجلماسة المشهورين بالفروسية والمهارة في ركوب الخيل. فمتى ترى أن يكون ذلك؟»
فقال حمدون: «ليس لأحد منا رأي؛ فإن الأمر في ذلك لمولانا.»
فنظر المعز إلى جوهر كأنه يستشيره فبادر إلى الجواب قائلا: «الأمر لمولاي.»
فقال المعز: «أما وقد دخلنا في شهر رمضان المبارك فلا أرى أن يتم الزفاف قبل انقضائه. فنجعله في عيد الفطر؛ تبركا به، ويكون احتفالنا بالزفاف في جملة احتفالنا بالعيد.»
فبان البشر في وجهي حمدون وجوهر عند هذا الاقتراح وأخذا في تنميق عبارات الثناء أما لمياء فلم يكن ذلك جديدا عليها، وكانت قد سمعته من أم الأمراء ولحظت من خلال تلك الأحاديث أن المعز عمل بما أوحته إليه امرأته فتأكدت حينئذ اهتمامها بأمرها وشدة حبها لها. والتفتت إليها لفتة ملؤها الامتنان والشكر. ففهمت أم الأمراء من تلك اللفتة ما لا تقوى الألسنة على بسطه. وكان جوابها أنها ضمتها إلى صدرها وقبلتها فأكبت على يدها لتقبلها فمنعتها وقالت: «تأكدي يا بنية أن فرحي بتمام هذا الأمر يكفيني ... ولكنهم أطالوا أجل الاقتران أليس كذلك؟» قالت ذلك على سبيل المداعبة.
فأطرقت لمياء حياء فابتدرتها أم الأمراء قائلة: «أعني أنهم أطالوه علي أو على الحسين ... ألا ترينه ساكتا مطرقا لا يكلم أحدا ... تأكدي أني أعد هذا الشاب من أولادنا وأنت ابنتنا ... ولذلك لا أرى أن يأخذوك إلى بيت أبيك إلا قبل الاقتران ببضعة أيام ... أريد أن أشبع منك ...»
وكانت لمياء في أثناء ذلك قد عادت هواجسها إليها وأصبحت شديدة الرغبة في ملاقاة والدها؛ لترى هل تغير رأيه وعول عن الفتك بعدما لاقاه من إكرام المعز أو هو يقول ما قاله مداجاة. لكن سبق إلى ذهنها أنه يظهر ما يعتقده؛ لأن الصادق الحر لا يقدر أن يتصور نفاق الكاذبين. ثم هي من الجهة الأخرى يشق عليها أن تقبل بالحسين وتعد ذلك خيانة فضلا عن داعي قلبها. وهي في ذلك رأت الخليفة يتحفز للنهوض وقد نهض الجلوس واستأذنوا في الانصراف. ونهضت أم الأمراء ومشت لمياء معها وهي تود أن لا تعود إلى محادثتها بشأن ذهابها إلى أبيها؛ لأنها تحب أن تترك الأمر للتقادير لترى ما يكون في أثناء رمضان. وتحب أن تخلو بنفسها بعدما تقرر لتفكر في أمرها وتحل هذه المشكلة حلا معقولا.
الفصل السادس والعشرون
المناجاة
ودعت لمياء أم الأمراء وذهبت إلى غرفتها وهي غارقة في بحار هواجسها، ولم تكد تخلو بنفسها حتى طرق ذهنها فكر أحست بارتياح إليه، وذلك أنها قابلت بين ما دار بينها وبين والدها أمس في فسطاطه بحضور أبي حامد وما ظهر منه بين يدي المعز في هذا المساء فوجدت فرقا كبيرا.
فتبادر إلى اعتقادها أن أبا حامد هو الذي حرضه على الفتك بالخليفة، وأنه لو ترك لنفسه لم يرض بذلك، وتذكرت ما تعرفه من ظواهر هذا الرجل في أثناء إقامته بسجلماسة وما كان يسر إليها سالم أحيانا من الأغراض السياسية التي يرمي إليها فترجح لديها أن أبا حامد هو علة المفاسد وأنها لو انفردت بأبيها وباحثته في أمر المعز لأقنعته أن يرجع عن عزمه. فارتاحت لهذا الفكر، لكنها لم تكد تشعر بالراحة حتى تصورت أنها تصير عند ذلك زوجة للحسين تقيم في المنصورية ... وما تفعل بسالم؟ فوقف ذهنها عند هذه النقطة فرأت عدول أبيها عن الفتك بالمعز يحرمها من سالم وهي تحبه ولا ترضى عنه بدلا.
فأخذت تخاطب نفسها قائلة: ما العمل إذن؟ أرضى بقتل المعز وهو سلالة فاطمة الزهراء وصاحب الفضل الأكبر علي وأسلم بقتل جوهر القائد العظيم؟ وهب أني رضيت فهل تفلح هذه المكيدة؟ ألا يعقل أن تعود عاقبتها وبالا علينا؟ بأي شيء نحارب جند الخليفة؟ كيف نحارب الحسين ذلك الشهم صاحب المروءة ونقتله أيضا؟ ما هو ذنبه؟ بل ما هو ذنب الخليفة وقائده؟ إنها مكيدة ملؤها الخداع والغش.
كيف ترضين يا لمياء بهذه الرذيلة؟ يكفي ما أراه من كرم أخلاق هذه المرأة التي تحبني محبة الوالدة، أأرضى أن أكون وسيلة لسقوطها؟ أنا أفعل ذلك؟ كلا ... كلا ... إني إذن قاتلة خائنة. وأحرم من حبيبي ... ماذا أفعل؟ أطلع أم الأمراء على سر الأمر ليتحذروا منه؟ عند ذلك أكون قد عرضت سالما للقتل وعرضت والدي أيضا للموت ... هل أسمح بقتل والدي وحبيبي؟ كلا ... ويلاه ما هذه المشكلة التي لا حل لها؟»
وكانت جالسة على الفراش تفكر في ذلك وعيناها شاخصتان إلى نور المصباح فلما وصلت إلى هذا الارتباك نهضت كالواثبة وقد هاجت أشجانها وأخذ القلق منها. وجعلت تتمشى في الغرفة وتعيد النظر في المسألة طردا وعكسا فلا تجد لها حلا إلا بارتكاب الخيانة أو القتل، فضلا عن محاربة العواطف، وهي أشد وطأة من كليهما.
قضت في التفكير ساعة أو ساعتين حتى ملت التردد، وأغلق عليها الأمر فوقفت تجاه المرآة فرأت ما أصاب سحنتها من التغيير لفرط التفكير فقالت: «إني أرى لمياء في هذه المرآة غير لمياء في مرآة أبيها بسجلماسة. ويلاه ما كان أغناني عن هذه القلاقل بل ما أغنى أهل القيروان عن هذه السحنة العائدة عليهم بالشؤم والخراب ... هل العيب في المرآة وهي التي غيرت لمياء؟ لا ذنب لها إنها تريني وجهي كما هو. وإنما العيب في ... بل العيب في من شوش أفكاري وأدخل القلق على قلبي، كان الأولى بي أن أبقى على رفض هذا النصيب وليتسابق هؤلاء إلى القتل على غير يدي. هل أقدر على ذلك الآن؟ بأي لسان أقوله! وبأي وجه أقابل أم الأمراء؟ هل أبوح لها بسري وأستشيرها في أمري؟ لا أقدر ... ويلاه يا ربي ماذا أفعل؟ وتحولت عن المرآة إلى السرير واستلقت عليه وقد أظلمت الدنيا في عينيها فلم تجد لها فرجا بغير البكاء فأطلقت لنفسها العنان فيه وأغرقت في البكاء حتى كاد يغمى عليها وصارت تشهق وتندب نفسها.
ثم عادت إلى المناجاة فقالت: «إلهي قد لذ لي الموت خذني إليك ... هل أقتل نفسي وأخلص من هذه الحياة؟ إن موتي أحسن حل لهذه المشكلة فينجو المحسنون إلي من القتل وأتخلص من التردد القبيح. ولكن هل أقتل نفسي بيدي! ... لا ... لا ... بل الأفضل أن أفر من هذا المكان إلى حيث لا يراني أحد حتى تأتي ساعتي ... لمياء! لمياء أنت راعية الحصان. تلاقين الأعداء في حومة الوغى وترزخين تحت هذه الأوهام؟ بل أعود فأرفض الحسين وأعتذر له أني لا أريد الزواج ... كيف أفعل ذلك! مسكين الحسين إنه ذو فضل ويظهر أنه أحبني، آه يا سالم يا حبيبي كيف أموت أو أفر وأتركك! بارزت الفرسان واستقبلت النبال في ساحة القتال فلم أجد أصعب مراسا من الحب إنه يملك ناصية القلب ... ويلاه هل في الدنيا فتاة أشقى حالا مني!»
ثم سكتت وكأن البكاء خفف مصابها وقشع السويداء عن عينيها وتذكرت أن لديها شهرا كاملا لإعمال الفكرة فقالت: «فلنصبر إن الله مع الصابرين.» وذهبت إلى فراشها وقد أخذ التعب منها مأخذا عظيما.
الفصل السابع والعشرون
المراوغة
أما حمدون فإنه خرج من قصر المعز بعد العشاء وقد أدهشه ما رآه هناك من الأبهة والعظمة وأكبر الإقدام على تنفيذ تلك المكيدة ولا سيما بعد الذي لقيه من الإكرام والمؤانسة من الخليفة وقائده وسائر أمرائه، وأحس بخطارة الأمر الذي هو مقدم عليه. فقضى مسافة الطريق إلى معسكره وهو يفكر في ذلك - وتحريض أبي حامد لا يزال غالبا على عقله - فوصل خيمته وهو يحب الخلو بنفسه ليعمل فكرته ويرجح أحد الوجهين ولم يكد يستقر به الجلوس حتى جاء أبو حامد، وحالما وقع نظره على حمدون استطلع ضميره وكشف عما يجول في خاطره، فأراد أن يتحقق ظنه فقال: «كيف لقيت أمير المؤمنين؟»
فأجابه وهو يحاول إخفاء ما يجول في خاطره: «لقيته كما أعهده وكما تعهده أنت.»
فلما رآه لم يستغرب منه تلقيب المعز بأمير المؤمنين توسم صدق فراسته فيه فقال: «أعني هل لقيت منه أنسا.»
قال: «لقد جاملنا وآنسنا وأكرم وفادتنا ووددت لو أنك كنت معنا.»
قال: «أنا أعلم اقتدار هذا الرجل وسعة صدره، ولولا ذلك ما تمكن من التغلب على سائر الأمراء حتى سمى نفسه أمير المؤمنين.»
قال: «صدقت. إنه واسع الصدر كبير العقل ورأيت منه انعطافا خصوصيا؛ لأنه أصبح يعدني من أهله. ورأيت قائده أيضا مثله.»
فتنحنح أبو حامد وقد ترجح ظنه في تغيير عزمه وقال: «أظنك أدركت الليلة خطارة الأمر الذي نحن عازمون عليه ...»
قال: «قد أدركت ذلك من قبل ... ألم تكن أنت مدركه أيضا؟»
قال: «كيف لا وقد دان لهذا الرجل الأمراء والقواد، وأصبح صاحب الكلمة النافذة؟ إن تنفيذ ما عزمنا عليه لا يخلو من الخطر طبعا.»
فاستمسك حمدون بهذا التصريح وتوهم ضعف العزيمة في أبي حامد، فقال: «هل ترى الخطر يربو على الأمل بالنجاح؟»
قال: «أراه أضعاف أضعافه، ولكن ما العمل وقد رأيتك عازما على استرجاع مجدك حتى فضلت الموت على التسليم.» فجعل السبب في تدبير المكيدة رغبة حمدون في استرجاع ملكه فهان على حمدون الانسحاب بنظام، فقال: «لكن الرجل العاقل ينبغي أن يقدر العواقب ويعمل بالرأي السديد وما لا يستطيعه اليوم قد يستطيعه غدا.»
فتحقق أبو حامد ما توسمه في صديقه من ضعف العزيمة فعمد إلى استطلاع ما دار في تلك الجلسة وهل أقبل الخليفة أن يحضر الاحتفال بالزفاف في معسكرهم، فقال: «هل وافقك على أن تزف لمياء من معسكرنا ويكون هو حاضرا؟»
قال: «لم أطلب منه طلبا إلا وافقني عليه، وقد وافق على هذا وأكثر منه؛ ولذلك قلت لك إنه جاملنا وأحسن وفادتنا. وهذا ما غير رأيي فيه.»
فعمد أبو حامد إلى المداهنة فقال: «بارك الله فيك ... إن المصلحة مشتركة بيننا، فإذا كنت قد رأيت ما أراه أنا أيضا من الخطر في هذا العمل الآن وأحببت أن تؤجله فإني أوافقك على تأجيله - ولكل أجل كتاب.»
فانطلت حيلة أبي حامد على حمدون وصدقه فقال: «يعجبني حزمك وتعقلك فأنا أرى التأجيل أقرب إلى الحكمة ريثما نتمكن من فرصة أبرك من هذه.»
وكان أبو حامد لا يزال واقفا يتشاغل في تدبير مكان يجلس عليه، فلما سمع قول حمدون ابتسم وأظهر الارتياح وجلس إلى جانبه ووضع يده على ركبته وقال: «ولكن ألا ترى صعوبة في تغيير فكر لمياء؟»
قال: «إن لمياء أكثر رغبة منا في العدول عن قتل الخليفة ولا سيما بعد أن تبرع بأن ينوب هو وامرأته عن العريس في تقديم المهر ولا بد أن تكون أم الأمراء قد أخبرت لمياء بذلك وهو يزيدها تعلقا بها ... بالحقيقة إن المعز وامرأته قد بالغا في مجاملتنا وإكرامنا ... أظنني لم أخبرك بما عزما على تقديمه من المهر ...»
فقطع أبو حامد كلامه وهو يروغ كالثعلب، وقال: «أظنهما وعدا بمال كثير وببعض الحلي الثمينة.»
فضحك حمدون وقال بلحن الفائز المعجب: «المال والحلي؟ إن أم الأمراء ستقدم للعروس أحسن ما يرجى تقديمه لمثلها من الأثاث والحلي والثياب وستملأ بيتها من الجواري والخدم و... و...»
فقال أبو حامد - وهو يظهر الاستغراب: «والخدم أيضا والجواري؟»
فابتدره حمدون وهو يقول: «وفوق ذلك أن الخليفة نفسه سيهديها قصرا في المنصورية تقيم فيه مع عريسها ... وسيعدها من أقرب الناس إليه.»
فقال أبو حامد وهو يهز رأسه ويرفع حاجبيه استغرابا: «إن مثل هذا الرجل لا تقدم النفس على أذيته ... صدقت ... ولكن ...»
فسبقه حمدون إلى الكلام قائلا: «ولكن لمياء عالقة القلب بسالم وإذا تم اقترانها ربما تنغص عيشها ...»
فأظهر أبو حامد التألم من فكر خطر له كأنه ابن ساعته، وقال: «سالم ... سالم دعني من سالم، إنه لا يليق بلمياء، وهي لو علمت بما فعله لكرهته ... حتى أنا مع أنه بمنزلة ولدي فقد كرهته.»
فاستغرب حمدون كلامه وقال: «وكيف ذلك؟»
قال: «أتعلم أين سالم الآن؟»
قال: «كلا ... أليس هو هنا؟»
قال: «لا أعلم مقره ... ولكن يظهر أنه فر من هذا المعسكر ... أظنه خاف مغبة الأمر الذي أقدمنا عليه ففضل الفرار.»
قال حمدون: «لا أظنه يفر وهو رجل باسل.»
فقال أبو حامد: «لا يليق بي أن أكشف عيبه لكنني لا ينبغي لي أن أكتمك أمرا بعد ما علمته من صداقتي وإخلاصي وأنا أغار على لمياء وأجل مناقبها فلا أغشها ...» وتنحنح كأنه يستنكف من التصريح بذلك الأمر الفظيع.
فقال حمدون: «ماذا جرى؟»
قال: «أتذكر خروج سالم مساء أمس في أثر لمياء؛ ليرافقها إلى المنصورية؟»
قال: «نعم، أذكر أنه أراد أن يرافقها فتقدمت إليه أن لا يفعل.»
قال: «ليته لم يفعل ... لكنه أصر على الذهاب فعاد بالفشل والعار.»
قال: «وكيف علمت ذلك؟»
قال: «لأنه عاد إلي في آخر الليل وقص علي ما لقيه وحاول إخفاء الحقيقة لكنني قرأتها من خلال حديثه.»
قال: «ماذا عمل؟»
قال: «ذهب في أثر لمياء فوجدها مع رجل عرف بعد ذلك أنه الحسين بن جوهر، وكان في انتظارها حتى يسير في خدمتها إلى مأمنها، فأنكر سالم عليه ذلك وأمرها أن تتركه وتسير معه، ففعلت، فلما أشرفوا على المنصورية خرج عليهما الحراس وكادوا يقبضون عليه ويسوقونه إلى السجن لو لم يبادر الحسين إلى إنقاذه، فعاد والفشل يقطر من أردانه. وشفع ذلك الفشل بالكذب فاقتضب الحديث ولم يذكر فشله. ولكن أبا حامد لا تنطلي عليه هذه الألاعيب. فوبخته على جبنه فغضب وخرج من عندي ولعله فر خوفا من غضبي ... ولو فتشت عنه في المعسكرين لم تقف على خبره.» قال ذلك بلحن الصدق وهو يظهر الأسف على ما جرى فصدق حمدون كلامه، وقال: «لله درك إنك تطلع على خفايا القلوب فلا أعجب من اطلاعك على سر سالم، ولكنني لم أعهد فيه شيئا من ذلك قبلا.»
قال: «هذا هو الواقع، ولعلك لو سألت لمياء عن هذا الأمر لصادقت عليه، وربما صرحت هي بالعدول عنه؛ لأنها شهدت فشله بنفسها.»
قال: «غدا نبعث إليها ونستطلع رأيها.»
قال: «حسنا تفعل، وأنا واثق أنها توافقك على ما ذكرت. وعند ذلك تتحول مهمتنا إلى ما هو أقرب لخير لمياء ونترك أمر الانتقام حتى تسنح لنا فرصة أخرى. وقد نرى من الحكمة السكوت عن هذا الأمر بالكلية، إذا رأينا القوم يعرفون قدرك ولا يبخسونك حقك.»
الفصل الثامن والعشرون
رأي لمياء
فارتاح بال حمدون إلى هذا الرأي وهو على ثقة من رضى لمياء وقد عزم على إقناعها به ... فبات تلك الليلة وهو يحلم بما سيكون له من المنزلة الرفيعة بعد تلك المصاهرة ونسي أنفة آل مدرار وعز سلطانهم! والحقيقة أنه لم يفطن لذلك العز لو لم يحرضه عليه أبو حامد الداهية. وأما حمدون فقد علمت ضعفه وسرعة تقلبه وأنه إنما كان يساق إلى طلب الانتقام بتحريض صاحبه هذا. فلما رآه قد وافقه على السكوت والرضا بالخضوع؛ فرح وبات تلك الليلة مطمئنا، وعزم على أن يبعث في استقدام لمياء إليه ليبشرها بذلك الرأي الجديد.
وأيقظه الغلام للسحور قبل الفجر، ولم يكد يفرغ من سحوره حتى أتاه الحاجب ينبئه بقدوم رسول من صقالبة القصر فأذن بدخوله فإذا هو لمياء متنكرة، فرحب بها وقبلها وقد توسم القلق في عينيها فعلم أنها مبكرة إليه بشأن ما كان فيه أمس، فابتدرها قائلا: «أراك مبكرة يا لمياء!»
قالت والدمع يترقرق في عينيها: «إني لم أذق مناما في هذا الليل.»
قال: «ولماذا؟»
قالت: «أتسمح لي أن أقول ما في خاطري؟»
قال: «قولي ... ولكني أحب أن تسمعي ما أقوله أنا قبلا.»
قالت: «تفضل.»
قال: «قد كنت في مثل قلقك أمس ولكنني اهتديت إلى حل جميل ارتاح له خاطري.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «هل علمت أني تناولت طعام الإفطار أمس في قصر أمير المؤمنين؟»
فلما سمعت قوله: «أمير المؤمنين» استبشرت وقالت: «نعم علمت وقد سمعت ما دار بينك وبين الخليفة والقائد.»
قال: «هل علمت بما عزم عليه الخليفة من إكرامك بالمهر؟»
قالت: «سمعت ... أمثل هذا الرجل ي...»
فقطع كلامها قائلا: «دعيني أتم حديثي ... إن ما لقيته من ذلك الإكرام وما آنسته من سعة صدره وطيب عنصره وحب أم الأمراء لك قد أثر في كثيرا.»
فأبرقت أسرتها وضحكت والدموع تتدحرج على خديها من الدهشة وقالت: «هل أثر فيك ذلك؟ هل يليق أن؟»
قال: «اسمعي ... إني وجدت الأمر الذي كنا قد عزمنا عليه خيانة لا تليق بنا.»
فلم تتمالك عن الإسراع إلى يده فتناولتها وأخذت تقبلها ودموع الفرح تتساقط من عينيها وقالت: «الحمد لله ... قد فرجت كربتي ... صدقت يا أبتاه إن أمير المؤمنين لا يستوجب هذه الخيانة ولو عرفت مقدار حب أم الأمراء لي لازددت حرصا على حياتهما ... بالله قل هل عدلت عن عزمك؟»
قال: «رجعت عن مائدة المعز وأنا أحدث نفسي بذلك، وكنت أحسب أبا حامد لا يوافقني عليه فوجدته أشد رغبة مني فيه؛ لأنه رأى ما رأيته وأنت تعلمين ذكاء هذا الصديق وتعقله.»
فتضاعف استغرابها؛ لأنها لم تكن تتوقع هذا الفرج المزدوج وكانت عازمة على تحريض أبيها أن يوافقها ولو خالف أبا حامد. فلما رأت أبا حامد موافقا له على العدول انبسطت نفسها وتولتها الدهشة لهذه المفاجأة فقالت: «وقد وافقك أبو حامد على العدول أيضا؟»
قال: «وليس ذلك فقط لكنه خلصنا من أمر آخر يتعلق بسالم.»
فلما سمعت اسم سالم انقبضت نفسها؛ لتذكرها المشكل الذي لم تجد له حلا أمس فقالت: «وكيف خلصنا من أمر سالم؟ أين هو الآن؟»
قالت ذلك وقد صبغ الحياء وجهها وعلاه قلق واضطراب.
فقال: «نعم إنه أنقذنا من مشكل عظيم، وقد سألت عن سالم أين هو ... إنه ليس هنا ... وقبل أن أقول شيئا بشأنه أسألك سؤالا أرجو أن تصدقيني فيه.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «لما لحق بك سالم في تلك الليلة ما الذي جرى له؟»
فتذكرت وصية الحسين بالكتمان وهي تضن بسالم أن يهان فقالت: «ماذا جرى له؟ لم يجر له شيء.»
قال: «أصدقيني ... إني قد اطلعت على فشله وجبنه فلا تنكري شيئا.»
فاستغربت تصريحه وقالت: «من قال ذلك؟ لم يكن معنا أحد سوى الحسين، وهذا لم يقص عليك الخبر.»
فقال: «ما أدراك أنه لم يقصه علينا؟»
قالت: «لأنه أمرني بالكتمان.»
قال: «لماذا أراد كتمان الواقع إن لم يكن في ظهوره عيب على سالم؟ قولي الصدق.»
فلم تطعها نفسها على الإنكار، فقالت: «إنه أساء التصرف مع الحسين؛ لأنه لم يكن يعرفه ... ولكن من قص عليك الخبر؟ سالم؟»
قال: «لا. إن سالما خجل من قول الصدق، ولكن أبا حامد قصه علي أمس، وقد استطلعه بفراسته ووبخ سالما عليه حتى أغضبه وخرج من المعسكر لا ندرى إلى أين.»
فصاحت رغم إرادتها «ويلاه إلى أين ذهب؟»
فقال حمدون: «يظهر أنك لا تزالين على حسن ظنك به وعمه نفسه قد رذله واحتقره وكدره، وقد قال لي إنه ليس أهلا للمياء الشريفة الصادقة ... إن خطيبا يرجع من بين يدي خطيبته بمثل هذا الفشل لا يليق بها.»
فقالت وصوتها مختنق: «أبو حامد قال لك ذلك.»
قال: «نعم. إذا كنت لا تصدقين فإني أدعوه ليقول ذلك أمامك.»
فغصت بريقها وأطرقت وقد تولتها الحيرة وتحرك قلبها فتذكرت منزلة سالم عندها وهي تجله وتنزهه عن كل عيب فكيف تسمع هذا القول وتسكت فصاحت «كلا ... إن سالما شهم لا يستحق هذه الإهانة ... إن عمه قد ظلمه.» وشرقت بدموعها.
فقال: «لله أنت يا لمياء ... بل لله من الحب ما أقوى سلطانه ... إن أبا حامد هو الذي رغبنا في سالم ثم هو اليوم يقول إنه جبان لا يليق بك ... ومع ذلك فإن وصولك إليه لا يكون إلا بقتل المعز وقائده فهل نعود إلى عزمنا الأول؟»
فأجفلت وقالت: «لا ... لا ... إن أمير المؤمنين لا يستحق ذلك.»
قال: «وهل جوهر يستحقه؟»
قالت: «لا.»
قال: «وهل الحسين يستحقه؟»
فلما سمعت اسم الحسين شعرت بإحساس يشبه ما شعرت به ساعة وداعه تلك الليلة - إذ ودعته وقد سحرها بمروءته وسعة صدره - فسكتت وتوردت وجنتاها وتسارعت دقات قلبها وغلبت على أمرها. فأطرقت والدموع تتساقط من عينيها وأبوها يراعي حركاتها ثم قال: «لا بد من قتل الخليفة وقائدة أو التخلي عن سالم الجبان ...»
فصاحت وقد تحيرت في أمرها: «لا هذا ولا ذاك ... لا تقل الجبان إن سالما ... آه ويلاه كيف أسمع هذا القول فيه؟» وعادت إلى البكاء.
الفصل التاسع والعشرون
الثعلب
وهي في ذلك سمعت وقع خطوات مسرعة خارج الخيمة، فالتفتت فإذا بأبي حامد قد دخل وهو متزمل بعباءته، وعلى رأسه عمامة صغيرة قد لاكها حول رأسه على غير نظام كأنه ناهض من الفراش.
فحالما دخل لم تستطع لمياء عند رؤيته غير النهوض احتراما، فأسرع إليها وأقعدها وهو يقول «لا تذكري سالما بفيك. إنه ابن أخي بل هو بمنزلة ابني ولكنني أنكرته منذ أمس وهو غير أهل لك وأنت أعلم الناس بالسبب ... ومع ذلك فهو ليس هنا. ومن كان مثل لمياء التي جمعت شجاعة الرجال إلى لطف النساء وقد عرفناها صادقة اللهجة مخلصة الطوية يجب أن تتغلب على قلبها وتعمل بعقلها وكفى ...» قال ذلك وقعد بجانب حمدون. فقالت - وهي تغص بريقها: «مهما يكن من الأمر إني لا أطيق أن أسمع مثل هذا القول في سالم ... دعونا منه.»
فقال أبوها: «وهذا ما أدعوك إليه الآن ...» وأظهر الاهتمام وتطاول نحوها كأنه يريد أن يهمس في أذنها، وقال: «هذا أخي أبي حامد قد رأى مثل رأيي في هذا الأمر وقد وجد القرار الذي سبقنا إليه لا يليق تنفيذه فعزمت على أن أستقدمك؛ لأقص عليك ما جرى وكنت أعتقد أنك تتلقينه مسرورة، فإذا أنت تجادليننا في سالم فإذا لم يعجبك رأينا الجديد عدنا إلى القديم.»
فخافت أن يغضب أبوها فيرجع إلى سوء رأيه فقالت: «قد رضيت لكنني أتقدم إليكم أن لا تذكروا سالما بسوء ... لنرى ما يأتي به القدر.»
فقال أبو حامد: «نسكت عن سالم ولكننا فرحون بما اجتمع عليه رأينا، وسنحتفل بقرانك في هذه الساحة احتفالا لم يسمع بمثله ونزفك إلى الحسين بن جوهر بحضور الخليفة وإذا كان سالم أهلا لك فليأت ويأخذك بنفسه ... وقد عهدنا المحبين يتفانون في هذا السبيل ولا يفعلون ما فعله سالم من الفرار الذي تعلمينه ... دعينا منه. لا أحب أن أعود إلى ذكره إكراما لك.»
فسكتت وهي ترى الصواب في العدول عن سالم بعد ما رأته من تصرفه فضلا عن البواعث القاهرة التي ألجأتها إلى القبول بغيره لكن قلبها لم يطاوعها على الارتياح لذلك الاقتراح فجعلت قبولها مشفوعا بانتظار ما يأتي به الغد أو ما تدبره الأقدار.
انفضت تلك الجلسة على هذه الصورة فرجعت لمياء إلى المنصورية تنتظر أمر والدها في القدوم عليه قبيل الزفاف، ومكث حمدون وقد اطمأن خاطره ووطن نفسه على الاكتفاء بالقربى من المعز لدين الله ولو مؤقتا وقد شفع قبوله أيضا بانتظار ما يأتي به الغد.
الفصل الثلاثون
أبو حامد
أما أبو حامد فخرج من تلك الجلسة وقد ضاقت نفسه من حبس إرادته وأتعبته المراوغة وتكلف الظهور بعكس ما يضمره. فما صدق أنه عاد إلى فسطاطه وخلا بنفسه حتى تنفس الصعداء وقد هاجت ضغائنه وغلت مراجل صدره وأصبح يزمجر كالشبل الجريح. وأمر حارسه أن لا يدخل عليه أحدا وجعل يخطو في الفسطاط ذهابا وإيابا وهو مطرق يعمل فكرته ويستحث قريحته في تدبير حيلة ينال بها غايته. وقد عظم عليه عدول حمدون عن قتل المعز ولم يكن أسهل عليه من أن يقنعه بما له من السلطة على أفكاره لكنه خاف رجوعه مرة أخرى على غرة وربما باح بسره فيعود ذلك وبالا عليه. فأظهر ارتياحه إلى رجوعه، وأضمر أن ينفذ غرضه بنفسه فيقتل المعز وقائده وقد يقتل حمدون وابنته وزوجها؛ فإنه لا يبالي من يقتل أو لماذا يقتل في سبيل غرضه.
قضى مدة في هذا التفكير وهو يخطو ذهابا وإيابا، ثم جعل يناجي نفسه قائلا: «أنا أبو حامد حامل سيف النقمة ... اطمئن بال هذا الأمير المغرور وسكن خاطره واعتقد أني أطعته في العدول عن قتل ذلك الطاغية كما اعتقد أولا أني أسعى في هذا القتل إكراما لخاطره لأعيده إلى سرير ملكه في سجلماسة وصدق أنه من آل مدرار أصحاب تلك المملكة العظيمة. وهو يعلم أنه دعي في نسبهم؛ لأنهم انقرضوا منذ أعوام. ولكنه حسبني أقول ما أعتقد فوافقه قولي ورضي بذلك النسب وبنى عليه حقه في إمارة سجلماسة ووافقني أيضا على الفتك بالمعز وقائده وأنا أعلم ضعفه وتردده وطالما خفت رجوعه. فأحمد الله لرجوعه الآن قبل أن أدبر طريقة الفتك وأطلعه عليها فإذا انقلب بعد ذلك أخاف أن يبوح بها لصديقه ومولاه المعز فيذهب سعيي عبثا ... أما الآن فإني أكتم تدبيري عن كل إنسان وسأجعله قاضيا عليهم أجمعين ... أبا عبد الله! إني ثائر لك. نم هادئا إن دماء أعدائك سأجريها في قناة حتى تدرك قبرك فترتوي أنت منها كما أرتوي أنا هنا. في فج الأخيار مستودع القوة فإذا فرغت من قتل هؤلاء الأعداء عدت إلى إتمام مهمتي. أنا أبو حامد ويل لهم من نقمتي.»
وكان يناجي نفسه وهو يمشي، ثم يقف، ثم يمشي كالحيران ويعبث تارة بشاربيه وطورا بلحيته أو يقضم أظافره بين أسنانه حتى كاد يدمي أنامله من عظم ما هاج في خاطره. ولو نظر إلى وجهه في المرآة لرأى سحنته مرعبة؛ إذ احمرت عيناه وانتفش شعره لكثرة عبثه به وقد أفسد نظام عمامته ولحيته وشاربيه كأنه خارج من عراك طويل.
ثم تمالك وأخذ يصلح من شأنه ويتظاهر بالسكون وهدوء البال. وأمر غلامه أن يسرج له الجواد.
ركب أبو حامد والغلام ماش في ركابه والشمس في الضحى. وقد تعود الركوب للرياضة فلم يستغشه أحد. ولما صار خارج المعسكر أمر الغلام بالرجوع وقد عوده الكتمان فلا حاجة به إلى التنبيه عليه أن يكتم أمر سيده وجهة مسيره.
أما هو فإنه ساق جواده وأوغل في الصحراء وقد حميت الشمس وانعكست أشعتها على الرمال فظهرت لامعة تتوهج. وأرسل نظره إلى الأفق ليتطلع إلى الجبل الذي يقصده فوجد السراب قد حجبه. ورغم ما تعوده من مشاهدة السراب في البادية في مثل تلك الساعة فقد خدع به. فكان يتوقع أن يرى في أقصى ما يقع عليه بصره من الأفق جبلا مخروطي الشكل مميزا عما يحف به من الجبال. فأوهمه السراب أن هناك بحيرة تتراءى في مائها صور أشجار تظهر مقلوبة وخيل له أنه يرى قوارب سابحة على سطح البحيرة.
شغله ذلك المنظر برهة وإن لم يصدقه وكلما اقترب من المكان انجلى له حتى وصل إلى الجبل وأكثره أجرد وفيه كثير من الكهوف والشقوق على شكل يندر بين الجبال.
فساق جواده في منعطف صاعد يصعب سلوكه لضيقه حتى دار من وراء الجبل وهو لا يسمع غير وقع حوافر جواده أو صهيله. وإذا أطل أشرف على سهل رملي ليس فيه شيء من العمارة.
وكان وهو سائق يتلفت إلى الوراء حذرا من أن يكون أحد في أثره حتى اقترب من مغارة عظيمة لها باب كبير منقور في ذلك الجبل فتنحنح نحنحة خاصة فسمع مثلها في قاع المغارة فساق فرسه حتى وقف في الداخل. فسمع مناديا يقول والصدى يردد قوله: «ادخل يا مسعود.»
الفصل الحادي والثلاثون
التدبير
فترجل ودخل وهو يقود الفرس بزمامه وراءه. وكأن الفرس أحس برطوبة المكان فتوالى عليه العطاس ودوى صوت عطاسه دويا يزيده إجفالا واستغرابا.
وبعد مسير بضع دقائق انتهى إلى بقعة منيرة فيها ما تقشعر له الأبدان من أشكال الحيوانات المتضادة في طبائعها مما لا يخطر ببال كالثعابين والسحالي وأنواع الضب والطير والحمام بين سارح ومنساب وواثب. وبينها حية مهولة قد التفت على جزع شجرة منصوب لها هناك ورأسها يتلوى ذات اليمين وذات اليسار. وأخرى تنساب بين الأحجار الملقاة على الأرض. ولو لم يكن قد تعود المجيء إلى ذلك المكان ومشاهدة تلك المناظر واعتقاده أن تلك الدبابات لا تؤذيه؛ لأنها مسحورة لأجفل وخاف. أما الفرس مع أنه كان يصطحبه كل مرة فلم يألف ذلك المنظر المريع فاضطرب وضرب الأرض بحافره وصهل وتراجع وأبو حامد ممسك بزمامه ينتظر أن يأتي من يتناوله منه. وإذا بعبد عظيم الجثة برز من بعض أطراف تلك البقعة وألقى التحية فرد عليه أبو حامد. فتقدم العبد وقبل يده وتناول زمام الفرس ومشى به إلى مكان يربطه فيه.
ثم مشى أبو حامد في طريق تجنب فيه العثور بشيء من تلك الحيوانات حتى دخل دهليزا منقورا بالصخر، ولو زار ذلك المكان أحد علماء الآثار اليوم لتحقق أن تلك المغارة من بقايا الأبنية القديمة في العصور الغابرة؛ لأنها منقورة في الصخر وربما كانت في الأصل قبورا أو هياكل وتنوسي خبرها حتى أصبحت مسكنا لكاهنة ساحرة لا يصطلى لها بنار. وكان أبو حامد قد عرفها منذ أعوام واستعان بها في كثير من شئونه. وهي من خلفاء كهان البربر قبل الإسلام، اتصلت إليها هذه الصناعة من أجدادها وهي تخاف الظهور فاستترت هناك ولا يصلها إلا القاصد.
ولم يمش أبو حامد قليلا حتى دخل حجرة منقورة في الصخر أيضا وفي صدرها دكة من الحجر قد تربعت عليها عجوز شمطاء بلباس غريب الشكل فيه من كل لون قطعة. شعرها ناصع البياض وقد انتفش واشتبك فأصبح منظرها مخيفا. وهي في الأصل سمراء اللون ولكن الشيخوخة جعلت لونها أقرب إلى السواد وتجعد جلدها وغارت عيناها وتدلى حاجباها الغليظان نحو الأمام فأصبحت عيناها كالمصباح يتراءى من وراء نافذة مظلمة. تحتها أنف غليظ قصير فيه حلقة من العاج أدخلت في أنفها كالخزام منذ صباها على يد ساحرة كان لأهلها ثقة في علمها واعتقدوا أن وجود ذلك الخزام من أكبر أسباب مهارتها. وناهيك بما في أذنيها من الأقراط وفي عنقها من العقود وحول زندها من الأساور وفيها الذهب والفضة والعاج. وقد جلست على جلد دب وألقت على كتفيها جلد نمر وفي حجرها ثعبان غليظ قصير تتلاهى بملاعبته.
فلما أطل أبو حامد عليها رحبت به بصوت جهوري وقالت: «أهلا بولدي مسعود ... قد أطلت الغياب علي ... أين كنت؟» وأشارت إليه بعصا طويلة - كانت بجانبها - أن يقعد على دكة بين يديها فقعد وهو يقول: «كنت في عملي الذي تعلمينه.»
فقالت: «قد آن لك الظفر يا مسعود ...» وهو الاسم الذي تعرفه به فأبرقت أسرته؛ لأنه كان يعتقد صدق فراستها واقتدارها على كشف المخبآت حتى جعلها مستودع أسراره من أيام أبي عبد الله الشيعي. وكانا يأتيانها أحيانا ولها دخل في جمع كلمة قبائل البربر الذين نصروا أبا عبد الله في تأييد العبيديين. فكان أبو حامد لذلك عظيم الثقة بها لا يأتي عملا هاما إلا شاورها فيه. فتنصحه وهو لا يزداد إلا ثقة بها. وقد جاءها في ذلك اليوم لأمر لا يخفى على القارئ، ولا هو يخفى على تلك الكاهنة الشمطاء؛ لأنها كانت مشرفة على أخباره - ليس مما ينقله هو إليها ولكن لها جواسيس مبثوثين في البلاد لمثل هذه الغاية - فلما قالت له ذلك استبشر واعتقد صدق قولها؛ لأنها كانت متسلطة على أفكاره مثل تسلطه على أفكار الآخرين، فقال لها: «هل علمت ذلك يا خالة أم تسألينني؟»
فنظرت إليه شزرا وقالت: «ومتى كنت أستشيرك يا جاهل.»
فضحك وجعل يعتذر لها عن جسارته، وكانت وقاحتها هذه من أسباب تمكين هيبتها فيه، فمد يده إلى جيبه واستخرج صرة فيها نقود دفعها إليها وهو يقول: «بارك الله فيك ... صدقت قد دنا الفرج ... اقبلي هذه الدراهم طعاما لأولادك هؤلاء.» وأشار إلى الثعبان الذي في حجرها وهو يظهر المزاح.
فمدت يدها وتناولت الصرة وهي تهز رأسها هز الإعجاب وتقول: «لا تقل دنا الوقت بل قل أتى ... لم يبق إلا خطوة صغيرة.»
قال: «نعم يا سيدتي إنها خطوة ولكنني أراها شاقة ...»
قالت: «أين صرت الآن؟»
قال: «سأجمع الرجلين في مكان واحد وإنما أحتاج إلى رأيك في كيفية القتل ... بالخنجر أم بالسم.»
فضحكت ضحكة دوى لها المكان وكشرت في أثناء القهقهة فبانت نواجذها وأصبح فمها كالمغارة المظلمة. ثم أطبقت فاها فجأة وأطرقت وقد تغيرت سحنتها وأبرقت عيناها ومدت يدها إلى علبة صغيرة بجانبها تناولت منها مسحوقا وضعت بعضه في فيها وجعلت تتلاهى بامتصاصه ومضغه. ثم رفعت بصرها إلى أبي حامد وكانت الصرة لا تزال بيدها فرمتها إليه وقالت: «لا حاجة إلى أولادي بدراهمك.»
فأدرك أنها استقلت المبلغ فاستخرج صرتين أخريين ودفع الكل لها وهم بتقبيل يدها تزلفا واسترضاء، وهي تتجنى وتترفع. لكنها تناولت النقود وقالت: «إن طلبك لا يقدر بالمال وأنا أعينك فيه إكراما لذلك المقتول ظلما ... انظر ... سأعطيك مسحوقا الذرة الصغيرة منه تقتل فيلا كبيرا ... وإذا لم تصدق جرب ...» وضحكت وليس ضحكها إلا عبارة عن تكشير شفتيها بدون أن يرافق ذلك ملامح الضاحكين. ثم أمرت الثعبان الذي في حجرها أن ينصرف فانساب إلى وكره.
فنهضت وهي تتوكأ على عكازها الغليظ وأشارت إلى أبي حامد أن يمكث في مكانه ريثما تعود. فمكث على مثل الجمر وهو يتبع الساحرة ببصره وقلبه يختلج خوفا من أن يثب عليه الثعبان وهو يعتقد أن الموت في نابيه رغم اعتقاده أنه مسحور. وفاته أن تلك الثعابين قد أقلعت أنيابها السامة ولولا ذلك لقتلت صاحبتها؛ لأنها لا ترعى ذماما.
فاستبطأ الساحرة فقال في سره: «ألا يخشى أن تخونني هذه الملعونة إذا أغراها سواي بمال كثير؟ فيجب أن أقتلها قبل خروجي من هنا.» ولكنه يعلم أن لها أعوانا ربما كانوا مختبئين هناك فعدل عن القتل وعزم على إطماعها بالمال الكثير خوفا من غدرها.
وبعد قليل عادت وفي يدها حق من الأبنوس فتحته وأرته فيه مسحوقا أبيض وقالت: «احذر أن تمسه بيدك؛ لأن ما يعلق منه بطرف إصبعك كاف لإزهاق الروح.» ثم أقفلت الحق ودفعته إليه.
فتناوله وقبل يدها، وقال: «لا تظني أني أنسى فضلك فإني معد لك هدية ثمينة سأدفعها إليك بعد الفراغ من هذا العمل.»
قالت: «لا حاجة بي إلى هدية ... خذ هذا الحق وامض إلى سبيلك.»
فتناوله وخبأه في جيبه وودعها وخرج. فرأى العبد في انتظاره فركب الجواد وعاد إلى فسطاطه وهو يمني نفسه بالفوز.
الفصل الثاني والثلاثون
الاستعداد
أما حمدون فقضى ذلك اليوم في فسطاطه وذهب في الغروب لتناول الإفطار على مائدة المعز كأمس وقد أخلص النية في مصادقته. وهكذا كان يفعل كل يوم من أيام رمضان ولمياء في قصر المعز معززة مكرمة وأم الأمراء تواليها بالإكرام والإيناس.
وقبل انقضاء رمضان ببضعة أيام أرتها القصر الذي ستعيش فيه بعد الزفاف وقد ملأته لها بالرياش والأثاث والتحف والجواري والغلمان. غير ما أهدتها إياه من المجوهرات والثياب الثمينة.
ولما دنا عيد الفطر أخذ حمدون يهيئ معدات الاحتفال في معسكره وهو لا يعمل إلا بمشورة أبي حامد، فأشار عليه هذا أن ينصب السرادقات على مرتفع بين يدي المعسكر، فنصبها على أكمات مشرفة على ساحة كبيرة ليلعب فيها الفرسان على الخيول، وفي مقدمة السرادقات سرادق كبير نصب فيه المقاعد للمعز وقائده ومن يختار أن يكون معه من خاصته. وسرادق للمطابخ تقام فيه الموائد وبينها مائدة خاصة بالخليفة وقائده وابنه وحمدون. واختص خدمتها بغلام صقلبي من غلمانه الخصوصيين أصله من صقالبة قصور قرطبة. وكان أبو حامد قد عاهده سرا على أمور تطمح أنظاره إليها وحمدون لا يعلم. وزعم أنه اختاره لهذه المائدة لمهارته في خدمة الموائد؛ لأنه تعود ذلك في قصور المروانيين في قرطبة وقد أتقن معالجة الأطعمة. وكان هذا الصقلبي قد استسلم لأبي حامد وأصبح يتفانى في تنفيذ أغراضه ولا يبالي بعواقبها.
وكان لأبي حامد سلطة خصوصية عليه من قبيل ما يعرف اليوم بالتنويم المغنطيسي، ولم يكن يعرف يومئذ بهذا الاسم. ولكن أبا حامد كان إذا أحب أن يستهوي هذا الغلام اختلى به وسقاه شرابا مخدرا ينعشه ويضعف إرادته ثم يأمره بما يريد فيصبح أطوع له من بنانه. وهو ينسب ذلك التأثير إلى فعل الشراب، والحقيقة أنه يستهويه بقوته المغنطيسية فإذا أمره بعمل وعين له وقته؛ لا بد من تنفيذه.
فلما عزم أبو حامد على ما نحن فيه استهواه قبل يوم الاحتفال ودفع إليه الحق وأمره أن يضع منه شيئا في الأقداح التي يسكبها للخليفة وقائده وحمدون والحسين بن جوهر.
ونظر أبو حامد في ما يعمله إذا نفذت حيلته فأرسل خاصته إلى مكان بعيد عن المعسكر من جهة الطريق المؤدي إلى مصر أعد فيه ما يحتاج إليه من وسائل النقل حتى إذا نجحت مكيدته فر إلى مصر يلاقي فيها سالما ويتممان مهمتهما بمساعدة صاحبها بفتح القيروان وإدخالها في حوزة الخليفة العباسي. ويكون ذلك سهلا عليه بعد قتل الخليفة العبيدي وقائده. لكنه ظل خائفا من لمياء؛ لئلا تكون مطلعة على بعض سره من حيث مخابئه ومعداته فأعد لهلاكها وسيلة أخرى.
الفصل الثالث والثلاثون
موكب الخليفة والسباق
دبر أبو حامد ذلك كله خلسة ولم يشعر به أحد وظل مشتغلا من جهة أخرى بإعداد مهمات الاحتفال. وقبل يوم الفطر ببضعة أيام نقلت لمياء إلى فسطاط أبيها على أن تزف من هناك إلى الحسين في المنصورية على العادة الجارية عندهم. وفى صباح يوم الفطر كان معسكر حمدون غاصا بالسرادقات والأعلام. وبعد الظهر خرج الخليفة بموكبه من قصره في المنصورية وعليه لباس العيد تحف به حاشيته من الأمراء والصقالبة. وقد امتطى فرسا من جياد الخيل ومشى بين يديه الأمراء والقواد إلا قائده جوهر فإنه أمره أن يسير راكبا بجانبه.
فلما أطل موكب الخليفة على ذلك المعسكر خرج حمدون لاستقباله بالاحترام ومشى بين يدي الجواد حتى وقف أمام السرادق المعد لجلوسه.
فترجل الخليفة وقائده وأومأ إلى الحسين بن جوهر أن يصعد معهما إلى دكة في صدر السرادق مفروشة بالبسط والوسائد. وقد أوقدت مباخر الند والعود في جوانب السرادق وغرست الأعلام ببابه.
فجلس المعز في الصدر وأمر قائده أن يجلس إلى جانبه والحسين بين يديه. وكان الحسين أكثرهم فرحا وقلبه يطفح سرورا لما اتفق له من الحفاوة في عرسه مما لم يتيسر لسواه. كيف لا وقد خرج الخليفة المعز لدين الله من قصوره إلى تلك الساحة إكراما له ولم يبق في الأمراء والقواد إلا من حسده على هذه النعمة. وتقدم حمدون للترحاب بالخليفة عند جلوسه وأكب على يده كأنه يهم بتقبيلها اعترافا بما خوله من الالتفات بتلك الزيارة وقد أخلص النية في طاعته. ثم سأل الخليفة عمن يريد أن يجالسه في سرادقه من الشعراء فاكتفى بابن هاني (متنبي الغرب) وكان حمدون قد أعد له ولأمثاله مقاعد في جوانب السرادق.
جلس المعز ووراء مقعده صقلبيان يحملان المذاب من ريش النعام كالمظلة فوق رأسه. وهو ينظر إلى ما يشرف عليه من السرادقات الأخرى. التي أعدت لجلوس خواصه ورجال حاشيته. واختص بعض أمرائه بالجلوس معه في سرادقه وأمام ذلك السرادق ساحة فسيحة قد سويت أرضها وفرشت بالرمال للعب الخيل.
ووقف حمدون بين يدي المعز وجعل يقدم له أمراء سجلماسة واحدا واحدا ويسميهم بأسمائهم وفي جملتهم أبو حامد واختصه عند التعريف بعبارات الإعجاب به وأعرب عن إخلاصه للخليفة. فأمر المعز أن يكون من جملة الجلوس في ذلك السرادق. ولم يقصر أبو حامد في تأكيد ولائه وولاء سائر أمراء البربر لأبناء فاطمة الزهراء. وبالغ في الإطراء وهو - كما علمت - فصيح اللهجة قوي الحجة رغم ما في سحنته من الغرابة. فأعجب المعز به وتوجه نحوه وأبدى ارتياحه إلى مجالسته.
فلما استقر الجلوس بالقوم تصدى أبو حامد للترحيب بالخليفة بالنيابة عن صديقه حمدون، فقال: «إن صديقي أمير سجلماسة يحق له أن يفاخر سائر الأمراء بما أوتيه من تنازلكم لوطء بساطه. بل يحق له أن يفاخر الناس كافة وقد وطئ بساطه ابن بنت الرسول
صلى الله عليه وسلم
ولعل صديقي حمدون؛ لفرط امتنانه لا يقوى على تأدية حق الشكر.»
فأعجب المعز بحديث أبي حامد وقطع كلامه على سبيل التواضع وقال: «إننا نقدر الرجال أقدارهم ونحن نعلم فضل صاحب سجلماسة، ومن أخلص الصحبة لنا جعلناه واحدا منا وإن مصاهرته لقائدنا الباسل جعلت له منزلة خاصة من نفسنا.»
فتقدم حمدون عند ذلك وقال نحو ما قاله أبو حامد من عبارات الشكر وأكد للخليفة أنه مخلص في خدمته واستأنف الحديث قائلا: «ألا يأمر أمير المؤمنين بشيء يسر بمشاهدته من الألعاب.»
فأحب المعز أن يزيده استئناسا به، فأجابه باللغة البربرية؛ لأنه كان يحسنها وقال: «كثيرا ما سمعت بمهارة فرسان سجلماسة بركوب الخيل فهل يتيسر لنا أن نراهم يتسابقون؟» وتبسم.
ففرح حمدون بذلك الانعطاف وأسرع وهو يشير بيديه فوق رأسه إشارة الطاعة. والتفت نحو الوقوف بباب السرادق من الرجال وأومأ بإصبعه إلى واحد منهم فهرع، ولم يمض قليل حتى غصت تلك الساحة بالخيول عليها الفرسان بالألبسة الفاخرة على زي أهل سجلماسة وأكثرهم باللثام على رءوسهم يغطي معظم الوجه. وعلى أكتافهم البرانس الواسعة نحو ما يلبسه أهل تلك البلاد إلى اليوم. وعلى خيولهم السروج المختلفة وفيها القرابيز الفضة المذهبة أو المنزلة بالعاج وبينها خيول عارية لا سرج عليها وإنما يزينها جمالها الطبيعي. على أن العارفين بطبائع الخيل لا يلتفتون إلى ما على الأفراس من الكساء وإنما ينظرون إلى صدورها وأعناقها وأكتافها، ويتفرسون في عيونها. وكان المعز من أكثر الناس معرفة بالخيل فأخذ يتأمل تلك الأفراس ويجيل نظره فيها كما يفعل العارف الخبير.
وقف الفرسان صفا واحدا عند السرادق وخيولهم لا تستقر في مواقفها ريثما أدوا واجب الاحترام. ثم أشار حمدون إليهم فأخذوا في اللعب على ظهورها ألعابا مدهشة تشغل الخاطر لغرابتها، وفيها ما يبعث على الإعجاب الكثير؛ لأن بعض الفرسان كان يسوق فرسه حتى لا تكاد حوافره تطأ الأرض ويعمد وهو في تلك السرعة فيدور حوله حتى يلتصق ببطنه ثم يعود إلى ظهره ورأى غيره يركب فرسا ويسوق آخر إلى جانبه وينتقل من ظهر الواحد إلى ظهر الآخر والفرسان في أشد السرعة وغير ذلك. فلم يتمالك المعز عن إطراء تلك المهارة ووجه خطابه إلى أبي حامد وقال: «بالحقيقة إن أهل سجلماسة من أمهر قبائل البربر في الفروسية حتى نساءهم فقد بلغني أن فيهن ماهرات يسابقن الرجال.»
فتصدى القائد جوهر للجواب وقال: «نعم يا مولاي إني رأيت ذلك منهن رأي العين في بلادهن.» والتفت إلى ابنه الحسين وابتسم ابتسامة فهم الجميع مراده منها - وهو يعني لمياء على الخصوص - فقال أبو حامد: «أظنك تعني لمياء وهز رأسه هز الإعجاب» فالتفت المعز وقال: «عرفنا لمياء عاقلة حكيمة وسمعنا ببسالتها في ساحة الوغى ... فهل تحسن ركوب الخيل أيضا؟»
الفصل الرابع والثلاثون
لمياء بين المواشط
وكان حمدون واقفا يسمع ذلك الإطراء بابنته فلم يخطر له أن يعرض على الخليفة رؤيتها على الجواد. لكن أبا حامد غمزه أن يفعل فقال: «هل يريد مولانا أن تخرج لمياء على فرسها؟»
فقال المعز وهو يحك عثنونه: «لا نريد أن نزعجها اليوم؛ لأنها فيما هو أهم من ذلك»، وضحك.
فتصدى أبو حامد للجواب وقال: «إنها لم تركب الخيل من زمان بعيد وإذا ركبت اليوم فلعلها آخر مرة يتأتى لها ذلك، ومتى صارت في بيت القائد ربما لا يعود يتيسر لها.»
فأشار المعز بالقبول وقال: «طبعا نحن نحب أن نراها ولكن لا نعلم إذا كان الحسين يوافقنا ...» والتفت إلى الحسين وابتسم فعد الحسين التفاته نعمة أخرى فأطرق خجلا.
فوقف جوهر بالنيابة عن ابنه وقال: «إنها أمة مولانا أمير المؤمنين، وسيكون لها الحظ كما يكون لنا في سبيل طاعة أمير المؤمنين.»
فأسرع حمدون إلى فسطاطه ليخاطب لمياء بما جرى وهو يعلم أن خروجها في تلك الساعة من أصعب الأمور؛ لأنها ساعة التبرج والتزيين. وتصور أنه سيجدها بين أيدي المواشط والحواضن يزينها ويصلحن من شأنها، ولكن خاب ظنه؛ لأن لمياء لما تحققت إتمام الاقتران وآن الزفاف هاجت عواطفها الكامنة وعادت إلى ذكرى سالم حبيبها الأول. ورغم ما ظهر من ضعفه وتردده فإنها ما زالت تحبه وتتفانى في مرضاته. وإنما كان قبولها بالحسين مؤقتا تنتظر ما يأتي به الغد في أثناء شهر رمضان. فلما جاء عيد الفطر ولم يجد شيء وانتقلت إلى بيت أبيها لتزف إلى الحسين أظلمت الدنيا في عينيها وتحققت أنها لا تلبث أن تصير زوجة لرجل وإن كانت تحبه وتعجب بمناقبه لكنها لا تزال ترى سالما أولى بقلبها منه. واعتقدت أن قبولها بالحسين يعد في شرع المحبين خيانة. فوقعت في حيرة وظهرت الحيرة فيها على الخصوص في صباح ذلك اليوم لما أتت المواشط لتزيينها وإصلاحها. فاستمهلتهن وانزوت في فسطاط أبيها تعمل فكرتها فلما جاء أبوها ليخاطبها بشأن الركوب أخبروه بما فعلت فذهب إليها فوجدها قاعدة على وسادة وحدها وقد أطرقت وبانت الحيرة في عينيها فقال: «ما بالك يا لمياء، لماذا أنت هنا؟»
فأرادت الجواب فسبقتها الدموع فسكتت.
فدنا منها وأمسك بيدها فأحس ببرودتها وارتعاشها وقد بالغت في الإطراق فلحظ الدمع في عينيها فاستغربه. وهو لا يقدر أن يتصور عواطف المحبين؛ لأنه لم يذق طعم الحب، فقال لها: «ما هذا الجنون ... ما بالك؟ لماذا تبكين؟»
فأفلتت منه وقالت وصوتها مختنق: «أبكي على سوء حظي ... يا لتعاستي!»
فقال: «وأي تعاسة؟ هل في الدنيا فتاة أسعد حالا منك؟ ستزفين بعد ساعات قليلة إلى أنبل الشبان. وهذا أمير المؤمنين قد جاء بنفسه؛ ليكون زفافك على يده. إن ألوفا من الأميرات يحسدنك على هذا الحظ وأنت تشكين من سوئه؟»
فقالت: «إني سيئة الحظ ... دعني الآن ...»
قال: «كيف أتركك وأنا قادم إليك بمهمة من المعز لدين الله ... بلغه أنك ماهرة في ركوب الخيل فطلب أن يراك على الجواد.»
فلما سمعت قوله شعرت بارتياح؛ لأن خروجها على الفرس ينجيها من مضايقة المواشط. وكانت إذا ركبت الفرس اعتزت على صهوته ونسيت كل مصائبها. وهي مع ذلك تحترم إرادة الخليفة. لكنها لم تجد في نفسها ميلا إلى الخروج في تلك الساعة وهي غارقة في القلق والاضطراب فقالت: «كيف يخرج مثلي إلى ساحة السباق؟ إن هذا لم يسمع به.»
قال: «صحيح لكن أمر الخليفة لا يمكن رده. وقد وافق عليه القائد جوهر وابنه الحسين .»
فلما سمعت اسم الحسين عادت إلى هواجسها وندمت؛ لأنها لم تقطع في هذه المسألة من أول الأمر، من يوم خاطبوها بهذا الشأن ... كان ينبغي أن ترفض أو تقبل أو تهرب أو ... ولا ترضخ لذلك التردد شهرا كاملا حتى إذا أزفت الساعة ضاقت بها الحيلة ...
فلما طال سكوتها ظنها آسفة لخروجها من بيت أبيها ودخولها بيت رجل غريب كما يصيب أغلب البنات في مثل هذه الحال. فأمسكها بيدها وأنهضها وهو يقول لها: «اركبي جوادك وانزعي الأوهام عنك ... إنك ذاهبة إلى بيت أعظم من بيت أبيك وستزفين إلى شاب هو أعظم شبان هذه الديار ... قومي ... هيا بنا ... إن الخليفة في انتظارنا.»
الفصل الخامس والثلاثون
لمياء على الجواد
فوقفت ورأت خروجها على الجواد خيرا من بقائها هناك، وخطر لها أنه قد يرميها فتقتل وتنجو من ذلك التردد، فأطاعته ولبست ثوبا يليق بالركوب ولفت رأسها بلثام تعودت أن تلتف به إذا ركبت. وأتوها بفرس من أحسن الأفراس فركبت وساقته إلى الساحة أمام السرادق والجواد يقطر عرقا. فتقدم إليه بعض الغلمان الواقفين هنا لتلبية الفرسان بما يحتاجون إليه من التقاط حربة سقطت أو إبدال رمح كسر، وفيهم من يمسح عرق الخيل أو يغسل وجوهها تنشيطا لها. فتقدم أحدهم وبيده وعاء فيه ماء وإسفنجة بلها بالماء ومسح وجه الجواد وأخذ بتنشيفه ولمياء على ظهره كالجبل الراسخ.
ولم يكد الغلام يفرغ من عمله والخليفة يتوقع أن تبقى لمياء واقفة تنتظر أمره. فرآها أشارت إليهم إشارة الوداع كأنها راجعة إلى خدرها.
وإذ بالجواد قد عاد بها عدوا سريعا عن غير إرادتها كأنها وخزته بحربة في جنبه. ولم تشأ أن توقفه؛ لئلا يظهر ذلك مظهر الخوف منها فأطلقت له العنان على أن توقفه هناك وهي بعيدة عن سرادق الخليفة. فظنها أهل السرادق أنها فعلت ذلك عمدا على أن تعود رأسا إلى فسطاطها. أما هي فأرادت أن توقف الفرس فلم تره يزداد إلا عدوا على غير هدى كأنه أصيب بجنة.
وعبثا حاولت كبح جماحه. ثم رأته يتوغل بها في الشعب والجبال وهو يشخر ويصهل ويهز رأسه. وأرادت أن تحوله نحو المعسكر فلم يطعها. وبعد قليل التفتت إلى ورائها فرأت أنها صارت على مسافة بعيدة من المعسكر وقد توارى عنها المعسكر والمنصورية جميعا والجواد سائر فيها شرقا جنونيا.
مرت بها دقائق رهيبة خطر لها في أثنائها خواطر عديدة. وفى جملتها أن جموح ذلك الجواد قاتلها لكنه قد ينقذها من ترددها ووخز ضميرها، وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب وأخذت الظلال تستطيل ولمياء توغل في الوعر وتبعد عن العمران.
فثبتت نفسها على الجواد كأنها قطعة منه وهي لا تخاف الوقوع عنه لكنها تحققت أنه أصيب بشيء كالجنون أو أنه أهيج بوخز أو عقار مهيج؛ لأنه لم يكن يعدو في طريق معروف بل كان تارة يهبط واديا وطورا يصعد جبلا والحجارة تتطاير من بين حوافره. ولم يقع بصرها على أحد تستنجده أو تستأنس به. فعزمت على التحول عن الجواد وهو راكض - ولا يعجزها ذلك لتعودها مثله - ولكنها لم تكن تجد أرضا رملية أو ترابية تثب إليها.
وهي تفكر في ذلك اصطدم الجواد بصخر فانتثرت هي عن ظهره بقوة الاستمرار وقذفت إلى مسافة بضعة أذرع، فوقعت في حفرة هناك قليلة العمق فغابت عن رشدها.
ولم تنتبه إلا وقد أظلمت الدنيا وظهرت النجوم فأرادت النهوض فأحست بألم في جنبها فلم تجد فيه كسرا وإنما هي رضوض. ثم أحست بشيء يسيل على عنقها فتلمسته فإذا هو دم بارد. فعرفت أنها أصيبت بجروح فتجلدت وتماسكت، ثم توكأت على ما بين يديها ونهضت وهي تستند إلى جدار الحفرة. والتفتت إلى ما حولها فرأت أنها في بلقع، ولم تقو على الوقوف فسقطت، فأخذت تفكر بما حل بها وصبرت نفسها ريثما تستريح وجعلت تجس أعضاءها لتتحقق نجاتها من كسر أو صدع، فوجدت أنها سليمة ليس فيها غير الرضوض.
وشغلها اضطرابها عن خوف الحشرات المؤذية وهي كثيرة هناك.
وأخذت تناجي نفسها قائلة: «ألم يكن من الحكمة أن أصاب بكسر في عنقي بهذه الصدمة فأموت وأنجو من متاعبي؟ فيكون الله قد استجاب دعائي وأنقذني من عذاب التردد؟ يا ربي ما العمل الآن؟»
ثم تزحزحت لتجرب قوتها فسمعت خشخشة ثعبان ينساب بين الأحجار وراءها. فقف شعرها وهمت بالنهوض لتخرج من ذلك المكان - ولم تكن تخاف الثعابين إذا قابلتها في النور لكنها خافت الغدر.
الفصل السادس والثلاثون
رسول غريب
وهي تهم بالنهوض سمعت وقع حوافر مسرعة فأسرع الثعبان في الانسياب حتى توارى وخفق قلبها فالتفتت فرأت أشباحا كالفرسان يزيد عددهم على عشرة يسوقون أفراسهم. فحدثتها نفسها أن تستغيث بهم ولم تكد تهم بذلك حتى سمعت بينهم صوتا يقول: «هل رأيتم أحدا؟ لا شك أنها قتلت.»
فأجابه الآخر: «لا بد من ذلك؛ لأننا رأينا الجواد مقتولا فهل تبقى هي حية؟»
وتوسمت في صوت الأول لحن أبي حامد فغالطت نفسها وأحبت أن تتحقق ظنها فانزوت في مكانها حتى اقترب القوم منها فقال أحدهم: «لقد تمت حيلتنا ولا يلبث ذلك الدعي أن يموت هو وقائده قبل أن يتناولا العشاء انظروا هذا هجان قادم من طريق مصر ... تربصوا له.»
فأصبحت لمياء من شدة تأثرها تنتفض كالعصفور بلله القطر. وخانتها قواها وأدركت أن القوم أبو حامد ورجاله وأنه الذي دبر لها هذه المكيدة بشيء وضعوه للجواد في أنفه عند غسل وجهه. وحدثتها نفسها أن تصيح فيهم فعلمت أنها إذا فعلت قتلوها لا محالة وهي لا تريد أن تموت على أيديهم، فتجلدت، وأخذت تنظر إلى الجهة التي تظن الهجان قادما منها. فرأت هجانا مسرعا سرعة البرق فاعترضه الفرسان وأوقفوه وسأله أحدهم قائلا: «إلى أين يا رجل؟»
قال: «إلى المنصورية.»
قال: «ومن تريد؟»
قال: «أريد أمير المؤمنين المعز لدين الله.»
قال: «وما الذي تحمله إليه؟»
قال: «أحمل إليه رسالة من مصر.»
قال: «أين هي؟ هاتها ... إننا من رجاله.»
قال: «لا أسلمها إلا إليه ... دعوني أسير في طريقي.» قال ذلك وأدار زمام هجينه فاعترضوه ومنعوه وألحوا عليه أن يدفع إليهم الرسالة وهو لا يرضى. فقال له أبو حامد: «إنك كاذب، لست قادما من مصر؛ لأن القادم منها لا يأتي منفردا في هذه الصحراء ... اصدقنا وإلا قتلناك.»
قال: «كنت قادما في قافلة نزلت عند الغروب على ماء هناك وأسرعت وحدي لتبليغ الرسالة؛ لأنها مستعجلة لا بد من إيصالها قبل انقضاء هذا اليوم.»
فقال أبو حامد: «لا شك أنك كاذب، بل أنت لص أو جاسوس، ونحن من رجال الخليفة فإذا كنت صادقا فادفع لنا الرسالة، والخليفة الآن في قصره، لا تدركه إلا وقد نام.»
قال: «إن الرسالة خصوصية له، وقد أمرت أن لا أسلمها إلى أحد سواه ولو كان ابنه. وقد أوصيت أن أدفعها إليه حال وصولي، وإذا كان نائما أيقظته، وإذا كان متكئا لا أمهله أن يجلس قبل أن أدفعها إليه. هذا ما أمرت به، فإذا كنتم من رجال الخليفة كما تزعمون، فدعوني أذهب في سبيلي.»
فقال أبو حامد: «أعطنا الرسالة وإلا قتلناك.»
فقال: «اقتلوني ولا أسلمها إلى لصاحبها.»
ولم يتم كلامه حتى سمعت لمياء استلال الحسام ورأت أحدهم ضرب ذلك الهجان بالسيف على رأسه فسقط عن الجمل قتيلا. وصاح أبو حامد وهو يقهقه من الضحك: «أوصل إليه الرسالة، أو تمهل، إنكما ستلتقيان في السعير بعد قليل.»
والتفت إلى القاتل وقال له: «فتشه واستخرج الرسالة منه وأدركنا فإننا سائقون إلى موضع القافلة.» قال ذلك وساق جواده وتبعه رجاله إلا القاتل؛ فإنه ترجل عن جواده ووضع سيفه المسلول على الأرض بجانبه حتى يمسحه من الدم بعد الفراغ من تفتيش القتيل.
فتحققت لمياء أن تلك الرسالة هامة ولولا ذلك لم يفضل حاملها القتل على تسليمها، وأعجبتها أمانته وثباته. وكانت كثيرة الإعجاب بالأخلاق العالية. فأسفت لموته وأحست بميل إلى الانتقام له. وكانت قد تجددت قواها أو لعل حماستها نشطتها فتلملمت ونهضت وخرجت من الحفرة خلسة وهي تتسرق والرجل مشتغل بالتفتيش حتى دنت من السيف المطروح بجانبه فتناولته بأسرع من البرق وأطلقته على عنقه فسقط فوق الهجان وثنت عليه بضربة أخرى حتى تحققت موته ثم أزاحته وأتمت التفتيش، فوجدت الرسالة، وهي عبارة عن أسطوانة من القصب الفارسي فيها الكتاب وكان قد خبأها بين أثوابه، وهمت بالجواد فامتطت صهوته وكانت قد عرفت جهة المنصورية منذ رأت الهجان قادما، وحولت شكيمة الجواد نحو معسكر أبيها، وقد عادت إليها قواها تحمسا في مصلحة المعز وأسرعت في إيصال تلك الرسالة لاعتقادها أنها لو لم تكن عظيمة الأهمية لم يؤمر حاملها بإيقاظ الخليفة من نومه لتسليمها إليه، وكانت قد تنسمت من كلام أبي حامد أنهم أعدوا مكيدة لقتل المعز. فعلمت أنها إذا أسرعت أنقذت ذلك الخليفة الذي تحبه وتحترمه، فأحست بنشاط وفرح فهمزت جوادها نحو معسكر أبيها وهي لا تراه لكنها علمت مما حولها أنها متجهة نحوه وقد نسيت حالها ولم تعد تفكر بالدم الذي يسيل على عنقها وكان قد جمد وانسد الجرح ولم يضرها؛ لأنه سطحي.
أما أهل ذلك المعسكر فكانوا لما رأوا لمياء أشارت إليهم إشارة الوداع وركض بها الفرس توهموا أنها عزمت على شوط تركض به فرسها ثم تعود إلى فسطاطها الذي كانت فيه كما تقدم.
وكان أبو حامد هو الذي دبر تلك المكيدة للمياء فدس أحد غلمانه بين الموكلين بمساعدة الفرسان وأوصاه أن يدس في أنف جواد لمياء مادة حريفة تهيجه وتحمله على الركض بغير هدى، فهو عند ذلك لا يهدأ حتى يتحطم هو وراكبه.
فلما تحقق عمل العقار ورأى لمياء غابت عن أعينهم وسمعهم يتساءلون عن مصيرها أكد لهم أنها ودعتهم ولا تلبث أن تعود إلى فسطاطها، وأخذ يشاغلهم بالحديث وطلب إلى حمدون أن يأتيهم ببعض الألعاب الغريبة ليتسلى الخليفة برؤيتها مما لا مثيل له في القيروان واحتال في الخروج من السرادق، وكان قد أمر رجاله أن يهيئوا أحمالهم ويخرجوا بها من ذلك المعسكر إلى مكان يعرفونه بجانب الطريق المؤدي إلى مصر كما تقدم.
فلما بعد عن المعسكر ركب هو ورجاله وأخذوا يبحثون عن لمياء ليتحققوا قتلها وشاهدوا جوادا في الطريق قد وقع قتيلا بعد أن اصطدم بذلك الصخر وتراجع ودمه يسيل من صدره حتى وقع. فلما رأوه ولم يعثروا بلمياء تأكدوا قتلها في مكان رماها به.
الفصل السابع والثلاثون
المائدة
أما حمدون فلما دنا الغروب دعا الخليفة إلى العشاء الذي أعده له في السرادق الخاص بمائدته ... وذهب الأمراء إلى موائدهم في السرادقات الأخرى ومشى الخليفة إلى المائدة وقد أضيئت السرادقات بالشموع وأحرق البخور في أطرافها ومدت الموائد في أواسطها وعليها أنواع الأطعمة، وذهب حمدون إلى الطاهي القرطبي - الذي تقدم ذكره - وبالغ في وصايته حتى يحسن الوقوف في خدمة الخليفة.
وقبل التقدم إلى المائدة أزفت الصلاة فصلى الخليفة وصلى القوم وراءه، ثم جلس كل منهم في مكانه، ومائدة الخليفة لم يجلس عليها إلا هو وقائده وابن قائده ووقف حمدون يخدمهم بنفسه بمساعدة الطاهي المشار إليه وبعض غلمان آخرين يحملون الأطباق من المطابخ، ووقف سائر الغلمان بأباريق الفضة والقوارير فيها الجوارشنات أو الأشربة الهاضمة وقد شغل حمدون بأضيافه عن التفكير بلمياء؛ لاعتقاده أنها عادت إلى فسطاطها.
فبعد أن تقدمت ألوان الأطعمة - وهي كثيرة ومتقنة - أحس الخليفة بالعناية التي بذلها صاحب سجلماسة في إكرامهم وظهر له الفرق بين الأطعمة التي تعود تناولها في قصره وما تناوله تلك الليلة؛ لأن العبيديين كانوا إلى ذلك الحين لا يزالون ميالين إلى السذاجة في الطعام واللباس لأسباب تقدم بيانها، أما حمدون فقد تعود وهو بسجلماسة الترف والتأنق بالأطعمة؛ تقليدا للمروانيين في قرطبة. وكان يبتاع أمثال آنيتهم للمائدة من الأباريق والأطباق الفضة والذهب ويوصي الطهاة بمعالجة اللحوم والألوان كما كان الخليفة الناصر يفعل في قصر الزهراء.
فلما صار حمدون في الأسر لم يعد يستطيع ذلك التأنق لكنه في تلك الليلة أوصى الطهاة أن يبذلوا الجهد في إصلاح الأطعمة؛ ليدهش الخليفة ويؤكد له حفاوته وإكرامه - ذلك ما أوعز به أبو حامد وأوصى الطاهي الخصوصي أن يجعل في جملة الأشربة الهاضمة الشراب الذي أمره أن يضع السم فيه.
فلم يتمالك المعز لدين الله عن إبداء إعجابه بتلك الحفاوة وذكر على الخصوص لذة الأطعمة، فقال له حمدون: «إننا تجاسرنا في إخراج أمير المؤمنين عن عادته في الاقتصار على الأطعمة البسيطة التي اقتضاها تقشفه إلى ما تعوده غيره من الملوك المنغمسين في ملذات الدنيا، وإنما فعلنا ذلك على سبيل التجربة فقط.»
فقال المعز: «قد علمنا ذلك ولا بأس به ... ولكن كيف تأتى لك هذا وأنت هنا؟»
فقال: «عهدت بذلك إلى طاه كان من جملة طهاة صاحب قرطبة، وهو كثير التفنن.» وأشار إلى الطاهي الواقف في جملة الواقفين وقال: «هذا الطاهي يا سيدي أتقن من عرفت من الطهاة للأطعمة.»
فالتفت المعز إليه فرآه في أنظف ما يكون من الثياب وقد حمل بيده إبريقا من الذهب وقدحا فابتسم المعز ابتسام من عرف الحق وأغضى عنه وقال: «بمثل هذه الأطعمة أوهنت عزائم أولئك ... لكن لا خوف علينا؛ لأننا لن نعود إلى مثلها بعد الآن ... ما الذي تحمله بهذا الإبريق؟ لم يبق لنا قدرة على طعام.»
فتقدم الطاهي وقال: «هذا يا سيدي شراب هاضم لا تلبث أن تتناول منه قدحا حتى تذهب التخمة وتشعر بالرغبة في الطعام ثانية.»
قال ذلك وصب منه في قدح من الزجاج منقوش وناوله إلى حمدون؛ فأخذ حمدون القدح وجعل يتفرس في ما عليه من النقوش - وهو من جملة آنية ابتاعها من تاجر حملها من قرطبة. ثم نظر إلى الخليفة وقال: «هذا الشراب الهاضم لم أذقه قبل الآن فإنه من استنباط هذا الطاهي؛ ولذلك ينبغي أن أذوقه قبل تقديمه لأمير المؤمنين.» أو هي عادتهم في الشروع بالطعام قبل ضيوفهم ويعدون ذلك مبالغة في الحفاوة. ثم أدنى القدح من فيه وشربه وأخذ يتلمظ ويبدي الإعجاب. وأمر الساقي فصب في قدح آخر ناوله إلى الخليفة وآخر ناوله إلى القائد جوهر وآخر للحسين.
الفصل الثامن والثلاثون
قادم مفاجئ
وهم الخليفة أن يتناول الشراب مجاراة لحمدون؛ لأن معدته قد امتلأت بالأطعمة والأشربة؛ فأزعجه دبيب جواد مسرع وقف بباب السرادق وعليه راكب ملثم والجواد يلهث لهثا شديدا وقد تصبب العرق منه من الجهد.
وترجل فارسه وهم بالدخول بلا استئذان فمنعه الحجاب فلم يبال واخترق الصفوف ركضا وبيده أسطوانة من الغاب الهندي حتى دنا من المعز، فخاف القوم أن يكون من جسارته خطر على الخليفة فنهض القائد جوهر والقدح بيده وأمره أن يرجع، فلم يبال بل ظل مسرعا وبانت بقع الدم على لثامه، فلما دنا من الخليفة دفع إليه الأسطوانة وأشار بإصبعه أن يقرأها حالا؛ فتناولها منه وهو يتفرس فيه، وكان الحضور منذ دخل الرسول قد استأنسوا بثوبه وخصوصا؛ حمدون فإنه عرف ابنته من ثوبها فصاح: «لمياء!»
فلم تجبه فلما سمعه الخليفة يناديها انتبه أنها قد تكون هي فقال: «هل أنت لمياء؟» قالت: «لا تعمل عملا يا سيدي قبل أن تقرأ هذه الرسالة.»
فلما سمع صوت ابنته عرفها فأراد أن يدنو منها لمخاطبتها فخانته قدماه وأحس بدوار شديد فسقط على الأرض؛ فاشتغل الغلمان بإسعافه ونقلوه إلى فسطاط قريب، والخليفة ينظر إلى الكتاب وهو يقول للمياء: «من أين هذا؟» ولم يكترثوا لدوار حمدون لاعتقادهم أنه بنج من كثرة الأكل فقالت لمياء: «هو من مكان بعيد وقد أمر حامله أن يعطيه للخليفة حال وصوله ... وإذا كان نائما يوقظ، وإذا كان متكئا لا يمهل حتى يجلس قبل قراءته؛ وهذا ما جرأني على إزعاجكم وأنتم على المائدة ...»
فدفع الخليفة الأسطوانة إلى القائد جوهر ففضها وأخرج منها لفافة عرف من شكلها أنها من مصر لكنه لم يعهد بينه وبين أميرها صداقة أو علاقة توجب مخابرة ودفع جوهر الرسالة إلى المعز؛ لعلمه أنه يحب أن يقرأ المراسلات بنفسه، وكان القدح لا يزال في يده فأدناه من فيه ليشربه قبل قراءة الرسالة، فأسرعت لمياء وأبعدت القدح عن فيه، وقالت: «قد أمر حامل الرسالة أن يمنع أمير المؤمنين عن كل عمل قبل قراءتها.»
فاستغرب المعز ذلك وأخذ بالقراءة لنفسه والحضور ينظرون في وجهه وخصوصا جوهرا، فرأوا الخليفة قد تغيرت سحنته وبدا الغضب في وجهه وخامره القلق، وأما الحسين فكان في أثناء ذلك لا يرفع بصره عن لمياء وقد أدهشه ما رآه من حالها والدم قد لطخ نقابها وبعض ثوبها، ولم يتجاسر أن يخاطبها في حضرة الخليفة ولاسيما بعد أن رأى تغير وجهه ... وأطال المعز نظره في الكتاب وأعاد تلاوته وهو كالمستغرب لما يقرؤه. وتطاول الحضور بأعناقهم لمعرفة ما حواه الكتاب، لكنهم لم يجسروا على التماس ذلك.
وبعد هنيهة أشار الخليفة إلى جوهر وابنه أن يضعا الأقداح ودفع الكتاب إلى جوهر ونظر إلى لمياء وقال لها: «أين حامل هذه الرسالة؟ ادعيه إلى هنا.»
قالت: «إن حاملها قتل يا سيدي وكدت أقتل معه ولكن الله أعانني لإيصاله إليكم وأنا على آخر رمق.»
فأشار إلى من في السرادق أن يخرجوا إلا جوهرا ولمياء، وأمر الحجاب أن يمنعوا الناس من الدخول حتى الأمير حمدون نفسه ففعلوا، وكان جوهر مستغرقا في تلاوة الكتاب لنفسه وقد أصابه من الدهشة أضعاف ما أصاب المعز، فلما خلا السرادق من الغرباء التفت الخليفة إلى لمياء وقال: «اكشفي عن وجهك وقصي علينا خبرك، إني أرى عجبا وأقرأ أعجب منه.»
فلم يسعها إلا الطاعة فرفعت اللثام عن وجهها وقد لصق بعضه بعنقها من الدم وتغيرت ملامحها من عظم ما ألم بها في تلك الليلة وازدادت عيناها حدة وبسالة وإبراقا.
فقال الخليفة: «ما خبرك؟ من أين أتيت؟»
فقصت عليه ما جرى لها من أوله إلى آخره وهو يسمع ويستغرب، وينظر في أثناء الحديث إلى قائده كأنه يستطلع رأيه في ما يسمعانه من الغرائب.
الفصل التاسع والثلاثون
نص الرسالة
فلما أتت على آخر الحديث أصبحت في شوق للاطلاع على فحوى تلك الرسالة لكنها لم تجسر على طلب ذلك، أما الخليفة فإنه كان يسمع كلامها ويتأمل ما يبدو في عينيها من صدق اللهجة والبسالة، فلما وصلت إلى ملاقاة ذلك الهجان وكيف أنها قتلت قاتله وحملت الرسالة لإيصالها سريعا وهي مصابة بالجروح والرضوض لم يتمالك أن قال لها: «لله أنت من فتاة باسلة وصديقة صادقة، أتحبين أن تسمعي نص هذا الكتاب فإني أعدك ابنة لي، بل أنا لا أتوقع من ابنتي أو ابني أن يكون غيورا علي مثل هذه الغيرة ... اقعدي.» وأشار إلى مقعد بجانبه فجلست عليه وأمر جوهرا أن يقرأ الرسالة فأخذ يقرؤها وهذا نصها:
إلى أمير المؤمنين المعز لدين الله من عبده يعقوب بن كلس
أما بعد فإنني ما برحت أذكر نعم المولى وفضله علي وعلى آبائي وأنا أترقب الفرص للقيام بما فرض علي في سبيل نصرته؛ لأني وإن كنت ذميا لم أتشرف بالإسلام فإني قادر على أن أرى وجه الحق بالنظر إلى تنازع المسلمين على الخلافة - وهي حق صريح لآل علي أبناء عم النبي وأبناء بنته.
وإنما اختلسها سواهم طمعا بالدنيا، لكن الحق عاد إلى نصابه بفضل أجدادك الكرام وسيتأيد على يد الإمام المعز لدين الله؛ ولذلك رأيتني لا أدخر وسعا في نصرة الحق وأراقب الفرص في تأدية خدمة تعود على الإمام بالنصر وقد علمت بدسيسة أعدها المبغضون لإيقاع الأذى بالإمام وقائده - أعزهما الله - علمت ذلك بطريقة غريبة في ليلة من ليالي القدر، فلم أنم قبل أن كتبت هذا وبعثت به على جناح السرعة مع رسول غيور، أوصيته بجد السير حتى يصل قبل فوات الفرصة. فأرجو أن يكون قد فاز بذلك وسلم كتابي هذا إلى المولى - أعزه الله ونصره على أعدائه.
وجلية الخبر يا سيدي أني علمت من قرائن مختلفة أن بين أمرائك العائشين تحت جناحك أناسا يسعون في الكيد لك ولقائدك ويخابرون صاحب مصر لفتح القيروان وإلحاقها بخلافة العباسيين، وكنت إذا سمعت ذلك استبعدته؛ إذ لا يعقل أن يسعى أحد في إبدال دولة بالية خربة من دولة جديدة زاهية، وحدثتني نفسي أن أكتب إليكم بذلك وترددت حينا حتى وقفت بالصدفة على أمر أطار صوابي وأقلقني، وهو ما بعثني على كتابة هذا بوجه السرعة وقلبي يخفق خوفا من تأخره عن الوقت اللازم.
علمت يا سيدي من مصدر وثيق - وقد سمعت بأذني - أن صاحب سجلماسة المقيم في جوارك ورجلا من خاصته اسمه أبو حامد اتفقا على الكيد بك وبقائدك الباسل على أن ينفذ الحيلة في عيد الفطر المبارك وبعثا إلى مصر شابا من رجالهما اسمه سالم يزعم أنه ابن أبي حامد أو ابن أخيه، فهذا الشاب سمعته بأذني يقص خبر المكيدة وهو في حال سكر على امرأة تعشقها. ولكي تتأكد صدق قولي فأنا أذكر من أسماء الأشخاص الذين استعان بهم في هذه المكيدة فتاة أظنها ابنة صاحب سجلماسة اسمها لمياء أظهر لها سالم أنه يحبها ليستخدمها في إتمام هذه المكيدة؛ لأنها من المقربين في قصر مولاي أمير المؤمنين. ولا يطيعني قلمي على التصريح بما دبر أولئك الملاعين - وقى الله مولانا الخليفة من كيد الكائدين - وإذا بلغ كتابي هذا إلى سيدي الخليفة قبل عيد الفطر فهو ناج بإذن الله.
والرسول رجل من المولعين بالحق أنصار العلويين - أيد الله ملكهم - وأنا يا سيدي خادم مطيع لكم أبذل نفسي في سبيل الحق ولا غرض لي غير ذلك، والسلام ا.ه.
ولم يبلغ جوهر إلى آخر الكتاب حتى استولت الدهشة على لمياء وأصابها شبه الدوار من الحيرة؛ لاستغرابها ما تسمعه عن سالم. وانكشفت لها مكيدته وتحققت أنه كان يخادعها؛ فأحست من تلك اللحظة بكرهه وتحول حبها الشديد إلى كره شديد وأصبحت لا تصبر عن الانتقام لنفسها منه ... وأطرقت كأنها أصيبت بجمود وشعرت كأن الدم جمد في عروقها واصطكت ركبتاها وتولتها الرعدة. وقد خجلت مما تلي عليها من دخولها في تلك المكيدة. وكيف أن يهوديا يبعث بخبرها من مصر غيرة على الخليفة، وهي في قصر المعز وقد اطلعت على المكيدة منذ شهر ولم تخبره بها، لكنها التمست لنفسها عذرا أنها دافعت حتى انتهت المسألة على هذه الصورة.
مرت هذه الخواطر على ذهنها في لحظة سمعت في أثنائها الخليفة يقول: «أين صديقنا صاحب سجلماسة.»
فلما سمعت لمياء نداءه تحققت أنه أراد أن يسأله عن المكيدة وخافت وقوعه في الأذى لكنها سكتت لترى ما يكون. فأجاب أحد الغلمان: «إن الأمير حمدون نائم منذ نهض عن المائدة.»
فقال وقد بان الغضب في وجهه: «أيقظوه.» ثم التفت إلى القائد جوهر وقال: «وأبو حامد؟ أليس هو ذلك الرجل الذي قدمه لنا حمدون؟ أحب أن أرى الأمير حمدون لأسأله عن تلك المكيدة وإن كنت لا أصدق دخوله فيها ولكنه سيفصح عن التفاصيل ونرى ما يكون ... أين هو؟ أيقظوه.»
الفصل الأربعون
حمدون
وإذا بغلمان حمدون يتراكضون وقد أخذتهم البغتة وتقدم أحدهم إلى المعز وقال وهو يغص بريقه : «لم يستيقظ يا سيدي.» وأخذ في البكاء؛ فلما سمعت لمياء بكاءه أسرعت إلى حيث رقد أبوها، فوجدته مستلقيا على مقعد هناك وقد تغير لونه، فازرقت بشرته وغارت عيناه وبانت أدلة الموت في وجهه فصاحت: «وا ولداه! ماذا جرى لك؟» وجعلت تجس يديه ووجهه فإذا هو ميت لا حراك به. فأخذت تناديه وسمع الخليفة بكاءها فأسرع ومعه القائد جوهر فلما رأيا حمدون تحققا موته وعجبا لما أصابه فأمر المعز أن يؤتى بالطبيب حالا فأتى. وحالما وقع نظره عليه صاح: «مات الأمير مسموما. ماذا شرب؟»
فقال المعز أكلنا معا من طعام واحد إلا شرابا صبه الغلام لنا جميعا فشربه هو ولم نشربه نحن ولا تزال أقداحه مملوءة على المائدة ... ومشى الخليفة إلى غرفة المائدة ودل الطبيب على الأقداح فتناول الطبيب قدحا منها وتأمل السائل الذي فيه قليلا وشمه ثم استخرج من جيبه مسحوقا وضع شيئا منه في ذلك الشراب وجعل يتفرس بما يحدث فيه والجميع وقوف ينظرون. فلم تمض برهة حتى تحول ما في القدح إلى راسب أصفر وتغير لون الماء فصاح: «إن هذا الشراب سام ... من صنعه؟»
فأمر المعز بالقبض على الطاهي الذي تولى تلك الوليمة، فلم يقفوا على خبره وأطرق المعز في أثناء ذلك وأعمل فكرته في ما رآه من الغرائب في ذلك المساء؛ فاتضح له سلامة نية حمدون؛ لأنه لو اشترك بالمكيدة وعلم أن الشراب مسموم لما تناوله.
وأسف المعز لموت حمدون وأمر أن يجهز ويناح عليه ويدفن. والتفت إلى لمياء فإذا هي قد وقفت لا تحير خطابا كأنها أصيبت بجمود، فقال لها: «تعالي يا بنية، رحم الله والدك إنه مات مظلوما، والله يتولاه برحمته فأنت الآن ابنتنا، لا نقول ذلك تعزية لك لكنك أتيت في مصلحتنا ما لا يأتيه الابن الغيور.» ومد يده إلى كتفها وربت عليه بحنو وعطف وقال: «هيا بنا إلى قصرنا في المنصورية واحسبوا أن هذا الفرح لم يكن ... وستجدين هناك أم الأمراء وتأنسين بها ...»
فلم تجبه لكنها أخذت في البكاء وهي صامتة تناجي نفسها بأمور لا تخطر لأحد من الحاضرين، لكنها أحست بغضب شديد على سالم وجاشت عواطفها ورأت في نفسها ميلا للانتقام منه. ومن قواعد الحب وطبائع المحبين أن المتفاني في حب شخص يحتمل منه ما شاء من التجني والدلال والإعراض ولا يزداد إلا شغفا وتفانيا، لكنه لا يحتمل الخيانة ... فإذا تأكد أنه خانه في عواطفه أو خادعه أو داجاه لغرض في نفسه انقلب حبه بغضا وصار تفانيه نقمة، فأحست لمياء بميل شديد إلى الانتقام من سالم وقد تحققت خيانته؛ لأنه كان يظهر حبه حيلة للفتك بأعظم المحسنين إليها وإليه.
وأمر المعز أن تقوض الفساطيط والسرادقات ويؤجل العرس إلى وقت آخر فالتفتت لمياء عند ذلك وقد هاجت أشجانها وقالت: «نؤجله يا سيدي حتى ننتقم لنفسنا من الكائدين، فإذا وافقني أمير المؤمنين على ذلك ضاعف فضله علي.»
فقال: «سننظر في ذلك.» وأمر رجاله بالرجوع إلى المنصورية فاشتغلوا بتقويض الخيام، وركب المعز وقائده ولمياء والحسين وسائر الحاشية إلى المنصورية والغلمان يحملون المشاعل بين أيديهم.
وفى صباح اليوم التالي احتفلوا بدفن حمدون وبكته لمياء بكاء مرا لسبب لا يعرفه سواها، وهو اعتقادها أنه قتل بسذاجته وسلامة نيته ودهاء ذلك اللعين أبي حامد.
وكانت لمياء حال وصولها إلى القصر في ذلك المساء دعتها أم الأمراء إلى غرفتها وأخذت في تعزيتها بعبارات الحنو والحب كما تخاطب الوالدة ابنتها، فأحست لمياء براحة وزادت تعلقا بها. وأيقنت أنها كانت على هدى بإخلاصها لتلك الملكة وإنما شوشوا عليها أفكارها بمكائدهم.
الفصل الحادي والأربعون
لمياء وأم الأمراء
ولم تطل الملكة الحديث تلك الليلة والميت لم يدفن بعد. ففي الصباح التالي لما علمت بدفنه بعثت إلى لمياء وأمرتها أن لا تفارقها وبالغت في إكرامها وتعزيتها وذكرت الحسين في أثناء حديثها، فتذكرت لمياء أنها لم تشاهده في ذلك اليوم ولا رأته بعد عودته معهم في المساء. فاشتغل خاطرها بشأنه وشعرت بميل إلى رؤيته وودت أن تلتقي به في خلوة لتبث له أمورا تحب أن تساره بها بعدما أصابها من قتل والدها وتغير قلبها على سالم، فلما سمعت أم الأمراء تذكره أحبت أن تغتنم الفرصة وتسأل عنه فغلب الحياء عليها فسكتت. ولحظت أم الأمراء خجلها فقالت: «إن الحسين سيئ الحظ يا لمياء؛ انظري كيف اتفق له في يوم عرسه؟» فقالت - وهي تغص بريقها: «بل أنا التعسة يا سيدتي لأني فقدت سندي الوحيد وهو والدي فأصبحت يتيمة الأبوين.» ومنعها البكاء من إتمام الكلام.
فهمت بها أم الأمراء وضمتها إلى صدرها وقالت: «لست يتيمة يا لمياء و...»
فقطعت لمياء كلامها قائلة: «صدقت يا سيدتي إن من كان تحت ظلك وظل سيدي أمير المؤمنين لا يكون يتيما ... وكفاني حظا وشرفا أن يدعوني الخليفة - حفظه الله - ابنته ... إنها نعمة لم أكن لأحلم بها ... ولكن ...»
فقالت أم الأمراء: «لا لوم عليك إذا بكيت أباك إنه كان بارا وكان يحبك ...»
فتذكرت لمياء ما كان يضمره أبوها من السوء للخليفة وقائده فأحست بوخز الضمير فأرادت أن تصرف ذهنها عن ذلك الحديث؛ لأنه يؤلمها فقالت: «رحمه الله ... وأنا الآن لا أعرف أبا غير أمير المؤمنين ولا أما سواك.»
وسكتت وهي تتشاغل بإصلاح شعرها وفى خاطرها شيء يمنعها الحياء من ذكره. وكأن أم الأمراء أدركت مرادها فقالت: «إني لم أر الحسين جاء معكم في مساء أمس ولا رأيته اليوم أين هو يا ترى؟»
قالت: «لا أعلم رأيته ركب معنا من المعسكر ثم لم أره.»
فقالت أم الأمراء: «أتظنين الخليفة أرسله في مهمة مستعجلة؟»
قالت: «أنت أعلم مني بذلك.»
قالت: «لا ريب عندي أن أمير المؤمنين يحب أن يراك فهل نذهب إليه وهو يخبرنا عن الحسين؟»
فسرها هذا الاقتراح لكنها لم تظهر الرغبة في الإجابة؛ حياء، ولم تنتظر أم الأمراء جوابها فنهضت وأمسكتها بيدها ومشت بها وهي تقول: «إن أمير المؤمنين وحده في قاعته وقد أخبرني في هذا الصباح أنه لا يريد أن يرى أحدا من الأمراء.»
فقالت لمياء: «لعله طلب ذلك لرغبة في الخلوة، فهل يجوز أن نزعجه بحضورنا؟» فابتسمت وقالت: «لا يزعجه حضوري أو حضورك ولا هو أراد الخلوة للعمل على ما أظن ولكنه أراد الراحة من عناء ما لاقاه أمس، وهو - بلا شك - كثير التفكير فيك هلمي بنا إليه ... وانزعي حجاب الكلفة معه بعد أن دعاك ابنته ونعم الابنة.»
وبعد هنيهة وصلتا إلى غرفة الخليفة، فبادر الحاجب إلى إلقاء التحية باحترام، فقالت أم الأمراء: «ألعل أمير المؤمنين وحده؟»
قال: «كلا يا سيدتي إنه في خلوة مع القائد جوهر.»
فأرادت أن ترجع وإذا بالمعز يناديها من الداخل: «إذا كانت لمياء معك ادخلي.»
فأجفلت لمياء عند سماع اسمها على هذا الأسلوب، وتصاعد الدم إلى وجنتيها فقالت لها أم الأمراء «ألم أقل لك أنه يسر برؤيتك، حتى أكثر من رؤيتي! وقد قال بصراحة أن لا أدخل إلا إذا كنت معي ...» وضحكت وهي تظهر المداعبة، ووسع لهما الحاجب فدخلتا.
وكان المعز جالسا على مقعد والقائد جوهر على وسادة بين يديه وعلى وجهيهما أمارات الاهتمام، فلما دخلت أم الأمراء أظهرت الاحتشام لوجود القائد فابتدرها المعز قائلا: «إن قائدنا كواحد منا فلا ينبغي الاحتشام من وجوده وأنت يا لمياء ابنتنا وهذا القائد أبوك أيضا.» وأشار إليهما بالجلوس وكان القائد قد وقف عند دخول أم الأمراء فأشار إليه الخليفة أن يجلس وقال له: «نحن في أمر هام نحب أن نشرك القادمتين به ... أنت تعلم تعقل أم الأمراء ... وهذه فتاتنا لمياء قد عرفت ذكاءها وغيرتها على مصلحتنا فلا بأس من دخولهما في الحديث ...»
فجلست لمياء وهي مطرقة حياء لهذا الإطراء، فقال لها الخليفة: «لا ينبغي التهيب يا بنية بين يدينا وقد أصبحت ذات شأن في أمورنا؛ لما تأكدناه من تعقلك وصدق محبتك لنا وقد شق علينا ما أصاب والدك ولكن ذلك أمر من الله لا سبيل إلى دفعه ... طيبي نفسا سنأخذ بثأره.»
فلما سمعت ذكر الثأر تغير وجهها وبان الاهتمام في عينيها ونظرت إلى الخليفة وابتسمت ابتسام الامتنان وقالت: «أشكر لك يا مولاي انعطافك نحوي، ولكني أرى الواجب الأول أن ننتقم لأمير المؤمنين؛ لأن ذلك الخائن أراد إيصال الأذى إليه. وقد حماه الله؟»
فابتسم وقطع حديثها قائلا: «وكان الفضل لك بذلك يا لمياء ... فهل يكثر علينا أن نثأر لوالدك - رحمه الله ؟»
فأطرقت وسكتت ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «لكنني أرغب إلى أمير المؤمنين أن يدخلني في هذا الانتقام فإني موتورة.» قالت ذلك وقد قطبت حاجبيها وبان الغضب في عينيها.
فقال: «لم نكن لنكلفك شيئا من هذا يا لمياء، كفاك ما أصابك.»
والتفت إلى القائد جوهر وقال: «إني لم أشاهد الحسين في هذا الصباح أين هو؟»
قال: «قد ذهب في مهمة مستعجلة هي من قبيل ما نحن فيه.»
قال: «إلى أين؟»
قال: «أنفذته إلى الجهة التي قالت لمياء إنها شاهدت ذلك الخائن فيها.
وذكرت هناك قافلة أو معسكرا فأمرت الحسين أن يذهب بكوكبة من الفرسان لعله يدرك القوم قبل رحيلهم فيأتينا بذلك الغادر ويكفينا مئونة البحث عنه.»
فقال المعز «بارك الله في همتك وتيقظك.» والتفت إلى أم الأمراء وابتسم وهو يقول: «كيف نلام على تقديم هذا القائد وهو لا يغفل عن مصلحتنا.»
الفصل الثاني والأربعون
الحسين
أما لمياء فأطرقت وبان الارتباك في وجهها فلحظ الخليفة فيها ذلك، فقال: «ما بالك ساكتة يا لمياء؟ هل شق عليك ذهاب الحسين ... ولماذا؟»
قالت: «كيف يشق علي ذهابه في خدمة هذه الدولة وصيانة أمير المؤمنين؛ إن أرواحنا فداه.»
قال: «إني أرى في وجهك قلقا.»
قالت: «قد همني ذهابه لعلمي بغدر أولئك الخائنين ومكرهم.»
فقطع القائد جوهر كلامها قائلا: «لا خوف على الحسين من غدرهم ... ولا يلبث أن يأتي ظافرا بإذن الله. وعند ذلك يحق له أن يكون عريسا لك.»
فخجلت وتوردت وجنتاها وأحبت أن تصرح بما في خاطرها من هذا القبيل فقالت: «هل يأذن مولاي أمير المؤمنين بكلمة أقولها جوابا على ما سمعته.»
قال: «قولي.»
قالت: «أما وقد سمعت من القائد الأكبر ما قاله فأتقدم إلى مولاي أن ...» وأسكتها الحياء والتفتت إلى أم الأمراء كأنها تستنجدها أن تنوب عنها في التعبير عن فكرها ولم تكن أم الأمراء تعلم مرادها فنظرت إليها تستفهمها فأسرت إليها أنها تحب تأجيل الاقتران.
فقال المعز: «سمعت ذلك منها في أمس ... طبعا أننا نؤجله مراعاة للحداد.»
فقالت لمياء: «كلا يا سيدي إنما أعني أنه لا ينبغي أن يتم شيء قبل الانتقام من الخونة.» وتشاغلت برفع كمها عن أناملها ويظهر من وجهها أنها لم تتم حديثها.
فقال جوهر: «إن هؤلاء الخونة لا يمضي كثير قبل أن يكونوا في قبضتنا كما قلت لكم، فهل تعنين غيرهم؟»
قالت: «نعم ... إنهم كثيرون وبعضهم لا يتيسر الوصول إليهم إلا بعد أشهر؛ لأنهم بعيدون ... إن هذه الخيانة يجب أن يقوم صاحب مصر بتحمل عواقبها.» وأشرق وجهها بما بدا فيه من الحماسة.
فأدرك الخليفة أنها تعرض بفتح مصر انتقاما من صاحبها فالتفت إلى القائد جوهر وابتسم؛ لأنه كان يحادثه في شيء من ذلك قبل مجيء لمياء فنظر القائد إلى الخليفة وابتسم ابتسامة الظافر؛ لأنه كان يرى العزم على فتحها والخليفة يتخوف ويتردد فسره أن تقترح لمياء مثل اقتراحه.
وأدركت لمياء ذلك فقالت: «لا ينبغي لنا أن نتردد في تحميل صاحب مصر عواقب هذه الخيانة؛ فإنه شريك فيها، ولا خوف منه فإنه الآن عبد ذميم (كافور) وأحوال مصر في غاية الاختلال.»
فرأى المعز أن يقطع الحديث في هذا الموضوع ريثما يفكر في الأمر وهو لا يحب أن يقول قولا إن لم يكن مصمما عليه، فقال: «إن أمر مصر لا يزال بعيدا وربما فكرنا فيه في فرصة أخرى ... فنحن نحب أن نعجل بالعقد عليك للحسين.»
قالت: «لا أظن رأي الحسين إلا موافقا لرأيي؛ لأنه ليس أقل غيرة على مصلحة أمير المؤمنين مني ... أرجو من مولاي أن يجعل أمر مصر مقدما على كل شيء وأنا أضمن الظفر بإذن الله.»
فأعجب بتلك الحمية وقال: «ليس ضمان ذلك بالأمر السهل يا بنية ... إنه يحتاج إلى المال والرجال.»
فنظرت إلى الخليفة وقد تغيرت سحنتها وبانت البسالة في جبينها، وقالت: «إن الرجال موجودون يا سيدي ومن كان في قواده مثل القائد جوهر لا يخشى بأسا؛ فقد فتح المغرب على أهون سبيل، وهل يظن أمير المؤمنين فتح مصر أعظم مشقة؟»
فاستحسن المعز إطراءها قائده وقال: «هذا مسلم ولكن ما قولك بالمال إنه لا بد منه لهذا العمل .»
قالت وفى صوتها لحن التأكيد «والمال موجود أيضا.»
فبغت الجميع من تأكيدها وتوجهوا نحوها بأبصارهم وقال الخليفة «من أين لنا المال الكافي ونحن لم نفرغ من الحروب إلا بالأمس.»
قالت: «قلت لمولاي إن المال موجود وسأبين له ذلك متى شاء، فإذا فعلت هل يبقى لديه مانع؟»
قال: «يبقى أن نستطلع حال المصريين ونتعرف داخليتهم وشئونهم؛ لأننا لم نعلم عنهم إلا ما نتلقفه من أفواه الناس.»
قالت: «أما وقد أشركني أمير المؤمنين بهذا الحديث فأستأذنه في أن أقول إني أضمن له أيضا كشف ما يريد أن يعرفه من الأحوال.»
فرأى الخليفة من لمياء فوق ما كان يتوقعه ولم يصدقه بحذافيره وإنما حمله محمل الاندفاع كما يفعل الراغب في أمر؛ فإنه يراه سهلا لرغبته في الحصول عليه. وهم أن يستزيدها بيانا وإذا بالحاجب دخل وقال: «إن مولاي الحسين بالباب.» فأمر بإدخاله. أما لمياء فلما سمعت اسمه خفق قلبها ولم تعد تخاف خفقانه للحسين بعد أن نفضت يديها من محبة سالم، لكنها تماسكت والتفتت فرأت حسينا دخل وعلى وجهه غبار السفر فعلمت أنه عائد من تلك المهمة.
أما هو فحيا، فأمره الخليفة بالجلوس فجلس ووقع بصره على لمياء فتجاذب قلباهما وتخاطب بصراهما، ولكنه شغل بالتوجه نحو الخليفة، فقال له المعز: «ما وراءك؟ قد أخبرني قائدنا أنك تعقبت أولئك الخائنين ... فعسى أن تكون قد ظفرت بهم وحملتهم إلينا.»
قال: «قد حملت إليكم أناسا وجدتهم قرب المكان الذي كان الخائنون فيه، ولكنهم ليسوا منهم.»
فقال جوهر: «وكيف ذلك يا بني؟»
قال: «قضيت ليل أمس وأنا أبحث في الأماكن التي ينزل فيها الناس أو القوافل في طريق مصر حتى بعدت كثيرا عن القيروان فلم أجد أحدا ...»
فقطع أبوه كلامه قائلا: «أخشى أن تكون قد أخطأت الطريق.»
قال: «بل هي الطريق ذاتها والدليل على ذلك أني رأيت جثة ذلك الرسول وبجانبها جثة قاتله كما قصت خبرها لمياء، وأمعنت في تلك الجهات وبثثت رجالي في كل جهة فأخبرني بعضهم في هذا الصباح أنه رأى آثار معسكر. فسرت إليه فرأيت بقايا قوم كانوا هناك ورحلوا من عهد قريب، ولعله المعسكر الذي كان فيه أولئك الخونة ومع ذلك لم أقنع بما رأيت فواصلت السير إلى عين ماء تنزل عندها القوافل فرأيت قافلة قادمة من مصر أتيت بأصحابها معي؛ لعلنا نستفيد منهم خبرا، إذ توسمت من زخرف فساطيطهم وخيولهم وسائر أحوالهم ما لم أعهده في سواهم من أصحاب القوافل.»
فقال الخليفة: «أين هم؟»
قال: «أتيت برئيسهم معي وهو بالباب إذا شاء مولاي أمر بإدخاله.»
الفصل الثالث والأربعون
بنت الإخشيد
فصفق المعز فدخل الحاجب فقال: «أدخل الرجل الواقف خارجا.»
وأشار إلى أم الأمراء ولمياء بالتنحي إلى مجلس تقعدان فيه بحيث تريان وتسمعان ولا يراهما أحد.
ثم عاد الحاجب ومعه صاحب القافلة وهو كهل عليه لباس المصريين من العمامة والجبة وقد أخذ الاضطراب منه مأخذا عظيما؛ لهول ذلك الموقف.
فقال له الخليفة: «لا تخف يا رجل وإنما نريد منك أن تصدقنا الخبر. قل من أنت؟»
قال: «أنا يا مولاي من أهل مصر.»
قال: «ما هي صناعتك؟»
قال: «تاجر رقيق.»
قال: «ما الذي جاء بك إلى هذا البلد؟»
قال: «جئت لأبتاع رقيقا أحمله إلى مصر، وهي عادتي، في كل عام أو بضعة أعوام آتي القيروان لهذه الغاية، فأبتاع المولدات الحسان وأنصرف.»
قال: «ولكن رسولنا يقول إن حالكم تدل على غنى وترف لا يعهده بتجار الرقيق الذين يفدون على القيروان!»
فبانت البغتة في وجه الرجل عند هذا الاعتراض ولكنه قال: «نحن يا مولاي تجار رقيق كما قلت لكم فإني لا أكذب.»
قال: «هذا لا يكفي قل لنا السبب الذي أوجب مجيئكم في الفساطيط الفاخرة ومعكم الخيول المطهمة كأنما أنتم من رجال الدولة أو الأمراء.»
قال: «السبب في ذلك يا مولاي أننا نبتاع الجواري بأمر خاص ونحن ننفق على حساب مرسلنا.»
فقال الخليفة: «لمن تبتاعون الجواري، ومن هو مرسلكم اصدقني وإلا فلا تنجو من القتل.»
فخاف الرجل واصطكت ركبتاه وارتعدت فرائصه وقال: «إننا نبتاع الجواري لمولاتنا ابنة الإخشيد صاحب مصر.»
فضحك الخليفة والتفت إلى جوهر وهو يقول: «ألا ترى التلون في كلامه؟ يقول إنه يبتاع الجواري الحسان لابنة الإخشيد ولو قال إنه يبتاعها للإخشيد نفسه لصدقناه.» والتفت إلى الرجل وقال: «قل الصدق ... لماذا لم تقل إنك تبتاع الجواري للإخشيد أو غيره من الأمراء؟ هل خفت أن يكون عليك من ذلك بأس.»
قال: «كلا يا مولاي بل أنا أقول الصدق. قد مر علي عدة أعوام وأنا آتي القيروان بأمرها لأبتاع لها الجواري الحسان بالأثمان الباهظة.»
قال: «ماذا تفعل بهن؟»
فتوقف الرجل عن الجواب وبان الارتباك في وجهه، لكنه خاف السكوت فقال: «لتستمتع بهن.»
فبغت الخليفة والقائد والحسين وأخذوا ينظرون بعضهم إلى بعض فقال القائد: «تشتري الجواري لابنة الإخشيد لتستمتع بهن هي؟»
قال: «نعم يا سيدي ... وهذا مشهور يعرفه أهل مصر؛ لأنها كثيرا ما تنزل سوق الرقيق في الفسطاط بنفسها على حمار فتساوم صاحب الرقيق على الجارية إذا أعجبتها وتشتريها لنفسها. وإذا كانت لا تجد هناك ما يعجبها من الجواري الحسان تبعث بي في قافلة خاصة لهذه الغاية وتنفق في سبيل ذلك الأموال الطائلة.»
فلما سمع المعز كلامه وصدق لهجته صدقه وهو مستغرب وأشار إليه أن ينصرف، فلما خرج التفت المعز إلى قائده وقال: «قد كنت منذ قليل أتردد في فتح مصر وأخاف جندها، وأما الآن فهان علي أمرها؛ لأن بلدا بلغ من أهله الترف إلى أن صارت المرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها وتشتري جارية لتتمتع بها لا يخشى بأسهم؛ لأن ذلك من ضعف نفوس رجالهم وذهاب غيرتهم إنما يلزمنا المال»
1
والتفت إلى لمياء.
فتقدمت أم الأمراء وأجابت عنها قائلة: «إن ابنتنا لمياء قد قصت علي خبر المال الذي أشارت إليه وهو مضمون وإنما يحتاج إلى نظر خاص.»
فقال المعز: «هل ترين بأسا من التصريح به بين أيدينا وليس فينا غريب؟ قولي يا لمياء قولي ...»
الفصل الرابع والأربعون
فج الأخيار
فتقدمت ووقفت وقفة رجل جسور وقالت: «إن المال يا سيدي مخبأ في مكان بعيد، وكان قد خزنه عدوك هناك ليحاربك به، ولكن الله قدر أن يكون لك وتحارب به أعداءك وأنت ظافر - بإذن الله.»
فاستغرب الجميع قولها وتطاولوا بأعناقهم لسماع حديثها فقالت: «سأقول لكم ما أعرفه، ولكن قبل كل شيء أرجو من أمير المؤمنين أن يوافقني على طلبي الأول وإن كان لا يحسن بي التصريح به.»
فعلم أنها تشير إلى تأجيل الاقتران فقال: «أنا أوافقك ولكن الشأن في هذا الأمر هو للحسين.» والتفت إليه فوقف الحسين متأدبا. فقال له المعز: «إن لمياء الشجاعة الباسلة تطلب تأجيل العقد إلى ما بعد فتح مصر والتنكيل بالخائنين، فماذا تقول؟»
قال: «هذا ما كنت أتمناه ولم أجسر على طلبه، أما وقد طلبته هي فأنا أوافق عليه وأشترط أن أكون في مقدمة المحاربين في هذا السبيل.»
فقالت لمياء: «طبعا، كلانا يجب أن يكون في مقدمة المحاربين، ولا أعني المحاربة استلال الحسام أو الهجوم على صفوف الأعداء فقط؛ فإن هناك أعمالا تقدم على امتشاق الحسام سنأتي على ذكرها.»
ثم وجهت خطابها إلى الخليفة وقد أبرقت عيناها وبانت الحماسة في طلعتها، وقالت: «هل أقول يا سيدي؟»
قال: «قولي - بارك الله فيك - والله إن كلامك ليبث الحماسة في قلوب الرجال ... وقد هونت على اقتحام الأهوال في سبيل الفتح ... قولي.»
قالت: «سمعت مولاي يقول إننا لا بد لنا قبل الإقدام على فتح مصر من شيئين هامين الأول المال والثاني استطلاع أحوال القوم وقواتهم وداخليتهم، أما المال فأقص عليكم ما عرفته عنه، ولذلك حديث سمعته عرضا من ذلك الخائن القاتل ولم أكن أفهم مغزاه، فلما ظهرت خيانته أدركت مكايده. علمت منه أن في جبل إيكجان من بلاد كتامة مكان يقال له فج الأخيار كان فيها بلد يسمى دار الحجرة بناه أبو عبد الله الشيعي وخزن الأموال فيه.»
فلما سمع الخليفة اسم البلد تغير وجهه؛ لأنه تذكر بلاء أبي عبد الله في نصرتهم وكيف قتلوه. ولحظت لمياء ذلك فتجاهلت وأتمت حديثها قائلة:
ولما قام أبو عبد الله بدعوة جدك المهدي - رحمه الله - وجمع كلمة القبائل في نصرته وتمكن من التغلب على أعدائكم أتى فنزلها وقسم البلد على كتامة ونادى بالإمام المهدي خليفة وحمل إليه الأموال التي كانت مخزونة في جبل إيكجان، ولكن يظهر أنه كان ينوي الخروج من الطاعة فضرب نقودا جديدة لم يذكر فيها اسم الإمام المهدي وإنما اكتفى بأن ضرب على أحد وجهي الدينار (بلغت حجة الله) وعلى الآخر (تفرق أعداء الله) وضرب على السلاح (عدة في سبيل الله) ووسم الخيل سمة (الملك لله) ثم ذهب إلى سجلماسة في طلب المهدي، وما زال حتى أتم الفتح وسلم الأمر إليه.
ويظهر أنه ندم على عمله فبعث الأموال إلى إيكجان سرا، واختزنها هناك حتى يعود فيقلب ظهر المجن ويطلب الأمر لنفسه، فعلم الإمام بذلك وما زال عليه حتى قتله - كما تعلمون - لكنه لم يعرف خبر تلك الأموال فبقيت مطمورة هناك. ولعله أسر أمرها إلى أبي حامد اللعين، فقام يسعى سرا في إخراج الملك من أيديكم على أن يفسد قلوب القبائل عليكم ويستعين بذلك المال عند الحاجة. وآخر مكائده قد فشلت أمس وإنما أصابت المأسوف عليه والدي، فهرب ذلك اللعين والأموال لا تزال في فج الأخيار. فإذا بعث المولى من يأتي بها أعانته في نصرة الحق. هذا ما أعرف من أمر الأموال.
ولم تتم كلامها حتى كلل العرق جبينها، وبان الاهتمام في محياها والخليفة ينظر إليها ويتفهم كلامها وقد أعجب بما كشفته من أمر هذا السر العظيم، فقال: «بورك فيك يا لمياء إننا سنبعث في طلب ذلك المال، ولكنني أفكر في مكيدة هذا الرجل كيف انطلت علينا وعلى والدك كل هذه الأعوام، إن فضلك في كشف هذا السر يربي علي فضلك في إنقاذنا من القتل؛ لأنك أطلعتنا على مساع متواصلة لو نجونا من تلك المكيدة ولم نطلع عليها لظلت الدولة في خطر من مكيدة أخرى، أما الآن فسنتعقب الخائنين حتى نفنيهم بعد أن نأخذ أموالهم.»
فأطرقت لمياء حياء عند سماع ذلك الثناء.
فتصدى الحسين للكلام، فقال: «هل يأذن لي مولاي أن أذهب في طلب هذا المال؟»
قال : «لك ذلك، ولكن هل علمت بما يعتور هذا العمل من المشاق ؟ إن جبل إيكجان في أواسط بلاد كتامة في البادية والذهاب إليه بعيد شاق.»
قال: «فليكن حيثما كان ... كل ذلك هين في خدمة أمير المؤمنين.»
فضحك الخليفة ضحك الاستحسان.
فقالت لمياء: «هذا من حيث المال أما من حيث استطلاع دخائل القوم بمصر فأنا أقوم به.»
فبغت الخليفة لهذا الاقتراح، وقال: «كيف تفعلين، أليس ذلك شاقا عليك؟»
قالت: «إنه هين، وأستأذن مولاي أن لا يسألني كيف أصنع وإنما أتعهد له أن آتيه بالخبر اليقين وأرغب إليه أن يستزيدني بيانا.»
فاستغرب القوم رغبتها في كتمان سعيها، ولكنها لم تدع لهم بابا للاستفهام، فسكتوا، فقال الخليفة: «لم يمر بي يوم اطلعت فيه على أمور هامة مثل هذا اليوم، والفضل لك يا لمياء - بارك الله فيك وقواك في نصرة الحق ...»
الفصل الخامس والأربعون
الحسين ولمياء
وتزحزح الخليفة فنهض القائد وانصرف ومعه الحسين وانصرفت أم الأمراء ولمياء من جهة أخرى. وعلمت أم الأمراء أن لمياء تحب الاجتماع بالحسين بعد ما وقع من الغرائب، وأن الحياء يمنعها من طلب ذلك، فلما وصلت غرفتها معها بعثت أحد الصقالبة يدعو الحسين إليها وأمرت لمياء بالجلوس، وأخذت تحادثها في ما دار من الحديث في تلك الجلسة وهي تريد استبقاءها ريثما يأتي الحسين.
وبعد قليل جاء الصقلبي وقال: «إن القائد حسينا أتى.»
فلما سمعت لمياء ذكره فأول ما تبادر إلى ذهنها أن تنهض وتنصرف.
فأقعدتها أم الأمراء وقالت: «إلى أين؟»
فقعدت وهي ترتعد من تلك المفاجأة، وأحست أم الأمراء بذلك لما أمسكت يدها لتقعدها؛ فإنها كانت باردة كالثلج، فقالت: «ما بالك ترتعشين من سماع اسم الحسين؟ ألا تزالين تفكرين في سواه؟ ماذا جرى بمناظره القديم أين هو؟»
ولم تسمع لمياء ذلك حتى اقشعر بدنها وامتقع لونها وأخذها الغضب؛ لتذكرها خيانة سالم. فاكتفت بالتنهد ولم تجب. فقالت أم الأمراء «لم تقولي لي عن اسمه بعد، ألعله كان في جملة أولئك الخائنين؟ أرجو أن يكون كذلك فنكون قد خلصنا منه.»
فلم تزد لمياء على الإطراق وقد ترقرقت الدموع في عينيها وتذكرت أن الحسين يعرف سالما من تلك الليلة، أما أم الأمراء فقالت: «لقد أبطأنا في الإذن للحسين في الدخول.» والتفتت إلى الصقلبي وقالت: «يدخل.»
وبعد لحظة دخل الحسين وهو لا يزال بثياب الركوب كما كان ساعة وصوله، دخل وهو لم يكن يتوقع أن يرى لمياء هناك وإنما ظن أم الأمراء تحتاج إليه في خدمة وكثيرا ما كانت تدعوه وتكلفه ببعض المهام، فلما دخل ووقع بصره على لمياء أجفل كما أجفلت هي ووقف فألقى التحية على أم الأمراء، ثم حيا لمياء عن بعد بإحناء الرأس. فقالت أم الأمراء: «لا يلذ لي أن أراكما بعيدين وأنا قد بذلت الجهد في جمعكما؛ فإنك ابن قائدنا، وهذه لمياء ابنتي. ومع ذلك فقد جعلت نفسي والدتك وقمت بتأدية المهر عنك.»
قالت ذلك بلطف ومداعبة. فتلعثم لسان الحسين عن الجواب ولكن الامتنان بان في ملامحه.
وتقدم نحو لمياء وهو يقول: «إن لمياء ذات فضل كبير علي؛ لأنها أنقذت والدي من القتل فلا أدرى بم أكافئها.»
فقالت لمياء: «إني لم أفعل شيئا يستحق الذكر، وإذا كنت قد فعلت شيئا فهو في سبيل خدمة مولاي أمير المؤمنين الذي نفديه بأرواحنا، ولا أراك أقل تفانيا في سبيل مصلحته مني ...»
فأشارت أم الأمراء إلى الحسين أن يقعد على وسادة أمام الوسادة التي كانت لمياء جالسة عليها، وأظهرت أنها ذاهبة في أمر ذي شأن خطر لها فجأة، وهي إنما فعلت ذلك رغبة في انفراد الحبيبين؛ لأنها وجدت نفسها ثقيلة بينهما. وكانت من أرق الناس إحساسا وأكثرهم تعقلا لا تفوتها ملاحظة. فهل شعر الحبيبان أنها خرجت عنوة مراعاة لإحساسهما؟ هب أنهما أدركا ذلك لكن الحب يشغل المرء عن سواه أو أن صاحبه يرى ما يمر به من الأحوال مغشاه كأنه ينظر إليها من وراء حجاب، هو الحب، وقد يأتي في سبيل حبه أعمالا يحسبها خافية على الناس وهم يرونها بأجلى مما يراها هو، ولكنهم لا يقولون فيحسبهم غافلين.
جلس الحسين وهو ينظر إلى لمياء ، وهي مطرقة حياء وقد مر في خاطرها تاريخ حياتها منذ عرفت سالما وكيف علقت به وتعشقته حتى أبت أن تجيب دعوة سواه وتذكرت الليلة التي لقيت فيها حسينا لأول مرة وما أبداه من الشهامة في معاملتها وكيف انتهت ليلتهم بفشل سالم، وخطر لها حالا ما قاله الحسين عند وداعها من كتمان أمر سالم وأنه عرفه وعفا عنه.
وكيف أنها رضيت بالحسين أولا طوعا لأمر سالم ثم أصبح هذا أعدى أعدائها، فأحست بانعطاف إلى الحسين وأساس انعطافها الإعجاب بشهامته ومروءته.
مر ذلك كله في خاطرها سريعا والحسين جالس بين يديها ويهم أن يخاطبها ولا يعرف بماذا يبدأ، ثم خطر له أن يعزيها على والدها ويشجعها.
فقال: «لقد ساءني يا لمياء ما أصاب أباك الأمير - رحمه الله - ولكننا سنثأر له من ذلك الخائن، واعلمي أني غير راجع حتى أذيقه حتفه.»
فرفعت بصرها إليه وقد ذبلت عيناها وقالت: «عرفت شهامة الحسين من قبل على غير تعمد، عرفته عفوا، ولا أنسى تلك الأريحة التي قيدني بها، لا أنسى قولك تلك الليلة وقد أدركنا ذلك الرجل الملثم وأوشك أن يقع فريسة - فأنقذته وطلبت كتمان أمره ...»
فقطع كلامها قائلا: «لا أزال أريد كتمان أمره دعينا منه، إنما أحب أن أعلم: هل للحسين مكان عندك؟» قال ذلك وعيناه تبرقان فرآها ساكنة ولحظ دمعتين انحدرتا على خديها خلسة فأحس بنار اتقدت في بدنه وهب جسمه كأنك صببت عليه ماء غاليا. فندم على سؤاله مخافة أن يكون في غير أوانه وهي في حال الحزن على أبيها فابتدرها قائلا: «أظنني تعجلت في الحديث وأنت في شاغل من أمر والدك - رحمه الله - فاصفحي عن جسارتي ...»
فمسحت عينيها بمنديل أخرجته من جيبها، وقالت: «إن حزني على والدي شديد لكن خطابك تعزية كبيرة لقلبي الكسير.» وتنهدت والتفتت نحو الباب كأنها تحاذر أن يدخل أحد عليهما.
فقال الحسين: «هل في الدنيا أرق عاطفة وأطيب قلبا من هذه الملكة إني لا أظنها تركتنا وحدنا إلا عنوة فلا ينبغي أن نضيع هذه الفرصة هل أعددت للحسين مكانا في قلبك؟»
الفصل السادس والأربعون
التعاهد
فتنهدت ورفعت بصرها إليه وهي تهم بالكلام فلم تستطعه فأطرقت وتشاغلت بمنديلها تطويه بين أناملها وقد تصاعد الدم إلى وجنتيها. فلحظ تلبكها فأراد مداعبتها فقال: «لم يكن عهدي بلمياء الفارسة الشجاعة أنها ترتبك في حديث مثل هذا، ولكنني أقرأ الجواب في عينيك، لم أكن أجهل نظرك إلي من قبل ونظرك إلي اليوم، كنت أشعر أنك تساقين إلى حبي كرها، لعل قلبك كان مشغولا بسواي ... لا أدري. أما الآن فإني أقرأ شيئا آخر في عينيك. إنما أطلب إليك أن تقولي كلمة ونحن منفردان هنا بإذن أم الأمراء وهي لم تخل لنا المكان إلا باختيارها. قولي هل تحبينني؟ وإنما أسألك ذلك؛ لأننا سنفترق وربما طال فراقنا، فإذا سمعت منك الكلمة التي أريدها كانت لي ذخرا في أثناء الفراق أتعلل بها ريثما نلتقي.»
فتنهدت ثانية وتجلدت وقالت: «إنك تقول عني وتعبر عن أفكاري، أما لمياء الفارسة الشجاعة - كما تقول - إنما تكون كذلك في حومة الوغى وأما في هذا الموقف فإني أسيرة مسكينة. سألتني سؤالا لا أجيبك عنه إلا بعد أن تجيبني على سؤالي.»
فاستبشر وقال: «سمعا وطاعة إني رهين إشارتك يا حبيبتي.» قال ذلك وقد أخذ منه الهيام مأخذا عظيما.
قالت: «إني أسألك هل تعاهدني على التفاني في مصلحة المعز لدين الله حتى ننتقم له أو نموت؟»
فأعجب بتفانيها في حب المعز وكيف أنها فضلت التعاهد على نصرته قبل كل شيء فقال: «نعم أعاهدك أن أكون طوع إرادتك في كل شيء وهذا من الجملة، إني أحبك يا لمياء وأعجب بخلالك ومروءتك ... كنت أحسبني مؤديا ما يجب علي في خدمة أمير المؤمنين، فلما رأيت ما أنت فيه من الغيرة عليه رأيتني مقصرا عاجزا ... ها قد أجبتك على سؤالك فأجيبيني على سؤالي.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «تحبينني؟ هل تعاهديني على الحب حتى نلتقي؟»
قالت: «نعم إني أحبك وهذا يكفي، وأما الثبات في الحب حتى نلتقي فإنه متعلق بما نحن آخذون به من نصرة أمير المؤمنين، ونصرته هي واسطة عقدنا، وقد تعاهدنا على ذلك ويسرني أنك أخذت على نفسك الذهاب إلى جبل إيكجان لحمل الأموال المدفونة هناك ... ولكن ...» وسكتت وقد ظهر التفكير في عينيها.
فقال: «ما بالك ... ما الذي خطر لك حتى سكت ... أظنك خفت علي ما يعتور هذه المهمة من المشاق ...» قال ذلك ونظر في عينيها ففهم منها أنها تجيب: نعم. فقال: «لا تخافي علي يا لمياء إني لا أهاب الموت ولا سيما بعد أن زودتني بتلك الكلمة الثمينة ... إنها ستكون تعزيتي في أشد ضيقي، وهي تشجعني في المخاوف ... لا تخافي علي من شيء ...»
فتنهدت وقالت: «آه من الحب ما أحلاه وأمره! إن الأحباء يبذلون كل مرتخص أو غال في سبيل الاجتماع أما نحن فنتعاهد على الفراق، ولكن خدمة أمير المؤمنين واجبة ... إني أشعر بفضله علي وإني يجب أن أنصره و...»
وسكتت وقد خطر لها أنها تطلب شيئا آخر غير نصرة أمير المؤمنين؛ تطلب الانتقام من ذلك الحبيب الخائن فلم يدرك الحسين مرادها وانصرف خاطره إلى مهمتها فقال لها: «قد علمت مهمتي إلى فج الأخيار لحمل ما فيه من المال لكنني لم أفهم مهمتك ...»
فتحركت واعتدلت في مجلسها، وقالت: «قد قلت لأمير المؤمنين إني سأسعى في استطلاع دخائل المصريين وأحوالهم وإني سأفعل ذلك بطريقة لا أقولها الآن ... لا تغضب يا حبيبي إذا لم أقل لك.»
فلما سمعها تناديه «حبيبي» اختلج قلبه في صدره ونسي ما كان يبحث عنه ولم يشأ أن يستزيدها بل تهيب من الإلحاح عليها، وكان منذ خاطبها وهو يشعر بسلطان لها عليه، فلم يجسر على تكرار السؤال فقال: «افعلي ما بدا لك وكفاني أنك ناديتني بلفظ الحب وهذا تذكار سأحفظه، ربما لا يتاح لنا الاجتماع في مثل هذه الفرصة مرة أخرى قبل سفري؛ ولذلك فإني أحب أن لا تنقضي هذه الساعة ... ما ألطف أم الأمراء وما أكثر فضلها.»
قالت: «إن هذه الساعة مباركة سنذكرها ما حيينا، وعسى أن يكون اجتماعنا الثاني في مصر تحت ظل أمير المؤمنين.»
فأعجب بتعبيرها وكبر نفسها وشدة رغبتها في فتح مصر واستهانتها بفتحها، وقال: «أرجو أن نوفق إلى ذلك يا حبيبتي ، إنها أمنية نتمناها جميعا، وخصوصا أنا؛ لأن ذلك الاجتماع سيكون أكيدا لنا لا نخاف بعده فراقا بإذن الله إذ تكون لمياء حينئذ لي وأنا لها.»
فقالت وهي تبتسم: «ألا تشعر بارتياح عند تفكيرك بذلك النصر ألا يلذ لك أن تتصور راية المعز تخفق على ضفاف النيل وقد امتد سلطانه إلى هناك؟ أما أنا فأكاد أسكر بمجرد تفكيري بدخول جيش أمير المؤمنين إلى الفسطاط وأسمع أهله يؤذنون بحي على خير العمل ويصلون على علي المرتضى وعلى فاطمة البتول وسائر الأئمة الطاهرين. ولا بد أن ينصر الله أبناء فاطمة الزهراء؛ فإنها بنت الرسول وهم أصحاب الحق في الخلافة، ولا بد أن يملكوا الدنيا كلها ...» قالت ذلك وقد أشرق جبينها وأبرقت عيناها كأنها منيت بنعمة لم تكن تتوقعها.
فازداد إعجابا بمروءتها وغيرتها، وود لو تكون أم الأمراء حاضرة لتسمع ما قالته لمياء ولكنه عزم أن ينقله إليها في فرصة أخرى فقال: «إني أحسبني أخاطب ملاكا هبط من السماء وأعد قولك وحيا لا بد من إتمامه بإذن الله.»
الفصل السابع والأربعون
أم الأمراء
وهما في ذلك سمعا خفق نعال في الخارج، عرفا أنها نعال أم الأمراء.
وسمعاها تخاطب أحد الغلمان بشأن من شئون القصر، وهي إنما تريد بذلك أن تنبه الحبيبين إلى قدومها قبل دخولها عليهما حتى لا تدخل فجأة - وفي ذلك من دقة الإحساس وسلامة الذوق ما فيه.
فاستعدا لاستقبالها، ثم دخلت وهي تهش لهما وبادرت إلى الاعتذار بأن أمير المؤمنين شغلها فلم تقدر على البقاء معهما، فقال الحسين: «كم كنت أحب أن تكوني هنا لتسمعي ما قالته لمياء ... أنت تعلمين تعلقي بمولاي أمير المؤمنين وأنا صنيعته وعبده وابن عبده لكنني رأيت من تعلق لمياء أضعاف ما أعرف في أحد من الناس.»
فضحكت أم الأمراء وقالت: «تعني تعلقها بك؟»
قال: «كلا، إنما أعني تعلقها بأمير المؤمنين والاستهلاك في خدمته حتى اشترطت علي أن أول شيء نتعاهد عليه إنما هو التفاني في نصرته .»
فقالت: «ألم أقل إنك لا تجد مثلها في القيروان ولا في المغرب كله؟»
فأجاب على الفور: «ولا في مصر أو بغداد.»
فظلت لمياء ساكتة من الحياء فنهض الحسين وودع أم الأمراء، ثم تقدم إلى لمياء وقال: «أستودعك الله إلى أن نلتقي.» ومد يده لمصافحتها.
فمدت يدها ونظرت إليه وصافحته وهي تقول: «في مصر إن شاء الله.»
فوقع قولها وقعا جميلا في أذني أم الأمراء وفهمت منه ما يكفي.
فأكبت عليها وضمتها وقبلتها وقالت: «بارك الله فيك يا ابنتي يا حبيبتي، لله أنت من فتاة نادرة المثال.»
ثم تحول الحسين وهو يقول: «لا أظنني أستطيع مثل هذا الاجتماع قبل سفري إلى فج الأخيار ومتى عدت أين أراك؟»
قالت: «في الفسطاط في قصر مولاي المعز لدين الله على ضفاف النيل - إن شاء الله.»
فكان لقولها تأثير في قلب أم الأمراء؛ لما ينطوي عليه من التفاؤل الحسن مع التفاني الصحيح، والتفتت إليها ثم نظرت إلى الحسين وابتسمت، وقالت: «المراد أن تجتمعا وتسعدا معا، وذلك غاية ما يرجوه أمير المؤمنين.»
ثم أومأت إلى الحسين مودعة فودعها وهم بالخروج وهو ينظر إلى لمياء نظرة المحب الولهان ولم تكن هي أقل تأثرا منه، لكنها قد هاجت فيها عواطف الغيرة والنقمة، فقالت له: «إلى أين يا حسين؟»
فرجع إليها وقال: «إلى فج الأخيار.»
قالت: «وهل أنت على بينة من مكانه وسائر أحواله؟»
فبغت من هذا السؤال وأطرق خجلا؛ لأنه كان عازما أن يسألها عنه فشغل بذلك الحديث، ثم رفع رأسه وقال: «أعرف قليلا وسأبحث وأسأل، فهل تخبرينني عنه شيئا، وهل تعرفينه؟»
قالت: «لا أعرفه؛ لأني لم أصل إلى ذلك المكان، لكنني أسمع أنه في بلد بعيد في أواسط الصحراء من بلاد كتامة، ولا يهمني بعده وإنما يهمني ما هناك من وسائل الدفاع عنه؛ لأني كثيرا ما سمعت بما اتخذه أصحابه من الطرق لإخفاء الأموال وصيانتها.»
فقطع كلامها قائلا: «لا تبالى يا لمياء بشيء من ذلك؛ فإن ما رأيته من حماستك وغيرتك ومروءتك يصغر كل كبير ويهون كل صعب ... كوني مطمئنة.» ومد يده لمصافحتها وهو يقول: «أعود فأودعك ثانية وأطلب إليك أن تفكري في أحيانا، وهذا يكفيني لنجاح مسعاي.» ثم ودعها وخرج وهي تقول: «سر بحراسة المولى؛ فإنه آخذ بيدك في نصرة الحق وكبت الظالمين.»
الفصل الثامن والأربعون
الكتاب
وبعد خروجه أرادت لمياء أن تودع أم الأمراء فأمسكتها وأقعدتها، فقعدت وهي تنظر إليها كأنها تستفهمها عما تريده. فقالت أم الأمراء: «هذا الحسين قد عرفنا وجهته وخطته أما أنت ف...»
فقطعت لمياء حديثها رغم إرادتها وقالت: «أستأذنك يا سيدتي أن لا تسأليني عن ذلك.»
قالت: «ولماذا هذا التستر؟»
قالت: «أرى فيه فألا حسنا، وماذا يهمك إذا عرفت خطتي أو وجهتي؟ وإنما يهمك أن آتي مولاي أمير المؤمنين بأخبار تلك الدولة.»
قالت: «ولكن أمرك يهمني؛ لئلا تلقي بنفسك في تهلكة نظرا لما في مهمتك هذه من الأخطار مما يربي على مهمة الحسين.»
قالت: «لا تخافي يا سيدتي؛ لأن نصير أمير المؤمنين سلالة بنت الرسول لا بد من أن ينجيه الله وينصره على أعدائه، غير أني أتقدم إليك بأمر هو واجب بحد ذاته.»
قالت: «قولي ماذا تريدين.»
قالت: «إن يعقوب بن كلس اليهودي المقيم بمصر أرسل تلك الرسالة المستعجلة إلى سيدي المعز لدين الله؛ فهو صاحب فضل كبير. أليس كذلك؟»
فحنت أم الأمراء رأسها إذعانا للحق، وقالت: «نعم إنه صاحب الفضل الأكبر، ولولاه لنفذت حيلة ذلك الشرير.»
فقالت: «ألا ترين أن يكتب أمير المؤمنين كتابا يشكره فيه ليستمر على خدمته في مصلحة هذه الدولة!»
قالت: «صدقت، وأظنه فاعلا ذلك.»
قالت: «مع من يرسل الكتاب؟»
فانتبهت أم الأمراء لغرض لمياء من هذا السؤال فقالت: «لا أدري، وأظنه يرسله مع أحد غلمانه في قافلة أو بطريق آخر ... وهل يهمك هذا الأمر؟»
فقالت وهي تحك وراء أذنها: «لا ... لكن ...» وأطرقت.
فقالت أم الأمراء: «قولي يا لمياء ماذا يخطر لك ... لا تخفي عني شيئا.»
قالت: «أريد أن أسارك في أمر يهمني حفظه مكتوما ... هل أفعل؟»
قالت: «افعلي ولا تخافي بعد أن ارتفع حجاب الهيبة من بيننا وأنت بمنزلة ابنتي تماما كما قلت لك مرارا، بل لا أرى ابنة أو ابنا يعامل والديه بما تعامليننا به يا لمياء.» قالت ذلك وبان الاهتمام في جبينها.
فابتسمت لمياء وأبرقت عيناها عند سماع ذلك الإطراء وقالت: «إن سري يا سيدتي يتعلق بالطريق المؤدي إلى خدمة أمير المؤمنين.»
قالت: «قولي يا عزيزتي.»
قالت: «أحب أن أكون أنا رسول أمير المؤمنين إلى يعقوب هذا. ولا أريد أن يطلع سيدي الخليفة على ذلك ... دبري طريقة.»
فاستغربت أم الأمراء هذا الطلب على هذا الشكل، وقالت: «وما هو غرضك من هذا التكتم، ولماذا؟»
قالت: «لعلمي أن السر إذا جاوز الاثنين شاع، ولولا حاجتي إلى مساعدتك في نيل الكتاب لكتمت هذا عنك؛ ولذلك أتقدم إليك بإلحاح أن تكتمي خبري. وقد قلت لأمير المؤمنين إني سأسعى في استطلاع حال مصر بطريقة لا أحب أن يعرفها أحد ... وكنت أود أن أفعل ذلك بدون أن أكاشفك بأمر الكتاب ... فلا تسأليني يا سيدتي عن الأسلوب الذي سأتخذه في البحث. إنما أتقدم إليك أن تستحثي سيدي أمير المؤمنين على كتابة الكتاب واجعلي أنك سترسلينه مع أحد الغلمان أو أوصي الرسول إذا أخذ الكتاب أن يأتي به إليك، أو كما تشائين. والمراد أن تسلمي إلي الكتاب وتطلقي سبيلي بدون أن يعلم أحد بجهة سفري.»
فضحكت أم الأمراء، وقالت: «إني لا أحتاج في ما أطلبه من المعز لدين الله إلى حيلة أو وسيلة، وسأفعل ذلك إكراما لخاطرك ... ولكنني سأشتاق إلى رؤيتك؛ فقد تعودت جوارك و...» ودمعت عيناها.
فأثر ذلك المنظر في لمياء وأحست بشيء يجتذبها نحو تلك المرأة فلم تتمالك عن الترامي على كتفها وقد سبقتها دموع الامتنان، فضمتها أم الأمراء إلى صدرها وقبلتها وقالت لها: «ولكن عسى أن تعودي سالمة ظافرة ويعود الحسين أيضا فائزا فتزفان في هذا القصر وننسى ما قاسيته من الشقاء ...»
فتجلدت لمياء واعتدلت وقد بانت الحماسة في عينيها، وقالت: «إنما يكون ذلك في الفسطاط - بإذن الله.»
فأعجبت أم الأمراء بغيرتها وضحكت وضمتها ثانية وودعتها على أن تدبر أمر الكتاب.
وانصرفت لمياء إلى غرفتها وأخذت تفكر في ما هي مقدمة عليه من الأمر العظيم - سفر وخطر وبعد وشوق - لكنها تجلدت واستحثت عاطفة الشجاعة وقالت في نفسها: «لا بد لي من الصبر حتى أنتقم لوالدي وأثأر لنفسي من ذلك الخائن الذي خدعني وأراد أن يجعلني ضحية مطامعه.»
وسكتت وأطرقت وهي واقفة أمام المرآة تنزع ثيابها. وتصورت ما كان لسالم من المنزلة عندها فخفق قلبها وسبق إلى ذهنها حسن الظن به، فقالت: «قد يكون ابن كلس منافقا أو مخطئا ... هل يمكن أن يكون سالم خائنا إلى هذا الحد ويخدعني عدة سنين؟ لا ... لا ... إذن كيف أفسر عمله؟ ولو كان صادقا في حبه لم يوافق على الفتك بأبي ... ولكن سأتحقق ذلك بمصر قريبا.»
وكانت قد فرغت من نزع ثيابها فاستلقت على الفراش للراحة والتأمل وأجلت الحكم في كل شيء إلى ما بعد وصولها إلى مصر.
وبعد بضعة أيام أتتها أم الأمراء بكتاب المعز لدين الله إلى يعقوب بن كلس، فتناولته وودعتها سرا وكان وداعا مؤثرا، وكانت لمياء قد أعدت كل ما يلزم للسفر من الخدم والأدلاء؛ لأن الطريق من القيروان إلى مصر بعيدة الشقة لا تقطعه إلا القوافل وقد أعدت شبه بريد مؤلف من أربعة أفراس مع ما يلزم من الخدم والحرس وجعلت أن ذلك البريد يحمل غلام أمير المؤمنين إلى مصر، ولما أتاها الكتاب تنكرت بثوب غلام صقلبي وركبت ولا يشك من رآها في أنها غلام الخليفة يحمل رسالة في مهمة. وسار الركب قاصدا مصر.
الفصل التاسع والأربعون
الفسطاط
كانت الفسطاط عاصمة الديار المصرية ومقر الإمارة منذ بناها عمرو بن العاص، فلما تولى أحمد بن طولون جعل مقره في القطائع - كما تقدم في رواية أحمد بن طولون - ثم ذهبت الدولة الطولونية وأفضت الإمارة إلى محمد الإخشيد، فجعل مقره الفسطاط، فعادت إلى رونقها وزادت عمارتها وتزاحمت الأقدام فيها حتى فاقت البصرة والكوفة في كثير من الوجوه وبلغ طولها على ضفة النيل ثلاثة أميال.
وذكر مؤرخو العرب من مقدار عمارتها أنه كان فيها 36000 مسجد و8000 شارع مسلوك و1170 حماما، وقد يستبعد ذلك ولكن إيراده يدل في كل حال على العظمة والعمران. ومما نظمه الشعراء في مدحها قول الشريف العقيلي:
أحن إلى الفسطاط شوقا وإنني
لأدعو لها أن لا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجة لجنابها
وفي كل قطر من جوانبها قطر
تبدت عروسا والمقطم تاجها
ومن نيلها عقد كما انتظم الدر
وبلغ من تزاحم الناس في الفسطاط حتى جعلوا المنازل طبقات عديدة، بلغ بعضها خمس طبقات إلى سبع، وربما سكن في البيت الواحد 200 من الناس، وبلغت نفقة البناء على بعضها 700000 دينار، وهي دار الحرم لخمارويه.
واشتهر من تلك الأبنية دار ضرب المثل بعظمتها وغنى أهلها تسمى «دار عبد العزيز»، كانت مطلة، على النيل، بلغ من سعتها وكثرة ساكنيها أنهم كانوا يصبون فيها أربعمائة راوية ماء كل يوم، ونقل بعضهم أن الأسطال التي كانت بالطاقة المطلة على النيل بلغ عددها 16000 سطل مؤيدة ببكر وأطناب لها ترخى وتملأ، وذكر رجل دخلها في أواخر القرن الثالث للهجرة في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون قال: «طلبت بها صانعا يخدمني فلم أجد فيها صانعا متفرغا لخدمتي وقيل لي إن كل صانع معه اثنان يخدمهما وثلاثة، فسألت كم فيها من صانع فأخبرت أن بها سبعين (كذا) صانعا قل من معه دون ثلاثة سوى من قضى حاجته وخرج.»
وفى ذلك دليل على غنى أهل الفسطاط وترفهم، ومن هذا القبيل استكثارهم من الفرش؛ فقد يقتني أحدهم ألف فرشة أو عشرة آلاف فرشة، وذكروا أن رجلا من أهل الفسطاط عنده ثلاثمائة فرشة كل فرشة لحظية. وكذلك كانوا يفعلون بالثياب ونحوها، وقد تكون أثمانها فاحشة، فلا يبالون لغناهم. قال القضاعي إن قطر الندى ابنة خمارويه كان في جملة جهازها ألف تكة، ثمن كل واحدة عشرة دنانير، فبلغ ثمنها كلها عشرة آلاف دينار. فإذا كان ذلك شأن الفسطاط في زمن آل طولون ودار الإمارة في القطائع فكيف بعد أن عادت دار الإمارة إليها في عهد الدولة الإخشيدية؟
وأشرفت لمياء على مدينة الفسطاط من جهة الشمال الغربي في صباح يوم صفا جوه، فوقع بصرها على المدينة عن بعد فلفت إعجابها جامع عمرو في وسطها، وحوله الأبنية الكبيرة بينها المآذن العديدة ووراءها النيل قد رست فيه السفن في ميناء الفسطاط من جهة الغرب، وبانت سواريها مصطفة كالرماح إذا تقلدها صف من الفرسان وقف بنظام، وبين الفسطاط والمقطم البساتين والغياض وفيها الأشجار الغضة وأنواع الرياحين والأزهار، أجملها بين المقطم والخليج بستان الإخشيد أو البستان الكافوري (في محل الأزهر والسكة الجديدة من أبنية القاهرة اليوم) وإلى جنوبي الخليج ناحية المقس ومناخ المهراني وأرض الطبالة، (وهي الأماكن التي عمرت فيها بعد ذلك الفجالة والظاهر والتوفيقية والأزبكية وغيرها)، فأخذت لمياء تسأل دليل الركب عما يقع بصرها عليه من البساتين، وهو يقص عليها. ثم استوقف بصرها بستان واسع، فيه بقعة كالميدان قد نصبت فيها الخيام، فقالت للدليل: «ما هو هذا البستان؟»
قال: «هو بستان الإخشيدي يا سيدي.»
قالت: «أراه جميلا. فلنعرج إليه للراحة ثم نواصل السير.»
قال: «لا يمكننا ذلك الآن ولو جئنا في غير هذا اليوم ربما استطعنا دخوله.»
قالت: «ولماذا؟»
قال: «ألم تري يا سيدي الخيام المنصوبة في وسطه وعليها الأعلام؟»
قالت: «بلى، وما هي؟»
قال: «هذه سرادقات نصبوها للأمير كافور الإخشيدي صاحب مصر الآن؛ لأنه منحرف الصحة وأشار عليه طبيبه أن يقيم في الخلاء؛ لعله ينتفع.»
قالت: «هل كافور هو أمير مصر الآن.»
قال: «نعم يا مولاي هو أميرها منذ عامين ... ونعم الأمير.»
فسكتت وتحولت إلى مرتفع بجانب المقطم يطل على ما تحته إلى النيل، فأعجبها ما رأته من العمارة التي لا تعهدها في القيروان ولا في غيرها من البلدان التي مرت بها. ولفت انتباهها - على الخصوص - لمعان سطح النيل وراء الفسطاط. ووراء النيل بساتين الروضة والجيزة ووراءها الأهرام تناطح السحاب، وقد اكتنف النيل على ضفتيه بساتين النخيل الباسقة تختلط رءوسها برءوس السواري البارزة عن السفن السابحة في مياه الفسطاط، تحمل إليها الغلات والسلع وضروب الأنسجة من كل صقع وبلد، فزادت رغبتها في أن تصير هذه البلاد إلى المعز لدين الله، وتصورت الخليفة قد دخلها فاتحا ورفع أعلامه فوقها فاختلج قلبها فرحا.
الفصل الخمسون
الشيعة بمصر
ثم ما لبثت أن عادت إلى التفكير في المهمة التي قطعت تلك الصحراء من أجلها، فكان أول همها أن تبحث عن منزل يعقوب بن كلس، ولكنها أمرت صاحب الركب أن يسوق الأفراس إلى فندق أو خان فينزلون فيه.
فأخذهم إلى فندق قديم يعرف بفندق ابن حرمة بأول سوق العدسيين.
وكانوا وهم يمرون في الأسواق لا يلفتون الأنظار؛ لكثرة من يدخل الفسطاط يومئذ من القوافل القادمة من الشام والعراق والمغرب والسودان وغيرها تحمل البضائع والغلال والريش والصمغ والجواري والغلمان على البغال أو الأفراس أو الجمال غير ما ينقل بحرا عن طريق النيل.
وما زالوا حتى أتوا الفندق فأمرت لمياء صاحب الركب أن يهتم بالأفراس وهو لا يشك في أنها غلام، وبعد الاستراحة قليلا توجه همها إلى السؤال عن بيت يعقوب بن كلس فطلبت صاحب الخان إلى غرفتها، فجاء، فرحبت به وكانت قد بالغت في إكرامه ودفعت إليه أضعاف ما طلبه من الأثمان أو الأجور فأصبح طوع إرادتها، فلما دعته إليها وقف بين يديها وأدهشه جمال ذلك الغلام الصقلبي وما في عينيه من الذكاء.
وكان الخاناتي (صاحب الفندق) شيخا لطيف المحضر قد عركه الدهر وشهد تقلب الدول على مصر من أواخر جولة آل طولون. وكان في جملة من شاهدوا الفتك بالطولونيين وخرائب القطائع. وعاصر الإخشيد لما جاء حاكما ونزل الفسطاط. وكثيرا ما مر به النزلاء من سائر الطوائف والعناصر من الأتراك والأرمن والشوام والمغاربة والفرس والشراكسة والسودانيين وغيرهم.
وأصحاب الفنادق والحانات والقهوات ونحوها من الأماكن العمومية أقرب إلى اللطف ودماثة الخلق من سائر طبقات العامة؛ لأنهم يتعودون الصبر على الضيم وسعة الصدر باضطرارهم إلى مسايرة الناس على اختلاف أهوائهم وطبائعهم، فيأتيهم السكران والمعربد والثقيل والبارد والمتكبر والمحتال، وهم مضطرون - بحكم الارتزاق - أن يرضوهم كما يرضون سواهم، فإذا لم يكن فيهم استعداد للقيام بذلك هجروا تلك المهنة وعدلوا عنها إلى سواها .
وإذا ظلوا فيها فلا تزال الحوادث تعركهم والتجارب تحنكهم حتى تصير أخلاقهم كالعجين لينا ودماثة.
فكان صاحبنا الخاناتي من هذا القبيل، فلما رأى لمياء وهو يعتقد أنها غلام صقلبي (وأكثر ما كان يأتي الصقالبة يومئذ من جهات المغرب) عرف أنها قادمة من بلاد المغرب فضلا عما دله على ذلك من ملابس رفقائها وكلامهم. فقالت له: «يظهر أنك قديم في هذا البلد يا عماه.»
قال: «أنا يا سيدي قديم جدا.»
قالت: «وقد مر بك ألوف من الزائرين من سائر الملل، أليس كذلك؟»
قال وهو يمشط لحيته بأنامله: «نعم يا سيدي إني أعرف من أحوال الناس أكثر من شعر هذه اللحية»، وضحك.
فارتاحت لمجونه مع شيخوخته وهمت بالسؤال عما يفيدها فقالت: «أتعرف رجلا اسمه يعقوب بن كلس؟»
فهز رأسه هز الإعجاب وقال: «كيف لا أعرفه وهو من كبار رجال الدولة وقد رأيته أمس مارا على بغلته. ويندر بين اليهود من يؤذن له بركوب البغال.»
فقالت: «وكيف أذن له بذلك؟»
قال: «لأن كافورا أميرنا فتن بذكائه ومهارته، فجعله من خاصته وعظمت منزلته عنده حتى أصبح لا يمضي أمرا إلا بتوقيعه.»
فاستغربت ذلك وقالت: «أين يقيم الآن؟»
قال: «يقيم في منزل فخم بجانب زقاق اليهود على مقربة من هذا المكان.»
قالت: «هل ترسل معي من يرشدني إلى منزله؟»
فنهض الشيخ وقال: «أنا أسير في خدمتك إلى منزله.»
فقالت: «لا حاجة إلى تعب سرك يكفي أن تدلني عليه من هنا.»
فمشى - وهو يظن أنه يكرمها بهذه الخدمة - وقال: «لا ... لا ... بل أمشي في خدمتك يا سيدي ... ولهذا المنزل طريقان أحدهما قصير لكنه ضيق مظلم، والآخر طويل منير جميل ... والأحسن أن نسير في الطريق الطويل.» قال ذلك ومشى وهو يتوكأ على عكازه.
فأطاعته لمياء ومشت في أثره وهي بلباسها الخاص بغلمان الصقالبة؛ وإنما اختارت ذلك اللباس لأن أصحابه أقرب بوجوههم وأصواتهم إلى النساء فلا يستغشها من يتوهم في صوتها غنة النساء. فمشيا بزقاق ينتهي إلى رحبة واسعة رأت لمياء فيها الجماهير يتزاحمون ويتراكضون فسألته عن المكان فقال: «هذا جامع عمرو بن العاص يا سيدي.»
قالت: «قد سمعت به كثيرا ، وكنت أود أن أصلي فيه لكنني سأفعل ذلك في فرصة أخرى.»
فقال: «تفضل يا سيدي لأريك الجامع ثم نسير في طريقنا.» ومشى أمامها مسرعا وهو ممسك بطرف ثوبها كأنه يجرها إلى هناك.
ولم يكد يصل بها إلى الباب حتى سمعت صوتا أدهشها ورأت شيخا واقفا بالباب ينادي: «معاوية خالي.» فيرد عليه شيخ آخر في الجانب الآخر بمثل قوله. وهم يفعلون ذلك نكاية في الشيعة؛ لأنها تحتقر معاوية.
فأحست لمياء عند سماع ذلك بغضب؛ لأنها تجل الشيعة إكراما للمعز وأم الأمراء وحدثتها نفسها أن تصيح بالشيخين وتسكتهما، فتذكرت أنها غريبة وليس هذا وقت خصام. وهي تعلم تعصب حكومة مصر وأهل مصر يومئذ على الشيعة. لكنها كانت تسمع ذلك عن بعد فلما رأته رأي العين استغربته فتحولت عن باب الجامع والخاناتي يتبعها ويقول: «ما بالك يا سيدي لم تدخل الجامع لتراه على الأقل؟»
فقالت: «سأرجع للصلاة في فرصة أخرى. ولكن ما بال هذين الشيخين يناديان هذا النداء.»
قال: «يناديان بذلك إغاظة للشيعة.»
قالت: «ألعلك شيعي؟»
فصاح «أستغفر الله ... لماذا تقول لي ذلك يا مولاي كأنك تريد أن توقعني في مصيبة؟»
قالت: «ولماذا؟ ألعل الشيعي كافر؟»
فأشار بسبابته على شفته السفلى كأنه يطلب سكوتها أو يستمهلها في الجواب إلى فرصة أخرى.
فسكتت حتى إذا دخلا في زقاق منفرد قال الشيخ: «احذر يا سيدي أن تجاهر بأمر الشيعة ... يظهر أنك منهم ...»
فقالت: «نعم إني منهم، وهل من بأس علي؟»
قال: «كلا ... ربما هابوا لباسك وقيافتك. وأما الفقير إذا كان شيعيا ضربوه وأهانوه. وقد يضربون الكبراء ويسجنونهم ويهينونهم بلا شفقة.»
فلما سمعت ذلك الكلام لم تتمالك أن صاحت: «ويل لهم ... ألا يخافون الله؟»
فتقدم الشيخ وقال بصوت ضعيف: «أنصح لك يا سيدي أن تغض النظر عما تراه ولا تعرض نفسك للإهانة.»
فقالت: «أليس في هذا البلد أحد من أهل الشيعة ذو مقام؟»
قال: «بلى يا سيدي هنا رجل شريف من سلالة الحسين اسمه مسلم بن عبيد الله الشيعي، فإن الناس يهابونه ولا يتعرض له أحد بسوء
1
لكن ما لنا ولهذا فقد دنونا الآن من زقاق اليهود وهذا منزل يعقوب بن كلس.»
الفصل الحادي والخمسون
يعقوب بن كلس
تقدم الشيخ إلى الباب ودقه بحلقة من الحديد في وسطه فرد عليه البواب وفتح خوخه الباب وأخرج رأسه منها وهو يقول: «من هذا؟»
فقال الخاناتي: «ضيف يسأل عن المعلم يعقوب.»
فأجال البواب نظره في الطريق فرأى لمياء واقفة بثوب الرجال فأعجبه هندامها فقال: «تفضل يا سيدي، إن المعلم في المنزل.» قال ذلك وفتح الخوخة على مداها وتنحى حتى دخلت لمياء بعد أن أشارت إلى الخاناتي إشارة الوداع وابتسمت. فمضى الخاناتي معجبا بلطف ذلك النزيل الكريم.
أما لمياء فأشار إليها البواب أن تقعد على مقعد في مندرة عند الباب وذهب لينادي يعقوب. وبعد قليل سمعت صوت يعقوب يقول لبوابه: «أين الضيف؟»
فأجابه: «في المندرة.»
ثم أقبل يعقوب على المندرة فوقفت له لمياء فحياها بلطف وقال: «مرحبا بالضيف الكريم، تفضل اجلس.» وجلس على كرسي بين يديها وهو ينظر إلى نظافة ثوبها وهي تنظر إلى سحنته وتتبين ملامحه فرأته على أبواب الكهولة وقد لبس الجبة والعمامة الصغيرة وأرخى سالفيه أمام أذنيه.
ويظهر من شكل أنفه وحاجبيه أنه يهودي ولكن الشرر يكاد يتطاير من عينيه لفرط ذكائه وحدة ذهنه.
فأول شيء تبادر إلى ذهنها أن تطلب الخلوة به لكنه سبقها إلى الكلام: «من أين الضيف؟»
قالت من بلدة بعيدة: «هل تأذن بخلوة؟»
قال: «نحن في خلوة.»
قالت: «بل أريد خلوة أبعد عن أبصار الناس ومسامعهم.»
فعرف من لحن صوتها أنها من بلاد المغرب وحدثته نفسه لأول وهلة أن يكون لمجيء هذا الصقلبي علاقة بكتابه إلى المعز. وكان ينتظر ورود الجواب عليه كل يوم. فلما طلبت الخلوة نهض ومشى أمامها في حديقة كبيرة إلى مصطبة صعد عليها إلى بيت دخلا غرفة منفردة منه وأوصى يعقوب أن لا يقرب أحد من بابه.
وفى تلك الغرفة بساط من السجاد ومساند ومقاعد. فأشار يعقوب إلى ضيفه أن يقعد على الوسادة. وجلس هو بين يديه وعيناه شائعتان ؛ ليرى ما وراء هذه الخلوة، فقالت لمياء: «إني رسول إليك من الإمام المعز لدين الله.»
فلما سمع يعقوب اسم الخلفية تأدب في مقعده مبالغة في الاحترام وقال: «مرحبا بك يا سيدي ... كيف أمير المؤمنين كيف صحته.»
قالت: «إن مولاي أمير المؤمنين بعثني إليك لأحمل شكره لك ورضاءه من رسالتك التي أنفذتها إليه.»
قال: «أرجو أن تكون قد أتت بفائدة ... وأنا في قلق؛ لأن رسولي لم يعد بعد.»
فقالت: «ولن يعود؛ لأنه قتل.»
فأجفل وقال: «وكيف وصلت الرسالة إلى الخليفة؟»
قالت: «وصلت بالاتفاق الغريب ... أنا أوصلتها إلى أمير المؤمنين وهو على وشك الوقوع في الفخ (وتنهدت؛ لأنها تذكرت مقتل والدها) ولكن وصول الرسالة نجاه وحاشيته من الموت.»
فأبرقت أسرة يعقوب من نجاح مهمته؛ لما يتوقعه من الارتقاء على أيدي الفاطميين، وقال: «وكيف حدث ذلك. ألا تقص علي الخبر؟ قل بالله، قل.»
قالت: «أحب قبل كل شيء أن أكاشفك بسر آخر يخصني.»
قال: «تفضل يا سيدي.»
قالت: «أنت تخاطب فتاة لا رجلا.»
قال: «أصحيح ذلك؟ قد توسمت في هذا الصوت لطف النساء لكنني رأيت في هاتين العينين قوة الرجال ... أما وقد أطلعتني على هذا السر فهل تتممين جميلك وتفصحين لي عن حديث رسولي وكيف وصلت الرسالة إليك؟»
قالت: «لذلك حديث طويل سأقصه عليك باختصار، وفيه أشياء كثيرة لا تهمك ولكنني سأقولها لك وثوقا بذمتك واعتمادا على غيرتك وشرفك؛ لأستعين بك في بعض الأمور التي تهمني شخصيا.»
قال: «قولي يا سيدتي وثقي أني خزانة أسرار وأني أبذل كل ما في وسعي للأخذ بيدك في كل ما تريدينه.»
فأخذت تقص عليه خبرها مع سالم مختصرا إلى أن غلب أبوها على بلده وصار في حوزة المعز وكيف خطبها لابن جوهر وما ظهر من كيد أبي حامد حتى فشل على يده بوصول الرسالة. وكيف قتل رسوله وقتلت هي قاتله.
وأنها قادمة لاستطلاع الأحوال وللانتقام لنفسها إلى آخر الحديث - وهو مصغ كل الإصغاء - فلما فرغت من حديثها قال لها: «أنت إذن لمياء المسكينة.»
قالت: «نعم أنا لمياء ولكنني لست مسكينة؛ لأني سأنتقم لنفسي من ذلك الخائن الغادر.» قالت ذلك وحرقت أسنانها وبان الغضب في عينيها وأدرك يعقوب أنها فتاة ليست كسائر الفتيات فقال لها: «كوني على ثقة أني أبذل وسعى في سبيل رضاك. إن أمة في نسائها فتاة مثلك أحر بها أن يتسع سلطانها، وستقيمين هنا وتعرفين كل شيء في مدة قصيرة.»
قالت: «بلغني أن في هذا البلد رجلا من الشيعة اسمه مسلم بن عبيد الله، هل تعرفه؟»
قال: «إنه من أعز أصدقائي وهو الذي حبب إلي الأخذ بناصر الشيعة، مع أني إسرائيلي لكني صرت أعتقد أن الحق بجانب الإمام علي.»
فهزت رأسها وقالت: «الحق يعلو ولا يعلى عليه وسوف يظهر أصحاب الحق أبناء بنت الرسول.» قالت ذلك ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت لفافة من الحرير استخرجت منها رقا ملفوفا وقدمته إليه وقالت: «هذا كتاب من أمير المؤمنين إليك.» ثم استخرجت حجرا من الألماس كبير الحجم كان قد وقع للمعز في بعض غزواته وهو يساوي بضعة آلاف دينار، وقالت: «وهذا هدية من مولاي الخليفة إليك.»
فتناوله وقبله وفض الكتاب وقرأه، فإذا فيه:
من المعز لدين الله أمير المؤمنين إلى يعقوب بن كلس
إن إخلاصك الصحيح قد تأكد لنا من رسالتك التي وصلتنا في إبان الحاجة إليها، فوجب علينا شكرك، وقد بعثنا إليك هذا الشكر شفاها مع رسولنا حامل هذا الكتاب، وسنذكر لك هذه الأريحية والغيرة الحقيقية في وقت يكون لك منه نفع صحيح. وإذا زدتنا من عنايتك وصدق إخلاصك تضاعفت يدك لدينا والله يتولاك بنعمته.
الفصل الثاني والخمسون
مسلم بن عبيد الله الشيعي
فلما أتم القراءة قبل الكتاب ووضعه على رأسه ثم أعاده إلى اللفافة وخبأه في جيبه، فنهضت لمياء فأحس يعقوب أنها تريد الذهاب للتعرف بمسلم بن عبيد الله الشيعي فنهض ومشى بين يديها فقالت: «ألعل منزل الشريف بعيد من هنا؟»
قال: «هو جارنا لا نحتاج في زيارته إلا إلى خطوات قليلة بعد خروجنا من هذا الزقاق.» فاغتنمت وجودها معه في الطريق وقالت: «لم أحادثك بشأن سالم بعد.»
فقال: «لا حاجة إلى زيادة الإيضاح يا سيدتي كوني مطمئنة.»
ولم يسيرا طويلا حتى وصلا إلى بيت مسلم المذكور فتقدم يعقوب فطرق الباب وخاطب البواب. فلما عرفه فتح له ورحب به. ودخلت لمياء معه ومشى في الحديقة أمامها حتى بلغ خبر قدومه إلى مسلم فناداه من الداخل «ادخل يا معلم.»
فأسرع يعقوب إسراع المحتفي بمخاطبه وقال: «لست وحدي يا سيدي إن معي ضيفا تسر بمشاهدته.»
فقال: «تفضل ومن معك.»
وكانت لمياء قد صارت على مقربة من باب الغرفة التي فيها مسلم، فحالما وقع بصره عليها تزحزح من مكانه كأنه يهم بالنهوض فأسرع يعقوب إليه وأقعده وهو يقول: «لا تقم يا سيدي.»
فقال: «أهلا وسهلا بالقادم ... من معك؟»
قال: «رسول ابن عمك صاحب القيروان.»
فقال: «من أمير المؤمنين المعز لدين الله؟» قال ذلك ووقف وهو يقول: «فلماذا منعتني عن الوقوف؟ إن كنت لا أقف لرسول صاحب الحق فلمن أقف؟» وترقرقت الدموع في عينيه فرحا.
فأكبت لمياء على يده فقبلتها وهي تقول: «العفو يا سيدي هذا إكرام لا أستحقه.»
فقال: «بل يجب علي الوقوف إكراما لابن عمنا صاحب القيروان. طالما تمنيت أن أحظى بهذه اللقيا ... كيف فارقت أمير المؤمنين؟» وقعد وهو يشير إليها بالجلوس فجلست متأدبة وقالت: «فارقته في خير وسلامة ... إن قلبي يطفح سرورا بهذه المقابلة في هذا البلد السعيد.»
وأشار مسلم إلى يعقوب فقعد وهو يقول: «وأزيدك علما يا سيدي أن هذا الرسول فتاة تتفانى في نصرة أمير المؤمنين. وقد كانت السبب في حفظ حياته من كيد الكائدين.»
فقال: «وكيف ذلك يا يعقوب؟»
قال: «ألا تذكر يا سيدي ما قصصته عليك عن المكيدة التي كادها بعض الخونة للفتك بابن عمك - حفظه الله؟»
قال: «بلى وعلمت أنك بعثت رسولا ينذره بذلك.»
قال: «نعم ولكن الرسول قتل قبل وصوله إلى القيروان فأتيح لهذه الباسلة أن تتناول الرسالة وتوصلها إلى صاحبها. ولو تأخرت لحظة لنفذت حيلة أولئك الكائدين .» وقص عليه الخبر باختصار.
فلما علم بما تكنه جوارح لمياء من الغيرة على الشيعة وعن غرضها من القدوم إلى مصر قال: «بارك الله فيك يا بنية ... كيف فارقت أمير المؤمنين؟»
فطمأنته عنه وأخبرته بما أوتيه من النصر وما ترجوه من تغلبه وفوزه. فأبرقت أسرته، وقال: «الحمد لله الذي نصر قومه ونتوسل إليه تعالى أن يتم فضله علينا وينقذنا من القوم الظالمين ... ألم يعزم الإمام على القدوم إلينا؟»
قالت: «إنه فاعل بإذن الله. وإنما جئت لاستطلع الأحوال وأرى حال الشيعة في هذه البلاد.»
فتنهد تنهدا عميقا وقال: «إن شيعتنا في ضنك شديد. إن هؤلاء الظالمين يسومونهم مر العذاب من الإهانة والضرب والحبس بسبب وبلا سبب ...»
قالت: «قد تفطر قلبي لما شاهدته من ذلك في هذا الصباح، وأنا قادمة إلى منزل المعلم يعقوب ... رأيت شيخين جالسين بباب المسجد يصيحان «معاوية خالي.» يقولان ذلك بكل وقاحة.»
فقال: «لم تري شيئا بعد يا بنية ... إن شيعتنا مغلوبون على أمرهم يذوقون العذاب ألوانا من الحبس والقتل.»
فقالت: «الحبس والقتل! ولماذا؟»
قال: «بغير سبب ... إنهم يسومون شيعتنا ذلك؛ لأنها تجل أبناء الرسول ... لو قصصت عليك بعض الخبر لبكيت على حالنا.»
قالت: «أحب أن أعرف شيئا أنقله إلى مولاي أمير المؤمنين؛ لعله يعجل خطواته في إنقاذهم.»
قال: «أذكر لك مثالا صغيرا من مظالمهم. كان في الفسطاط منذ سنوات رجل من الشيعة اسمه ابن أبي الليث الملطي بلغ خبره إلى صاحب مصر، فبعث في طلبه، فحملوه إليه فأمر بضربه، فضربوه مائتي سوط ووضعوا في عنقه غلا ثقيلا وحبسوه وجعلوا يبصقون في وجهه وهو في السجن حتى مات - رحمه الله.» قال ذلك وغص بريقه فلم تتمالك لمياء عن البكاء.
فاستأنف مسلم الحديث بعد أن بلع ريقه وقال: «لم يكتفوا بموته ... فبعد أن دفنوه نهضت جماعة ممن لا خلاق لهم وهموا بنبشه في قبره
1
هل سمعت بأفظع من ذلك ... هذا مثال صغير مما قاساه الشيعة في هذا البلد ... وناهيك بما نسمعه بآذاننا من الإهانات والنكايات؛ فإنهم يتعرضون للمارة فيطلبون من أحدهم أن يقول: «معاوية خالي»، أو «معاوية خال علي»، فإذا لم يقل أهانوه أو قتلوه.»
الفصل الثالث والخمسون
الحيرة
كانت لمياء تسمع ذلك القول وبدنها يقشعر وعيناها تذرفان الدموع ومسلم يغص بريقه من فرط التأثر ويعقوب يظهر التألم مما يسمعه، ثم تصدت للكلام وقد أبرقت عيناها من التفكير وقالت: «لا تحزن يا سيدي قد دنا الوقت لإنقاذ هذه الشيعة المظلومة ... إن الله مع الصابرين.»
فتنهد الشريف مسلم وقال: «لقد طال صبرنا يا بنية ولا نظننا نصل إلى ثماره - كأنه قد كتب علينا الاضطهاد وكتب على الخلافة أن تبقى في غير أهلها لحكمة لا نفهمها!»
فقالت لمياء: «أليست الخلافة الآن في بيت الرسول بالقيروان، إنها ستبقى فيهم مدى الزمان ... قد كتب لهم النصر ولا يمضي كثير حتى ترى أعلامهم تخفق على سائر البلدان - بإذن الله.»
وكانت لمياء تتكلم ومحياها يشرق سرورا كأنها تقول ما تقوله عن ثقة.
فأعجب الشريف بما بدا من حماستها، وقال: «إن وجود مثلك بين أنصارنا يبشرني بفوز عظيم.»
قالت: أنا مسكينة حقيرة، إنما الأنصار هم القواد والأمراء، وفيهم جوهر الصقلي الذي دوخ المغرب بسيف العبيديين ... إن ذلك الفتح سيكون على يده وأيدي الأمراء من كتامة وصنهاجة وغيرهم من البربر الذين باعوا أنفسهم في سبيل الحق، ثم اعترضت مجاري أفكارها صورة أبي حامد وسالم وما كان من كيدهما حتى قتل أبوها فانقبضت نفسها وسكتت وهي مطرقة تفكر في سالم وأنها تحب أن تطلع على حقيقة حاله وتود أن تسمع خيانته بأذنها وعلمت أنه لا يستحسن ذكره بين يدي الشريف فرأت أن تستأذن في الانصراف حتى تخلو بيعقوب وتطلب منه ذلك، فتزحزحت وأظهرت أنها تحب الذهاب فاستوقفها الشريف قائلا: «إلى أين يا ابنتي؟ إنك ستقيمين عندنا بين أهلنا على الرحب والسعة.»
فقطعت كلامه قائلة: «كان يجدر بي ذلك، وهو حظ كبير لي ولكنني - لأسباب قهرية - لا أقدر على الإقامة هنا. وأتوسل إليك بجدك سبط الرسول أن تكتم أمري عن كل إنسان حتى عن أهلك فهل تعدني بذلك؟»
قال: «نعم كوني مطمئنة. والآن أين ستذهبين؟»
قالت: «إني سائرة مع المعلم يعقوب، وسأذهب إلى الخان أو غيره كما يتفق ولا غنى عنك في كل حال، فإذا بدت لنا حاجة أسرعنا إليك. فادع لنا الآن.»
فقال: «بحراسة المولى ... ومهما يخطر لك من أمر فإنك تجدينني ملبيا مطيعا، ولا حاجة بي أن أوصيك بالتكتم؛ لأني رأيت من حزمك وتعقلك ما يضمن ذلك.»
ثم قبلت لمياء يده وخرجت، وخرج أيضا يعقوب. ولما صارا خارجا قال يعقوب: «إلى أين يا لمياء الآن؟»
قالت: «قد استأنست بك يا سيدي ولعل السبب في ذلك أنك مطلع على بعض أمري من قبل أن نتقابل» وتنهدت وسكتت.
الفصل الرابع والخمسون
يعقوب وكافور
فلحظ يعقوب أنها تعني خبرها مع سالم وكان يعقوب قد أخلص النية للمياء؛ لأنها وقعت من نفسه موقعا عظيما وأعجب بما رآه من صدق غيرتها ومروءتها وهو شريكها في غرضها السياسي؛ أي أنه يرى إبدال الدولة الإخشيدية بالفاطمية ليس حبا بالشيعة أو انتصارا للحق لكنه كان ذا مقام عند كافور وكان يتوقع انقلاب الأحوال ولا سيما بعد مرض كافور، وقد أسر إليه الطبيب أن كافورا سيموت قريبا، وهو يعلم تغير قلوب الإخشيدية واضطراب أحوالهم، فرأى أن يصادق الفاطميين فيمسك الحبل من الطرفين. ونظرا لثروته ووجاهته كان يخاف مطامع الإخشيديين وهو يرى قرب زوال دولتهم من ضعفهم. فلم ير بأسا أن يكون وسيلة لنقل هذا الوادي إلى دولة جديدة فتية فإذا جرى ذلك على يده أتته المنافع من وجوه كثيرة.
وعدوه اللدود في ذلك الحين ابن الفرات الوزير، وكان يعقوب يخافه، على الخصوص إذا مات كافور؛ لأنه كان يحسده على منزلته عند كافور وينافسه على النفوذ. أما كافور وهو أمير مصر فكان يقرب يعقوب ويكرمه وقد جعله موضع ثقته. فلما أشارت لمياء إلى أمر سالم ورغبتها في استطلاع حقيقته رأى أن يسهل عليها ذلك وأن يطلعها على الأحوال من حيث السياسة وأحزابها فقال: «أظنك تعنين أمر ذلك الخائن.»
وعلمت أنه يعني سالما فأجفلت ولم تطق أن تسمع تلقيبه بهذا اللقب مع أنها حكمت عليه بالخيانة من تلقاء نفسها، لكن ما رسخ في قلبها من حبه لا يزال له صدى في خاطرها ريثما تتحقق الأمر فقالت: «اسمح لي يا سيدي أن أعترض على ما ذكرته عن سالم؛ فإنه يشق علي أن أسمعه وإن كان صحيحا. وزد على ذلك أني لم أتحققه بعد.»
فقال: «أما أنا فقد تحققته كما ذكرت في كتابي إلى المعز لدين الله.»
قالت: «أليس من سبيل إلى تحقيق ذلك بنفسي؟»
وكانا قد خرجا من الزقاق واقتربا من منزله وسمعا المؤذن في جامع عمرو يؤذن صلاة الظهر. فقال يعقوب: «هذا وقت الغداء فلندخل إلى منزلنا نتغدى ثم ننظر في هذا الأمر.»
دخل منزله وهي في أثره فأمر غلامه أن يهيئ المائدة في المندرة ولم يحضر معها أحد من أهل يعقوب - ذلك ما أرادته لمياء - وبعد الغداء جلسا وكل منهما يفكر في أمره ويعقوب يدبر وسيلة لإجابة طلبها. وهما في ذلك طرق الباب وأتى الخادم يقول: «الطبيب شالوم بالباب.»
فلما سمع اسمه أبرقت أسرته كأنه كان في ضيق وأفرج عنه وقال للخادم: «أدخله إلى ردهة الاستقبال ريثما آتي.»
وبعد خروج الخادم قال يعقوب للمياء: «تعبت وأنا أفكر في إجابة طلبك بحيث أريك خيانة ذلك الرجل فأتى هذا الطبيب ففتح باب الفرج.»
قالت: «من هو؟»
قال: «هو طبيب الأمير كافور يتردد عليه كثيرا، ولا سيما في هذه الأيام بسبب انحراف صحته. ولكافور ثقة في علمه وطبه وكانا صديقين قبل أن صار هذا العبد أميرا.»
قالت: «أي عبد تعني؟»
قال: «أعني كافورا، ألا تعلمين أنه عبد! فلا بد إذن من أن أقص عليك خبره ليتيسر لك تفهم أحواله. اعلمي يا بنية أن كافورا هذا كان في شبابه عبدا لبعض أهل مصر ثم اشتراه محمد بن طغج الإخشيد مؤسس هذه الدولة هنا منذ بضع وأربعين سنة، فخدم عنده وترقى في خدمته حتى صار أتابك ولديه؛ أي مربيا لهما. وصار يعرف بالأستاذ كافور. وتمكنت قدم الإخشيد بمصر وصار أميرا مستقلا تحت رعاية الدولة العباسية كما هي حالنا الآن وتقدم كافور معه. وتوفي محمد الإخشيد سنة 334ه فخلفه ابنه الأكبر أنوجور ومعناه بالعربي (محمود) فزاد نفوذ كافور في الدولة؛ لأنه كان مربيا لأنوجور فصار وزيرا له فقام بتدبير دولته أحسن قيام. ولما توفي أنوجور سنة 349 تولى بعده أخوه علي بن الإخشيد فاستمر كافور على وزارته أو نيابته حتى توفي منذ سنتين (355) فلم ير بين الإخشيديين من يليق بالحكم.»
ثم خفض صوته وقال: ولعله طمع بالاستقلال، فاحتال في إظهار خلعة قال إنها جاءته من العراق، وهي شارة الولاية عندهم يرسلها الخليفة العباسي لكل وال جديد فيلبسها باحتفال شائق. وزعم أنه لقب بأبي المسك فاستبد بأمور الدولة واستوزر رجلا شديدا اسمه أبو الفضل جعفر بن الفرات هو وزيره الآن، ولولا ابن الفرات هذا لكان كافور من أحسن الأمراء.
فأعجبها ما سمعته عن أصل هذه الدولة ومن هو كافور، لكنها ما زالت تحب أن تستزيد من خبره فقالت: «قلت إن كافورا كان عبدا. وهل تعني أنه كان أسود اللون، أو هو مملوك أبيض؟»
فقال: «هو أسود اللون شديد السواد بصاصا، لكن سواده لم يمنع من خضوع القوم له وإن لم يخضعوا له جميعا ... قد طال بنا الكلام والطبيب شالوم في انتظارنا. لكن لا بأس من إتمام الحديث باختصار إذ ربما لا نقدر على ذلك في حضوره ...» قال ذلك ونهض فنهضت لمياء معه فأتم حديثه وهما واقفان فقال: «اعلمي يا لمياء أن أمراء هذه المملكة وجندها الآن قسمان قسم مع كافور ينصرونه ويأخذون بيده ويقال لهم الكافورية، وقسم مع آل الإخشيد يعدون كافورا مختلسا ويقال لهم الإخشيدية وهم كثيرون. والنقطة الهامة اليوم أن كافورا مريض ولا ندري هل مرضه خطر أم لا. فإذا انتهى هذا المرض بالموت فإن أحوال مصر تضطرب وتتضعضع؛ إذ ليس من يتولى الإمارة من أصحاب الحق بعده إلا غلام لا يتجاوز عمره 11 سنة. وسنعرف حال كافور أو صحته من الطبيب شالوم، هيا بنا إليه.»
قال ذلك ومشى فمشت لمياء معه وهي تتأمل في ما سمعته عن اضطراب أحوال هذه الدولة وقد استبشرت بنجاح مهمتها.
الفصل الخامس والخمسون
الطبيب شالوم
وأطلا على الطبيب شالوم في ردهة الاستقبال فتقدم يعقوب مسرعا نحوه ولمياء وراءه تمشي الهوينى لتبقى بعيدة ريثما يدعوها. لكنها جعلت تتفرس بالطبيب عن بعد فإذا هو كهل والذكاء يتدفق من عينيه، وعليه زي الأطباء في ذلك العصر وألبسته ثمينة لتقربه من أمير البلاد وحظوته عنده وحول خصره منطقة مذهبة فيها دواة من عاج وقد التحف رداء كالعباءة من حرير عنابي اللون. وعلى رأسه كساء كالقبعة أو الطاقية عليها طراز مزركش وقد أرسل لحيته وسالفيه بلا هندام كما كان يفعل كبراء اليهود. وكان شالوم جالسا على وسادة في صدر القاعة وفى يده كتاب يطالع فيه باهتمام. فلما سمع خطوات يعقوب نهض وحياه وابتسم له والاهتمام باد في عينيه فدعاه يعقوب للجلوس وهو يقول: «ما لي أرى حبيبنا شالوم في شاغل؟ ما هذا الكتاب؟»
وقبل أن يجيبه لمح لمياء بلباس الغلمان في الحديقة واقفة تتلاهى بقطف زهر وهو يعرف غلمان يعقوب فاستغربها. وأدرك يعقوب استغرابه فابتدره قائلا: «هذا غلام صقلبي جاءني برسالة في هذا الصباح.»
قال: «من أين؟ يظهر لي من زيه أنه من بلاد المغرب. فهل أتاك برسالة من صاحبك المعز؟»
فعض يعقوب على شفته السفلى إشارة التكتم وقال: «صاحبي! وهل تعتقد ذلك في؟ وأنا في خدمة الأمير كافور ... ما لنا ولهذا ... قل لي، رأيتك تقرأ في هذا الكتاب باهتمام ... اقعد ... قل ما هو سبب اهتمامك؟ كيف صحة مولانا؟»
فقعد وقعد يعقوب بين يديه، فقال الطبيب «إن صحة الأمير في خطر وقد أعيتني الحيل في تطبيبه. وهذا كتاب جاءني أمس ألفه طبيب من أشهر أطباء العراق ...»
فقطع يعقوب كلامه قائلا: «أظنك تعني الرازي، فهل هذا كتابه الحاوي؟»
قال: «هو جزء منه يتعلق بالعلة التي يشكو الأمير منها.»
قال: «هل وجدت شيئا جديدا.»
فأومأ برأسه نحو الأعلى أن «لا.»
فقال يعقوب: «فأنت إذن يئس من شفاء الأمير؟»
قال: «تقريبا.»
فأطرق يعقوب وبان الانقباض في جبينه ، وعرف الطبيب سبب انقباضه فقال له: «أنت الآن تنظر في ما سيئول إليه أمرك إذا مات هذا الرجل ... كم قلت لك أن تساير الوزير ابن الفرات وتداجيه فإنه شديد الوطأة حسود وله مطمع لا يخفى عليك.»
فتنهد وقال: «إنه لا يداجى ... ولا فائدة من مداجاته؛ لأن الحسد يعمي ويصم.» وأطرق وهو يعمل فكرته ثم قال: «لا أبالي به ... إن الأمر لا يطول في يده بل أنا لا أرى مصر يطول أمرها في قبضة هذه الدولة و...» وتوقف عن الكلام بغتة.
فلم يفت الطبيب ما جال في خاطره فقال: «لماذا تداجيني يا يعقوب! ونحن قد شبنا معا ومصلحتنا في هذا الأمر مشتركة ... لما دعوت المعز صاحبك غضبت ... لا ينبغي لنا أن نتداجى وهؤلاء القوم وإن قدمونا وأكرمونا؛ فإنهم يكرهوننا ولولا حاجة هذا الأمير الأسود إلى طبي لما هش لي ولا كلمني، وأنت مع طول عشرتك له منذ توليت عمارة داره وأنت شاب حتى صرت ملازما لبابه ثم أجلسك في ديوانه الخاص وصرت تخدمه وتتولى أعمال الحسابات وتدخل بين يديه في كل شيء؛ فإنه لا يحبك وإنما هو في حاجة إلى عقلك وتدبيرك. هل غرك أنك كيفما دخلت أو خرجت وقف لك الحجاب والأشراف! إنه إنما فعل ذلك؛ لأنك خدمت مصلحته بإخلاص وغيرة ولم تطلب منه مالا. وأنا أعلم الناس بالمال الذي رددته عليه ولم تأخذ منه إلا القوت، فأنت الآن موضع ثقته لا يمضي دينار ولا درهم إلا بتوقيعك
1
ومع ذلك هل تظنه يحبك؟ إنه لا يقدر أن يحبك ولا أن يحبني لا أقول ذلك؛ لأنك لا تعلمه بل أنا على يقين أنك أعلم به مني ولكني قلته؛ لأسهل عليك التصريح لي بما تحاول كتمانه عني وأنا أتوسمه فيك.»
وكان يعقوب يسمع كلامه ويعتقد صحة كل كلمة منه ويعلم أن ميله إلى الفاطميين لم يخف على صديقه الطبيب. وهو لم يفعل ذلك ليغدر بمولاه كافور ولكنه توسم قرب سقوط هذه الدولة ويعلم أن ابن الفرات يكرهه حسدا منه لتقدمه وأنه حالما يموت كافور يصبح هو في خطر على ماله وحياته؛ لذلك أحب أن يصل حبله بحبل الفاطميين مع البقاء على ولاء كافور لكنه كان يشق عليه أن يصرح بذلك بين يدي أحد. فلما سمع تصريح الطبيب شالوم هان عليه الدخول في الموضوع فقال: «أراك يا صاحبي سيئ الظن في هذا الرجل كثيرا.» قال: «كلا، أنا لا أسيء الظن به خاصة، لكنني لا أرى شيئا يجمعني به غير المصلحة وأرى أسباب التفريق كثيرة؛ فنحن الآن لا ينبغي لنا أن نخون هذا الأمير أو نقصر في خدمته لكنني أخاف على حياتنا بعده ... أليس كذلك يا معلم؟ قل، لا تخف إني أسر إليك أشياء كثيرة ومع ذلك لا يهمني صرحت أم لم تصرح؛ فأنت صديق المعز لدين الله الفاطمي وهذا الغلام رسوله إليك في شأن يتعلق بالدولة. اصدقني؛ لعلي أستطيع خدمتك.»
فلم ير يعقوب بدا من الكلام وهو يثق بصديقه فقال: «انظر يا صاحبي شالوم. لا تظن توقفي عن التصريح لك من ضعف ثقتي بك؛ فأنت تعلم ما بيننا من الأسرار القديمة والحديثة. ولكني مضطرب الرأي في الأمر. إن هذا الغلام رسول من المعز. نعم. ولكن كن على يقين أني لم أصاحب المعز لأخون كافورا؛ فإني خادمه، مقيم على ولائه ما دام حيا. أما إذا مات فإني أخاف خلفاءه، كبيرهم وصغيرهم، بل أخافهم على مصر وأهلها؛ إنهم لا يصلحون للحكومة لما تعلمه من انقسامهم واضطراب أحوالهم، فلا بد من خروج هذه البلاد من أيديهم ... وإذا لم يكن بد من خروجها فمن تراه أولى بها؟ إن القوم في بغداد مشغولون بأنفسهم، إن بغداد مسقط رأسي وأحبها كثيرا لكنني أراها بعيدة عن مصلحة مصر، وهؤلاء الفاطميون دولة جديدة رشيدة، كثيرا ما سمعت عن تعقل خلفائها وعدلهم. فإذا تولوها كان ذلك من أسباب سعادتها ...»
ثم تدارك ما قاله بلهفة قائلا: «أما إذا اتفق الإخشيديون وولوا من يصلح للولاية ولم يؤذونا بأموالنا وأرواحنا فمن ضعف الرأي أن نستبدلهم بسواهم ... ألا توافقني على ذلك؟»
فأبرقت أسرة الطبيب شالوم من سماع ذلك الكلام؛ لأنه لسان حاله تماما، فابتسم وقال: «بارك الله فيك يا معلم لقد نطقت بلساني وعبرت عن جناني. نحن متفقان و...»
فقطع كلامه قائلا: «لم أشاهد الأمير كافورا منذ أمس؛ لأني شغلت عن الذهاب إليه بسبب سأقصه عليك ... كيف هو اليوم ... كيف حاله؟»
قال وهو يرفع حاجبيه «إنه ليس على ما يرام ... كانت الحمى عليه شديدة في هذا الصباح، وكنت أتوقع هبوطها فلم تهبط رغم ما اتخذته من الوسائل المرطبة. ولما أعيتني الحيلة رجعت إلى كتاب الرازي وأخذت أطالع فيه. وخطر لي ما نتوقعه من تبدل الأحوال فرأيت أن آتي إليك فحملت الكتاب معي ولم أكلف غلامي حمله في جملة ما يحمله من الأدوات والعقاقير.»
الفصل السادس والخمسون
غلام الطبيب
فلما ذكر الطبيب غلامه انتبه يعقوب لأمر يتعلق بلمياء فالتفت نحوها فرآها تتمشى في الحديقة كأنها تتشاغل بمشاهدة الرياحين والمياه المدبرة في الأقنية وبينها الحصى مرصوصة صفوفا وهناك طوائف من الطيور الأهلية بألوانها الزاهية بين سارح وحبيس، ولا نظن لمياء كانت ترى ما بين يديها كما يراه المتفرج؛ لاشتغال خاطرها بسالم والطريقة المؤدية إلى مشاهدته.
ثم التفت يعقوب إلى الطبيب وقال له: «لقد أذكرتني أمرا أتوسل إليك في قضائه. أترى هذا الغلام؟»
قال: «نعم أراه، أليس هذا الرسول الذي نتكلم عنه؟»
قال: «بلى. وأحب أن أكلفك أمرا يتعلق به هل تقضيه؟»
قال: «حبا وكرامة. ما هو؟»
فقال يعقوب: «أتعرف ذلك البربري الذي يتردد على مجلس الأمير؟»
قال: «أظنك تعني الرجل الغريب الأطوار ذي العينين البراقتين الغائرتين والأنف الأعقف والشاربين المسترسلين ...»
قال: «نعم أعنيه وأعني شابا يرافقه في أكثر الأحايين ...»
قال: «هو ابنه أو ابن أخيه سالم - على ما أظن - نعم أعرفهما، وإنهما يترددان على الأمير كثيرا كما تعلم، وأنا أستغرب أمرهما ولا أعلم لهما محلا سوى ...»
فقطع يعقوب كلامه قائلا: «أنا أعلم أنهما يحرضان أميرنا على فتح القيروان ...»
فدهش الطبيب، وقال: «أين نحن والقيروان! ألا يكفينا ما يشغلنا من أنفسنا، ما الذي تريده مني؟»
قال: «إن هذا الغلام يريد أن يحضر مجلس كافور ويسمع ما يدور فيه خصوصا عند وجود سالم وعمه ... ولكيلا أخفي عنك شيئا أخبرك أن هذا الرسول ليس غلاما، وإنما هو فتاة بلباس الغلمان، احفظ ذلك سرا، ولها شأن خاص مع سالم هذا. وقد بلغها عنه أقوال قالها لكافور لم تصدقها فأحبت أن تسمعها بأذنيها. فالذي أراه أن تأخذها معك بدل غلامك الذي يحمل لك الأدوات والعقاقير وتجتهد بأن تدخلها معك دار الأمير؛ لتكون بمشهد ومسمع.»
فاستغرب شالوم كونها فتاة وقال: «لابد لهذه الفتاة من حديث هام، وقد تاقت نفسي لرؤيتها، ادعها وقدمها لي وأوصها أن تضع ثقتها بي، ثم أخبرها ماذا ينبغي أن تعمل ليتم لها ما تريده.»
فحول يعقوب بصره نحوها، فانتبهت لمياء، فأشار إليها بالقدوم إليه، فأسرعت وقد توردت وجنتاها فظهرت الأنوثة فيها. ولكن القوة كانت بادية في وجهها وسائر حركاتها فأعجب الطبيب بهيبتها وجمالها وبريق عينيها. فلما دخلت قال يعقوب: «هذا الطبيب شالوم طبيب مولانا الأمير كافور، وهو صديق حميم أثق به كثيرا، وقد أطلعته على قصدك واتفقنا على طريقة تحضرين بها مجلس كافور وتشاهدين كل ما تريدينه هناك ...» وضحك.
فأدركت من مخاطبته إياها بصيغة التأنيث أن الطبيب مطلع على حقيقة أمرها، فبانت البغتة في عينيها وأطرقت. فابتدرها يعقوب قائلا: «لا تخجلي يا بنية من اطلاع الطبيب على حقيقتك؛ فإنه على رأيي من كل وجه. والمطلوب الآن أن تكوني هنا بعد قليل وسيأتيك بالثياب اللازمة تتنكرين بها فلا يظن من يراك إلا أنك غلام الطبيب شالوم وتمكثين هنا حتى يأتي هو فتذهبين معه في أصيل هذا اليوم وأكون أنا قد سبقتكما إلى هناك. ولا بد لي من الذهاب حالا؛ لأني أطلت الغياب عن المجلس، وإنما شغلني عنه القيام بأمرك، فامكثي هنا ريثما تأتي الثياب وتلبسينها وسأوصي قيمة المنزل بك خيرا، وكل ما تطلبينه يقضى.»
فلم يسعها إلا السكوت وقد شغل خاطرها بهذه المهمة بما فيه من التجسس، وهو يخالف ما فطرت عليه من استقلال الفكر وحرية القول. ولكنها تحملت ذلك في سبيل كشف حقيقة ذلك الرجل الذي خانها في عواطفها.
ثم نهض الطبيب وودعهما وانصرف على أن يبعث بالثوب والأدوات والعقاقير، وودعها يعقوب بعد أن لبس الثوب الذي يلقى به الأمير ومضى إليه.
وبعد قليل أتت تلك الأشياء فلبست لمياء ثوب غلام الطبيب - كما كانت العادة يومئذ - وعلقت جرابا من الديباج بعنقها وفيه أدوات الجراحة وبعض العقاقير الضرورية، فأصبح من يراها لا يشك أنها غلام الطبيب شالوم.
فمكثت بانتظاره وكانت الشمس قد مالت نحو الأصيل، وكافور في سرادقه بالبستان الكافوري - كما تقدم.
الفصل السابع والخمسون
سرادق كافور
ثم جاء الطبيب على بغلته وأومأ إلى لمياء أن تتبعه على بغلة ساقها إليها، فركبت وعلقت الجراب في عنقها. ولم يمض كثير حتى أشرفا على البستان الإخشيدي وفيه السرادقات والأعلام وقد وقف الحجاب ببابه والجند حول السرادقات بين ماش وواقف. ولم يدن الطبيب من باب البستان حتى تصدى له كبير الحجاب بلهفة، وقال: «إن الأمير في انتظارك على أحر من الجمر.»
فقال: «كيف هو الآن؟»
فهز الحاجب كتفيه وقال: «يقولون إنه أحسن.»
فارتاب الطبيب بهذه الإشارة لكنه ترجل، وأشار إلى غلامه (لمياء) أن تترجل وتتبعه ففعلت ومشت وهي تراقب كل شيء. فرأت الوجوه متغيرة والقوم هناك يجتمعون ويتفرقون زرافات كأنهم يتساءلون عما سيكون إذا مات كافور. فمرت بين السرادقات في طريق مستقيم يؤدي إلى سرادق كبير مبطن بالحرير الأحمر وقد أرخيت عليه الأستار المزركشة ونصب العلم في قمته. ووقف ببابه حاجبان بلباس خاص وفي يد كل منهما رمح قناته مكسوة بالديباج.
فلما دنا الطبيب من باب السرادق وسع له الحاجبان بدون استئذان؛ لأنهما يعلمان شدة حاجة الأمير إليه فدخل وأشار إلى غلامه (لمياء) أن تدخل معه فلما دخلت كان أول شيء استلفت انتباهها سعة ذلك السرادق (الصيوان) واحمرار باطنه وقد فرشت أرضه بالبسط الجميلة وأقيمت في جوانبه منائر من الفضة قد غرست فيها الشموع ومواقف عليها المباخر يتصاعد البخور من بعضها. وقد علقت على أعمدته الأسلحة من السيوف والأتراس والحراب والأقواس. وفى وسط السرادق دكة فوقها قبة قائمة على أربعة أعمدة كالمظلة، وقد استرسلت الستائر من جوانبها الثلاثة وترك صدرها مكشوفا ليظهر سرير الأمير للداخل من باب السرادق. والسرير مصنوع من الأبنوس المنزل بالعاج مكسو بالفرش الوثير وأصله من أسرة بني طولون.
وكان كافور متوسدا على ذلك السرير، ولكن لمياء لم تره؛ لأنه كان غارقا في الفراش المصنوع من ريش النعام. ورأت إلى جانبي القبة جماعة واقفين باحترام واهتمام علمت أنهم خاصته وأحباؤه غير الغلمان والأعوان.
فأجالت نظرها فيهم؛ لعلها تجد سالما بينهم فلم تجده وأدركت اهتمام القوم من وقوفهم على الأقدام مع وجود المقاعد والأرائك والوسائد لجلوسهم.
أما الطبيب فظل ماشيا نحو السرير وقبل أن يدنو منه برز له من جانب القبة رجل عرفت لمياء أنه يعقوب بن كلس وقد لبس ثوبا يليق بذلك الموقف. وتقدم يعقوب لملاقاة الطبيب بلهفة كأنه لم يره من قبل وقال له: «لقد أبطأت علينا أيها الطبيب.»
فقال: «فارقت مولانا الأمير وأنا أرجو تقدمه نحو الصحة، فهل طرأ عليه طارئ؟»
فأجاب يعقوب: «لا بأس عليه إنه اليوم أحسن من ذي قبل ...»
قال ذلك بصوت عال؛ ليسمعه كافور على عادتهم في طمأنة المريض وتخفيف جزعه. لكنه أشار إليه همسا أن الحال تدعو إلى القلق.
فتقدم شالوم حتى دنا من السرير وأشار إلى غلامه أن يتبعه ليكون قريبا منه في حين الحاجة إلى عقار. فدنت لمياء من ذلك السرير المغشى بالأغطية المزركشة بالألوان الزاهية تكسوه كله إلا بقعة صغيرة عند الرأس سوداء مظلمة هي وجه كافور قد أزيح عنه الغطاء؛ لأنه كان شديد السواد بصاصا جلده يلمع لكن شدة الضعف أذهبت لمعانه حتى تكاد ترى الاصفرار يخالط ذلك السواد، وكان قد أقفل عينيه كأنه نائم وقد برز فكاه من الضعف فافترقت شفتاه وبرزت أسنانه البيضاء من بينهما. فلما أحس كافور باقتراب الطبيب منه فتح عينيه وأجال بصره حتى وقع نظره على الطبيب فبان الاهتمام في تينك العينين الحمراوين. وكأنه أراد أن يبتسم فلم يزدد منظره إلا تكشيرا فأسرع الطبيب إلى يده فاستخرجها من تحت الغطاء باحترام وجس نبضها وهو يظهر الانبساط من حال النبض .
والتفت إلى كافور وقال: «إن مولاي أحسن حالا من أمس - بحمد الله.»
والتفت إلى أحد الغلمان الوقوف في خدمة كافور وقال: «أين قارورة الماء؟» يعني زجاجة البول.
فأتوه بزجاجة فيها السائل فتأمله وتفحصه، ثم عاد نحو السرير وهو يبتسم ويظهر الانبساط وقال: «كيف ترى نفسك يا سيدي؟»
فقال: «إني أشعر بضعف ودوار.»
قال: «هذا أمر بسيط ... إلي يا غلام»، وأشار إلى لمياء.
فتقدمت وفتحت الجراب فاستخرج الطبيب منه قارورة صغيرة فتحها وأدناها من أنف كافور. فاستنشقها فأحس براحة وانتعاش، وبان ذلك في عينيه وجبينه، فتحرك في فراشه كأنه يريد الجلوس فأعانه الطبيب على ذلك وساعدهما يعقوب، وأسنداه بوسادة من الوراء. فجلس وتناول مذبة كانت بجانبه ليتلاهى بها ويطرد الذباب عنه - وهو كثير في تلك الساعة - ولم يشأ أن يتولى ذلك عنه أحد. فتقدم يعقوب وهو يبدي الاهتمام وقال: «إن الذباب كثير في هذه الساعة وسيدي الأمير منحرف المزاج ألا تأذن لي أن آخذ المذبة (النشاشة) عنك أو تأمر أن يقوم هذا الغلام باستخدامها؟» وأشار إلى لمياء. والتفت نحو الطبيب كأنه يستشيره بهذا الاقتراح.
فتقدم الطبيب وقال: «إن الأمير في حاجة إلى الراحة.» ومد يده وتناول المذبة من يده ودفعها إلى لمياء وأشار إليها أن تقف وراء السرير تطرد الذباب عن وجه كافور بدون أن تزعجه. فأطاعت وقد وافقها ذلك؛ إذ تكون قريبة منهم. وأدار كافور عينيه في جوانب السرادق كأنهما سراجان موقدان. ثم نظر إلى شالوم وقال: «بارك الله فيك أيها الطبيب إني أشعر بانبساط الآن.»
فقال الطبيب «وستشعر بأحسن من ذلك بعد قليل ...» ومد يده إلى الجراب فاستخرج منه قارورة فيها سائل صب منه قليلا في قدح ودفع القدح إلى كافور فشربه فازداد انتعاشا والتفت إلى يعقوب وقال: «إننا لا ننسى فضل طبيبنا هذا - بارك الله فيه - إنه صديق محب.»
فقال يعقوب: «كلنا عبيد مولانا نفديه بأرواحنا، فالحمد لله على سلامته، ولا أرانا الله مكروها به.»
قال: «لله أنت يا يعقوب! إنك موضع ثقتنا، وسوف نكافئك على مودتك وصدق خدمتك ...»
فقال: «إنما نطلب أن يتعافى الأمير وهذا خير مكافأة.»
فقال الطبيب «إن حال مولانا - بحمد الله - حسنة جدا، ولا يلبث أن يخرج على جواده في البساتين أو يركب حراقته يصعد فيها على النيل.»
فهز كافور رأسه وقال: «إن شاء الله ... إن شاء الله.» وفى غنة صوته أنه غير مصدق.
ثم بدا الاهتمام في وجهه وأشار إلى الوقوف بالخروج ولم يبق إلا الطبيب ويعقوب ولمياء واقفة عند رأسه.
الفصل الثامن والخمسون
أبو حامد وسالم
فلما خلا بهم المكان التفت كافور إلى يعقوب، وقال: «إن الطبيب - حفظه الله - طمأنني وخفف عني وقد صدقته لكنني ضعيف وأخاف ...» واختنق صوته.
فابتدره الطبيب قائلا: «لا ينبغي لمولانا أن يشك في قولي ولا أن يفكر في أمر يسوءه، ولا أعول في ما أقوله على فعل العقاقير ولكني استبشرت أيضا من دلالة النجوم؛ فقد تفقدت الطالع في مساء أمس فوافق ما أتوقعه. أنت يا مولاي في صحة، والتوفيق خادم لك.»
قال: «ذلك الذي أريده، ولكن كيف أطمئن لحالي وأنا أرى ما أراه من الضعف؟»
ثم وجه كلامه إلى يعقوب، وقال: «بل كيف يرتاح خاطري وأنا أرى أحوال هذه الدولة ... أنت تعلم يا يعقوب ما في قلبي، وأحب أن أشرك طبيبنا في الأمر لوثوقي به، وقد سلمت إليه روحي أفلا أبوح له بسري؟ أنا لا أثق بأحد من هؤلاء الذين ترونهم حولي؛ إنهم لا يلبثون إذا لفظت نفسي الأخير أن ينقلبوا علي، لا يهمني ذلك، ولكني أخاف على هذه الدولة، إذا مت أنا فإن الإمارة تفضي إلى غلام في الحادية عشرة من عمره وهو صاحب الحق فيها. أو يتنازعها أعمامه والقواد فتفسد الأمور و...»
وتنحنح وكأنه ندم على ما قاله، فعاد وقال: «ولكن لا ... إني سأعيش ريثما أدبر شئونها ... أليس كذلك أيها الطبيب؟»
فأسرع إلى الجواب بلهفة قال: «بلى يا سيدي هذا هو اعتقادي.»
فتزحزح كافور في فراشه فنهض الطبيب وقال: «يحب مولاي أن ينام؟»
قال: «لا ... لا أرى في ميلا إلى الرقاد لكني أحببت أن أغير وضعي ... هل رأيت وزيرنا أبا الفضل (ابن الفرات) اليوم يا يعقوب؟»
قال: «كلا يا سيدي لم أره ... هل تأمر بشيء أبلغه إياه؟ أم تحب أن ندعوه إليك إلى هنا؟ أم ماذا؟»
قال: «لا ... لكنني استبطأته، ولعله لم يشأ أن يأتيني؛ لئلا يشغل ذهني بأمور الدولة ففضل لي الراحة ... لا بأس من ذلك.»
وهم يعقوب أن يجيبه فرأى الحاجب دخل ووقف في المكان الذي يقف فيه إذا كان آتيا بخبر، فقال له كافور «ما وراءك؟»
قال: «إن أبا حامد بالباب يا سيدي.»
فلما سمعت لمياء اسمه أجفلت وتسارعت دقات قلبها حتى كاد ذلك يظهر عليها، ولحظ يعقوب اضطرابها فأومأ إليها تتجلد. ولم يكن أسرع منها إلى التجلد؛ لما فطرت عليه من قوة النفس ورباطه الجأش. فانزوت وراء عمود القبة والمذبة بيدها بحيث لا يظهر وجهها ولا ينتبه لها أحد. وكان كافور يستأنس بالطبيب لما في كلامه من الذكاء وما يبسطه بين يديه من الآمال فقال له: «هل ندخل هذا الرجل علينا الآن ... هل ترى بأسا من ذلك؟ إنه طلي الحديث حاد الذهن ولا يختار من الأحاديث إلا ما يسرنا، وكلما زدناه اهتماما بسماع حديثه زادنا مغالاة في غرائبه، لا بأس به ... إنه لطيف المعشر.»
فقال الطبيب «إنك يا مولاي في حاجة إلى من يؤانسك بالأحاديث اللذيذة المفرحة فإذا كنت تجد في حديثه شيئا من ذلك فادعه ...»
ونظر كافور إلى يعقوب كأنه يستشيره فقال: «إذا شاء مولاي أن يدخله فليشترط عليه أن يقص علينا نحو ما قصه مرة من الأخبار المفرحة.»
قال: «لكنه قصها علينا سرا ...»
فتصدى الطبيب للكلام قائلا: «أما أنا فإذا كان وجودي مانعا من سماع الأخبار المفرحة فإني منصرف»، وتحفز للانصراف.
فأشار إليه كافور بكلتا يديه أن يبقى، وقال: «إذا استغنيت عن رجال الدولة جميعا لا أستغني عنك. ولا أرى بعد ما رأيته من صدق مودتك وعظيم فضلك أن أخفي عنك سرا كهذا. فليدخل الرجل ويقص ما يقصه وأنت حاضر ولنفرح معا إذا كان فيه ما يفرح»، وأشار إلى الغلام أن يدخله.
فقال الغلام «أدخله وحده، أو مع رفيقه؟»
قال: «ليدخل الاثنان.»
فأدركت لمياء أن رفيقه إنما هو سالم بعينه فأخذت تتجلد. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب وأخذ الفراشون بإنارة الشموع فأصبحت لمياء في موقفها تخفيها ظلال الستائر بحيث لا ينتبه لها أحد وهي ترى كل حركة وتسمع كل صوت، ولم تبق حاجة إلى المذبة بعد الغروب وقد خفت وطأة الذباب. ونسي كافور وجودها عند رأسه فوقفت لا تتحرك.
وبعد قليل دخل أبو حامد وقد تزيا بغير زيه المعهود ودخل سالم في أثره وقد تغير شكله وهندامه حتى كادت تنكره، لكنها ما لبثت أن سمعته يلقي التحية حتى تحققت أنه هو بعينه. فخفق قلبها وارتعدت فرائصها وهي تتجلد وتتمالك لترى ما يكون. على أنها لم يكد يقع بصرها عليه حتى تذكرت تاريخ معرفتها به وكيف كانت تستهلك في حبه، وودت في تلك الساعة أن يخرج بريئا من تلك التهم واستعاذت بالله أن يكون كما قيل لها عنه، وندمت على مجيئها إلى ذلك المكان لتسمع أقواله بأذنها. وخافت إذا سمعت شيئا يثير غضبها أن لا تقوى على إمساك عواطفها فيفتضح أمرها، لكنها استجمعت قواها وتجلدت.
الفصل التاسع والخمسون
الحديث
فلما دخل الرجلان ألقيا التحية، فأشار إليهما كافور بالجلوس إلى كرسيين بين يديه، فجلسا متأدبين، وتصدر أبو حامد للكلام، فقال: «كنا في قلق عظيم على صحة مولانا الأمير - أعزه الله - ونرجو أن يكون قد تعافى.»
فناب الطبيب شالوم بالجواب عن كافور تخفيفا للتعب عنه وقال: «إن سيدي الأمير في خير وهو أحسن اليوم من ذي قبل ولا يلبث أن ينهض من الفراش.»
فقال كلاهما معا: «الحمد لله، الحمد لله على ذلك. إن اعتلال الأمير تعتل به الأمة كلها، ولا سيما الآن وقد دنا الوقت الذي يظهر به نجمه ويتسع سلطانه.»
فقال الطبيب: «إن مولانا الأمير في حاجة إلى التسلية بما يفرحه وهو العلاج الذي يفيده، حقيقة فهل عندك شيء من هذا القبيل؟»
وتقدم يعقوب فقال: «لا أنسى حديثا سمعته منكما في حضرة الأمير، رأيت مولاي انبسطت نفسه منه.»
فقال أبو حامد «أظنك تعنى حديث ...» والتفت نحو الطبيب ولسان حاله يقول: «إن هذا الحديث لا يتلى جهارا.»
وكان كافور يسمع ويرى، فلما رأى إشارة أبي حامد قال: «لا تحتشم من وجود طبيبنا إنه موضع ثقتنا.»
فوقف الطبيب وأظهر أنه مستعد للخروج. فأشار إليه كافور أن يجلس فجلس والتفت إلى يعقوب كأنه يستشيره هل يقول. فقال: «تفضل يا سيدي قل.»
فاعتدل أبو حامد في مجلسه وقال: «إن حديثنا في المرة الماضية لا يحلو تكراره إن لم يكن مشفوعا ببشائر النجاح. وقد جئنا الليلة نحمل بشارة يفرح لها كل مسلم يريد أن يستقر الحق في نصابه.»
فقال يعقوب: «وما ذلك؟»
قال: «قصصت عليكم بالمرة الماضية ما دبرناه في سبيل نصرة الحق بإنقاذ الدولة الإسلامية من أدعياء الخلافة في المغرب؛ أعني القوم الذين انتحلوا لأنفسهم نسبا كاذبا في القيروان وزعموا أنهم من نسل فاطمة الزهراء وهم أدعياء في هذا النسب. إن زعيمهم الذي سمى نفسه المعز لدين الله قد أصبح الآن في عالم الأموات، ولا بد من اضطراب دولته وقيام أمراء كتامة وصنهاجة عليه وإنما نحتاج إلى جند يبعث به الأمير - أعزه الله - إلى أولئك الأمراء هناك حتى يلتفوا حوله ويسلموا الأمر إليه، فيدعى له على منبر القيروان كما يدعى له الآن على منابر مصر والشام والحجاز وحلب وأنطاكية وطرسوس. فيستقيم له الأمر وحده ولا يبقى لمنافسيه هنا مطمع في شيء؛ لأن الباقين من آل الإخشيد غلمان ونساء لا يستطيعون عملا.»
وكان كافور جالسا ينظر إلى أبي حامد وقد بدا الانبساط في وجهه فلما سمع قوله زاد انبساطا لكنه تنهد وقال: «إني لا ألبث أن أعمل بذلك حالما أنهض من الفراش - بإذن الله»، والتفت إلى الطبيب كأنه يستشيره في ذلك.
فقال الطبيب: «قريبا إن شاء الله»، والتفت الطبيب إلى أبي حامد وقال: «يظهر أنك واثق بنجاح هذه المهمة ...»
فقال: «إني لا أقول غير الحق وأنا منذ أعوام أعد المعدات وأهيئ الأحزاب وأجمع الأموال. إني على ثقة من انضمام قبائل البربر كلها في نصرة الأمير أبي المسك - أعزه الله - وإنما كان ينقصنا أن نتخلص من رجلين هناك خدمهما الحظ حينا فغلب عليهما الغرور وقد ماتا الآن.»
قال يعقوب: «من تعني؟»
قال: «أعني المعز وجوهرا قائده. إنهما ماتا الآن ولا يمضي إلا بضعة أيام حتى تأتينا كتب الأمراء بذلك.»
فأحب يعقوب أن يسمع لمياء كلام سالم عن نفسه فوجه الخطاب قائلا: «إن الفضل في هذا النجاح ليس للأمير أبي حامد فقط وإنما هو لك أيضا ... وإن حيلتك التي قصصتها في المرة الماضية غريبة في بابها.» وضحك تحريضا له على التصريح.
فقال سالم: «إن الفضل الأكبر لهذا الأمير، وهو صاحب الرأي الأعلى وعنده الرجال والأموال. وأما أنا فعملي مقصور على إغراء فتاة جاهلة توهمت أني أحبها فاتخذناها وسيلة لخدمة مصلحة صاحب مصر - أيده الله.»
ولا تسل عن لمياء وما أصابها عند سماع هذا الكلام. ورغم تجلدها وتمالكها أحست أنها مدفوعة لتكذيب ما سمعته وحدثتها نفسها أن تتقدم في تلك اللحظة وتكشف الحقيقة. وكان يعقوب يلاحظ حركاتها ويشير إليها خلسة أن تتجلد.
وهم في ذلك رأوا كافورا يتحرك في سريره حركة غير اعتيادية وقد تغيرت سحنته فانتبه له الطبيب ونهض إليه فرآه قد أصيب بنوبة سعال شديدة.
فأومأ إلى القوم بالانصراف حالا، فنهض أبو حامد وسالم وخرجا واشتغل الطبيب بمعالجة كافور فنادى غلامه (لمياء) أن يأتي بالجراب فأسرعت وفتحت الجراب ويداها ترتعدان من التأثر وقد احمرت عيناها من الكظم فتناول الطبيب قارورة الاستنشاق وقربها من أنف كافور وأعانه يعقوب بإسناده وهو لا يزداد إلا سعالا حتى كاد يغمى عليه.
وشغلت لمياء بذلك المنظر عما جال في خاطرها، وقضوا ساعة وهم يسعفون الأمير بالعلاج حتى سكن السعال ومال إلى الرقاد، ثم جس الطبيب نبضه وقال: «إنه مرتاح الآن فينبغي أن نتركه نائما.»
فقال يعقوب: «فنذهب نحن إذن.»
قال: «نعم. أما أنا فلا ينبغي أن أتركه ؛ إذ أخشى أن تعاوده النوبة.»
فقال يعقوب: «أنا ذاهب مع غلامك هذا وسأترك عندك أحد غلمان الأمير يقدم لك الجراب إذا مست الحاجة.»
ففهم الطبيب مراده فوافقه فدفعت لمياء الجراب إليه وخرجت مع يعقوب وركبتاها ترتعدان من هول ما سمعته ورأته، وعيناها شائعتان خارج المعسكر تبحث عن أبي حامد وسالم فلم تر لهما أثرا.
ولحظ يعقوب فيها قلقا، وأدرك ما يجول في خاطرها فأشار إليها أن تتبعه. فوقفت وهي تكاد تسقط من شدة الاضطراب والغضب، وقالت: «لا أستطيع المشي يا سيدي ... بالله ماذا رأيت ... ويل لك يا خائن ...»
فالتفت يعقوب إليها فوجد وجهها قد امتقع وتغيرت سحنتها ومشت وهي تتساند وتخاف السقوط. فأشار إلى السائس أن يقدم الدابة فأسرع إلى تقديمها وأعانها حتى ركبت وركب هو على دابة أخرى في أثرها ولحظ في أثناء الطريق أن لمياء منزعجة فأحس أنه مسئول عن سبب انزعاجها؛ لأنه هو الذي جمعها بذلك الخائن وإذا أصابها سوء فمن شدة تأثرها مما سمعته ورأته.
وبعد قليل وصلا إلى منزل المعلم يعقوب، فترجل والتفت إلى لمياء، فإذا هي لا تزال على بغلتها لا تتحرك ولم يعهد بها ذلك التواني، فتقدم نحوها ومد يده ليعينها على النزول. ولما لمست يده أحس بسخونتها وجفافها فاقشعر بدنه فناداها أن تنزل فنزلت وهي لا تستطيع حراكا فنادى بعض الخدم فأعانوه على حملها إلى دار النساء وهي غائبة عن رشدها كالمائتة، فتأسف يعقوب لما أصابها ونادى قهرمانة منزله وأشار إليها أن تسعف الفتاة بالتدابير المستعجلة ريثما يأتي الطبيب. وبعث رجلا يدعو الطبيب شالوم؛ إذ لا يريد أن يطلع أحد على وجودها عنده.
ظلت لمياء غائبة رغم ما استخدموه في إيقاظها من المنعشات والمنبهات وأبطأ الطبيب عن الحضور؛ لاشتغاله بالأمير كافور فاشتد القلق بيعقوب وأصبح لا يدري ماذا يعمل فخطر له أن يطلع الشريف مسلم على حالها؛ لأنه ذو شأن في الأمر فبعث إليه - وقد أظلم الظلام - فجاء ولمياء لا تزال في تلك الحال فسأله عن أمرها فقص عليه حقيقة خبرها. فجس نبضها فإذا هو يسرع كثيرا فعلم أنها مصابة بحمى شديدة ورأى الأولى أن ينقلها إلى منزله ليخدمها أهله ريثما يأتي الطبيب ويرى ما يكون. وكان قد استلطف الفتاة قبل أن يطلع على حقيقة أمرها مع الحسين بن جوهر وغيرتها على المعز وخبرها مع سالم، فلما اطلع على الحقيقة أحس بانعطاف شديد نحوها.
وأمر بمحفة حملوها عليها إلى منزله وأخذ على عاتقه أن يعالجها طبيب منزله.
الفصل الستون
الحلم
قضت لمياء في تلك الغيبوبة أياما لا تأكل ولا تشرب غير ما يسقونها إياه رغم إرادتها، ثم أفاقت وقد شحب لونها وبان الضعف في عينيها وحالما أفاقت التفتت إلى ما حولها وقد استغربت كل شيء لكن الناظر في عينيها يرى أنها لا تزال ضائعة رغم حركتها والتفاتها. وكان في الغرفة ساعتئذ الشريف مسلم نفسه وامرأة من أهله فتقدمت المرأة نحوها وقالت: «ماذا تريدين يا حبيبتي؟»
فلم تجبها لكنها عادت إلى استغراقها. وكانوا قد أعدوا لها لبنا تشربه فلم تستطع ذلك لأنها عادت إلى الرقاد فأمر الحكيم أن تسقى اللبن كرها. وكانت الحمى قد انخفضت والغيبوبة هذه المرة لم يطل مكثها. ففي صباح اليوم التالي سمعوها تئن أنينا شديدا كأنها تشكو ضيقا. فأسرع مسلم إليها فسمعها تقول بأعلى صوتها: «حسين! حسين! تبا لهم قبضوا عليك ... دعوه قبحكم الله. أما كفاكم ما فعلتموه بأبي؟ آه آه ...» وسكتت ثم فتحت عينيها فجأة والتفتت إلى مسلم وهو واقف إلى جانبها وتفرست فيه وقد عاد إليها رشدها فعرفته فقالت: «العفو يا سيدي؟ أنت هنا. أين أنا؟ ماذا جرى لي. أين الحسين؟ قد قبضوا عليه؟ ويل لهم ...» وشرقت بدموعها.
ثم تراجعت وكأنها انتبهت أنها في يقظة وليس هناك حسين فخجلت فتقدم الشريف نحوها بلطف وقال لها: «ما بالك يا بنية. إنك تهذين أو تحلمين لا تخافي إنك في منزلي وأنت أعز من ولدي ...»
فأخذت تفرك عينيها بكلتا يديها وهي تنظر إلى ما حولها وقالت: «لست خائفة يا سيدي ... لست خائفة ... ولكن الحسين بن جوهر. رأيتهم أخرجوه مغلولا في فج الأخيار ... وأولئك اللصوص حوله كالزبانية ... رأيتهم رأي العين ...»
فقال: «أنت يا لمياء في الفسطاط. وبيننا وبين فج الأخيار عدة أيام ... خففي عنك. وعودي إلى رشدك ... لا بأس عليك. وبعد هنيهة يأتي الطبيب ويشير بما يجب أن تفعلي.»
قالت: «الطبيب! وأي طبيب؟ إني لا أشكو مرضا ولكنني أشكو ظلما وخيانة ...» قالت ذلك وغصت بريقها وأغرقت في البكاء حتى ملأ نحيبها الدار. فبعث الشريف يتعجل الطبيب فأتى والفتاة مستغرقة في البكاء فجس نبضها ثم أشار عليهم أن لا يخاطبوها ولا يقصوا عليها خبرا بل يكتفوا بالغذاء الخفيف. ووصف لهم ما ينبغي عمله ولكنه ألح عليهم أن يتركوها هادئة ساكنة - بقدر الإمكان.
ظلت لمياء في الفراش عدة أسابيع لا يخاطبها أحد إلا بالضروري وهي تصحو تارة وتغيب أخرى، والطبيب يتردد عليها ويصف الأدوية والأغذية حسب الحاجة. ويعقوب يأتي كل يوم للسؤال عنها ويأسف أشد الأسف لما أصابها على يده، رغم اشتغاله في تلك الأثناء بأمور ذات شأن أهمها موت كافور وانتقال الإمارة إلى أحمد بن علي بن الإخشيد، وهو غلام لم يتجاوز الحادية عشرة، وتحول النفوذ إلى جعفر بن الفرات وزير كافور المتقدم ذكره. ولم يكن ابن الفرات يستطيع عملا في حياة كافور، فلما صارت الإمارة إلى ذلك الغلام استبد هو في الأمر وأخذ في مطاردة رجال الدولة ومصادرة الأغنياء. وكان يعقوب من جملة المهددين وخاف أن يصل الدور إليه فاستتر، وكان يقضي أكثر أوقاته عند الشريف مسلم بن عبيد الله المشار إليه بحجة السؤال عن لمياء ويتحادثان في شئون الدولة ويرون قرب سقوطها لكنهما لا يتحدثان في شيء من ذلك أمام لمياء عملا بإشارة الطبيب.
وبعد مدة تقدمت لمياء نحو الصحة وأصبحت في شوق إلى استطلاع الأحوال، والحكيم يأمرها أن تلازم الصمت، وبعد مدة أخرى أذن لهم أن يخاطبوها في الشئون التي تريدها. وكانت لا تزال تتردد إلى الفراش وتنزل إلى الحديقة أو تمشي في المنزل. ورأت وجهها بالمرآة فانزعجت مما صارت إليه من الضعف، فبكت، وعاد إليها رشدها فتذكرت ما انتابها في تلك المدينة وكيف خلفت أهل القيروان على مثل الجمر في انتظار أخبارها من مصر. وتذكرت أنها رأت الحسين خطيبها مغلولا أو رأتهم يوثقونه ويضربونه كأنها رأت ذلك في يقظة.
كانت هذه الخواطر تمر بذهنها في أواخر أيام النقه ولا تجسر على مفاتحة أحد بها. فلما أذن لها الطبيب بذلك طلبت يعقوب وسألته عما جرى في أثناء مرضها، فقص عليها ما كان من موت كافور وتنصيب أحمد بن علي.
فقالت: «ألم تبعثوا بذلك إلى القيروان؟»
فابتسم ونظر إلى مسلم فابتسم أيضا وفي وجهيهما علامات البشر فقالت: «ما الخبر؟»
قال يعقوب: «الخبر خير يا لمياء ... إن أهل القيروان علموا بكل ما جرى هنا، وقد جاءوا إلينا بخيلهم ورجلهم.»
فصاحت: «أتوا إلى هنا؟ القائد جوهر أتى؟ المعز أتى؟ أين هم؟»
فقال: «المعز لم يأت ولكن القائد جوهرا جاء بجند كثيف ونزل الإسكندرية ووقع الرعب في قلوب المصريين ... ولا ندري ما يكون.»
فأطرقت لمياء - وقد بان البشر في محياها - وأحست بنشاطها الأول كأنها كانت في رقاد وأفاقت. وتذكرت مهمتها التي جاءت من أجلها وأنها لم تستطع عملا تخدم به المعز؛ لأن المرض أعاقها. وتذكرت - للحال - ما رأته من سالم فاقشعر بدنها فقالت: «وماذا جرى بذلك الخائن وعمه؟» قال: «لا أدري؛ لأني لم أعد أراهما من تلك الجلسة وأظنهما يشتغلان في دس الدسائس في قصر السيدة زينب بنت الإخشيد بعد موت كافور وضياع أملهما ...»
فلما سمعت اسم بنت الإخشيد تذكرت أشياء أخرى هاجت أشجانها فأطرقت ومسلم ويعقوب يلاحظانها ولا يتكلمان. ثم انتبهت فجأة، وقالت: «ماذا جرى بأمتعتي وجوادي؟»
قال يعقوب: «أي أمتعة تعنين؟»
قالت: «أعني ما حملته معي من الثياب والأمتعة من القيروان وتركته في الفندق مع الجواد والخادم والدليل.»
قال يعقوب: «أي فندق إن الفنادق كثيرة هنا ...»
فقالت: «في الفندق الذي هداني صاحبه إلى منزلك.»
قال: «لم أنتبه له.»
قالت: «أنا لم أعرفه وقد آن لي أن أخرج من البيت ولا خوف علي ... أخرج بالثوب الذي يعرفني صاحب الفندق به فألاقيه وأدفع له أجرته وآتي بالأمتعة ... والحق يقال إني أحس بقصوري في خدمة أمير المؤمنين وقد شغلت عن خدمته بخدمة نفسي ثم شغلني المرض.»
قالت ذلك ووقفت وقد عاد إليها نشاطها والتفتت إلى مسلم وعيناها تنطقان بالشكر على ما أبداه من الغيرة. فأجابها على الفور «إنك ستعودين إلينا وتنزلين في دارنا ... أو الأفضل أن تمكثي هنا فنرسل من يأتي إليك بالأمتعة والجواد.»
قالت: «بل أفضل الذهاب بنفسي وسأعود الليلة أو في صباح الغد - إن شاء الله.»
فقال مسلم «بل تأتين الليلة.»
الفصل الحادي والستون
في اليقظة
فأشارت مطيعة واختلت في غرفة لبست فيها ثوب الصقالبة الذي دخلت به الفسطاط واستأذنت بالانصراف وخرجت وهي تذكر الطريق التي جاءت بها وتتوهم أنها مرت في تلك الطريق منذ بضعة أيام وقد مر على ذلك عدة أشهر. وصلت الفندق فرآها صاحبه بالترحاب وأبدى غاية الاستغراب لما رآها فيه من النحول وسألها عن سبب غيابها وأن خاطره شغل عليها كثيرا حتى خاف أن تكون قد ماتت - قال ذلك بين الجد والهزل - فاستلطفت مجونه وقالت: «الحمد لله أني لا أزال حيا (لأنه يعرفها غلاما صقلبيا) ولو مت ما الذي كنت تصنعه بالجواد؟»
قال: «أي جواد يا سيدي.»
قالت: «الجواد الذي جئت عليه.»
قال: «إن الجواد أخذه رفيقاك ومضيا» يعني الدليل والخادم.
قالت: «وكيف أذنت بذهابهما؟»
قال: «لما استبطآ قدومك استأذنا في الانصراف»، وضحك لهذا التعبير.
فقالت: «وماذا فعلتم بثيابي وأمتعتي؟»
قال: «هي باقية في الغرفة التي كنت نازلا فيها ضمن صندوق مقفل ولكن جاء بعض المسافرين واستأجروا الغرفة مني فأبقيت الصندوق في بعض جوانبها - على ما أظن.»
قالت: «أعطني الأمتعة، أين هي؟»
قال: «هي هنا، تفضل يا سيدي.» ومشى نحو الغرفة التي باتت فيها ليلة وصولها الفسطاط وهو يتثاقل في مشيته وهي تتبعه. فلما دنا من الغرفة هز بابها فإذا هو مقفل فقال: «لا أدري لماذا يقفلون الغرف كأنهم يخافون أن أسرق ثيابهم ...»
قالت: «ألا يمكن الحصول على الأمتعة الآن؟»
قال: «كلا ... أخاف أن أفتح الباب في غيابهم فيتهموني بالسرقة. ليس كل الزبائن لطفاء الأخلاق والوجوه مثلك يا سيدي. لكن لا يلبثون أن يأتوا ... تفضل واجلس في غرفتي ... يظهر أنك تشكو تعبا على أثر المرض.»
فمشت في أثره إلى غرفة بجانب تلك وفتح الباب وأشار إليها بالدخول، وقال: «إن هذه الغرفة لي وحدي وقد تركتها لك، تفضل استرح.»
وكانت تعبت من المشي؛ لأنها أول مرة خرجت بها من المنزل فدخلت واستلقت على مقعد هناك وأغلقت الباب خوفا من انكشاف أمرها واستلذت تلك الخلوة، فأخذت تفكر بما أصابها بالفسطاط. وطرق ذهنها خصوصا الحلم الذي رأته وهي مريضة إذ رأت الحسين مغلولا في أشد الضيق وقد حاولت أن تقنع نفسها أنه حلم لكنها لا تتصوره إلا واقعا.
وتذكرت تلك الجلسة في بيت كافور وما تحققته من خيانة سالم، فاقشعر بدنها ولم تكد تتصوره حتى سمعت صوتا مثل صوته يرن في أذنها فذعرت وأصغت فإذا هي حقيقة تسمع صوته، فجلست على المقعد، وأصاخت بسمعها وهي تحسب ذلك حلما آخر. فإذا هي تسمع وقع أقدام بباب الغرفة فنهضت وتهيأت للوثوب واستعدت للمقاومة فإذا بالخطى تتجه نحو الغرفة الأخرى التي كانت لها وسمعت صوتا مثل صوت أبي حامد فتسارعت دقات قلبها وأسرعت إلى باب غرفتها فأوصدته وجعلت أنها نائمة ووجهت انتباهها؛ لتتحقق هل هي في يقظة. فسمعت أبا حامد يقول: «أوصد الباب يا بني وتعال.»
وسمعته يوصده، ثم سمعت قائلا يقول: «أوصدته ... هات ما عندك؟» وهو صوت سالم. فتأكدت أنهما نازلان في تلك الغرفة ففرحت بتلك الفرصة لكن تأثرها كاد يذهب بنفسها لتسارع دقات قلبها. فتجلدت وتذكرت ما كان من بسالتها ورباطة جأشها ومواقفها في ساحة القتال فتماسكت وأصغت. فسمعت أبا حامد يقول: «ذهب ذلك الأسود ولم ننل منه وطرا ... ولكن ذلك من سوء حظه.»
فقال سالم «وسوء حظنا أيضا يا عماه.»
قال: «ما أضعف عزمك يا سالم ... أتحسب قدوم ذلك المملوك الصقلي (جوهر) يغير عزمي؟ إنه لا يلبث أن يعود على أعقابه ...»
قال: «كيف يعود؟ وقد أتى بجيش جرار ولحظت القوم هنا خائفين.»
فقهقه أبو حامد فتصورت لمياء ما يرافق قهقهته من التكشير عن سنيه البارزتين ، ثم سمعته يقول «لا يلبث خوفهم أن يذهب متى وصل ذلك الغلام مغلولا.»
قال: «وأي غلام؟»
قال: «أي غلام! صحيح أنك لم تعلم بعد بالقبض على الحسين.»
فلما سمعت لمياء ذكر الحسين اختلج قلبها وتسارعت دقاته حتى شوشت عليها سماع الحديث فإذا سالم يقول: «قبضوا على الحسين؟ لا لم أعلم بذلك بعد. أين قبضوا عليه؟»
قال: «في فج الأخيار ... لأن لمياء اللعينة أفشت السر وأخبرت المعز بوجود المال هناك فتبرع هو بالذهاب ليحمل ذلك المال إليهم. وجاءني الرسول أمس أن رجالنا هناك قبضوا عليه وأوثقوه وسألوني عما يفعلونه به فأجبتهم أن يحملوه إلى هنا. فإذا جاء حبسناه وجعلناه رهنا ... ما قولك؟»
فقال: «لم أكن أعلم ذلك ... بارك الله فيك. كيف لم تخبرني به حتى الآن ...»
قال: «لأني لا أثق بأحد ولو لم أر خوفك لم أخبرك به. لكنني لم أعلم أين ذهبت تلك الفتاة المفتونة. فقد أخبرني الجواسيس أنها خرجت من القيروان ولكني لم أعلم إلى أين؛ لأنها أخفت جهة مسيرها.»
قال: «ما ظنك بها؟»
قال: «أظنها أتت إلى هنا؛ لأن يعقوب اليهودي هو الذي أنبأ المعز بعزمنا على قتله فنجا بذلك. ويغلب على ظني أن لمياء أتت إلى الفسطاط لكنني لم أستطع البحث عنها في حياة كافور؛ لأنه كان يقرب ذلك اليهودي ويصغي إليه ... أما الآن وقد مات كافور فإني أوغرت صدر ابن الفرات عليه فأصبح يطارده ولا يلبث أن يصادره. وهو يسعى الآن في إقناع القواد أن يسلموا لجوهر. ولكنه لن يفلح؛ لأنهم مختلفون لا رابطة لهم وكل منهم يطمع بالمال لنفسه وهم طوائف أهمها الإخشيدية والكافورية والأتراك، وليس عليهم أمير حازم يجمع كلمتهم. وفى عزمي أن أجمع شتاتهم بواسطة السيدة زينب بنت الإخشيد؛ لأنها كانت نافذة الكلمة عندهم، لكنها امرأة ولا تعلم كيف تعمل فضلا عن اشتغالها بأمر نفسها ... لا تخف يا بني ... كن على ثقة من تدبيري.»
وكانت لمياء تسمع كلامه وفرائصها ترتعد فإذا بسالم يقول: «قد أدهشتني يا عماه بهذا التدبير ... بارك الله فيك.»
فقال : «كيف لا وقد قضيت عمري في دس الدسائس عملا بوصية ذلك المقتول ظلما ... إني منتقم له كن في راحة ... ولكن تلك الملعونة أين ذهبت لا أدري.»
قال سالم: «ما لنا ولها فلتكن حيثما شاءت.»
ثم استولى السكوت كأن الرجلين ناما وأخذت تفكر بما سمعته فرأت أنها استطلعت أشياء كثيرة لم تكن تعرفها وخصوصا أمر الحسين والقبض عليه وأن المصريين يسعون في مصالحة جوهر والتسليم له وأن الأمر موقوف على بنت الإخشيد. وقد صدقت أنهم قبضوا على الحسين؛ لأنها رأت ذلك رأي العين في أثناء الغيبوبة فلم تعد تستطيع البقاء هناك واحتالت في الخروج فلقيها صاحب الفندق فسألته عن الثياب فقال: «هل أتى الأضياف؟»
قالت: «أظنهم أتوا؛ لأني سمعت حركة.» فقال: «قبحهم الله يدخلون كاللصوص!» وأسرع وعاد إليها بالثياب. فتناولتها ودفعت إليه أجرته وانطلقت تطلب بيت الشريف مسلم بن عبيد الله. وكان الليل قد سدل نقابه، فأسرعت حتى وصلت فرأت الخيول متزاحمة في الباحة والناس وقوف بالباب فاستأذنت في الدخول فأذن لها وسألت عن الشريف فقيل لها إنه في خلوة مع جعفر بن الفرات. فجلست وهي في غاية الاضطراب وأصبحت في شوق لمعرفة ما يدور بين الرجلين.
الفصل الثاني والستون
الصلح
وهي جالسة رأت جماعة عليهم ألبسة المصريين الوطنيين من التجار والمزارعين، وقد تجمعوا أزواجا وأثلاثا وهم يتذمرون ويتأوهون وسمعت أحدهم يقول: «ما لنا وللحروب لقد خربت البلاد واختنق الناس من القحط والغلاء حتى فرغت أيدينا من النقود وهؤلاء الجند لا يزيدوننا إلا ضرائب. وهم منعمون لا يهمهم إلا أخذ الأموال ... إنهم معذورون طبعا إذا خافوا على سيادتهم وأحبوا محاربة أولئك المغاربة.»
فأجابه آخر: «ما لنا ولهم ... الأفضل لنا أن نصالح. وهذا الوزير قد وافقنا على طلب الصلح. إن هذه الدولة الجديدة رشيدة وقد سمعت الثناء على خليفتها وزهده في الأموال ورغبته في راحة رعيته ...»
فتقدم ثالث وقال: «وقد بلغني أن هذا الجند قادم إلينا وقد حمل الذهب على الجمال كالأرحية ... أين ذلك من استبداد جندنا وحكومتنا بأموالنا؟»
ثم سمعت رجلا يضحك - وفي وجهه هيئة المجون - وقال: «كيف تدعون الفقر يا قوم أليست الأموال مخزونة في بيت الإخشيدية والكافورية؟ هذه بنت الإخشيد قد فرشت منزلها بما لم تبلغ إليه زبيدة زوج الرشيد وعندها الجواري بالمئات ... وتقولون مع ذلك إننا فقراء؟»
فضحك الجميع من مجونه، ثم شغلوا بحركة وضوضاء ظهرت هناك فالتفتت لمياء فرأت ابن الفرات خارجا وقد خرج الشريف مسلم لوداعه وابن الفرات يبالغ في احترامه والثناء عليه. ولما ودعه قال ابن الفرات: «أتعدني يا سيدي بالذهاب غدا إلى الإسكندرية؟»
قال: «كن مطمئنا أني باذل جهدي في إقناع القائد أن يقبل بالصلح وأنا ضامن ذلك - بإذن الله.»
ففهمت أن ابن الفرات يسعى في المصالحة، وتذكرت ما سمعته من أبي حامد في هذا الشأن. وأرادت أن تخاطب الشريف فرأته تحول إلى غرفته كأنه في شاغل عن المقابلات، فأجلت مقابلته إلى فرصة أخرى، وذهبت إلى دار الحريم وقد تعبت واستلقت على الفراش ومالت إلى الخلوة وأخذت تفكر بما سمعته فغلب عليها النعاس فنامت رغم إرادتها.
ولم تفق إلا في الصباح على ضوضاء القوم في الدار، فنهضت وسألت عن الشريف فقيل لها إنه بكر إلى الإسكندرية مع وفد من أعيان المصريين ومعه كتاب الوزير ابن الفرات في طلب الصلح.
1
أما هي فإنها ما زالت في قلق؛ لما علمته من مساعي أبي حامد، وأسفت لأنها لم تستطع مقابلة مسلم قبل ذهابه. وهي في ذلك رأت يعقوب داخلا، فأحست براحة وأسرعت إليه فلما رآها هش لها وتقدم نحوها فأومأت إليه أن يجلس وقصت عليه ما سمعته أمس. فاستغرب قولها وأدهشه عزم أبي حامد وما دبره فقالت: «لا حاجة بي أن أخبرك عن أهم ما قصصت عليك.»
قال: «أما من حيث الحسين فإذا صح ما قالوه عنه وأنه آت إلى هنا فهو في مأمن، ولا شك أن ذلك الغادر مغرور.» ثم أطرق وهو يحك عثنونه وقال: «ولكن ...» وسكت.
فقالت: «ولكن ماذا؟ هل أستطيع أن أعمل عملا ... إني أشعر بتقصيري في مهمتي لأني شغلت بنفسي عن خدمة مولاي المعز ما بالك؟ قل.»
قال: «فهمت من حديثك أن ذلك الملعون يهدد سعينا في الصلح بدسائسه عند بنت الإخشيد ولا سبيل لي إلى هناك وأنا رجل فلا أستطيع التنكر ...»
فأدركت أنه يلمح إلى استطاعتها؛ ذلك لأنها فتاة، فأطرقت ثم قالت: «هل أقدر أنا على ذلك؟»
قال: «طبعا ولكن ...»
قالت: «ماذا قل ... قد أدركت الآن مركز بنت الإخشيد في هذه الدولة ويظهر أن الكل يثقون بها رغم ما بلغنا من تهتكها وانغماسها، فما الذي ترى في القدرة عليه؟»
قال: «ليس أقدر منك على ذلك ... أرى أن تدخلي دار بنت الإخشيد وتتسلطي على عقلها حتى تصير أطوع لك من بنانك.»
فعلمت أنها لا بد لها من التجسس وهي أكبر نفسا من ذلك. فتوقفت عن الجواب لحظة وهي تنظر في مرآة معلقة في الحائط أعجبها شكلها؛ لأنها صنع مصر ولم تكن رأت مثلها من قبل. كانت تنظر إلى المرآة وهي تفكر في أمر تنكرها. فابتدرها يعقوب قائلا: «لا تترددي يا بنية ... إذا كنت تحبين المعز وتريدين الفوز لجوهر فالأمر في يدك ولا يستطيع عليه سواك.»
فلما سمعت قوله تحمست، وهان عليها كل صعب فقالت: «روحي فداء أمير المؤمنين وأحسب أني مت في مرضي هذا. فما العمل؟»
قال: «هل تعلمين شغف بنت الإخشيد باقتناء الجواري الحسان؟»
فقالت: «نعم، أعلم ذلك.»
قال: «أرى أن تتنكري بثوب جارية مغربية، وأن أجعلك هدية لبنت الإخشيد ولا ريب عندي أنها لا تلبث أن تخاطبك حتى تستسلم لرأيك والأمر بعد ذلك لفطنتك.»
فنهضت وقالت: «أنا مستعدة للذهاب من يأخذني وكيف أصنع؟»
قال: «تمهلي ... إني عائد بعد قليل وإنما أتقدم إليك أن تلبسي ثوبا مثل أثواب الجواري ...» قال ذلك وخرج.
فلبست وأصلحت شعرها وغيرت هندامها حتى أصبح من يراها لا يشك في أنها جارية وقد زادها الضعف جمالا وهيبة. ثم جاء يعقوب ومعه رجل عرفت أنه تاجر الرقيق الذي قبضوا عليه في القيروان ووقف بين يدي المعز واعترف أنه جاء ليبتاع جواري لبنت الإخشيد فتجاهلت.
ثم تقدم يعقوب وقال: «هذه هي الجارية يا سيدي ... كيف تراها؟»
قال: «لا بأس بها.»
فضحك يعقوب وقال: «لا تقل لا بأس، بل قل إنها جميلة، وأظنها تعجب مولاتنا كثيرا؛ نظرا لما فطرت عليه من الذكاء والأدب فضلا عن الجمال.»
فقال الرجل «ما اسمها وكم ثمنها؟»
قال: «اسمها سلامة وأما الثمن فإني لا أتاجر بالرقيق كما قلت لك وإنما أردت أن أفعل ذلك خدمة لمولاتنا. خذها إليها ويكفيني أن تقبل هذه الهدية مني، ولكن هذه الفتاة عزيزة علي؛ لأني أعرف منشأها، فلا ينبغي أن تعامل مثل سائر الجواري. أوص السيدة بنت الإخشيد بذلك إذا شئت.»
قال: «سأفعل» وأشار إلى لمياء فتبعته وهي تتجلد.
الفصل الثالث والستون
بنت الإخشيد
وكانت بنت الإخشيد تقيم في قصر قرب دار عبد العزيز أكبر دور الفسطاط وقد تقدم ذكرها. وذكرنا ما فيها من الغرف وعدد ما فيها من الناس، وهي واقعة على ضفة النيل الشرقية، يقابلها في المغرب جزيرة الروضة. وقصر بنت الإخشيد فخم يطل على النيل قد فرش بأثمن الرياش.
والدولة الإخشيدية يومئذ في إبان بذخها تقلد العباسيين بما في دورهم من الرياش الفاخر والأثاث الثمين بالأبسطة المطرزة والأستار المزركشة قد شدت إلى الجدران بمسامير الفضة وفرشوا غرف النوم بالأسرة الذهب أو الأبنوس المنزل بالعاج ونصبوا منائر الفضة عليها الشموع العنبرية إذا أوقدت فاحت رائحتها حتى تملأ الفضاء.
فلا غرو إذا دهشت لمياء عند دخولها ذلك القصر بعد أن رأت بساطة دار المعز في القيروان. وكانت تحسب دار أبيها في سجلماسة قبل سقوط دولته قد بلغت أرقى أحوال الحضارة، فإذا هي لا تعد شيئا بالنسبة إلى دور الإخشيديين وخصوصا هذه الدار؛ لأن بنت الإخشيد كانت لفرط إعجابها بنفسها تقلد نساء الخلفاء العباسيين بالبذخ والرخاء، ولا سيما زبيدة زوج الرشيد فقلدتها باصطناع قبة من الفضة والأبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب ملبسة بالوشي والسمور والديباج الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق
1
رغم ما كانت عليه البلاد من الضيق.
تلك كانت طريقة الحكومة في تلك الأيام، ولا سيما في أواخر الدولة.
إنما يهم الحاكم أن يجمع المال لنفسه ويتلذذ بالشهوات وقد يبلغ من تمتعه بالملذات أن يموت من التخمة والرعايا حوله يموتون من الجوع.
وكانت بنت الإخشيد في حدود الكهولة تظهر لأول وهلة أنها قوية الخلق وهي بالحقيقة ضعيفة الرأي لكنها جسورة لا تبالي ما تفعل ولا تقدر العواقب، وكانت مثالا لطبقة المترفين من أهل ذلك العصر، لا يفوتها ضرب من ضروب الملذات، وكانت وجيهة نافذة الكلمة ليس في رجال الدولة من لا يخشى بأسها، ولا سيما في تلك السنة وقد مات كافور وصارت الأمور إلى أحمد بن على حفيد أخيها - وهو غلام - فأصبح طبعا طوع إرادتها هو وكل رجال دولته إلا جعفر بن الفرات، فأحب أن يستأثر بالنفوذ فأغضبها وأغضبته فمال مع الأهلين الراغبين بالتسليم لجوهر قائد جند المعز. وأما سائر الأجناد فكانوا يلتمسون رضاها لا يبرمون أمرا إلا برأيها.
وكانت جميلة الخلقة لا تزال الملامح التركية ظاهرة في محياها؛ لأن أباها فرغاني، ويظهر أنها لم تتزوج رغبة في استبقاء عصمتها في يدها فانصرفت قواها إلى التمتع بالحياة والتماس النفوذ والشهرة، فجعلت قصرها مباء لرجال الدولة. وكانت في تلك الأثناء مشغولة الخاطر؛ لما بلغها من عزم المصريين على التسليم ومعهم ابن الفرات، لكنها لم تكن تتوقع حدوث ذلك فعلا إذ لم تكن على بينة من حقيقة حال الوطنيين ولا مقدار ما بلغوا إليه من الضنك.
ولم يخطر لها أنهم يجسرون على مخابرة الأعداء وكان ينبغي أن لا يفوتها ذلك ولكن حكام ذلك العصر لم يكونوا يحسبون للأمة حسابا، وإنما يهمهم احتلابها وابتزاز أموالها.
أصبحت بنت الإخشيد في ذلك اليوم وهي تتوقع أن يأتي رجال الدولة يشكون إليها ما فعله ابن الفرات. وقبل نهوضها من الفراش أتتها المواشط والولائد يخدمنها في ما تحتاج إليه من الغسل أو اللبس أو تسريح الشعر وتصفيفه. قضين في ذلك ساعة وهن يتسابقن إلى استرضائها بالإطراء أو المجون. وهي في ذلك أتتها جارية تقول: «إن صاحب الرقيق يستأذن على مولاتي.»
قالت: «دعيه ينتظر في البهو الكبير ريثما أخرج. وهل هو وحده؟»
قالت: «معه فتاة لعلها جارية.»
قالت: «جارية سوداء؟»
قالت: «كلا، بل جارية بيضاء جميلة لم أشاهد مثلها قبل الآن.»
فاهتمت بنت الإخشيد بذلك الخبر وأمرت الماشطة أن تسرع في إلباسها، أما لمياء فكانت قد أقبلت مع ذلك النخاس على قصر بنت الإخشيد - وهو يمتاز بفخامة بنائه وبوقوف الحجاب ببابه - فمرت إليه في حديقة طرقها مرصفة بالحصى الملونة على أشكال الطير والوحوش فتقدمها النخاس وهي تتبعه حتى دخل باب القصر إلى ردهة واسعة فرشت بالسجاد. وبعض السجاجيد عليها وشي جميل بأشكال الزهور أو بعض الحيوانات أو أبيات من الشعر، فاستقبلتها القهرمانة قيمة القصر وعليها الأساور والدمالج وحول عنقها العقود حتى تكاد تنوء تحت أعبائها. فقالت لمياء في نفسها: «إذا كانت هذه القيمة فكيف تكون السيدة؟» فدعتهما القهرمانة إلى بهو الاستقبال فدخلا ولمياء تزداد شوقا لمشاهدة بنت الإخشيد، وذهبت القيمة لإبلاغ الخبر وبعد قليل أقبلت السيدة وهي تجر ذيل ردائها الوردي وراءها وعلى رأسها عصابة مرصعة قلدت بها العالية أخت الرشيد وصففت شعرها تصفيفا خاصا لا يجسر أحد من أهل الفسطاط على تقليده وشبكته بإكليل من الذهب بشكل طائر. وتمنطقت بمنطقة مزركشة لها عروة مرصعة على شكل الكروبيم؛ قلدوا به بعض ما على الآثار المصرية من الرسوم.
وأدركت لمياء قدومها من حركة الخدم في الدهليز، ومما تضوع من الطيب فوقفت ووقف النخاس وتقدم حتى أكب على يد الأميرة كأنه يقبلها وفعلت لمياء مثل فعله فظهر التكلف في حركاتها؛ لأنها لم تتعود مثل ذلك.
فحالما رأتها بنت الإخشيد وقعت من نفسها موقعا جميلا وأعجبها ما في عينيها من المعاني السحرية والضعف زادها سحرا. فتقدمت إلى لمياء ووضعت يدها على كتفها كأنها تحاول ضمها فاستأنست لمياء بها ووقفت مطرقة، فأشارت إليها أن تجلس وجلست على مقعد من الأبنوس فرشه مكسو بالحرير، وقالت: «من أين لك هذه الفتاة؟»
قال: «هذه هدية من عبدك يعقوب بن كلس رآها لا تليق بأحد سواك؛ نظرا لما هي عليه من الأدب والذكاء. وقد كلفني أن أنوب عنه في تقديمها.»
فلما سمعت اسم يعقوب مر في ملامحها شيء من الانقباض، لكنها أظهرت الامتنان، وقالت: «إنها هدية نفيسة لا أظن يعقوب أهدى مثلها في حياته، فالظاهر أنه يلتمس منا خدمة بعد أن أغضب الوزير جعفر (ابن الفرات) ... إن أولئك اليهود أمرهم عجيب ... قد قبلنا هذه الهدية مع الشكر بارك الله فيك!» قالت ذلك ومدت يدها فاستخرجت خاتما من إحدى أصابعها ودفعته إليه فتناوله وقبله ومضى.
وظلت لمياء صامتة، وقد أدهشها ما رأته من التباين العظيم بين حال الأمة المصرية وحال حكامها أو أهلهم، وقابلت بين بنت الإخشيد بمصر وأم الأمراء في القيروان. وترجح عندها قرب سقوط هذه الدولة. وهي في ذلك أتى الحاجب فوقف قرب الباب فعلمت بنت الإخشيد أنه يريد مخاطبتها في أمر فأومأت إليه فتقدم فقالت: «ما وراءك؟»
قال: «إن بعض القواد الإخشيدية يلتمسون المقابلة.»
فأظهرت استنكافها وقالت: «دعهم ينتظرون.» ونهضت وأشارت إلى لمياء أن تتبعها وسألتها «ما اسمك؟»
فبغتت وأوشكت أن تقول اسمها الحقيقي، فبلعت ريقها وقالت: «سلامة يا سيدتي.»
فقالت: «اسمك جميل.» وصفقت ونادت القهرمانة فأتت فقالت لها: «كيف ترين هذه الفتاة المغربية؟»
فنظرت إليها وهي تبتسم وقالت: «ما شاء الله إنها جديرة أن تكون في قصرك.»
قالت: «فإليك هي أفردي لها غرفة خاصة ولتسترح الآن.»
فأشارت مطيعة وانصرفت ولمياء تتبعها حتى أدخلتها غرفة بها نافذة تطل على النيل فاستأنست بمجرى الماء، لكنها لم تأت إلى ذلك القصر وتركب ذلك المركب الخشن لتتمتع بالمناظر الطبيعية فأخذت تفكر فيما ينبغي أن تفعل، وتذكرت أن الحاجب أنبأ بنت الإخشيد وهي في حضرتها عن قدوم بعض القواد لمشاهدتها، وهي فرصة ينبغي لها أن لا تفوتها والوقت ضيق لا يأذن بالتأجيل فأخذت تفكر في حيلة تستنبطها لحضور تلك الجلسة، لعلها تستطلع شيئا.
الفصل الرابع والستون
الطعام
وإذا بالقهرمانة دخلت وهي تتهادى بمشيتها تيها وتشمخ بأنفها عجبا. ولما دنت من لمياء وقفت لها تأدبا فقالت القهرمانة «يظهر أنك وقعت من نفس مولاتنا موقعا جميلا لم توفق إليه غادة قبلك.» قالت ذلك وضحكت فبانت أسنانها متفرقة؛ لأن الزمان ذهب بنصفها. وكانت تلك القهرمانة جميلة في صباها لكن عيشة الرخاء أسمنتها وداهمتها الشيخوخة فجعلت جلدها طيات يتقطر العرق من بينها. وإذا مشت خطوتين لحقها التعب، لكنها - مع ذلك - كانت خفيفة الروح فاستأنست لمياء بها وسرها ما سمعته من إعجاب بنت الإخشيد؛ لأن ذلك يعجل ما ترجو الاطلاع عليه أو الوصول إليه في سبيل خدمة المعز. فأطرقت وقالت: «ليس في ما يدعو إلى إعجاب سيدتي الأميرة، ولكنها ربما أشفقت على الضعف الظاهر في وجهي.»
فقطعت القهرمانة كلامها قائلة: «إن هذا الضعف يزيدك جمالا ولطفا ... والآن فإن مولاتنا الأميرة كلفتني أن أصلح من شأنك وآخذك إليها لتتناولي الغداء معها.»
فشغلها ذلك التلطف عن التفكير بأبي حامد ورفيقه، واشتغلت القهرمانة بالإصلاح من شأنها فأتتها بثوب من الحرير الناعم الملون نسيج مصر وعليه صور تأخذ بالأبصار وحوله منطقة مذهبة. وأخذت الماشطة في إصلاح شعرها وتضفيره على نسق خاص، فضايقها ذلك وتقدمت إلى القهرمانة أن تعفيها من هذا التصفيف فأجابتها: «هكذا تريد مولاتنا.»
فقالت: «اسأليها لعلها تعفيني؛ لأن ذلك يضر برأسي.»
فمضت ثم عادت وهي تقول: «وهذا دليل آخر على حب مولاتنا لك فإنها سمحت أن تكوني كما تشائين وأن تسرعي في الذهاب إليها؛ فإن المائدة قد أعدت.»
فسرحت شعرها بيدها تسريحا بسيطا وضفرته ضفيرتين أرسلتهما إلى الوراء إلا خصلا صغيرة أرسلتها على الصدغين وأبت الاكتحال أو التزجج وبين يديها جارية سوداء تحمل لها المرآة فنظرت إلى وجهها فيها فرأت أنها أجمل مما كانت تظن، ثم مشت في أثر القهرمانة في دهليز يؤدي إلى قاعة واسعة في صدرها دكة مرتفعة قد نصبت عليها المائدة ويشرف الجالس إليها على ضفاف النيل فيرى السفن ذاهبة جائية ووراءها جزيرة الروضة وفيها الأبنية الفخمة وفي جملتها المقياس. ووراء ذلك بر الجيزة إلى الأهرام والقاعة مفروشة بالبسط والسجاد مثل أكثر غرف تلك الدار غير الأرائك والوسائد والمقاعد وكلها مذهبة أو منزلة وقد أرخيت الأستار المزخرفة على الجدران التي تكسوها، ومنها ستارة في عرض القاعة مرفوعة بأمراس من الحرير ترخى عند الحاجة فتحجب مجلس الأميرة عن سائر الجلوس.
كانت هذه القاعة فرشت لعقد المجالس الكبرى، فإذا حضرت بنت الإخشيد المجلس أرخت الستارة المشار إليها، ودار الحديث أو المفاوضة ولا يراها أحد من الحضور، وأحبت أن تتناول طعامها فيها في ذلك اليوم لإشرافها على النيل. فنصبوا لها بجانب المائدة مقعدا مكسوا بالخز المطرز باسمها. فجلست هي عليه والتفت بملاءة كالمطرف من القطيفة الحريرية وقد طرزت بالقصب ورصعت بالأحجار الكريمة بأشكال بديعة تمثل شجرا وطيورا وحيوانات أخرى وهي من جملة ما قلدت به نساء العباسيين في إبان بذخهم. ولعلها قلدت بها بساطا لأم الخليفة المستعين عليه الطراز والترصيع بصور كل حيوان من جميع الأجناس وصورة كل طائر من ذهب وأعينها من يواقيت وجواهر.
1
دخلت لمياء وبنت الإخشيد متكئة على ذلك المقعد والمطرف على جنبيها يأخذ لمعانه بالأبصار، والمائدة بجانبها عليها الأطعمة وقد وقف الخدم من الجواري يحملن الأطباق فيها الحلوى أو الفاكهة، وهن في أجمل ما يكون من الأثواب وتصفيف الشعور إلا لمياء، فإنها على بساطتها.
فتقدمت القهرمانة أولا وأنبأت السيدة بنت الإخشيد بقدومها وانصرفت فدخلت سلامة (لمياء) وعليها ذلك الثوب الباهر الذي زاد وجهها إشراقا وهيبة. ولم تتمالك بنت الإخشيد عند دخولها عن الجلوس ووسعت لها مجلسا على المقعد ودعتها إلى القعود بجانبها فقعدت فرحبت بها وقالت: «إن هدية بن كلس اليوم قد كفرت عن سيئاته وسيئات شيعته.» وضمتها وقبلتها ولمياء مطرقة وقد زادها الحياء وقارا، والحياء من أجمل ما تزدان به المرأة بل هو أجمل أثواب زينتها الحقيقية.
ثم تقدمت بنت الإخشيد إلى لمياء أن تتناول الغداء معها، وأشارت إلى خادم بيده طبق أن يضعه على المائدة بين يديها وفيه سكباج، فتناولت قطعة وناولت لمياء قطعة؛ تشجيعا لها فأطاعتها وتناولت مما حضر من الألوان. ولم يكن بينها شيء لم تعرفه إلا لونا في جام أنكرته ولم تستلذ طعمه. ولحظت بنت الإخشيد ذلك فقالت: «يظهر أنك لم تستطيبي هذا اللون مع أن الدرهم منه يكلف مئات الدنانير، إنه مصنوع من أدمغة نوع من الطير لا يوجد في غير مصر، ونحن ننفق في جمعه الأموال الطائلة؛ لأن دماغه كثير الغذاء واللقمة منه تغني عن عدة أطباق من أطعمة أخرى.»
ثم أمرت بالحلوى فأتوا بعشرات من أشكالها بين معاجين ومطبوخات وفاكهة، ويقدمون في أثناء الطعام باقات الأزهار الطيبة الرائحة غير ما يرشونه في أرض القاعة من ماء الزهر أو العطر وما يحرقونه في المباخر المنصوبة بين الأبواب من الندا أو العود.
وكان في جملة ما قدموه على المائدة سائل محمر اللون (خمر) لم تعرفه لمياء ولا مدت يدها إليه، بل هي حالما وقع بصرها عليه اقشعر بدنها؛ لأنها تذكرت الشراب الذي ذهب بحياة أبيها. على أنها كانت تنظر إلى كل ذلك بعين الاستغراب وتقابل بين ما كانت تراه من تقشف المعز وأم الأمراء والأموال عندهم في الخزائن وسلطانهم في إبانه وبين ذلك الرخاء - والبلاد في ضيق والناس يتضورون جوعا.
وكانت بنت الإخشيد تأكل بنهم ولذة وتعجب لتعفف لمياء وتحسبها تفعل ذلك من علة؛ لأنها تعودت أن ترى غاية الإنسان في دنياه أن يتمتع بالملذات على اختلاف أشكالها وضروبها. ولا تقدر تتصور أحدا يمتنع عن لذة إلا إذا عجز عن نيلها، ذلك شأن المنغمسين في الشهوات، وهم يكثرون في أواخر الدولة قرب سقوطها؛ إذ تذهب ملذاتهم العقلية أو الأدبية بذهاب مجدهم ونفوذهم فلا يبقى لهم غير الملذات البدنية فينصرفون إليها فلا تزيدهم إلا ضعفا وانحطاطا. إن ملذات الرجال في أوائل الدولة تقوم بالنصر أو الفوز والمسابقة في الفتح أو نيل المناصب وتقويمها وتوسيع دائرتها، لا تهمهم الملذات البدنية إلا قليلا، فإذا ذهب المجد وأخذ أصحابه بالتقهقر لا يبقى غير هذه الملذات.
أمرت بنت الإخشيد برفع المائدة وقد امتلأت معدتها وانتفخت عروقها وأسرعت دورتها وبان ذلك في عينيها واستلقت على ذلك المقعد.
وأحبت لمياء أن تنتقل إلى المقعد الآخر فأمسكتها وأقعدتها بجانبها وأخذت تحادثها فبدأت بالسؤال عن بلدها فقالت: «من أين أنت يا سلامة؟»
فلم تعرف ما تجيب ؛ لأنها لا تريد أن تكذب ولا أن تقول من هي فأجابت جوابا وسطا، فقالت: «إني من إفريقية (بلاد المغرب).»
فوقع اسم إفريقية وقعا شديدا على سمعها؛ لأنه شغلها الشاغل منذ عدة أشهر فتصاعد الدم إلى وجهها لكنها تجاهلت وابتسمت وقالت: «إن إفريقية واسعة فمن أي قسم منها؟»
فقالت: «إن الجواري يا سيدتي لا يطلب منهن معرفة أنسابهن؛ لأنهن ينتسبن إلى مواليهن فأنا الآن في دار السيدة بنت الإخشيد وإنما أنتسب إليها وكفى.»
فاستحسنت جوابها الدال على الذكاء، وأحبت تبديل الحديث وإذا بالحاجب دخل وقال: «القواد الإخشيدية لا يزالون في انتظار الإذن لهم بالمقابلة يا سيدتي ...»
فتأففت وهزت رأسها، وقالت: «أقلقوا راحتي بمقابلاتهم ... ما أصنع لهم؟ هذا أميرهم أحمد فليقابلوه ...» قالت ذلك ونظرت إلى لمياء.
فرأت لمياء أن لا تضيع هذه الفرصة فابتسمت ابتسامة مسايرة وقالت: «صدقت يا سيدتي إن هذه المقابلات تزعجك، لكنك تعلمين أن الرأس كثير الأوجاع، ولولا ثقتهم بتعقلك وسداد رأيك لم يطلبوا مقابلتك. فإذا جاز لي أن أشير عليك أرى أن تأذني بدخولهم وتشجيعهم وتنصحي لهم فإن أميرهم صغير السن ...»
فقطعت بنت الإخشيد كلامها قائلة: «أحسنت يا سلامة، لكنني لا أستطيع مجالستهم الآن بعد الطعام فأرى أن أؤجل الاجتماع إلى المساء.»
فقالت: «ذلك لك إذا شئت، لكنني لا أظنهم يلحون للاجتماع في هذه الساعة إلا وهم في أشد الحاجة إليه وإذا استثقلت الانتقال إلى قاعة أخرى ادعيهم إلى هنا وأنزلي هذا الستر بينك وبينهم وخاطبيهم بما تريدين.»
فأعجبها هذا الرأي كثيرا؛ لأنها يمكنها أن تتمتع براحتها في الجلوس أو الاتكاء، وقالت: «هذا الرأي صواب على شرط أن تبقي أنت معي.»
ففرحت لمياء بتلك الدعوة - وهي غاية مناها - لكنها قالت: «إذا لم يكن بأس من وجودي فإني باقية حسب أمرك ...»
قالت: «إن وجودك يؤنسني ... ولا تستغربي ما ترينه من إعجابي بك لأول مرة رأيتك فيها فإني لم أجد هذه الأخلاق في واحدة من الجواري فأنت أميرة بأخلاقك.» ثم التفتت إلى الحاجب وقالت: «إذا شاء القواد فليتفضلوا إلى هنا .» وأمرت بعض الخدم أن يرخوا الستر فأصبحت القاعة قاعتين بينهما ذلك الستر، وهو من الديباج المطرز، وفيه ثقوب ترى منها من شاءت من الجلوس ولا يرونها.
الفصل الخامس والستون
الجلسة
ولبثت لمياء جالسة وهي تنظر من أحد الثقوب؛ لتتعرف الداخلين وما لبثت أن سمعت وقع الأقدام وقلقلة السيوف وإذا بثلاثة عليهم الألبسة الفاخرة والعمائم الصغيرة والدراعات المزركشة مما يلبسه كبار القواد. وقد تقلد كل منهم سيفا يجر إلى جانبه وحالما دخلوا ألقوا التحية فأمرتهم بنت الإخشيد بالجلوس وهمست للمياء: «هؤلاء ثلاثة من قواد جندنا المخلصين، ويعرفون بالإخشيدية نسبة إلى والدي الإخشيد - رحمه الله.»
فأظهرت لمياء الإعجاب، فقالت بنت الإخشيد بصوت عال: «مرحبا بقوادنا الأجلاء، عسى أن يكون مجيئكم لخير.»
فأبطئوا في الجواب هنيهة لحظت لمياء في خلالها أن كلا منهم يدعو الآخر للكلام. ثم تصدى أكبرهم سنا وقال: «إننا جئنا لخير - إن شاء الله - ونأسف أننا أزعجنا مولاتنا بمجيئنا، ولكننا لم نر بدا من ذلك والعدو على الأبواب وهؤلاء الكافورية لا يزالون ينازعوننا على هذه الدولة. وكنا نحسب مبايعة مولانا الأمير أحمد توقفهم عند حدهم فيكفون عن تعدياتهم فإذا هم على ما كانوا عليه يفسدون الجند علينا ويوغرون القلوب على مناوأتنا والوزير جعفر لم يزدد إلا استبدادا في الدولة وقد قبض على الأموال فلم يترك بيضاء ولا صفراء. وقد بلغنا أنه كاتب العدو بالتسليم فهل ترضى مولاتنا بهذا العمل، أم هو استخف بأميرنا؛ لأنه صغير السن؟»
فقالت بنت الإخشيد: «أنا لا أرضى بذلك ... هذا لا يكون أبدا ... نسلم البلد إلى العدو وعندنا الجند والقواد؟ كيف يفعل الوزير ذلك. لا بد من عزله.»
فأجاب أحد القواد: «إنما فعل ذلك بإيعاز الكافورية؛ لأنهم على رأيه وقد ساءهم كما ساءه أن يعود الأمر إلى نصابه ويتولى الملك أهله وأصحابه وقد خرج من أيديهم فأرادوا أن يخرج من يد أميرنا ولو صار إلى عدونا ...» قال ذلك والحنق باد في كلامه .
ولم تكد بنت الإخشيد تتدبر كلامه حتى سمعت ضوضاء بباب القاعة، ثم دخل بضعة رجال عرفت أنهم من قواد الكافورية، وكأنهم كانوا بالباب وقد سمعوا الطعن بهم وأرادوا الدخول فمنعهم الحجاب، فدخلوا قهرا وتصدى واحد منهم للكلام ووجهه إلى الطاعن وقال: «تقولون إنا أفسدنا الدولة وإنها لكم وقد اختلسناها مدة. إننا لم نختلسها ولولا أميرنا كافور - رحمه الله - لصارت هذه الدولة في خبر كان. فهو الذي حفظها ونظمها وثبت دعائمها من أول أمرها منذ تولاها مولانا الإخشيد - رحمه الله - فقد كان له خير نصيح ومشير ولو ظل كافور حيا إلى الآن لم يجسر العدو على حربنا. وها أنتم ولاة الأمر الآن، فأخرجوا العدو من الدار.»
فأجابه الإخشيدي: «نعم إننا نخرجهم إذا تركتمونا ولم تمالئوهم وتطلبوا صلحهم ... دعونا إننا نعيدهم على أعقابهم ...»
فصاح فيه قائد آخر: «ويحك تقول ذلك بجسارة بين يدي مولاتنا. تقول إننا نمالئ الأعداء؟»
فأجاب: «نعم إنكم تمالئونهم ألم يكن الوزير جعفر سيدكم ونصير أميركم وهو الآن يخابر الأعداء في طلب التسليم ...»
فضحك ضحكة اغتصابية وقال: «إنه يفعل ذلك برأينا ... ومع ذلك فقد أحسن صنعا ... إن دولتكم قد شاخت وإذا أنكرتم ذلك هلم إلى العدو وحاربوه وأخرجوه.»
فحمي غضب الإخشيدية وصاحوا بصوت واحد: «إننا لا نقبل هذه الإهانة وخصوصا بين يدي مولاتنا ومولاتكم.» وتقدم أحدهم ويده على قبضة حسامه وقال: «والله لولا حرمة هذا المكان لضربت أعناقكم بهذا الحسام وألحقتكم بأميركم العبد الأسود الذي تفاخروننا به ... صدق فيه المتنبي (إشارة إلى هجوه إياه).»
فتصدى رجل من الكافورية واستل حسامه وقال: «ويحك تطعن في الأموات ... إنها وقاحة لم يكن لمولاتنا بنت الإخشيد أن تسكت عنها.»
وعلت الضوضاء فصفقت بنت الإخشيد وصاحت: «ويحكم ما هذا؟ تتشاتمون في حضرتي! وأغرب من ذلك أن نسمع الطعن في أسلافنا بأذننا هذا أمر لا نرضاه وليس هذا وقت الخصام والعدو بالباب ... وأنتم يا أصحاب كافور إن كافورا كان خادما أمينا - رحمه الله - فما بالكم تفاخروننا به أما إمارته فقد كانت فلتة انتحلها لنفسه أو انتحلها له بعض أصحاب الأغراض، وزعم أن الخلعة أتته من بغداد ... ما لنا ولهذا الآن إنه خصام في غير أوانه ...»
فوقف الكافورية جميعا، وقال كبيرهم: «أما وقد سمعنا هذه الإهانة من فم مولاتنا فلم يبق لنا إلا أن نخرج ونترك الأمر لأصحابه وولاة أمره.»
قالوا ذلك وانسحبوا بعجلة والغضب باد في كل حركة من حركاتهم.
وكانت لمياء في أثناء ذلك لا تزداد إلا وثوقا بنجاح جند المعز. فقد رأت بعينها وسمعت بأذنيها اختلال أمور الدولة وانقسام قوادها وتباغضهم مما لا سبيل إلى إصلاحه.
فلما خرج الكافورية التفتت بنت الإخشيد إلى لمياء كأنها تستشهدها على هذه الوقاحة، وقالت: «أرأيت أجهل من هؤلاء ... ويلاه كيف نحارب الأعداء ... إننا لا نقوى على حربهم ...»
فاستبشرت لمياء بالفوز وقالت: «يسوئني يا سيدتي أن تكوني قد نطقت بالصواب وعسى أن تكوني مخطئة.»
وكأن بنت الإخشيد ندمت على ما فرط منها فاستأنفت الكلام قائلة: «بل أنا مخطئة لا ... لا أريد أن أتصور ذلك ولو بالحلم. يدخل البلاد عدو غريب يحكم في رقابنا؟» ورأت أنها كان ينبغي لها أن تستعطف الكافورية باللين وأنها أخطأت بما قالته فأرادت أن تلقي التبعة على سواها شأن ضعيف الرأي في مثل هذه الحال. فالتفتت إلى الإخشيدية وكانوا لا يزالون واقفين يتحدثون بما أتاه الكافورية، وقالت: «لم يكن ينبغي لكم أن تجافوهم بمثل هذا الكلام وهم إخوانكم وعليهم المعول في الحرب فأغضبتموهم.»
فأجابها أحدهم: «وأنت يا مولاتنا تلقين هذه التبعة علينا؟ وقد سمعت الإهانة التي لحقت بنا وبك وبسائر آل الإخشيد. فليكن ما تشائين ... أو لعلنا أخطأنا بمبايعة الأمير أحمد مع صغر سنه، لكننا لم نفعل ذلك إلا اعتمادا على نصرتك، فإذا كنت ترين أننا غير كفء لشيء فلنذهب.» قال ذلك وتحول وتبعه رفاقه.
فأحست بنت الإخشيد عند ذلك بضعف العزيمة، وأنها أصبحت منفردة لا نصير لها إلا إذا تذللت واستعطفت فانقبضت نفسها وبان الانقباض في وجهها وسكتت هنيهة ولمياء تراقب حركاتها وتقرأ ما يجول في خاطرها.
فلما رأتها في تلك الحال قالت : «ما بال سيدتي كئيبة ... أمن أجل كلمة تنقبض نفسك؟»
فتنهدت وقالت: «آه يا سلامة ليس من أجل كلمة ولكن هؤلاء لا يقدرون العواقب وقد خرجوا من هذه الجلسة أخصاما يتوعد بعضهم بعضا وهم يدنا وساعدنا وجندنا، فبمن نحارب عدونا؟ لا نصالح ولا نقدر أن نحارب. ويلاه ما العمل!» ودمعت عيناها. فأكبت لمياء عليها وضمتها وقبلتها وقد أشفقت عليها وقالت: «لا بأس عليك يا سيدتي لا تخافي.»
فاستأنست بذلك الحنو وقالت: «كيف لا أخاف؟ وإذا كان العدو كبيرا كما يظنون وقدر له الغلب ماذا يصيبني؟»
قالت: «لا يصيبك شيء يا مولاتي.»
قالت: «لا تلطفي الأمر علي ...»
قالت: «إني لا ألطفه ولا يجب مع ذلك أن تيأسي من النصر، ولكن هبي - لا سمح الله - أن العدو اغتنم هذا الضعف وتغلب فأنت في أمان؛ لأن هؤلاء المغاربة مع كونهم أعدائكم أقرب إلى الضن بكم من هؤلاء الأجناد المتمردين.»
فرأت في لهجتها شدة وعزيمة فقالت: «وكيف عرفت ذلك؟»
قالت: «أعرفه بالاختبار؛ لأني من بلاد المغرب - كما تعلمين - وكان سيدي الأول له علاقة كبيرة بأهل القيروان وتعرف إلى المعز وقائده، وكثيرا ما سمعتهم يتحدثون وعرفت طباعهم، إنهم أقرب إلى الخير من هؤلاء الأجناد و...»
فقطعت كلامها قائلة: «هل تعرفين المعز وقائده؟»
قالت: «نعم يا سيدتي أعرفهما معرفة جيدة وهما يعرفانني أيضا.»
فضحكت من السرور بهذه البشارة وأحست بنفوذ تلك الفتاة وأحبت أن تقول شيئا فمنعها الحياء وحالت دونه الأنفة فأدركت لمياء غرضها فبادرتها قائلة: «انظري يا مولاتي ... إن ما لقيته من لطفك ومحبتك يوجب علي أن أغار على مصلحتك، فإذا أذنت لي أقول كلمة.»
قالت: «قولي.»
قالت: «إنكم الآن في حرب مع المغاربة وسمعت الآن أن ابن الفرات ساع في الصلح فإذا وفق إليه كوني على ثقة أنك تكونين معززة مكرمة، فإني أعرف أم الأمراء زوج المعز، وهي من ألطف خلق الله وتحبني حبا جما. فأنا ضامنة كرامتك. وإذا لم يفلح ابن الفرات بالصلح وجرت حرب فإذا فاز المصريون فأنت صاحبة السيادة طبعا. وإذا غلبوا على أمرهم فأنا أفديك بروحي وأكون وسيلة لحفظ كرامتك وأموالك، كوني براحة.»
ففرحت بنت الإخشيد بهذا الوعد، ولكنها أحست بصغر النفس وندمت على تصريحها بما قالته وخافت أن تستضعفها لمياء أو تحتقرها فقالت: «ولكن الفوز مع ذلك راجح لنا بإذن الله.»
فقالت لمياء: «إن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء ... لكني قلت لك ما أستطيع أن أخدمك به والأمر لله.»
فضمتها بنت الإخشيد إلى صدرها وقالت: «إني أشكرك يا عزيزتي في كل حال ...»
الفصل السادس والستون
جلسة أخرى
وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل وتحفزت بنت الإخشيد للنهوض، فوقع بصرها على قارب يجري في النيل بسرعة فالتفتت لمياء وتفرست بمن فيه فلم يطل تفرسها حتى رأت فيه جماعة فيهم أبو حامد وسالم، فخفق قلبها وارتعدت فرائصها وعلتها البغتة وتوردت وجنتاها لكنها تجلدت وتجاهلت فقالت بنت الإخشيد: «هل ترين ذلك القارب؟ يظهر أنه قادم إلينا وقد تعبنا اليوم من المقابلات.» قالت ذلك ونهضت حتى أطلت من الشرفة ولمياء معها فرأتا القارب وقف عند المسناة بقرب باب القصر فقالت: «إنهما قادمان إلينا - بلا شك - فهل أقابلهما؟»
قالت لمياء: «تسألينني يا سيدتي؟ إني لا أرى بأسا من المقابلة من وراء هذا الستر لعل مع القادمين خبرا جديدا، فإذا أعجبنا استفدنا منه، وإلا أهملناه.»
قالت: «لله درك من حكيمة عاقلة ... يا ليتني ظفرت بك من قبل.»
وبعد هنيهة جاء الحاجب يستأذن لرجلين من أعيان المغرب. فأذنت بنت الإخشيد في إدخالهما وأخذ قلب لمياء بالخفقان حتى خافت أن تخونها عواطفها فتشاغلت بالالتفات إلى النيل لئلا يبدو ارتباكها. ثم دخل الرجلان فرأت من وراء الستر أنهما أبو حامد وسالم فجعلت تغالب عواطفها لترى ما يكون، وهي تتوقع أن ترى شيئا جديدا يتم لها به ما كشفته في تلك الجلسة، وكان قد أقلقها ما سمعته من القبض على الحسين.
فلما دخلا ألقيا التحية - كالعادة - فأمرت لهما بنت الإخشيد بالجلوس ورحبت بهما ولمياء تتفرس فيهما فرأت سالما على غير ما تعرفه من الجمال فظنت أن السفر غيره والواقع أن ما عرفته من خيانته وغدره قلل كثيرا من جماله، بعضه من تأثير الاحتقار والبعض الآخر من تأثير العواطف على الملامح.
فإن الرجل ضعيف الخلق قد ينشأ وفي وجهه هيبة وأنفة فإذا توالى عليه الذل ظهر في سحنته شيء منه.
فلا غرابة لما ظهر لها من تغير سحنته وقد مضت سنة وبعض السنة وهو ينقاد لأبي حامد ويظهر بما يريده له من المظاهر المختلفة، أما أبو حامد فقد كان أقوى خلقا وأثبت عزيمة. يدلك على ذلك بقاؤه على المطالبة بدم أبي عبد الله الشيعي دهرا لا يرى لنفسه عنه متحولا رغم ما لقيه من الفشل على أنواعه، وآخر فشله في أمر كافور وقد أوشك أن ينجح لو بقي كافور حيا ولم يصب جند مصر ما أصابه من الانقسام. ومع علمه بانقسام الجند وضعفه فإن عزمه لا يزال ثابتا ولم يرجع عما عزم عليه منذ أعوام وهو يسوق سالما معه فيطيعه ويقول بقوله.
فلما جلسا بعد إلقاء التحية قالت بنت الإخشيد: «مرحبا بالأضياف، من أين أتيتم؟ ومتى كان قدومكم؟»
قال أبو حامد: «أتينا مصر منذ بضعة أشهر، ونحن من أمراء المغرب في سجلماسة، أصابنا ما أصاب سائر أمراء المغرب من ظلم العبيديين ففتحوا بلادنا واستبدوا فينا وطلبوا إلينا التسليم فلم نقبل فأتينا مصر لنعيش في ظل الإخشيديين حيث لا يقع بصرنا على أحد من أعدائنا ولعلنا نستطيع خدمة لهذه الدولة. وقد بلغنا أمس أن دعاة الخلافة بالمغرب زحفوا على مصر بقيادة المملوك الصقلي فصرنا نتوقع أن تجتمعوا لدفعهم؛ لأن هذا الأمر يهمنا كثيرا وعدو عدوى صديقي. لكننا سمعنا بما أصاب قلوب بعض القواد والوزراء من الخوف حتى تحدث بعضهم بطلب الصلح. فاستغربنا هذا الضعف وأحببنا أن نبرهن للأجناد خطأهم فلم نر أوجه من بنت الإخشيد؛ لأن الأمير حفيد أخيها وهو غلام فهي صاحبة الصوت الأقوى.»
وتنحنح أبو حامد ومسح شاربيه بيده وأرسلها على لحيته وحك عثنونه.
فقالت بنت الإخشيد: «بارك الله فيك ما الذي جئتنا به من أسباب الاطمئنان؟»
قال : «إن ما جئتك به يا مولاتي إنما هو أن أسعى في التوفيق بين القواد الإخشيدية والكافورية. وهذا لا يكون إلا أن أثبت لهم أن جند المغاربة لا يستطيع أن يفتح هذه البلاد؛ لأن انقسامهم إنما وقع بسبب خوفهم من الفشل وهذا طبيعي في كل زمان ومكان، لا يختصم شريكان إلا إذا خسرت تجارتهما. فإذا برهنت لهم - على يدك - أن أولئك الدعاة لا يمكن أن يفتحوا مصر تشددوا واتحدوا وطردوا العدو عن بلادهم.»
فأعجبت بنت الإخشيد بفصاحته وقوة حجته ونظرت إلى لمياء فوجدتها مصغية بكليتها ولم تنتبه إلى ارتباكها فقالت لأبي حامد: «وما هو دليلك؟»
قال: «دليلي أن قائد جند المغاربة رجل اسمه جوهر الصقلي، ولهذا الرجل غلام اسمه الحسين وهو عزيز عليه، فعلم الحسين هذا بمال كنا قد خبأناه في بعض الأماكن قرب سجلماسة لنستعين به على استرجاع ملكنا، فاغتنم غيابنا وذهب بشرذمة من الجند ليقبض ذلك المال، لكن رجالنا هناك قبضوا عليه وأرسلوه إلينا مغلولا، فإذا شئت دفعناه إليك ليكون رهنا تهددون به أباه إن توهم اقتداره على مصر.»
وتذكرت بنت الإخشيد قول لمياء إنها تعرف المعز وقائده وسائر رجال الدولة في القيروان، فلما سمعت ما قاله أبو حامد عن الحسين بن جوهر التفتت إليها فوجدتها لا تزال شاخصة تتطاول بعنقها لسماع بقية الحديث فقالت لها همسا: «هل تعرفين الحسين بن جوهر؟»
قالت: «نعم أعرفه وأحب أن تأمري بإحضاره لئلا يكون هذا الرجل كاذبا.»
قالت: «وهل تعرفين هذين الرجلين؟»
قالت: «نعم رأيتهما في القيروان، وسمعت عنهما ما يضعف الثقة بهما، فإذا أمرت بإحضار أسيرهما لنراه كان ذلك أقرب إلى التحقيق.»
فالتفتت بنت الإخشيد من وراء الستر وقالت: «أين هو ذلك الأسير.»
قال أبو حامد: «هو عندنا وإذا شاءت مولاتي أتيناها به.»
قالت: «افعل، ولك الفضل.»
فأشار أبو حامد إلى سالم أن يمضي لاستقدامه فمضى، ولبثت لمياء على مثل الجمر تتماسك وتتجلد؛ لئلا تغلبها عواطفها وهي تحب أن يكون كاذبا في قوله فيكون الأسير المزعوم رجلا آخر، لكنها ما لبثت أن سمعت ضوضاء قرب الباب وسالم يقول: «تقدم يا جبان لتراك مولاتنا بنت الإخشيد .»
فتطاولت لمياء بعنقها حتى وضعت عينها على ثقب الستر وإذا بالحسين نفسه داخل والأغلال الحديدية في عنقه ويديه لكنه مشى بقدم ثابتة والتفت إلى سالم وقال له: «متى رأيتني أحاول الفرار حتى تدعوني جبانا؟»
فالتفتت بنت الإخشيد إلى لمياء لتستطلع رأيها في الرجل فرأتها ترتعد وقد احمرت عيناها وكادت تغلب على أمرها فقالت: «هل هذا هو الحسين كما يقول؟»
فأشارت برأسها أن «نعم» ولم تفه بكلمة؛ لئلا يختنق صوتها فينفضح أمرها فاستغربت بنت الإخشيد ما بدا من اضطرابها لكنها وجهت خطابها إلى الحسين قائلة: «هل أنت الحسين بن جوهر قائد جند المعز؟»
فأجابها وهو رابط الجأش ثابت الجنان: «نعم أنا الحسين بن جوهر، فاتح أفريقية وقائد جند المعز، وسيفتح مصر عن قريب.»
فوخزه سالم بيده وقال: «اخرس يا نذل، أبمثل هذه الوقاحة تخاطب مولاتك؟»
فرفسه الحسين برجله وقال اخرس أنت إنها مولاتك أنت، ولعلها لو عرفتك تبرأت من هذه الولاية أما مولاي فهو المعز لدين الله الفاطمي.»
فتصدى أبو حامد للكلام - وهو يضحك ضحك الاستخفاف - وقال: «ألا تزال تسمي ذلك الدعي فاطميا وفاطمة بريئة من نسبه؟»
فقال الحسين: «إنه فاطمي رغم خيانتك وغدرك.»
فقالت بنت الإخشيد: «الذي أوقعك في هذا الأسر، ما كان أغناك عنه.»
قال: «وقعت فيه تفانيا في خدمة مولاي المعز، وقد فزت - والحمد لله - بما أردت فأخذت المال الذي خزنوه في فج الأخيار وبعثت به إلى القيروان وهو الآن مع والدي وقد صبوه قطعا كالأرحية حملوها معهم على الجمال ...»
قال أبو حامد: «لا تكذب!»
قال: «إنما الكاذب أنت! إني قد فعلت ما يطلب مني وأرسلت ذلك المال إلى مولاي المعز، وسيستعين به في فتح مصر، ولا يغرنك ما أتاه رجالك من الخيانة في القبض علي؛ فإن ذلك غير ضائري. قد قمت بما علي وإذا مت الساعة لا أبالي؛ فإن الأعلام الفاطمية لا تلبث أن تخفق فوق الفسطاط وإذا لم أوفق إلى رؤيتها وأنا حي فإن عظامي تراها وتفرح.»
فأعجبت بنت الإخشيد بتلك الجسارة التي لا تقدر أن تتصورها ولا سمعت بمثلها لما نشأت عليه من الخمول والرخاء، فالتفتت إلى لمياء فرأتها - مع عظم تأثرها - قد غلب البشر على محياها فقالت لها همسا: «أستغرب ما أسمعه.»
قالت: «لا تستغربي يا سيدتي؛ فإن ذلك شأن أولئك الأقوام وهم لم يفتحوا أفريقية إلا بمثل هذا التفاني.»
قالت: «ومع ما سمعته من هذا الشاب فإني شعرت بانعطاف إليه ولم يعجبني تطاول هذا السجلماسي.»
فلم تتمالك عن الانتصار لحبيبها فقالت: «فكيف لو علمت الفرق بين الرجلين بالأخلاق.»
قالت: «هل تعرفين شيئا عنهما؟»
قالت: «إن أهل القيروان يتحدثون بذلك ... أما الآن فإذا شئت فمري أن يكون هذا الأسير في دارك ولينصرف ذانك وتري ما يأتي به الغد.»
قالت: «أحسنت الرأي وقد أصبحت لا أطيق أن أرى الحسين مغلولا.» وصفقت فأتى بعض غلمانها فقالت: «خذ هذا الأسير إلى غرفة يقيم فيها حتى ننظر في أمره لكن احلل وثاقه؛ إذ لا خوف من فراره.»
فتناوله الغلام بيده وخرج فوقع هذا العمل من لمياء موقعا جميلا وكاد قلبها يطير من الفرح. ولحظت بنت الإخشيد ذلك فيها فظنتها فعلته لشعور مثل شعورها فعذرتها والتفتت إلى أبي حامد وقالت: «سننظر في ما عرضته علينا وسأقص ما رأيته على قوادنا فعسى أن ينفعنا ذلك.» ففهم أبو حامد أنها تطلب انصرافهما فنهض وخرج مع سالم وقد سقط في أيديهما وإن لم يفهما ما جال في خاطرها.
الفصل السابع والستون
الرأي
ونهضت بنت الإخشيد للحال وهي تتثاءب وتقول: «ما أشغل هذا اليوم وما أثقله؛ فقد تعبت من المفاوضات، إن هذا لا يستطيعه إلا كبار الرجال وقد أخطأنا بتولية هذه الإمارة غلاما صغيرا.»
فنهضت لمياء معها والشمس قد غربت وأخذت الظلال تتكاثف وتتحول إلى ظلام؛ وأصبحت تود الاختلاء بنفسها للتفكير في ما تراكم في ذهنها من الحقائق الجديدة وما أصاب قلبها من الصدمات المتوالية فرأت بنت الإخشيد تحولت إلى غرفتها وأشارت إليها أن تتبعها فأطاعت وقد أدهشتها تلك الغرفة بما فيها من الرياش الثمين وفي صدرها سرير من الأبنوس المنزل بالعاج والذهب فوقه ناموسية من الحرير الشفاف (الملس) وكل ما في الغرفة زاه زاهر عكس قلب صاحبته المسكينة، فإنها تحولت من تلك الجلسة وقد تراكمت عليها الهموم والمخاوف ولم تكن تشعر بشيء من ذلك قبلا. وأصبحت شديدة التعلق بلمياء ولا سيما بعدما آنسته من تعلقها والخدمة النافعة التي عرضتها عليها فأحبت أن تتوثق منها.
فجلست على سريرها وأمرت لمياء أن تقعد بجانبها فقعدت، وهي تفضل الخلوة لكنها أطاعتها ولحظت ما هي فيه من القلق فاشتركت معها في إحساسها وشعرت أنها امتلكت قلبها، ظلتا هنيهة صامتتين وبنت الإخشيد مطرقة ويمناها على كتف لمياء واليسرى على قلبها كأنها تتقي صدعا أصابه. ثم تنهدت ونظرت إلى حولها لتتحقق خلو المكان من الناس ثم التفتت إلى لمياء وضمتها إلى صدرها وقبلتها في عنقها وأطالت تقبيلها فشعرت بسائل حار يقع على عنقها فأجفلت وعلمت أن بنت الإخشيد تبكي وهي تحبس نفسها لئلا تلحظ لمياء ضعفها. فتلطفت لمياء ورفعت رأسها وضمتها وهي تقول: «ما بالك يا سيدتي؟ خففي عنك ... إني لا أرى باعثا على ذلك ... ومن كان في ما أنت فيه من الوجاهة والنفوذ لا يستغني عن أمثال هذه المشاكل.»
فرفعت رأسها وتنهدت ثانية وقالت: «لا تعجبي من إبداء ضعفي بين يديك في أول يوم عرفتك فيه فإني أشعر كأني أعرفك منذ أعوام. وقد اطلعت على حالنا الليلة فأشيري علي ... أشيري يا حبيبتي.»
فسرت لمياء من وثوق تلك المرأة بها وأحست فعلا بالعطف عليها، واستغربت انقلابها بهذه السرعة عما كانت عليه من الزهو والتيه لما قابلتها في ذلك الصباح. وشاركتها بالبكاء وليس أسهل عليها من إرسال الدمع فإن مصائبها تترى وإحساسها حي فقالت: «هوني عليك يا مولاتي إني لا أرى باعثا على هذه الشكوى. وقلت لك ما أقدر أن أخدمك به وقد فتح لنا باب جديد بوجود الحسين بن جوهر أسيرا في قصرك وتحت رعايتك ولا ينفعك أن تثقليه بالقيود والأغلال؛ فإن ذلك لا يؤذيه. ولا أقول لك أطلقيه؛ فإن في ذلك خيانة لبلدك. ولكنني أقول لك لاطفيه وأحسني وفادته فإذا قدر النصر لجند مصر كان الحسين هذا من جملة أسرى الحرب. وإذا فاز القيروانيون وانهزم المصريون عرف الحسين فضلك وسعى في صيانتك وحفظ كرامتك.»
فدهشت بنت الإخشيد لهذا الرأي الذي لا يقبل التعديل فقالت: «بورك فيك ... ولعلك علمت أني غضبت لهذا الشاب من تلقاء نفسي وساءني ما أتاه ذلك السجلماسي من الفظاظة في معاملته وشعرت بما علمته منك بعد ذلك من التباين في أخلاقهما فأنا ميالة إلى محاسنة الحسين وسأفعل ...»
فأطرقت لمياء لحظة ثم قالت: «وعندي رأي أظنك توافقينني عليه أعني أننا إذا صارت حالنا إلى الخطر استكتبناه كتابا إلى أبيه في الوصاية بك وبمن في دارك.»
فأظهرت امتنانها ونهضت تظهر رغبتها في الانصراف، فأحست بنت الإخشيد أنها أتعبتها في ذلك اليوم فنهضت وودعتها بقبلة وقالت: «اذهبي إلى فراشك يا عزيزتي واستريحي فقد أتعبتك في هذا اليوم.»
فودعتها وانصرفت إلى غرفتها وقد امتلأ صدرها بالفوز وأصبح همها أن تنقل ما شاهدته من فساد أحوال الدولة والجند إلى يعقوب حتى ينقله إلى معسكر جوهر بالإسكندرية فلبثت تتربص الفرص.
أما الحسين فإنه كان قد ذهب إلى فج الأخيار في شرذمة من الفرسان وتمكن من استخراج الأموال وإرسالها إلى القيروان، ثم غافله حفاظ ذلك المخبأ واستفردوه فعقروا فرسه وبعد معركة جاهد فيها جهاد الأبطال تكاثروا عليه حتى سقط فشدوا وثاقه ووضعوا الأغلال في يديه ورجليه وعنقه وبعثوا به إلى أبي حامد بمصر ولم يخبروه أنه تمكن من حمل المال قبل القبض عليه. أو لعلهم أخبروه وتجاهل. وثم وصل الحسين بأغلاله ومصر في تلك الحال فرأى أبو حامد أن يتخذه تتمة لمساعيهم فحمله إلى بنت الإخشيد كما رأيت لكنه أحس قبل خروجه من حضرتها أنه لم ينجح بتلك الحركة، ولكنه تجاهل بين يدي سالم، وأوهمه أنهما نائلان ما يريدان عن قريب وأن الجند القيرواني سيعود بالفشل. وكان يحسب التوفيق بين الأجناد أسهل مما رآه على أثر ذلك النزاع في مجلس بنت الإخشيد.
أما الحسين فشعر أنه سيق إلى ذلك القصر لحسن حظه. وفاتحة الفرج حل أغلاله فبات تلك الليلة مرتاحا وفى صباح اليوم التالي أتوه بثياب نظيفة وفرشوا له غرفة خاصة ووقفوا خادما للقيام بما يحتاج إليه من طعام وشراب كل ذلك باسم السيدة بنت الإخشيد. فلم يكن ينقصه شيء غير الخروج من ذلك القصر، فهذا كان محظورا عليه فكان يقضي أوقاته مفكرا في ما مر به ولم تبرح صورة لمياء من ذهنه. ولم يكن يعرف إلى أين ذهبت وكلما تصور معاملة سالم وأبي حامد له يغضب ويتوعد. وكان وهو في أثناء الطريق قد علم بحملة أبيه على مصر ونزوله الإسكندرية وسمع وهو في قصر بنت الإخشيد أن بعض المصريين خابروه بشأن الصلح والتسليم وود لو أنه مطلق ليشترك في المعارك. وبقدر ما كان من نقمته على أبي حامد وسالم بقدر ذلك وأكثر منه كان امتنانه من بنت الإخشيد لإكرامها إياه بلا سبب يعلمه.
وبعد أيام جاء رسول يدعوه إلى مقابلة بنت الإخشيد في قاعتها فلبس ثيابه وصعد فأدخله الحاجب إلى تلك القاعة ونادى السيدة من وراء الستر قائلا: «هذا يا سيدتي الحسين بن جوهر في حضرتك وها أني خارج وقد تركته وحده كما أمرت.»
فتقدم الحسين وألقى التحية، فردت السلام وقالت: «كيف ترى نفسك يا حسين.»
قال: «أراني مقيدا.»
قالت: «ألم تحل قيودك؟»
قال: «بلى وهذا فضل لا أنساه لك وقد فعلت ما هو أليق بالكرام ولكنني لا أزال أراني مقيدا ... إني كالحبيس في هذا القصر.»
قالت: «لا ألومك لضجرك من هذا الحبس ولكن لو كنت في مكاننا هل كنت تفعل غير ذلك؟ إن أباك حامل علينا بخيله ورجله ووقع لنا ابنه وبلغنا أنك من خير القواد فهل نطلقك لتكون عونا لعدونا علينا ألا يكفي أننا حللنا قيودك وأطلقنا لك الحرية وقمنا بما تحتاج إليه من أسباب الراحة ...»
فأعجب بتلك الحجة الدامغة وقال: «لا أنكر فضلك يا مولاتي والحق يقال إنني لا أنسى هذا الجميل ... والدنيا دول ...»
فقالت: «عسى أن تنتهي هذه الحرب بالمصالحة ونجتمع على مودة، وقد بعثت إليك الآن لأطمئن على راحتك فإذا كنت ترى تقصيرا في ما تحتاج إليه؛ فأخبرنا.»
قال: «كلا، إني لا أرى تقصيرا قط.»
قالت: «تقدم قليلا لأقول لك كلمة.»
فتقدم حتى دنا من الستر فقالت له: «سأرسل إليك بعد قليل جارية من قبلي اسمها سلامة تطلب منك أمرا فاقضه لها ... وقد لا أحتاج إلى إرسالها فاذهب بسلام.»
فتراجع حتى فتح الباب فلقيه الحراس فرافقوه إلى محبسه باحترام وإكرام وقد شغل باله ما اقترحته عليه وكان ذلك بتدبير لمياء لزيادة طمأنته حتى إذا احتاجوا إلى كتاب توصية لا يكون ثم مانع من الإجابة حالا.
الفصل الثامن والستون
الحرب
قضت لمياء أياما وهي عالمة بقرب الحبيب وقدرتها على الوصول إليه لكنها لم ترض أن تلقاه؛ لأنها عاهدت نفسها على الصبر حتى تفرغ الحرب، وهي تخاف من الجهة الأخرى إذا عرف الحسين بوجودها هناك أن يحدث ما يعرقل مساعيها فتجلدت وهي تبحث طبعا عن راحته وكرامته. ومع شجاعتها ورغبتها أن يشترك الحسين في ذلك الفخر كانت نفسها تميل في باطن سرها إلى صيانته من خطر الحرب. وكانت على ثقة من قدرة جند المعز على الفتح بدون الحسين فلماذا تعرضه للسهام؟ وقد يجيئه سهم يصيب منه مقتلا وهي حريصة على بقائه. وفي ذلك من التعقل والحكمة والتسلط على العواطف ما هو جدير بعروس روايتنا.
لكن الفرصة لم تبطئ فأفاقت ذات يوم على أصوات المنادين في أسواق الفسطاط، وكانوا لا يفعلون ذلك إلا لأمر هام يريدون نشره سريعا مما يعلن عنه في الصحف أو تنشر به المنشورات الرسمية في هذه الأيام. فكانت حكومة ذلك العصر تذيعه على أيدي المنادين. فسمعت لمياء صوت المنادي وله لحن خاص ينادي به وعبارات خاصة ينادي بها تدل على فحوى ما بعده كما يقرأ الكتاب من عنوانه.
سمعته يقول: «يا أهل الفسطاط قد جاءنا عدو من أفريقية يتعدى على بلادنا بلا ذنب اقترفناه سوى طمعه في الاستيلاء علينا. وبلغ مولانا الأمير أن بعض الخونة المارقين أغرى جماعة من الأعيان على التسليم، وكتبوا بذلك كتابا بعثوا به إلى الإسكندرية. فاعلموا أن هذه الخديعة إنما الغرض منها الإيقاع بالدولة. واعلموا أن الأمير - أعزه الله - وسائر رجال الدولة والقواد الإخشيدية والكافورية والأتراك وغيرهم لا يقبلون بصلح أو تسليم وإنما يتحاكمون إلى السيف، ولذلك اقتضى الإعلان حتى يكون الناس على بينة فلا يخدعون بقول ولا يصغون لوشاية. وهذه جنودنا المظفرة قد خرجوا بمضاربهم إلى بر الجيزة لملاقاة العدو إذ قد جاءت الأنباء أنهم يتقدمون إلى هناك. فيا أهل الفسطاط عليكم أن تأخذوا بأيدي الجند وتقدموا ما في طاقتكم من الإسعافات المالية. تقدمونها إلى من يأتيكم من قبل الوزير أو الأمير ولا تضنوا بالمال فإنه أقل ما يبذل في سبيل الدفاع عن الدولة والملة. والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء وهو على كل شيء قدير ...»
فأطلت لمياء من نافذة عالية تشرف على الشارع فرأت ذلك المنادي يسير ووراءه الجماهير من الرجال والأولاد وقد علت الضوضاء وساد الاضطراب، فقالت في نفسها: «لا بد أن يكون لذلك اللعين أبي حامد دخل في جمع قلوب الجند على الدفاع، ولكنه باطل والقلوب متنافرة والنيات فاسدة والضغائن متبادلة.»
وهي في ذلك أتتها القهرمانة تدعوها إلى بنت الإخشيد، فأسرعت، فرأتها جالسة على شرفة من ذلك القصر تطل على النيل وما وراءه إلى الجيزة فابتدرت لمياء قائلة: «يظهر أن ذلك السجلماسي قد أفلح في جمع قلوب الأجناد ... انظري كيف يعدون النيل في القوارب إلى الجيزة وهذا الجسر بين الفسطاط والروضة يكاد ينكسر من تزاحم الأقدام عليه ولا بد أن يكون الجسر الآخر بين الروضة والجيزة كذلك أيضا. وهذه الجسور مصنوعة من السفن متلازمة جنبا لجنب وفوقها سقايف من الخشب وطبقة من الرمال والحصى يتوهم غير العارف أنها ضعيفة وهي متينة ... هل ترين معسكر الأعداء؟ إني لا أراه.»
وكانت لمياء في أثناء ذلك تبحث ببصرها عن ذلك المعسكر ولم تفرغ السيدة من كلامها حتى ظفرت لمياء بمكانه فصاحت: «انظري يا سيدتي إلى ذلك الغبار المخيم إلى اليمين والأعلام تخفق في خلاله وقد نصبت الخيام والفساطيط . هل ترينها؟»
فقالت وقد امتقع لونها: «نعم قد رأيت، ويظهر أنهم جند كثيف ... ما العمل الآن؟ ماذا ترين هل تظنين جندنا يغلب؟»
قالت: «أما سمعت قول المنادي إن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء؟»
قالت: «ما العمل الآن؟»
قالت: «أما نحن هنا فلا خوف علينا - كما قلت لك قبلا.»
قالت: «هل أخذت الكتاب من الحسين.»
قالت: «هذا وقته. هل تأذنين لي بتدبير ذلك.»
قالت: «افعلي ولكن من يوصله إلى القائد جوهر؟»
قالت: «أنا أوصله كوني في راحة وإنما أحتاج إلى ثوب أتنكر به بزي الرجال فأمري لي بذلك وبفرس أركبه.»
قالت: «وهل تستطيعين ركوب الخيل؟»
قالت: «نعم ... وقد تعودتها منذ صباي.»
فأمرت لها بما طلبته فلبست ثوب أحد الأجناد وتلثمت ونزلت إلى الحسين وقلبها يخفق من هول تلك المقابلة لكنها صممت على التكتم.
وكان الحسين قد سمع المناداة كما سمعها غيره وأصبح كالأسد الهائج إذا رأى الفريسة وهو مقيد. وقد قعد على سريره منفردا وإذا بذلك الجندي قد دخل عليه فقال: «من أنت وماذا تريد؟»
فخفضت لمياء صوتها واجتهدت في تغييره وقالت: «أنا سلامة الجارية أتيت لأطلب إليك ما وعدت به مولاتي بنت الإخشيد.»
فقال: «وما ذلك.»
قالت: «أن تكتب كتابا إلى والدك تقول فيه إذا قدر له النصر ودخل الفسطاط ظافرا أن يأمر رجاله بحماية هذا القصر جزاء لما لقيته من رعاية أصحابه. هل تفعل؟»
قال: «نعم ... إن لصاحبته فضلا علي لا أنساه ...» قال ذلك وتناول قرطاسا وكتب عليه بخطه رسالة في هذا المعنى، ودفعها إلى لمياء فتناولتها وأسرعت في الذهاب خوفا من أن تغلب على أمرها ويتسلط قلبها على عقلها.
وركبت جوادها وخرجت تخترق الصفوف تطلب منزل مسلم بن عبيد الله، وهي تراقب ما تراه من أحوال الناس في أثناء تلك الغوغاء. فرأت تلك الحماسة مقصورة على الأجناد وأنهم قد اتخذوا ذلك النداء ذريعة لابتزاز الأموال. والمصريون لا يريدون حربا؛ لأنهم ملوا استبداد هذه الدولة ومالوا إلى استبدالها بدولة أخرى قد تكون أكثر استبدادا منها، لكنهم يحبون الجديد. فرأت بعض الأجناد يسوقون جماعة من أعيان التجار ويضربونهم ويهينونهم؛ لأنهم لم يؤدوا الإعانة والناس يصيحون ويستغيثون ويشكون فراغ جيوبهم. ثم أجفلت لسماعها صوتا كصوت سالم، فالتفتت فرأته ومعه عمه في جماعة من القواد سائرين على أفراسهم نحو الروضة وهم يحرضون الناس على الطاعة وسمعت سالما يقول لبعض الأغنياء من الأهلين رآه يستغيث من تطاول الجند عليه في طلب المال «أخرجوا الأموال؛ فإن هذا الجند يدافع عن أرواحكم وأموالكم ألا تسعفونهم بالمال على الأقل؟»
فعلمت أن لهذين الرجلين دخلا في جمع كلمة الجند ونكث الصلح.
وبعد قليل وصلت إلى بيت الشريف مسلم فرأت بابه مزدحما بالناس بين راكب وواقف وأكثرهم من الأهلين جاءوا يتظلمون أو يستظلون وسمعت نقمتهم على الأجناد وغضبهم لنقض الصلح. فاخترقت الصفوف حتى وصلت الباب فوسعوا لها رغم إرادتهم وهم يحسبونها جنديا جاء بمصادرة أو اغتصاب حتى دخلت الباب وطلبت أن ترى الشريف فقيل لها إنه في شاغل فقالت: «قد جئت في رسالة مستعجلة.»
الفصل التاسع والستون
الرسالة
فوسعوا لها حتى دخلت عليه بعد أن ترجلت وسلمت الجواد إلى بعض خدمه. وكان مسلم مختليا في غرفته مع بعض الأعيان والتجار وقد علت أصواتهم من النقمة على نقض الصلح. فلما قيل لهم جاء أحد الأجناد سكتوا، فدخلت لمياء بلثامها وأشارت إلى مسلم أنها تريد مقابلته على حدة. فدخل معها إلى غرفة فأوصدت الباب وراءها ثم أزاحت اللثام فدهش لرؤيتها وقال: «ما وراءك؟ من أين أتيت؟»
فقصت عليه خبرها كما هو وأخبرته عن وجود الحسين في القصر بمأمن، وأنها احتالت في المجيء إليه بحجة تلك الرسالة وإنما غرضها أن تبلغ القائد جوهر حال الدولة من الاختلال والضعف حتى لا يغتر بهذا الصياح.
فأعجب الشريف بحميتها وبسالتها وقال: «لله درك من فتاة صادقة باسلة هل تريدين الذهاب إلى القائد بنفسك؟»
قالت: «نعم ... لأني أستطيع بذلك أن أزيده بيانا شفاهيا.»
قال: «تفعلين حسنا، وسيفرح بلقياك؛ لأنك تنقلين إليه خبر الحسين وأنه حي آمن وقد سمع بوقوعه في الأسر ولا يدري أين هو.»
قالت: «أين المعلم يعقوب؟»
قال: «ألم تسمعي بما أصابه؟»
قالت: «كلا ... ماذا جرى له؟»
قال: «إن الوزير ابن الفرات صادره على أربعة آلاف وخمسمائة دينار عرف بوجودها عنده وأراد قتله فالتجأ إلي مدة ثم فر إلى معسكر القائد جوهر
1
وقد حملته ما استطعت من الأخبار والملاحظات ولكن رسالتك أعظم أهمية عنده؛ لأنك استقيت الخبر من مظانه ... اركبي، وسأرسل معك بعض رجالي ... ليس خوفا عليك، ولكنك لا تعرفين الطريق فيدلونك عليها.»
فقبلت ذلك منه وخرجت، فامتطت فرسها وركب معها بضعة من رجال الشريف وساروا يطلبون معسكر القائد جوهر من ورائه، فقطعوا جسرا على النيل أسفل الفسطاط والشمس قد مالت عن خط الهاجرة فوصلوا المعسكر قبيل الغروب، وكان رفاقها قد عرفوا فسطاط جوهر فساروا توا لا يعترضهم معترض.
وكان جوهر جالسا في فسطاطه وقد أوقدت الشموع، واجتمع قواده حوله وهم جلوس وجوهر مطرق يفكر في ضياع ابنه الحسين، وكان قد سمع من الذين حملوا إليه الأموال من فج الأخيار أنه تخلف عنهم ولعله قتل أو وقع أسيرا. وهم في ذلك دخل الحاجب وقال: «إن بالباب رسولا من الفسطاط يشترط أن يلقى القائد في خلوة.» فأشار إلى الحضور بالانصراف وأمر بإدخال الرسول فدخلت لمياء بثوبها ولثامها وأزاحت اللثام وأكبت على يده تقبلها فلم يتمالك عن النداء «لمياء، لمياء!»
فأشارت بأصبعها على شفتها أن يكتم أمرها فضمها إلى صدره كأنها ابنته - وهو يحبها كما يحب الحسين - لكنه تذكر الحسين فانقبضت نفسه وكادت الدموع تترقرق في عينيه، فقالت: «جئتك يا سيدي ببشرى مزدوجة.»
قال: «ما هي ... قولي.»
قالت: «الأولى أن سيدي الحسين في أمان ولو عرفني عندما حملني رسالته هذه إليك لكلفني بإلقاء التحية، ولكني اضطررت للتستر. والثانية أن عدوكم الذي يحاربكم وتسمعون صياحه ونداءه كالقصبة المرصوصة أو كالطبل، صوته قوي وقلبه فارغ.»
قال: «ماذا أرى أنت لمياء جئت بهاتين البشارتين وأهمهما وجود الحسين حيا بعد أن يئست من وجوده، ولكن أين هو، وكيف عرفت ذلك؟ أخبريني.»
فجلست وقصت عليه ما رأته وقاسته منذ برحت القيروان إلى أن أخذت تلك الرسالة من الحسين ودفعتها إليه فقرأها وقال: «سأفعل ذلك حبا وكرامة، وأين ذلك الخائن وعمه؟» فتنهدت وقالت: «رأيتهما مع الجند يحرضانهم على الحرب وسينالان الجزاء ... كيف فارقت مولانا المعز وأم الأمراء؟»
فهز رأسه هز الإعجاب وقال: «إن مولانا المعز - أعزه الله - وأتم نصره من معجزات الزمان ...»
قالت: «ومن أكبر أسباب سعادته أنك قائده.»
قال: «كلا يا لمياء إني لو سفكت دمي عند قدميه لا أكافئه على صنيعه ... أنت تعلمين منزلتي عنده ولكنني لو أخبرتك ما فعله يوم خروجي من القيروان بهذه الحملة لرأيت عجبا؛ إنه أمر بإفراغ الذهب في هيئة الأرحية وأن تحمل معي ظاهرة. وأمر أولاده وإخوته الأمراء وولي العهد وسائر أهل الدولة أن يمشوا في خدمتي وأنا راكب. وكتب إلى سائر عماله يأمرهم إذا أنا قدمت أن يترجلوا مشاة. فكنت حيثما سرت في طريقي من القيروان كل من مررت به فعل ذلك. فلما أتيت برقة عظم على صاحبها أن يفعل ذلك فافتدى ترجله ومشيه في ركابي بخمسين ألف دينار ذهبا فأبيت إلا أن يفعل ما أمر به أمير المؤمنين ففعل
2
أمثل هذا الخليفة يكثر فيه الافتداء بالروح؟»
قالت: «صدقت والله إنه نابغة الخلفاء. وهل أنسى أنا ما أكرمني به حتى كان يناديني ابنته. وهل مثل هذا الخليفة يكون نصيبه من حربه غير النصر؟ وهل تصلح الدولة إن لم يكن رجالها قلبا واحدا في طاعة أميرهم؟ أين ذلك من جنود مصر ودولتهم؛ فقد سمعتهم يختصمون على أمور تافهة ورأيتهم يضربون الناس لاستخراج المال منهم، وهذا أمير المؤمنين قد بعث المال معك بشكل الأرحية. لا شك أن الله أذن بانقضاء دولة الإخشيديين ... هل ترى أن أعود إلى الفسطاط. وما هي العلامة التي تجعلها على دار بنت الإخشيد حتى لا يقربها أحد بسوء؟»
فضحك وقال: «كأنك واثقة من دخولنا ظافرين؟»
قالت: «لا شك عندي في ذلك.»
فربت على كتفها بيده وقال: «بارك الله فيك انصبوا بباب القصر علما أخضر وسأوصي الجند أن يتجنبوا ذلك الباب.»
قالت: «أتأذن بانصرافي ...»
قال: «تبيتين الليلة هنا ونرى ما يكون في الغد ولا باعث إلى العجلة في الذهاب.»
فأطاعت. أما أهل الفسطاط فقد رأيت ما كان من اضطرابهم وما سامهم الجند من الخسف والإهانة والسلب حتى أصبحوا يفضلون الفاطميين عليهم، وأما بنت الإخشيد فإنها مكثت بعد ذهاب لمياء وقد تولتها الدهشة؛ لما شاهدته من مروءة هذه الفتاة وبسالتها. ولبثت تنتظر رجوعها، وقضت أكثر أوقاتها في الشرفة المطلة على الجيزة؛ لتراقب حركات الجنديين وقلما كانت ترى شيئا منهما لبعدهما عن مجال البصر لكنها كانت تتلاهى بذلك ووجهت عنايتها خصوصا للحسين وأمرت بإكرامه ورعايته.
الفصل السبعون
العلم
وكان الحسين بعد ذهاب لمياء قد أحس بشيء أذكره حبيبته فلم تعد تذهب صورتها من ذهنه وهو لا يدري السبب الذي بعث على ذلك. ولكن السبب أن صوتها وهي تخاطبه لم يخل من غنة تعود قلبه أن يطرب لها يوم اجتماعه بها فطرب لها الآن وهو لا يعلم أن مخاطبته خطيبته - وكثيرا ما يحدث ذلك والناس لا ينتبهون له - قد يخطر لك أمر يتردد في ذهنك وأنت لا ترى باعثا على تذكره. وإنما تذكرته؛ لأنك رأيت أو سمعت شيئا تعودت أن تراه أو تسمعه مرافقا لذلك الأمر.
قضى الحسين ليلته وهو يفكر في لمياء وأين هي، وتذكر قولها يوم وداعه أنها ستلاقيه في الفسطاط وتصور تحمسها ووثوقها بالظفر من ذلك الحين. فاختلج قلبه وأحس بشوق إلى رؤيتها أو معرفة خبرها ولم يكن نسيها من قبل لكنه تذكرها على الخصوص في ذلك اليوم.
مضت أيام ولم ترجع لمياء بالجواب من جوهر فقلقت بنت الإخشيد وهي في كل يوم يترجح عندها النصر للفاطميين فأصبحت تخاف على حياتها وإنما طمأنها كون الحسين بن جوهر أسيرا عندها تحتمي به عند الحاجة ولما اشتد قلقها بعثت إليه فجاءها فسألته عما يراه من أمر تلك الحرب.
فقال: «لا ريب عندي بفوز جندنا يا سيدتي.»
قالت: «عجبا ... كيف تؤكد ذلك؟»
قال: «لأننا متحدون قلبا وقالبا في خدمة أمير المؤمنين نساء ورجالا ليس فينا إلا من يفدي أمير المؤمنين بروحه فهل أنتم كذلك؟»
فقالت وقد غلبت على عواطفها «لا يا بني ... لسنا كذلك لسوء الحظ ...» وغصت بريقها.
قال: أما نحن فإن أحدنا لا هم له إلا التفاني في نصرة الخليفة. أضرب لك مثلا عن ذلك فتاة خطبتها في القيروان وجاء ذكر الحملة على مصر فأبت أن يتم الاقتران إلا في الفسطاط بعد فتحها. ثم هي هجرت بيتها وسافرت في خدمة مصلحة الدولة تمهيدا لهذا النصر لا يعلم أحد أين هي. ولا أنسى قولها ساعة الوداع: «سنلتقي في الفسطاط في قصر مولاي المعز لدين الله على ضفاف النيل. ذلك هو مقدار وثوقها بالنصر والجند لم يتحرك من القيروان. واعترف لك يا سيدتي أني أعتقد صحة قولها وإن ذلك لا بد من إتمامه.»
فاستغربت بنت الإخشيد قوله وقالت: «لله درها من فتاة نادرة المثال وأين هي الآن؟ وكيف قلبك عليها؟»
قال: «قلبي على مثل الجمر ولكنني أثق أننا سنلتقي هنا.»
قالت: «يظهر أن نساء بلادكم أقوى من نساء بلادنا وأشد حماسة؛ فإني عرفت جارية مغربية أهداها إلي يعقوب بن كلس بالأمس لم تر عيني أعقل منها ولا أطيب من قلبها، وهي مع ذلك شجاعة باسلة لا تبالي بارتكاب الأخطار وقد قالت إنها تعرفك وتعرف أباك والخليفة وتعرف أيضا الأميرين السجلماسيين اللذين حملاك إلينا أسيرا.»
قال: «ما اسمها.»
قالت: «سلامة ...»
قال: «هي التي أتتني متنكرة بثوب جندي وأخذت الكتاب إلى والدي.»
قالت: «نعم هي بعينها لله درها ... إني لم أعهد مثل هذه الحماسة والبسالة في النساء حتى قلت لها مرة: ليست هذه الأخلاق من أخلاق الجواري.»
فرأى الحسين مشابهة بين أخلاق لمياء وما سمعه عن سلامة وتذكر خروج لمياء من القيروان لخدمة المعز ... فأطرق وهو يقول في نفسه: «هل يمكن أن تكون سلامة هي لمياء متنكرة؟»
واستبطأت بنت الإخشيد جوابه ورأت إطراقه فتصورت أنها جددت ذكرى خطيبته وهو بعيد عنها فلم ترد أن تشغله عن تأملاته فحولت بصرها نحو النافذة المطلة على النيل والجيزة وراءه فرأت الروضة تعج عجيجا بالناس وفيهم الفرسان بالرماح والسيوف والمشاة بالحراب في غير زي المصريين وقد تطايرت السهام وأبرقت السيوف فصاحت: «ويلاه هذه هي الحرب ... قد دخل العدو بلدنا.»
فالتفت الحسين إلى الروضة وأجال نظره في تلك الجهات فقال: «قضي الأمر يا مولاتي هذا جندنا يقطع الجسر وهذه أعلامنا ولا يلبث أن يدخل الجند الفسطاط ظافرا ... لكن كوني مطمئنة أني أفديكم بدمي ها أني نازل لأقف بالباب وأمنع رجالنا من دخوله طمئني أهل القصر جميعا.» قال ذلك وأسرع نحو الباب الخارجي الكبير وكان مقفلا وقد أوصدوه. فرأى جنديا مغربيا يتسلقه وخدم القصر يستغيثون به ويتقدمون إليه أن لا يفعل؛ لأنهم لا يحاربون وهو لا يبالي، فصاح فيه الحسين: «أنزل يا رجل إن الذي يخاطبك هو الحسين بن جوهر.»
فلم يكترث الجندي لقوله بل ظل في عمله حتى وصل إلى عتبة الباب العليا فاستخرج من جيبه علما أخضر نصبه فوقها، وتحول إلى الداخل، وأشار إلى أهل القصر أن يتركوا الباب مقفلا. فنظر الحسين في وجهه فرآه ملثما فقال له: «من أنت يا رجل؟ لماذا لم تجبني.»
فأومأ إليه بوضع السبابة على شفته: «أن اسكت الآن.» ودخل مسرعا فتذكر الحسين الجارية سلامة كيف تركته متنكرة بثوب جندي مصري وما خامره من الشك فيها عند سماع خبرها من بنت الإخشيد. فأصبح شديد الميل إلى تحقيق ذلك، فلحق بها ولم ينتبه له أحد من أهل القصر؛ لاشتغالهم بالحذر والخوف وبما قام من الضوضاء في المدينة بين عويل وصياح.
ودخول ذلك الجندي المغربي أرعبهم لكنهم ما لبثوا أن رأوه ينصب الراية الخضراء حتى اطمئنوا ولكن الذين رأوه داخلا يعدو ولم يروا الراية؛ ذعروا.
أما الحسين فما زال مسرعا حتى دخل القاعة وطلب إلى الحاجب أن يدعو له السيدة بنت الإخشيد، فناداها فأتت ولم ترسل الستر بينها وبينه وإنما اكتفت بالنقاب وحالما وقع نظره عليها استغرب ما عليها من الأثواب الثمينة والحلي وهو يسمع بما عليه أهل مصر من الضنك. أما هي فحالما رأته صاحت: «ماذا جرى؟»
قال: «كل شيء في أمان وهذا علم والدي قد نصب فوق الباب وهو علامة الأمان فلا يجسر أحد أن يمس هذه الدار بسوء، كوني في اطمئنان.»
قالت: «ومن غرسه هناك.»
قال: «جندي مغربي أظنه نفس الجندي الذي حمل رسالتي إلى والدي وقد أسرعت لأراه ...»
قال: «أتظن سلامة رجعت؟ أين هي ...» وصفقت فأتت القهرمانة وهي تلهث من الخوف فضحكت بنت الإخشيد من منظرها وقالت لها: «ما بالك يا خالة لماذا تلهثين؟»
قالت وهي تقطع صوتها: «إن الأعداء دخلوا ... الفسطاط ... و... و... دخل رجل منهم هذه الدار ...»
قالت: «لا تخافي إن هذا الجندي جاءنا بعلم الأمان من قائد جند المغاربة. كوني مطمئنة لا بأس علينا. وهذا الحسين بن ذلك القائد ... أين سلامة الجارية.»
قالت: «لم أعد أراها منذ أيام.»
قالت: «ابحثي عنها في غرفتها الآن وادعيها إلينا حالا.»
وقعدت وأشارت إلى الحسين أن يقعد فقعد وعيناه شائعتان نحو الباب ينتظر وصول تلك الجارية ولحظت بنت الإخشيد قلقه فقالت: «ما لي أراك قلقا كأنك تنتظر أن تأتيك سلامة بكتاب من والدك؟»
قال: «كلا، فإن هذا العلم يكفي جوابا ... ولكنني أتوقع أن تكون سلامة هذه غير ما تتوهمينها.»
قالت: «وكيف ذلك؟»
قال: «تمهلي ريثما نرى.»
وإذ بالقهرمانة عادت وهي تقول: «لم أجد سلامة هناك ولكنني رأيت جنديا فخفت ورجعت.»
فنهض الحسين وقال: «أين هو ذلك الجندي؟ أوصليني إليه.»
الفصل الحادي والسبعون
النصر
فمشت القهرمانة وبنت الإخشيد والحسين حتى وصلوا الغرفة، فوجدوا ذلك الجندي واقفا إلى النافذة يراقب حركات المتحاربين لا ينتبه إلى أحد في الدار فمشى الحسين بخفة حتى وقف وراءه بحيث يرى ما يراه. فرأى المغاربة تكاثروا والإخشيدية يفرون من أمامهم إلى المدينة وقد تراكم القتلى منهم على الجسر وتجاوزهم بعض المغاربة على خيولهم وظهر الفوز واضحا لهم فصاح (الجندي): «الحمد لله قد كتب النصر لنا.» والتفت فوجد الحسين وراءه فبغت ووقف لا يبدي حراكا فصاح فيه الحسين قائلا: «من أنت.»
فلم يجب وإنما أشار إلى ثوبه أنه جندي فقال: «أنا الحسين بن جوهر فانزع هذا اللثام عن وجهك.»
فأطرق ولم يجب. فقالت بنت الإخشيد: «هذه سلامة حبيبتنا ... اكشفي وجهك للحسين يا بنية؛ إنه حامي ذمارنا.»
فلم تجب فتقدمت بنت الإخشيد ورفعت اللثام بيدها فأرادت لمياء تحويل وجهها حتى لا يراها الحسين فرآها وعرفها وصاح «لمياء ...» وأمسك بيدها وأدارها نحوه ليتحقق ظنه وهي تحول وجهها عنه حياء، فدهشت بنت الإخشيد لما رأته وتذكرت ما قاله عن خطيبته، فعلمت أنها هي نفسها، فتقدمت وساعدت الحسين عليها وأمسكت بيدها الأخرى وقالت: «أنت لمياء خطيبة هذا البطل وتزعمين أنك جارية؟ تكلمي ...»
فالتفتت إلى الحسين لفتة تعودها منها، فأثرت في قلبه تأثير السهم وقال: «تكلمي ما بالك؟»
فقالت وعيناها تلمعان: «قد تعاهدنا أن نلتقي هنا بعد فتح مصر ... فهل فتحت؟»
قال: «أوشكت أن تفتح ...»
قالت: «اصبر لا تفرح قبل تمام النصر ... أنت هنا منذ أيام وأنا عالمة بذلك ولم أشأ أن أطلعك على وجودي؛ لئلا نشتغل بالقلوب عن السيوف، ولا أزال على ذلك حتى الآن. إن خدمة المعز مقدمة على كل شيء فإذا فرغنا منها وفتحنا البلد استقر لنا الأمر فإني أمتك أترامى عند قدميك.»
قالت ذلك وغصت بريقها وأبرقت عيناها وبان الهيام فيهما واسترخت عزائمها ... والحسين ينظر إليها نظر الإعجاب والخجل وقال: «أبيت يا لمياء إلا أن تكوني السابقة إلى الفضل في خدمة أمير المؤمنين إني متفان في خدمته ولكنني دهشت لرؤيتك هنا وأنا أعهد مقرك منذ افترقنا بالقيروان، الحمد لله على هذا اللقاء.»
فنظرت إليه نظرة عتاب وقالت: «وذانك الرجلان اللذان ساقاك إلينا في القيود والأغلال ... إني لا أعد النصر واقعا وهذان الرجلان في قيد الحياة ... وأنا في شوق إلى سماع ما جرى لك في أثناء هذا الغياب، وأنت مشتاق إلى حديثي فإذا تم النصر كما نريده نتحادث كثيرا.»
فلما تذكر أبا حامد وسالما هاج الدم في عروقه فقال: «أين هما؟»
قالت: «سأخبرك عن ذلك بعد قليل.»
والتفتت بنت الإخشيد إلى لمياء وقالت لها: «سنتركك هنا تبدلين ثيابك.»
قالت: «كلا يا سيدتي لا أريد أن أغير شيئا قبل الفراغ من هذا العمل. وهل ترين منظرا أجمل مما أرى هنا ... ليس في الدنيا ألذ من النصر في ساحة الحرب ... لا صبر لي عن هذا المنظر هيا بنا إلى المعركة.»
قالت ذلك وأسرعت فتبعها الحسين، وهو يقول: «المعركة ... لست أشد مني غيرة على الدولة ولكنك شغلتني ...» ونزلا فركب كل منهما فرسه وتسلحا وبنت الإخشيد ترى وتعجب. فلما خرجا قالت في نفسها «إن قوما أنصارهم مثل هذين أحر بهم أن يفتحوا العالم.»
ولم يسيرا إلا قليلا حتى رأيا رجلا من أتباع الشريف مسلم حاملا علما أبيض يؤمن الناس فنادته لمياء فوقف فقالت: «من أرسلك بهذا العلم، وكيف الحال؟»
قال: «لما غلب الإخشيدية وقتل منهم خلق كثير ارتدوا إلى مصر وأخذوا من دورهم ما قدروا عليه وانهزموا فخرج حرمهم مشاة إلى الشريف أبي جعفر وكلفنه أن يكاتب القائد جوهرا بإعادة الأمان. فكتب إليه يهنئه بالفتح ويسأله إعادة الأمان، وهذا جوابه معي يؤمنهم وهذا العلم الأبيض شاهد على ذلك. فاطمأن الناس وخرج الأشراف والعلماء ووجهاء البلد بموكب حافل يتقدمه الوزير ابن الفرات وجماعة الأعيان إلى الجيزة لملاقاة القائد عند دخوله الفسطاط ولا يلبثون أن يعودوا به. ألم تسمع المنادي ينادي بذلك؟»
فالتفتت لمياء إلى الحسين وقالت: «قد تم النصر والحمد لله ... فلا حاجة إلى الخروج بل ننتظر وصول الموكب.»
ونحو العصر (17 شعبان سنة 358ه) أقبل الموكب حتى دخلوا الفسطاط وعليهم السلاح والعدة، فدخل جوهر وطبوله وبنوده بين يديه، وعليه ثوب ديباج مثقل وتحته فرس أصفر
1
فرافقوا الموكب حتى شق البلد ونزل في مكان أناخ فيه جوهر جماله وبنيت فيه القاهرة بعد ذلك.
فالتفت الحسين إلى لمياء يستشيرها فيما ينبغي أن يفعلا، فقالت: «هلم بنا إلى مقر ذينك اللعينين في الفندق أظنهما هناك.»
فتبعها وساقا الجوادين وقد قاربت الشمس الغروب حتى أتيا الفندق فلما رآهما صاحبه رحب بهما خوفا منهما وإن كان المنادون قد نادوا بالأمان ، ثم وقع نظره على لمياء فعرفها ورآها بلباس جند المغاربة فاستأنس بها وتقدم إليها وهو يقول: «هذا صديقنا الصقلبي!»
فضحكت له وقالت: «إننا في حاجة إلى تلك الغرفة الآن.»
قال: «قد دخلها الرجلان في هذه الساعة.»
الفصل الثاني والسبعون
أبو حامد وسالم
فالتفتت إلى الحسين وقالت: «قد تم سعدنا» وساقا الجوادين إلى داخل الفندق حتى صارا في وسطه وترجلا وأسرعا إلى الغرفة فطرقا بابها فسمعا لغطا ولم يفتح الباب فاستل كل منهما خنجره وصاح الحسين: «افتح.»
فأجابهما أبو حامد من الداخل «لن أفتح لكما ... ليس خوفا على حياتي، ولكنني لا أريد أن أموت بيد أحدكما ... ولا ينبغي أن أبقى حيا بعد هذا الفشل. وأخاف أن يجبن هذا الغلام فيستعطف ويتذلل وأنا أعرف ضعفه وجبنه. فأنا الآن قابض على عنقه وها أني أطعنه في قلبه ... قد طعنته فمات وهذه طعنة في قلبي وهذا الباب قد فتحته لكما فاستلما جثتين بلا روح.»
ثم سمعا وقوع الجثة وفتح الباب فوجدا الرجلين يختبطان بدمهما فغطت لمياء عينيها حتى لا ترى ذلك المنظر الرهيب ولا تريد أن ترى سالما حبيبها الأول في تلك الحالة رغم ما رأت منه أو سمعت عنه. وتحولت إلى فرسها وهي تقول للحسين: «هلم بنا إلى المعسكر لنرى قائدنا العزيز. فقد قضي الأمر وتم النصر.»
فتبعها وهو يقول: «كنت أود أن أقتلهما بيدي.»
قالت: «قتلهما الفشل.»
وهما خارجان اعترضهما صاحب الفندق وهو يبكي ويقول: «قتلتما الرجلين ... وذهبتما ... الآن يقبضون علي ويتهمونني بقتلهما ... بالله لا تذهبا.»
فتقدمت لمياء إليه وقالت: «قتلا بأمر القائد جوهر ... وهذا هو الحسين بن جوهر القائد، لا تخف.»
فأكب على ركاب الحسين يقبله ويقول: «اعذرني يا سيدي على جسارتي ... والله إن هذا الصقلبي رجل طيب ... مع السلامة يا سيدي مع السلامة.»
وانصرفا حتى أتيا المعسكر وقد أظلم الليل ولكن الأنوار كانت تسطع في تلك الأنحاء وقد أقبل المصريون زرافات ووحدانا على جوهر يهنئونه بالنصر وعرفا فسطاطه من كبره وكثرة من حوله من الحجاب فما زالا حتى وقفا بالباب واستأذنا بالدخول. فلما قيل لجوهر إن الحسين يستأذن عليك نهض له وضمه إلى صدره وقبله فقبل الحسين يده. ثم تقدمت لمياء بثوب الجند فقبلت يد القائد فدعاها إلى الجلوس هي من جانب والحسين من الجانب الآخر. وكان في جملة الحضور هناك أبو جعفر مسلم بن عبيد الله الشريف، فعرفهم إليه، فرحب بهما وهنأهما بالنصر، وإذا بصوت خرج من جوانب الخيمة يقول: «ويعقوب؟» فعلمت لمياء أنه صوت يعقوب بن كلس فالتفتت إلى جوهر وقالت: «لا أقدر أن أصف لك الفضل الذي أولاني إياه الشريف أبو جعفر والمعلم يعقوب فإننا مدينون لهما بكثير من أسباب هذا النصر وبحياتي أيضا ولولاهما لكنت الآن في عالم الأموات.»
فقال الحسين: «فالفضل إذن علي أنا.»
وبعد قليل انصرف المهنئون وبقي جوهر ومسلم ويعقوب والحسين ولمياء، وكان اجتماعهم لذيذا على أثر ما عانوه من التعب حتى كتب لهم النصر، فقص كل منهم ما عاناه في أثناء الغياب والتفت جوهر إلى لمياء وقال: «قد صحت نبوءتك يا بنية، فالتقينا في الفسطاط بعد فتحها ألم يئن العقد عليك.»
فقالت: «الحمد لله على ذلك لكن العقد اشترطت فيه أن يكون في قصر مولاي المعز لدين الله على ضفاف النيل ...»
قال: «ألم تصر الفسطاط كلها قصرا له.»
قالت: «بلى، لكنني أريد قصره الخصوصي.»
فضحك جوهر وقال: «إنك تريدين أن يؤجل الاقتران حتى يحضره المعز بنفسه فإنك أهل لذلك ... وفي الغد نبدأ ببناء القصور لمولانا وبعد قليل يأتي إلى مدينته ويعقد لكما بيديه المباركة.»
وأخذ جوهر في اليوم التالي في بناء القاهرة ثم بنى القصور وبعث إلى المعز بأخبار الفتح فانتقل المعز إلى مدينته وأقام بها وتوارثها أعقابه بعده على ما هو مدون في كتب التاريخ. وكان أول عمل عمله أنه عقد للحسين على لمياء باحتفال لم يسمع بمثله. (تمت الرواية)
अज्ञात पृष्ठ