فمد يده إلى الخرج واستخرج الخوذة وقال: «إذا كنت لا تعلمين الذي ألبسته هذه الخوذة بيدك فمن العبث أن أخبرك عنه.»
فخفق قلب هند وعلا وجهها الاحمرار وقالت: «نعم نعرفه فقل أنت ما اسمه.» قال: «اسمه حماد يا سيدتي.» فأبرقت اسرة الفتاة أي إبراق ولولا حجاب التعقل والرزانة لرقصت طربا لذكره ولكنها أمسكت نفسها فاكتفى الرجل بما قرأه في عينيها من آيات البشر فشاركها في ذلك وانتظر جوابها.
فقالت له: «صدقت هو حماد فأين هو الآن.»
قال: «هو في خلوة لا يجسر على القدوم إلى هذه الديار لأسباب لا يجهلها عامة غسان فضلا عن خاصتهم.»
فقالت سعدى: «قل لنا إذن من أنت فإني لا أظنك راهبا.» فرفع القلنسوة عن رأسه وقال: «لا أظنكما تعرفانني ولكنني أعرفكما بنفسي فإني عبدكما سلمان خادم سيدي الأمير حماد.»
فاستأنستا به كثيرا وأخذت هند تسأله عن حال حماد وما مر به فقص عليها الخبر منذ خروجهما فرار من غسان إلى أن نجوا من الأسد وسارا إلى عمان وعادا منها إلى أن قال: «وقد جئت متنكرا بهذا اللباس وتركت سيدي حمادا في بعض القرى في قلق شديد على والده وفي شوق ولهفة لمولاتي.» (وأشار إلى هند).
فقالت سعدى: «ألم يبلغكما خبر سيدك الأمير عبد الله بعد.»
قال(وقد حملق عينيه ومال بكليته لاستماع خبره): «كلا يا سيدتي فما هو خبره.»
قالت: «قد علمنا أن الإمبراطور هرقل عفا عنه وأمر بصرفه مصحوبا بكتاب الأمان.» فانبسط وجه سلمان عند سماعه الخبر وود لو يكون طيرا فيسرع إلى حماد يبشره بذلك ولكنه استشار سعدى في الأمر فقالت: «أرى أن تسرع إلى مولاك بالخبر وطمئنه عن هند وقل له أن والدتها تهديك السلام ولكن احذر أن يعلم احد في الأرض انك جئت هذا المكان أو نطقت بهذا الكلام فليبحث هو عن والده وستتصل الأخبار بيننا عند الحاجة على مقتضى الأحوال وليكن هو مطمئن البال والأيام بيننا.» وكانت هند تسمع كلام والدتها فلا تبدي ملاحظة ولم تكتف بهذه المواعيد البعيدة بل كانت تود أن تضرب أجلا للقاء ولكن الحشمة أمسكتها عن الكلام. أما سلمان فسر كثيرا لما آنسه في سعدى من الرضاء عن حماد ولكنه رأى قولها مختصرا مقتضبا لا يشفى غليلا على انه اقتنع بما لقيه وما سمعه فلبس قلنسوته وودعهما وخرج إلى فرسه وسار قاصدا حمادا. أما سعدى فلما تحققت بقاء حماد حيا ورأت هندا قد انتعشت قواها وزال امتقاع لونها الذي كان السبب الأول في تحريك حنوها حتى سايرتها في ما دار بينهما بشأن حماد مع ما كانت تظنه من موته أو انقطاع خبره فلما تحققت بقاؤه تمثل لها الأمر مجسما وندمت على ما فرط منها من مجاراة هند بشأن حبها حمادا على غموض حسبه مع ما تخشاه من إيقاظ الفتنة بين زوجها والحارث إذا منعت ثعلبة من ابنتها ثم تذكرت غدر ثعلبة وكره هند له فصوبت ردها طلبه ولكنها أحست بصعوبة ذلك فلبثت برهة صامتة تفكر في الأمر وهند تتأمل في ملامح وجهها وتنتظر ما يبدو منها فلما طال سكوتها توسمت فيها التردد فانقبضت نفسها وعادت هواجسها إليها فتركت والدتها وسارت إلى غرفتها وألقت نفسها على السرير حزينة لتراجع في ذهنها حكاية سلمان وما قالت والدتها له فلم تر في قولها ما يشفى غليلا فأحست أن والدتها إنما كانت تسايرها ظاهرا فعظم عليها الأمر.
وفيما هند في ذلك جاءت والدتها وكانت لا تزال منقبضة النفس فرأت الدموع تتلألأ في عيني ابنتها فهاج حنوها ونسيت هواجسها ودنت منها وهي تبتسم وأخفت ما في نفسها وهند تنظر إلى وجهها لعلها تستطلع شيئا جديدا فلما رأتها تبتسم اطمأن بالها ولكنها أدركت أنها إنما فعلت ذلك حنوا فعمدت إلى إثارة شفقتها إلتماسا لمساعدتها فتظاهرت بالغضب دلالا وتيها وأطرقت هنيهة لا تتكلم.
अज्ञात पृष्ठ