قال: «كلا يا سيدي ولكنهم أوثقوه وساقوه إلى بصرى ولا بد من أن يقصوا أثرك للقبض عليك وهذا ما حمل سيدي على تحذيرك فنحن ذاهبون إلى جهات عمان نقيم فيها متنكرين شهرا ثم يقضي الله بما يشاء.»
فانقبضت نفس حماد عند ذلك وكادت تخنقه العبرات وعلم أن الذين قبضوا على والده هم ثعلبة ورجاله فحدثته نفسه أن يثنى عنان جواده إلى بصرى وقد كبر عليه الفرار ولكنه أطاع والده وسار مع سلمان صامتا يفكر في حاله مع هند وكيف ساقه الحب إلى هذه العاقبة فبعد أن مشيا مدة صامتين قال حماد: «أتعرف هذه الطرق يا سلمان.»
قال: «نعم يا سيدي أعرفها جيدا فقد طرقتها مرارا مع سيدي والدك منذ بضعة أعوام.» وكان سلمان شابا في الثلاثين من عمره رافق عبد الله في أكثر أسفاره حتى حنكته التجارب وعلمته الأيام وكان نبيها فطنا يستهلك في خدمة مولاه وكان عبد الله يركن إليه في مهماته ويثق به في معظم أعماله فلما تحقق وقوعه في الأسر عهد إليه العناية بحماد وهو يؤمل أن يتخلص من أسره فيجتمع به فأمره أن يسير به إلى عمان وهي مدينة قديمة واقعة على نحو ستين ميلا من بصرى جنوبا مع انحراف نحو العرب كانت تسمى في عصر الإسرائيليين (ربان عمون) وكانت عاصمة العمونيين الذين تضافروا هم الموابيون وأخرجوا سكان شرقي البحر الميت والأردن واحتلوا مكانهم ولهذه المدينة ذكر كثير في التوراة وقد تخربت مرارا حتى بناها بطليموس فيلاذلفوس ملك الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد وسماها فيلاذلفيا ثم صارت في أوائل الميلاد أسقفية ذات أهمية كبرى يقيم بها أسقف تحت إدارة أسقف بصرى الأكبر فيها كثير من الأبنية الرومانية كالقلاع والهياكل والكنائس.
وما زال حماد وسلمان يسيران زميلا حتى انتصف الليل وبعدا عن بصرى كثيرا فوقفا وقد تعبا وتعب الجوادان وطلع القمر وكان في ربعه الأخير فأرسل أشعته على تلك السهول والجبال والأرض خالية لا أثر للآدميين فيها ولكنها مكسوة بالغابات وأكثرها من شجر الزيتون والجوز فسارا حثيثا وحماد غارق في بحار التأمل تتقاذفه الهواجس وقلبه يخفق تارة حنوا لهند وطورا خوفا على والده فإذا تصور ثعلبة إتقدت نيران الانتقام في جسمه وود لو يلقاه ليقطعه إربا إربا ولكنه كظم ما في نفسه وعاد إلى الحديث مع سلمان والجوادان يجريان على الرمل لا يسمع لحوافرهما صوت والجو هادئ وضوء القمر ضعيف. فقال حماد: «أخبرني يا سلمان كيف فعل هؤلاء الطغام بوالدي وبالمنزل.»
قال: «كنا في غفلة ومولاي في قلق لغيابك من الصباح وهو لا يدري إلى أين سرت فلما غابت الشمس ولم تأت أزداد قلقه فهم بالركوب للتفتيش عنك وفيما نحن في ذلك وقد أسرجت جوادي لأرافقه إذ سمعنا صهيل الخيول ووقع حوافرها وتقاطر الرجال عشرات فأحاطوا بالمنزل فسألناهم عن الخبر فقالوا: «أين الأمير حماد» وأغلظوا بالمقال فسألنا عن أمرهم فلم يجيبونا إلا بالشتم والسباب فأجبناهم بمثل مقالهم فهموا بسلاحهم وخيلهم وقبضوا على سيدي الأمير بعد أن دافع دفاعا حسنا وكان أعزل فأوثقوه وسقطوا على المنزل فنهبوه فاغتنمت فرصة اشتغالهم بالنهب ودنوت من سيدي فأوصاني أن أقتفي أثرك وأحذرك من المجيء كما أخبرتك ولولا التقادير لقبضوا علي ولكنني بحمد الله تمكنت من الفرار وجئت إليك.»
فقال: «وهل أخذوا متاعنا وأموالنا.»
قال: «أنت تعلم يا سيدي أن المثمنات من الذهب والفضة مكنوزة في مكان لا يعرفه أحد سوانا ولكنهم أخذوا ما عثروا عليه من الأثاث.»
فتذكر حماد الدرع فقال: «وهل أخذوا الدرع التي جئت بها الأمس.»
قال: «كلا فإنها في هذا الخرج على فرسي وقد حفظها الله صدفة لوجودها في هذا الخرج.»
فسر حماد لبقاء الدرع لأنها تذكار من حبيبته هند.
अज्ञात पृष्ठ