فلم يكد يقع نظر حماد عليه حتى هاب منظره ولو لم ير في يده صليبا كبيرا لخيل له أنه من مردة الجان ولكنه أدرك لأول وهلة أن الرجل ناسك من نساك تلك الأيام انقطع عن العالم وأوى إلى الكهوف التماسا للعبادة وكان قد سمع بكرامة هؤلاء وصدق نظرهم في عواقب الأمور فلاح له أن يخاطبه في ما هو فيه ويستشيره في أمره لعله يخفف شيئا من قلقه فتقدم نحوه باحترام وهم بتقبيل الصليب في يده فأدناه من فمه فقبله ثم خاطب الناسك قائلا: «ألعلك ناسك مقيم في هذا المكان» فأجابه الناسك يحني الرأس أن نعم فقال: «هل تأذن لي بمحادثة أبثك فيها بعض ما في ضميري على سبيل الاعتراف فتشير علي بما يوحي به إليك الروح القدس».
فأجاب الناسك بالإشارة أنه لا يستطيع التكلم الآن لأن من شروط نسكه أن يصمت أسبوعا وينطق أسبوعا وان آخر أسبوع الصمت ينتهي الليلة فإذا جاء في الغد خاطبه. وكان التنسك شائعا في تلك الأيام والنساك أنواع منهم من ينذر الصمت طول الحياة أو بضعها ومنهم من ينذر العري أو الجوع أو السهر أياما ومنهم من ينذر المعيشة على عشب الأرض وهؤلاء فئة كبيرة كانت بين النهرين سموا «النساك الرعاة» فيقيمون في المغر والكهوف المظلمة.
وكان ناسك حوران هذا ممن نذر الصمت أسبوعا فسر حماد بتأجيل المقابلة خوفا من البقاء هناك تلك الليلة ثم لا يعرف طريقه في عودته لشدة الظلام. فقال له: «إلا آتي إليك معي بطعام أو نحوه من بصرى» فأجاب (لا) لأنه من النساك الرعاة الذين يعيشون على عشب الأرض.
فقال له: «ولكني أرى الأرض هنا مجدبة لا عشب فيها».
فأشار الناسك بيده إلى مكان وراء ذلك الجبل فيه مرعى.
فسأله عن سبب رميه بالحجارة وهو صاعد. فأجابه لعلمه أنه لا يستطيع مخاطبته قبل انقضاء أسبوع الصمت.
فقال حماد: «وأين الطريق إلى دير بحيراء» فدله على طريق سهل غير الذي جاء منه فودعه وقبل الصليب وعاد وجواده وراءه حتى وصل إلى الطريق فركب وسار قاصدا الدير فرأى عبد الله وسلمان ينتظرانه في الغرفة وقد قلقوا لغيابه على غير موعد فقال له عبد الله: «لقد شغلت بالنا بغيابك على غير انتظار».
فلم يشأ حماد اطلاعهم على ما اتفق له في ذلك اليوم رغبة منه في كتمانه ريثما يسمع كلام الناسك فيطلعهم على الحكاية كلها.
فقال لهم: «خرجت على فرسي فسرت ببقاع لم أكن أعرفها فأخطأت الطريق في رجوعي فطال بي المسير».
فقال عبد الله: «وما الذي حملك على الركوب منفردا». فكبر عليه الإقرار بقلقه وتهيبه من الأمر فقال: «خرجت لترويح النفس».
अज्ञात पृष्ठ