حبُّكَ كَلَفًا ولا بغضك تلفًا (١).
قوله: كلفًا -بفتح الكاف واللام- هو العشق، وقد تقدَّم أنه مجاوزة حدِّ المحبَّة؛ وأما الكَلِف -بكسر اللام- فهو مَنْ قام به الكَلَف. وقوله: ولا بغضك تلفًا، أي: مفضيًا بكَ إلى تلف من أبغضته.
وقال الشاعر: [مجزوء الرجز]
حبُّ التناهي غَلَطْ ... خَيرُ الأمورِ الوَسَطْ
لأنَّ ما يخرج عن الوسط خرج عن الاعتدال، ولذلك جعل الله هذه الأمة وسطًا عدولًا غير مائلة إلى طرف من الأطراف، كالأمم قبلها، فإنَّ منها من مال إلى طرف الِإفراط، ومنها من مال إلى طرف التفريط.
قلت: وقوله: "أحبب" ليس المراد به حقيقة الأمر بالحب بل المراد به الأمر بمعاملة من يحبه معاملة من لا يُفرِط في محبته ولا يفرِّط، وذلك يفهم من قرينة عقلية وهي أن الحب اختياري ابتداءًا ضطراري انتهاءً كما تقدَّم، وإذا كان كذلك وأحبَّ الشخص حبيبًا كيف يتأتى له أن يجعل حبه غير مفرط، وقد ثبت أنه غير داخل تحت اختياره فكيف يسوغ أمره بعدم جعله مُفْرِطًا، هذا وليس الأمر في الحديث للندب حتى نقول برأي مَنْ يرى التكليف بالمُحَال، فتعيَّن أن يكون قوله: "أحبب" من المجاز المرسل وعلاقته هنا السببية لأنَّ الحب سبب لمعاملة المحبوب، ويكون المعنى:
عامل حبيبكَ معاملة مَنْ لا يخرج عن حدِّ المحبَّة ولا تعامله معاملة مَنْ يخرج عن حدّها بحيث تطلعه على عُجَرك وبُجَرك وسرائرك وضمائرك
_________
(١) رواه البخاري في الأدب المفرد ح ١٣٢٢، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، ط. البشائر الِإسلامية.
1 / 46