جلاء هرقل عن سورية
بينما كان سعد بن أبي وقاص يهزم الفرس بالقادسية، ثم يقتحم العراق إلى المدائن، وينشئ البصرة والكوفة، وينظم الحكم في البلاد، كان أبو عبيدة بن الجراح وزملاؤه بالشام يتقدمون فيه ويفتحون مدنه ويجلون الروم عنه، وما كان لهم ألا يفعلوا بعد أن هزموا تذارق باليرموك، وفتحوا دمشق، وقضوا على قوات هرقل بفحل، وأخضعوا ما حولها من أرض طبرية وبيسان، ذلك أن طبرية واليرموك وفحل ودمشق تقع كلها على مقربة من تخوم الشام إلى ناحية البادية، وللروم من الحصون والمعاقل المنيعة في داخلية البلاد ما يهدد الغزاة إذ لم يفضوها على حماتها، فليتقدموا إلى هذه المعاقل، وليفتحوا بلادا عزم أبو بكر ثم عزم عمر على فتحها.
وكانت خطة الفتح بالشام تختلف عن خطته بالعراق، كانت إمارة الجند بالعراق موحدة منذ تولاها خالد بن الوليد في عهد أبي بكر، وظلت كذلك من بعده حتى عهد بها عمر إلى سعد بن أبي وقاص، أما الشام فأنت تذكر أن أبا بكر بعث إليه أربعة جيوش عين لكل منها منطقة، وجعل على كل منها أميرا له تصريف القتال في منطقته، فإذا اجتمعت فأبو عبيدة بن الجراح أميرها، وكان عمرو بن العاص هو الأمير على القوات التي أرسلت إلى فلسطين.
وقد اجتمعت هذه الجيوش على اليرموك حين عجز كل منها منفردا عن مواجهة الروم، وضاق أبو بكر ذرعا بمقامها على اليرموك دون قتال، فبعث خالد بن الوليد من العراق إليها وجعله أميرا عليها، فلما قبض أبو بكر وتولى عمر عزل خالدا ورد الإمارة إلى أبي عبيدة، وأبلغ أبو عبيدة خالدا هذا الأمر بعد اليرموك في رواية، وبعد دمشق في رواية، وخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان في قوة على دمشق بعد فتحها، وسار ومعه خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وسائر القواد والجند، فهزم الروم بفحل، واستولت قواته على بيسان وطبرية وصالحوا أهلها. عند ذلك كتب إليه عمر أن يغزو حمص، فسار بقواته شمالا نحو دمشق ومعه خالد بن الوليد، وترك عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة بالأردن ليفتحوا فلسطين، فكان عمرو هو أمير قوات الحرب فيها مع بقاء أبي عبيدة أميرا على الجند كله.
والآن فلنتابع أبا عبيدة في مسيرته بالشام لنعود من بعد فنساير ابن العاص حتى يبلغ بيت المقدس، فيقيم على حصارها حتى يعقد عمر الصلح مع أهلها، وليس يدعونا للبدء بمسايرة أبي عبيدة أنه الأمير الأول، وإنما يدعونا لذلك أنه سيعود هو وخالد بن الوليد ليكونا مع عمر على أبواب مدينة المسجد الأقصى، فمن الخير أن تكون رقعة الفتح بالشام كله مجلوة أمامنا في ذلك اليوم المشهود، يوم سار الفاروق مع بطريق إيلياء
1
خلال المدينة المقدسة ليضع القواعد لمسجد الصخرة، فيربط في بقعة واحدة من الأرض بين الأديان الثلاثة السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام.
كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة يأمره بغزو خمص، فسار في قواته ومعه خالد بن الوليد في طريق دمشق يريد غايته، فلما بلغ عاصمة الشام أمر هاشم بن عتبة ففصل في قوات العراق مددا لسعد بن أبي وقاص فيما كان مقبلا عليه من غزو الفرس بالقادسية، وسار أبو عبيدة يريد حمص، فاتصل بالقوة التي وقفت ردءا لدمشق من شمالها بإمرة ذي الكلاع الحميري فأمرها بالسير معه، فلما بلغ مرج الروم إلى الشمال الشرقي من دمشق لقي جيشا من الروم بعث به هرقل بإمرة توذر البطريق فوقف قبالته، وإنه لكذلك إذ أقبلت فرقة من الفرسان على رأسها شنس الرومي مددا لتوذر، لكن شنس عسكر على حدة، وتداول أبو عبيدة وخالد بن الوليد ما يصنعان، فاستقر رأيهما على أن يلقى خالد توذر، وأن يلقى أبو عبيدة شنس، ولا يشكان في أن جيشي هرقل يريدان صدهما عن التقدم إلى حمص.
وقضى كل من الرجلين ليله ينظم خطته لمواجهة عدوه، فلما تنفس الصبح كان خالد قد استقر رأيه على مصادمة توذر والقضاء عليه، ولكن ما أشد دهشته! فليس لتوذر وجيشه فيما حوله من الأرض أثر، أين ذهب؟! وكيف ذهب؟! وكيف غابت عن حيلة القائد العبقري حيلته! ولم يك إلا كلمح البصر حتى أيقن خالد أن غريمه انسحب بجنده من أول الليل يقصد دمشق، ثقة منه بأن حماتها لن يطيقوا مقاومته، وظنا منه بأن جيش المسلمين كله سيقف بإزاء شنس يقاتله، وكانت حامية دمشق أضعف بالفعل من أن تصد وحدها هذا الجيش الزاحف عليها، فلو أنه افتض المدينة وتحصن بها لما أغنى الانتصار على شنس شيئا، ولعاد أبو عبيدة وخالد جميعا لحصار عاصمة الشام من جديد، ولأضعف ذلك من عزم المسلمين وضعضع من ركنهم؛ لذلك استاذن أبا عبيدة وأسرع في كتيبة من الفرسان يلاحق توذر حتى لا يدهم يزيد بن أبي سفيان في مأمنه، وكانت الأنباء قد بلغت يزيد بمقدم توذر وجيشه، فخرج ليصدهم ولا علم له بأمر خالد وكتيبته، وأنشب يزيد القتال بعد أن غلق أبواب المدينة آملا أن يطول الأمر بينه وبين الروم حتى يأتيه المدد، وبينما توذر يهاجمه أقبل خالد في كتيبته فأخذ الروم من خلفهم، وكبر خالد وكبر الذين معه، فسمع رجال يزيد تكبيرهم فأيقنوا مقدم المدد فزاد ذلك في قوتهم، أما الروم فما لبثوا حين سمعوا التكبير وأحسوا هجمة خالد عليهم أن تداعت قواتهم واضطربت صفوفهم، فأخذهم يزيد من أمامهم، وخالد من خلفهم وأمعنوا فيهم قتلا فلم يفلت منهم إلا الشريد، وغنم المسلمون خيلهم ودوابهم وأداة حربهم وكل ما خلفوا من متاعهم، فقسمه يزيد على أصحابه وأصحاب خالد، ثم عاد إلى دمشق مجللا بفخار النصر، مطمئنا إلى أن الله منجز المسلمين وعده ما صدقوا وصبروا وآثروا الآخرة على الدنيا.
عاد خالد بعد هذه الموقعة التي قتل فيها توذر فسار إلى مرج الروم، فألفى أبا عبيدة انتصر على شنس وقتله ومزق جيشه كل ممزق، وانطلق يلاحق فلوله إلى حمص، وبلغت هذه الأنباء هرقل وبلغه أن أبا عبيدة يحاصر بعلبك، فارتحل إلى الرهاء بعد ما بعث إلى أهل حمص يعدهم المدد ويشجعهم على المقاومة، وكيف لا يقاومون والفصل شتاء وبرد حمص قارس فلا طاقة لهؤلاء العرب باحتماله والصبر عليه! ولم تطل مقاومة بعلبك، بل صالح أهلها أبا عبيدة فتركهم إلى حمص، فحاصروها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، وامتنع أهل المدينة بحصونها فلم يكونوا يخرجون لقتال المسلمين إلا في اليوم الشديد برده، وبلغ البرد بالمسلمين أشده، وطال بالروم الحصار وهم ينتظرون مدد هرقل أو جلاء المسلمين فرارا من البرد، لكن المسلمين صبروا، ومدد هرقل لم يصل، وانصرم الشتاء، فأيقن أهل حمص أن لا طاقة لهم من بعد بهؤلاء الذين لا يبرحونهم ولا يفتئون يضيقون الخناق عليهم، وإنهم ليختلفون، فيقول بعضهم بمصالحة المسلمين، ويرى بعضهم الصلح عارا دونه الموت، إذا الأرض زلزلت فتصدعت جدران المدينة وتهافتت منها دور كثيرة، فأخذ أهلها الرعب، ورأوا فيما حدث نذيرا من الله بعذاب شديد، ففزعوا إلى رؤسائهم يطلبون الصلح فلا نجاة لهم إلا به.
अज्ञात पृष्ठ