لم يغب هذان الاعتباران عن تقدير عمر، بل لعلهما لم يكونا موضع تفكيره؛ لأنهما بديهيان، ولأن عمر يوم عزم متابعة الغزو في العراق لم يكن يقصد من غزوه إلى إجلاء الفرس عنه وتركه بعد ذلك وشأنه، وإنما كان قصده أن يضم العراق وأن يضم الشام إلى هذه الوحدة العربية الممتدة من خليج عدن والمحيط الهندي وخليج فارس في الجنوب إلى أقصى الشمال من بادية الشام؛ لذلك كان طبيعيا أن يلي الظافرون بالعراق أمره، وأن يطمئنوا إلى الاستقرار به، وأن يتولوا تنظيم الحكم فيه، أفيقيمون هذا النظام على نحو ما كان الروم والفرس يصنعون في البلاد التي يفتحونها؟ أم ماذا عسى أن يكون النظام الذي يقرره عمر في البلاد المفتوحة للإمبراطورية الإسلامية الناشئة؟
لو أن أمير المؤمنين قدر لإرضاء جنده الظافر بالعراق لسار على خطة الفرس والروم ولجعل لهذا الجند كل شيء، ولما ترك لأهل البلاد إلا الفتات الذي يفيض عن هذا الجند، كما أن دهاقين الفرس لم يكونوا يتركون للفلاحين الذين يعملون في أرضهم إلا الفتات الذي يفيض عنهم، وقد غنم جنود المسلمين في القادسية والمدائن وجلولاء وغيرها من الوقائع ما لم يكونوا يحلمون بمثله، وقد رأوا من خيرات العراق في شتى أرجائه ما يغريهم بعيش نعمة وترف يستمتعون بما يشاءون منه في ظلال سيوفهم، وأنت تذكر ما قاله خالد بن الوليد لجنوده يوم انتصر بالولجة أول عهد المسلمين بغزو العراق، لقد قام يومئذ فيهم وقال لهم: «ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب! والله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه.»
وأين طعام الولجة من طعام المدائن! وأين ثراء الفرات من ثراء دجلة! وأين عظمة الحيرة وجلال الخورنق والسدير من عظمة قصر كسرى ومقر ملكه وعرشه! والمسلمون هم اليوم سادة هذا الثراء والناعمون به، وهم اليوم في أوج نصرهم، أفلا يجدر بعمر أن يرضيهم ويجعل لهم من أنعم العراق ما كان يجعله كسرى لجنوده الظافرين، وما كان يجعله قيصر لجنوده الظافرين!
إلى هذا الأمر اتجه عمر بتفكيره، وفيه جعل يشاور أصحابه، وكان أول ما دار بخاطره أن ذكر أوامر أبي بكر إلى قواده يوم وجههم إلى العراق يفتحونه، لقد كان العرب في العراق يعملون فلاحين في أرضه، ثم ينالهم القليل من خيره؛ أما وافر الخير فيذهب إلى الدهاقين الفرس الذين كانوا يسومون العرب الخسف والظلم، وقد أمر أبو بكر قواده ألا ينالوا هؤلاء الفلاحين العرب بسوء، لا يقتلون منهم أحدا ولا يأخذون منهم أسرى، ولا يسيئون إليهم في أمر يتصل بهم، وهذه السياسة كلها الحكمة لا ريب ويجب اتباعها مع فلاحي العراق جميعا، عربهم وغير العرب، ويجب أكثر من هذا أن يشعر الفرس أنفسهم، ممن لم يقاوموا الفاتحين ولم يقوموا في وجوههم أن الحكم الجديد لم ينل مصالحهم المادية بأذى، ولم يصبهم في أشخاصهم وأهليهم بسوء، يتساوى من هؤلاء من أقاموا بأرضهم، ومن فروا فزعا من القتال ثم عادوا إلى أرضهم آمنين وحسب الأمير المسلم أن يقتضيهم خراجا أو جزية لا ينوءون بأيهما، بهذا، وبإقامة العدل بين الأهلين يطمئن المحكومون ويستريحون إلى سلطان المسلمين.
على أنه يجب أن يشعروا كذلك بأن للحاكمين من القوة والبأس ما يحطم كل خيال للانتقاض يمكن أن يداعب خواطرهم باسم الإباء الذاتي أو العزة القومية، ويجب لذلك أن تكون للفاتحين مدن خاصة بهم، لا يشاركهم أحد من المحكومين في مساكنها، بل يستأثرون بها، ويجتمع جندهم فيها، ثم يكون هذا الجند على أهبة للقتال في كل وقت، بهذا يأمن المسلمون ثورة العراق بهم، ويأمنون تفكير الفرس في الثأر لأنفسهم، ويطمئنون إلى سلطانهم، وإلى أنهم قادرون في كل حين أن يحافظوا عليه عزيزا كريما.
هذه هي السياسة التي استقر عندها رأي عمر بعد مشورة أصحابه، وقد أعانت الحوادث على تنفيذها في هوادة لا تثير هواجس أهل العراق ولا هواجس الفرس، ولا تشعر المسلمين الفاتحين بأنهم حرموا مغانم الفتح ، ذلك لأن جو مدن العراق أضر بصحة الجند المسلمين، قدمت وفود الجند على عمر من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل يذكرون له الفتح والمغانم، فلما فرغ من النظر في حاجاتهم قال لهم: «والله ما هيئتكم بالهيئة التي أبدأتم
4
بها! ولقد قدمت وفود القادسية والمدائن وإنهم لكما أبدءوا فما غيركم؟» قالوا: «وخومة البلاد.» وبعث إلى سعد بالمدائن يسأله عما غير ألوان العرب، فأجابه بمثل ما قالوا، وكان حذيفة بن اليمان مقيما بالمدائن مع سعد، وكان قد كتب إلى عمر قبل مجيء الوفود إليه يقول: «إن العرب قد رقت بطونها، وجفت أعضادها وتغيرت ألوانها.» وخشي الخليفة ما يجره ذلك على المحاربين من ضعف، فكتب إلى سعد يقول له: «إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث رائدا يرتاد لهم منزلا بريا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر.» وإنما أراد عمر بهذا الكتاب أن يحقق غرضين؛ أولهما: أن يكون المكان الذي يختار لمقام هؤلاء العرب جافا كالبادية، تجري مع ذلك فيه المياه الصالحة، والثاني ألا يحول بحر أو جسر دون إرسال المدد إلى الجند المقيمين بهذا المكان إذا احتاجوا يوما إليه، وكان حذر عمر يجعله يرى البحر مركبا ذا خطر، ويرى لذلك ألا يفصل بينه وبين جنده ما يعرض المدد الذي يبعثه إليه لأي خطر.
واستقدم سعد عبد الله بن المعتم من الموصل والقعقاع بن عمرو من جلولاء، وبعثهما يرتادان المكان الصالح لمقام العرب كما وصفه أمير المؤمنين، وسأل عمر من حوله بالمدينة ممن لهم علم بمواقع العراق أيعرفون مكانا بهذه الصفة، واتفق رأي الجميع على أن موضع الكوفة على مقربة من الحيرة خير المواقع، فالكوفة كالحيرة تقع على الفرات في مكان نضارة وخضرة، وهو غير بعيد مع ذلك عن الصحراء، وسار سعد من المدائن إلى موقع الكوفة فاختار أعلى مكان منها وأمر أن يبنى المسجد عليها، وأن يترك حوله فناء فسيح قدر مرمى السهم من أوسط المسجد يكون سوقا للبيع والشراء، وأقيم المسجد وبنيت له ظلة مائتا ذراع من أساطين رخام اتخذت من قصور للأكاسرة تشبه سماؤها سماء الكنائس الرومية، وأحيط صحن المسجد بخندق لئلا يقتحمه الناس ببنيان، وبني معمار فارسي من آجر مباني الأكاسرة دارا لسعد بحيال المسجد، جعلت فيها بيوت الأموال، وسميت قصر سعد، وأقام الجند منازلهم حول فناء المسجد، فاختارت كل قبيلة مكانا نزلته وجعلت به خيامها، فلما استقر الناس كتب سعد إلى عمر يقول: «إني قد نزلت بالكوفة منزلا فيما بين الحيرة والفرات بريا وبحريا ينبت الحلفاء والنصى، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن، فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة.»
وطاب مقام الناس بالكوفة، ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم، فأستأذنوا عمر في أن يقيموا منازل من القصب تكون أكثر من الخيام ثباتا، فأذن في كتاب يقول فيه: «إن المعسكر أشد لحرمكم وأذكى لكم، وما أحب أن أخالفكم.» ولم يلبث الناس حين قرئ عليهم كتاب عمر أن ابتنوا منازلهم من القصب وأقاموا بها، ثم وقع الحريق في هذه المنازل فالتهمها، فأمسى أصحابها دون مأوى، أيعودون فيقيمون بالخيام؟ ذلك ملجأ لا غنى عنه ليقي الناس العراء، لكنهم ألفوا المنازل فلم يبق لهم على المقام بالخيام صبر؛ لذلك بعثوا إلى عمر يذكرون له خبر الحريق ويستأذنونه في البناء باللبن، فأذن لهم وقال «افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة.» وكذلك قامت منازل الكوفة وأقام الناس بها، وجعلت تنازع الحيرة مكانتها حتى نزعتها عنها، وجعلت عاصمة اللخميين أدنى إلى قرية تقوم إلى جانب هذا البلد الذي صارت في سنوات عاصمة ذات شأن في التاريخ الإسلامي.
अज्ञात पृष्ठ