وقد استعانت قريش في هذه الحرب بكل الأسلحة؛ استعانت بسلاح الدعاية فزعمت أن محمدا ساحر البيان يفرق بقوله بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، ودست عليه النضر بن الحارث يخلفه في كل مجلس ليقص على قريش نبأ فارس ودينها، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها، وأذاعت أن غلاما نصرانيا اسمه جبر هو الذي يعلم محمدا أكثر ما يأتي به، وكان محمد يكثر من الجلوس عند المروة إلى مبيعة هذا الغلام.
ثم إن قريشا اشتدت في إيذاء محمد وأصحابه؛ كانت أم جميل زوج أبي لهب تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله حيث يمر، وكان أمية بن خلف يهمزه ويلمزه كلما رآه، وكانت فتنة المستضعفين بمختلف أساليب العنف من مألوف ما يجري بمكة كل يوم.
وكان رسول الله والمسلمون الذين أقاموا معه بمكة ولم يهاجروا إلى الحبشة يلقون ما يصيبهم من ذلك كله صابرين على البأساء والضراء، فلما بلغ منهم الأذى وقاطعتهم قريش احتموا في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، فكانوا فيه يعانون الحرمان، ولا يجدون من الطعام إلا القليل يحمله إليهم من أهل مكة من أخذتهم الشفقة بهم، ولولا ذلك لهلكوا جوعا، وقد ظلوا في هذا الشعب ثلاث سنوات حسوما، لا يخرجون منه إلا في الأشهر الحرم.
وفي هذه الأشهر كان محمد ينزل إلى العرب يبلغهم رسالة ربه، فيرى بعضهم في صبره وصبر أصحابه على الأذى إيمانا بالحق الذي أوحاه الله إليه فيتبعونه.
وضاق هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية ذرعا بالصحيفة الظالمة التي قاطعت قريش بها محمدا فاتفقا مع آخرين فنزعوها من جدار الكعبة وشقوها، ولم تثر قريش لعملهم، فعاد محمد وأصحابه من الشعب، وجعل يذيع دعوته بمكة وفي القبائل التي تفد إليها في الأشهر الحرم.
وكانت قريش تزداد في حرب محمد عنفا كلما ازداد في الدعوة إلى الله إمعانا، ومات عمه أبو طالب، وماتت زوجه خديجة، فشجع ذلك قريشا على زيادة التعرض له وإيذائه، وأراد أن يستنصر ثقيفا بالطائف فردوه بشر جواب، وعرض نفسه في المواسم على القبائل وأتاها في منازلها، فلم يسمع له منها أحد.
ثم كان الإسراء، فانصرف جماعة من المسلمين عن دينهم، وازدادت قريش إيذاء لمن أقاموا على إسلامهم حتى ضاقوا بما يلقون منها ذرعا، على أن دعوة محمد كانت قد اتصلت على السنين، فتركت من الأثر ما جعل كثيرين يفكرون فيها وفي الحق الذي تنطوي عليه، وكان أهل يثرب أكثر تأثرا بها من سائر العرب؛ لذلك أسلمت طائفة منهم كانوا النواة لبيعة العقبة الأولى، وكان إسلامهم أول ما دعا رسول الله للتفكير في الهجرة إلى يثرب.
فلما استدار العام أقبل من المدينة خمسة وسبعون مسلما، ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، وهؤلاء هم الذين بايعوا بيعة العقبة الثانية أو الكبرى، بايعهم رسول الله على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، ومن يومئذ أمر أصحابه بمكة أن يلحقوا الأنصار بيثرب على أن يتركوا مكة متفرقين حتى لا تثور قريش بهم، وكان هذا مبدأ الهجرة إلى المدينة، وبدأ انتقال الإسلام إليها وانتشاره منها إلى سائر الأرجاء من شبه الجزيرة.
هذه الفترة التي انقضت بين إسلام عمر وأمر محمد أصحابه أن يلحقوا الأنصار بيثرب هي لا ريب من أدق الفترات التي مر بها رسول الله ودين الله، أفكان لعمر بن الخطاب فيها مواقف تتفق وما عرف من صراحته وبأسه وقوة شكيمته؟ لم نقف في كتب السيرة وكتب التاريخ على شيء من ذلك فيه غناء، لكن ذلك ليس معناه أن عمر في فتوة شبابه ومضاء بأسه وبالغ قوته، قد وقف من الأحداث التي مرت حينئذ برسول الله وبالمسلمين موقفا سلبيا، فهو من غير شك قد كان من أكثر المسلمين شجاعة في احتمال ما ينزل بهم وصبرا عليه، ومن أشدهم دفعا لما يستطيع دفعه من الأذى عن رسول الله وعن إخوانه المسلمين، لكنه رجل يؤمن بالنظام ويحرص أشد الحرص على اتباعه، كان ذلك شأنه في الجاهلية، فأحر به أن يكون شأنه في الإسلام، وقد كانت سياسة رسول الله في هذه الفترة التي نتحدث عنها تتجنب البأس والشدة في كل مظاهرهما، ولا تتجاوز المغفرة لمن أساء إليه، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، كان ذلك موقفه من قريش بمكة، ومن ثقيف بالطائف، ومن سائر القبائل التي دعاها إلى النور والهدى فاستكبرت وأعرضت عن دعوته. وهذه سياسته لم يكن لبأس عمر وقوته أن يظهرا معها ظهورهما يوم أسلم وقاتل المشركين حتى صلى وصلى المسلمون معه عند الكعبة.
فلما كانت الهجرة هاجر عمر إلى المدينة كما هاجر غيره من المسلمين، فترك مكة في سر من أهلها، وإن جرت رواية تنسب إلى علي بن أبي طالب بأنه قال: «ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب ، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهما واختصر عنزته
अज्ञात पृष्ठ