196

شغل عمر بكثرة الأموال التي كان عماله يبعثون بها، ورأى أن لا بد من وضع نظام لإحصائها وتوزيعها، ولم تكن هذه الأموال ما يؤديه المسلمون في شبه الجزيرة من الزكاة والصدقات، فتلك كانت توزع على الذين نزل فيهم قوله تعالى:

إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها

إلى آخر الآية، وكان الكثير من هذه الصدقات لا يرسل إلى المدينة، بل يوزع على الفقراء والمساكين من أهل القبائل والأمم التي تؤديها، فأما ما كان يرسل منها إلى المدينة، ومعظمه من الإبل والماشية، ثم يفيض بعد التوزيع عن حاجة من ورد ذكرهم في آية الصدقات، فكان يوسم بميسم خاص ويوضع على مقربة من المدينة بمكان أطلق عليه اسم الحمى، فإذا غزا المسلمون أعانوا بهذه الإبل والأموال من لا يجد دابة تحمله أو سلاحا يقاتل به، وعالوا فقراء المسلمين بما بقي منها.

فأما ما كان المسلمون يغنمونه في غزوات رسول الله من الفيء، فكان هو يوزعه بعد المعركة ولا يبقي منه شيئا، وقد سار أبو بكر سيرته وصنع صنعيه؛ فكان ما يرد من فيء العراق يوزع بين أهل المدينة، ولا يبقى منه شيء وجرى الأمر على ذلك في العهد الأول من خلافة عمر، لكن اتساع رقعة الفتح زاد في أموال الفيء، كما فتح موردا آخر أغزر مادة وأبقى؛ ذلك مورد الخراج والجزية، فقد صالح المسلمون أهل البلاد التي استولوا عليها، في العراق وفارس وفي الشام ومصر، على أن يدفعوا جزية كان متوسطها على كل رأس دينارين، وذلك فضلا عن الخراج الذي كان الزراع يدفعونه عن أرضهم؛ فينفق جانب منه على مرافقهم وعلى تنظيم الحكم فيهم، ويرسل ما بقي منه بعد ذلك إلى المدينة، وقد بلغت غزارة هذا المورد، قبل أن يتم فتح فارس وقبل أن يبدأ غزو مصر مبلغا حمل الخليفة على التفكير في إقامة نظام مالي للدولة الناشئة.

أورد المؤرخون روايات عدة في السبب الذي أدى بعمر إلى هذا التفكير، قيل: إن أبا هريرة قدم من البحرين، فسأله عمر عن الناس ثم قال: ماذا جئت به؟ قال أبو هريرة: جئت بخمسمائة ألف درهم، فدهش عمر وقال: هل تدري ماذا تقول؟ فأعاد أبو هريرة أنه جاء بخمسمائة ألف درهم، وظن عمر أن الرجل يبالغ فكرر عليه السؤال فلما سمع الجواب الأول قال له: إنك ناعس، فارجع إلى أهلك فنم، فإذا أصبحت فأتني فلما غدا عليه أبو هريرة وأكد له أنه جاء بخمسمائة ألف درهم، قال عمر للناس: إنه قدم علينا مال كثير، فإن شئتم أن نعده لكم عدا، وإن شئتم أن نكيله لكم كيلا، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إني قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدونون ديوانا يعطون الناس عليه، فدون عمر الديوان.

وقيل: إن عمر استشار الناس في تدوين الديوان، فقال له علي بن أبي طالب: «تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من مال، ولا تبقي منه شيئا.» وقال عثمان بن عفان: «أرى مالا كثيرا يسع الناس؛ وإن لم يحصوا حتى تعرف من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر.» فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: «يا أمير المؤمنين! قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا وجندوا جنودا، فدون ديوانا وجند جنودا.» فأخذ بقوله، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نساب قريش، فقال لهم: «اكتبوا الناس على منازلهم.»

وفي رواية أن عمر استشار المهاجرين والأنصار في تدوين الديوان وفرض العطاء، فأشاروا عليه به، ثم استشار مسلمة الفتح فوافقوا عليه إلا حكيم بن حزام، وكان من أشراف مكة وذوي الرأي فيها، فقد قال: «يا أمير المؤمنين، إن قريشا أهل تجارة ومتى فرضت لهم عطاء تركوا تجارتهم، فيأتي بعدك من يحبس عنهم العطاء فتكون التجارة قد خرجت من أيديهم.» وكأنما كان حكيم قد تفتحت له حجب الغيب وهو يلقي بهذا القول! فقد أغرى العطاء العرب بالكسل وأغناهم عن السعي للرزق، فلما تبدلت الأحوال ووقف اندفاع الفتح واشترك غير العرب فيه، وذلك بعد أن انتقلت العاصمة من المدينة إلى دمشق ثم إلى بغداد، انقبض العطاء الذي كان مفروضا لأهل شبه الجزيرة فلم يطق الجيل الذي نشأ في البطالة أن يعود إلى التجارة والسعي للرزق، فأمحل الحجاز وظل ممحلا إلى وقتنا الحاضر.

كيف غابت هذه النتيجة عن عمر فلم يحسب لها حسابها ولم يتخذ الحيطة لاتقائها، وبخاصة أنه نبه لها ولفت إلى آثارها؟ هذا اعتراض يبدو ظاهر الوجاهة بعد الذي انحدرت إليه شبه الجزيرة من فقر وإمحال، وكأنما كان عمر يتوسمه ويتوقعه، فهو كثيرا ما كان ينبه الناس إلى وجوب الدأب في السعي والاستكثار من الرزق، كما أنه كان شديد البرم بأولئك الذين يظهرون الإعراض عن الدنيا تعبدا وزهادة، رأى رجلا يوما يظهر النسك والتماوت، فخفقه بالدرة وقال له: «لا تمت علينا ديننا، أماتك الله!» وكان يقول للناس: «من كان له مال فليصلحه، ومن كانت له أرض فليعمرها، وإنه يوشك أن يجيء من لا يعطي إلا من أحب.» وكان يؤمن بأن على المرء أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا.

وإنما دون عمر الديوان وفرض العطاء ليفرغ العرب للجهاد في سبيل الله كيما يصبح ميدان الدعوة إلى دين الله حرا طليقا، لا يتحكم فيه الفرس والروم ولا غير الفرس والروم، ولهذا الغرض حرم في عهده قسمة الأرض في البلاد المفتوحة على الجند، حتى لا يشغلوا بالزراعة عن الجهاد، وحتى لا تجذبهم الأرض إليها فتنسيهم الرسالة الكبرى التي ألقى القدر على العرب أن ينهضوا بها، فينشروا نور الله وحكمته في أقطار العالم جميعا، وقد أعان تدوين الديوان وفرض العطاء أولئك العرب الأولين على أداء الرسالة التي ألقت الأقدار عليهم أداءها كما رأيت، وأداؤهم لها هو الذي خلد على التاريخ أسماءهم، ودون في صحفه فعالهم.

وهذا الحرص من عمر على أن ينهض العرب لينشروا لواء الإسلام، هو الذي صرفه عن توجيه أموال الخراج والجزية لإصلاح الأرض في شبه الجزيرة، بإقامة سدود كسد مأرب تحيل باديتها الممحلة مزارع ممرعة الخصب، فلو أنه فعل لقعد العرب عن الجهاد إلى ما هو أيسر مشقة وأقل تعريضا للخطر، ولما أدوا رسالة الإسلام على النحو الذي أدوها به، هذا إلى أن العرب لم يكونوا أهل زراعة وصناعة مثلما كانوا أهل حرب وتجارة، ولذلك كان فرض العطاء قمينا أن يدفعهم إلى تثميره في الناحية التي توجههم طبيعتهم إليها، ولعلهم فعلوا أو كانوا يفعلون لولا أن قامت الثورات في بلاد العرب من بعد عمر، فصرفت الناس إلى المنازعات على السياسة والملك، وقد أدت هذه المنازعات إلى انتقال العاصمة إلى الشام ثم إلى العراق، كما أدت ببلاد العرب إلى الفقر والإمحال الذي تعانيه من ذلك العهد.

अज्ञात पृष्ठ