5
حمى عمرو حرية الاعتقاد، ورسم سياسته في جباية الضرائب وفي أعمال الإصلاح وفي إقامة العدل بين الناس، وعهد إلى العمال الذين ولاهم في القيام على تنفيذها، أفكان هؤلاء الحكام من العرب، أم من المصريين، أم من غير هؤلاء وهؤلاء؟ تأبى طبيعة الفتح أن تكون إمارة جند لغير مسلم، فعهد الأمان يجعل على المسلمين حماية مصر ومن فيها؛ فطبيعي أن يتولى المسلمون إمارة القوات التي يعهد إليها في هذه الحماية، هذا إلى أن مصر لم يكن لها جيش في عهد الروم، وإنما كان حرسها الوطني جند نظام لا جند قتال، فليبق هذا الحرس كما كان في ذلك العهد، أما الجيش وإماراته وأسلحته فكانت للمسلمين دون سواهم.
وليكون هؤلاء المسلمون على أهبة دائمة للدفاع عن البلاد، لم يبح لهم أول الأمر امتلاك أرضها، بل فرضت لهم أرزاق يقتضونها لنفقتهم ونفقة عيالهم، ويظهر أنهم أقاموا على ذلك كل خلافة عمر ، فقد روى ابن عبد الحكم أن عمر لم يقطع أحدا من الناس شيئا من أرض مصر إلا ابن مستور، وكان عبدا مثل به سيده فأعتقه عليه رسول الله وبقي عيالا على الخليفة غير صالح لقتال، على أن هذا المنع لم يدم إلا ريثما اطمأن المسلمون إلى قرارهم في مصر، عند ذلك أبيح لهم أن يمتلكوا الأرض، فإذا ملكوها دفعوا عنها الخراج كسائر الناس، فلا يزاد خراجها ولا ينقص بسبب تغير مالكها وكونه مسلما أو قبطيا.
ولم تكن الأرزاق التي فرضت لجند المسلمين مقصورة على ما ينالونه من الجزية، بل كان لهم على المصريين فريضة الضيافة ثلاثة أيام، وكان لهم إلى ذلك حقوق على ما يترك من الأرض في كل قرية للمنافع العامة، يدل على ذلك خطاب ألقاه ابن العاص جاء فيه: ... وعلى الراعي حسن النظر لرعيته، فحي لكم على بركة الله إلى ريفكم فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جنتكم من عدوكم وبها مغنمكم وأنفالكم ... واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال؛ فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
كان هذا إذن شأن الجيش وإمارته وأسلحته؛ فأما المناصب المدنية فترك عمرو أكثرها لجماعة من الروم كانوا يتولونها من قبل دولتهم قبل الفتح، ثم آثروا البقاء بمصر على أن يعودوا إلى بلادهم، ورضي كثير منهم الإسلام ليكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكذلك أقر عمرو ميناس على حكم مصر السفلى حيث كان من عهد هرقل، وأقر غيره من بني جنسه على حكم بعض الأقاليم، كما أقر الروم الذين كانوا فيما دون ذلك من المناصب ولم يتركوا مصر، وإنما شغل القبط المناصب التي خلت؛ لأن أصحابها من الروم تركوا البلاد إباء منهم أن يكونوا رعية لغير دولتهم.
لم يكن لعمرو أول الفتح أن يسلك غير هذه الخطة؛ فهي بعينها الخطة التي سلكها المسلمون في العراق، والشام، وهي كانت محتومة في مصر أكثر منها في تلك البلاد، فلم يكن العرب يعرفون لغة المصريين، ولم تكن تربطهم بها آصرة الجنس العربي الذي حكم العراق والشام قرونا قبل ظهور الإسلام، هذا إلى أن تغيير النظام القائم في أمة من الأمم لا يمكن أن يتم طفرة، فلا بد من بقائه حتى يتطور على الأيام ليلائم العهد الجديد، أما وقد كان جماعة من الروم عمالا على الأقاليم حين جاء الفتح، فليبقوا كما كانوا ولينظر الفاتح العربي في أناة، فيدخل ما يحسن إدخاله على نظام الحكم من تعديل يزيد نصيب أهل البلاد من هذا الحكم، على شريطة ألا يضطرب النظام فيسيء اضطرابه إلى الحاكمين والمحكومين على سواء.
كان عمرو يكتب إلى الخليفة بما يتم في مصر ويطلعه على كل خطواته، فلما عرف عمر مكانة بنيامين من قومه كتب إلى ابن العاص أن يلتمس الرأي عند البطريق القبطي في خير الوسائل لحكم البلاد وطمأنينة أهلها، ولم يضن بنيامين بالمشورة وقد أعاد إليه عمرو كل نفوذه، وكانت مشورته أن يجبى الخراج من غلة الأرض عند فراغ الناس من زروعهم ومن عصر كرومهم، وأن تحفر خلجان مصر وتصلح جسورها وتسد ترعها كل عام، وأن يعطى العمال أرزاقهم بغير انقطاع لئلا يرتشوا، وألا يباح مطل الناس حقوقهم بغيا بغير حق، وألا يلي أمور الناس عامل ظالم، وارتاح عمرو إلى هذه المشورة فكتب إلى عماله في أرجاء البلاد، وأمرهم أن يتبعوا هذا الرأي لا يحيدون عنه، ثم اتجه بتفكيره إلى أعمال الإصلاح يزيد بها البلاد ثروة، فيزداد أهلها طمأنينة ويزداد خراجها نماء.
ولعل تفكيره في الإصلاح قد سبق مشورة بنيامين، وكان أول عمل خطير مر بخاطره أن يحفر خليج تراجان الذي يصل النيل بالبحر الأحمر، ويزيد الاتصال بين مصر وثغور شبه الجزيرة تيسيرا، وقد قلت من قبل إن الفراعنة حفروا هذا الخليج قبل عهد تراجان بألوف السنين،
6
وإنما أصلح تراجان ما فسد من أمره فأحسن حفره وتطهيره، فلما توالت على مصر غزوات الفرس والروم وفشا فيها الاضطهاد وسوء الحكم أهمل هذا الخليج فطم مجراه، فرأى عمرو أن يعيده سيرته الأولى، والظاهر أنه بادر إلى القيام بهذا العمل العظيم أول ما استقر له أمر مصر، وأنه أتمه في وقت قصير لم يبلغ عاما كاملا، مع أن طول الترعة يزيد على ستين ميلا.
अज्ञात पृष्ठ