وما لنا نسبق الحوادث فنتحدث عن مقاصد قيرس وسياسته، مع أن الحوادث ستحدد هذه السياسة تحديدا لا يبقى معه مجال للأخذ بالظن، فلندع قيرس بالإسكندرية ولنعد إلى بابليون لنتابع المسلمين في مسيرتهم إلى غايتهم.
فقد فصل عمرو بجنده من بابليون في شهر مايو من تلك السنة؛ أي حين كان الاضطراب لمقتل قسطنطين قد بلغ أشده في عاصمة الإمبراطورية الرومية، وقد آثر عمرو السير على الضفة اليسرى للنيل حيث مديرية البحيرة اليوم، حتى لا تقف الترع التي تشق جنوب الدلتا بمديرية المنوفية في طريق جيشه، وقد استطاع في أثناء مقامه ببابليون أن يستعين بالقبط الذين دخلوا في سلطانه على إصلاح الطرق وإقامة الجسور، فكان ذلك مما أعانه على سرعة السير، واستصحب عمرو في مسيرته جماعة من رؤساء القبط اصطفاهم وأحسن معاملتهم ليكونوا أداة اتصال بينه وبين من يلقاهم من أهل البلاد.
كان الاستيلاء على «نقيوس» وحصنها المنيع أول ما فكر عمرو فيه، وكانت نقيوس تقع على ضفة النهر اليمنى على فراسخ إلى الشمال من منوف، وكانت منوف في سلطان المسلمين كما قدمنا، وقد آثر الروم أن يلقوا عمرا قبل أن يبلغ نقيوس ليصدوه عن عبور النهر إليها، وأن يلقوه لذلك في أثناء مسيرته على الضفة اليسرى، فرابطوا له عند «طرنوط» أو «الطرانة» كما يسميها بعض المؤرخين، وهي تقع على النيل قبالة زاوية رزين إلى الجنوب من منوف، ولقيهم عمرو بها وأنشب القتال معهم، فلم يجد مشقة في التغلب عليهم برغم استبسالهم في القتال.
تابع عمرو مسيرته حتى كان قبالة نقيوس وحصنها المنيع، وكان أكبر ظنه أن يعتصم أهل الحصن به وأن يجعلوا النهر بينهم وبين الغزاة؛ لذلك اتجه إلى تدبير الوسيلة التي يعبر بها إليهم، وشاور الرؤساء القبط الذين ساروا معه في هذا الأمر ولم يدر بخلده أن يذر نقيوس وحصنها وراءه، وأن يتخطاها ممعنا في السير نحو العاصمة؛ فقد خشي أن تخرج مسلحة الحصن منه وأن تدهم مؤخرته فتفسد عليه خطته، ولم يكن عبور النهر في هذه الأيام من شهر مايو بالأمر العسير؛ فقد انخفض ماء النيل وركد تياره، فأصبح اجتيازه في السفن أو فوق جسر منها في متناول الجيش الفاتح.
لكن الروم فكروا في الأمر غير تفكير ابن العاص؛ فقد ألقي في روعهم أنهم إن يتركوه متابعا طريقه إلى العاصمة دون مقاومة، وبخاصة بعد أن انهزمت أمامه حامية طرنوط، فت ذلك في أعضاد الناس فأسرعوا إلى التسليم والإذعان لهؤلاء الذين لا يقاومهم أحد؛ لذا خرج أمير الحصن في جنده جميعا، فركبوا سفنا أعدت للدفاع عن المدينة، وحاولوا صد العرب دون غايتهم، ورآهم عمرو في السفن ورأى منهم من حاول الخروج للوقوف في طريقه، فأمر رجاله فرموهم بالنبل، فارتد الذين تركوا السفن إليها وحسبوها ملجأ يقيهم الالتحام بعدوهم، ولم يدعهم فرسان المسلمين يفرون، بل طاردوهم إلى الماء وجعلوا يرمون من فيه بالسهام، وخيل إلى القائد الرومي أن المسلمين سيقتحمون النهر إليه، ولعله كان قد سمع بصنيعهم حين عبروا دجلة إلى المدائن على خيولهم ودجلة في فيضه وتدفع تياره، فأمر ملاح السفينة التي كان بها فانطلقت مسرعة تولى به فرارا إلى الإسكندرية، ورأى جنده صنيعه، فوضعوا سلاحهم وألقوا بأيديهم وجعلوا النجاة من الموت غاية همهم، ولم ينلهم العرب بغيتهم، بل حصروهم وقتلوهم عن آخرهم، ثم دخلوا المدينة من غير مقاومة بعد أن خلت من المدافعين عنها.
يقول حنا النقيوسي مؤرخ ذلك العصر:
إنهم دخلوا المدينة فقتلوا كل من وجدوه في الطريق من أهلها، ولم ينج من دخل الكنائس لائذا، ولم يدعوا رجلا ولا امرأة ولا طفلا، ثم انتشروا فيما حول نقيوس من البلاد، فنهبوا فيها وقتلوا كل من وجدوه بها، فلما دخلوا مدينة «صوونا» وجدوا بها «اسكوتاوس» وعيلته، وكان يمت بالقرابة للقائد تيودور، وكان مختبئا في حائط كرم مع أهله، فوضعوا فيهم السيف فلم يبقوا على أحد منهم، ولكن يجدر بنا أن نسدل الستار على ما كان؛ فإنه لا يتيسر لنا أن نسرد كل ما كان من المسلمين من المظالم بعد أن أخذوا جزيرة نقيوس.
2
وهذه العبارة التي أوردها بتلر من كتاب حنا لا تخلو من مبالغة؛ ولذا علق عليها مترجم بتلر الأستاذ محمد فريد أبو حديد بقوله: «أغلب الظن أن هذه مبالغة من الكاتب (حنا النقيوسي) دفعته إليها غيرته وحقده على الغالبين من العرب، إذ كان من أول أصول العرب في الحرب ألا يقتلوا من استسلم، وألا يقتلوا امرأة ولا شيخا ولا طفلا، يأمرهم بذلك دينهم، ويحضهم عليه أمر خلفائهم الأولين إلى القواد والجنود.»
أقام عمرو بنقيوس يستبرئ ما حولها من الأرض ويطهرها من كل أثر للروم، وبعث شريك بن سمي على كتيبة لتعقب الروم الذين فروا من نقيوس يريدون الإسكندرية، وأدرك شريك الروم الفارين، فرأوه ومن معه قلة لا تستطيع ثباتا، فارتدوا إليهم وأحاطوا بهم، ورأى شريك كثرتهم، ورأى نهدا من الأرض قريبا منه فاعتصم به وحاربهم من فوقه لكنه أدرك منذ اللحظة الأولى أنه مخذول إذا لم يسعفه مدد، فأمر مالك بن ناعمة الصدفي، وكان صاحب فرس لا يشق في الجري غباره، فانحط من ذلك النهد على الروم فاقتحم صفوفهم، وطار عدوا إلى عمرو بنقيوس ولم يدركه أحد، وأمد عمرو شريكا لأول ما بلغه حرج موقفه، وعرف الروم مسير المدد فلاذوا بالفرار من قبل أن يلقوه، من ذلك اليوم أطلق على النهد الذي وقع القتال حوله اسم القائد العربي الذي اعتصم به، فهو يعرف إلى يومنا باسم «كوم شريك».
अज्ञात पृष्ठ