152

كان بنيامين

3

كبير أساقفة القبط بمصر إذ ذاك، وكان حبيبا للناس عزيزا عليهم، وكان رجلا ذكيا محبا للخير والفضل قاسيا على القسوس والشمامسة من أهل العناد والكبر، شديد التعصب للمذهب المسيحي الذي يؤمن المصريون به، مذهب اليعاقبة الذي يقول: «إن الطبيعة الإلهية والبشرية امتزجتا في المسيح فصارتا فيه طبيعة واحدة؛ فكان عند التجسد ذا طبيعتين، أما بعده فصار ذا طبيعة واحدة.» وهذا المذهب يخالف مذهب الملكانية الذي يقول: «إن الابن مولود من الأب قبل الدهور غير مخلوق، وهو جوهره ونوره، والابن اتحد بالإنسان المأخوذ من مريم، فصارا واحدا وهو المسيح.» فلما قدم قيرس الإسكندرية في خريف سنة 631، ليحمل أهل مصر على اعتناق المذهب الرسمي، فر بنيامين من الإسكندرية، وسار متخذا من الأديار المنتشرة بالصحراء ملجأه حتى بلغ قوص، وهناك أقام بدير صغير قريب منها قائم في الصحراء تحميه الجبال فلا يسهل الوصول إليه.

كان فرار بنيامين نذيرا أزعج القبط وأفزع أهل الدين منهم، فرأوا في دعوة قيرس إلى المذهب الجديد كفرا لا كفر بعده، ولم يغن عن قيرس تظاهره أول ما نزل مصر بأنه جاء مسالما، وأنه لا يفرض المذهب بالقوة بل يدعو إليه ويحاول الإقناع به؛ فقد تنكر له القبط اليعاقبة وتنكر له الملكانيون على سواء، ورأوا جميعا في دعوته بدعة هي الضلالة بعينها، وازداد الناس نفورا من هذه البدعة حين جاء صفرنيوس من بيت المقدس إلى مصر، وقام على رأس الملكانيين فيها، فلما جمع قيرس مجلسا دينيا بالإسكندرية ودعا أعضاءه لبحث ما يدعوهم إليه أظهر صفرنيوس أنه يحاول أن يثني قيرس عن عزمه ، بالحجة تارة وبالتوسل أخرى، ورأى قيرس نفور الشعب من دعوته وعداوته لها، فلجأ إلى البطش والتعذيب يكره الناس بهما على الدخول فيما يريدهم عليه.

لجأ قيرس إلى البطش والتعذيب، ولج في «الاضطهاد الأعظم» عشر سنوات حسوما، وكان التعذيب وحشيا لم يعرف عصر من العصور مثله، عذب أخو الأسقف بنيامين بأن أوقدت له المشاعل وسلطت على جسمه، فأخذ يحترق حتى سال دهنه من جانبيه إلى الأرض، فلما لم يتزعزع إيمانه خلعت أسنانه ووضع في كيس مملوء بالرمل وحمل إلى الشاطئ، ثم عرضت عليه الحياة إذا آمن بالمذهب الجديد فأبى، وتكرر العرض وتكرر الإباء ثلاث مرات ألقي العابد بعدها في البحر فمات غرقا، وتلقى الأب صمويل في ديره بالصحراء كتابا يحمله إليه أمير فرقة عدتها مائة جندي يدعوه إلى المذهب الجديد، فطوى صمويل الكتاب وقال: «ليس لنا من رئيس إلا بنيامين، ولعنة الله على ذلك الكتاب الكفار الذي جاء من الإمبراطور الروماني، ولعنة الله على مجمع خلقدونية وكل من آمن بما أقره.» وضرب صمويل حتى ظن أنه مات، لكنه عاد إلى نفسه وإلى محاربة قيرس، وأمر قيرس فجيء به مكتوف اليدين من خلاف وفي عنقه طوق من الحديد، فسار مستبشرا وهو يقول: «سأمنح إن شاء الله اليوم الشهادة بأن يسفك دمي في سبيل المسيح.» ثم جعل يسب قيرس لا يخشى شيئا، ودخل قيرس فأمر جنده أن يضربوه حتى سال دمه، ثم قال له: «صمويل أيها الزاهد الشقي، من ذا أقامك رئيسا للدير، وأمرك أن تعلم الرهبان أن يسبوني ومذهبي؟ وأجابه العابد: إن البر في طاعة الله وطاعة وليه البطريق بنيامين لا في طاعتك والدخول في مذهبك الشيطاني، يا سلالة الطاغوت! ويا أيها المسيح الدجال!» وأمر قيرس جنده بضرب صمويل على فمه وقال له: «لقد غرك يا صمويل أن رهبانك يجلونك ويعلون من شأن زهدك: ولهذا تجرأت وقويت نفسك ولكني سأشعرك أثر سبابك للعظماء إذ سولت لك نفسك ألا تؤدي ما ينبغي عليك أن تؤديه لعظيم رجال الدين وكبير جباة المال في أرض مصر .»

وأجاب العابد: «لقد كان إبليس من قبل كبيرا على الملائكة، ولكن كبره وكفره فسقا به عن أمر ربه، وهكذا أنت أيها الخادع الخلقيدوني؛ فإن مذهبك مذموم، وإنك أشد لعنة من الشيطان وجنوده.» وضاق قيرس بكلام العابد ذرعا فأومأ إلى الجند أن يقتلوه؛ واستنقذه حاكم الفيوم من يديه فأمر به أن ينفى من الأرض.

هاتان الصورتان من تعذيب أخي بنيامين وتعذيب صمويل تصفان بطش قيرس في الاضطهاد الأعظم، كان الذين يأبون الدخول في المذهب الجديد يجلدون ويعذبون ويلقون في غيابات السجون ويلاقون الموت، وكان أثر هذا الاضطهاد أن ازداد الناس كراهية لهرقل ولقيرس، حتى لقد هاجر كثيرون من مصر إلى بلاد النوبة وإلى إثيوبيا فرارا إلى الله بدينهم، أما الذين لم يستطيعوا الفرار ولم يطيقوا العذاب ففتنوا عن دينهم كارهين، فأظهر كثيرون منهم غير ما يبطنون، وقد خدع غير هؤلاء وأولئك بسلطان المال والجاه، فارتضوا المذهب الجديد، لا حبا فيه ولا إيمانا به، بل حرصا على ما ييسره لهم من مطامع هذه الحياة الدنيا، على أن ما لقيه الشعب في هذه السنوات العشر قد زرع في قلبه لبزنطية ولقيصر ولقيرس كراهية امتزجت بحياته وجرت مجرى الدم في شرايينه.

أفكان التعصب الديني هو وحده الذي دفع شعب مصر للنفور من المذهب الجديد كل هذا النفور، ولمحاربته هذه الحرب العوان؟ قد لا يخطئ من لا يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب؟ فالتوجه الديني أصيل في الشعب المصري بحكم طبيعته، كذلك كان شأنه في عهود الفراعنة، وكذلك ظل شأنه على القرون، ولعل بساطة عقيدته، مع تغير الأديان التي دان بها، كانت ذات أثر في تمسكه بمذهبه: فهو موحد من أقدم العصور، وهو على توحيده يشعر بأن الإله الخالق المنعم جل شأنه أعظم من أن يسمو سواد الناس إلى الاتصال بذاته وإن تطهرت قلوبهم، فلا بد من زلفى تقربهم إلى الله، وتحلهم منه محل الرضا.

لكن هذا التوجه الديني لم يكن وحده هو الذي دفع المصريين ليقاوموا في سبيل مذهبم ما قاوموا سني الاضطهاد الأعظم ؛ فقد دانوا بالمسيحية بعد وثنيتهم الفرعونية، ثم كان لهم في فقه مذهبهم القبطي بحوث تبحر رجال الدين فيها ما تبحر أسلافهم في العهود الفرعونية في فقه مذهبهم، ثم دانوا بعد ذلك بالإسلام، فكان الفقه الإسلامي موضع عنايتهم به وتبحرهم فيه، ولم يحملوا على المسيحية وعلى الإسلام بالاضطهاد والإكراه، بل دعوا إليهما بالحجة فرأوا الخير في قبولهما فقبلوهما، فما لهم نفروا من مذهب هرقل الرسمي لأول ما عرض عليهم بل أبوا أن ينظروا فيه؟ ثم ما لهم قاوموه من بعد هذه المقاومة التي اضطرت قيرس إلى اضطهادهم وفتنتهم على النحو البشع الذي رأيناه؟

لا ريب أنه كان للعامل السياسي في هذا الأمر أثر عظيم، فقد ضاق الشعب المصري بحكم الرومان ضيقا أثاره برومية ثم بيزنطية ثورات عنيفة غير مرة، وهو لم يكن أقل ضيقا بهذا الحكم قبل تغلب الفرس على فوكاس واستئثارهم بأرض مصر ولا بعد تغلب هرقل على الفرس وإجلائهم عن مصر، فقد كان حكم فوكاس حكم بطش وإرهاق ثارت مصر به فآزرت هرقل في ثورته على القيصر الطاغية، وقد شعر المصريون في السنوات العشر التي استقر الفرس فيها بينهم بحرية لم يكن لهم بمثلها في عهد فوكاس عهد، ذلك أن الفرس تركوا لهم أمر الحكم على نحو من اللامركزية المألوفة في بلادهم، وأعفوهم من كثير من الأعباء التي كانت ترهقهم، وإن أقاموا بينهم سادة متعالين، فلما انتصر هرقل على الفرس، واسترد مصر، فرح المصريون؛ لأنهم مسيحيون مثله، ولأنهم طمعوا في أن يذكر لهم يدهم عنده أيام ثورته بفوكاس، وعظم رجاؤهم ألا يرهقهم حكمه، لكنهم سرعان ما رأوا الحكم الروماني القديم عاد كما كان، ورأوه شرا من حكم الفرس بمراحل.

अज्ञात पृष्ठ