والآن، فلنعد إلى فارس لنرى ما حدث بها، وكيف اجتمع أهل نهاوند لمقاومة المسلمين فيها، ولننظر كيف نظم عمر سياسته الجديدة، وسياسة التوسع في الفتح فاستولى على فارس كلها، وعلى مصر كلها.
هوامش
الفصل السادس عشر
غزوة نهاوند
سمع عمر إلى الأحنف بن قيس ثم قال له: «صدقتني والله وشرحت لي الأمر عن حقه.» فلما جاءته أنباء نهاوند لم يبق للتردد في نفسه موضع.
وكان طبيعيا أن تزيل هذه الأنباء كل أثر للتردد من نفسه؛ فإن أمراء الفرس في شتى الولايات لم يلبثوا، حين عرفوا ما أصاب الهرمزان وجنوده، أن ألقي في روعهم أنه مصيبهم ما أصابه إذا ظلوا فيما هم فيه من تخاذل وانحلال، فتكاتبوا وأرسل بعضهم إلى بعض الرسل أن يجتمعوا كلمة واحدة لدفع هؤلاء الغزاة الذين كانوا، إلى سنوات قلائل، يدينون ببأس فارس وسلطانها، ولا يستطيع أحدهم أن يرفع رأسه من هيبتها، فأصبحوا اليوم يغزونها في عقر دارها، ويمدون سلطانهم على ولايات واسعة منها، ثم لا يفتئون يتقدمون فيها، وكأن ليس لأحد على وجه الأرض ببأسهم قبل.
وكان أول ما اتفق هؤلاء الأمراء عليه أن كتبوا إلى يزدجرد ليكون على رأس حركتهم، حتى يجتمع الناس حولها وينضموا إلى لوائها؛ فهو كسرى عنوان فارس ووارث مجدها وصاحب نظامها، يدين له الناس بالطاعة في شتى أرجائها، ولا يختلف عن أمره كبير ولا صغير من أبنائها، وكان يزدجرد قد اضطرب في أرجاء فارس بين مختلف العواصم منذ فر من المدائن، فكانت الحوادث تدفعه من حلوان إلى الري إلى أصبهان إلى إصطخر إلى مرو، ثم تزيده أنباء المسلمين على السنين اضطرابا، فلما جاءته كتب الأمراء ورأى ما فيها من اجتماع كلمتهم وشدة حماستهم لدفع عدوه وعدوهم، عاودته من شبابه نفحة بدلت بأسه أملا واضطرابه طمأنينة، فكتب إلى أهل إيران كلها، سهلها وجبلها، يحثهم ويحرك حماستهم، كتب إلى الباب وإلى خراسان وحلوان وسجستان وطبرستان وجرجان ودماوند والري وأصفهان وهمذان وسائر الولايات والبلاد في مملكته، يشجع أهل فارس ويذكر لهم أن غزو العرب ليس إلا عاصفة ثائرة لا تلبث أن تمر، وسحابة عارضة لا تلبث أن تنقشع، وأن الأمر في انقشاع السحابة ومرور العاصفة إلى تكاتفهم وتضامنهم وثباتهم في وجه عدوهم، فإذا ثبتوا طردوه من ديارهم وردوه على أعقابه خائب الظن كاسف البال يتحدث بفعالهم.
انتشرت أنباء خوزستان والهرمزان في فارس كلها، فانزعج الناس كبارا وصغارا لها، فلما جاءهم كتاب كسرى أسرعوا إلى تلبية ندائه، فبعث كل أمير من جنده إلى نهاوند حتى بلغ عددهم مائة وخمسين ألفا اجتمعوا بإمرة الفيرزان، فلما اجتمعوا عنده وجلس إليه أمراء هذا الجند المقبل من شتى الأرجاء قال لهم: «إن محمدا الذي جاء العرب بهذا الدين لم يتعرض لبلادنا، وقام أبو بكر من بعده فلم يتعرض لنا في دار ملكنا، ولم يثر بنا إلا فيما يلي بلاد العرب من السواد، وهذا عمر بن الخطاب لما طال ملكه انتهك حرمتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى غزانا في عقر دارنا فأخذ بيت المملكة وانتقصكم السواد والأهواز، وهو آتيكم إن لم تأتوه، وليس بمنته حتى تخرجوا من في بلادكم من جنده وتقلعوا هذين المصرين، البصرة والكوفة، ثم تشغلوه في بلاده وقراره.»
نقل الأمراء هذا الحديث إلى الجند فاشتعلت حماستهم، فأقاموا ينتظرون اليوم الذي يواجهون فيه عدوهم ويقسم كل منهم أن لن يرجع إلى موطنه حتى يتم النصر لكسرى وجنوده ، وبلغت هذه الأنباء عمر بن الخطاب نبأ إثر نبأ، فأيقن أن الأحنف بن قيس صدقه الرأي، ولم يبق لديه ريب في أنه إن لم يوجه للفرس الضربة القاضية القاصمة فلن يزالوا يناوئونه، وقد يبسم لهم الحظ يوما فإذا خيولهم تغير على العراق العربي من جديد، وإذا هذه الدولة العربية التي اطمأن عمر إلى قيامها تتعرض للاضطراب، بل للضياع.
وزاد في شغل عمر بأمر العراق ومصيره ما أبدى بعض العرب الذين استقروا به من ميل إلى الخصومة والشغب، أغراهم به ما استراحوا إليه من رخاء جعلهم يتنافسون وينفس بعضهم على بعض، ثم لم يصرفهم عنه تهيؤ الفرس لحربهم وإعدادهم لقتالهم، فبينما يرسل سعد بن أبي وقاس أنباء يزدجرد والفيرزان والجند الذين اجتمعوا بنهاوند إلى أمير المؤمنين إذا جماعة من أهل الكوفة، على رأسهم الجراح بن سنان الأسدي يؤلبون على سعد ويثورون به ويشكونه إلى عمر في كل شيء حتى يقولوا: إنه لا يحسن الصلاة، ولقيهم عمر بالمدينة وسمع شكاتهم، ثم قال لهم: «إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في الأمر وقد استعد لقتالكم من استعد، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم!» وكان عمر قد أقام محمد بن مسلمة على تحقيق ما ينسب من الشكايات إلى عماله، فأوفده إلى الكوفة، فجعل يسأل الناس عما نسب إلى سعد، فيقولون: لا نعلم إلا خيرا ولا نشتهي به بدلا؛ لم يخالف عن ذلك إلا الذين اتهموه، وعاد ابن مسلمة إلى المدينة ومعه سعد والجراح بن سنان وأصحابه، فاستمع إليهم عمر فلم يجد ما يؤاخذ به سعدا، لكنه آثر مع ذلك ألا يدعه في هذا الموقف الدقيق على عمله، وبالكوفة من يثيرون الناس به، فسأله من استخلفت على الكوفة؟ قال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وكان ابن عتبان شيخا كبيرا من أشراف الصحابة، فأقر عمر نيابته على الكوفة واستبقى سعدا بالمدينة معزولا من غير عجز ولا خيانة، ولولا ما كان سعد قد أبلغه إلى عمر عن اجتماع الفرس بنهاوند وما كان قد شافهه به، بعد قدومه المدينة، من تهيئتهم للقتال وتعاهدهم عليه، لرده إلى عمله ولما سمع فيه لشكايات لم يثبت شيء منها عنده.
अज्ञात पृष्ठ