128

على أن الروايات المختلفة تتفق كلها على أن عمر كان حريصا على سياسته ألا يتخطى الفتح حدود العراق العربي، ولذلك كان يجيز الصلح كلما طلبه الفرس بعد هزيمتهم، وكان يأمر برد السبي إلى حريتهم والاكتفاء منهم بالخراج، ثم يأمر رجاله بتعمير البلاد وشق الأنهار خلالها وإصلاح الموات من أرضها وإقامة العدل بين أهلها، ولو أن الفرس أذعنوا للأمر وارتضوا هذه السياسة وأخلصوا في عهدهم مع المسلمين، لبقي ليزدجرد سلطان فارس ولما امتد الفتح الإسلامي في عهد عمر إلى ما امتد إليه.

لم يكن قتال الفرس والتغلب عليهم ثم الظفر بهم بالأمر اليسير في هذه الأرجاء؛ فقد كانوا يقاومون أشد المقاومة، وكانوا يقفون المسلمين مواقف بالغة غاية الدقة، ويضطرونهم أحيانا إلى الارتداد عن موقع إلى غيره حين يرون هذا الموقع أمنع من أن ينال، ولقد خرج جزء بن معاوية يتعقب الهرمزان في تراجعه إلى رامهرمز، حتى إذا انتهى إلى قرية الشغر أعجزه الهرمزان، فمال إلى قرية لا يطيق أهلها منعها.

عرف يزدجرد مقاومة بني وطنه، فطمع في استرداد ما ضاع من ملكه، فجعل يثير حمية الفرس ويحرك حماستهم بإظهار الألم على ما سلف من هزائمهم وما استولى عليه العرب من بلادهم، قيل: إنه كان بمرو وقتئذ، وقيل: كان بإصطخر، أو بقم، وإنه كتب إلى أهل فارس يذكرهم الأحقاد ويؤلبهم «أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد وما والاه والأهواز، ثم لم يرضوا بذلك حتى توردوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحركوا أهل فارس تنتصروا.» وتكاتب أهل فارس وأهل الأهواز وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة.

بلغت هذه الأنباء حرقوص بن زهير وأمراء المسلمين، فأبلغوها عمر، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بن مقرن وعجل، وسمى جماعة من أبطال المسلمين يسيرون معه لينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبينوا أمره، وكتب إلى أبي موسى أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا عليهم سهيل بن عدي، وسمى طائفة من الأبطال يسيرون على رأس الجند معه.

أفكان ذلك عدولا من عمر عن سياسته أن يلزم المسلمون العراق العربي، فهو يريد بهذه البعوث أن يوغل في أرض فارس؟ أم كان تأديبا للفرس، فإذا أذلتهم الهزيمة لم يعودوا إلى الغدر؟ الواقع أن عمر كان مترددا بين هذا وذاك، ثم كان أشد ميلا إلى الاستمساك بسياسته منه إلى الاستيلاء على أرض فارس، قدم عليه وفد من جند البصرة فيهم الأحنف بن قيس، فتحدث إليهم ثم وجه الكلام إلى الأحنف يقول له: «إنك عندي مصدق، وقد رأيتك رجلا! فأخبرني: أأن ظلمت الذمة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟» وأجابه الأحنف، «لا! بل لغير مظلمة والناس على ما تحب.» قال عمر: «فنعم إذن، انصرفوا إلى رحالكم!» فلما بلغته أنباء يزدجرد وتحريضه أهل فارس على المسلمين أراد أن يلقي على هؤلاء الغدرة العجزة درسا لا ينسونه، فبعث إليهم النعمان بن مقرن وسهيل بن عدي.

سار النعمان مجتازا أرض الأهواز ليلقى الهرمزان برامهرمز؛ وسمع الهرمزان بمسيره فنهد يلقاه بأربك،

2

في جيش عظيم من أهل فارس، وبادره الشدة وهو يرجو أن يقتطعه، واشتد القتال بين الفريقين، فلما رأى الهرمزان بأس المسلمين تراجع من أربك إلى رامهرمز، فإلى تستر مطمئنا إلى أنه يستطيع أن يتحصن بأسوارها وبروجها، وتقدم النعمان إلى رامهرمز فاستولى عليها.

وكان سهيل بن عدي قد سار من البصرة يريد لقاء الهرمزان، فلما بلغته أنباء النعمان واستيلاؤه على رامهرمز وانحياز الهرمزان إلى تستر، مال من سوق الأهواز، فجعل وجهته إلى هذه المدينة الحصينة، وبلغها، فألفى النعمان بن مقرن سبقه إليها ووقف بجنده أمام حصونها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء فنزلوا جميعا على أسوارها، وحاصرت كل هذه القوات تلك المدينة المنيعة، وقد تحصن الهرمزان وجنوده من أهل فارس ومن أهل الأهواز بخنادقها، ووقفوا قبالة عدوهم مطمئنين إلى منعة حصونها منعة تحول دون اقتحامها وترد كل عاد إليها.

ولم يخطئ الهرمزان في تقديره؛ فقد حاول المسلمون اقتحام أسوار المدينة فردوا عنها، وزاحفهم الفرس غير مرة، فارتدوا على أعقابهم أحيانا، وردوا المسلمين عن مواقفهم أحيانا أخرى، وطال الحرب سجالا بين الفريقين، وأيقن المسلمون بأس عدوهم بعد أن اجتمع إلى الهرمزان داخل أسوار المدينة جند عظيم جاء لنصرته من شتى الأرجاء ملبيا نداء كسرى، لا قبل للمسلمين إذن باقتحام المدينة إلا أن يجيئهم مدد يزيدهم قوة، وكان أبو سبرة على جند الكوفة وجند البصرة جميعا، فكتب إلى عمر يصف له منعة تستر وقوة الفرس المتحصنين بها ويستمده، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يسير في جند البصرة جميعا مددا لأبي سبرة، وأن يضع نفسه وقواته تحت إمرته، وسار أبو موسى بجنده يمد أبطالا شهدوا المواقع وأبلوا فيها بلاء كفل انتصارهم بها جميعا.

अज्ञात पृष्ठ