ولا شك في أن غزوة القادسية جديرة بأعظم العناية في التأريخ لها؛ فهي التي مهدت للمسلمين العود إلى العراق بعد أن أجلاهم الفرس عنه، وفتحت لهم أبواب المدائن ثم أبواب فارس كلها، لكن فتح مصر لم يكن دون فتح العراق وفتح فارس خطرا، وكان لذلك جديرا، بأن يلفت هؤلاء المؤرخين ليتوفروا على استيفائه أكثر مما فعلوا.
وقد نلتمس لهؤلاء المؤرخين من العذر أنهم دونوا ما استطاعوا الوقوف عليه من الروايات، أو أنهم كانوا أكثر عناية بالبلاد التي نشئوا فيها منهم بالبلاد البعيدة عنهم، ولا أراني في حاجة إلى الاعتذار عنهم ولا إلى نقد طريقتهم وقد فصلت بيننا وبينهم قرون عدة، وأنا بعد بصدد الحديث عما يلقاه من يؤرخ اليوم لذلك العصر القديم من جهد، ولذا أسارع إلى القول بأن في متناول هذا المؤرخ مادة لا ينضب معينها يستطيع أن يسد بها كل نقص، فما أجمله الطبري وابن الأثير وابن خلدون والبلاذري وابن كثير قد فصله غيرهم تفصيلا يقف منه الإنسان على ما يشاء، أشرت إلى إجمال هؤلاء تاريخ الفتح العربي لمصر؛ لكن هذا الفتح مفصل في كتب أخرى أدق تفصيل، فقد كتب ابن عبد الحكم والسيوطي وابن تغري بردي عنه وفصلوه ما فصل الطبري فتح العراق، والكتب التي وضعت في لغات غير العربية تلقي من الضياء على تاريخ الفتح الإسلامي والإمبراطورية الإسلامية ما لا غنى لمؤرخ عن الاستنارة به ، وتمحيص الوقائع بموازنة ما جاء عنها في كتب المؤرخين على اختلاف لغاتهم ومناهجهم وميولهم خير عون على الاهتداء إلى الحق، هذا إلى ما لمؤرخي العصر الحديث في الشرق والغرب من فضل في بحث ما أوردته كتب الذين سبقوهم وفي تمحيصه وإبرازه في صورة تتفق ومألوف هذا العصر في التفكير والتقدير، أما ومادة التاريخ متوافرة هذا التوافر فلن يصد الجهد باحثا عن الاستفادة منها في الناحية التي يريد أن يعرض لها ويطالع الناس بما يعتقده الحق فيها.
فلكل مؤرخ ناحية تستأثر بعنايته يتوفر على دراستها ويجعل ما سواها سندا له في هذه الدراسة، والمؤرخ الذي ينقطع لدرس عهد بذاته من كل نواحيه يقسم هذا العهد، وإن قصر، ويفرد لكل ناحية منه دراسة خاصة قد تستغرق المجلد أو المجلدات، فإذا أراد أن يلخص هذه النواحي جميعا كان تلخيصه أدنى إلى البحث في فلسفة التاريخ منه إلى التاريخ نفسه.
ولنأخذ موضوع عمر مثلا يوضح ما تقدم، فقد يعنى المؤرخ بشخص عمر ويقف عنده، ويجعل من كل ما يقع في بيئته وعصره وسيلة للمزيد من إيضاح صورته، وقد يعنى بعهد عمر في ناحيته الاقتصادية أو في ناحيته الاجتماعية أو في غير هاتين الناحيتين من نواحي الحياة العربية، وبما كان لعمر من أثر في الناحية التي جعلها المؤرخ غرض دراسته، وكل واحدة من هذه النواحي جديرة بعناية خاصة في الدرس، كفيلة بأن تبرز للناس سفرا قيما يجمع بين المتاع به والفائدة منه، ودراسة الحياة الأدبية للجماعة العربية في عهد عمر دراسة مستفيضة كفيلة بأن تبين للناس كيف تأثرت هذه الحياة بالتطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية التي سبقت هذا العهد وعاصرته، وأن تضيف إلى المكتبة العلمية ثروة علمية وأدبية أعظم بما فيها للناس من متاع وفائدة.
وقد تناولت في هذا الكتاب، كما تناولت في «حياة محمد» وفي «الصديق أبو بكر» نواحي من الحياة العربية لذلك العهد، رأيت تناولها مما يكمل به ما عرضت له من بحث، لكني لم أتناولها بدراسة مستفيضة؛ لأنها لم تكن غرضي الذي قصدت إليه، بل تناولتها بالقدر الذي يتم به هذا الغرض، فأما ما قصدت إليه من وضع هذه الكتب فقد بينته في تقديم كل واحد منها، فقلت في تقديم «حياة محمد» إنه: بينما يقوم بين الشرق والغرب تعاون علمي جدير بأن يؤتي خير الثمرات، إذا طائفة من رجال الكنيسة المسيحية ومن كتاب الغرب لا يفترون عن الطعن على الإسلام وعلى محمد، وإذا الاستعمار الغربي يؤيد بقوته أصحاب هذه المطاعن باسم حرية الرأي، ويؤيد في الوقت نفسه دعاة الجمود من المسلمين، ويخاصم من يحاربون هؤلاء أو أولئك، وقد رأيت ما يحدث من ذلك في بلاد الشرق الإسلامي، بل في البلاد الإسلامية كلها، ورأيت ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية في هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأي وحرية البحث ابتغاء الحقيقة، فشعرت بأن علي واجبا لا مفر لي من القيام به، فعمدت إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية وهدف مطاعن المسيحية من ناحية، وجمود الجامدين المسلمين من ناحية أخرى، على أن تكون دراسة علمية خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده، وهذه الدراسة جديرة لذاتها بأن تهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تتلمسها.
أما كتاب «الصديق أبو بكر» فقد بدأت فيه بدراسة الإمبراطورية الإسلامية وأسباب عظمتها وانحلالها؛ لأن هذه الإمبراطورية قامت على أساس من تعاليم النبي العربي وسننه، ولأن الشعوب التي تمخضت عنها هذه الإمبراطورية بعد انحلالها ترتبط كلها بالإسلام، ويرتبط أكثرها بالعربية، وقد عقد بينها الماضي صلات لا انفصام لها ما بقي الإسلام وما بقيت اللغة العربية، وفي تنظيم هذه الصلات خير للإنسانية عظيم ولا سبيل إلى هذا التنظيم إلا معرفة ما كان بين هذه الأمم في الماضي من صلات، فمعرفة الماضي هي سبيلنا لتشخيص الحاضر ولتنظيم المستقبل.
وهذا الكتاب عن عمر حلقة ثالثة من هذه السلسلة، لكنها تختلف عن الحلقتين الأوليين، كما تختلف كل واحدة من هاتين الحلقتين عن الأخرى اختلافا ظاهرا، هذا مع توالد الحلقات الثلاث كل واحدة عن سابقتها، كما تخرج الجذور من البذر، ثم ينبثق الجذع باسقا من الجذور، ثم تتفرع الأغصان من الجذع، قد تذبل الأغصان ويبقى الجذع مع ذلك قوي الحيوية، بل قد يجف الجذع ثم تبقى الجذور سليمة قادرة على أن تنشئ جذعا أقوى وفروعا أكثر نضارة، فإذا كانت الإمبراطورية الإسلامية قد انحلت فلا يزال الإسلام الذي أنشأها قديرا على أن ينشئ وحدة إنسانية عظيمة تلائم روح العصر ونظامه.
وقد اقتضاني تصوير النشأة الأولى للإمبراطورية الإسلامية أن أتناول بالبحث نواحي الحياة المختلفة لشبه الجزيرة والبلاد التي فتحها المسلمون الأولون؛ على أنني لم أقف عند هذه النواحي إلا بالقدر الذي اقتضاه قيام هذه الإمبراطورية، وليس هذا القدر مع ذلك باليسير؛ فهو يجلو صورة، وإن موجزة، للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلاد العرب، وصورة مثلها قد تكون أكثر إيجازا لنواحي الحياة في البلاد المفتوحة، وقد حاولت هذا التصوير في الكتابين السابقين من هذه السلسلة، ثم حاولته على وجه أوفى في هذا الكتاب، وبخاصة ما اتصل بشئون الفرس والروم، وأكبر رجائي ألا يبلغ هذا الإيجاز مبلغا يقصر عن أن ينقل إلى ذهن القارئ ما أردت تصويره.
وهذه الحلقات الثلاث التي تؤرخ لنشأة الإمبراطورية الإسلامية والعالم الإسلامي، تصور فترة من تاريخ العالم هي لا شك أمتع الفترات في الحياة الإنسانية، وأكثرها وقفا للنظر، وإيحاء للتفكير والتأمل، فهي تدل على أن الحياة الإنسانية فكرة أولا وقبل كل شيء، وهي في إقامتها هذا الدليل ترسم لنا سلسلة من الصور تعاقبت في زمن قصير تعاقبا محتوما، ولكنه مع ذلك فذ في تاريخ الإنسانية مذ كانت الإنسانية، ذلك بأنها تصور الفكرة المستجمة في نفس من أعده القدر ليبلغ العالم رسالته؛ وظهور هذه الفكرة بوحي من الله إلى رسوله ليدعو إليها بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وقيام الناس في وجه الفكرة ومحاربتهم لها ابتغاء وأدها والقضاء عليها، وانتصار الفكرة بانتصار رسولها، وإقبال الناس لذلك عليها مأخوذين بعظمته وقوة شخصيته؛ وانصراف الناس بعد وفاة صاحب الفكرة إلى مألوف حياتهم فرارا من فروضها؛ وقومة من صدق إيمانهم بالفكرة وإعادتهم المرتدين إلى حماها وإلزامهم أداء فروضها؛ وتأصل الفكرة بعد ذلك في الوجود تأصلا جعل منها قوة لا قبل لشيء في الحياة بها ولا قدرة لسلطان أن يتغلب عليها؛ وبلوغها من هذا التأصل مبلغا جمع إليها عالما يغرس في أقطار الأرض المختلفة أصولها، أية صورة أروع من هذه الصورة وأكثر إمتاعا للعقل والقلب والمدارك! وهل قام في تاريخ العالم دليل على قوة الفكرة لذاتها ومقدرتها على اكتساح الإمبراطوريات مثل هذا الدليل؟!
لا ريب في أن تاريخ الإنسانية يتلخص كله في بضعة أفكار رئيسية قام نظام العالم على أسسها، وقد سلكت كل واحدة من هذه الأفكار طريقها إلى النفوس وتركت على الحياة أثرها، لكن كل واحدة منها لم تكن تكاد تظهر حتى تلقى من المقاومة ما يردها إلى حدود ضيقة تنكمش فيها ليرددها الناس من بعد يريدون تمحيص ما تنطوي عليه من حق ونفي ما يخالطها من زيف، ثم ينتهون إلى صورة معدلة من الفكرة الرئيسية يرتضون العيش في كنفها، وهم لا ينتهون إلى الصورة المعدلة قبل أن تنقضي أجيال ويستحر نضال وتسيل دماء وتزهق أرواح، ثم تكون في أثناء ذلك كله محل أخذ ورد ونفي وإثبات وتعديل يجعل ما تنتهي إليه شيئا مختلفا عن صورتها الأولى جد الاختلاف.
अज्ञात पृष्ठ