ر الروض في الشطين فصلا
كبساط وشي جردت
أيدي القيون عليه نصلا
8
وفي ذات مساء اقترح أبو فراس على أصحابه أن يخرجوا للصيد «بعين باصر»، وهي على مسافة فرسخين من حلب، فخرجوا قبل تبلج الصباح، ومعهم الصقور والبزاة وكلاب الصيد والخدم والعبيد، وقضوا سبع ليال بين صيد وقصف، وقام الطهاة بشي الظباء وطبخها بين ضحك الضاحكين، وعبث العابثين، وتناشد الأشعار، وتبادل النوادر، وأخذوا يتخطفون اللحم، ويعدو بعضهم وراء بعض في هزل يشبه الجد. وفي الحق إنهم كانوا صورة لمرح الشباب وريعانه ولهوه ونشوته، وكانوا يمثلون الفراغ والجدة
9
وراحة البال والبراءة من كل ما يكدر الحياة. وبعد أن نالوا من الصيد واللهو ما يشتهون، عادوا إلى المدينة، فبلغوها وقد مال ميزان النهار. وكان أبو فراس يتقدم الجمع فوق جواد عربي كريم. وبينما كان يمر ببعض الدروب إذ جمح به الفرس فجأة لسبب غاب عنه، فحاول أن يكبح جماحه، ولكنه كان قد لعق لجامه، وخرج عن إرادة فارسه. وفي ذلك الحين كانت امرأة عجوز تمشي إلى جانب جدار فزحمها الفرس بكفله فسقطت على الأرض، وتواثب الناس من كل مكان على الفرس، وتعلق كثير منهم برقبته ومعرفته حتى استطاعوا صده، واتجه أبو فراس نحو العجوز، وتقدم خدمه وعبيده فحملوها في محفة
10
بعد أن سألوها عن دارها، فعلموا أنها تسكن في دار الحسين الجوهري، وسار خلفهم أبو فراس حتى وصل إلى دار فخمة البناء، رحبة الفناء، فحط العبيد المحفة، وتقدم الحسين الجوهري فحيا الأمير، وسأله مذعورا عن الخبر، فأخبره بالحادثة. وقد تبين الأسف في وجه أبي فراس، وحتم أن يستدعي لها طبيبا، وأن يمنحها من المال ما يخفف آلامها، فأبى الحسين في أدب واستعطاف وقال: إنها ضيفتي يا مولاي، وخادم نجلاء أخت زوجي، ولا أحب أن يقول الناس: إن الجوهري تخلى عن واجبه. ولكن أبا فراس صمم فلم يكن من طاعته بد. فاستدعى الطبيب، ودخل معه الحسين وأبو فراس إلى حجرة المريضة، فجس أطرافها، وأطال البحث، وبعد لأي رفع رأسه في صلف وقال: لا بأس. ثم التفت إلى أبي فراس وقال: ليس بها شيء إلا شدخا في عظم ساقها اليمنى، وهو غير ذي خطر، ولا يحتاج إلا إلى رباط متين يحول بين الساق والحركة، ثم إلى الراحة الكاملة، فأحضرت الأربطة، وربط الطبيب الساق إلى ما فوق الركبة ربطا وثيقا، وأمر ألا تتناول من الطعام إلا ما كان خفيفا سهل الهضم. ثم اتجه إلى سلمى وكان خشنا لا يحسن تصريف الكلام وقال: وأنت أيتها العجوز المتشبثة بالحياة، والتي لها قدم في كل مكان، ماذا تعملين في وقت الظهيرة التي تذيب دماغ الضب؟ لعلك كنت تبحثين عن زوج مثلي؟!
فأخفت سلمى غضبها، وأرادت أن تثأر لنفسها فقالت في صوت خافت: لولا أني لا أحب الأطباء لتزوجت واحدا منهم. - ولم لا تحبين الأطباء؟! - لأني أبغض طبهم، وإلا فقل لي بحق أبيك متى حال الطب دون الموت؟ ومتى أطال الطب أمد الحياة؟ إن الحيوان يمرض فيشفى بغير طبيب، وإن كثيرا من صنوفه تعمر فوق عمر الإنسان أضعافا دون حاجة إلى طبيب. إن الله يا سيدي الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، خلق في طبيعة الإنسان وطبيعة كل حي طبيبا من غرائزه، فهو إذا أحس المرض انصرف إلى الراحة، وابتعد عن الطعام، وحمى نفسه من البرد. وقد توحي له الفطرة بتناول غذاء هو دواؤه وفيه شفاؤه. إن هرتي هذه تعرف متى تمرض، وتعرف كيف تشفى، ولو كنت دعوت لها بطبيب في إحدى مرضاتها لكانت اليوم في الدار الآخرة تصلى نار الجحيم لكثرة ما قتلت من الفيران، وما اختطفت من طعام الجيران. إن الأمراض أيها الطبيب البارع قسمان: أمراض طارئة سهلة الزوال، وأمراض معضلة قاتلة، وهما لا يحتاجان إلى طبيب؛ لأن القسم الأول يزول بقليل من الحماية والعناية، والثاني لا تنفع فيه رقية الراقي. وأنكى من كل هذا أن إنسانا لو مرض ودعا في كل يوم طبيبا - وهبه دعا عشرة منهم - لاختلف تقدير كل واحد للداء، واختلف وصفهم للدواء، وإذا كان الحق لا يتعدد فأحدهم بالبديهة هو الصادق أو هم جميعا كاذبون. ولن تسأل طبيبا عن شيء ويقول لك: إني لا أعرفه، ولن تعرض نفسك على طبيب حتى يهول لك في الأمر، وينذرك بأكبر المصائب، ويكدر عليك صفوة الحياة، ويخيل إليك أنك تسير إلى القبر عدوا. وقد اعتاد بعض الأطباء حينما يموت المريض أن يلقوا التبعة كلها على أهله، ولهم في ذلك أساليب بارعة، كأن يسألوهم مثلا: هل سقيتموه؟ فإن قالوا: نعم، قالوا: يا للداهية! لقد قضيتم عليه، إن الماء هو الذي قتله! وإن قالوا: لا، قالوا: يا للجهل ويا للغباء، إن أقل الناس معرفة يدرك أن الظمأ يقتل المريض لا محالة!
अज्ञात पृष्ठ