फराह अंतूनः उनका जीवन - उनका साहित्य - उनके लेखन के अंश
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
शैलियों
أيهما في شرعك هو القوي الذي يجب أن يعيش في الدنيا؛ لأنه أنفع لها، وأيهما الضعيف الذي يجب أن يتلاشى في شرعك؟ هل عندك شك في أن الثاني هو القوي الحقيقي؛ لأن القوة الحقيقية الكبرى هي للعقل لا للبدن، كما تقدم؟ ولكن انظر ماذا يحدث في الدنيا يا صاحب، فقد خبرت منها ما لم تخبر، يحدث أن الأول تكون أفكاره متجهة إلى جهة واحدة، وهي التغلب على غيره بكل الطرق، فعنده الغش، والاحتيال، والسرقة، وتعمد ضرر الغير، وخرق حرمة كل نظام وشريعة بطرق يعرفها، ويعرف أنها لا توقعه تحت طائلة الشريعة، والاستئثار بكل شيء، واستخفاف كل شيء في الأرض والسماء؛ إذ لا قيمة لشيء عنده غير المال.
كل هذه تبلغ لديه أشدها وتوجه جميع قوى نفسه إلى نقطة واحدة تنحصر كلها فيه؛ وهي ربح المال والوجاهة، وهو في هذا السبيل يجود بكل رخيص وغال ، ويسلك هذا المسلك بهمة مشحوذة كهمة ذئب يطلب الفرائس في كل مكان. ويحدث أن الثاني تكون أفكاره منصرفة إلى وجهة أخرى، فإن العاقل ذو ميل إلى الاستزادة من العقل، كما أن صاحب المال ذو ميل إلى الاستزادة من المال، فعقله متجه على الدوام إلى طلب صفات العقل، وهي أولا نصبه أمام عينيه غرضا شريفا يسعى إليه فيما يسعى إليه من منافعه الذاتية، والجد في نفعه الذاتي، ولكن ضمن دائرة الشريعة، واحترام ملك غيره وعرضه وشرفه؛ ليحترم غيره ملكه وعرضه وشرفه، وترك العدوان والغش والاحتيال والكذب والسرقة؛ لأن عقله ينهاه عنها، وطبيعته لا تطاوعه عليها، بل تنفره منها؛ لأنها لم ترب في ممارستها والتوجه إليها. فالآن إذا التقى هذان الرجلان في عمل؛ أيهما تظنه يغلب رفيقه فيه؟ أيهما يكون فيه الضعيف؟ وأيهما يكون القوي؟
إن الرجل الثاني يحارب في ذلك العمل حرب رجل مقيد بقيود ضمن حدود، وهي الحدود التي يرسمها له العقل، واعتاد أن يعيش معه ضمنها. وأما الرجل الأول فيحارب حرب رجل مطلق من كل قيود وحدود، فبالكذب والاحتيال والغش والسرقة والنهب والسلب يبلغ مناه، ويتغلب على رفيقه المأسور ضمن سور مبادئه. وهكذا تصبح الأرض ولا حق فيها إلا للقوة؛ إذ لا حق، وتنمو فيها وتسود الغلظة والقسوة والغش والعدوان والسرقة وجميع مظاهر القوة، بينما تمحى منها مظاهر العقل والحق تدريجا، كما في ميدان تقتتل فيه وتتنازع حيوانات مدنية، لا فرق بينها وبين الحيوانات الوحشية إلا في أن تلك تمشي على ساقين وهذه على أربع.
فهل الإنسانية الجديدة التي تريدها، يا صاحب، هي على شاكلة هذه الوحوش البشرية التي لا قيود لها ولا حدود؟ أنا معك في هذا؛ لأني تلميذتك. ألا تراني أعيش بلا قيد ولا حد؛ أمرح في الدنيا كأنها فضاء أطير فيه من أفق إلى أفق، ولا حدود فيها توقفني عند شيء، أو تمنعني من أن أضع يدي فيها على شيء؟ فلتحي الحرية يا صاحب، ولتحي مبادئك وفلسفتك. إنك تبرئ بها القتلة وتذنب القتلى، تعطي الحق للظالم وتلوم المظلوم، توافق على فعل السارق وتستهزئ بالمسروق، وكأنك تقول لهم: لا تنصفون إلا إذا كنتم تقتلون وتظلمون وتسرقون؛ فالضعيف أو الشهيد الذي يقع في جهاد الحياة هو المذنب الجاني، فيجب حذفه من الوجود، فكونوا كلكم قتلة وظلمة وسارقين فلا تحذفوا ...
كانت مريم تلقي هذا الكلام كصخر حطه السيل من عل وهي قائمة بأوداج منتفخة، وعينين ثائرتين يلوح فيهما الغضب ويختفي طبقا لموضوع كلامها، وكان شيشرون جالسا أمامها على العشب وعيناه شاخصتان في جهتها. أما يوسف، فإنه كان قد تحمس لكلام مريم تحمسا شديدا، فقام واقفا وخطا خطوة نحوها كأنه يود ألا يفوته كلمة منه، وكان من حين إلى حين ينتقل بنظره من مريم إلى يوسف، ومن يوسف إلى مريم، معجبا بحماسة مريم ومعاني كلامها، ومراقبا وقع ذلك الكلام لدى رفيقه شيشرون، وقد رفع رأسه فخارا بأن مبادئه صدمت على شفتي مريم تلك الصدمة مبادئ شيشرون التي صدمته وأعيته، فدهش وسر معا.
فإنه دهش لأنه سمع من فم تلك المرأة ذلك الكلام السامي، وتلك الحجة القوية، وسر لأنه رأى أن الظلام الذي أحاط بنفسه بعد سماعه مبادئ رفيقه قد انقشع عنها، وحل النور محله، ولكن دهشته هذه وسروره هذا فسحا مجالا في نفسه لعاطفة ثالثة أخرى، فإن القارئ رأى - فيما تقدم - أن يوسف مال إلى مريم أول ما لقيها تحت الرمانة، فلما سمع منها هنا هذا الكلام، ورأى ارتفاع نفسها إلى مبادئ الفكر والخير؛ ازداد ميلا إليها، وتعلقا بها، فكان وهو واقف أمامها خافق القلب، تائه الفكر، مدهوشا، حائرا، يشبه صبيا مدهوشا رأى وهو واقف أمام مزبلة ملاكا يخرج من المزبلة بين الأقذار، ويرتفع في جو النقاء والسناء نقيا طاهرا.
فأخذ يقول في نفسه وهو يمر يده على جبينه لمسح العرق الذي كان يتصبب منه لثورة نفسه واضطراب باطنه: قالوا إن نوابغ الأرض يكونون إلها عظيما أو شيطانا رجيما، على أني أرى هذه المرأة الغريبة الأخلاق قد جمعت الأمرين معا.
ولما سكتت مريم لتمسح العرق عن وجهها بينما كان يوسف يفكر ويحلم مدهوشا، كما تقدم، تململ شيشرون في مكانه ثم التفت إلى مريم وقال: هل فرغت من كلامك أيتها السيدة؟ إنك أخطأت في ظنك أنني أقول ما قلت، ومعاذ الله أن يكون غرضي ما ذكرت في بدء كلامك عن تجريد الحمامة المفترسة من تعزيتها الكبرى وعذرها الأعظم. كلا، وإنما غرضي أن تحتاط الحمامة لنفسها لئلا تفترس ... أفهمت الآن أيتها السيدة مريم؟ ليس عمدة كلامي أن يدوس القوي الضعيف. واعلمي أيتها السيدة أنه إذا وردت هذه العبارة بمعناها ومبناها في أثناء كلامي، فما هي إلا تهديد نافع نقول به، لا من أجل مصلحة القوي، بل من أجل مصلحة الضعيف ليتشدد ويتقوى، فلا يعتمد إلا على نفسه في دفع الأذى عنه، فكأننا نقول له: كن على حذر، واشحذ عزيمتك، ونبه نشاطك، وإلا فانسحاقك ودوسك أمر محتم. هل تأذنين لي أن أتكلم بحرية كما تكلمت؟ لقد سرني اشتغالك بكلامي بجد، ولا تظني أنه يسوءني منك شيء. وهذا الرفيق الذي خبرته في يوم واحد ذو قلب كريم، وعقل سليم، وهو جدير بثقتك، فلا يسوءنك كلامي أمامه، فاسمعي ما كنت أريد قوله لك منذ زمان، وأغتنم الفرصة لقوله لك الآن؛ إذ لا لأجد فرصة أفضل من هذه.
أنت أيتها السيدة مريم امرأة جميلة أنيقة، جسمك صحيح قوي، ونفسك جميلة لطيفة؛ لأنني أرى في عينيك شعاع جمالها ولطفها، ولا عبرة بحدتهما وشراستهما أحيانا، ولم يلذ لي شيء في حياتي قط كرؤيتي إياك يوما جالسة بجانب الأكمة القريبة من منزلك، ويمناك على كتاب مفتوح على ركبتك، ويسراك تسند رأسك، وعيناك تتيهان في الفضاء تحلمان وتفكران كأنهما تبحثان في أعالي الجو عن شيء مجهول فرارا من شيء مملول.
أي نعم يا مريم، إن حلمك وتفكيرك هكذا يجعلني أحلم وأفكر أيضا، فإنني أتصورك حين كنت في السادسة عشرة من عمرك فتاة ساذجة القلب حيية، إذا رشقك رجل بنظرة توردت وجنتاك خجلا، وخفق قلبك وجلا. إنك لم تقصي علي إلا طرفا من تاريخ حياتك ، ولكنني الآن أحلم وأتصور كما قلت لك، فدعيني أكمل حلمي وتصوري. إنني أراك في صباك - كما قلت - فتاة حيية طاهرة القلب، تخرجين مع أمك العجوز وأخواتك إلى الحقل لمساعدتهن في أعمالهن، وكانت أمك أشد عناية بك منها بسائر أخواتك؛ لأنها كانت ترى فيك شيئا ممتازا عنهن؛ وهو بشاشتك، وعذوبة حديثك، وسلامة قلبك، وشدة اندفاع عواطفك، حتى إنه كان كل ما في قلبك على لسانك، وكله كان جميلا طاهرا، فكانت تقول: إن مريم وردة البيت، فإذا دخلته وكان مظلما استنار ببشاشتها وورد خدها؛ ولذلك كانت
अज्ञात पृष्ठ