بداية مسرحنا المعاصر
حتى إذا عبرنا تلك الفترة وجئنا إلى بداية العصور الحديثة في مصر بالذات، وجدنا حركة ترجمة نشيطة على يد المهاجرين اللبنانيين لنقل المسرح الفرنسي إلى اللغة العربية، تلك الحركة التي لا تزال سارية في حياتنا المسرحية إلى اليوم، ولا يزال الاقتباس والتعريب والتمصير من العمد الرئيسية التي يقوم عليها مسرحنا.
هذه الحركة التي تعتبر بداية حقيقية لمسرحنا المعاصر، نستطيع أن نسميها بكل ثقة أنها كانت ولادة غير شرعية لذلك المسرح، بحيث نشأ مسرحنا كحفيد ملفق للمسرح الفرنسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتطور الأمر من الترجمة الحرفية إلى التعريب والاقتباس. وليس فقط ترجمة واقتباسا للنصوص، وإنما لمدارس التمثيل وللتقاليد المسرحية والتسميات المسرحية مما لا يزال شائعا إلى يومنا هذا، ككلمات الديكور والإكسسوار والجان بريميير والفيديت والفودفيل والدراما وغيرها، وهي ترجمات واقتباسات كانت في أولها ركيكة متهافتة، بحيث كانت ملابس العمل المسرحي الأصلي الداخلية تبدو من تحت رداء الاقتباس أو الترجمة المهلهل، ولكن الوضع لم يستمر هكذا، تطورت الحركة، وبالذات على أيدي عزيز عيد ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار، وأصبح للتمصير أو للتعريب النصيب الأكبر، بحيث إن معالم المسرحية الأصلية كانت في كثير من الأحيان تتوارى عن الأعين، وبحيث أصبح الاقتباس هو مجرد اقتباس «للرواية الجيدة الصنع» أو الهيكل العظمي المسرحي و«معظمه لمسرحيات من ساردو»، وتغطيته بلحم ودم مصري بحت، كما كنا نرى في «كوميديات الريحاني الأخيرة» و«تراجيديات يوسف وهبي في الثلاثينيات»، بل تطور الوضع خطوة أخرى ووجد في أعقاب ثورة 1919 مؤلفون مسرحيون مصريون لا يقتبسون ولا يترجمون ، ولكنهم يؤلفون قطعا مسرحية كانت إلى حد ما تدور في فلك التراث الأوروبي المترجم والمقتبس. ولهذا لم تعش مؤلفاتهم كثيرا وطغى عليها تيار الاقتباس المباشر ممثلا في الريحاني من ناحية ويوسف وهبي من ناحية أخرى، إلى الدرجة التي ذبلت فيها حركة التأليف، بحيث كادت مسرحياتنا كمسرحيات أحمد شوقي الشعرية تولد ميتة، وكاد توفيق الحكيم (وهو واحد من مؤلفي سنة 1919) يتوب عن التأليف المسرحي كلية ويذهب إلى فرنسا حيث يتحول إلى كتابة الرواية، وحيث يفاجأ هناك بالمسرح الفرنسي نفسه قد تطور إلى مدارسه الحديثة التي لم يكن شيء منها قد وصل علمه إلى المقتبسين في مصر، وبهره ما رأى إلى درجة أخذ يؤلف متأثرا بالمسرح الفكري الفرنسي، فأنتج أهل الكهف وشهرزاد.
ولكن درجات النجاح الساحق التي كان يقابل بها ما يقدمه الريحاني ويوسف وهبي وعلي الكسار لم تستطع أن توقف أبدا إلحاح الحاجة إلى المسرح المصري فكرة ودما ولحما، وهكذا حين عاد توفيق الحكيم عاد يكتب للمسرح أيضا، ولكنه لم يشأ أن يدخل برواياته لتتنافس مع البضائع الرائجة في السوق، فوضعها في كتب، وسماها تمييزا لها وارتفاعا بها عن المسرح التجاري الناجح «المسرح المقروء»، وتقريبا وعلى نفس هذا المنوال نسج محمود تيمور وعلي أحمد باكثير وعزيز أباظة.
ومرة أخرى أنبه الأذهان إلى أن هذا العرض ليس تأريخا للحركة المسرحية، ولكنه عرض لهذا التاريخ من خلال وجهة نظر خاصة. فما كادت الحرب تنتهي وتتهيأ بلادنا للثورة العارمة المقبلة حتى كانت منشئات ثورة 19 ومخلفاتها قد بدأت تلهث الأنفاس وتتسرب منها الحياة، فلم تشارك الفرقة القومية التي أنشئت لعرض المسرح المصري المؤلف أساسا مشاعر الشعب ولا بوادر تحركاته الثورية، كانت في واد والشعب في واد، وحتى التأليف المسرحي المصري كان هو الآخر في واد؛ إذ كان توفيق الحكيم قد أصبح همه أن يطور مسرحه الفكري الخاص بطريقة أصبح يبتعد بها عن الحياة وعن الناس بسرعة، وكان تيمور يؤلف عن الجن، وباكثير عن سر الحاكم بأمر الله، وعزيز أباظة عن قيس ولبنى، في الوقت الذي كان الشعب فيه يغلي تحت حكم ملك حاكم بأمر الشيطان. وهكذا حين جاءت ثورة 1952 كان مسرح ما بين الحربين قد مات دون أن يتفضل أحد بمنحه شهادة الوفاة، ولهذا لم يكن غريبا أبدا أن يصل عدد الرواد في إحدى حفلات يوسف وهبي إلى خمسة أشخاص، بطريقة يضطر معها هذا الفنان الكبير إلى إلغاء الحفلة. والفرقة المصرية الحديثة «القومية سابقا» قد استنفدت أغراضها في عرض البخيل وطرطوف ولويس الحادي عشر. وثمة فرقة أخرى، فرقة المسرح الحر، قد خرجت إلى الوجود، ولكنها لا تزال مواهب تمثيلية بغير تأليف مسرحي.
في هذه الفترة بالذات أصبحت الحاجة ماسة إلى مسرح من نوع جديد بمضمون جديد وأبطال جدد. وهكذا جاء تقديم «الناس اللي تحت» لنعمان عاشور، وجمهورية فرحات وملك القطن والصفقة وقهوة الملك والمحروسة والفراشة بمثابة بداية جديدة لمرحلة تطور هامة من مراحل المسرح المصري.
هل خلقت الحركة مسرحنا المصري الحقيقي؟
ولكن هل جاءت تلك المسرحيات لتخلق المسرح المصري البعيد عن الاقتباس والترجمة والتعريب، البعيد عن كوميديات الريحاني وتراجيديات يوسف وهبي؟
لكي نكون صرحاء مع الواقع، يجب أن نقول إن هذه النهضة المسرحية الجديدة لم تكن إلا طورا أرقى من أطوار الاقتباس والتأثر، فهي قد جاءت لتضيف دورا جديدا إلى بناية من أساسها أوروبية فرنسية معربة. كل ما في الأمر أنها هذه المرة نتيجة تأثرات بمدارس مسرحية أوسع، منها المسرح التشيكوفي والأبسني والأمريكي الحديث. التأليف أكثر تماسكا هنا، والشخصيات أكثر مصرية، ولكن القالب والموضوع لا يزالان في حدود القوالب المسرحية الروسية أو الفرنسية أو الأمريكية. إن هناك تشابها كبيرا بين الروح التي أملت كتابة هذه الروايات وتقديمها وبين الروح التي سادت مصر أثناء ثورة 19 وفي أعقابها، والتي أملت على محمد تيمور ومحمود تيمور وبديع خيري ونجيب الريحاني وتوفيق الحكيم كتابة روايات «الثورة المصرية الأولى»، روايات هدفها الانسلاخ بالموضوع وصبغه بصبغة مصرية ثورية، ولكن المشكلة الكبرى أننا فعلنا هذا في الثورة الأولى والثورة الثانية بوسائل وتكنيك ومسرح ليس مسرحنا النابع منا ومن تقاليدنا.
وهنا يبرز السؤال الخالد: هل لم يعد هناك سوى طريق واحد على المسرح المصري أن يمضي فيه، وذلك بقبول الأساس المعرب والمضي في تطويره إلى أن يتلاءم مع طبيعتنا؟
अज्ञात पृष्ठ