تصف الطلول على السماع بها
أفذو العيان كأنت في الحكم
وإذا وصفت الشيء متبعا
لم تخل من غلط ومن وهم
وذلك على الرغم من أن بعض شعراء العصر العباسي الآخرين حاولوا الاستماع إلى هذه الدعوة مثل أشجع السلمي عندما أتى الرشيد مادحا في قصر له بالرقة فاستهل قصيدته بقوله:
قصر عليه تحية وسلام
ألقت عليه جمالها الأيام
قصرت سقوف المزن دون سقوفه
فيه لأعلام الهدى أعلام
وذلك لأن التقاليد كانت أقوى من كل تمرد أو نزوع إلى التجديد أو رغبة في الصدور عن الحياة مباشرة؛ حتى لنرى شاعرا معاصرا كأحمد شوقي لا يزال يحس بقبضة هذه التقاليد العنيفة، فيصفها في مقدمة ديوانه القديم الذي صدر في سنة 1903 بأنها كالأفعوان؛ أي كالثعبان الذي لا يؤخذ إلا من خلف وبأطراف البنان، وهذا هو ما فعله دعاة التجديد الذي سمي بالبديع في العصر العباسي المتأخر، وهم أبو تمام ومدرسته، فإنهم لم يحاولوا التجديد في معدن الشعر ومضمونه، وإنما حاولوا التجديد فيما سموه بالبديع؛ أي التجديد في التعبير الشعري عن طريق الزخارف اللفظية من جناس وطباق وغيرها؛ مما أدى إلى ظهور علم جديد بهذا الاسم وهو «علم البديع» الذي فصل أوجهه وبلغ بها الأربعة والثلاثين أبو هلال العسكري في كتاب «سر الصناعتين». ومنذ ذلك الحين أخذ الشعر العربي يفقد طلاوة أسلوبه إلى جوار فقدانه المضمون الحي، فانتصار البديع على عمود الشعر يعتبر في نظرنا أقوى ضربة نزلت بالشعر العربي، وما زالت به حتى أحالته في عصوره المتأخرة إلى زخارف لفظية خاوية وحرمته من كل جدة فكرية أو عاطفية أو فنية، وذلك فيما عدا شعراء قلائل كانوا أقوى طبعا وأصالة من أن تسترقهم التقاليد أو يستهويهم البديع بمحسناته اللفظية السقيمة، ومنهم ابن الرومي والمتنبي وأبو العلاء المعري الذين جاوروا عصر البديع دون أن يطغى عليهم، فكانوا من رواد الشعر الذي تظهر فيه شخصية قائله. ويمكن أن نلتقط ملامح الشخصية من شعرها، وربما كان المتنبي أصدق شاهد على ذلك الاتجاه الذي كان لاتصال العرب بالثقافات الأجنبية وبخاصة الثقافة اليونانية أثر كبير في حدوثه، فباستطاعتنا أن نعود إلى بعض أغراض الشعر العربي التقليدي عند المتنبي مثلا، فنجده قد أحدث فيها من التجديد في المضمون ما لفت أنظار بعض نقاد العرب القدماء أنفسهم مثل «الثعالبي» في «يتيمة الدهر» حيث نراه يتحدث عن مساوئ المتنبي ومحاسنه، فيذكر بين محاسنه أنه قد انفرد في المدح بمذهب استكثر من سلوكه اقتدارا منه وتبحرا في الألفاظ والمعاني، ورفعا لنفسه عن درجة الشعراء وتدريجا لها إلى مماثلة الملوك، وذلك بمخاطبة الممدوح من الملوك بمثل مخاطبة المحبوب ثم استعمال ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجد.
अज्ञात पृष्ठ