وارتكازا على هذا التمييز البادي الوجاهة حاول «لسنج» في كتابه أن يحدد مجالات الفنون المختلفة، ويفصل بينها بحيث لا ينبغي أن يجازف فن منها بالخروج من مجاله إلى مجال آخر يتخلف فيه، ولكن أساس البحث لم يلبث أن تغير، فلم يعد يجري في تحديد المجالات الفنية بل في خصائص كل فن وممكناته حتى داخل المجال الواحد، فالفنون التشكيلية مثلا تستطيع أن تلتقط لمحة في المكان لتصورها، كما يستطيع فن الشعر أن يلتقط اللمحة نفسها، ومع ذلك يختلف مضمون أحدهما عن مضمون الآخر، وإذا كان تاريخ الشعر بخاصة والفنون عامة يوحي بأن كل فن قد حاول أن يغتصب خصائص الفن الآخر وإمكانياته حتى قيل - كما سبق أن أوضحنا - إن الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت، فإن مضمون كل من الفنين قد أخذ يتحدد بعد ذلك على نحو يلوح لنا اليوم حاسما، فالشاعر لم يعد يطمح إلى تجسيم الموصوفات كما كان يريد «البرناسيون» وأنصار الفن للفن، بل أخذ يحصر همه في أن يعبر عن وقع الموصوفات في نفسه وتفاعلها مع وجدانه، وكأن الوصف قد صار ضربا من شعر الوجدان لا ضربا من المحاكاة الجمالية، حتى ليلوح لنا أحيانا كثيرة أن الشاعر الحديث لا يلجأ إلى الوصف للتجسيد الحسي، بل كمحك للوجدان وامتزاج بالطبيعة وتجاوب معها وانفعال بها قد يصل إلى حد الحلول الشعري؛ أي إلى حد فناء الشاعر في الطبيعة وامتزاجه بها وخلع وجدانه عليها على نحو ما قال بودلير «إن الأشياء تفكر خلالي، كما أفكر خلالها.» ولعلنا نستطيع أن نجد مثلا رائعا لهذا الوصف الوجداني الذي يصل إلى حد الحلول الشعري في إحدى روائع أدبنا العربي الحديث وهي قصيدة «المساء» التي قالها شاعرنا الكبير خليل مطران في صدر شبابه سنة 1902 وهو مريض بمكس الإسكندرية، ومطلعها:
داء ألم حسبت فيه شفائي
من صبوتي فتضاعفت برحائي
وفيها يقول:
إني أقمت على التعلة بالمنى
في غربة قالوا تكون دوائي
إن يشف هذا الجسم طيب هوائها
أيلطف النيران طيب هواء
أو يمسك الحوباء حسن مقامها
هل مسكة في البعد للحوباء
अज्ञात पृष्ठ