وفي العطور الخفيفة المنسابة في أريج هوائك،
وفي كل ما يسمع وما يرى وما يتنفس،
ليتردد في كل هذا: أنهما كانا حبيبين.
هذا، ومن الخير دائما أن نذكر مع الفيلسوف فيكو أن محور الأدب في تاريخ الإنسانية كلها قد تطور من الآلهة إلى الأبطال، فالإنسان، وأنه ما دام قد انتهى إلى الإنسان فلم يكن بد من أن يصبح دافعه ومنبعه الأول هو التعبير عن ذات ذلك الإنسان، وما ينطبع فيها من مشاهد الحياة والطبيعة، أو ينبع من داخلها وحاجاتها وأشواق روحها، وهذا هو ما انتهت إليه الرومانسية التي جعلت من الوجدان الفردي نبع الشعر الثري، وإن تكن قد اختلفت بعد ذلك مع المذهب الرمزي في طريقة التعبير عن انطباعات الذات الفردية، وهل يكون هذا التعبير عن طريق التقرير المباشر أم عن طريق التصوير، وبذلك نعود فنذكر قول الشاعر الإغريقي القديم سيمونيدس: «إن الرسم شعر صامت، بينما الشعر رسم ناطق.» وهذه هي مشكلة التعبير بين الرومانسية والرمزية على نحو ما سنفصل في الحديث القادم.
الشعر والوجدان الفردي
من المؤكد أن الرومانسيين قد وضعوا للشعر الغنائي فلسفته النهائية عندما أخرجوه عن دائرة المحاكاة، وقالوا إنه تعبير عن الوجدان الفردي للشاعر بحيث نستطيع أن نقول إن جميع المذاهب الأدبية التي تلت الرومانسية لم تستطع أن تغير جوهر تلك الفلسفة؛ فقد ظل الشعر الغنائي منذ ذلك الحين حتى اليوم شعرا وجدانيا، فالرمزية لم تهاجم الطابع الوجداني للشعر الغنائي، بل أرادت أن تغير من فلسفة التعبير، فتستعيض بالصور عن التقرير المباشر، ولا تأتي بالتشبيهات والاستعارات والمجازات لجامع شكلي بل لجامع نفسي؛ أي كوسيلة للتعبير عن انطباعات النفس لا عن مظاهر الشكل الخارجي، والسيريالية لا تغفل الوجدان الفردي، بل تحاول أن تغوص إلى أغواره لتكشف عن عالم اللاوعي ومكبوتاته، والمذهب التعبيري يستهدف هو الآخر إبراز انطباعات النفس المتولدة عن مشاهد الطبيعة أو عن تجارب الحياة.
أما الواقعية والطبيعية اللتان تعتبران امتدادا لنظرية المحاكاة الأرسططالية فقد انحصرتا في فنون الأدب الموضوعية كفن القصة وفن المسرحية، وأما الشعر الغنائي فقد ظل دائما وجدانيا حتى في الآداب التي يطغى عليها التيار الواقعي، وإذا كان أديب كبير مثل مكسيم جوركي أو كوموجو الصيني يؤكدان أن الأديب الكبير لا بد أن يجمع بين الرومانسية والواقعية، فأكبر الظن أن رأيهما هذا ينصرف قبل كل شيء إلى الشعر الغنائي باعتبار أن الوجدان لا بد أن يكون منبع هذا الشعر، وإن كان يتحول في ظل الاتجاه الواقعي العام من وجدان ذاتي أناني إلى وجدان جماعي غيري، ولكنه يظل دائما وجدانا فرديا منبعثا عن ذات الشاعر الذي قد يدرك في ظل الواقعية الاشتراكية أن ذاته غير منفصلة عن مجتمعه وبيئته وطبقته الاجتماعية، وأن معظم هذا الوجدان متأثر بمحيطه ومؤثر فيه، وطبيعة الشعر الغنائي الوجدانية هي أيضا التي تدفع أديبا فيلسوفا كبيرا صاحب مذهب عالمي كجان بول سارتر زعيم الوجودية إلى أن يؤكد في كتابه «ما هو الأدب» أن الشعر الغنائي لا يمكن أن يخضع لمبدأ الالتزام الذي يريد سارتر أن يأخذ به فنون الأدب الأخرى كلها وبخاصة الموضوعية منها، كفن القصة وفن الأقصوصة وفن المسرحية. •••
فعندما نادت الرومانسية بأن الشعر تعبير عن الذات الشاعرة وبخاصة عن آلام الشاعر وشكواه من قيود الحياة الاجتماعية ولهفته إلى الانطلاق والتحليق، حتى قالوا إن خير الشعر ما كان أنات خالصة، انتشرت هذه الدعوة، وسط ظروف الحياة القاسية التي انبثقت منها، انتشار النار في الهشيم حتى عمت الإنتاج الأدبي كله، وسرعان ما انتهت إلى المبالغة والإسراف؛ فاستحال الشعر عند صغار الرومانسيين المقلدين إلى افتعال عاطفي وهلوسة روحية وتهويمات أثيرية وهروب من الحياة أو انطواء قاتل على الذات، ووسط كل هذه الاندفاعات أهمل التجويد الفني في وسائل التعبير، بل أهدرت في أحيان كثيرة القيم الفنية والجمالية للأدب كله، حتى انحدر التعبير إلى مستوى التقرير المباشر الضحل القليل الإيحاء، القريب الغور.
وقد أحدث هذا الإسراف في التيار العاطفي من الحياة والمحلق في أوهام الخيال دون اهتمام كاف بالناحية الفنية الجمالية للشعر، حتى لكأنه قد أصبح مجرد وسيلة للتعبير عن الذات الفردية، أحدث رد فعل مزدوج، فإلى جوار الرومانسية ظهر خلال القرن التاسع عشر المذهب الواقعي الذي يطالب بأن يسلط الأديب طاقته الخلاقة على واقع الحياة؛ لينتزع منه التجارب البشرية التي يريد أن يصوغها أدبا، وذلك لينصرف الأديب عن ذاته إلى موضوعه، ولكنه من الواضح أن هذا الاتجاه الواقعي لم يكن من الممكن أن يتسلط إلا على فنون الأدب الموضوعية كالقصة والمسرحية، وأما الشعر الغنائي فلم يستطع هذا التيار أن ينفذ إليه؛ ولذلك لا نكاد نجد شعرا يمكن أن يوصف بالواقعية بمعناها الفلسفي المحدد، وإنما نجد قصصا ينطبق عليها هذا الوصف كقصص «بلزاك وزولا»، كما نجد مسرحيات مثل مسرحيات «هنري بيك» وأقاصيص «جي دي موباسان».
وأما رد الفعل الذي كان له أثره في مجال الشعر الغنائي فقد كان فيما نادى به «تيوفيل جوتييه» وجماعته التي انسلخت عن المعسكر الرومانسي، ونادت بأن الشعر لا يجوز أن ينظر إليه كوسيلة لغاية أخرى حتى ولو كانت تلك الغاية هي التعبير عن ذات الشاعر؛ لأن الشعر في رأيه فن جميل يعتبر غاية في ذاته، وهذا هو مذهب «الفن للفن» الذي يقول بأن الشعر خلق لقيم جمالية تنحت من اللغة، حتى لنحس في قصيدة «الفن» لجوتييه، وهي القصيدة التي تعتبر إنجيل هذا المذهب، بأن جوتييه لا يفرق بين الشعر والنحت؛ فهو يطالب الشاعر بأن ينحت من اللغة أبياته، وأن يختار من مادة اللغة أصلبها، كما يختار النحات من الرخام أصلبه، ولا يزال يصارعه حتى يلين بين يديه ويخضع للصورة التي يريد أن ينحتها فيه؛ حيث يقول للشاعر:
अज्ञात पृष्ठ