وهذا الوجدان هو الذي يجعلنا على دراية بالموت والفقر والكوارث حتى قبل وقوعها، ونحن بالطبع نشقى بكل ذلك؛ ولكن هذا الشقاء «إنساني»، ولا نرتضي النزول عنه كي نعيش بالغرائز، نعيش في ذهول كما يفعل الحيوان، وعندما نربي أنفسنا أو أبناءنا إنما نعمد إلى هذا الوجدان، ونستنبط التعقل ومحاولة التعرف إلى الأشياء كما هي في حقيقتها، وليس كما تصورها لنا غرائزنا.
وواضح أنه ليس هناك إنسان يعيش بوجدانه فقط يتعقل كل شيء، ويتفهم الدنيا تفهما موضوعيا؛ لأن كثيرا من تصرفنا يعود إلى الغرائز التي نندفع بها أحيانا اندفاع الحيوان، أو نسلط عليها الوجدان بالتعقل، فنعين لهذا الاندفاع سرعته وطريقته.
ومهما حقر الإنسان وهان وانحط؛ فإنه يستطيع، عندما يتأمل عقله، أن يقول: ما أعظمني! أي ما أعظم عقلي الذي يتجرد من غرائزي، ويبحث النجوم والأخلاق والشرف والسياسة ومستقبل البشر، وفلسفة الكون، وتطور الأحياء.
ومهما عظم الإنسان وسما ونضج؛ فإنه يستطيع، عندما يتأمل غرائزه، أن يقول: ما أحقرني! أي ما أحقر هذه الغرائز التي اندفع بها إلى الطمع والحسد والعدوان والاقتناء والانغماس والنهم والشر!
ولأن الإنسان عرف الخسة التي تنحدر إليها غرائزه، وأحس مضض النفس وصداع القلب في المواقف التي اصطدم فيها عقله بغرائزه؛ لأنه عرف هذه المواقف، عمد في كثير من الأحيان إلى جحد هذه الغرائز بالزهد والنسك، ومن هنا نشأت الرهبنة في بعض الأديان إنكارا للغريزة الجنسية ولبعض الغرائز الأخرى؛ كالاقتناء والتسلط والحسد والانغماس ... إلخ، كأن الغاية أن نعيش بالوجدان والعقل.
ولكن هذا الانحياز نحو التعقل وإنكار الغرائز لا يطيقه إلا الأقلون، بل يجوز لنا أن نشك حتى في هؤلاء «الأقلين»، وهل أطاقوا نسكهم؟ وهل استطاعوا إنكار غرائزهم أم بقيت هذه الغرائز كامنة مختبئة في أغوار نفوسهم تتحين الفرص، لا للثورة على العقل فقط، بل أيضا للتسلل ملتوية منحرفة عن طريقها، حتى حملتهم على أن يسلكوا السلوك الشاذ، ويتصرفوا التصرف السيئ؟!
ونحن نعرف من السيكلوجية أن الغريزة وقت التهابها، عندما نسميها عاطفة، تفور بنا كالماء المغلي، وتطلب المنفس والمخرج، فإذا لم تجدهما اندست وبقيت بقوتها تبحث عن المخارج الضعيفة، حتى إذا وجدتها انفجرت، فلا يكون منها غير الأذى الفادح لشخصيتنا. وأولئك الذين حبسوا الغريزة الجنسية - مثلا - لم ينجحوا قط في إلغائها ومحوها، وقصارى ما وصلوا إليه عربدة جنسية مختلفة الألوان والأسماء، أو هم قد خدعوا أنفسهم من حيث لا يدرون، فاتجه نشاطهم الجنسي إلى ألوان قاتمة من السلوك والتصرف تؤذي المجتمع، وتفتت شخصياتهم.
ولا يطالبنا فن الحياة بكظم العواطف، وقمع الغرائز؛ لأننا لا نستطيع أن ننكر طبيعتنا؛ إذ إننا غرائز وعقل، فيجب أن نصالح بينهما؛ أي أن نهذب غرائزنا، ونجعلها ملائمة لقواعد المجتمع الذي نعيش فيه دون قمع أو جحد.
وفي أغلب الأحوال ينتهي معنى التهذيب للغرائز إلى الاعتدال؛ فلا نسرف في الانقياد للعاطفة الجنسية، ولا نغلو في الطموح والغيرة والحسد والتسلط. وكلمة «غريزة» من الكلمات الغامضة؛ لأننا نجهل أصلها، هل هو طبيعي أم اجتماعي؟ ولكنا عندما نتأمل نشاطنا الاجتماعي كله، ذلك النشاط الذي ينظمه العقل، وإن كان مرجعه غريزيا، نجد أنه يعود إلى ما يشبه أن يكون غريزة واحدة هي شهوة الأمن والطمأنينة.
وهذه الشهوة أصيلة في الطبيعة البشرية، وهي التي تدفعنا إلى جمع المال واقتناء العقارات والمنقولات، والانغماس في الكسب، كما أنها هي الأصل في الغيرة والحسد والطموح والطمع. ونحن نمارس كل هذه الأشياء مدفوعين بالخوف؛ أي الرغبة في الطمأنينة، ثم ننساق في عادات هذا النشاط التي تتملكنا فلا نعرف أين نقف؛ كتلك البهيمة التي نشدها إلى الساقية فتدور وتجرها مكرهة، حتى إذا جئنا كي نحل رباطها ونطلقها رفضت واستمرت في دورتها بقوة الاندفاع الأول.
अज्ञात पृष्ठ