سيجد القارئ أني وضعت بين قوسين مربعين كلمة «فراغ» أو «فراغ في الأصل»، إشارة إلى البياض الذي ورد في النص الأصلي. ونظرا لأوجه الاختلاف بين استخدام بعض علامات الترقيم في الصينية عنه في العربية (حيث يرد البياض في النص الصيني برسم ست نقط متتالية) فقد أوردت مكان الفراغ مصحوبا بلفظه أو ما في معناه بين قوسين كما ذكرت، علما بأن النص مليء جدا بمثل تلك الفجوات، وهو نقص لا حيلة للمحققين في إصلاحه، ولا للمراجعين في سد خلله؛ لأنه راسخ في بنية المتن المكتشف، وجزء أصيل من حالته، ساعة العثور عليه، لم تحدثه يد العبث أو التهاون، وإنما هو عوار نشأ - فيما يبدو - عن تقادم السنين، ومنه ما أمكن للمحققين تقدير معناه، فأوردته مترجما مع الإشارة إليه في موضعه مع ملاحظة أن مكان الفراغ قد يتراوح بين الكلمة المفردة أو الجملة أو العبارة القصيرة، دون إشارة واضحة إلى تلك الفروق عند إيراد خانة الفراغ سواء في النص الأصلي أو النص المترجم، وقد اكتفى الناشر لتوضيح ذلك الجانب، بأن جاء في ملحق الكتاب بصورة منقولة عن شرائح البامبو التي ورد عليها النص الأصلي في النسخة المكتشفة بالحفائر الأثرية، وسأحاول أن أنقل هذا الملحق في النسخة المترجمة إذا أمكن ذلك، حسب ما تسمح به الإمكانات الفنية في إخراج الكتاب. ويبقى أن أوضح للقارئ الكريم أني اضطررت إلى الترجمة التفسيرية اضطرارا ألجأتني إليه الضرورة الشديدة، عند نقل الفصل الثامن ، وهو بعنوان «أهمية أرض العمليات»، نظرا لما احتشد به الأصل من أسماء لنباتات عشبية تنتمي إلى فصائل وأنواع لا عهد للحياة النباتية الطبيعية في البيئة العربية بمثيلها، فأتيت بترجمة شارحة للمعنى، ونظرا لأن نقل المكافئ هو المحك في تقدير قيمة الترجمة، فقد حرصت على الإتيان به دون خلل أو نقصان.
لكن، لماذا نترجم هذا الكتاب، والآن؟ الأسباب فيها ما هو عام وما هو شخصي، أحدثك أولا بما هو عام، ثم تستطيع أن تمضي إلى النص مباشرة، بعد ذلك، دون أن تشغل نفسك بما قد لا يتصل، إلا عرضا، بأجواء إنتاج نص مترجم.
في السبب العام، فهذا كتاب تراثي يقع ضمن مجموعة الكتب العسكرية القديمة، وهي إحدى أركان مكتبة متفردة في موضوعها، حتى في مبحث المدونات الصينية التاريخية، فهي جزء من تاريخ الفكر العام، حتى بالمعنى الإنساني الكبير؛ لأن المادة التراثية الصينية ملك للبشرية كلها، وكتب الحرب الصينية شاملة لدلالات إنسانية عريضة، تتجاوز مفاهيم الصراع المسلح، فمحتواها يتسع لمجالات متنوعة في معنى التنافس والصراع، ليشمل كل ما يمكن أن يتصل بنوازع الإنسان إلى التفوق والغلبة حتى في ميادين السلم، ففي التجارة والدبلوماسية وإدارة الأعمال، بل الرياضة ومساجلات الانتخابات السياسية لون من المنافسة الحامية التي تتوسل بأساليب القتال، وإن بطرق أخرى، وقد أختلف مع الذين يقصرون قيمة الكتاب على الجوانب الفنية (العسكرية)، دون أن يمدوا أبصارهم إلى ما يحفل به من عناصر أخرى لتقدير مزاياه بوصفه مادة تراثية ذات مضمون فلسفي، بالإضافة طبعا، إلى ميزته الجوهرية باعتباره وثيقة أثرية تكشف عن جانب من تاريخ الفكر الصيني، بوجه خاص؛ والإنساني، بوجه عام. هذا ومن نافلة القول التأكيد على أهمية الوعي بذلك التراث الثقافي، لا سيما أننا على وشك بدء زمان جديد يمتد الوعي الثقافي فيه، نحو آفاق الإبداع في منطقة تمثل بطبيعتها قطبا من أقطاب التميز الثقافي والحضاري والإنساني، وهي منطقة أقصى شرق آسيا. إن وجودا جديدا - حتى بالمعنى الأنطولوجي! - يضاف إلى حصيلة الوعي الإنساني بهذه الإطلالة إلى الشرق البعيد، وأظن أن من المفيد، بهذا المعنى، إتاحة الفرصة للقارئ العربي للتعرف إلى مصادر التراث الصيني مترجمة عن أصولها (كلما أمكن).
أما في الدافع الشخصي للكتاب، فذلك جانب لا ينفصل كثيرا عما هو عام؛ ذلك أني كنت وما زلت أرجو بمثل هذه الترجمات عن الصينية (وتأثرا بنماذج الجهود التبشيرية الأوروبية في الصين منذ القرن السابع عشر) أن أكون قد ساهمت بنصيب في التمهيد لفكرة تأسيس مدرسة فكرية عربية للدراسات الصينية. ومثلما بدأت الأنشطة الأوروبية مشروعها بالاهتمام بترجمة التراث الصيني، فهكذا أحاول، وإن بجهد ضئيل، صحيح أني أشعر بكثير من الخجل عندما أمد قلمي لترجمة موضوعات تتسع الهوة بينها وتبتعد فواصل التخصص بين حدودها: فن عسكري، فسلفة، رواية، شعر، تاريخ أفكار ... إلخ، بل قد ينتابني إحساس بالعار [كذا] وأنا أتناول بجرأة أعتذر عنها، مقدما، موضوعات تخصصات شتى، كأنني واحد من أولئك الحواة والباعة الجائلين في الأزقة والحارات، ممن يفقهون كل صنعة وحرفة، بما يحملون في جعبتهم الجاهزة من أدوات سحرية. وصحيح أن بيننا، اليوم، وسيبقى إلى الغد القريب أيضا، من حازوا الجرأة على ترجمة كل مجالات الإبداع - وغير الإبداع - من الفلسفة والأدب والسياسة والتاريخ، بل تحضير الأرواح، وكل ما يخطر على البال، باعتبار أن الترجمة مهنة أي واحد من الناس فتح عليه الله القدير بشيء من فهم الرطانة، ويبدو أن شيئا من توابع عهود الاستعمار الطويل في عالمنا العربي أورث مفهوما شائعا عن المترجمين بأنهم أولئك النفر من الوسطاء بين الأجنبي والوطنيين، ممن يملكون قدرا من ظلال السلطة، باعتبار أنهم المفسرون لرطانتها، والتابع بطبيعة الحال يكتسب شيئا من اقتدار السيد الأقوى، فمن ثم شاعت فكرة المترجم القادر، بقدرة خارقة، على كل شيء، ولو أن الهندسة الوراثية لم تستطع إنتاج سوبرمان خرافي، لكن تاريخا عبثيا من زمن بغيض أنتج لدينا ذلك الصنف من المترجمين/السحرة، القادرين على كل شيء. والحق، فإن الترجمة رديف التأليف، وهي، وإن لم تفز بموهبة ابتكاره، إلا إنها باءت بسيئ خصاله، لا سيما في مسألة التخصص هذه، فالترجمة تفرض، في ظني، حدودا للاجتهاد داخل إطار من اصطلاحات مقيدة، وفكرة «المكافئ»، تلك التي صدع بها المنظرون للترجمة رءوس الدارسين، تكمن - ما زالت - في كل جهد ترجمي بالدرجة التي تقيد كل محاولة للترجمة داخل ألوان محددة من أطياف الإبداع. والتخصص التزام ومسئولية أمام الذات والقارئ، ولئن كانت الصحافة في عصورها الحجرية القديمة قد ساهمت في إشاعة ذلك المفهوم الخرافي للمترجمين، فمن واجب الجميع اليوم أن يتواضع أمام طبيعة زمن تحض على التخصص، منذ وقت طويل.
ولقد جاء حين من الدهر بدا فيه أن الترجمة المباشرة، والترجمة الضمنية (التناص) تناوبتا العمل على تركيبة ثقافية تأثرت بمشروعات النهضة في المستعمرات القديمة، وهي المشروعات التي اعتمدت الترجمة، ضمن برامج التحديث الثقافي، لكن شيئا من طاقات الرصيد الثقافي القديم لم ينمح، هناك دائما ما يتشبث للبقاء بعناد، لكننا - أنت ترى - نكتب الآن في زمن مختلف، والقراء يسمعون ويرون وفي عالم تغلب على دنيا تأملاته أطر مربعة للصورة الواحدة، يصبح من المجازفة فيه أن تحتل صورة الكتابة فيه أكثر من إطار، ومع ذلك فسيظل الكثيرون يمارسون الترجمة، بعد الظهر، وفي غير أوقات العمل الرسمية، وسنقرأ كثيرا عن المبدع الذي يشتغل شاعرا ومترجما، لأن جانبا مهما من التصورات الأسطورية الباقية في الضمير الجمعي (بكل ما تحتمله من رموز) لا يفصل الإبداع عن فكرة الخلق، حتى بتجليها المادي في تلك الصور الخرافية للأيقونات التي نصفها ذكر والنصف الآخر أنثى، ولو أن الأمر، هنا، بكل ما يحتويه من ارتجال وعبث، أكثر خرافة حتى من تلك المناظر الأيقونية، فهو أقرب شيء لصخب الموالد الشعبية وألاعيب الحواة، لكن هذا ليس موضوعنا. (الغريب حقا، أن الترجمة على يد الشيخ الطهطاوي، في بداية مشروع التحديث كانت تقوم على مفهوم التخصص، ولم يكن المترجم في الشئون العسكرية، مثلا، يدس أنفه فيما يتجاوز مجال اصطلاحاته، بل إن الشيخ رفاعة نفسه لم يترجم سوى رواية واحدة، وتقريبا، وحسب ما بدا لي من مراجعة أوراقه الخاصة المودوعة في دار الوثائق القومية، بالقاهرة، فلم يكن يترجمها للجمهور، وإنما كان يواسي بها نفسه، في وقت أزمة نفسية عصفت به لفترة ما، لكن تلك حكاية بعيدة عما نحن بصدده ...)
وإذا كان تلامذة الشيخ ممن ترجموا في الموضوع العسكري، التزموا بحدود إبداعهم، حسبما تيسر لهم من طرائق معالجة المفاهيم العميقة في إطار تخصصاتهم، فها أنا ذا أحد أحفاد تلامذته أخرج، آسفا، عن تلك القاعدة، بما أترجمه في الرواية والفلسفة والسياسة ونظريات الحرب من التراث الصيني.
وإذا كنت لم أفلح في أن أرث عن الألسن القديمة انضباطها، فقد ورثت عن الشيخ شيئا من أزمته التي كادت تعصف به، مع أني ابن زمان ثان، زمان لم تنفتح فيه طاقة إدراكي للدنيا إلا على مشهد الحرب، وكنت أنتقل - مثل سونبين - من بلد إلى آخر مهاجرا ضمن المهجرين، الذين غادروا مدينة القناة المشتعلة تحت القصف، ليلة الخامس من يونيو، لم أستغرب سوى المشهد، الذي سأظل أذكره طوال العمر، حتى ينتهي العمر، وما زلت كلما ذهبت إلى هناك، برغم كل تلك السنين، ما زلت كلما سرت في تلك الأنحاء، أنظر مليا إلى الشارع، والمقهى، ومزلقان السكة الحديد عبر الثلاثيني، وأري تلك الحشود الراجلة، حتى في عز النهار، تعود المناظر معتمة مثلما رأيتها في الوقائع، لم أكن أستغرب إلا المشهد، نعم؛ لأني وعيت حكاية الحرب منذ الطفولة، منذ كان الوالد - المحارب القديم، الضابط بالقوات المسلحة - يحكي وقائع تلك المسيرة الليلية الطويلة من «الكنتلة» إلى «بير لحفن» ثم مهتديا بدرب غائم في صحراء سيناء حتى انتهى به المسير عند «القنطرة شرق» بعد أن أعلن استشهاده مدة ثلاثين يوما - إثر معركة العدوان الثلاثي على مصر - واتخذ الأهل الحداد. كانت تلك سنوات مضت، وكان الأب عائدا بعدها من حرب اليمن، ثم من حرب الاستنزاف، وكثيرا ما قص علي، أنا الابن الأكبر، وقائع المعارك التي خاضها، حتى ظننت أن كل الحكايا تتضمن بالضرورة سيرة حرب. ثم كنت في سنوات الدراسة الجامعية قد التقيت بالدكتور يانغ شي تشيوان - الذي أدين له بالعمر كله، فهو الأب الروحي - وكان هو الآخر شاهد عيان على سنوات حرب - الحرب الكورية - وكانت تجربة عمره هناك، وقد لقنني إياها كاملة، ومنه عرفت تراث الحرب الصيني، وعرفت أبطال الملاحم القديمة، تصو ساو، جو كي ليانغ، أوسونغ، وعرفت كيف أن الحرب تصنع التاريخ، وأنها تجربة جديرة بالتأمل، بين هؤلاء الرجال عشت سنوات، لم تكن كثرة السنوات هي المحك، لكن العمق. لقد تأثرت بكل ذلك العمر، بكل كياني، حتى عشت أياما فوق عمري، وقد يمتد بي الزمان، أو يقصر، لكني لم أعش سوى تلك الأيام «ولم يكن سهلا أن يعيش المرء بعد الحرب» هكذا قال أبي، وكثيرا ما كان يقطع حديثه، فجأة، ليخرج لفافة قديمة تحمل بقايا شظيات متفرقة وقطعة ضئيلة من بقايا عظام مهشمة، ويحكي كيف استطاع أطباء «دار الشفاء» أن يستخرجوها من مرفق الساعد الأيسر، ذلك الساعد الذي تشوهت ملامحه، لكنه ظل يتحرك، لا بأس، بيد أنه ظل يكره القمصان طويلة الأكمام، وأورثني تلك الحساسية حتى الآن، حتى ظللت أحمل ساعدا مصابا بغير حرب. ظل الرجل، من حين لآخر، يتحسس شظية وحيدة متبقية وراء ألياف الكتف الأيسر، غائرة لكن محسوسة بضغط الأنامل «أنظر، لن تراها، فقط، بالضغط الخفيف تجدها، لا تتكئ كثيرا؛ فهي موجعة، هكذا، برفق»، تحدثنا عمرا بأكمله، وكان ذات يوم استرسل حانقا؛ لأني أسلك مستقبلا لا يراه سديدا، وكانت المرة الأخيرة التي تكلمنا فيها، وافترقنا غاضبين، ثم كان الرحيل، ثم مضت ثلاث سنوات، وأغلق دفتر الوقائع الماضية، وبقي التذكار غصة غائرة. انظر، هي ذي أيضا آلام موجعة، لا تتكئ كثيرا، فمجرد انتباهة ضئيلة تكفي لإيقاظ الألم، ثم إنك رحلت سيدي، وما عاد يؤلمك شيء، وكل الحكايات انتهت، وتناثرت آثار الشظايا وراء السنين. تحدثت طويلا، ولم أصغ إليك، فلما انتبهت، كنت قد ذهبت. كذا تمضي الحرب بالسنين، وتكتب مدونات الوقائع على هامش ساحات الصراع، كنت تريد أن نكتب معا مدونة تلك الأيام، وأمليت علي شطرا، ثم أطبق الصمت، ولم يعد سوى الأوراق الذابلة، ولفافات تطوي الألم، فإليك أهدي ترجمة هذا الكتاب.
محسن فرجاني
القاهرة، فبراير، 2010م.
الباب الأول
अज्ञात पृष्ठ