ولا نريد بهذا أن نقول إن تحصيل اللذة الراهنة هي القاعدة المثلى الجديرة بحياة الإنسان الأدبية، باعتباره إنسانا، على ما يدرك من هذا المعنى في أرفع منازله، بل نقول: إنها القاعدة الضرورية، وبهذا نستطيع أن نعلل الأوامر والنواهي التي جاءت بها الأديان، فلما كانت الشهوة أقوى ما يستولي على النفس كان لا بد لقمعها من مؤثر آخر يوازنها قوة وأثرا، فلجأت الأديان إلى الإيمان توقظه في النفس، فإذا استيقظ غرست فيه نواهيها وأوامرها، وهنالك يقوم العراك بين نواهي الإيمان وبين بواعث الشهوة، ومع الأسف أن بواعث الشهوة لا تزال في الكفة الراجحة حتى اليوم، وبين كل شعوب الأرض قاطبة. •••
ولا يقمع الشهوة إلا الإيمان؛ إذن فالنوع البشري يحتاج إلى الإيمان، الإيمان في الدين؛ لأن الدين بلا إيمان لا أثر له في خارج النفس، ويحتاج إلى الإيمان في بقية مرافق الحياة، في العلم والأدب والفن والفلسفة، وفي السياسة والتجارة والصناعة والزراعة، وعلى الأخص الإيمان بقدسية الحياة الإنسانية، وحريتها وحقوقها وواجباتها، فإننا بالإيمان نستطيع أن نقمع كثيرا من الشهوات التي تفسد علينا الحياة الآن. •••
وبقدر ما نحتاج إلى الإيمان نحتاج إلى الشك؛ لأن التسليم بلا شك قاعدة فاسدة الأساس، بل نستطيع أن نقول إن الإيمان لن يكون تسليما على إطلاق القول، وما ندعوه إيمانا في الغالب، ليس إلا تسليما أساسه حمق وغباء وتقليد ليس من الإيمان في شيء. •••
وقد يخيل إلى الذين لم يستعمقوا في درس الفلسفة أن أرسطبس إنما يدعو إلى اتباع الفلسفة التي توحي بها فكرة تحصيل اللذة الراهنة، كيفما كانت هذه اللذة، وعلى أية صورة وقعت، وأنه يرى أن هذه القاعدة هي القاعدة المثلى في السلوك الأخلاقي، ولكن الحقيقة على نقيض ذلك؛ فإن أرسطبس إنما يقول بأن تحصيل اللذة الراهنة ضرورة نفسية، نخضع لها قسرا عنا، وأن الاعتراف بذلك خير من نكرانه؛ لأننا باعترافنا وإدراكنا حقيقة كياننا، نستطيع أن نرفه شيئا من حدة ميولنا، وأن ننظمها ونروضها على أن تتحول إلى فعل الخير على قدر المستطاع، ذلك على الضد مما نكون، إذا أهملنا الاعتراف بها، ومضينا نقول بأن حكم الضمير كاف للتهذيب، من غير أن نعير الشهوة وأثرها في الحياة؛ التفاتا، فالفرق بين أرسطبس وكانت ينحصر في أن الأول يعترف بالواقع، والثاني يدعو إلى المثل العليا. •••
شاء القدر أن يظل مذهب أرسطبس غير معروف عند العرب إلا لماما، شأن أكثر المذاهب التي تفرعت عن دوحة سقراط العظيم، وشاء القدر أن يحاول أرسطوطاليس أن لا يذكر اسم أرسطبس، بالرغم من أنه ناقش في مذهبه مناقشات طويلة في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخس»، بل وأخذ ببعض مبادئ المذهب القوريني، فحورها وأدمجها في مذهبه، وشاء القدر أن لا يذكر بر تلمي سنتلير هذا المذهب في المقدمة المستفيضة التي وضعها لترجمة كتاب أرسطوطاليس في الأخلاق تعيينا، كما أنه لم يناقش مذهب الرواقيين، الذين هم فرع من دوحة أرسطبس، وحلقة انتقال في المذاهب الأخلاقية، أساسها المدرسة القورينية، وهم أقرب إلى السقراطية من أرسطوطاليس. «وما كان أرسطبس بأول فيلسوف أساءت إليه الأقدار، وما كان أول إنسان ظلم حيا وميتا.»
قال الكاتب الإنجليزي الأشهر جون مورلي في أول ما كتب عن حياة «كوندورسيه
Condorcet »:
من الزعماء الذين أشعلوا نار الثورة الفرنسوية وغذوها بوقود الفكر والعمل، لم يبق سوى كوندورسيه ليجني أول ثمراتها المريرة، فإن الذين أثاروا العاصفة لم يكونوا بعد بين الأحياء، ليلفح وجوههم ريحها العاصف، ولم يبق إلا كوندورسيه ليواجه العاصفة، فتلقيه صريعا.
كان فولتير قد مات، ولحق به ديدرو، وروسو، وهلفتيوس، ولكن كوندورسيه بقي حيا، بعد أن أخذ بضلع في أعداد الإنسيكلوبيدية، ليشغل مقعدا في الجمعية الوطنية أثناء الثورة، وبعد أن عاون كوندورسيه الذين غرسوا شجرة الثورة، شيعهم الواحد تلو الآخر إلى مضاجعهم الأخيرة، وشاء القدر أن يظل حيا، ليجني ثمرات ما غرست يداه وأيديهم.
قلما تجد في تاريخ العظماء اسما أتعس من اسم كوندورسيه، وعلى الرغم من أن الذين أحاطت بهم التعاسة، وحاق بهم نكد الطالع كثيرون، فإن أكثرهم قد جر التعاسة إلى نفسه بيده، أما كوندورسيه الرجل المحب للخير بطبعه، فإن ظروف حياته وضعته موضعا لم ينل فيه رضاء فئة من النقاد الذين كتبوا في تاريخ الثورة الفرنسية، فهو كمفكر يعد من الاقتصاديين غالبا، وكرجل سياسي يعد من زعماء الجمعية التشريعية الأولى، ثم من رجال الجمعية الوطنية الثورية.
अज्ञात पृष्ठ