تصدير الطبعة الثانية
مقدمة
1 - العلم بين فلسفته وتاريخه
2 - ميراث تلقاه القرن العشرون: العلم الحديث
3 - فلسفة العلم الحديث (الكلاسيكي)
4 - ثورة الفيزياء الكبرى من منظور فلسفة العلم
5 - التجريبية أصبحت منطقية
6 - من منطق التبرير إلى منطق التقدم
7 - فلسفة العلم والوعي بتاريخ العلم
تصدير الطبعة الثانية
مقدمة
1 - العلم بين فلسفته وتاريخه
2 - ميراث تلقاه القرن العشرون: العلم الحديث
3 - فلسفة العلم الحديث (الكلاسيكي)
4 - ثورة الفيزياء الكبرى من منظور فلسفة العلم
5 - التجريبية أصبحت منطقية
6 - من منطق التبرير إلى منطق التقدم
7 - فلسفة العلم والوعي بتاريخ العلم
فلسفة العلم في القرن العشرين
فلسفة العلم في القرن العشرين
الأصول - الحصاد - الآفاق المستقبلية
تأليف
أ.د. يمنى طريف الخولي
تصدير الطبعة الثانية
هذا الكتاب محاولة طموحة لتقديم رؤية بانورامية شاملة لفلسفة العلم، هي بدورها رؤية شاملة لظاهرة العلم ذاتها في إطارها المعرفي والحضاري وعلاقتها بالأبنية والظواهر الثقافية الأخرى، فليس العلم محض مهنة تحترفها فئة من ذوي العقول المتميزة جيدة الإعداد؛ هي فئة العلماء. العلم أعم وأهم، إنه أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية، ألقيت أصوله في الحضارات الشرقية القديمة، وصيغت أسسه النظرية في حضارة الإغريق، حتى كان الدور العظيم الذي قامت به الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي. ولم نتوان عن إبراز هذا الجانب في الفصل الأول من الكتاب، فقد كان تاريخ العلوم عند العرب هو المقدمة الشرطية، التاريخية والجغرافية والمنطقية، المفضية لنشأة العلم الحديث.
لقد سار العلم عبر التاريخ، حتى كانت التطورات التي لحقت بالعلم الحديث فخلقت الخلفية الضرورية لنشأة فلسفة العلم، واكتمل الإطار اللازم لها منذ ما يسمى بعصر التنوير، فتجسدت وتبلورت ونمت كفرع من فروع الفلسفة الغربية في القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين باتت فلسفة العلم من أهم فروع الفلسفة المعاصرة وأكثرها استقطابا لأبعادها الشتى وتعبيرا عن منحنياتها، وبالتالي الأجدر بالعناية ... وتجتهد صفحات الكتاب لتكشف عن تفاصيل هذا ومبرراته وحيثياته ومردوداته.
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في الشهر الأخير من القرن العشرين، ديسمبر من عام 2000م على سبيل توديع القرن برؤية شاملة لواحد من أسطع جوانب النبض العقلي في أعطافه، رؤية تتبع الأصول وتستقصي الحصاد، وتحاول استشراف الآفاق. وقد صدرت عن سلسلة «عالم المعرفة» المرموقة التي يخرجها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت الشقيقة ذات العطاء الباذخ في مضمار المنشورات الثقافية العربية رفيعة المستوى، خرجت الطبعة الأولى في أربعين ألف نسخة نفدت فور صدورها في سويعات معدودة كمؤشر إيجابي على ما ينتظره القارئ العربي الجاد من الدراسات الفلسفية، أما وقد تصاعد الطلب عليه، فلا نملك إلا أن نزجي الشكر بالغا منتهاه للهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي هرم مصري رابع، ومنبر رسمي شاهق لإنتاجنا الثقافي؛ إذ تتفضل بإتاحته مجددا للقارئ العربي ... بعد أن شرفتني على مدار العشرين عاما الماضية بنشر أول أعمالي، ثم خمسة من أهمها، في طبعات متتالية.
وقد راودني التفكير في أن أضيف إلى هذا الكتاب فصلا جديدا عن مستجدات لاحقة في فلسفة العلم، وكان بعضها موضوعا لأعمالي التالية التي نشرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أي في السنوات التالية على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ولعل أبرزها الفلسفة النسوية وفلسفة البيئة وما بعد الاستعمارية في فلسفة العلم، والتوجهات الصاعدة عن شرق آسيا خصوصا اليابان الرائد العملاق، وأخلاقيات العلم، والتطورات المستحدثة في فلسفة الكوانتم ... ولكني آثرت أن يبقى على صورته في طبعته الأولى، بحدودها المرسومة لتحقيق أهدافها المتعينة، التي مثلت بنية معمارية متكاملة ومترابطة اتسم بها هذا الكتاب الأثير إلى نفسي، وقد لاقى بحمد الله تعالى استحسانا جما وثناء جميلا من المتخصصين في الفلسفة وفي العلم على السواء، ومن صفوة المثقفين وجمهرة القراء ...
نحمده تعالى ونسأله التوفيق والسداد في خدمة الثقافة العربية والوطن العربي، الوطن الأكبر، ولتبقى مصر قلبه النابض ومنارة من منارات المعرفة، إن فلسفة العلم بدورها تجل ساطع من تجليات سؤال المعرفة.
يمنى طريف الخولي
4 مايو 2008م
مقدمة
ظاهرة العلم أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية، وأكثرها تمثيلا إيجابيا لحضور الإنسان - الموجود العاقل - في هذا الكون. ولئن كان العلم الحديث يمثل مرحلة شديدة التميز والتوهج من مراحل تطور العلم والعقل والحضارة إجمالا، فإن القرن العشرين أتى في إثرها ليضاعف مردودات العلم وحصائله بمعدلات متصاعدة غير مسبوقة، وبات العلم العامل الفاعل الحاسم في تشكيل العقل والواقع على السواء، ومن ثم باتت فلسفة العلم بدورها أهم فروع الفلسفة في القرن العشرين، والمعبرة عن روحه العامة وطبيعة المد العقلي فيه، وحواراته العميقة التي يتلاقى فيها الرأي والرأي الآخر.
وهذا الكتاب يستغل القدرة الفريدة للمناهج الفلسفية من أجل تأطير ظاهرة العلم في الوعي. كيف بدأت أصول العلم بالبدايات الأنثروبولوجية السحيقة؟ كيف نما وتطور؟ كيف اتجه وسار عبر الحضارات؟ حتى وصل القرن العشرين عملاقا باذخ العطاء ... منذ الحضارات الشرقية القديمة والحضارة الإغريقية والعصر السكندري ... لماذا بلغ العلم القديم قمته في رحاب الحضارة العربية الإسلامية؟ كيف كانت المرحلة العربية هي المقدمة المفضية منطقيا وتاريخيا وجغرافيا إلى مرحلة العلم الحديث؟ ما هي الظروف الحضارية والمعرفية التي انبثق عنها وبفعلها العلم الحديث في أوروبا؟ كيف استقامت في نسقه الصاعد الواعد فروع العلم المختلفة؟ ما دور الفلك؟ لماذا تحتل الرياضيات المنزلة العليا حتى تلقب بملكة العلوم والمبحث الصوري الرفيع المترفع عن شهادة الحواس؟ كيف اتحد الاستدلال الرياضي مع وقائع التجريب في بنية الفيزياء لتعطي مثلا أعلى للمعرفة بهذا الكون استوعبته سائر العلوم الفيزيوكيمائية؟ كيف تمثلته العلوم الحيوية وهي لم ترتكز على الاستدلال الرياضي؟ وأيضا العلوم الإنسانية، على الرغم من الاختلاف النوعي لظواهرها، وكيف يمكن دفعها قدما؟ انعكس كل هذا في الفلسفة فصاغت الأسس المعرفية التي تميز العلم الحديث كأنجح مشروع ينجزه الإنسان، هذا النجاح المطرد اعترضت مساره أزمة الفيزياء الكلاسيكية، استقبلها القرن العشرون بثورة حق اعتبارها أعظم انقلاب في تاريخ العقل البشري، ثورة الكوانتم والنسبية، ومن قبل كان ظهور الهندسات اللاإقليدية والرياضة البحتة، فصاغت فلسفة القرن العشرين نظرية مختلفة للمعرفة، تمثيلا لمرحلة جديدة ارتقى إليها العقل العلمي وباركتها المنجزات والحصائل، وواكبها انقلاب مماثل في الصياغة الفلسفية للمنهج العلمي، بوصفه أنجع وسيلة امتلكها الإنسان للتعامل مع الواقع وحل المشكلات. كيف نشأ المنطق الرياضي ليصبح عصبا لفلسفة القرن العشرين عموما؟ كيف تطورت بفضله أدوات فلسفة العلم خصوصا ومعالجتها لبنية النظرية العلمية، فيتضح كيف أن إمكانية التقدم مفطورة في صلبها، في أصفى وأقوى صياغة لمقولة الثورة والتقدم في حياة البشر. بمنطق التقدم العلمي أصبحت الفلسفة تنظر إلى العلم كفاعلية إنسانية متحركة نامية دوما، عبر التفاعل مع البنيات الحضارية المختلفة، وفي ضوء تطوره التاريخي. حدث أخيرا تلاق حميم بين قطبي الثقافة العلمية: فلسفة العلم وتاريخه، فأصبحت فلسفة العلم أكثر شمولية للموقف الإنساني من أية فلسفة أخرى، وتشابكت علاقاتها وانفتحت أمامها آفاق مستجدة تماما ...
هذه بعض من الموضوعات التي يعالجها هذا الكتاب في إطار محاولة لطرح إجابة متكاملة متحاورة الأطراف عن السؤال: كيف تسلم القرن العشرون فلسفة العلم؟ وكيف تطورت على مداره؟ وكيف أسلمها إلى القرن الحادي والعشرين؟
وبعد ... يخرج هذا الكتاب بين يدي القارئ الكريم، وقد مضى أكثر من عشرين عاما وأنا سابحة في بحور فلسفة العلم ومياهها العميقة، في نصوصها وإشكالياتها ومنحنياتها ومراميها وفعالياتها ... والرؤى المختلفة والمتقابلة لتاريخ العلم ومسيرته عبر الحضارات، خرجت بحصائل جمة لا بأس بها، لكنها كانت فرائد، أتى توجيهها وتوظيفها في هذا الإطار المتكامل، من فيء لقائي بأستاذ جيلي الدكتور فؤاد زكريا، لقد تفضل سيادته بأستاذيته المكينة والمعطاءة، وأرشدني إلى فكرة هذا الكتاب، وتتابعت الإرشادات والتوجيهات عبر خطوات الإنجاز، ثم يتضاعف عرفاني وامتناني لأستاذي الجليل الدكتور فؤاد زكريا، لما تحقق من استفادة بالغة بأعمال سيادته، تأليفا وترجمة، والتي هي أعمال رائدة وفاعلة وناجزة في إرساء أسس فلسفة العلم وأصول التفكير العلمي في الحضارة العربية.
ويبقى امتناني لسائر أساتذتي الذين تعلمت على أيديهم ومن أعمالهم، وأيضا ابني حكيم حاتم، وحبي العظيم له - ولشقيقته يمنى - وقد اختار لدراساته فرعا متقدما من فروع العلم ورياضياته العالية، لا شك أن مناقشاتي معه الحية المستفيضة حول أصول مفاهيم علمية وأبعادها الحضارية والمنظورات الإنسانية الشاملة لها ... قد ساهمت في إضفاء مزيد من الحب والحيوية والنضارة على إنجازي لهذا الكتاب، وتتفضل سلسلة عالم المعرفة المرموقة بتقديمه إلى القارئ العربي، في إطار السعي نحو توطين الوعي بظاهرة العلم كظاهرة إنسانية حميمة متدفقة في سياق حضاري موات، وتعميق أبعاد الروح العلمية بين قراء العربية، لا سيما أمثاله من شباب العلميين.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير الثقافة العربية.
الفصل الأول
العلم بين فلسفته وتاريخه
(1) مدخل
أولا: علاقة متوترة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم
يقول هيدجر: إن العلم لا يفكر في ذاته. ويمكن أن نضيف إلى هذا أنه لا يعنى كثيرا بذاكرته، ولا يلتفت إلى ماضيه، فديدن العلم في أن يصحح ذاته ويجدد نفسه ويتجاوز الوضع القائم، ناهيك عن الماضي، إنه يشحذ فعالياته المنطلقة بصميم الخصائص المنطقية صوب الاختبارية والتكذيب والتصويب، صوب مزيد من التقدم والكشف، أي صوب المستقبل دوما.
لذلك لم تكن علاقة العلم بتاريخه مماثلة لعلاقة الكيانات الحضارية الأخرى بتاريخها، فقد تعتبره بمثابة سجلها المدون الذي يحمل معالم تشكل هويتها، فلا تنفصل عن تاريخها إلا إذا كان للشخص أن ينفصل عن بطاقة هويته، ولعل المنطلق الفلسفي يطرح علاقة الفلسفة - قبل أي شيء آخر - بتاريخها، ولما كان تاريخ الفلسفة هو ذاته الفلسفة، فإن هذا يبرز كيف تنفرج الهوة بين العلم وتاريخه.
ولكن بقدر ما نجد العلم في القرن العشرين قد أصبح الفعالية العظمى التي تشكل وتعيد تشكيل العقل المعاصر والواقع المعاصر، يوما بعد يوم وإلى غير نهاية، نجد تاريخ العلم هو تاريخ العقل الإنساني والتفاعل بينه وبين الخبرات التجريبية أو معطيات الحواس، هو تاريخ المناهج وأساليب الاستدلال وطرق حل المشكلات التي تتميز بأنها واقعية عملية ونظرية على السواء، إنه تاريخ تنامي البنية المعرفية وحدودها ومسلماتها وآفاقها، تاريخ تطور موقف الإنسان بإمكاناته العقلية من الطبيعة والعالم الذي يحيا فيه، تاريخ تقدم المدينة المدنية والأشكال الحضارية والأساليب الفنية التي يصطنعها الإنسان للتعامل مع بيئته؛ لكل ذلك يحق لنا القول: إن تاريخ العلم وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد.
وعلى أية حال، إذا كان العلم لا يفكر في ذاته، فإن فلسفة العلم هي التي تتكفل بذلك العبء وتضطلع بالتفكير في ذات العلم ... في منهجه ومنطقه وخصائص المعرفة العلمية وشروطها وطبائع تقدمها وكيفياته وعوامله ... على الإجمال التفكير في الإبستمولوجيا - أي نظرية المعرفة العلمية - ثم العلاقة بينها وبين المتغيرات المعرفية الأخرى والعوامل الحضارية المختلفة.
وإذا كان العلم لا يلتفت كثيرا إلى ماضيه، فإن فلسفة العلم أصبحت لا تنفصل عن الأبعاد التاريخية لظاهرة العلم فغدت شديدة العناية بتاريخ العلم، بحيث إن المتابع لتطورات فلسفة العلم في القرن العشرين يلاحظ أن أبرز ما أسفرت عنه هذه التطورات هو حلول الوعي التاريخي في صلبها، فتستقبل فلسفة العلم القرن الحادي والعشرين، وقد انتقلت من وضع مبتسر استمر طويلا يولي ظهره لتاريخ العلم ولدوره في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهما أعمق، فضلا عن دفع معدلات التقدم العلمي، ويكتفي بالنسق العلمي المنجز الراهن، ويفلسفه بما هو كذلك على أساس النظرة إليه من الداخل، أو النظرة إلى النسق العلمي في حد ذاته ... انتقلت فلسفة العلم من هذا إلى وضع مستجد يرتكز على الوعي بتاريخ العلم، فيفلسف العلم في ضوء تطوره التاريخي، وعبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية، مما يعني تطورا ذا اعتبار في منطلقات وحيثيات وعوامل النظرة الفلسفية إلى العلم، وهذا التطور في الواقع هو تكامل النظرة إلى العلم من الداخل مع النظرة إليه من الخارج، أي باختصار نظرة فلسفية أشمل لظاهرة العلم.
ولا شك أن فلسفة العلم هي المعبر الرسمي والشرعي عن أصول التفكير العلمي، وهي مسئولة عن وضعية ودور تاريخ العلم، وسوف تكشف صفحات مقبلة عن عوامل عديدة أفضت فيما سبق إلى إغفالها البعد التاريخي طويلا.
ولكن نلاحظ مبدئيا أن فلسفة العلم كمبحث أكاديمي متخصص ومستقل عن نظرية المعرفة بصفة عامة، قد نشأت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهذه حقبة شهدت ذروة من ذرى المجد العلمي؛ إذ كان العلم الكلاسيكي الذي تؤطره فيزياء نيوتن معتدا بذاته إلى أقصى الحدود، فلم ينشغل رجالاته كثيرا بتاريخ العلم، ولم يعن فلاسفته بالإجابة على السؤال: كيف بدأ العلم؟ كيف اتجه وسار؟ كيف نما وتطور حتى وصل إلى تلك المرحلة التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر حين شوهد ما بدا للعيان من شبه اكتمال للعلوم الفيزيوكيماوية المسلحة باللغة الرياضية، وقد آتت مصداقيتها العينية والواقعية بانفجار الثورة الصناعية التي غيرت تماما من شكل التكوينات والعلاقات الاجتماعية والتقسيمات الطبقية والصراعات الدولية.
وإزاء هذا الواقع المستحدث والحي المتوقد، انصرف اهتمامهم عن تاريخ العلم، وكأن حسبهم الافتتان بالعلم ذاته في تلك المرحلة النابضة، والتأمل في رونق جلالها وجبروت شموخها، الذي نجح آنذاك - القرن التاسع عشر - في أن يضوي تحت لوائه فروعا كانت عصية للعلوم الحيوية، فضلا عن العلوم الإنسانية، وهذه الأخيرة - أي العلوم الإنسانية - تعد نشأتها الواعدة من المنجزات اليانعة التي يفخر بها القرن التاسع عشر وعلمه الكلاسيكي.
هكذا بدأ العلم الحديث عملاقا يزداد تعملقا بصورة مطردة، فانبهر به أهلوه ورجالات عصره، حتى بدا تاريخ العلم مسألة ثانوية، وليس من شأنها أن تلقي الضوء على الظاهرة العلمية التي غدت باهرة مبهرة، فجرى التفكير العلمي آنذاك على منوال إغفال قيمة أو دور تاريخ العلم في تفهم الظاهرة العلمية وتعميق موقفها، فضلا عن استشراف مستقبلها ودفع معدلات تقدمها. على الإجمال عدم الالتفات إلى تاريخ العلم ... إلا قليلا.
بل منذ البدايات، كان النجاح الصاعد الواعد الذي صاحب نشأة العلم الحديث في العصر الحديث منذ القرن السابع عشر، وقد خلق ثقة زائدة في العقل وقدراته، ساهمت بدورها في الغض من قيمة تاريخ العلم! فكيف كان ذلك؟
إنها العقلانية التي ترى الحقيقة واضحة فيمكن أن يكتشفها الإنسان، ويميزها عن الباطل، إن العقلانية اتجاه تنويري مستنير يثق في الإنسان ويرفع الوصاية من عليه؛ لأنه يملك العقل وأيضا الحواس، يملك الوسائل التي تمكنه من إدراك الحقيقة واكتساب المعرفة، ولا حاجة إلى سلطة تفرض عليه لكي تدله على الحقيقة، كما كان الوضع في أوروبا طوال العصور الوسطى، فإذا كانت العقلانية مطروحة دائما بشكل أو بآخر عبر مراحل ومواضع شتى على مدى تاريخ الفلسفة، فإنها سادت القرن السابع عشر في أوروبا كثورة على خضوع العصور الوسطى الطويل للسلطة الدينية ولأرسطو، وأرست الأسس المكينة لظاهرة العلم الحديث ، وهي في هذا تدين لاثنين من كبار الأئمة، أولهما رينيه ديكارت
R. Descartes (1596-1650م) أبو الفلسفة الحديثة الذي أكد أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس يدرك البديهيات بالحدس - أي بالإدراك الفوري المباشر - ويصل إلى الحقائق اليقينية. الله لا يخدع أبدا، فلنثق في الله وفي العقل، ونرفع الوصاية عن الإنسان لينطلق باحثا عن الحقيقة ومشيدا للعلوم. فقدم ديكارت واحدة من أمضى صور العقلانية. أما الإمام الثاني لعقلانية القرن السابع عشر، فيرتبط اسمه مباشرة بحركة العلم الحديث، إنه فرنسيس بيكون
F. Bacon (1561-1626م) الذي رفع الوصاية عن الإنسان عن طريق الثقة في الحواس وفي الطبيعة، فكان أبا التجريبية الحادة التي اقترن بها العلم الحديث في مراحله الأولى.
ومع تباشير النجاح الصاعد للعلم الحديث، بدت هذه الثقة بالإنسان وقدراته في محلها تماما، فنتج عنها ثقة زائدة في العقل، تمخضت في القرن الثامن عشر عما يعرف باسم عصر التنوير، عصر الإيمان بقدرة العقل على فض كل مغاليق هذا الوجود، كانت فلسفة التنوير الوريثة الأمينة للعقلانية وللتجريبية العلمية في القرن السابع عشر، صهرتهما معا في إطار إيمانها الطاغي بالتقدم غير المحدود الذي تنجزه البشرية باطراد في طريق واحد لا سواه، طريق العقل والعلم.
وفي إقرار هذا استعان التنويريون بمقولة هيمنت هيمنة طاغية على التفكير الحديث، إنها مقولة الحتمية
Determinism
الميكانيكية الشاملة التي فرضتها فيزياء نيوتن على العلم الكلاسيكي الحديث من رأسه حتى أخمص قدميه، وحكمته بقضبان حديدية. والحتمية تعني عمومية قوانين الطبيعية وثبوتها واطرادها، فلا تخلف ولا مصادفة ولا جواز ولا إمكان؛ لأن كل شيء في الكون ضروري ذو علاقات ثابتة، وكل حدث مشروط بما يتقدمه أو يصحبه، فترتبت أحداث الكون في اتجاه واحد من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل، مما يجعل نظام الكون ثابتا شاملا مطردا، وكل ظاهرة من ظواهره مقيدة بشروط تلزم حدوثها اضطرارا، أي خاضعة لقانون يجعلها نتيجة ضرورية لما قبلها ومقدمة شرطية لما بعدها، مما يعني أن كل ما يحدث لا بد أن يحدث ويستحيل حدوث سواه.
لقد أصبحت الحتمية العلمية شاملة، ومن هذه الحتمية الفيزيائية خرجت الحتمية الاجتماعية التي تزعم قوانين ضرورية للحركة الاجتماعية، وتعضدت الحتمية التاريخية التي تزعم طريقا واحدا محتوما لمسار التاريخ، وقد استعان التنويريون في القرن الثامن عشر بهذه الحتمية العلمية في إقرار وتعيين وترسيم ما رأوه من طريق واحد لا سواه للتقدم غير المحدود الذي تنجزه البشرية باطراد، طريق العقل والعلم.
وإذ عني التنويريون بترسيم المراحل المنقضية من هذا الطريق، مثلا مراحل التاريخ عند فيكو
G. B. Vico (1668-1744م)، وعند تورجو
A. R. Turgot (1727-1781م) ومخطط «كوندرسيه»
J. A. Condorcet (1743-1794م) التاريخي لتقدم العقل البشري ... فقد بدت المراحل المنقضية عقبات كئود ظفر العقل البشري بالتحرر من ربقتها، وإذا كان ثمة تاريخ منقض لماضي العلم فلن يعدو أن يكون سجلا لإزاحة الجهل، فهل نوليه اهتماما؟! وهل تناط به أدوار أبستمولوجية؟! بالطبع كلا! هكذا تراجعت أهمية تاريخ العلم.
وهذا الميراث العقلاني التنويري في القرن الثامن عشر حملته باقتدار وامتياز فلسفة العلم حين نشأت في القرن التاسع عشر، ومن ثم سيطر على فلسفة العلم آنذاك، وحتى أواسط القرن العشرين، الاقتصار على النسق العلمي كمنجز راهن تطرد كشوفه ويتوالى تقدمه؛ ليغدو تاريخه مسألة شاحبة غير ذات صلة بالموضوع.
على العموم، تم تجاوز هذه المرحلة الآن، وحدث اندماج واقتران حقيقي وحميم بين فلسفة العلم وتاريخه، وسوف نرى أن هذا حدث أساسا كتطور ونماء لفلسفة العلم ذاتها، وبفضل جمع من كبار فلاسفتها لا سيما في الثلث الأخير من القرن العشرين، فيما يحق اعتباره ظفرا للعقل الفلسفي، ولكن لا يمكن أن نفصل هذا تماما عن إنجاز آخر تميز به القرن العشرون، ألا وهو أنه قد شهد أخيرا نضج مبحث تاريخ العلم «إذ لم يكتمل الاعتراف به كمبحث أكاديمي يتفرغ له دارسون متخصصون إلا في عام 1950م فقط، حين بدأ ذلك في بعض الجامعات الأمريكية»،
1
التي أنشأت لأول مرة أقساما مستقلة لتاريخ العلم، وليس فقط كراسي لأساتذته.
وما دام العلم ظاهرة إنسانية تنمو وتتدفق في سياق الحضارة الإنسانية وبفعل الإنسان، فلا بد وأن نسلم بقيمة تاريخ العلم في النظرة الفلسفية للعلم، وأنه فرع مهم من فروع المعرفة؛ لذلك يجمل بنا أن نلقي نظرة على تشكل مبحث تاريخ العلم ونمائه ونضجه الذي يحسب للقرن العشرين، بعبارة موجزة، نلقي نظرة على تاريخ «تاريخ العلم».
ثانيا: تاريخ العلم يتقدم في القرن العشرين
أجل! يقال: إن التاريخ هو الأب الشرعي للعلوم الإنسانية جميعا، وواحد من أقدم المجالات التي انشغل بها العقل تعبيرا عن اهتمام إنساني خالص هو اهتمام بالماضي البشري، إلا أن التاريخ كان دائما - ولعله لا يزال إلى حد ما - متمحورا حول ما يمكن أن نسميه بالتاريخ السياسي، قيام الإمبراطوريات وسقوطها، الحروب ونواتجها، صراعات الدول والعائلات والأفراد على السلطة، والسيطرة على الحكم ... ولم تحظ بقية جوانب الحضارة الإنسانية بنفس القدر من الاهتمام، ولم يكن تاريخ العلم أفضل حالا، بل لعله الأسوأ حظا؛ نظرا لما صدرنا به الحديث من تضارب علاقة العلم بماضيه واتجاهه دوما نحو المستقبل.
وبالتالي كانت مباحث تاريخ العلم متروكة كنشاط هامشي للهواة من العلماء المحترفين الذين رأوا فيه ما يستهويهم ويجذبهم بصفة شخصية ويعينهم على اجتذاب طلبتهم بأحاديث شيقة، أو على توضيح أصول لمفاهيمهم. ولا يختلف الحال إذا كان هؤلاء العلماء ذوي إسهامات فلسفية، أي فلاسفة للعلم واهتموا بتاريخه، كما فعل إرنست ماخ
E. Mach (1828-1916م) وبيير دوهيم
(1861-1916م) مثلا؛ لأن فلسفة العلم - كما أشرنا - سادها آنذاك إهمال للبعد التاريخي، فكانت مباحثهم التاريخية أيضا نشاطا فرديا جانبيا على هامش نظرياتهم الفلسفية، مثلما كانت على هامش البحوث العلمية.
وهذه المحاولات الفردية كانت تقتصر على فرع واحد محدد من التخصصات، كتاريخ الرياضيات وتاريخ الكيمياء وتاريخ البصريات. وقد اهتم ماخ بتاريخ الميكانيكا، بينما اهتم دوهيم بتاريخ الإستاتيكا وتاريخ الفلك، ولم يكن هناك اهتمام بتاريخ العلم أو تاريخ المعرفة الوضعية ككل إلا من بعيد في إطار الاهتمام الفلسفي العام الذي تنامى منذ عصر التنوير بمراحل تطور العقل البشري.
وفي هذه المرحلة الكلاسيكية التي استمرت حتى نهايات القرن التاسع عشر، إذا بحثنا عن وعي بأهمية تاريخ العلم خارج إطار بحوث العلم وفلسفته - أو بالأحرى خارج هوامشها - فسوف يستوقفنا عالم الرياضيات النابغة وليم كنجدون كليفورد
W. k. Clifford (1845-1879م) الذي أصبح إبان حياته القصيرة أستاذ الرياضيات التطبيقية في جامعة كمبردج العريقة ذات القدح المعلى في الرياضيات، وهو أول من تكفل بعرض هندسة ريمان - هندسة السطح المحدب - في بريطانيا وبحث طوبولوجيا المساحات فيها، وله أيضا أبحاث متميزة في الجبر. وفي كتابه الصادر عام 1878م قبيل رحيله، أوضح كليفورد خطورة الاقتصار على تدريس العلوم الحديثة واعتبارها الثقافة الشاملة، مع الجهل بماضي العلم، ورأى كليفورد أن مباحث تاريخ العلم من شأنها أن تردم الهوة التي انشقت وتعمقت بين الدراسات العلمية الحديثة وبين الدراسات الإنسانية، كما تعبر عنها الفنون الحرة والآداب.
2
ويمكن اعتبار دعوى كليفورد هذه إرهاصا ومقدمة للقضية الهامة التي فجرها فيما بعد لورد سنو
C. P. Snow
في محاضرته الشهيرة «ثقافتان» التي ألقاها في الجامعة التي شهدت كليفورد، جامعة كمبردج، وذلك عام 1959م، فقد كان لورد سنو عالما طبيعيا محترفا يقضي نهاره مع العلماء، وأديبا هاويا يقضي أمسياته مع الأدباء، وأفزعته الشقة الواسعة بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية، حتى أصبحا فريقين متقابلين لكل خصائصه ومنطلقاته، ويجعل أو يتجاهل الآخر وعالمه ومنجزاته،
3
لقد بدا واضحا خطورة فصل العلم كمضامين وأجهزة ورموز عن علاقته بالحياة والثقافة بمعناها الشامل، ولعل هذا ما تمخض عما يسود الآن من ضرورة أن يدرس طلبة العلوم مادة إنسانية ويدرس طلبة الإنسانيات مادة علمية، كما كان يحلم كليفورد.
لقد أدرك كليفورد في وقت مبكر قدرة تاريخ العلم على الإسهام في رأب الصدع بين الثقافتين وضرورة أنسنة الظاهرة العلمية - أي الوعي بها كظاهرة إنسانية في عالم الإنسان ومن صنع الإنسان - عن طريق العناية بتاريخ العلم، لكن نظرا لرحيل كليفورد المبكر وفي قلب أجواء القرن التاسع عشر التي همشت تاريخ العلم، فإن هذه القضية لم تلق الاستجابة إلا في القرن العشرين.
إذن نخلص من كل ما سبق إلى أن العلم - وهو الابن النجيب والأثير للتاريخ الإنساني - ظل تاريخه لا يلقى ما يستحقه من الاهتمام حتى نهايات القرن التاسع عشر.
أما في القرن العشرين فقد لفتت وقائع الحرب العالمية الانتباه إلى خطورة العلم وتأثيراته الحاسمة في المنظومة الحضارية، وبدأ الاهتمام بتاريخه يتكثف ويتعين أكثر وأكثر ، ولأسباب كثيرة معظمها يتعلق بطبيعة موضوع البحث وأساليب دراسته ومناهجه المشتبكة بتطور العقل وتفاعل الأفكار والمقولات وعلاقة الإنسان بالطبيعة ... لأسباب كثيرة ارتبط تاريخ العلم ارتباطا وشائجيا خاصا بالفلسفة، وتعلم المعنيون به من أهل الفلسفة هذا التعاطف الحميم مع مفكري الماضي، ومحاولة تفهم موقفهم المعرفي، فتشكلت معالم مبحث تاريخ العلم كتيار متميز ومتخصص في السياق المعرفي.
وكان هذا بفضل الجهود الجبارة لرواد عظام، على رأسهم جورج سارتون
G. Sarton
مؤسس تاريخ العلم في أمريكا، والأب الروحي لجعله مبحثا نظاميا أكاديميا في القرن العشرين، ومجالا لنشاط جمعي تعاوني.
فقد آمن جورج سارتون بأهمية تاريخ العلم كما لم يؤمن أحد من قبل، ورآه ضرورة علمية وضرورة تربوية وضرورة ثقافية في آن واحد، فأكد أن الطريق إلى تأسيس الجهد العلمي بأن نلقحه بشيء من الروح التاريخية، فكيف يجهل العالم أصول أفكاره وكيفية تخلقها وجهد السابقين العظام الذين يقف على أكتافهم؟! أما بالنسبة للطلبة فلا جدال طبعا في أهمية تدريس العلوم وقيمتها العملية، ولكنها تفقد كل قيمة تربوية لها، بل تصبح مضرة إن قدمت للدارسين كمعرفة بلا تاريخ، وفضلا عن هذا وذاك، كان تاريخ العلم عند سارتون أيضا ضرورة ثقافية؛ لأنه القادر على رأب الصدع بين العلوم الطبيعية وبين النزعة الإنسانية «وهذه أشأم معركة عرفتها البشرية»،
4
كما لاح لوليم كليفورد من قبل، وكما أكد لورد سنو من بعد، وشرع جورج سارتون في ترسيم معالم النزعة الإنسانية الجديدة، حيث يتضافر العلم عن طريق تاريخه مع الدين والفلسفة والفنون والآداب ...
كان سارتون بلجيكيا، درس الفلسفة في جامعة غنت
Ghent ، ثم تحول إلى العلم وحصل على الدكتوراه في الرياضيات عام 1911م، وله بحوث في الكيمياء، وأيضا قصائد شعر منشورة، وفي هذا الأفق العقلي الواسع، يبرز إعجاب سارتون بأوجست كونت
A. Comet (1798-1857م) وتنميطه الثلاثي لمراحل تطور العقل البشري من المرحلة الغيبية الدينية إلى المرحلة الفلسفية الميتافيزيقية إلى المرحلة العلمية الوضعية التي تأتي في إثرهما لتتوجهما وتمثل التقدم المنشود، وقد قطع طريقا طويلا، فاقتنع سارتون بأن تاريخ العلم هو أساس كل تفكير علمي، وانكب على بحوثه الجادة في هذا المجال، وأصدر أول مجلة متخصصة في تاريخ العلم هي «إيزيس»
Isis
التي يصفها بأنها بالنسبة له «بمثابة الروح والمطمح والأمل»، صدر عددها الأول في مارس عام 1913م.
ثم هاجر سارتون إلى هولندا، ومنها إلى إنجلترا، وتزوج من فنانة تشكيلية إنجليزية، واستقر أخيرا في الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ عام 1916م راح يلقي محاضراته في جامعة هارفارد في الفلسفة، ثم في تاريخ العلم. ومنذ ذلك الحين فصاعدا وحتى الآن، وجامعة هارفارد العريقة أصبحت مشهورة ومتميزة بالاهتمام بتاريخ العلم وعمق وجدية أبحاثها فيه، حتى باتت قبلة المعنيين به.
وقد صدر العدد الثاني من «إيزيس» في سبتمبر عام 1919م، ثم أصبحت المجلة منذ عام 1924م لسان حال «جمعية تاريخ العلم» التي ساهم سارتون في تأسيسها. وفيما بعد أصدر مجلة أخرى تنشر بحوثا مطولة أكثر أسماها «أوزوريس»، ونلاحظ ولعه بالعناوين الشرقية، فعمق انشغاله الحقيقي الأصيل بتاريخ العلم جعله شديد التقدير لدور الحضارات الشرقية القديمة وتاريخ العلوم عند العرب إبان العصور الوسطى في رسم فصول قصة العلم العالمية، التي يؤكد دائما أنها معامل الوحدة بين البشر. واضطلع سارتون بالتأريخ النظامي الممنهج للعلم منذ هوميروس إلى عمر الخيام حتى روجرز بيكون، ولكي يزداد تمكنا من التأريخ للعلم انتقل إلى المشرق في عامي 1931-1932م لدراسة الإسلام واللغة العربية، مما يبرز أهمية تاريخ العلوم عند العرب في ملحمة العلم المجيدة.
أصبح سارتون أستاذا لتاريخ العلم في جامعة هارفارد منذ عام 1940م وحتى تقاعده ورحيله. ولا شك أن جهوده وجهود زملائه من أعضاء «جمعية تاريخ العلوم» أمثال «بول تانري»
من العوامل التي تمخضت عن تأسيس أقسام متخصصة في تاريخ العلوم بالجامعات الأمريكية منذ عام 1950م - كما ذكرنا.
وخلال النصف الثاني من القرن العشرين انتشرت هذه الأقسام الجامعية المتخصصة في أنحاء شتى من العالم - للأسف الشديد ليس من بينها مصر والبلاد العربية - معظمها يحذو حذو أكسفورد وكمبردج في إنشاء قسم لفلسفة العلم وتاريخه معا ، يعطي شهادة جامعية في هذا التخصص الذي يضم المبحثين. وتجدر الإشارة أيضا إلى التجربة الإيطالية في دراسة تاريخ العلوم التي ازدهرت منذ الستينيات، تمت هي الأخرى تحت رعاية الفلسفة وأنجزت حصادا طيبا.
في هذا الإطار التنظيمي ظل المبحثان - فلسفة العلم وتاريخ العلم - مختلفين متمايزين ومستقلين إلى حد ما، يجتمعان فقط على عنايتهما بنفس الموضوع، أي ظاهرة العلم. قد يكون هذا في حد ذاته علاقة، لكنها صورية شكلية تنظيمية واهية، حتى بدت هذه العلاقة على مستوى الأبحاث والأطروحات وكأنها مشكلة غير قابلة للحل،
5
ولم يدخل الوعي التاريخي في صلب فلسفة العلم كصيرورة ونماء لها، إلا بفضل تطوراتها الداخلية على يد الرواد المتأخرين من فلاسفتها المحترفين، هذا صحيح، لكن لا شك أن تنامي الاهتمام الأكاديمي بتاريخ العلم، وتدفق البحوث العلمية والمجلات المتخصصة والندوات والمؤتمرات الدولية ... كانت من العوامل القوية التي ساهمت في أن يحل الوعي بتاريخ العلم في صلب فلسفة العلم.
لقد بدا واضحا أن كلا الطرفين - تاريخ العلم وفلسفة العلم - في حاجة إلى التفاعل العميق مع الآخر، وهؤلاء المحترفون المتخصصون في تاريخ العلم الذين برزوا في العقود الأخيرة ورثوا عن الرواد العظام تركة زاخرة، لكنها رؤى متنافرة خلقت توترا في الميدان يستدعي تضافرا منشودا بين فلسفة العلم وتاريخه؛ لأن الإبستمولوجيا - كما يقول جان دومبريه
J. Dhombres - تقدم العون الأساسي في التعريف الحقيقي لنشاط تاريخ العلم، وتاريخ العلم بدوره ليس مجرد ذاكرة العلم، بل هو مختبره الإبستمولوجي
Epistemological Laboratory ،
6
أو كما قال إمري لاكاتوش
I. Lakatos (1922-1974م) فيلسوف العلم البارز بعبارته النافذة التي كانت قوية التأثير حقا: «فلسفة العلم بدون تاريخه خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفته عماء.» وسوف نتوقف عندها تفصيلا في الفصل الأخير.
لقد كان إغفال أهمية تاريخ العلم قصورا كبيرا في بنية التفكير العلمي وفلسفته، وكان لا بد من تجاوزه، كما فعلت فلسفة العلم في واحد من اتجاهات تطورها اللاحقة والمحمودة حقا، التي شهدتها المراحل الأخيرة من القرن العشرين.
وإذا سلمنا بهذا، وبأن المعالجة المتكاملة للظاهرة تقتضي الإحاطة بأبعادها التاريخية، وجب علينا أن نمهد لمقبل الحديث بصورة عامة لتاريخ العلم أو لصيرورته عبر مسار الحضارة الإنسانية.
حقا إن موضوعنا هو فلسفة العلم في القرن العشرين، أي إنه منصب على هذه الحقبة الأخيرة، والتي كانت الحضارة الغربية مسرحها، إلا أن الطرح المنهجي المتكامل يقتضي أن نعطي كل مرحلة حقها؛ لأن العلم أنبل مشروع ينجزه الإنسان طرا، إنه أعظم شأنا وأجل خطرا من أن تستأثر بإنجازه من ألفه إلى يائه حضارة معينة، أو مرحلة واحدة من مراحل التاريخ، وإذا كان مبدأ «أرنولد توينبي»
A. Toynbee (1889-1975م) في دراسة التاريخ هو أنه لا توجد أمة في العالم يتأتى دراسة تاريخها بمعزل عن تواريخ بقية الأمم، فإنه لا يمكن دراسة مرحلة من تاريخ العلم وفلسفة التفكير العلمي بمعزل تام عن المراحل الأخرى المفضية إليها. وأول تساؤل يفرض ذاته: متى يبدأ تاريخ العلم؟
ثالثا: متى يبدأ تاريخ العلم: الأصول الأنثروبولوجية
إن العلم أنبل فعاليات الإنسان وأكثر أشكال الحضارة البشرية حضورا وتعينا وتمثلا وأشدها إيجابية، ويمكن القول: إن العلم كموقف إنساني هو في جوهره أقدم عهدا من التاريخ، بدأ قبل أن يبدأ التاريخ، ببداية وجود الإنسان في العالم، إنسان نياندرتال، أو على أقل الفروض منذ العصر الحجري قبل بداية الحضارة الإنسانية وتاريخها المكتوب بزمان سحيق. وهذه الحقب السحيقة من تاريخ وجود الإنسان في الكون، ما كان يمكن اقتحامها ومحاولة دراستها إلا بواسطة مناهج للبحث وأساليب وأدوات ووسائل، تطورت فقط في القرن العشرين.
ويأتي ج. ج. كراوثر
J. J Crowther
الذي يعد من أهم مؤرخي العلم في القرن العشرين؛ ليذهب ببدايات العلم إلى ما هو أبعد من ذلك، طارحا الاحتمال بأن يكون العلم أقدم عهدا وأسبق في الوجود من الإنسان ذاته! فيقول كراوثر في كتابه الممتع حقا «موجز لتاريخ العلم 1969م» والذي ترجم إلى العربية تحت عنوان «قصة العلم» يقول:
المضادات الحيوية والحاسبات الإلكترونية والطاقة النووية والسفر عبر الفضاء ... هذه المكتشفات بالغة التطور التي تثير الدهشة والإعجاب قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها تنتمي لجنس آخر أو نظام مختلف من الوجود لا صلة له بإنسان ما قبل التاريخ، وهي على العكس من ذلك تمتد بجذورها للجهد الإنساني البدائي فيما قبل التاريخ المكتوب، ومحاولات أسلافنا الساذجة في استخدام الحجارة لصنع أدواتهم هي التي قادت عبر مئات الآلاف من السنين، ومثلها من محاولات لتصحيح الأخطاء، قادت إلى ما يتصف به علمنا التجريبي اليوم من كمال، فالجهد الذي بذله أسلافنا الأوائل للتنسيق بين أفعالهم البصرية وحركات أيديهم، والذي هو نوع من النشاط العلمي التجريبي، وإن كان في صورة بدائية، كان أحد أسباب نمو المخ، والذي عن طريقه تحول الإنسان تدريجيا من الحيوانية إلى الإنسانية؛ إذن العلم - بمعنى ما - أقدم من الإنسان.
7
هكذا يطرح كراوثر بواكير محاولات التحاور بين المخ وبين المعطيات الحسية والخبرات التجريبية أو بين الدماغ واليد، وتصويبها وتعديلها عبر آلية المحاولة والخطأ، وأثر ذلك على تطور المخ ليبلغ المرحلة الإنسانية، ومن هذا المنظور تكون المحاولات البدائية للعلم أقدم عهدا من إنسانية الإنسان، بل ومؤدية إليها، ويبقى أن نلاحظ كيف أن التحاور بين اليد والدماغ عبر آلية المحاولة والخطأ هو جوهر نظرية المنهج العلمي التجريبي!
ربما انطوى هذا التأويل على قليل من العسف وشيء من المبالغة، وكراوثر نفسه يطرحه كاحتمال، لكن بدايات العلم منذ العصر الحجري هو ما يأخذ به غالبية مؤرخي العلم من الراغبين في الطرح المتكامل.
وهذا هو ما يسلم به كراوثر نفسه، وعلى أساسه يؤرخ للعلم من حيث هو سجل موثق لتطور العقل الإنساني في استجابته للظروف المحيطة به؛ لذلك تتمركز تأريخات كراوثر حول صلة العلم بالمجتمع، والعلاقة التبادلية بينهما، وضرورة أن يهيئ المجتمع الظروف المواتية للتقدم العلمي، والتأثير الشديد للعلم على مناحي الحياة الاجتماعية، بدءا من الحرب والعلاقات الدولية وانتهاء بأشكال التقسيم الطبقي ووقائع الحياة اليومية.
تماما كما أكد جون ديزموند برنال
J. D. Bernal
على الوظيفة الاجتماعية للعلم، في تأريخاته المسهبة وكتابه الشهير «العلم في التاريخ» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1954م، وصدرت طبعته الثانية المزيدة والمنقحة والذائعة الصيت عام 1957م.
ولم تكن مقابلة كراوثر ببرنال من بين جمهرة مؤرخي العلم جزافا، فكلاهما إنجليزي من أبناء القرن العشرين، من أبرز مؤرخي العلم فيه، ومن المهم أن نلاحظ دلالة تناقض المشارب بينهما؛ ذلك أن برنال ماركسي متحمس فيحمل عرضه لتاريخ العلم تمجيدا للقيم الاشتراكية وقدحا في الرأسمالية والطبقات المهيمنة التي جعلت العلم أمدا طويلا - طوال العصور القديمة والوسطى - مهنة أرستقراطية محجوبة عن العقول الموهوبة من جموع الشعب، فضلا عن تجهيل العلماء بمشاكل الجماهير واحتياجاتها، هذا بخلاف استغلال الرأسمالية الحديثة والمعاصرة لإمكانيات العلم وتقاناته «التكنولوجيا» استغلالا بشعا في قهر الطبقات والشعوب الأقل حظا، بينما نجد كراوثر أكثر اعتدالا، بلا تحزب أو تعصب، لكن يقدم الرد على هذا بكتابه المذكور؛ إذ يركز على أن العلم الحديث صنيعة الطبقة البرجوازية التي تشكلت في العصر الحديث، وشكلت بدورها معالمه.
وفي كلتا الحالتين المتقابلتين (دفاع برنال الصريح عن البروليتاريا ودفاع كراوثر الضمني عن البرجوازية) يكون الانطلاق من الفعالية الاجتماعية للعلم عبر التاريخ، وأن تاريخ العلم يبدأ منذ العصر الحجري، وكأن هذه مسلمات تلزم الباحثين في هذا الميدان مهما تناقضت المشارب والرؤية الأيديولوجية للعملية الاجتماعية.
والحق أن كتاب كراوثر المذكور، وإن كان يقف في مواجهة تطرف برنال اليساري، إلا أنه - أي «موجز تاريخ العلم» أو «قصة العلم» لكراوثر - يخلو من التحزب ويصعب دمغه ببطاقة سياسية أو أيديولوجية، ويمكن اعتباره أنموذجا للعرض المنهجي الشامل والسلس لتاريخ العلم كفعالية إنسانية، تنبع من استجابة الإنسان للتحديات البيئية ثم العوامل الاجتماعية التي ينبثق عنها العلم، في مثل هذا العرض لا بد وأن تبدأ قصة العلم المثيرة - تماما كما بدأت مع جون برنال - منذ ما قبل التاريخ، أي بإنسان العصر الحجري ليصل كراوثر في النهاية إلى اختراع الحاسب الآلي وغزو الفضاء واقتحام سر الحياة، فضلا عن أن يختتم الكتاب بنظرة مستقبلية هي بعض أحلام الإنسان التي يرجوها من العلم، وهي نظرة ما زالت تحتفظ بنضارتها رغم تسارع التطورات العلمية الراهنة.
وها هنا أكد كراوثر أن العلم أقدم عهدا من التاريخ؛ لأن معطياته الأساسية كانت أول ما تأمله الإنسان في العصر الحجري، والواقع أن رموز الأعداد - كما يؤكد كراوثر - اخترعت قبل اختراع حروف الكتابة مما يدل على أن التوجه العلمي متأصل في صلب أقدم مناحي الإنجاز الإنساني وفي بنية توجهه العقلي.
وإذا صح هذا فلا غرو أن أصبحت التقانة «التكنولوجيا» البدائية والعلم البدائي مواضيع دراسية متخصصة، يتكرس لها باحثون جادون ليخرجوا بنواتج جيدة، تفيد مباحث الأنثروبولوجيا، بقدر ما تفيد مباحث تاريخ العلم الراغبة في تأصيل موضوعها، بمعنى الوقوف على أصوله البعيدة؛ نشدانا لرؤية شاملة.
نذكر في هذا - على سبيل المثال - دراسة ممتازة اتخذت موضوعها قبائل الأزتك التي نزحت من الشمال واستقرت في هضبة المكسيك منذ عام 1267م، وحين اكتشاف الأمريكتين عام 1492م كانت قبائل الأزتك من أكثر الثقافات البدائية تكاملا في أمريكا الوسطى، على أنهم افتقدوا كثيرا من أوليات التقانة «التكنولوجيا» فكانوا لا يعرفون العجلة أو المحراث أو التقطير، ولا صهر المعادن والزجاج؛ لذلك اعتبرهم الباحث مرحلة بدائية جدا لم تصل حتى إلى العصر البرونزي، ومع هذا سيطروا على مشاكل تكنولوجية في بيئتهم بطريقة مدهشة، انطوت على كثير من أوليات الأفكار العلمية القابلة للتطوير، من قبيل التصورات العامة للتعاقب الزماني والأوزان والمقاييس وأوليات الحساب والهندسة والطب والجراحة والهيدروليكا وطبقات الأرض وأنواع الحجارة - أي الجيولوجيا - وقد عرفوا مجموعة محددة من المعادن منها النحاس، وأيضا الذهب الذي أطلقوا عليه اسم «المقدس» وظنوه الشمس مقابل الفضة التي هي القمر، ولكن نظرا لثراء بيئتهم بالنبات مقابل فقرها في أنواع الحيوانات، فقد اهتموا كثيرا بتصنيف النبات بالذات حتى امتلكوا في هذا قاموسا رائعا، وقد بذل الباحث جهدا مضنيا معتمدا على توصيفات الرحالة عبر التاريخ، وفحص الوثائق، بجانب الدراسة الميدانية، حتى إنه أتقن لغتهم «النيوتل»
Nahutl
ليعطي بلورة واضحة لأصول هذه البذور العلمية وتطورها،
8
وعن مثل هذه البذور، وعبر تاريخ الحضارة الإنسانية الطويل، كانت شجرة العلم التي تبدو الآن ريانة الغصون وارفة الظلال.
ولئن كانت التقانة «التكنولوجيا» البدائية ألحت كثيرا على الدراسات الأنثروبولوجية؛ لأن البيئة الإنسانية - بما هي إنسانية - تتأثر دائما بالأساليب الفنية التي يصطنعها الإنسان لتيسير التعامل معها،
9
فإن اهتمام الأنثروبولوجيا الأحدث نسبيا بأصول العلم النظري هو تطور جوهري حقا للأنثروبولوجيا، بقدر ما هو تطور جوهري لقضية التأريخ للعلم؛ ليفيد هذا التطور بكلا وجهيه في استكشاف قصة الحضارة ومسارها، لا سيما وأن العلم شريان تاجي من شرايين الحضارة الإنسانية، ونبضه مؤشر شديد الدلالة على درجة تدفق الحياة وإمكانيات النماء في الحضارة المعنية.
ويجمل بنا أن نتوقف مليا بإزاء هذا التطور في الأنثروبولوجيا الذي حدث إبان القرن العشرين فأتاح للمعنيين بتاريخ العلم أن يبدءوه ببداية الحضور الإنساني منذ العصر الحجري وما قبل التاريخ؛ لأن التحاور بين أطراف المنظومة المعرفية ورجع الصدى بين جنباتها يجعلنا نلمح توازيا دالا جدا بين هذا التطور في الأنثروبولوجيا وذاك التطور في وضع تاريخ العلم كمبحث نضج الاهتمام به فقط في القرن العشرين.
بادئ ذي بدء يمكن الاتفاق مع علم الأنثروبولوجيا البارز إدوارد إيفانز بريتشارد
E. E. Evans-Pritchard (1902-1973م) على أن النشأة الحقيقية المهيأة للنماء للمباحث الأنثروبولوجية كانت مع انشغال فلاسفة القرن الثامن عشر بالسؤال حول الحالة الطبيعية للإنسان، أو ما كان عليه قبل نشوء الحكومات المدنية،
10
لذا يمكن اعتبار علم الأنثروبولوجيا وليد عصر التنوير الذي حكمته عقيدة العقل والعلم والتقدم اللامحدود الذي تنجزه البشرية باطراد. طريق التقدم واحد هو خطى كتب على البشر أجمعين أن يقطعوها، وإن كان بعضهم أبطأ أو أسرع من الآخر. ثم توطدت هذه العقيدة بفعل نظرية التطور الداروينية ونجاحها اللافت في تفسير الارتقاء الحيوي، فساد الميدان ما عرف بالأنثروبولوجيا التطورية، والتطورية الجديدة، نازعتها في بعض الأبعاد النظرية الانتشارية التي أسسها في إنجلترا إيليوث سميث
E. Smith ، وتزعم أن العنصر الحضاري ينتشر من مواطن ظهوره إلى المواطن الأخرى، وأن حضارة العصر تبدأ في مركز ثم تنتشر منه لتتنامى؛ إذ لا يوجد قوم قادرون على صنع الحضارة بأسرها بمفردهم، ولكن كما أوضح جوردون تشايلد
G. Ghilde ، فإن النزاع بين التطورية والانتشارية زائف ووهمي؛ لأن الأولى تستفيد من الثانية،
11
ويكاد يتفق الأنثروبولوجيون على أن الأنثروبولوجيا كعلم بدأت بالنظرة التطورية
12
التي حكمت إطار الأنثروبولوجيا ومنطلقاتها، بل واستأثرت بها في تلك المرحلة الأسبق والتي استمرت حتى الحرب العالمية الثانية.
وما دمنا معنيين الآن بأصول تاريخ العلم، فيمكن اعتبار «لوسيان ليفي بريل»
L. Levy-Bruhl (1857-1939م) أبرز ممثلي تلك النظرة الأنثروبولوجية التطورية، إنه الوريث الأمين ل «سان سيمون وأوجست كونت»،
13
و«إميل دوركايم» ليكون من أهم الشخصيات الأنثروبولوجية في الربع الأول من القرن العشرين، يعطينا كتابه الشهير «العقلية البدائية» صورة مثلى لمنطلقات هذه المرحلة الأسبق من علم الأنثروبولوجيا التي تقطع كل صلة بين الأصول البدائية للإنسان وبين أشكال التحضر الحديثة وعلى رأسها العلم، مما يساهم في تبرير النظرة التي تغفل أهمية تاريخ العلم. فقد ذهب بريل إلى أن العقلية البدائية مختلفة اختلافا جذريا عن العقلية المتحضرة، ويستعين برأي ثورنفالد
Thurnwald
بغياب قانون العلية تماما عن العقلية البدائية؛ ليؤكد أنها لا علاقة لها البتة بالمنطق والتفكير الاستدلالي، بل هي محض خليط من الخرافات والسحر والغيبيات والاعتقاد بقوى خفية تحكم العالم، وبسطوة الأحلام وأرواح الموتى وعلامات التطير، ولا تميز بين الإنسان والطبيعة، بل تعتبره مشاركا فيها وجزءا منها. الإنسان البدائي - فيما يزعم بريل - يعجز تماما عن النظر إلى الطبيعة باعتبارها واقعا موضوعيا على نحو ما يفعل الإنسان الأوروبي المتحضر صانع العلم. وينتهي ليفي بريل إلى أن العقلية البدائية لا تتقدم ولا تكتسب القوى المنطقية إلا عن طريق احتكاكها بالإنسان الغربي الأبيض بالكشوف أو التبشير أو الاستعمار!
تتضح إذن بمزيد من الجلاء تلك النزعة العنصرية والاستعلاء الغربي، أو بمصطلحات فلسفة العلم «التشويه الأيديولوجي» للعلوم الأنثروبولوجية ومدى طغيانه على الروح العلمية الحديثة في موطنها الأوروبي، مما يعني أن هذا التشويه الأيديولوجي بدوره من العوامل التي دفعت التفكير العلمي - ولو من بعيد - إلى الاقتصار على المعطى الراهن وإهمال تاريخ العلم.
وها هو ذا واحد من أقطاب الروح العلمية المبرزين، كارل بيرسون
K. Pearson ) 1857-1936م) وكتابه الشهير «أركان العلم»
14 - والذي صدرت طبعته الأولى عام 1892م (الثانية عام 1900م، والثالثة عام 1911م) - ليجسد الروح العلمية التجريبية المتطرفة تطرفا حادا، فيرفض الميتافيزيقا، بل وحتى الشعر ما لم يكن قائما على أساس علمي هو الحسية المتطرفة. فكل ما لا يرتد إلى انطباعات حسية - كما أكدت الوضعية المنطقية فيما بعد - هو لا علمي، هو لغو وهراء، ولغة العلم «ليست إلا رموزا مختزلة لتتيح أبسط تعبير ممكن عن تعاقب الانطباعات الحسية»،
15
وقد كان بيرسون نصيرا متحمسا وداعية مفوها للفكر الاشتراكي، ومن أهم أعماله «الاشتراكية نظريا وعمليا 1887م»، وعلى الرغم من هذا يدافع جهارا نهارا في كتابه المذكور «أركان العلم» عن مشروعية إحلال الجنس الأبيض عنوة محل القبائل البدائية من السكان الأصليين في أمريكا وأستراليا، (ويمكن أن نضيف إليهما فيما بعد فلسطين) ما داموا يعجزون عن استغلال الأرض وإثراء الحضارة والإسهام في المعرفة الإنسانية والعلم التجريبي.
إنه إذن الهدف الأيديولوجي العنصري المشبوه: إضفاء المشروعية والتبرير لسؤدد الغرب والاستعمار الإمبريالي والاستيطان في أراضي الغير. ولما كان التشويه الأيديولوجي يستأثر بالعلوم الإنسانية دونا عن العلوم الطبيعية - كما سنرى في الجزء الأخير من الفصل السادس - فلا غرو أن يجعل الدراسات الأنثروبولوجية نهبا مستباحا له، فضلا عن طبيعة موضوعها، كانت العلاقة بينها وبين الاستعمار علاقة تبادلية وطيدة. الاستعمار احتاج إليها لترسيخ سيطرته على الشعوب المقهورة بأن يزداد علما بأوضاعها وأحوالها ومعارفها، ففتح المجال للأنثروبولوجيين وأتاح لهم منحا وتسهيلات لم تتح سابقا للباحثين، فكان لا بد وأن ترد الأنثروبولوجيا الدين للاستعمار،
16
وتسير نحو العمل على تبريره عن طريق الحط من شأن الحضارات المستعمرة وتهوين قيمة معارفها وإنكار دورها في قصة الحضارة، وأنبل فصولها قصة العلم. وسوف يواجهنا هذا التشويه الأيديولوجي مرة أخرى حين نتعرض لفصول قصة العلم عبر الحضارات.
ولما كان ليفي بريل من أهم الأنثروبولوجيين في عصره - كما ذكرنا - كان أكثرهم تعبيرا عن هذا، حتى إن تطرفه بمعية قيم الصدق التي لا بد وأن تبرز في الميدان العلمي ... هذا جعل نظريته التي تقطع كل صلة بين الإنسان البدائي وبين أصول الحضارة والعلم تتعرض لنقد حاد من الأنثروبولوجيين أنفسهم، رآها كثيرون منهم على حقيقتها، عنصرية قاسية، وفي سبيل إثبات تفرد وسيادة الإنسان الأبيض تتحامل بضراوة ولا موضوعية على الإنسان البدائي الذي لا يصح أبدا أن ننفي عنه أية قدرة منطقية، ولئن اختلطت رؤاه بالتصورات الساذجة واللامبررة عقلانيا، فلا شك أنه له موقفه الأولي وتفكيره المنطقي البسيط. لقد بلغت ضراوة النقد الموجه إلى ليفي بريل حدا دفع بريتشارد إلى الزعم بأن بريل أسيء فهمه، على الرغم من أنه هو نفسه رفض نظرية بريل «الذي يدرس العقول البدائية بمعايير عقل تشكل في ظروف مغايرة».
17
وضراوة هذا الاحتجاج ليست إلا أصداء ثورة عارمة هبت في ساحات الأنثروبولوجيا على مصطلح «البدائية» ذاته، فاستخداماته المثقلة بالانحياز العنصري والتشويه الأيديولوجي تكاد تفرغه من المضمون العلمي، فهي «تحشر معا كل شعوب العالم ماضيها وحاضرها، فيما عدا تلك التي تشكل جزءا من المدنية الغربية وأسلافها القدماء!»
18
وظهر الانشغال بمصطلح البدائية وتحديده وإعادة تعريفه، حتى اقترح البعض - عام 1948م - نبذه وإحلال مصطلح اللاكتابية
Non-Literal
محل البدائية.
إن هذه الثورة هي الطريق الذي شقته الأنثروبولوجيا نحو مرحلتها الأحدث الأكثر تحررا من التشويه الأيديولوجي، أي الأكثر موضوعية وعلمية. فتبعا لمنطق العلم تحرر العلم من التشويه الأيديولوجي يسير طرديا مع تنامي ونضج المنهج فيه، وأيضا سوف يواجهنا هذا النضج المتحرر من التشويه الأيديولوجي مرة أخرى حين نتعرض للعلم عبر الحضارات.
لقد كان بريل وزملاؤه التطوريون فلاسفة نظريين أكثر منهم علماء متخصصين، فلم يقوموا بأي بحث حقلي ميداني، واعتمد بريل على مادة سبق أن جمعها من قبل الرحالة والمبشرون. ومع نمو العلم وإلحاح المنهج العلمي التجريبي بات واضحا أنه إذا كان للأنثروبولوجيا أن تصبح علما متقدما فلا بد أن يجمع الأنثروبولوجيون الملاحظات بأنفسهم، وأصبحت مناهج الأنثروبولوجيا تفرق بين أساليب دارسي الحضارات الراهنة المعتمدة على الأثنوجرافيا والأثنولوجي «أي دراسة الأنماط والأنساق الثقافية»، وبين أساليب دارسي الحضارات الماضية والبائدة التي تعتمد على الأركيولوجيا «علم الآثار». والبحث عن الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم إنما هو - إلى حد كبير - مع هؤلاء «الذين تطورت مناهجهم لجمع المعطيات الأركيولوجية تطورا كبيرا»،
19
واستطاعت الكشوف الأركيولوجية أن تملأ كثيرا من الفجوات التي كانت تعيب معرفة الأنثروبولوجيين، فأسهمت بشكل فعال في القضاء على الفكرة التي سادت في القرن التاسع عشر عن تطور الحضارة خلال مراحل متمايزة ومستقلة، وبذلك «ظهرت الحضارة على أنها عملية مستمرة ومتصلة، وإذا كانت هناك فترات انتقالية للمظاهر الحضارية الكبرى، فإن هذه الفترات ليست حدودا فاصلة بين مراحل متمايزة كل التمايز بقدر ما هي حالات من التغير المتسارع التي تمهد لظهور حلقات حضارية جديدة ضمن تلك العملية الواحدة المتصلة، وأن الحلقات الجديدة إنما تقوم وتنبعث عن الأوضاع والأحوال التي سبقتها في الوجود»،
20
وعلى هذا يمكن النظر إلى تاريخ العلم كعملية متصلة بدأت ببداية الحضارة وتنتهي بقيام الساعة، تتباطأ حينا وتتسارع حينا.
ومن الناحية الأخرى تطور علم الأنثروبولوجيا بالبحوث الميدانية الحقلية التي تعتمد على الاتصال المباشر بالثقافات البدائية وإدراك أنها ببساطة ثقافات إنسانية، فانزاحت النظرة إليها بوصفها رواسب أو بقايا مراحل منحطة وأدنى، ملغاة تماما بفضل التقدم الحضاري، ولم يعد متآلفا مع النظرة العلمية إلغاء الماضي أو نفي الآخر بناء على تقدم الحاضر ورقي الأنا، أو حتى الحكم عليه بأنه همجي وحشي، فلا بد وأنه يملك رصيده - وإن تواضع - من مبدئيات النظرة العلمية. لقد تدخلت النسبوية
Relativism
21
الثقافية التي تعطي لكل حضارة قيمتها بالنسبة لظروفها ولعصرها.
وفي حدوث هذا التقدم الجوهري للأنثروبولوجيا، والذي يضرب بسهمه في الطرح المتكامل لتاريخ العلم، يكون من الملائم تماما أن نختم الحديث بالوقوف مع الرائد العظيم، عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الإنجليزي ذي الأصول البولندية برنسلو مالينوفسكي
B. Malinowski (1884-1942م)، فجهوده العلمية الرصينة ساهمت في دفع الأنثروبولوجيا وإرساء علميتها، بقدر ما ساهمت في إرساء دراسة الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم. ولا غرو، فقد بدأ مالينوفسكي حياته الجامعية بدراسة الرياضيات والفيزياء، وبعد أن أبلى فيهما اجتذبته العلوم الإنسانية.
إن مالينوفسكي رائد، نظريا وتطبيقيا، فهو رائد بارز من رواد النظرية البنائية الوظيفية
Structural Functionalism
في علم الاجتماع التي تدرس الحياة الاجتماعية أو الثقافية كبنية ذات علاقات متبادلة بين جوانبها أو مؤسساتها العديدة، كالجانب التربوي والدين والقيم والاقتصاد وأنساق المعرفة والقانون ونظم الثواب والعقاب ... إلخ، وكل جانب أو مؤسسة يدرس على أساس الوظيفة التي يؤديها. إن النظرة الوظيفية إلى كل مؤسسة تساهم في إماطة اللثام عن نسبوية الثقافات، مما يفتح الطريق أمام إزاحة العنصرية والتعالي الأوروبي وأمثال تلك التوجهات الآتية من التشويه الأيديولوجي.
وأيضا كان برنسلو مالينوفسكي رائدا تطبيقيا، أي رائدا للبحوث الميدانية أو الحقلية، وقد دفعها خطوات إلى الأمام، فمن أجل دراساته الأنثروبولوجية أقام أربع سنوات في جزر التروبرياند
Trobriand
قرب أستراليا (من 1914م إلى 1918م)، وكان أول من أجرى بحوثه باللغة الأهلية للسكان. ويمكن اعتبار الدراسة التي تعرضنا لها سابقا - عن مبدئيات العلم والتكنولوجيا عند قبائل الأزتك - تطبيقا للتعاليم التي أرساها مالينوفسكي للمعنيين بهذه المجالات.
في عام 1936م أخرج مالينوفسكي دراسة هامة بعنوان «السحر والعلم والدين» تعد في طليعة الأبحاث الرائدة التي تلقي الضوء على الأصول الأنثروبولوجية بظاهرة العلم.
بادئ ذي بدء يسلم مالينوفسكي تسليما بأن العلم الحديث هو هذه القوة المتعملقة الدافقة في سياق الحضارة المعاصرة، كإنجازات عقلية جبارة لا تهدأ ولا تستكن أبدا، تصوب ذاتها وتتجاوز الوضع الراهن باستمرار، وتفتح دوما أفقا أعلى وأبعد في متوالية لتقدم يتسارع؛ ليمثل العلم الحديث العقل النقدي البناء في أبهى صوره، وأكثرها حسما وجزما وفعالية ... العلم بهذه الصورة التي تنامت في العصور الحديثة لا وجود له بالقطع في المجتمعات البدائية، ولا حتى في الحضارات القديمة. بيد أن العلم بشكل عام هو أساسا نمط من المعرفة تستند على الملاحظات التجريبية لوقائع العالم في إطار من افتراض النظام والاطراد في الكون وما شابه هذا من خطوط منطقية أولية، فتزيد من سيطرة الإنسان على بيئته وإحكام تعامله مع عالمه. والمعرفة العلمية بهذا التوصيف المبدئي لا بد حاضرة في كل مجتمع إنساني مهما كان بدائيا. وإذا كنا نسلم بأن الدين والسحر كائنان وحاضران بقوة في المجتمعات البدائية، فلا بد وأن نضيف إليهما أيضا العلم.
ويسهب مالينوفسكي في إيضاح كيف أن هذه الدوائر الثلاث، السحر والعلم والدين، متمايزة تماما في العقلية البدائية، وغير صحيح أن دائرة السحر تبتلع دائرة العلم، أو أن دائرة الدين تنفيها، فلولا المساحة التي تنفرد بها أصول التفكير العلمي من ملاحظة للطبيعة واعتقاد راسخ بنظام فيها، لما سارت عمليات الصيد والزرع وسائر الفنون والحرف والصنائع التي تقيم الحياة البدائية.
لقد اهتم السير إدوارد ب. تايلور
E. B. Tylor (1832-1917م) مؤسس علم الأثنولوجيا الحديث بدور الدين في المجتمعات البدائية، واهتم جيمس فريزر بالسحر البدائي، ووضع ما يشبه موسوعة كبرى في هذا الصدد، وهي كتابه الشهير «الغصن الذهبي»، فضلا عن كتابه المترجم إلى العربية «الفولكلور في العهد القديم» الذي يعرض للأصول الأنثروبولوجية أو الأصول الفكرية البدائية لمضمونات التوراة. وبعد السحر والدين يأتي مالينوفسكي ليهتم بدور العلم في المجتمعات البدائية وإبراز تمايزه عن السحر وعن الدين. فالدين مختص بالعالم العلوي والحياة الأخرى وما بعد الموت، والعلم مختص بالعالم الأرضي والحياة الدنيا، يمكن أن يتواجدا معا في نفس العقلية في حالة الإنسان البدائي، كما هو الأمر في حالة الإنسان المعاصر.
أما السحر، فصحيح أنه يتشارك مع العلم في أن كليهما يصدر عن رغبة في السيطرة على الطبيعة، إلا أنهما مع هذا يختلفان جذريا في أن السحر إقصاء تام للعقل ولا يستند إلا على قوة التقاليد والاعتقادات المتوارثة، في عالم غامض هلامي مجهول، مما يجعل السحر حكرا على طبقة معينة في المجتمع البدائي؛ هي طبقة الكهنة والسحرة. أما العلم البدائي، فلأنه علم ينبع من العقل البدائي وتصوبه الملاحظات البدائية، ويمثل خيرا عميما متاحا للجميع، وليس حكرا على فئة ما، ولن يصبح العلم هكذا إلا بعد أن تمتهنه الكهنة في الحضارات الشرقية القديمة.
ربما كان كل إنسان بدائي مؤمنا بقوة السحر الخارقة وقدرة التمائم والتعاويذ على صد الكوارث الطبيعية الجامحة والغير متوقعة كالفيضان والأعاصير والزلازل والأوبئة وهجوم أسراب الحيوانات الضارية ... لكن الإنسان البدائي لن يترك أصوليات حرفته أو زراعته أو طهوه للطعام ... إلخ ارتكانا على السحر فقط، ويؤكد مالينوفسكي بأن الإنسان البدائي سوف يستخف تماما بأي اقتراح كهذا، مما يعني حدودا مصونة لأصوليات المعرفة العلمية في عقل الإنسان البدائي، وبطبيعة الحال يستشهد مالينوفسكي على هذا من واقع دراساته لجزر التروبرياند.
وعلى هذا الأساس يرفض مالينوفسكي تماما رأي ليفي بريل الذي يقطع كل صلة بين الإنسان البدائي والعقلية البدائية، وبين العلم وأصوله المنطقية، ولكنه أيضا لا يأخذ بالرأي المناقض تماما من قبيل الرأي الذي يأخذ به عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الأمريكي ذو الأصول الروسية ألكسندر جولدنفايزر
A. Goldenweiser (1880-1940م) الذي يرى تماثلا تاما أو تطابقا بين الميول العلمية في العقلية البدائية والميول العلمية في العقلية المعاصرة. والأدنى إلى الصواب موقف وسط نعتمده عبر هذه السطور ويأخذ به مالينوفسكي وهو يؤكد فقط الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم في المجتمعات البدائية ... وبالتالي في العهود السحيقة من الحضارة الإنسانية ثم تطورها عبر اتجاهات تطور الحضارة الإنسانية.
وإذا اتفقنا على الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم التي تجعل العلم يمتد بجذوره إلى العصور الحجرية فيوازي وجوده وجود الإنسان، أمكن ببساطة أن نتتبع سيرورة العلم عبر الحضارات.
رابعا: العلم عبر الحضارات
كما اتفقنا، العلم شريان تاجي من شرايين الحضارة الإنسانية، ونبضه مؤشر دال على حيوية الحضارة المعنية، والحضارة بدورها ليست مراحل منفصلة متمايزة بقدر ما هي عملية متصلة وسيرورة متنامية، تسلم كل مرحلة فيها إلى الأخرى؛ لذلك فإذا غادرنا تلك الأصول الأنثروبولوجية وجدنا حركية العلم خطا موازيا لحركة الحضارة عبر التاريخ، وتقدمه هو عينه مسار تقدمها. كما أشار مؤرخ العلم جون برنال، بتوجهه اليساري الذي يستدعي تفسيرا ماديا للتاريخ، في الأعم الأغلب يتفق ازدهار العلم مع ازدهار الاقتصاد وتقدم التقانة «التكنولوجيا»، فتنتقل جميعها من بلد إلى بلد ومن عصر إلى آخر. ومن وادي النيل ووادي الرافدين - مصر وبابل - انتقل العلم والتقانة إلى الإغريق، ومن الإغريق رحلا إلى الإمبراطورية الإسلامية، ومن غربها الأندلسي انتقلا إلى إيطاليا في عصر النهضة، ومن إيطاليا إلى فرنسا وهولندا، حتى حطا في إنجلترا واسكتلندا إبان عصر الثورة الصناعية. وهذا هو نفسه مسار الازدهار الاقتصادي والتجاري والصناعي. ويمكن ملاحظة أن هذا المسار واصل سيره ليصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، واليابان ومراكز عدة في شرق آسيا الناهض من الناحية الأخرى، وكلها مراكز ازدهار صناعي وتقني وعلمي في نفس الوقت.
بداية، تخلق الأساس العريض والجذع المتين للعلم في الحضارات الشرقية القديمة، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط منذ ما قبل عام 4000ق.م حتى 6000ق .م، وعلى رأسها أعظم الحضارات طرا وفجرها الناصع، أي الحضارة الفرعونية التي كانت المنشأ الأصيل لمحاور شتى في العلم، بدءا من الرياضة والهندسة والفلك، مرورا بعلوم المعادن والكيمياء وصولا إلى الطب والجراحة. علم الكيمياء بالذات لا يزال يحتفظ باسمه المنسوب إلى اسم مصر، إلى «الكي /مي»
che-mi
أي التربة السوداء؛ كناية أرض مصر الخصيبة، ومنذ أن أمر الإمبراطور دقلديانوس بحرق الكتب الكيمية، أي المصرية، كتب العلم الذي يحيل المعادن ذهبا فيفتن الألباب.
22
على أن رجحان كفة الحضارة الفرعونية لا ينفي دور جيرانها الفينيقيين الذين فاقوها براعة في ركوب البحار وبعض المعارف المتصلة بهذا، كانوا بحارة جسورين وتجارا على اتصال مباشر بالبابليين. والحق أنه لا يضاهي الإنجاز المصري إلا إنجاز حضارات بلاد الرافدين، خصوصا الحضارة البابلية. بعض مؤرخي العلم يرون الإنجاز البابلي في الفلك والتقاويم متقدما على الإنجاز المصري، واتفق العلم المصري مع العلم البابلي في أنه كان حكرا على طبقة الكهنة.
بصفة عامة، كان التقدم أكثر للحساب في بابل وللهندسة في مصر؛ لأن وادي الرافدين يخلو تقريبا من الأحجار الصلبة، بينما مصر عامرة بالجبال والحجارة شديدة الصلابة، والصلابة التي تحفظ الشكل ثابتا هي أساس جيد لتقدم الهندسة. وكان البابليون هم الذين ابتكروا واستخدموا نظام الخانات العددية، ويرى بعض مؤرخي العلم أنهم هم الذين ابتكروا رموز الأرقام، ثم انتقلت من العراق القديم إلى الهند القديمة، فوجب أن نزجي الشكر لبابل على أهم ابتكار في تاريخ الرياضيات.
23
أما الهند وجارتها الصين، فهذه المنطقة في شرق آسيا مهد من مهود نشأة الحضارة الإنسانية، وبالتالي ساهمت بنصيبها في هذه المرحلة الباكرة والأولية التمهيدية من تاريخ العلم، حيث وعورة شق وتعبيد الطريق؛ ليكون الإبداع الأصيل، إن دور الصين كبير في تاريخ الحضارة الإنسانية وفي الواقع المعاصر على السواء. لكن حتى أواخر العصور الوسطى، كان العلم الصيني يسير في مسار مختلف ومستقل عن مسار الحضارتين الغربية والعربية، فلم يعرفوا شيئا عن أرسطو وإقليدس وبطليموس، وبالتالي افتقر العلم الصيني منذ بواكيره وحتى مشارف العصور الحديثة إلى المنطق البرهاني والرياضيات الاستنباطية والأصول النظرية التي برع الإغريق في صياغتها، وكانت جميعها طوع بنان العرب، وظلت الرياضيات الصينية دائما متعثرة مرتبكة يعتمد العد فيها على استخدام العصي، ولم يعرفوا الترقيم العربي الهندي واستخدام الصفر ولا عرفوا شيئا عن حساب المثلثات، على الرغم من أهميته في علم الفلك. وكما يقول توبي هف
T. E. Huff
عوضوا ذلك بتوظيف فلكيين عرب في بكين منذ القرن الثالث عشر، وفي هذا التاريخ عرفوا لأول مرة الترقيم والنظام العشري والصفر واستخداماته، خصوصا بعد مجيء المبشرين المسيحيين. وقد لحق التفكير النظري في الطبيعة بوضعية الرياضيات. عرفت الصين بالتأكيد فكرا قانونيا، وعرفوا أيضا تفكيرا في الطبيعة، ولكنهم لم يعرفوا علم الفيزياء. وكان نظام التعليم في الصين يوطد هذا الوضع ويدعمه، فهو نظام أوتوقراطي يهدف إلى إعداد موظفين للحكومة المركزية البيروقراطية،
24
والحصول على الوظيفة هو الهدف الوحيد من العملية التعليمية، وهذا يقتضي إتقان الإنسانيات والكلاسيكيات الخمس، أو التراث الصيني القديم، خصوصا منتخبات كونفوشيوس،
25
ومسائل أخرى إدارية وثقافية. وكل هذا لا علاقة له بالرياضيات ولا بالتفكير العلمي في الطبيعة، فلم يكن ثمة بواعث لتعلمهما، فضلا عن البحث والإبداع فيهما.
ولكن إذا كان هذا هو حال العلوم النظرية كالرياضيات والطبيعة، فإن الصين قد أسهمت برصيد هائل في العلوم التطبيقية، ومنها الطب الصيني الشهير. والحق أنه يمكن اعتبار التقانة «التكنولوجيا» الميكانيكية في أصلها ابتكارا صينيا، بخلاف ابتكارات أخرى كثيرة كالساعة المائية والورق والبارود ... لذلك فإن جوزيف نيدهام، هذا العالم الذي ترك معمله ليكشف عن دور الصين في تاريخ العلم وتاريخ الحضارة وخرج بإنجازات كبيرة وفاصلة في هذا الصدد تمثلت في موسوعة ضخمة من سبعة أجزاء عن تاريخ العلم والحضارة في الصين، أعدها نيدهام للنشر، ثم قام بتلخيصها
26
يقول جوزيف نيدهام: «إن العلم الصيني شبه تجريبي
quasi-empirical
وتطبيقي في جملته؛ لذا كانت الجوانب النظرية فيه أقل تقدما. وفي غضون القرنين الأول والثاني الميلاديين كانت الصين قد بلغت قمة من قمم التقدم العلمي والتقاني عبر التاريخ؛ لذلك فإنه من الناحية التقانية بالذات، يحق اعتبار الصين غاية وذروة الحضارات الشرقية القديمة.»
ومهما قيل عن ارتباط العلم في الحضارات الشرقية القديمة بالاحتياجات العملية، فإنه لم ينفصل أبدا عن الإطار المعرفي والبنية التصورية. والحق أن هذا الانفصال يكاد يكون مستحيلا؛ لأن العلم أولا وقبل كل شيء نشاط معرفي. وعلى سبيل المثال ارتبطت معارفهم الأولية لمواقع الكواكب وحركتها بمعايير ضبط الحياة اليومية، وبنفس القدر لم تنفصل عن التأمل النظري في عناية القوى العلوية؛ لأن الوجدان الشرقي وثيق الصلة بالألوهية، وأوضح راشكوفسكي في كتابه «نظرية العلم والشرق، 1980» بمزيد من التفصيل أن كوزمولوجيا العهد القديم ترجع إلى أساطير ما بين النهرين، ويمكن عن طريق هذا تتبع الصلة بين الميثولوجيا، أي الأساطير التي مثلت إطارهم المعرفي وبين عناصر العلم في هذه الحضارات؛ ليظل العلم في كل حال خير شاهد على حركية العقل البشري عبر الحضارات.
ولأن الجزر الإغريقية تتميز بقربها وتوسطها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق، فقد استوعبت ميراثها وواصلت المسير لتمثل المرحلة التالية في قصة العلم المناظرة لقصة الحضارة، وكان الفضل العظيم للإغريق في صياغة الأصول النظرية العقلانية للعلم، فضلا عن الفروض الخصيبة التي طرحها بعضهم خصوصا القبل سقراطيين، وكما هو معروف، بلغت حصافة الأصول النظرية مع الإغريق حدا، فتح الباب أمام نزعات الاستعلاء الغربي للزعم بأن العلم بدأ مع الإغريق من نقطة الصفر المطلق بإهدار تام لدور الحضارات الشرقية القديمة،
27
وعبر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حافظ الأمانة الذي أدخل عليها بعض التجديدات، انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا، هكذا تبدو قصة العلم من ألفها إلى يائها قصة غربية خالصة!
لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعون مدنية وثقافة متنامية، قبل الميلاد بستة قرون. إنهم بداية الحضارة الأوروبية التي تطورت عبر التاريخ حتى بلغت مرحلة المد الاستعماري، فلم يتوان مفكرون غربيون في تسويغه، حتى شكلوا فيلقا في الجيوش الاستعمارية، بزعم أن الغرب هو صانع الحضارة ابتداء وأبدا، فيغدو السؤدد الحضاري والسيطرة على العالمين نصيب الغرب المشروع ومكانه الطبيعي، وكان السبيل لهذا هو الإسراف في تمجيد ما أسموه المعجزة الإغريقية، وإهدار ميراث الحضارات الشرقية القديمة الأسبق منها، والتي أصبحت مستعمرة. وبينما الحضارة اختراع مصري خالص، أنجزه الفراعنة - قبل الإغريق بألفي عام - ليكون الفجر الناصع ونقطة البدء الحقيقية، راحوا يزعمون أن هذا قد انزوى، والإغريق هم نقطة بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط، فالعلم بدأ مع الإغريق، كما بدأت الفلسفة مع طاليس، وبدأت الرياضة مع فيثاغورث، والميثولوجيا «الأساطير» مع هوميروس، والمسرح مع يوربيديس وأسخيلوس، وبدأت الديمقراطية في أثينا ... إلخ ... إلخ ... فيبدو الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فعل حضاري، المالك الوحيد لكل غنيمة حضارية، صاحب الحق في تصريف شئون الحضارة البشرية وفقا لمصالحه. إذن الاستعمار والهيمنة على العالمين نصيب الغرب المشروع، ولأن العلم فارس الحلبة في الحضارة الحديثة فإنه يستأثر بنصيب الأسد من هذه الملحمة الزائفة التي تؤكد نقطة البدء مع الإغريق؛ تجسيدا لما أشرنا إليه سابقا من تشويه أيديولوجي، وقد انصب على تاريخ العلم.
وأجج من هذا ضعف الحصيلة المعرفية عن العلم القديم وما كان شائعا من خفوت الوعي بتاريخ العلم، ومع انطلاقة الوعي التاريخي وتنامي الدراسات في تاريخ العلم، تراجع ذلك الزعم وبدأ الإدراك الواضح لدور كل الحضارات بفضل جهود جورج سارتون وجوزيف نيدهام وأمثالهما، هذا بخلاف المحاولات الدءوبة التي مرت علينا، محاولة أن تتبع حركة العلم حتى الأصول الأنثروبولوجية، والمحصلة أن تتكامل قصة العلم عبر الحضارات، فيما يعد ظفرا معرفيا كبيرا.
وبهذا الطرح الموضوعي المتكامل يبدو العلم الإغريقي مرحلة تالية لمرحلة الحضارات الشرقية القديمة، مستفيدة منها ومواصلة لمسارها. بدأت في أيونيا ببلاد اليونان وليس في أي مكان آخر من أوروبا، لقربها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق منها، مصر وفينيقيا وبابل، فكانت تمثلا واستيعابا لميراثها، ثم تطورا لها. وكما يقول هال: اختلف العلم الأيوني عن العلم المصري القديم في أنه افتقر إلى أساس من الملاحظات التجريبية، وإذا عد طاليس - أول الفلاسفة الإغريق - من الحكماء السبعة؛ لأنه استطاع التنبؤ بكسوف الشمس، فقد فعل هذا على أساس الوثائق البابلية التي استطاع الاطلاع عليها. وعلى أية حال فإن التطور الجوهري العظيم حقا الذي أنجزه الإغريق يتمثل في بلورة مثل البحث العلمي وإرساء أسسه العقلانية. بصفة عامة انحسرت المباحث التجريبية وتمركزت إنجازات الإغريق العظمى في العقل النظري والعلوم الاستنباطية، أي في المنطق والرياضيات؛ هذا لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمل والصداقة! لقد كان العلم الإغريقي هو المقابل الصريح للعلم الصيني، فبينما اهتم هذا الأخير بالجوانب التطبيقية والتقانية «التكنولوجية» وأغفل الجوانب النظرية والاستنباطية، فعل العلم الإغريقي العكس تماما. والواقع أن النمو الحضاري الصحي الواعد يأتي بتكامل الجانبين: العلم والتقانة، والمنهج العلمي ذاته يقوم على دعامتين؛ هما الفرض والتجربة، أو النظرية والملاحظة.
لذا ففي أعقاب المرحلة الإغريقية - الهلينية الخالصة - شهدت الجوانب النظرية والجوانب التطبيقية، أي العلم والتقانة على السواء فترة توهج وتألق فذة في العصر السكندري، حيث انصهرت العقلانية الإغريقية مع الحكمة والخبرة المصريتين الخصيبتين. وإذا كانت الإسكندرية قد ورثت عرش أثينا كمركز للعقل والمعرفة، فإن العلم في أثينا غير جدير بالمقارنة مع العلم في الإسكندرية، وحتى الرياضيات مجد أثينا العظيم قطعت في الإسكندرية خطى تقدمية واسعة، وأحرزت على يد إقليدس كمالا لا يزال مثالا يحتذى، ثم استئناف مسيرته بهندسة المجسمات والقطوع المخروطية مع هيبسكليس وأبولونيوس ومينا يخوموس وأريستا يوس
28 ... وارتبط بهذا تقدم في الفلك، فقدمت الإسكندرية نظريتين معالجتين رياضيا؛ الأولى لأرسطارخوس الساموسي على أساس من مركزية الشمس، والثانية لبطليموس على أساس من مركزية الأرض. ولأسباب كثيرة لا معرفية بل حضارية، أو بمصطلحات فلسفة العلم لأسباب نجدها في النظرة إلى العلم من الخارج وليس من الداخل، قدرت لمركزية الأرض السيادة طوال العصور الوسطى.
ونالت علوم الحياة أيضا حظا عظيما من العناية في مكتبة الإسكندرية ومتحفها، والذي لم يكن متحفا بالمفهوم الحديث، بل هو بهذا المفهوم أول جامعة في العالم. لقد جاهر جاليليو - أعظم آباء العلم الحديث - بأن إنجازاته ما كانت لتتاح دون إنجازات أرشميدس في ذلك العصر الزاخر، فهو الذي علمه التآزر الخصيب الولود بين الرياضيات ووقائع التجريب، وهذا التآزر هو مجمر توقد الفيزياء الحديثة. على الإجمال، يعد مؤرخو العلم المرحلة السكندرية من أهم مراحل تاريخ العلم، حتى يراها بعضهم تقف على قدم المساواة مع مرحلة الثورة العلمية الحديثة في القرن السادس عشر.
ومعلوم جيدا دور العلماء العرب في حمل لواء المنهج العلمي ومواصلة مسيرة البحث التجريبي في العصور الوسطى، التي كانت مظلمة في أوروبا وشهدت انحسار الحركة العلمية عنها. وكما قال برتراند رسل (1872-1970م): «في العصور الوسطى المظلمة كان العرب هم الذين يقومون بمهمة تنفيذ التقاليد العلمية، أما المسيحيون أمثال روجرز بيكن، فقد اكتسبوا منهم إلى حد بعيد ما اكتسبوه من معرفة علمية حازتها العصور الوسطى اللاحقة.»
29
لقد ترامت إمبراطوريتهم الناهضة وضمت مراكز الحضارات الأسبق في مصر والعراق والشام وفارس وجيرانها الآسيويين، وحتى الصين التي لم يفتحها العرب ولم يطئها جندي مسلم واحد، تكفلت طرق الحرير والقوافل التجارية بنقل تراثها التقاني الزاخر إلى العرب. وأصبح في متناول أيديهم كل التراث العلمي السابق عليهم تقريبا، في الحضارات الشرقية القديمة والتراث الإغريقي والسكندري؛ ليتفاعل مع تفتحهم الذهني وتسامحهم العقلي وعوامل شتى في حضارتهم التي كانت دافقة، وعبقرياتها من ذوي الملل والأجناس الشتى، فتشكلت أهم مراحل العلم القديم وغايته وقمته بإبداعاتهم الرائعة في شتى فروع العلم.
يقول ج. كراوثر: «كان من الطبيعي بعد أن اطمأنوا إلى قوتهم العسكرية ومعتقداتهم الإيمانية أن يتجهوا لتشييد المدن الرائعة ودراسة ثقافة الحضارات التي دانت لهم. وكان العرب المسلمون أمة جديدة بلا معرفة أو تراث سابق، فقرءوا التراث الفكري للقدماء بعقول متفتحة بلا خلفيات تعوقهم؛ ولذلك وقفت الثقافات الإغريقية واللاتينية والهندية والصينية جميعا بالنسبة لهم على قدم المساواة. وكان من نتائج هذه العقلية المتعطشة للمعرفة عند المسلمين أنهم أصبحوا بالفعل المؤسسين الحقيقيين لمفهوم العالمية في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية، وهي إحدى السمات بالغة الأهمية بالنسبة للعلم الحديث.»
30
وكما لاحظ هال، فإن العرب في هذا التفتح الواعد لم يرتدوا عن إيمانهم بالله أو تهاونوا في أخذ الدين مأخذ الجد، بيد أن تعصبهم انحسر وتنامى إحساسهم بمغزى التناسب، فشرعوا في تفهم واستيعاب فضائل النزعة الإنسانية.
31
ومن هنا انطلقت مرحلة هامة من مراحل الحضارة ومن مراحل العلم على السواء، تميز العلم فيها عن العلم الغربي الحديث في أن هذا الأخير انفصل انفصالا بائنا عن القيم والأخلاق، أما العلم العربي في الحضارة الإسلامية فقد تأتى في إطار توجههم الأخلاقي المثالي العام. وبينما انطلق العلم الحديث من صراع دام مرير مع الأيديولوجيا السائدة في أوروبا، فإن العلم العربي انطلق من داخل إطار الأيديولوجيا الحاكمة وبرعايتها. إن تمويل الخلفاء السخي للترجمة والبحث العلمي مسألة مذكورة ومشهورة، بيد أن هذا لا ينفي أبدا تجذر العلم في التربة العربية.
وتظل الرياضيات أعلى مدارج العقل العلمي وأرقى أشكال التفكير المنطقي المنظم والمدخل الحق للطرح العلمي، وقد لعب العرب دورا كبيرا في تاريخ الرياضيات ومسارات تطورها، وعلى مفترق الطرق بين الحساب والجبر وبين الجبر والهندسة؛ لذلك يجمل بنا أن نتوقف هنيهة إزاء الرياضيات العربية، خصوصا وأنها تبلور إلى أي حد كان العلم العربي استيعابا وتمثلا لروافد العلم القديم الشرقية والأوروبية على السواء، أو الهندية والإغريقية، ثم دفعا لمسيرة التقدم العلمي، وإلى الدرجة التي تضع الرياضيات العربية على مفترق الطرق كما ذكرنا.
وبصفة عامة أخذ العرب بتصنيف الإغريق للمباحث الرياضية، فانقسمت الرياضيات العربية إلى أربعة علوم أساسية هي: الحساب والهندسة والفلك «علم الهيئة» والموسيقى، وتتفرع فروعا عدة. ويعد الجبر - إنجاز الرياضيات العربية الأعظم - امتدادا أو فرعا للحساب.
لم يكن للعرب قبل الإسلام باع في العلوم الرياضية، الرياضة ليست كالشعر، بل هي كالفلسفة، أي نتيجة مباشرة لمعلول مستحدث هو الثورة الثقافية العظمى التي أحدثها الإسلام، ثم تعاظمت بفعل عوامل عديدة سوف نشير إليها، فسارت الرياضيات في الحضارة الإسلامية بالمرحلتين التاريخيتين اللتين مرت بهما الإنجازات المستحدثة للعقلانية العربية، أي مرحلة الترجمة والنقل، ثم مرحلة الإسهام والإبداع.
بدأت المرحلة الأولى حين أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بترجمة «السدهانات»، أي «مقالة الأفلاك » التي عرفها العرب باسم «السندهند»، وهي أكبر موسوعة هندية في الحساب والفلك والتنجيم، ومن وضع براهما جويت، وتتألف من جزأين، أحدهما عن الأزياج، أي سير الكواكب التي نستخرج منها جداول التقاويم، والآخر عن الوسائل الحسابية لهذه الجداول والتي فتحت أمام العرب آفاق الحساب وحساب المثلثات، وقد حملها إلى بغداد عام 153ه/770م العالم الهندي كنكه، فترجمها إلى العربية يعقوب بن طارق (ت796م)، وإبراهيم بن حبيب الفزاري المنجم (ت777م). كانت «السدهانات»، أو «السندهند» فاتحة الاتصال بالرياضيات الهندية، التي كانت بدورها العلة المباشرة لنشأة الرياضيات العربية، تنامت فيما بعد عن طريق الاتصال المباشر بالحضارة الهندية، خصوصا على يد اثنين من أكبر الرياضيين العرب؛ هما الخوارزمي والبيروني، كلاهما أتقن اللغة السنسكريتية وزار الهند.
لكن لم تشف «السندهند» غليل العقلية العربية الناهضة المتشوقة آنذاك، فأمر جعفر البرمكي بترجمة كتاب «إقليدس» ليكون أول ما ترجم من كتب اليونان، وأيضا البوابة العظمى التي دخل منها العقل العربي الإسلامي إلى عالم الهندسة، ويبدأ عصر ازدهار الرياضيات العربية.
فقد اهتم الإسلاميون بالرياضيات أكثر من اهتمامهم بسواها من مباحث العلوم العقلية، وانشغلوا بموقعها في النسق المعرفي. وضعها الكندي - أول الفلاسفة الإسلاميين - كمدخل للعلوم، فتسبقها جميعا، حتى المنطق ذاته يأتي بعد الرياضيات، وجعلها جسرا للفلسفة، وللكندي رسالة في أنه «لا تنال الفلسفة إلا بالرياضيات»، وله من الكتب والرسائل أحد عشر في الحساب، وثلاثة وعشرون في الهندسة، فضلا عن تسعة عشر في النجوم.
وإذا كان ابن سينا - الشيخ الرئيس - يضع المنطق في المدخل ثم الطبيعيات وبعدها تأتي الرياضيات، وأخيرا الإلهيات، فهذا يعكس مسار العقل وتدرج خطاه، فقد اهتم بالرياضيات أكثر من الكندي، وصنف علومها إلى علوم الرياضة الرئيسية؛ وهي العدد والهندسة والهيئة «الفلك» والموسيقى، ويتشعب عنها علوم الرياضة الفرعية، فعن العدد يتفرع الجمع والتفريق والحساب الهندي وعلم الجبر والمقابلة، وعن الهندسة يتفرع علم المساحة وعلم الحيل المتحركة وعلم جر الأثقال، وعلم الأوزان والموازين، وعلم الآلات الجزئية، وعلم المناظر والمرايا، وعلم نقل المياه، أما علم الهيئة فيتفرع عنه علم الأزياج والتقاويم، ومن فروع علم الموسيقى اتخاذ الآلات الغريبة.
وفي كل حال سلم التراث الإسلامي بالعلوم الرياضية بوصفها مبرهنات يقينية لا بد أن تحتل موقعها بدقة في بنية العقل، وحتى الإمام الغزالي حين صب جام غضبه على العقلانية وعلوم العقل، استثنى الرياضيات، وقال: إن أعظم جناية على الإسلام الظن بأنه ينكر الرياضيات، فظلت الرياضيات دائما لا معنى لإنكارها ولا للمخالفة فيها - بتعبير الغزالي.
على أية حال، أدى اهتمام الإسلاميين بالرياضيات وإعلاء شأنها إلى تناميها على أيديهم تناميا يصعب تفسيره فقط بهذه النظرة الداخلية للنسق المعرفي، فثمة عوامل خارجية في الحضارة الإسلامية دفعت إلى هذا، منها اهتمام العرب وأسلافهم العتيق بالتجارة وحساب الأنصبة والأرباح في البضائع والبيوع، وكمثال على مشاكل التجارة العربية التي احتاجت في حلها إلى عقلية رياضية متطورة: تناقص قيمة الجارية كلما تقدمت في العمر وحساب ثمنها، ثم نظام المواريث الإسلامي المعقد، وأيضا تعاظم جحافل الجيوش الجرارة وتوزيع رواتبها وغنائمها وحساب نفقاتها، ثم الرخاء الاقتصادي والتراكم المالي الذي تلى تكوين الإمبراطورية الإسلامية، ومشاكل حساب أنظمة الجزية والخراج والضرائب والزكاة، هذا فضلا عن مشاكل عمليات المساحة وتقسيم الأراضي وتشييد المدن.
أما عن الفلك أو الهيئة فسنجد تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينية تدفع الإسلاميين إلى اهتمام مكثف بالفلك، خصوصا وأن البيئة الصحراوية دفعتهم إلى الاعتماد على التقويم القمري بصعوباته في تحديد التواريخ سلفا، وفي الوقت نفسه اهتموا بالتقويم الشمسي في الأمصار الزراعية التي دانت لهم من أجل تحديد أوقات جباية الجزية والضرائب والزكاة وفقا لمواسم الحصاد، والمحصلة أن استطاع العرب تطوير علم حساب المثلثات، وتصنيع آلات فلكية لتعيين المواقيت والاتجاهات، وكانت من أدوات اكتشاف الأمريكتين وإثبات كروية الأرض.
وتظل المأثرة الكبرى للرياضيات هي تأسيس علم الجبر الذي يحتفظ حتى الآن باسمه العربي في كل اللغات الأوروبية، منذ أن ترجم روبرت أوف شستر في عام 1245 «الكتاب المختصر في الجبر والمقابلة» الذي وضعه محمد بن موسى الخوارزمي، فيما بين عامي 813-833م، أي في عهد الخليفة المأمون، وهنا ظهرت لأول مرة في التاريخ كلمة «جبر»، وهي تدل على علم تأكدت استقلاليته وتطورت مفرداته وأدواته، أجل. تباشير الجبر كائنة منذ الحضارات البابلية والهندية القديمة وعند الإغريق، وأهمها كتاب «المسائل العددية» لديوفانطس السكندري، لكن جميعها كانت مجرد إرهاصات مشوبة بقصورات جمة، أما «الجبر والمقابلة» فيلقي أسس العلم بصورة ناضجة قابلة للنماء. أطلق الخوارزمي على الكمية المجهولة اسم «الجذر» إشارة إلى جذر النبات الذي عادة ما يكون مختفيا تحت الأرض، وأطلق على مربع الجذر اسم «المال»، انطوى جبر الخوارزمي على جدة حقيقية وإبداع أصيل في المنهج لا يتعلق بأي تقليد حسابي سابق عليه لا شرقي ولا غربي، فقطع شوطا يفصله كثيرا عن ديوفانطس.
شهد الجبر في الحضارة الإسلامية قفزة تالية مع عمر الخيام الذي وضع قواعد لحل ثلاث فئات من معادلات الدرجة الثالثة وفئة من معادلات الدرجة الرابعة. لقد تدافعت أفواج الرياضيين العرب منذ القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري، فقد ظهر «كتاب الجبر والمقابلة» في نفس وقت ظهور ترجمة كتاب «الأصول لإقليدس» الصرح الأعظم للهندسة، وقد كان يظن أن الله خلق العالم بموجبها، وأنه لا هندسة سواها، ونقلت أوروبا الأصول على يد إدلارد الباثي الذي تعلم العربية ودرس في قرطبة - مركز العلم العربي في الأندلس - وترجم «أصول إقليدس» حوالي عام 1120م من العربية إلى اللاتينية، وظلت هذه الترجمة تدرس في مدارس أوروبا حتى عام 1583م حين تم اكتشاف الأصل اليوناني.
كان الحجاج بن يوسف قد ترجم بعض كتب الأصول لإقليدس من اللغة السريانية إلى العربية. وعلى مدار عهدي هارون الرشيد والمأمون وما تلاهما عمل على ترجمة أجزاء كتاب الأصول ومراجعة الترجمات وتنقيحها كوكبة من ألمع المترجمين الرياضيين. وفتح الأصول شهية العرب للرياضيات الإغريقية، خصوصا في عصرها الذهبي - العصر السكندري - فتوالت دفعة واحدة ترجمة العديد الجم من أمهات هذا التراث، ولعل أهمها كتاب أبلونيوس «القطوع المخروطية» الذي ترجم إلى العربية في عصر المأمون تحت اسم «المخروطات»؛ ولأن أصول إقليدس معنية بهندسة المسطحات، فإن اقتحام عالم المجسمات والقطوع المخروطية كان مرحلة جديدة ارتقى إليها العقل الهندسي في الحضارة الإسلامية وأسدى إليها وأبدع فيها.
وكشأن «الأصول» نجد كوكبة من المترجمين الرياضيين في الحضارة الإسلامية ومن أجيال متعاقبة توالت على ترجمة كتاب «المخروطات» لأبلونيوس ومراجعة الترجمات وتنقيحها، وأيضا كشأن «الأصول» قل أن يمر رياضي عربي بغير أن يصنف رسالة في «المخروطات»، والجدير بالذكر أن هذا الكتاب قد ضاع ولم يبق للبشرية وللنهضة الأوروبية الحديثة إلا الترجمة العربية، انتقلت إلى أوروبا واستفاد منها يوهانس كبلر عام 1609م وطبقها في الميكانيكا السماوية التي أحرزت معه خطوة تقدمية هائلة.
وبطبيعة الحال، الرياضيات في الحضارة الإسلامية إبان عصرها الذهبي كانت أوسع مجالا، لكننا تخيرنا منطلقا محوريا على مفترق الطرق بين الحساب والجبر، وبين الجبر والهندسة؛ ليتبدى الدور المحوري الذي قامت به الرياضيات العربية؛ أما على مفترق الطرق بين الحساب والجبر، فقد كانت نشأة علم الجبر وتأسيسه تأسيسا، أما عن دورها بين الجبر والهندسة فيتمثل في أنها صانت للبشرية هذا السفر الثمين «القطوع المخروطية لأبلونيوس»، والذي يقف كعامل جوهري لنشأة الهندسة التحليلية في القرن السابع عشر مع فرما وديكارت.
حقا إن الهندسة التحليلية تقدم طرقا أعمق وأسهل من طريقة أبلونيوس، وتوضح وحدة القطوع المخروطية بطريقة أبسط؛ إذ تمثلها بمعادلات من الدرجة الثانية بمجهولين، فلا يعد كتاب أبلونيوس أو شروحه من لدن نصير الدين الطوسي وإبراهيم بن سنان والحسن بن الهيثم مجديا في الوقت الحاضر.
بيد أن هذا الكتاب شأنه شأن مجمل إسهامات العرب الرياضية في عهدهم الذهبي إبان العصر الوسيط، له دور خطير في تاريخ الرياضيات وتطور مساراتها.
ولم تكن الثقافة «التكنولوجيا» أقل شأنا، وليس أدل على تجلي روح التقانة العلمية في الحضارة العربية من أن ابن سينا كما رأينا أوضح أن علم الهندسة يتفرع عنه علم المساحة، وعلم الحيل المتحركة، وعلم جر الأثقال، وعلم الأوزان والموازين، وعلم الآلات الجزئية، وعلم المناظر والمرايا، وعلم نقل المياه. وكما أشار برتراند رسل، كان العلم العربي أكثر انكبابا على البحوث التجريبية ولم يعن كثيرا بصياغة النظريات العلمية العامة أو البحتة، أي إن العلماء العرب كانوا تجريبيين أكثر مما ينبغي. وفي سياق البحوث التجريبية تواترت الإنجازات المعروفة للعلم العربي لا سيما في الطب والجراحة والصيدلة والنبات، أما الكيمياء أو السيمياء فإن كثيرين من مؤرخي العلم القديم حذوا حذو ابن خلدون وأسموا الكيمياء «علم جابر»، وقد كان جابر بن حيان - في القرن الثاني الهجري - في طليعة الرواد العظام للعلماء العرب التجريبيين، وقد أسماهم علماء الكلام «الطبائعيين»؛ لأنهم يبحثون في طبائع الطبيعة، وجابر بن حيان هو الإمام الأكبر الذي خرجت من أعطافه كل كيمياء العرب وكل كيمياء العصور الوسطى حتى قال برتيلو: إن جابر له في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق، أي إنه أسسها تأسيسا، وعلم العلماء العمل في قلب المعمل والعزوف عن التأمل النظري الخالص حين البحث في العلوم الطبيعية.
وأخيرا ما دمنا معنيين بتاريخ العلم يجمل أن نشير إلى سبق العرب في هذا أيضا، فكما أشار مؤرخ العلم جان دومبريه «وجدت تواريخ علوم كثيرة قيمة في الكتابات العربية الحريصة كل الحرص على تتبع الأنساب وإثباتها.»
32
ولعل أشهر الآثار في هذا «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة، و«إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي، و«معجم الأدباء» لياقوت الحموي، الذي ضم بين دفتيه أعلام العرب في مجالات علمية خالصة.
ويلقى تاريخ العلوم عند العرب الآن ما يستحقه منا من اهتمام كبير، إنه يشغل مساحة تاريخية تمتد من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، وهو في الواقع يملأ كل الفراغ الحضاري الممتد منذ انتهاء عصر العلم السكندري في مصر في العصر البطلمي، إبان القرن الأول الميلادي، حتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة.
بيد أن القيمة الخطيرة والماثلة لتاريخ العلم عند العرب تتمثل في أنه - ببساطة المقدمة المفضية منطقيا وتاريخيا إلى مرحلة العلم الحديث، وتفصيل هذا أمر طويل عريض؛ لذلك نكتفي باللفتة النافذة التي أسرف توبي هف في التعويل عليها وتأكيدها وهو يحاول تفسير بزوغ فجر العلم الحديث، إنها اللفتة الخاصة بمرصد «مراغة» الواقعة الآن في حدود إيران، حيث استطاع العاملون فيه، خصوصا إبان القرنين الثالث عشر والرابع عشر ، التوصل إلى ابتكار أول نظام فلكي غير بطلمي، ومن هؤلاء العاملين في مراغة الأزدي المتوفى عام 1261م، والطوسي المتوفى عام 1279م، وقطب الدين الشيرازي المتوفى عام 1279م، وأهمهم جميعا ابن الشاطر المتوفى عام 1375م. ويؤكد توبي هف تأكيدا مشددا على أن ابن الشاطر بالذات هو الذي مهد لكوبرنيقوس، وعلى تفاصيل التناظر بين نماذج هذا الأخير ونماذج مرصد مراغة ، بحيث إن السؤال الذي بحثه نفر من مؤرخي العلم الحديث ليس عما إذا كان، وإنما متى وأين تعلم كوبرنيقوس نظرية مراغة؟ يقول توبي هف:
وشد ما هو ذو دلالة خطيرة فعلا، أن العلماء العرب المسلمين هم الذين مهدوا الطريق المفضي إلى الثورة العلمية في أوروبا، لقد عمل العرب على تطوير ومناقشة جوانب عديدة للمنهج التجريبي، وتخطيط كيفية التسلح بها، ليس هذا فحسب، بل أيضا طوروا الأدوات الضرورية للوصول إلى أرقى مستويات الفلك الرياضي، علاوة على هذا، فإن العمل الذي اضطلع به مرصد مراغة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، قد بلغ ذروته في عمل ابن الشاطر (المتوفى عام 1375م)، وتمخض عن تطوير نماذج كوكبية جديدة للكون، كثيرا ما توصف بأنها باكورة النماذج اللابطليمية على طول الطريق المفضي إلى العلم الحديث. وفضلا عن هذا، فإن تلك النماذج الكوكبية هي ما اتخذه كوبرنيقوس فيما بعد، لم يكن ينقصها العامل الرياضي، أو أية عوامل علمية أخرى، العامل الوحيد المفتقد في هذه النماذج هو أن ترسو على فرض مركزية الشمس، وكان الفشل في الإقدام على هذه الوثبة الميتافيزيقية من كون مركزه الأرض إلى كون مركزه الشمس هي التي حالت بين العرب وبين إحداث النقلة من العالم المغلق إلى الكون المفتوح.
33
وكان كوبرنيقوس هو الذي أقدم على هذه الوثبة، فكانت بداية حركة العلم الحديث بفضل يعود إلى تاريخ العلوم عند العرب على العموم، ومرصد مراغة على الخصوص.
بيد أن النقلة المحورية من العلم القديم إلى العلم الحديث، والتي قدر لها أن تتخذ من الحضارة الأوروبية مسرحا، إنما هي مسألة تحتاج - بلا شك - إلى مزيد من التوضيح والتفصيل .
خامسا: من العلم القديم إلى العلم الحديث
في ذلك الطريق الطويل العريض، والذي امتد حتى نهايات العصور الوسطى، قطع العلم القديم شوطا كبيرا لا يستهان به البتة، لا شك أنه كان الخلفية العريضة والمقدمة الضرورية لكي ينبثق عنها عملاق العلم الحديث في العصر الحديث؛ ليصنع العالم الحديث للإنسان الحديث. ومهما صادرنا على الأهمية الكبرى والمحورية للعلم القديم وأوليناه ما يستحقه من عناية، فلا بد من الاعتراف بأن العلم الحديث لم يكن مجرد بوابة كبرى انفتحت لتنطلق منها ظاهرة العلم انطلاقة عظمى ويتسارع تقدمها بمعدلات لا عهد للبشر بها من قبل، بل كان العلم الحديث أيضا، من زاوية العقل ومن زاوية الواقع على السواء، مستوى جديدا ومغايرا من مستويات وجود الإنسان في هذا الكون.
لقد سار العلم القديم بمعدلات تقدم متباطئة للغاية، خصوصا إذا قورنت بالوضع في العلم الحديث؛ لأن البحث العلمي ذاته كان نشاطا مشتتا مبعثرا، ملحقا بالاحتياجات العملية المباشرة في العهود السحيقة، ثم بالكهنوت في الحضارات القديمة، وبالفلسفة في الحضارة الإغريقية، وبالإطار الديني في حضارات العصر الوسيط، وحتى الحضارة الإسلامية التي رأيناها تحمل لواء البحث العلمي آنذاك، لا يمكن فهم الحركة العلمية فيها بصرف النظر عن توجهها نحو الإلهيات والذي صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في العصر الوسيط، فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة ولا مع مادية أرسطو المعدلة، إلى آخر المدى، وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينية، أيضا لم تتسق معها إلى آخر المدى، فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي، وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية، قد تحرمه من استقلاله أما وجوده الموضوعي فكلا؛ لأن العالم الطبيعي فعلا متعينا للقدرة الإلهية ودليلا ماثلا عليها، مما يوضح أن العرب مهما أسرفوا في استغلال وتسخير التراث اليوناني، فقد كان هذا في إطار ثوابتهم الحضارية وتصوراتهم المتجهة نحو الإلهيات.
فكان التراث العربي الإسلامي تيارا مستقلا في النظر إلى العالم الطبيعي، استوعب ذينك الطرفين - المادية والمثالية - وتجاوزهما إلى مركب جدلي
34
أشمل، لم يكن محض انتقاء بينهما أو توفيقا مع الشريعة، بل كان خطوة في طريق تطور الفكر الطبيعي ... أدت فيما بعد إلى العلم الحديث. وقد عرفت الحضارة الإسلامية كيف تقطعها دون أن تخرج عن إطارها المثالي وتوجهها اللاهوتي.
35
والخلاصة أنه بالنسبة للعلم القديم كان الإطار الثقافي يحتويه بصورة ضمنية، ولم يكن مؤسسة مستقلة بذاتها، مستقلة بمناهجها ونواميسها وشرائعها ورجالاتها، فندر أن يوجد العالم المتخصص المتكرس لأبحاثه العلمية، ويصدق هذا حتى على الحضارة الإسلامية التي رأيناها تحتل قمة العلم القديم، ومن أعظم رجالاتها أبو الريحان البيروني (362-440ه/973-1048م) الذي قال عنه المستشرق الألماني إدوارد ساخاو: إنه أعظم عقلية علمية عرفتها العصور الوسطى، ويحق لنا اعتباره أعلى مد بلغته العقلية العلمية آنذاك، ومع هذا نجد البيروني معنيا بالفلك والرياضيات والمباحث التجريبية قدر عنايته بالإنسانيات والحضارات حتى إنه بكتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» كان مؤسس علم الأديان المقارن، وكان كل هذا في إطار توجهات دينية وفلسفية إسلامية ... ودع عنك مثالا آخر، جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري الذي اختلطت كيمياؤه التجريبية البارعة بركام هائل من الخزعبلات والخرافات والغنوصيات المشرقية،
36
ولا غرو في أن تحمل كيمياؤه تعثر البدايات ووعورة شقها للطريق، وفي الآن نفسه زخم التأثيرات المحورية والامتدادات المستقبلية، وبهذا وذاك كان أبا الكيمياء القديمة كما رأينا.
وبفعل متغيرات ثقافية وتحولات حضارية جديدة وعميقة اقترنت بها نشأة العصر الحديث، انبثق من ركام العلم القديم عملاق هو العلم الحديث، انبثق في صورة نسقية، أي مهيأة للاستقلال، بحيث تحمل في صلب ذاتها حيثياتها وإمكانيات تناميها وفاعلية عوامل تقدمها ذي المعالم الواضحة. إن النسقية موطن لتميز العلم الحديث عن العلم القديم، ويمكن أن تتمثل نقطة التحول في أن العلم في العصر الحديث، أو العلم الحديث قد أصبح نسقا.
والنسقية تعني إحكام البحث العلمي، فيرتكز في شتى ممارساته على أصوليات منهجية صارمة، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، تحدد لظاهرة العلم تخوما واضحة، مما يكفل تآزر الجهود العلمية فيجعلها تمثل متصلا صاعدا، يواصل تقدمه باستمرار، ويلقي في جوانحنا الثقة بأن غده أفضل من يومه، تماما كما أن يومه أفضل من أمسه، فتمثل كل ممارسة من ممارسات العلم الطبيعي إضافة لرصيده، أو بالأحرى لرصيد الإنسانية.
فكما أشرنا، لم يكن العلم الحديث مجرد تغير أو تطور في آليات الكسب المعرفي، بقدر ما كان نقلة حضارية شاملة، وما إن بدأ مشروعه ينمو ويتصاعد، إلا وقد امتثل نصب الأعين منهاج واضح قاطع ألا وهو المنهج التجريبي المعروف باسم «الاستقراء
Induction »، وقد بات معتمدا بوصفه شريعة العلم الحديث وناموسه وسر عظمته، بقدر ما هو روح العصر الحديث وأوضح تعبير عن متغيراته وعن آفاقه المستهدفة.
ولا غرو في أن يحتل المنهج التجريبي مثل هذا الموقع في منظومة العصر الحديث، فإذا حق القول: إن الفلسفة تجريد وتجسيد لروح عصرها، فإن منهج البحث أو نظرية المنهج العلمي «الميثودولوجيا
Methodology » دونا عن كل فروع الفلسفة هي الأجدر والأقدر على تجريد وتجسيد روح العصر، فهل من تعبير عن صراعات العصر المعني وطموحاته وتوثباته، وأيضا عن قصوراته ومواطن زلله أصدق خبرا من المنهج؟! أي الأسلوب الذي يتبعه ويعتمده العصر المعني بشكل عام للبحث عن الحقيقة، أو بالأحرى عن الوجه المعين من الوجوه الشتى للحقيقة ... الوجه الذي استقطب الاهتمام والاتجاه العام للعصر المعني، فتكشف نظرية المنهج عن ديناميكياته، أما حين تكون المعالجة متتبعة لمشارف التقدم التي أحرزت فيما تلى العصر المعني - كما سيحدث في فصول الكتاب القادمة - فسوف تكون النظرية المنهجية كاشفة أيضا عن قصوراته والتقييدات التي حاقت بإمكانياته المعرفية، وسبيلنا الآن إلى تفصيل هذا، وهو في الوقت نفسه تفصيل لنشأة العلم الحديث، أليس المنهج التجريبي مفتاحه وآيته، على أن العلم الحديث وفلسفته على السواء قد اتخذا - للحق المر - من قارة أوروبا ... أو من الحضارة الغربية مسرحا وموطنا؛ لذلك وجب أن نصوب الأبصار للعالم الغربي؛ لكي نفهم أصول نشأة العلم الحديث وبيرقه المرفوع والمعروف باسم المنهج التجريبي، ونعود قليلا إلى الوراء لنتتبع مسار الأحداث في الحضارة الغربية.
وكما ذكرنا كان التحقير من شأن العمل اليدوي المنكب على جزئيات الواقع التجريبي هو دأب الحضارة الإغريقية، والذي تأدى بها إلى حد التردد في اعتبار العبيد القائمين عليه والنساء المتصلات به بشرا! فالإنسان هو الرجل الإغريقي الحر الذي يتوافر له فراغ يمكنه من ممارسة فضيلتي التأمل العقلي الخالص والصداقة؛ ليتحاور مع الأصدقاء الأحرار - الفارغين - في نتاج تأملاته العقلية، وبطبيعة الحال انعكس هذا على الفكر الإغريقي، خصوصا بمجيء الثالوث الأعظم سقراط الرائد وأفلاطون شيخ المثالية المهيب وعدو التجريبية اللدود، ثم المعلم الأول أرسطو.
لقد أتى أرسطو (384-322ق.م) في ذروة مد الفلسفة الإغريقية وخاتمة عصرها الذهبي الذي شهد فيض إبداعاتها العظيمة وصياغاتها الباقية لأسس العقل النظري، فمكنته عبقريته من أن يكون خير تعبير عنها وأصفى بلورة لها، أو كما اتفقنا خير تجريد وتجسيد لروح عصره - روح الحضارة الإغريقية؛ لذلك فعلى الرغم من نزعته العملية الواقعية، ومن تجريبيته الشهيرة التي جعلته يوصي قواد تلميذه الإسكندر الأكبر بجلب عينات من البلدان المفتوحة؛ ليستكمل بحوثه في علم الأحياء، وعلى الرغم أيضا من إشارته إلى أهمية الحواس بوصفها أبواب المعرفة، بل ومن أنه واضع مصطلح الاستقراء
Epagoge
وقد بحث معانيه وطرائقه في كتاب «الطوبيقا» وحددها بثلاث طرق هي: الاستقراء التام الذي يستقرئ كل أفراد العينة أو كل أمثلة الظاهرة. والاستقراء الناقص أو الحدسي الذي يكتفي بعدد قليل أو أمثلة قليلة ويصعد منها إلى القانون الكلي. ثم الاستقراء الجدلي الذي لا يبدأ من عد كلي أو عدد بسيط، بل يبدأ من مقدمات مشهورة ظنية أو شائعة فتكون نتائجه احتمالية عرضة للشك. والنوع الثاني، أي الاستقراء الناقص أو الحدسي، هو القريب من المعني الحديث، وقيل: إن إيمان أرسطو بالاستقراء يبلغ درجة إيمانه بالقياس، فإذا كان القياس هو الوسيلة اليقينية للخروج من مقدمات بنتيجة، هي ربط الحد الأصغر بالحد الأكبر عن طريق الحد الأوسط، فإن الاستقراء هو الوسيلة لتكوين المقدمات الكبرى، ولا قياس طبعا بغير مقدمات، إذن لا قياس بغير استقراء ... نقول: إن أرسطو على الرغم من كل هذا جرد وجسد الروح الإغريقية الممجدة للنظر العقلي الخالص، وذلك حين وضع أعظم إبداعاته طرا، أي علم المنطق الذي خلقه أرسطو خلقا مما يشبه العدم، من أجل نظرية القياس التي تعد من المنطق بمثابة الثمرة من الشجرة.
والقياس الأرسطي هو طريقة يقينية للخروج بقضية «نتيجة» من قضيتين مطروحتين «مقدمات»، إذا كانت المقدمات يقينية واتبعنا سبل القياس الأرسطي فلا بد وأن تكون النتيجة يقينية، بغير أي احتياج للتجريب أو التجاء لمعطيات الحواس أو استشهاد للواقع . القياس إذن صورة من صور المنهج الاستنباطي الخالص، أي منهج استنتاج النتائج من المقدمات المطروحة اعتمادا على قوانين العقل والمنطق فقط. وقد كان القياس الأرسطي منطقا خالصا وفعلا عقليا صرفا، إنه الابن الشرعي للحضارة التي دأبت على تمجيد النظر وتحقير العمل، والصياغة النهائية لطابع الفكر الإغريقي، أو ببساطة تجسيد وتجريد لروح الحضارة الإغريقية، ولكنه أيضا أول صياغة في تاريخ الفكر البشري لمنهج البحث، وأول نظرية منطقية مقننة لأساليب الاستدلال وأشكال التفكير.
ثم انتهت مرحلة الحضارة الإغريقية بخيرها وشرها، وراحت ظروفها العينية التي أنجبت إنجازاتها، وبدأت مرحلة العصور الوسطى
37
كمعلول مباشر للأديان السماوية، أي لنصرة المسيحية بعد طول نضال واستشهاد في الغرب وانبثاقة الإسلام الفتي في الشرق. والفلسفة التي كانت تعني شتى العلوم والمعارف الكسبية والمباحث العقلية أصبحت دينية أو خادمة للاهوت، فتقوم النظرة الأنطولوجية أساسا على وجود الكيان الأعلى المفارق للطبيعة، وكل الجهود الإبستمولوجية تسلم بالوحي الصادر عنه وتسير في إطاره. الدين الآن هو المحور والراعي والمهيمن والذي اصطبغت الحضارة بصبغته، فكانت حضارة العصور الوسطى حضارة دينية. إنها مرحلة العصور الوسطى المسيحية في الغرب، والعصور الوسطى الإسلامية في الشرق لكن المتألقة الناضرة.
وتعطينا الدراسات الأنثروبولوجية أعدادا لا حصر لها من عقائد وديانات اعتنقتها البشرية منذ أولى عهودها. ومن منظور العقيدة الدينية ذاتها، نجد الدين قائما منذ آدم أول البشر ونوح أول الأنبياء، أي إن الدين قائم قبل المسيحية والإسلام بزمان سحيق. فلماذا مثلت هاتان الديانتان السماويتان نقطة تحول في مسار الحضارة الإنسانية شكلت العصور الوسطي؟ وقد كان تحولا حاسما سوف نراه يتبلور - أو يتجرد ويتجسد - في سيادة منهج معين للتفكير وللبحث ...
في الإجابة على هذا السؤال، نلاحظ أولا اختلاف المسيحية والإسلام عن اليهودية، فهذه الأخيرة ديانة خاصة لشعب خاص شعب الله المختار (نراه الآن شراذم من الأفاقين مصاصي الدماء ينهبون الأراضي ويهدمون المنازل ويكسرون العظام! ولله في خلقه شئون). أما المسيحية والإسلام فديانتان مفتوحتان هما دعوة للعالمين.
وقد مثلتا نقطة تحول؛ لأن المعلم المميز للدين السماوي هو اقترانه بكتاب منزل من رب العالمين، الأناجيل والقرآن.
إن الكتب المنزلة زاخرة بحقائق مسلم بصحتها، قضايا كلية لا جدال في يقينها، يمكن أن توضع كمقدمات لنخرج بالجزئيات المترتبة عليها والمتضمنة فيها، أي نتوصل إلى النتائج الضرورية الصدق بواسطة القياس الأرسطي. إذن فهذا المنطق الاستنباطي منهج أكثر من ملائم للتعامل مع الكتب المقدسة، التي هي الشغل الشاغل والهم الأول، فأصبح قياس أرسطو خصوصا ومنطقه عموما هو منهج البحث المعتمد طوال العصور الوسطى، فيسمى المنطق الأرسطي «الأورجانون»
Organon ، أي الأداة، أداة التفكير وآلة البحث.
من هنا كان أرسطو المعلم الأول، واحتل في تاريخ الفكر منزلة لم يحتلها فيلسوف من قبل ولا من بعد، حتى قدم توما الأكويني
Thomas Aquinace (1225-1274م) في كتابه «الخلاصة اللاهوتية» حلولا لأمهات مشاكل الفلسفة المسيحية، وكانت حلولا مستمدة من فلسفة أرسطو وشروح ابن رشد لها، هذا فضلا عما طرحته الفلسفة الأرسطية من براهين على وجود محرك أول لا يتحرك شديد الشبه بالرب المسيحي، وبإله الأديان السماوية عموما. لكل ذلك اعتمدت الكنيسة فلسفة أرسطو فلسفة رسمية لها، حتى إذا وصل الباحث إلى فكرة تخالف مثيلتها عند أرسطو، أو حتى لم يقل بها أرسطو وجب أن يتغاضى عنها، وإلا عد كافرا زنديقا مستحقا لطائلة محاكم التفتيش. وكما يقول توبي هف، حتى بدايات القرن السابع عشر كانت الهيئات الجامعية الرسمية تفرض غرامة على خريجيها وأساتذتها قدرها خمسة شلنات مقابل كل نقطة افتراق عن أرسطو أو عدم التزام بمنطقه.
أما الشرق الإسلامي فكان آنذاك أكثر استنارة وعقلانية وتقدما، واتسع للمنهج التجريبي وكان موطنا للحركة العلمية. ولم تحز كتب أرسطو في الشرق نفس المنزلة التي منحتها إياها الكنيسة في الغرب، بل إن نفرا من الفقهاء على رأسهم ابن تيمية (661-728ه) صاحب «نقض المنطق»، و«الرد على المنطقيين» قد شنوا حملة شعواء على أرسطو ومنطقه، فضلا عن أن الإسلام لا يعرف كهنوتا ولا سلطة لرجال الدين كي يكتسب أرسطو بعضا منها. لكن بصرف النظر عن الصياغة السلطوية الرسمية، لم ينج التفكير الإسلامي هو الآخر من هيمنة أرسطو، وكانت مباحث الطبيعة عند فلاسفة الإسلام مشبعة بالمعالم والموضوعات والمصطلحات الأرسطية. والطب أيضا بدأ عند الإغريق - الهيلين - ممتزجا بالفلسفة، ثم امتزج بالمنطق عند الهيلنستيين في مدرسة الإسكندرية، واستمر هكذا عند العرب. فكان ثمة «الفلاسفة الأطباء» وهم مدرسيون قياسيون رائدهم ابن سينا، و«الأطباء الفلاسفة» وهم ممارسون تجريبيون رائدهم الرازي.
لقد آمن علماء العرب بأن قواعد القياس قابلة للتطبيق في كل العلوم، طالما هي معنية بصورة الفكر دون مضمونه. ولما كان الإسلام بمرجعه النصي الثابت (القرآن الكريم) ضاما لمجمل الإطار الحضاري ومحددا لمعالم الأبنية الثقافية، فإن إيمان العلماء التجريبيين العرب بالقياس الأرسطي كان بعدا من أبعاد اعتماد فقهاء الدين له، فكان المنهج التجريبي مضمرا في إطار حضارة سادها النص والقياس عليه كمنهج وأسلوب للبحث.
وفي هذا يمكن القول: إنه من الناحية الواقعية الفعلية، استفاد الإسلاميون من القياس الأرسطي أضعاف استفادة لاهوتيي الكنيسة منه، وذلك بسبب جهاز الشريعة المهيب في الإسلام، وضرورة استنباط الأحكام الجزئية من قواعده العامة. لقد اتخذ الأصوليون أربعة أسس لوضع الفتاوى والأحكام، هي: أولا القرآن الكريم، وثانيا السنة والحديث، وثالثا إجماع المسلمين، أما الأساس الرابع فهو القياس الفقهي بمعنى الحكم على فرع لثبوت ذلك الحكم على أصل مشابه أو مشارك. وبالطبع المصادر الثلاثة الأسبق، القرآن أولا وقبل كل شيء ثم السنة والحديث، ثم الإجماع - هذه المصادر الثلاثة أهم وأكثر مرجعية من المصدر الرابع، أي القياس، ولا يلتجأ إلى القياس أصلا إلا إذا تعذر الخروج بالحكم الشرعي من هذه المصادر الثلاث، ولم نجد له نصا صريحا في القرآن أو الحديث، والقياس الصحيح بدوره هو ما وافق الكتاب والسنة. بيد أن النصوص ثابتة وقاطعة ومحددة، وإجماع المسلمين أيضا لم ينعقد إلا على وقائع معدودة. وفي مقابل هذا نجد القياس الفقهي إمكانية ولود متجددة، يمكنها التعامل مع كل واقعة مستجدة بقياسها على أصل مشابه، ولا شك أن الفقهاء في صوغهم لأسس ومناهج القياس الفقهي قد استفادوا كثيرا من قياس المناطقة الأرسطي. لا غرو إذا أن تبارى فقهاء الإسلام في إسباغ الألقاب الرنانة على المنطق الأرسطي، فهو : معيار العلم، محك النظر، القسطاس المستقيم، فيصل التفرقة بين الخطأ والصواب، الفاروق بين الحق والباطل، آلة العلوم، أداة العقل، علم قوانين الفكر الثابتة ... أو هكذا اعتبروه، فيقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي (450-505ه/1059-1111م) عن المنطق، أو بالتحديد عن كتابه المدرسي في المنطق الأرسطي والقياس، والذي أسماه «معيار العلم» ... يقول الغزالي: ... معيارا للنظر والاعتبار، وميزانا للبحث والافتكار، وصقلا للذهن، ومشحذا لقوة الفكر والعقل، فيكون بالنسبة إلى أدلة العقول كالعروض بالنسبة إلى الشعر والنحو، بالإضافة إلى الإعراب؛ إذ كما لا يعرف منزحف الشعر من موزونه إلا بميزان العروض، ولا يميز صواب الإعراب عن خطئه إلا بمحك النحو، كذلك لا يفرق بين فاسد الدليل وقويمه، وصحيحه وسقيمه، إلا بهذا الكتاب، فكل نظر لا يتزن بهذا الميزان ولا يعاير بهذا المعيار، فاعلم أنه فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغيار.
38
على هذا النحو كان المنطق الأرسطي وقياساته منهج بحث مهيمن ومعبر عن روح العصر في الحضارة الإسلامية الوسيطة والمشرقة، وأكثر من هذا في الغرب المسيحي طوال ما يقرب من عشرين قرنا من الزمان. كانت الحضارة الإسلامية أكثر عقلانية واستنارة وتوثبا ومرونة، فاتسع إطارها الثقافي لفعاليات المنهج التجريبي وحمل لواء الحركة العلمية - كما أشرنا - وكان ذلك لعوامل كثيرة لا يتسع لها المجال وليست موضوعنا الآن؛ لأننا معنيون الآن بسياق الحضارة الغربية التي أنجبت العلم الحديث في العصر الحديث، بعد أن كان المنطق الأرسطي كمنهاج للبحث يحكم قبضته عليها، حتى كادت أن تختنق، فكيف كان هذا؟ كيف انتقلت الحضارة الأوروبية من وضع يسوده القياس الأرسطي العقيم، إلى وضع يرفع لواء المنهج التجريبي فينطلق منه عملاق العلم الحديث؟
في الإجابة على هذا السؤال نلاحظ أن القياس الأرسطي طوال العصور الوسطى المسيحية لم يكن هو المنهج الملائم فحسب، بل أيضا المنهج الأوحد الذي ينبغي أن ينفرد بحلبة البحث ويستأثر بشتى الجهود العقلية، فكيف نترك الحقائق الكلية الإلهية اليقينية في الكتب المقدسة لننشغل نحن البشر الخطائين المضللين بإعمال عقولنا الفانية الزائلة لنصل إلى حقائق مشكوك في صوابها عرضة للخطأ، أو على أفضل الفروض حقائق قاصرة محدودة؟! وكما يقول جورج سارتون: «آنذاك لم يكن فن الملاحظة العلمية قد تطور بعد، وبينما بدت الحقائق العلمية القائمة على الملاحظة والخبرة مزعزعة الأركان، فإن الأنساق الدينية كانت راسخة.»
39
فحسبنا ممارسة الاستنباط القياسي الذي لا يدانيه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه ما دامت مقدماته يقينية، وهي بالقطع هكذا، أليست إلهية؟! وإذا كان المنهج القياسي الأرسطي مصادرة على المطلوب ولا يأتي بجديد، فما الحاجة إلى الجديد؟ أو إلى أي علم كسبي بعد أن ظفرنا بالحقيقة في الدارين؟! وإذا كان منهجنا لا يمس الطبيعة المتأججة من حولنا، فما ضر هذا؟! «ألم يجد رجل هذه العصور في الله وقصة الخلق وعقيدة الإرادة الشاملة تفسيرا كاملا عن كيفية نشوء العالم وتوجيهه وأساليب ذلك وأهدافه؟ فلماذا يبني الإنسان في كد وجهد بناء متشابكا كائنا هناك منذ البداية، وواضحا وظاهرا للجميع؟!»
40
وهذا التفسير الخاطئ للرسالة الدينية الذي ساد أوروبا في عصورها الوسطى المظلمة، إذا أضفنا إليه دأب المسيحية على التحقير من شأن المادة واعتبارها أصلا لكل شر وخطيئة، بل وتأثيم الانشغال بها، تبين لنا أن سيادة المنهج الأرسطي قد تأكدت بأن السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها لم يكن مطروحا آنذاك.
وإقصاء السؤال عن الطبيعة في العصور الوسطى الأوروبية يعود إلى أصول أعمق، ثم عضدتها الكاثوليكية وأعطتها الصياغة النهائية؛ إذ إنه بعد الفلاسفة الطبيعيين السابقين على سقراط - رواد التفكير العلمي حقيقة - اتجهت الفلسفة بفعل سقراط ثم التأثير الناجع لأفلاطون وأرسطو إلى الأخلاق والسياسة والميتافيزيقا، وأقصيت العقول عن التفكير في الطبيعة وتقلص السؤال عنها . واحتياجات الإمبراطورية الرومانية فيما بعد جعلتها تفعل المثل وينصب اهتمامها على القانون. ثم بدأت الحقبة التالية من تاريخ الحضارة الغربية في العصور الوسطى المسيحية التي كرست العقول الموهوبة والطاقات الذهنية من أجل اللاهوت، وانحطت الطبيعة أكثر لتغدو مجرد خادمة من خدم اللاهوت، تلبي ما تستطيعه من مطالب علومه. المفكرون لا يرون فيها إلا شيئا خلقه الرب، الطبيعة صنيعة الخالق، والتساؤل عنها وعن العالم المادي بمعزل عن الرب بدا لرجال ذلك العصر هراء لا طائل من ورائه. هكذا تراجع السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها إلى أقصى الحدود، إن لم يتوار نهائيا، فلا يعود ثمة احتياج لمناهج تجريبية تنصب عليها. وبالتالي ينفرد القياس الأرسطي بميدان البحث ليبدأ من يقين وينتهي إلى يقين.
إلى كل هذا الحد كان نجيب الحضارة الإغريقية - المنطق الصوري وقياساته الاستنباطية - منهجا أكثر من مناسب للاستحواذ على منزع العقل في العصور الوسطى الأوروبية، وكانت المحصلة فلسفتها «المدرسية» المتكرسة لمناقشات نظرية خالصة، تميزت بالتنسيق المنطقي الشديد والعقم الأشد عن الإتيان بجديد، فتلقب الفلسفة المسيحية للعصور الوسطى المتأخرة في أوروبا بالفلسفة المدرسية، وتعد أقوى تمثيل لسيادة المنطق الأرسطي.
ولأن المنهج السائد أقوى تجريد وتجسيد لروح العصر - كما اتفقنا - فقد اقترن إغلاق أبواب العصور الوسطى وفتح بوابة العصر الحديث بالضيق البالغ منتهاه من المنطق الأرسطي وقياساته، والبحث عن مناهج جديدة ملائمة للعصر الجديد، كان هذا لعوامل عديدة، من البديهي أنها عوامل كانت في الوقت نفسه وراء انبثاقة العصر الحديث بأسره، وإلا لما كان المنهج تجريدا وتجسيدا لروح العصر.
وأوضح هذه العوامل هي الكشوف الجغرافية التي أخبرت إنسان عصر النهضة في نهايات القرن الخامس عشر أن العالم الطبيعي أوسع كثيرا مما تصور أرسطو ومن كل ما تضمنته الصحائف وكتب الأقدمين، فبدت الطبيعة عالما مثيرا يغري بالكشف واقتحام المجهول فيه، وتغير موقفها فلم تعد أولا وأخيرا مجرد شيء خلقه الله. لقد طرأ تطور على الفكر المسيحي الغربي: أصبح الله عاليا في السماء بعيدا فوق الأرض، حتى إن التفكير في الأرض بمعزل عن الله يمكن أن يكون ذا معنى. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تصبح الطبيعة بحد ذاتها في ذلك العصر موضوع تمثيل فني لا علاقة له بأمور الدين، فالطبيعة استقلت عن الله وعن الإنسان أيضا، وتستجيب هذه الصورة إلى الدراسة.
41
ومع نهايات القرن السادس عشر كان السؤال عن الطبيعة قد ارتفع إلى الصدارة بعد طول توار، وأوشك أن يكون سؤال العصر الذي تنشغل به كل العقول الكبرى وطبقة المثقفين والصفوة من العلماء والبحاث والفلاسفة والمفكرين، بل كانت الطبيعة هي موضوع الحوار بين وجهاء القوم من رجال الكنيسة والبلاط، وحتى في صالونات سيدات المجتمع، ومنذ عهد الأيونيين والفلاسفة القبل سقراطيين لم تثر الطبيعة مثل هذا الاهتمام، ولم تتمركز هكذا كمحور للنشاط العقلي.
وسرعان ما توالت المتغيرات على كافة الأصعدة: الصعيد الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتجاري ... وظهرت المطبعة وبدأت المخترعات والماكينات تغير من وجه الحياة، وراحت العقول الواعدة تتلمس الجديد من كشوف العلم الطبيعي، فطغى الإحساس بعقم وإجداب المنطق الأرسطي وقياساته، وما يتسم به القياس من دوران منطقي ومصادرة على المطلوب وتحصيل لحاصل. غير أن ما عابه على الخصوص هو أنه ساهم في إقصاء العقول عن التفكير في الطبيعة بسبب من مجافاته للواقع؛ إذ لا يتعامل إلا مع قضايا مطروحة في الصحائف والأوراق؛ ليعنى فقط باتساق النتائج مع المقدمات. وحتى إذا كانت النتئاج صادقة على الواقع، فهي لا بد وأن تكون متضمنة قبلا في مقدماته، أي نعرفها سلفا. ربما كان لهذا المنهج قيمته في الدراسات القانونية أو اللغوية أو سواها من دراسات نظرية. أما إذا أردنا أن نكسب خبرا عن الواقع أو فهما أكثر للطبيعة المتأججة حولنا، فإن هذا مستحيل باتخاذ هذا المنطق وقياساته منهجا؛ ليجعلنا نلف وندور حول أنفسنا في دائرة مغلقة، أو دائرة محصورة بين أغلفة الكتب، فينتهي بنا المطاف من حيث بدأنا ولا جديد البتة. ومن أين الجديد والعملية كلها انتقال من معلوم كلي إلى معلوم جزئي، من قضية إلى أخرى، في أطر فلسفة لفظية عقيمة لا تثمر جديدا، ولا مساس إطلاقا بآفاق المجهول الرحيبة. وكانت الثورة على قياس أرسطو ومنطقه المعروف باسم الأورجانون، بمثابة الإعلان الصريح برفض الماضي والرغبة في الإقبال بمجامع النفس على الآفاق الجديدة للعصر الجديد، واستكشاف العالم الطبيعي النابض الذي امتد وترامت آفاقه أمام إنسان العصر الحديث.
ومن ثم أصبح هم الفلاسفة الأول هو البحث عن منهج جديد يلائم الروح الجديدة ويلبي المتطلبات المستجدة للعصر الجديد، فكان القرن السابع عشر هو قرن المناهج ، منذ ديكارت الرائد (1596-1650م)، وخطابه الشهير في المنهج لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم عام 1637م.
42
وحتى الأسقف «نيقولا مالبرانش»
N. Malberanch (1638-1715م) الذي يكاد يكون الوحيد من رجالات عصره الذي فعل فعلة الإمام الغزالي وأنكر السببية في الطبيعة وقال بنوع من اللاحتمية. ومثلما فسر الغزالي اطراد الظواهر الطبيعة وارتباطها معا بمذهب الاقتران، فسر مالبرانش هذا بما أسماه مذهب المناسبة
Occasionalism . مالبرانش هو الآخر اعتنى بسبل البحث عن الحقيقة، واجتمع فلاسفة بوررويال لبحث فن التفكير، ووضع إسبينوزا
B. Spinoza (1632-1677م) رسالة في إصلاح العقل. وكان ليبنتز
G. W. Leibnitz (1646-1716م) يحلل ويشرح فكرة منهج رياضي يبشر بها بالمنطق الرياضي الحديث ... إلخ.
يعد ديكارت ذا أهمية خاصة؛ إذ يعتبر بمثابة علامة فارقة بين العصور الوسطى والعصر الحديث من حيث هو مؤسس الفلسفة الحديثة، بيد أنه كان يبحث عن وضوح الرياضيات ويقينها؛ لذا اعتمد منهجه على الاستنباط الرياضي، وليس على التجريب في محاولة لتأسيس للمبادئ العامة للمعرفة بأسرها، وإذا استثنينا ديكارت، لكان أهم فلاسفة المنهج في القرن السابع عشر - قرن المناهج - هو بلا مراء وبلا منازع فرنسيس بيكون الذي يقترن اسمه بالمنهج التجريبي والعلم التجريبي وحركة العلم الحديث بأسرها.
وقد كان العلم الحديث بمضموناته البالغة الثراء وانعكاساتها الفلسفية، بتألقاته وتأزماته على السواء هو الميراث العيني الذي تسلمه القرن العشرون، فأجاد القرن العشرون استثمار هذا الميراث بمعدلات ظلت تتصاعد وتتصاعد حتى شقت أجواء الفضاء ... حقيقة ومجازا.
الفصل الثاني
ميراث تلقاه القرن العشرون: العلم الحديث
أولا: بيكون: روح العصر ... منهج العلم
إن الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون
F. Bacon (1561-1626م) هو الجدير حقا بالاعتبار دونا عن فلاسفة المنهج في القرن السابع عشر. فما دامت الطبيعة قد أصبحت سؤال العصر، فإن بيكون كان الأقدر على تجريد وتجسيد روح عصره باستقطابه لسؤال الطبيعة وتبنيه الدعوة لمنهج البحث المنصب عليها والملائم لها، المنهج التجريبي أو الاستقرائي أساس شريعة العلم الحديث. فاقترن اسم بيكون بحركة العلم الحديث وعد وكأنه أبوه الشرعي الذي صاغ صك شهادة ميلاده الرسمية، فتنقش مكتبة الكونجرس الأمريكي في واشنطن - أكبر مكتبة في العالم - اسمه أعلى إحدى بواباتها المذهبة بوصفه واحدا من الذين قادوا البشرية إلى العصر الحديث وعلمه الحديث.
وكان هذا أساسا بسبب كتابه «الأورجانون الجديد
Novum Organon » الصغير الحجم والذائع الصيت الذي نشره عام 1620م، وهو في الأصل ليس كتابا بمعنى الكلمة، بل مجرد جزء من عمل ضخم أسماه بيكون «الإحياء العظيم
Instauratio Magna » وضع تخطيطه في ستة أجزاء، لكن لم ينجز منها - أي لم يكتب وينشر - إلا الجزء الثاني فقط والذي هو «الأورجانون الجديد»، أي إنه «ليس كتابا مستقلا إنما هو جزء من كتاب، أو على الأقل جزء من خطة عامة لإصلاح العلم وللنهوض بحياة الإنسان».
1
وحتى هذا الجزء، أي الأورجانون الجديد، لم يكتمل تماما؛ لأنه مكون من كتابين أو فصلين، والكتاب الثاني ينطوي على خطة فرعية لم ينجزها بيكون هي الأخرى. وقد جاء الأورجانون في هيئة فقرات قصيرة منفصلة متتابعة ومرقمة، وإلى حد ما مفككة غير مترابطة، فقد يتم الانتقال من فقرة إلى أخرى فجأة بلا معبر بينهما، لكنها جميعا قاطعة كالسيف واضحة كالنهار، موجزة مكثفة بحيث لا تتسلل كلمة زائدة، ومكتوبة بأسلوب بليغ وبيان رائع عد قمة من قمم النثر في عصره.
على أن اللافت حقا هو عنوان الكتاب «الأورجانون الجديد»، أي «الأداة الجديدة»، أو «الآلة الجديدة»، في إشارة واضحة إلى أن أورجانون أرسطو قد أصبح أداة قديمة بالية عفا عليها الدهر. والكتاب يقدم الأداة أو الآلة الجديدة المناسبة لاحتياجات العصر، وهي المنهج التجريبي.
شارك بيكون رجال عصره في رفضهم الضاري للمنطق الأرسطي، وكان من أعنفهم هجوما على القياس وعقمه، وحتى الاستقراء الأرسطي، لم ينج من نقد بيكون الحاد ومحاولاته لإثبات اهترائه وتهافته. على الإجمال كان «الأورجانون الجديد» أقوى تجسيد لروح عصره الرافض للماضي العقيم، ماضي العصور الوسطى الأوروبية المدرسية ينظر إليها في غضب ويروم القطيعة المعرفية عنها، فيقول بيكون، في الفقرة 83 من الأورجانون الجديد:
لقد فقدوا غاية العلوم وهدفها، واختاروا طريقا خاطئا باتباعهم منهجا ليس من شأنه أن يكشف جديدا من مبادئ المعرفة، ويكتفي باتساق النتائج مع بعضها. فليكف الناس عن التعجب من أن تيار العلوم لا يجري قدما في طريقه الصحيح؛ فقد ضللهم منهج البحث الذي يهجر الخبرة التجريبية ويجعلهم يلفون ويدورون حول أنفسهم في دوائر مغلقة، بينما المنهج القويم يقودهم من خلال أحراش التجربة إلى سهول تتسع لبداهات المعرفة.
2
وفي الفقرة (82) يدين بيكون العصور الوسطى إدانة كبيرة من حيث هي عصور أهملت الطبيعة والمعارف الجزئية ورأتها تحط من قدر العقل الذي لا ينبغي أن ينشغل إلا بالقضايا الكلية والقياس الأرسطي الذي يستنبط منها ما يلزم عنها، فأوصدت الباب أمام السبيل القويم للمعرفة، أي المعطيات الحسية والخبرة التجريبية التي تخبرنا بما يحدث في الطبيعة. لم تهجرها أو أساءت التصرف بشأنها فحسب، بل رفضتها احتقارا.
3
لقد كان الجد الأكبر لفرنسيس بيكون من المذكورين في تاريخ المنهج التجريبي، إنه روجرز بيكون
Rogers Bacon (1214-1294م) الملقب بأمير الفكر العلمي في العصور الوسطى؛ لأنه مارس التجريب ووصل إلى نتائج مبهرة بالنسبة لعصره، في الكيمياء وطب العيون، ووضع تنبؤات تحققت بالفعل في ميادين الفلك والجغرافيا والميكانيكا. ولما كان رجل دين فرانسيسكانيا فقد كان هذا مدعاة للنقمة عليه ومثارا لمتاعب كثيرة واجهها في حياته، فكيف لرجل دين في تلك الآونة أن يدعو إلى التجريب العلمي ويمارسه؟! ويخبرنا توماس ماكولي
T. B. Machaulay (1800-1859م) أشهر مؤرخي القرن التاسع عشر أن أبا فرنسيس بيكون، السير نيقولا بيكون حامل أختام الملكة إليزابيث، لم يكن شخصا عاديا، لكن شهرة الابن طغت على شهرة الوالد. أما الابن فرنسيس بيكون نفسه، فقد كان رجل قانون وعضوا في البرلمان خلال عهد الملكة إليزابيث التي كان يمرح في بلاطها طفلا، وبعد رحيلها علا نجم فرنسيس بيكون وأصبح قاضي القضاة وكبير مستشاري الملك جيمس الأول وحامل أختامه، ومنح أعلى الألقاب. إنها إذن حياة مزدحمة بالأعباء القانونية والمهام والطموحات السياسية، وزادها ازدحاما ما شاب سيرة بيكون من فضائح أخلاقية، كالغدر بالأصدقاء وتملق ذوي السلطان وتقاضي الرشاوى والمحاكمات والعقوبات التي تعرض لها من جراء هذه التهمة الأخيرة.
ويرى الدكتور فؤاد زكريا أن هذه الحياة الصاخبة التي حرمت بيكون الوقت الكافي والقدرة على التركيز، هي المبرر الذي جعله لا يكمل كتبه الكبرى ومشروعاته الفكرية، وأيضا الذي جعله يكتب الأورجانون في صورة فقرات قصيرة منفصلة،
4
على أن بيكون نفسه يبرر هذا الأسلوب في الكتابة بعدم رغبته في أن يخرج ما يبدو له في صورة العلم الكامل المتكامل كما كان يفعل المدرسيون، وأن الفلاسفة القبل سقراطيين المخلصين حقا للطبيعة كانوا يكتبون بهذه الطريقة،
5
وكل ما بقي منهم شذرات منفصلة.
وما يهمنا حقا من الإشارة إلى تلك الحياة السياسية الصاخبة، هو إيضاح كيف أن بيكون لم يكن عالما ولا حتى متابعا جيدا لحركة العلم الحديث التي بدأت بواكيرها قبله واستحثت خطاها الناشطة في عهده! كان وليم هارفي
W. Harvey (1578-1657م) الطبيب الخاص لفرنسيس بيكون، وهذا الأخير لم يهتم باكتشاف هارفي للدورة الدموية، ولا بأبحاث فيساليوس (1514-1564م) الأسبق في مجال التشريح. وحتى نظرية كوبرنيقوس ذاتها عارضها بيكون! بوصفها فرضا أهوج، ما دامت الخبرة الحسية التجريبية تخبرنا بأن الشمس هي التي تدور في سماء الأرض! ولم يقدر نظريات كبلر وجاليليو حق قدرها، ولم يعترف أصلا بأبحاث جيلبرت في المغناطيسية. هكذا كانت ثقافة بيكون العلمية ضحلة. أجل قام ببعض التجارب البسيطة أو الساذجة، أشهرها تجربة دفع حياته ثمنا لها، وذلك حين قام بدفن دجاجة مذبوحة في جليد لندن ليختبر أثر البرودة في وقف تعفن اللحم، وبعد بضع ليال خرج في يوم قارس البرودة ليرى نتيجة التجربة، وكم كانت سعادته حين وجد الدجاجة سليمة، لكنه أصيب ببرد قاتل ألزمه فراش الموت، حيث قال قولته الشهيرة التي أصبحت شعار العصر: «لقد نجحت التجربة»، فهل يقصد تجربة الدجاجة والبرودة ؟ أم كان يقصد أن التجربة قد نجحت في فرض ذاتها على روح العصر؟ على أية حال لم ينتفع بيكون شخصيا بمنهجه في إضافة تذكر للعلم، ولم يتتلمذ على يديه أو يستفد حقيقة من كتاباته أي من العلماء الذي صنعوا حركة العلم الحديث، وترجموا المنهج التجريبي أبلغ ترجمة ممكنة؛ لذلك يرى بعض الباحثين أمثال ألكسندر كواريه أن اقتران اسم بيكون بحركة العلم الحديث سخافة لا معنى لها، وإذا أضفنا إلى هذا ما سنراه من نقائص ومآخذ على منهجه التجريبي، حق لنا أن نتساءل فعلا: كيف ولماذا اقترن اسم بيكون بحركة العلم الحديث؟
ويمكن أن نطرح هذا السؤال من زاوية أخرى فنقول: هل كان على البشرية الانتظار حتى مجيء بيكون لتدرك أن الحواس نوافذ ضرورية لإدراك العالم من حولنا؟! ألم يكن الاتجاه التجريبي قائما في الفلسفة منذ أول مدرسة فلسفية في التاريخ؟! ألم يمارس التجريب العلمي على أتم وجه منذ هيرو السكندري وأرشميدس وجابر بن حيان والبيروني وابن الهيثم خصوصا هذا الأخير؟ ألم تتسع الحضارة الإسلامية لفعاليات المنهج التجريبي؟ فماذا بقي إذن لبيكون؟
في الإجابة على هذا نقول: أجل اتسعت الحضارة الإسلامية للعلم ومنهجه التجريبي وقطع فيها شوطا كبيرا، ولكن لم يكن محورا أو مركزا، بل دائرة من الدوائر التي ترسمت حول المركز الحضاري، أي النص الديني ... القرآن الكريم، والثورة الثقافية العظمى التي أحدثها. لذلك يختلف وضع العلم في الحضارة العربية الإسلامية اختلافا كبيرا عن وضعه في الحضارة الأوروبية الحديثة؛ فقد كان في الأولى مجرد بعد، بينما هو في الثانية محور، بل محور كل المحاور، بمعالمه تترسم القيم، وعلى أساسه تتشكل أيديولوجية العصر أو إطاره المرجعي.
على هذا يتضح لماذا يقترن اسم بيكون بالعلم الحديث؟ فقد بدا جليا الآن أن الإجابة مطروحة في الجزء الأخير من الفصل السابق، في تأكيد قدرة الفلسفة على العموم وفلسفة المنهج على الخصوص في تجسيد وتجريد روح العصر، وقد كان بيكون بمنهجه هكذا، أقوى تجسيد لروح عصره وإلى درجة لا يطاولها إلا أرسطو.
فقد رأينا كيف كان بيكون من أعنف من هاجموا الاتجاه النظري الخالص بقياساته العقيمة عند الفلاسفة المدرسيين السابقين، ورفض بقطع تصورهم بإمكانية حل كل المشاكل الكبرى عن طريق التأمل وإقامة الحجج اللفظية، وأكد على ضرورة استخدام حواسنا وعقولنا في ملاحظة الوقائع، وتسجيلها بأمانة، هكذا «حدد بيكون سمة من أهم سمات التفكير العلمي الحديث، وهي الاعتماد على ملاحظة الظواهر ومشاهدتها تجريبيا، بدلا من الاكتفاء بالكلام عنها»،
6
فيرى الدكتور فؤاد زكريا أن بيكون يستحق فعلا لقب فيلسوف الثورة الصناعية قبل ظهور هذه الثورة بمائتي عام،
7
وليس فقط فيلسوف الحركة العلمية. والثورة الصناعية على أية حال نتيجة من نتائج العلم الحديث، وسليلة من سليلاته.
أجل، اقترن اسم بيكون بحركة العلم الحديث؛ لأن دعواه المنهجية كانت أقوى تجريد وتجسيد لعصر العلم الحديث، أقوى تجسيد للحداثة، للانقلاب على الماضي رفضا له والقطيعة مع العصور الوسطى المدرسية، فمنهجها قياسي يبدأ بمقدمات كلية ليخرج بنتائج جزئية تلزم عنها ولا التجاء إلى الحواس أو التجريب. وكان المنهج الذي رفع لواءه بيكون هو الانقلابة، هو الضد الصريح تماما لهذا، إنه منهج يعتمد على الحواس والتجريب، ويبدأ من جزئيات ليخرج بنتيجة كلية هي قانون من قوانين الطبيعة، إنه المنهج الذي يستقطب سؤال العصر ... سؤال الطبيعة.
وبيكون بدوره - بتجسيده لروح العصر - يصف الطبيعة بالأم الكبرى للعلوم، أو جذع شجرة المعرفة، ولا أمل في التقدم إلا بأن ترتد إليها العلوم جميعا،
8
وفي وجه آخر من وجوه تجسيداته البارزة لروح العصر، يؤكد أن المعرفة هي قوة الإنسان،
9
وليست ترفا وزينة كما كانت عند الإغريق، أو دوائر نظرية مغلقة وجوفاء كما كانت عند المدرسيين، وإذا كانت المعرفة قوة، فإن الطبيعة - ومنذ الفقرة الأولى في الأورجانون الجديد - هي مملكة المعرفة الإنسانية، والميدان الوحيد المثمر والمأمول لسيطرة الإنسان، وفقط عن طريق المنهج التجريبي، أي ملاحظة الواقع والتفكير في مسار الطبيعة. وإذا تجاوز الإنسان هذا فلن يستطيع أن يعرف أو يفعل شيئا،
10
ويراه بيكون منهج كشف بسيطا للغاية وطبيعيا إلى أقصى الحدود طالما يعتمد على معطيات الحواس، وهو فقط الذي يحقق وعد التوراة بأن يصبح الإنسان سيد الكائنات وتاج الخليقة وبطل الرواية الكونية.
هكذا كان بيكون وهو يقدم الطبيعة بوصفها المملكة البشرية الكبرى التي يستطيع الإنسان غزوها والسيطرة عليها عن طريق التجريب، إنما كان يقدم أقوى تجريد وتجسيد لروح العصر الحديث، وحتى المتغيرات التي أنجبته، وكان أبرزها - كما ذكرنا - اكتشاف العالم الجديد. وكثيرا ما كان بيكون يستشهد بالرحلات إلى العالم الجديد قبل أن يعبر عن أمله في اتساع المعرفة «بحيث تتجاوز أي شيء اكتشفه القدماء أو المدرسيون، اعتمادا على منهج فاسد، وهدف بيكون لأن يكون - كما قال - مثل كولومبوس، أي يكتشف عالما جديدا، وأن يبحر مخترقا أعمدة أروقة هرقل - رمز العالم القديم - مبحرا في المحيط الأطلسي؛ لكي يكتشف جديدا، والآخرون قادرون على تحقيق شيء مشابه لو أنهم تخلوا عن التوقير غير المناسب للقديم واتبعوا الأورجانون الجديد، أو المنهج الاستقرائي».
11
من هنا مثل الاستقراء - المنهج التجريبي - أقوى تجليات الحداثة من حيث هو تمثيل لشريعة العلم الحديث.
وتتوالى فقرات «الأورجانون الجديد» لتفصيل هذا المنهج الذي جاء مع بيكون على جانبين أو قسمين: الأول سلبي مختص بالتنويه إلى الأخطاء المتربصة بالعقل البشري كي يتجنبها، والثاني إيجابي مختص بقواعد التجريب، والجانب الإيجابي - مهما كانت قدرته على التعبير عن روح العصر - يعبر عن مرحلة باكرة ومبدئية، فكان مشوبا بقصورات ومآخذ جمة كما سنرى. لذا يحق لنا الحكم بأن الجانب السلبي لا يقل عنه أهمية، إن لم يكن أهم؛ لأنه يمثل إضافة حقيقية ولفتة ثاقبة من بيكون، مثمرة وتظل صالحة لكل العصور. لقد انتهى القرن العشرون ولا تزال البشرية تعاني من تلك الأخطاء التي نوه إليها بيكون في الجانب السلبي من منهجه. ولا بد من الحذر بشأنها ليتجنب العقل البشري مزالقها.
إن العقل عند بيكون أداة مماثلة وتجريد وتصنيف لمعطيات الحواس، وفي تجسيده لخطورة هذه الأوهام المتربصة بالعقل يطلق عليها اسم الأوثان أو الأصنام
Idol ، فهي تتحكم في العقل تحكما رهيبا وتحجبه عن جادة الصواب، فتكون بمثابة أصنام يعبدها ... كأوهام يتشبث بها، وقد كرس لها بيكون أكثر من ثلاثين فقرة من فقرات الكتاب الأول في الأورجانون الجديد، وهو يقسمها إلى أربعة أنماط على النحو التالي: (1)
أوهام الجنس أو القبيلة: والمقصود الجنس البشري بعامة أو القبيلة الإنسانية بأسرها، أي إنها الأخطاء المتربصة بالعقل البشري من حيث هو كذلك، ومن أمثلتها سرعة التعميمات والقفز إلى الأحكام الكلية، فلا ينبغي التسرع في التعميم دون التثبت الكافي؛ كي لا نقع في أحكام خاطئة. وأيضا سيطرة فكرة معينة على الذهن، تجعلنا نختار من الأمثلة والوقائع ما يؤيدها ونغض البصر عما ينفيها، فلا بد من توخي النزاهة العلمية في التعامل مع الوقائع كي ندرأ هذه النوعية من الأخطاء، ومن أمثال هذه الأخطاء الشائعة في طريقة التفكير الإنساني بصفة عامة افتراض الانتظام والاطراد في الطبيعة أكثر مما هو متحقق فيها، حتى إذا صادفنا مثال شارد حاولنا إدخاله بأية طريقة في إطار القانون، فلا ينبغي افتراض أكثر مما هو متحقق فعلا. وثمة أخيرا ما يميل إليه عقل الإنسان من تجريد وإضفاء معنى الجوهر على المظاهر المتغيرة، وهذا يقود إلى عدم التمييز بين طبائع الأشياء ومظاهرها. (2)
أوهام الكهف: والمقصود بالكهف البيئة التي نشأ فيها الفرد، فهي إذن نوعية من الأوهام خاصة بالفرد المعين الذي نشأ في بيئة معينة، بخلاف أوهام الجنس العامة، أوهام الكهف تتمثل في التأثير الكبير لعوامل البيئة ومكوناتها وثقافتها على عقل الإنسان، فيتصور المتواضعات الخاصة بها وكأنها حقائق مطلقة وقد يقصر جهوده المعرفية على إثباتها، مما يحول بينه وبين اقتفاء جادة الصواب، ولو تأملنا مليا في مشكلة التشويه الأيديولوجي للعلوم بعامة والعلوم الإنسانية بصفة خاصة، والتي أشرنا إليها في الفصل السابق، واعتبرناها من كبريات مشاكل فلسفة العلوم الإنسانية، وسوف نعالجها في - الجزء الأخير من الفصل السادس - لوجدنا أن التشويه الأيديولوجي هو ذاته ما أسماه بيكون في الأورجانون الجديد، بأوهام الكهف. (3)
أوهام المسرح: وهي الأوهام أو الأخطاء الناتجة عن تأثير المفكرين القدامى على عقل الإنسان، فيصبح هذا العقل وكأنه خشبة مسرح يعرض عليها المفكرون السابقون رؤاهم المتضاربة والمنفصلة عن الواقع الراهن، إن المتفرجين قد يأسرهم الإعجاب بالممثل وبراعته في تجسيد الدور، فينسى المتفرج واقعه ومشكلاته، ويعيش بمجامع نفسه مع الممثل، يتألم لمآسيه ويفرح لظفره بالمحبوبة، حتى ولو كان بين المتفرج ومحبوبته فراسخ وأميال! المثل تماما يحدث حين يأسر الإنسان الإعجاب بممثلي الفكر السابقين، فيعيش في إطار مصنفاتهم ويلف ويدور حول قضاياهم منفصلا عن واقعه ومستجداته، وتبدو أوهام المسرح أخطر أنواع الأوهام، ربما كان أرسطو يلح على خاطر بيكون وهو يحذرنا من أوهام المسرح، ولكن إذا التفتنا حولنا في واقعنا العربي الراهن إبان الربع الأخير من القرن العشرين وجدناه يعاني من ظاهرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي أصبحت إرهابية. والواقع أنهم حالة مثلى لأوهام المسرح التي حذر بيكون منها؛ فقد سيطرت على أذهانهم مصنفات تراثية معينة، كانت نتاجا أو استجابة لظروف حضارية انتهت منذ قرون عديدة، ملغين ظروف واقعنا، ولا يلتفتون إلى أن فتاوى ابن تيمية لمواجهة المغول لا تصلح لمواجهة القوى الإمبريالية المعاصرة بعد أن تسلحت بالعولمة، أو أن معالم سيد قطب كانت على طريق الاصطدام مع التجربة الناصرية الاشتراكية التي أصبحت الآن أثرا بعد عين. وتماما كما أشار بيكون، الافتنان بممثلي الفكر السابقين لا ينجم عنه إلا خسران الواقع ومستجداته. (4)
أوهام السوق: وهي الناجمة عن الخلط اللغوي وسوء استخدام اللغة، وقد اعتبرها بيكون أبرز ما ينبغي تجنبه. فالضجيج يرتفع في الأسواق، يحجب الإنسان عن الإدراك الواضح للغة، فتنشأ الأوهام الناجمة عن هذا، كأن تستعمل أسماء لأشياء لا وجود لها، ثم نتصور وجود هذه الأشياء الزائفة، أو نترك أشياء حقيقية بلا أسماء نتيجة لقصور في الملاحظة. ويحذرنا بيكون من تلافي هذه الأخطاء عن طريق المناقشات اللفظية. فالفيصل الحق في الرجوع إلى الواقع. إن أوهام السوق تجعل الإنسان يتصور وكأنه هو الذي يملك زمام اللغة ويتحكم فيها ويستعملها كما يشاء، في حين أن اللغة قد تمارس تأثيرها على العقل الإنساني دون أن يعي هذا؛ لذلك ينبغي الحذر والحيطة؛ كي لا نقع في أسر أوهام السوق ... الاستعمالات الخاطئة للغة.
وسوف نرى أن أهم تيارات الفلسفة العلمية في القرن العشرين هو التيار التحليلي الذي جعل الفلسفة منصبة على اللغة وتحليلاتها للتخلص مما يشوب التعبيرات اللغوية من لبس أو غموض أو خلط أو زيف. فلم يكن جزافا إذا الحكم بأن أوهام بيكون أو الجانب السلبي من منهجه، أهم وأكثر حيوية من الجانب الإيجابي.
لقد عرض بيكون لهذه الأوهام ضمنا في كتاب سابق له، كتبه بالإنجليزية وأهداه للملك جيمس الأول ليساعده في النهوض بالبلاد، ونشره عام 1605م وهو كتاب «النهوض بالتعليم
Advancement of Learning »، ثم أعطاها أسماءها وفصلها تفصيلا في الكتاب الأول من «الأورجانون الجديد» الذي يغلب عليه الطابع النقدي؛ وذلك لكي يعقد الإنسان العزم على التحرر منها والتخلص من أدرانها، فيمارس التجريب بعقل تأهب تماما لجني مغانمه.
وفي الكتاب الثاني من «الأورجانون الجديد» يعرض بيكون للجانب الإيجابي من منهجه، أي لقواعد التجريب، وقد أسماها «صيد بان»، و«بان
» هو إله الصيد عند الإغريق، قيل: إنه ابن زيوس من إحدى حوريات الطبيعة الأركاديات وتدعى كاليستو
Calisto ، فتعود أصول «بان» وعبادته إلى الأركاديين القدامى الذين يمثلون الجانب الرعوي الريفي في حضارة الإغريق، حيث الطبيعة الخالصة، إنه إله البراري والتلال والغابات والوديان والرب الحامي لأسراب الطيور وقطعان الحيوانات، وللرعاة والقناصين، وكانوا يتصورونه ذا أنف أفطس ولحية كثة، وشعر أشعث، وله قدما ماعز، يجول أثناء النهار في البراري والوديان ليحمي القطعان، خصوصا قطعان الماعز، ويطارد الحيوانات الضارية التي تهددها، وفيما بعد أصبح «بان» رمزا للكون الطبيعي بأسره، وتركزت عبادته في الريف،
12
وتبدو براعة هذه الاستعارة واضحة جلية، فهي تحمل تمثيلا لهاجس الطبيعة المسيطر على الأذهان. وبيكون يقصد منها أن ممارسة المنهج التجريبي تغتنم معارف تماثل ما يغتنمه إله الصيد حين يمارس الصيد!
وهذا الجانب الإيجابي في منهج بيكون ينقسم بدوره إلى قسمين أو مرحلتين: المرحلة الأولى هي إجراء التجارب، وقد تحدث بيكون عن أنواع ودرجات التجريب من قبيل تنويع التجربة وتكرارها وإطالة أمدها ونقلها إلى فرع آخر من فروع العلم، وعكسها، أي إجرائها بصورة معكوسة، وإلغائها لدراسة الصورة السلبية لموضوع البحث ... إلخ. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التسجيل ، تسجيل نتائج التجريب في قوائم تصنيفية. وتعد «القوائم» من المعالم المميزة لمنهج بيكون، وقد أكد عليها تأكيدا؛ إذ يقول: إن الجزئيات أو الوقائع التجريبية أشبه بجيش ضخم العدد مبعثر ومتفرق، وما لم تنتظم الوقائع التجريبية المتعلقة بموضوع البحث سوف يضطرب التفكير ويتشتت ويضل طريقه، ولن يصل إلى شيء. والأمل معقود على استخدام قوائم الكشف لكي يصنف العقل الوقائع التجريبية وينظمها تبعا لدرجاتها ويحدد الأمثلة النافية، وبهذا يستطيع العقل أن يمارس عمله ويستخلص نتائج التجريب، وفقا لما تمده به تلك القوائم،
13
وهي ثلاث على النحو التالي: (1)
قائمة الحضور والإثبات، ويسميها بيكون أحيانا بالقائمة الجوهر، وهنا يضع الباحث جميع الحالات التي لاحظ عن طريق التجربة أن الظاهرة أو الطبيعة البسيطة موضوع الدراسة تتبدى فيها. (2)
قائمة الغياب أو النفي، وفيها يسجل الباحث الحالات التي تغيب فيها الظاهرة، فمثلا إذا كان موضوع الدراسة هو أثر ضوء الشمس على نمو النبات، نحاول أن نعرف ماذا يحدث لهذا النبات إذا غاب عنه ضوء الشمس، وهذه القائمة أهم القوائم وأخطرها والتي جعلت استقراء بيكون منهجا علميا وليس مجرد تعداد ساذج. (3)
قائمة التفاوت في الدرجة، حيث يسجل الباحث الدرجات المتفاوتة لحدوث الظاهرة موضوع الدراسة، وهذا التنويه السطحي لأهمية التجريب لا يجدي فتيلا، فبيكون قد تحامل على الرياضيات؛ لأنها استنباط خالص وتجريد ينأى بالباحث عن الطبيعة والتجريب! هذا بينما يقوم العلم الحديث على التآزر بين الوقائع التجريبية واللغة الرياضية، وتعد الصياغات الرياضية من معالمه المميزة؛ لذلك يقال: إن ديكارت الذي انطلق من أهمية الرياضيات وخصائص التفكير الرياضي إنما يشارك بيكون في إرساء الأصول المنهجية للعلم الحديث.
وهناك عامل آخر يوضح مدى ابتعاد بيكون عن الروح الحقيقية للعلم الحديث أكثر من هذا الإغفال لأهمية الرياضيات؛ ذلك أنه كان يهدف من الاستقراء هدفا مغايرا لهدف العلم الحديث، فإذا كان العلم الحديث يهدف إلى وصف وتفسير الظواهر الطبيعية، فإن بيكون كان يريد من هذا المنهج أن يفضي به إلى معرفة أو اكتشاف الصور
Forms ، أي صور الطبائع البسيطة
Simple Natures ، فقد رأى أن كل شيء في هذا العالم يمكن رده إلى مجموعة من الطبائع البسيطة عددها اثنتا عشرة، كالضوء والوزن والحرارة ... إلخ. ومن اجتماع هذه الطبائع وتفرقها تتكون سائر الموجودات، وهدف العلم الطبيعي هو اكتشاف أسباب هذه الطبائع، أي صورها. فالصورة ليست تجريدا أو فكرة مثالية، بل هي شرط فيزيائي للطبيعة البسيطة، أساس لها ومباطنة فيها، إن الصورة تمثل علة معلولها الطبيعية البسيطة. بيد أن الطبائع البسيطة ذاتها فكرة ميتافيزيقية لا علمية، توضح أن بيكون لم يتخلص تماما من شوائب العصور الوسطى المسرفة في الميتافيزيقيات، والأدهى أنه تصور مجموعة من الأبحاث تجرى في بضع سنوات تستقصي صور الطبائع البسيطة، فيكتمل نسق العلم الطبيعي! هكذا كان تصور بيكون لعالم العلم على قدر كبير من السذاجة!
على أية حال، كان السبيل الوحيد لمعرفة صور الطبائع البسيطة هو تطبيق المنهج الاستقرائي، أي التجريب، ثم تسجيل نتائج التجريب في القوائم الثلاث المذكورة، وهذا ما فعله بيكون بشأن الطبيعة البسيطة: الحرارة، وانتهى إلى أن صورتها أو علتها هي الحركة.
ويبقى أهم المآخذ على منهج بيكون هو أنه لم يفطن لأهمية الفروض، بل حذر منها وأسماها استباق الطبيعة
Anticipation of Nature ؛
14
أي استنتاجات للعقل الإنساني تنصب على الطبيعة، بينما هي تتجاوز ما تخبر به الطبيعة. وفي سياق هجومه على المنطق الأرسطي هاجم الفروض باعتبارها كالقياس الأرسطي، قضايا لفظية وليست سيطرة على الأشياء، هذا في حين أن الفروض سر تقدم العلم، إن لم تكن هي العلم نفسه، وبغيرها لا جديد إطلاقا. ثم إن بيكون بعد إنكاره للفروض كان هو نفسه يستخدمها دون أن يدري، وإلا كيف توصل إلى أن الحركة هي علة الحرارة؟ «ليست الحركة هي الظاهرة التي كان يبحثها، وإنما كان يبحث ظاهرة الحرارة، ولم تكن الحركة مذكورة في أي من القوائم الثلاث، فالحركة اقتراح، أي فرض لتفسير تلك القوائم.»
15
بخس قيمة الفرض كان أعظم أخطاء بيكون. على العموم سوف نرى في موضع لاحق أن بيكون بهذا الخطأ، أيضا كان يجسد روح عصره.
على أن أوجه قصور منهج بيكون في مرحلته الباكرة لن تبخس أبدا فضله العظيم في التنويه لأهمية التجربة والتعويل عليها في اكتساب المعارف بالواقع المحيط بنا، كتجسيد لروح العصر، تجسيدا قويا حقق مأربه في تحطيم سيطرة منطق أرسطو كمنهج، وإعلان عصر العلم التجريبي ... العلم الحديث وحسبه هذا الإعلان القوي المدوي، حتى يقول بيكون عن نفسه: إنه ليس إلا «نافخ البوق».
لقد كان بيكون نزاعا بمجامع نفسه نحو الاتجاه العلمي، مؤمنا أكثر من سواه بقدرة العلم التجريبي. وقد وضع تصورا لمدينة فاضلة أسماها «أطلانطس الجديدة» لا تعدو أن تكون نموذجا مثاليا لمجتمع علمي متكامل يضم أمة من العلماء في سائر التخصصات؛ لكي يحقق العلم المنفعة القصوى للبشر. وصف بيكون «بيت سليمان» في هذه المدينة وهو صورة مثالية للمعمل العلمي وللأكاديميات العلمية، اقتفيت خطوطه فيما بعد،
16
وحين تأسست الجمعية الملكية للعلوم في لندن لتضم جهابذة العلم وتنسق بين أبحاثهم، وقف المؤسسون في حفل الافتتاح عام 1662م ليشيدوا بفضل بيكون على تيار العلم الحديث.
وكان إيمان بيكون بالعلم لا يحده حدود، فسبق عصره فعلا في التبشير بالعلوم الإنسانية، فقد أشار إلى أن القياس الأرسطي السائد يمتد ليشمل كل العلوم. وبالمثل تماما المنهج التجريبي سوف يمتد ليشمل كل شيء فنرى قوائم تصنيفية للتجارب المتعلقة بالكره والخوف والغضب واتخاذ القرارات والامتناع عنها وسائر جوانب الحياة المدنية، تماما كقوائم البرودة والحرارة والضوء والنباتات وما إليها،
17
وفي كل هذا لم يفته دور الفلسفة، منوها إلى أن العلم في حد ذاته لا يكفي، فلا بد من قوة ونظام خارج العلوم لتنسيقها وتوجيهها إلى هدف، هكذا تحتاج العلوم إلى الفلسفة لتحليل الطريقة العلمية - أي المنهج، وتنسيق الأهداف والنتائج العلمية، وكل علم بغير هذا، بغير فلسفة العلم يعد سطحيا.
وبناء على ما سبق في هذا الجزء من الفصل عد بيكون - على الرغم من قصورات منهجه - أقوى تجسيد لروح العصر الذي أنجب العلم الحديث لينمو ويعلو ويعلو ... كنزا مذخورا للبشرية، هو بلا شك رأسمال فعال في الثراء المعرفي الباذخ الذي تمتع به القرن العشرون. فكيف تجمعت فرائد هذا الكنز في كل متكامل ، أو بتعبير مباشر: كيف تشكل نسق العلم الحديث؟
ثانيا: نسق العلم الحديث
والآن لنصوب الأنظار على النسق العلمي في حد ذاته، أو النسق العلمي من الداخل كمنظومة معرفية متوالية من القضايا الممنهجة، تحمل مضمونا إخباريا وقوة تفسيرية وطاقة تنبئية منصبة على العالم الذي نحيا فيه، فتجعل العقل البشري يحكم قبضته عليه، هذا النسق العلمي كيف انبثق وتشكل وتنامى وتكامل؟
بهذه النظرة الإبستمولوجية الخالصة، تعد نقطة البدء في نسق العلم الحديث هي فرض مركزية الشمس بدلا من مركزية الأرض، وليس هذا مجرد فرض مختص بفرع من العلوم هو الفلك، بل كان لا بد من تصويب النظرة الكوزمولوجية العامة للكون لكي يستقيم نسق العلم الطبيعي.
فقد ساد العلم القديم فرض كلاديوس بطليموس السكندري (القرن الثاني بعد الميلاد) المأخوذ من نظرية هيبارخوس (القرن الثاني قبل الميلاد)، وهو فرض ينص على أن الأرض ثابتة وكل الأجسام السماوية الأخرى تدور حولها في حركة دائرية بسرعة مطردة. كان بطليموس عليما بالهندسة وأقام تصوره للكون على أساس ما تراه الحواس ويتقبله الحس المشترك، فرأى أن القمر والشمس يتحركان عبر السماء، أما الكواكب الخمسة التي كانت معروفة في ذلك الوقت فتتحرك بحرية، والنجوم فقط هي الثابتة، وهل هناك ما هو طبيعي وبديهي أكثر من كون تحتل الأرض مركزه؟ ولما كانت هذه النظرية البطلمية تتسق مع العقيدة المسيحية من حيث مركزية الأرض في هذا الكون، ومع فلسفة أرسطو من حيث إن الدائرة أكمل الأشكال، والحركة الدائرية هي فقط اللائقة بالأجرام السماوية، فقد أيدها رجال الكنيسة وأصبح التسليم بها مشتقا من التسليم بالكتب المقدسة. لقد ظلت النظرية البطلمية سائدة شرقا وغربا أربعة عشر قرنا من الزمان.
وبالنجم هم يهتدون
كان البحارة يعملون بها في رحلاتهم بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وشواطئ المحيط الهندي بلا مشاكل تذكر. ومع الكشوف الجغرافية والرحلات الطويلة عبر المحيط الأطلنطي وحول الكرة الأرضية بدأت تظهر المشاكل والصعوبات لتنبئ بفشل نظرية بطليموس، وها هنا جاء من بولندا رياضي متمكن هو رجل دين واقتصادي ودبلوماسي وطبيب، إنه نقولا كوبرنيقوس
N. Copernicus (1473-1543م) ليقتنع في عام 1507م بأن بطليموس على خطأ، ومن الضروري وضع تفسير أبسط لحركة الكواكب.
كان كوبرنيقوس قد اطلع في قراءاته الواسعة على نظرية مراغة - كما ذكرنا في الفصل السابق - وعلى نظرية أرسطارخوس الساموسي (310-230ق.م) في العصر السكندري القائلة بمركزية الشمس، واطلع أيضا على فكرة مؤداها أن الأرض لعلها ليست ثابتة ولا تتحرك. التقط كل هذا بحسه العلمي وقدراته الرياضية العالية، وافترض أن الشمس هي مركز الكون، أو مركز الدائرة الخارجية للنجوم الثابتة، وأن الكواكب تدور حول الشمس في مدارات هي دائرية كما قال بطليموس، لكن كوبرنيقوس افترض أن الكواكب الأقرب إلى الشمس تدور أسرع وفي مدارات أصغر، وترتيب الكواكب على النحو التالي: عطارد - الزهرة - الأرض - المريخ - المشتري - زحل، على هذا يكمل عطارد مداره في حوالي ثلاثة أشهر، بينما يستغرق المشتري ما يقرب من اثنتي عشرة سنة، أما الحركة اليومية البادية فيمكن تفسيرها بأن الأرض تدور حول محورها دورة كاملة كل يوم، وللأرض أيضا حركة ثالثة، فهي تتغير ببطء في اتجاه محورها، وهي الحركة المسماة بالاستقبال
، وكان العالم السكندري هيبارخوس قد اكتشفها وأشار إليها،
18
ولم يدعم كوبرنيقوس نظريته إلا بحجة واحدة هي حجة «البساطة». فإذا نظرنا إلى الكواكب من على سطح الشمس، أي إذا افترضنا أن الشمس هي المركز فسوف تبدو مدارات الكواكب أبسط وأجمل وحساباتها الرياضية أبسط. وباسم مبدأ البساطة شن هجومه على تعقيدات معينة في نظرية بطليموس.
وضع كوبرنيقوس نظريته في كتابه الشهير «دوران الكرات السماوية
Revolution Orbium Coelestium » وظل مترددا في إكماله ونشره، حتى جاءه وهو على فراش الموت عام 1543م، ودون أن يعلم كوبرنيقوس الذي كان يحتضر، حملت الطبعة الأولى للكتاب مقدمة كتبها اللاهوتي أندرو أوسياندر
A. Osiandre ، يحاول فيها المصالحة بين محتوياته وبين الدين، على أساس أنها مجرد فروض وليست حقيقة، ويظل اليقين من نصيب الدين فقط. ومع هذا كفر البابا كوبرنيقوس من أجل كتابه، الذي يناقض ما نصت عليه الكتب المقدسة من أن الأرض ثابتة وهي مركز الكون. ونشطت محاكم التفتيش في أعقاب حائزيه ومؤيديه، لكن بعد أن فجر ثورة عارمة أعلنت نهاية العلم القديم وبداية العلم الحديث، إنها الثورة الكوبرنيقية التي أزاحت الأرض من مركز الكون، ووضعت الشمس بدلا منها.
وعلى الرغم من كل هذه التضمنات الثورية، كانت نظرية كوبرنيقوس مجرد نظرية هندسية، تفتقر إلى الأدلة التجريبية، ولا تدعمها إلا حجة البساطة. لا شك أن البساطة قاعدة منهجية ومنشودة دوما، لكنها وحدها لا تكفي، فضلا عن اعتراضات أخرى أثيرت في وجه النظرية ولم يستطع العلم الفلكي والميكانيكي بحالته الكائنة أيام كوبرنيقوس أن يواجهها، منها مثلا أن الجسم الساقط عموديا في الهواء يجب أن يقع غرب نقطة سقوطه إذا كانت نظرية كوبرنيقوس صحيحة والأرض تتحرك، وهذه حجة ظلت غير قابلة للدحض حتى أرسى جاليليو أساس الديناميكا الحديثة. وأيضا لو صحت النظرية لوجب أن تكشف النجوم عن اختلاف في مستوى مرآها بالنسبة لمكان الناظر يرجع إلى 186 ألف ميل هي الاختلاف في وضع الأرض كل ستة أشهر، ولم تتم الإجابة على هذا التساؤل حتى اكتشف بيزيل
Bessel
هذا الاختلاف بالنسبة لمكان الناظر عام 1838م، وهذان المثالان نموذج لاستنباطات عديدة من نظرية كوبرنيقوس جعلت الأدلة التجريبية تعارضها؛ لذلك، فبصرف النظر عن أن الكتب المقدسة تعارضها، فقد رفضتها العقول النيرة عبر أوروبا بأسرها، خصوصا العقول ذات المنزع التجريبي، إنهم لم يجدوا مبررا لتقبل ثمرة من ثمرات الخيال الجامح.
19
وجاء الفلكي الدانمركي تيخو براهة
T. Brahe (1536-1601م) ليزود النظرية الكوبرنيقية ببعض الأدلة التجريبية، كان تيخو أيضا رياضيا متمكنا، لكنه لم يكن عبقرية خلاقة ولا حتى عقلية علمية جريئة، وحسبه ما تمتع به من موهبة وصبر نادر في إجراء الملاحظات والرصودات الفلكية، فتكمن قيمته العلمية في محاولاته لتحسين المشاهدات الفلكية، وفي أنه أول من رأى بوضوح وجوب الحصول على معلومات تجريبية وإجراء مشاهدات منتظمة على امتداد سنوات طويلة. وعلى مدار عشرين عاما من 1576م إلى 1596م، واظب تيخو بمعاونة هيئة من مساعديه على مراقبة أوضاع الشمس والقمر والكواكب. استخدم آلات متطورة صنعت بعناية تحت إرشاده، فنجح في تقليل التفاوت في دقة المقاييس. وهذا النجاح في البحوث التجريبية لم يحالف تيخو في بحوثه النظرية. كان منتبها بالطبع إلى نقائص نظام بطليموس، ومدركا للتقدم الذي أحرزه كوبرنيقوس وأخذ بنظرية هذا الأخير مبقيا على أن المدار دائري، لكنه رفض حركة الأرض لأسباب بعضها لاهوتية وبعضها فيزيقية، فحاول التوفيق بين النظامين البطلمي والكوبرنيقي باختراع «نظام تيخو» الذي حافظ على الوضع المركزي الساكن للأرض، بينما تصور الكواكب تدور حول الشمس.
20
ليس لنظام تيخو قيمة علمية، وبصفة عامة الدور الحقيقي لتيخو يتبدى من خلال الفلكي الألماني الشاب يوهانس كبلر
J. Kepler (1571-1630م) الذي استفاد من الاتصال الشخصي بينه وبين تيخو، واستخدم آلات ورصودات تيخو وحدوس كوبرنيقوس ليعمل عبقريته العلمية في الإنجاز النهائي لهذه المرحلة الفلكية الهندسية من العلم الحديث.
وبينما كان تيخو على فراش الموت، أوصى كبلر بإتمام جداوله لحركات الكواكب، مستعملا نظريته الفلكية (نظام تيخو) كإطار للعمل وليس نظرية كوبرنيقوس. وقد نفذ كبلر الشق الأول من الوصية، وأكمل الجداول الفلكية ونشرها عام 1627م باسم «الجداول الرودلفية»، على شرف الإمبراطور رودلف الثاني راعي تيخو وكبلر الذي استضافهما على الرحب والسعة في براغ ووهبهما قلعة كمركز للرصودات الفلكية ولقب «عالما الرياضة صاحبا الفخامة»؛ لأنهما كانا يستكشفان له طالعه وحظه عن طريق «التنجيم» حرفتهما الرسمية؟!
21
ولم ينفذ كبلر الشق الثاني من الوصية، فقد رفض نظام تيخو، واعتنق الكوبرنيقية بتعصب؛ إذ كان في شبابه يعبد الشمس، فآمن بأن المكان الملائم لهذا النجم العظيم هو مركز الكون، واعتقد أن الله خلق الكواكب تبعا لمبدأ الأعداد التامة، وكان يبحث عن التناغم الهارموني في الكون الخاضع للمبدأ الرياضي، ويمكن التوصل إليه بالتدوينات الموسيقية، كما حاول أن يفعل في كتابه «تناغم العالم
Harmony of World ». المهم أنه طرح فكرته بأن المدارات الفلكية ليست دائرية، بل أهليجية، أي بيضاوية، أو تمثل قطعا ناقصا، ويعد الفرض الأهليلجي أو القطع الناقص ثورة فجرها كبلر، وتكاد «تناظر ثورة كوبرنيقوس، إنها ثورة على الاعتقاد الإغريقي والوسيط بأن الأجرام السماوية مقدسة، وبالتالي لا بد وأن تدور في الشكل المقدس وهو الدائرة الكاملة»،
22
وفي النهاية أعطى كبلر لنظرية كوبرنيقوس أسسها وحججها عن طريق هذا الفرض الأهليلجي وقوانين حركة الكواكب التي توصل إليها.
فقد انتهت جهود كبلر الفلكية إلى أن الحركة اليومية والسنوية البادية للشمس والنجوم والكواكب يمكن تفسيرها بأبسط صورة وبأعلى درجة تقريبية إذا افترضنا أن الأرض تدور حول محورها مرة كل أربع وعشرين ساعة، وتوصل إلى قوانينه الثلاثة المشهورة التي أودعها كتابة «الفلك الجديد»، وهي: (1)
الأرض والكواكب تدور حول الشمس في مدارات إهليلجية، تقع الشمس في إحدى بؤرتيها. (2)
يقطع الخط الواصل بين الشمس والكوكب مساحات متساوية في فترات زمانية متساوية. (3)
نسبة مربع الزمان الدوري للكوكب إلى مكعب متوسط بعده عن الشمس واحدة بالنسبة لجميع الكواكب.
ولم تكن جهود كبلر فلكية مصمتة، بل تطور مفهوم الطبيعة بأسره على يديه؛ لأنه كان قد أخذ فكرة جيلبرت في المغناطيسية وعممها، فقال: إن كل الأجسام تمارس جذبا، وبهذا المفتاح لظاهرة الجاذبية ألغى كلمة الكائن الحي
anima
في معالجة الطبيعة، وأحل محلها مصطلح القوة المادية
vis
ذات الطاقة الميكانيكية،
23
وبهذا أنهى عهدا قديما طويلا تصور أن الطبيعة حية، وكانت نهاية التصور الحيوي للطبيعة بدورها من البدايات الحاسمة للعلم الحديث، فتح بها كبلر الطريق أمام التصور الحتمي الميكانيكي للكون، والذي هو مشروع أنجزه العلم الحديث بنجاح ساحق حقا، سحق في طريقه أشياء كثيرة منها ميتافيزيقا حرية الإنسان وتفرده.
كما رأينا كان كبلر، على الرغم من إنجازه العظيم، مدفوعا بدوافع لا عقلانية، ثم جاء جاليليو (1564-1642م) ليكون صورة مثالية للعقل العلمي الحديث الناضج تماما، القادر على التوحيد بين اللغة الرياضية والوقائع التجريبية والفروض الجريئة تمثيلا للمنهج العلمي الحديث. آمن بأن الرياضيات لغة العلم والواقع، وعبر عن هذا الإيمان بمقولته الشهيرة: «كتاب الطبيعة المجيد مكتوب بلغة الرياضيات»، وهي الفكرة الفيثاغورية الأفلاطونية القديمة، لكنها مع جاليليو أصبحت أساس علم ناضج بالطبيعة، كان مبدأ العلم عنده هو: لا شيء قابل للمعرفة إلا ما هو قابل للقياس الكمي، ومن ثم قصر العلم على الدراسة الكمية وألغى أي عنصر كيفي، وذلك عن طريق القسمة التي اصطنعها بين الخصائص الأولية والخصائص الثانوية. الخصائص الأولية هي الكميات في الشكل والوزن والحجم والحركة، وهي لا سواها موضوع العلم، أما الخصائص الثانوية فهي الكيفيات، أي الروائح والعطور والألوان والأصوات، وهي ليست من العلم في شيء البتة، إنها خارجة عن مفهوم الطبيعة. ولحق بهذا المصير مفهوم العقل، فبينما آمن الإغريق بأن العقل محايث في الطبيعة، أكد جاليليو أن الطبيعة ليس فيها عقل، وهذا يعني أنها ليست من الكائن العضوي في شيء، بل هي آلة، عملياتها وتغيراتها ليست بسبب علل نهائية أو غائية، بل فقط بسبب العلة الكافية المؤدية لحدوث الحدث التالي لها. على هذا النحو اكتمل في ذهن جاليليو التصور الحتمي الميكانيكي للكون المقترن بالعلم الحديث.
كان جاليليو قد توصل إلى المقراب «التلسكوب» وصنع لنفسه واحدا، وفي السابع من يناير عام 1591م وجهه نحو المشتري فلاحظ أقمارا ثلاثة له، وفي الليلة التالية شاهدها أيضا، لكن على الجانب الآخر من المشتري. ثم داوم رصده وكان أحيانا يرى قمرين وأحيانا أربعة، فانتهى من هذا إلى أن أقمار المشتري تدور حوله كما يدور قمر الأرض حولها؛ إذ لو صح نظام بطليموس لكان قد رأى أقمار المشتري تدور حول الأرض، لا حول المشتري، وتوصل أيضا إلى أن الكواكب ليست أجساما مضيئة بذاتها، وأيضا إلى كشف هام هو أن كوكب الزهرة له أطوار تماثل أطوار القمر؛ إذ يبدو أحيانا بدرا كاملا وأحيانا أخرى هلالا رفيعا، وبكل هذا انتهى جاليليو إلى تدعيم النظام الكوبرنيقي بحيث فرض نفسه على الوسط العلمي، فكانت جهوده في علم الفلك هي أساسا تعزيز النتائج المطروحة قبله.
أما الخطوة الحاسمة التي أضافها جاليليو لتمثل مرحلة جديدة في نسق العلم فهي في علم الميكانيكا، فقد كانت المرحلة السابقة تحكم قوانين الحركة السماوية، ومع جاليليو بدأت مرحلة تحكم قوانين الحركة على سطح الأرض.
بحث جاليليو ظاهرة سقوط الأجسام، وانتهى إلى أن الجسم يسقط بسرعة تتزايد بانقضاء الزمن منذ أن بدأ يسقط، وهذا يعني أن الأجسام تسقط بعجلة، أي بتغير في السرعة
acceleration ، وهي عجلة ثابتة، أي تغير ثابت في السرعة، والسرعة تساوي العجلة مضروبة في الزمن «س = ع ن»، وسرعة الأجسام التي تقذف إلى أعلى عموديا تتناقص تبعا لنفس القانون، وتوصل أيضا إلى أن العجلة واحدة لكل الأجسام في نفس المكان ومستقلة تماما عن الشكل أو الحجم أو الوزن أو المادة، باستثناء إمكانية مقاومة الهواء لها. فالجسم ذو العجلة المنتظمة يتحرك بمسافة «ف» في فترة من الزمن «ن» تساوي المسافة التي يتحركها خلال نفس الزمن لو أنه سار بمتوسط السرعة، ومن ذلك انتهى إلى القانون «ف = نصف ع ن
2 »، وكان جاليليو قد حلل الحركة إلى عنصرين منفصلين: الحركة الأفقية إلى الأمام والحركة الرأسية الساقطة ، وذلك على أساس بحثه في حركة الجسم المتحرك على سطح مائل - أي المتدحرج، ومنه توصل إلى أن الأجسام الساقطة على سطوح مائلة تخضع لنفس القانون «ف = نصف ع ن
2 »، ثم استخدم هذا القانون لتحديد مسار القذيفة المدفعية، فحركتها تبرز هذين العنصرين؛ إذ تندفع إلى الأمام ثم تسقط على الأرض، وتتميز بأن عنصر مقاومة الهواء لها ضعيف للغاية بحيث يمكن إهماله، وبهذا المنظور انتزع جاليليو الميكانيكا من أسسها الثبوتية التي أرساها أرسطو حين افترض أن كل جسم ثابت إلى أن تؤثر عليه قوة تجعله يتحرك، أما جاليليو فقد أرساها على أسس كينماتيكية
Kinematical ، أي حركية وتقتصر على الحركة فقط دون التعرض للقوة المحدثة لها. فالأفلاك والأجسام جميعها تتحرك بذاتها، وكل تأثير القوى الخارجية عليها هو تغيير سرعتها أو اتجاهها؛ لأن فرض الجاذبية النيوتني لم يتدخل بعد. ومن الناحية الأخرى كانت ميكانيكا جاليليو قائمة على أساس فكرة القصور، فقد أدرك ببصيرته النافذة أن الجسم إذا أعطي سرعة في اتجاه معين، فإن السرعة لا تتوقف من تلقاء نفسها أو تحتاج إلى تجديد مستمر، بل تبقى ثابتة ما لم يغيرها عامل خارجي، لقد أنجز جاليليو إنجازا واسعا في نسق العلم الحديث بالقوانين التي وضعها لتحكم سبل الحركة على سطح الأرض.
وأصبح الطريق ممهدا للخطوة الأخرى والحاسمة حقا في نسق العلم الحديث، على يد بطل أبطاله بغير منازع إيزاك نيوتن
Issac Newton (1642-1727م). في عام 1687م نشر في لندن كتابه العظيم «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية» ليحتوي على الإطار العام والهيكل المتكامل للفيزياء الكلاسيكية ولنسق العلم الحديث بأسره، لا سيما قوانين الحركة التي اكتملت تماما مع نيوتن بعد أن استفاد من جهود السابقين عليه ومنهم سلفه الأقل حظا وقدرات رياضية والذي يكبره بسبعة أعوام روبرت هوك.
24
على أية حال بدأ نسق العلم وكأنه شارف الاكتمال حين وضع نيوتن الصياغات الرياضية الدقيقة لقوانينه الثلاث للحركة، وهي: (1)
كل جسم يظل على حاله سكونا أو حركة في خط مستقيم، ما لم يجبره مؤثر خارجي على تغير حالته. وهذا هو قانون «القصور الذاتي
Inertia » (القصور الذاتي يعني أن الجسم قاصر بذاته عن تغيير حالته، ولا بد من مؤثر خارجي هو «القوة»). (2)
معدل التغير في العزم (كمية التحرك
Momentum ) يتناسب مع القوة المؤثرة على الجسم، ويكون اتجاه العزم نفس اتجاه القوة المؤثرة. (3)
لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس في الاتجاه.
وبدا نيوتن وكأنه وصل بنسق العلم إلى الذروة حين وضع الصياغات الرياضية لأعظم فروضه طرا وأكثرها عمومية وشمولية، والذي أحكم قبضة العقل على كل وأية حركة في هذا الكون؛ أي فرض الجاذبية العام الذي ينص على أن كل جسمين بينهما قوة تجاذب تتناسب طرديا مع كتلتيهما وعكسيا مع مربع المسافة بينهما. فوضع نيوتن لأول مرة في تاريخ البشرية نظرية تحكم كل وأية حركة في هذا الكون، وأمكنه أن يضم المرحلتين السابقتين في نسق العلم، أي الحركتين السماوية والأرضية في نسق فيزيائي متكامل. وبحكم عمومية الفيزياء وشموليتها وتربعها على قمة العلوم الإخبارية أصبح هذا هو الإطار العام للعلم الحديث بأسره. لقد أيقن الجميع أن نيوتن اكتشف حقيقة هذا الكون، وهو أنه قد قد على قد آلة ميكانيكية ضخمة مغلقة على ذاتها، من مادة وطاقة «قوى» تسير تلقائيا بواسطة عللها الداخلية وتبعا لقوانينها الخاصة في مسار صارم، تفضي كل مرحلة من مراحلها إلى المرحلة التالية، أي يؤذن حاضرها بمستقبلها، ولم يبق إلا رتوش تفصيلية لتكتمل الصورة النهائية لنسق العلم بالعالم.
وقد قدم فيلسوف العلم الإنجليزي تشارلي دنبر برود
C. D. Broad (1887-1971م) عرضا بديعا وسلسا لكيفية توصل مواطنه إيزاك نيوتن إلى هذه القوانين،
25
فأشار إلى أن نيوتن قد بدأ عمله بمبادئ الديناميكا التي يمكن وصفها بأنها تعميمات للنتائج التي توصل إليها جاليليو في بحثه للأجسام الساقطة والقذائف المجاورة لسطح الأرض. وقد لاحظ نيوتن أن جاليليو تعامل مع الحركة تبعا لشروط خاصة مبسطة، من قبيل أنها حدثت في مجال قوى من نوع واحد، وأن مجال القوة مطرد، والقوة نفسها من نوع مخصص جدا بحيث لا تكشف عن الكتلة كمتميزة عن الوزن، فضلا عن أن جاليليو لم يأخذ في اعتباره دوران الأرض حول محورها وحول الشمس، وبينما تعامل جاليليو مع الحركة وفقا لتلك الشروط، كان إنجاز نيوتن العظيم هو صياغة فئة من المبادئ تنطبق على أية حركة مهما كانت، وبصرف النظر عما إذا كان سببها الجاذبية أو الكهربية أو أي نوع آخر من القوة، فقط احتاج نيوتن إلى توضيح أفكار معينة عن الزمان والمكان والحركة تركها جاليليو غامضة. فالجسم الذي يتحرك في خط مستقيم من سطح الأرض يصف مسارا شديد التعقيد وبسرعات مختلفة، وكذلك إذا أخذنا الشمس في الاعتبار، وإذا قيست استمرارية الحركة بمقدار الماء المتساقط بانتظام من خزان مثلا سيبدو الجسم متحركا بسرعة ثابتة مطردة، أما إذا قيست استمرارية الحركة ببندول ساعة فلن تبدو سرعة ذلك الجسم ثابتة مطردة، ومن العبث صياغة مبدأ القصور عن استمرارية الجسم في حركته في خط مستقيم بسرعة مطردة ما لم يؤثر عليها مؤثر خارجي، إذا لم نحدد معيارنا لاستقامة واطراد الحركة وثبات السرعة. وقد واجه نيوتن هذه الصعوبة عن طريق التسليم بكيانين واتخاذهما مصادرة؛ وهما المكان المطلق والزمان المطلق، فصاغ قانون القصور الذاتي في حدود الحركات التي تصف مسافات متساوية على طول خط مستقيم في المكان المطلق خلال فترات متساوية من الزمان المطلق، فقام العلم على أساس مكين هو تحرك الكتل في المكان والزمان المطلقين.
والتقدم المهم الآخر الذي أحرزه نيوتن هو تقديم مصطلح الكتلة وتمييزها عن الوزن. الكتلة هي مقدار ما يحتويه الجسم من مادة، أما الوزن فهو مقدار جذب الأرض للجسم، وتتناسب عجلة السرعة التي تحدثها القوة مع كتلة الجسم، بحيث يمكن قياس القوة بحاصل النسبة بين كتلة الجسم والعجلة التي أحدثتها القوة عليه في اللحظة المعينة. وكل الأجسام تسقط على الأرض بنفس العجلة - كما أوضح جاليليو، ويتبع ذلك أن قوة الجاذبية - أي الوزن في أي مكان معين - تتعادل مع الكتلة، وتكفي هذه المفاهيم لصياغة الديناميكا، لكن ثمة احتياج لمبدأ آخر هو ما صاغه نيوتن في القانون الثالث، فلنفترض أن الجسم أ يحدث قوة على الجسم ب، يرى نيوتن أن هذا مجرد جانب واحد من العملية المتبادلة؛ لأن الجسم ب يجب أن يمارس قوة على الجسم أ، واستنتج من هذا أن الأفعال
action
المتبادلة لمجموعة من الأجسام لا يمكن أن تغير حركة أو سكون مركز جاذبيتهما. هكذا صاغ نيوتن المبادئ الكاملة التي تنطبق على كل الحركات. حقا أن هذه الصياغة مستحيلة بدون جهود جاليليو السابقة، بيد أن هذا لا ينفي أنها من أعظم إنجازات العقل البشري. وإذا نظرنا إلى صعوبة المهمة لن يدهشنا - كما يرى برود - أنها تحتاج إلى تكامل عقلين عظيمين مثل: جاليليو ونيوتن.
ونستطيع الآن أن نفهم توصل نيوتن إلى قانون الجاذبية العام
Gravity (أو التثاقل في ترجمة أخرى للمصطلح)، فطالما أن الكواكب تدور حول الشمس، والقمر يدور حول الأرض، وأقمار المشتري تدور حوله؛ فلا بد أن ثمة قوة في كل حالة من هذه الحالات تؤثر دائما على تلك الأجسام المتحركة وتمنعها من الاستمرار في طريقها بسرعة مطردة في خط مستقيم. إن قانون كبلر الثاني عن المساحات المتساوية في الأزمنة المتساوية يمكن أن يكفي، لكن إذا - وفقط إذا - كانت القوة تؤثر على طول الخط الذي يربط الجسم المتحرك بالجسم المركزي. فوجد نيوتن نفسه أمام ثلاثة تساؤلات هي: (أ)
هل القوة هي نفسها في كل حالة؟ (ب)
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تتغير القوى على المسافة بين الجسم المتحرك والجسم المركزي؟ (ج)
هل يمكن أن تكون هذه القوة السماوية هي نفسها قوة ما أخرى نعلمها على كوكب الأرض؟
تأتي الإجابة على السؤال الأول من أن أقمار المشتري تتبع قانون كبلر الثاني والثالث في حركتها حول المشتري، تماما كما تتبعهما الكواكب في حركاتها حول الشمس، مما يعني أن القوة هي ذاتها في الحالتين. أما بالنسبة للسؤال الثاني، فعلى الرغم من أن الكواكب تدور في مدارات أهليليجية (أي بيضاوية) الشمس إحدى بؤرتيها، وليست في دائرة الشمس مركزها، فقد يحدث أن تكون الأهليلجات قريبة جدا من الدوائر، وبالتالي البؤرة قريبة جدا من أن تكون مركزية. وعلى الرغم من أن سرعة أي كوكب ليست مجرد مسألة نقاط، بل أجساما ضخمة تتحرك، إلا أنه يمكن مقارنة أبعادها بأنصاف أقطارها، لدرجة تمكننا من التعامل معها ببساطة على أنها نقاط كتل. وعلى هذا يمكن افتراض أن الشمس والكواكب جسيمات كتلية، وأن كل كوكب يدور حول الشمس بسرعة ثابتة خاصة به تميزه. وبهذا الفرض المبسط يمكن إيضاح الزمان الدوري للكوكب متصلا ببعده عن الشمس بالطريقة التي ينص عليها قانون كبلر الثالث، إذا - وفقط إذا - كانت القوة التي تجذب كل كوكب إلى الشمس تتناسب طرديا مع حاصل كتلتي الجسمين وعكسيا مع مربع المسافة بينهما.
وكانت الخطوة التالية كالآتي: ألا يمكن أن تكون القوة التي تحفظ الكواكب في مداراتها حول الشمس وتحفظ أقمار المشتري في مداراتها حوله، وقمر الأرض في مداره حول الأرض ... هي ذاتها القوة التي نلم بها على سطح الأرض بوصفها الجاذبية «أو التثاقل»؟ أي السؤال «ج». وقد عمل نيوتن على اختبار هذا الفرض، بالنظر إلى نتائجه فيما يتعلق بحالة القمر، فيحسب جاذبية الأرض على أساس كتلتها ومربع نصف قطرها، ويحسب القوة التي تؤثر بها الأرض على القمر على أساس الكتلة ومربع المسافة بينهما، فيستطيع بسهولة أن يحسب فترة دوران القمر حول الأرض، على أساس الفرض التبسيطي بأنه يسير بسرعة مطردة وفي مدار دائري، فإذا اتفقت الفترة المحسوبة لدوران القمر مع الفترة الفعلية سيصدق الفرض، ويمكن اعتبار القوة التي تحفظ الأقمار والكواكب في مداراتها هي ذاتها القوة التي تجعل الأجسام تسقط على سطح الأرض، أي الجاذبية.
وهذا ما فعله نيوتن وهو في الثالثة والعشرين من عمره عام 1666م بالمعطيات التي كانت متاحة في ذلك الحين، وعلى أساسها حسب فترة دوران القمر، وكانت حوالي 23,3 يوما، لكن الفترة الفعلية حوالي 27,3 يوما، على هذا فالفارق حوالي 16٪، رآه نيوتن فارقا كبيرا واستنتج منه أن الفرض خاطئ، وطرح الفكرة تماما من ذهنه طوال الستة عشر عاما التالية. وفي يونيو (حزيران) عام 1682م دارت في اجتماع الجمعية الملكية للعلوم مناقشة حول قياس بيكارد
لنصف قطر الأرض، انتبه نيوتن إلى أن نصف القطر الحقيقي هو 3956 ميلا، وليس كما اتخذه في حساباته الماضية ، ومن ثم أعاد تلك الحسابات فور عودته إلى كمبردج على أساس تصويب قيمة نصف قطر الأرض، فانتهى من حساباته إلى أن القمر يتم دورته في سبعة وعشرين يوما، بفارق أكثر قليلا من 1٪، أي يمكن إهماله، فيمكن إذن استصواب توحيد قوة الجاذبية السماوية والأرضية.
والآن على نيوتن أن يضع في اعتباره أن الأرض والشمس والكواكب ليست في الواقع نقاطا رياضية، وأن الكواكب تدور في أهليلجات وليس في دوائر، وأن سرعة دوران الكوكب ليست مطردة، ولمواجهة هذا المطلب نجح نيوتن في إثبات واحد من أجمل فروضه أو نظرياته، وينص على معاملة الجسم الكروي كما لو كانت كل كتلته في مركزه، وجاذبيته على أية نقطة خارجة عنه تحسب على هذا الأساس. وبهذا الفرض نجح نيوتن في إثبات أن الجسم المتحرك حول مركز ينجذب نحوه تبعا لقانون التربيع العكسي الذي يعني أن الطاقة أو القوة تتناقص تبعا لمربع البعد عن المصدر، وأن هذه صيغة تصف الحركة الإهليليجية حول المركز من حيث هو بؤرة، وبهذا ثبتت قوانين كبلر، وثبت فرض الجاذبية العام، أعظم إنجازات العقل الفيزيائي في تلك المرحلة، والذي ضم الأرض والسماء معا في خضوعهما لقانون واحد من آيات العلم الحديث.
وقد استأنف نيوتن أبحاثه في الجاذبية، بأن عمل على تطبيق قوانينه لتفسير ظواهر معينة راجعة إلى تأثير جاذبية الأجسام السماوية على الأرض، مثل ظاهرة المد والجزر، وطبقها أيضا لتفسير الانحرافات الصغرى في حركة الكواكب خصوصا حركة القمر، والتي تعود إلى أن كل جسم ينجذب إلى حد ما بواسطة كل الأجسام الأخرى في النظام الشمسي، هذا بالطبع بخلاف إنجازات أخرى جمة لنيوتن، أبرزها اهتمامه بالبصريات النظرية والتجريبية، وعن طريق منشوره الشهير حلل الضوء إلى أطيافه السبعة، وصنع أول مقراب «تلسكوب» عاكس يعالج الزيغ الضوئي الناجم عن العدسات المستخدمة في المقاريب الأخرى. وقد فكر في هذا المقراب كثيرون قبل نيوتن أبرزهم الفيلسوف الفرنسي ديكارت، والصورة البدائية التي صنعها نيوتن وأهداها إلى الجمعية الملكية للعلوم قد تطورت مع الأيام، حتى وصلت في القرن العشرين إلى مقراب عملاق تكلف ملايين الدولارات ووضع على جبل بالومار. ثم شهد هذا القرن المقاريب الإلكترونية التي تضاعفت قدراتها بصورة مبهرة، كالمقاريب الفلكية المحمولة على أقمار صناعية تدور في مدارات حول الأرض كمقراب هابل ومقراب شاندرا، وهذا الأخير بدأ إطلاقه في التاسع والعشرين من يوليو عام 1999م، في ذكرى مرور ثلاثين عاما على هبوط الإنسان (نيل أرمسترونج) على سطح القمر.
على أن الإنجاز النيوتني الذي قام في نسقية العلم الحديث بدور يقارن بدور فرض الجاذبية، بل يفوقه، إنما يكمن في الجهاز الرياضي المهيب اللازم للقوانين الفيزيائية، وقد أحرز كمالا يحتذى على يد نيوتن. كان ديكارت قد ابتكر الهندسة التحليلية لاستخدام الجبر في حل المشاكل الهندسية، كوسيلة لحساب الكميات في رسوم جاليليو التخطيطية لحركة الأجسام. وقد اهتم نيوتن بكلا الجانبين ليكسبهما دقة أعظم، ومثلما ساهم في تطوير ميكانيكا جاليليو، ساهم أيضا في تطوير الهندسة التحليلية، وفروع أخرى من الرياضيات. ويتقدم إنجازه الأعظم وهو اختراع أداة رياضية فعالة احتاجتها أفكاره الفيزيائية اللامعة، إنها حساب التفاضل والتكامل، وإن لم يعطه هذا الاسم، بل أسماه طريقة الدفق
Fluxional Method .
26
فلكي يحسب نيوتن قوة الجاذبية المبذولة من جسم كروي صلب على نقطة خارجة، كان عليه أن ينظر إلى الجسم الكروي وكأنه مؤلف من عدد كبير جدا من جسيمات لا متناهية الصغر لدرجة أن كلا منها يمكن معاملته بصورة تقريبية كما لو كان مجرد نقطة، وهي تؤلف معا قوى جذب صغيرة جدا يبذلها كل من الجسيمات اللامتناهية الصغر على النقطة الخارجية محل البحث، ولكي يعين نيوتن الحد الذي يمكن أن تقترب منه محصلة القوة كان عليه أن يجعل الجسيمات أصغر وأصغر، وعددها أكبر وأكبر، وهذا ما يجب تسميته بمشكلة التكامل. ولننظر الآن إلى مشكلة تعيين مسار جسم انطلق من مدفع بسرعة مبدئية معينة، ثم ترك بعد ذلك ليتحرك تحت تأثير مركز جاذبية، لنلاحظ أن المبادئ الديناميكية المطلوبة هي تماما تلك التي استعملها جاليليو في تعامله مع مسار قذيفة المدفع. غير أن المشكلة الآن أكثر تعقيدا، فمع جاليليو كانت القوة المؤثرة على القذيفة ثابتة في المقدار وفي الاتجاه خلال العملية كلها، أما مع نيوتن، فإن القوة تتغير باستمرار في المقدار، بسبب دخول فرض الجاذبية؛ لذلك كان عليه أن يتعامل مع سرعات تختلف من لحظة إلى أخرى، والحق - كما يقول برود - أننا نطلب في كل مشكلة ديناميكية مفهومي السرعة اللحظية والعجلة اللحظية. وواضح أن هذه المشكلة في غاية الصعوبة والتعقيد، وإذا حصرنا أنفسنا تماما في لحظة منفردة، فإن الجسيم لا يتحرك على الإطلاق، وإذا أخذنا تاريخ الجسيم خلال أية فترة زمنية مهما كانت قصيرة، فليس ثمة اتجاه واحد معين ومقدار واحد معين يمكن أن نعزوه لسرعة هذا الجسم ... مثل هذه المفاهيم وقوانينها هي ما عرفه نيوتن وحدده في نظريته عن التفاضل أو حساب اللامتناهي في الصغر أو بمصطلحه طريقة الدفق. بالطبع كان ثمة جهود في هذا العلم من قبله، لكنها مشتتة ومبعثرة، ونيوتن هو الذي جمعها في نسق موحد على صورة علم رياضي دقيق هو حساب التفاضل والتكامل، ربما ينازعه في هذا الشرف معاصره الفيلسوف الألماني جوتفريد فيلهلم ليبنتز
Leibniz, W. G. (1646-1716م)، وبلا جدال كان في يد نيوتن منهاجا عاما يمكن بواسطته حساب معدلات التغير في السرعة، ولم يكن العلماء من قبل يعرفون أن مشكلة تعيينها عكس مشكلة التفاضل، نيوتن هو الذي أدرك كل هذا ورسم السبل الدقيقة للخوض في غماره.
والآن يبدو أمامنا بوضوح مدى الاتحاد الكامل ، أو بالأحرى المتكامل، بين الفيزياء ولغة الرياضيات، وكانت المعادلات التفاضلية هي التي حسمت القول في انسحاب الضرورة الرياضية إلى حتمية فيزيقية أو علمية.
كان القرن السابع عشر الذي شهد في بدايته بيكون وفي نهايته نيوتن، عصر ازدهار وتوقد العبقرية الإنجليزية، تواترت عبره إسهامات الإنجليز لتشييد النظام الديمقراطي للحكم وتشييد نسق العلم الحديث. وبالطبع يتربع نيوتن على القمة، تركزت جهود الفيزيائيين بعده على تأكيد وتأمين وإكمال نسقه. خفت حدة الإبداع في القرن الثامن عشر، والخطوات الهامة التي تمت فيه لم تكن إنجليزية، انتقلت ساحة الإنجازات العلمية اللافتة إلى القارة الأوروبية، حتى حساب التفاضل والتكامل توقف في إنجلترا، بينما عمل علماء أوروبا على تطويره ودفعه للأمام.
ربما يستوقفنا سيمون بيير دو لابلاس
S. P. De Laplac
الملقب بنيوتن فرنسا بسبب أعماله الهامة في كتابه «حركة الأفلاك السماوية»، فضلا عن تأسيسه حساب الاحتمال بكتابيه «مقال فلسفي في الاحتمال»، و«النظرية التحليلية للاحتمال».
تعرض لابلاس لمشكلة ضخمة هي الرجوع في حركة الكواكب، أي إنها لا تتحرك بشكل منتظم تماما. وقد أشار تلميذ نيوتن النجيب إدموند هالي
E. Hally (1656-1742م) إلى أن المشتري وزحل خلال حوالي تسعمائة عام يتأخر أحدهما عن الآخر، ثم يعود فيسبقه، كأن بينهما سباقا يحتلان فيه أماكن غير الأماكن المنتظرة، وقد أحس نيوتن نفسه بالقلق من هذه الظاهرة؛ مخافة أن يصطدم الكوكبان ببعضهما في وقت ما، مما يؤدي إلى انهيار الكون. لم يتوصل العلماء إلى حل جذري لمشكلة سلوك ثلاثة أجسام تتجاذب فيما بينها حسب قانون التربيع العكسي. غير أن هذا لم يمنع لابلاس من معالجة موضوع أعقد هو تجاذب كافة الكواكب فيما بينها وبين الشمس، وفي هذه المعالجة أوضح أن الرجوع في حركتي المشتري وزحل لا يتراكم، بل يعود فيصحح نفسه تدريجيا. وفي هذا تأمين معقول لمستقبل الكون، وكأن نظرية لابلاس جاءت كحصن أمان لحسن سير آلة الكون النجومية، أما التخبط وعدم النظام المشاهد فهو شيء ثانوي يصحح نفسه تلقائيا، فكتب لابلاس يقول:
إن الحركة غير المنتظمة لهذين الكوكبين كانت تبدو أول الأمر، ولا تفسير لها من وجهة نظر قانون الجاذبية العام، أما الآن فإن هذه الحركة ذاتها تعتبر أحد الأدلة الرائعة على سلامته، هذه صورة مميزة للنظام الحق للطبيعة. إن كل صعوبة تبرز أمام هذا الكشف الرائع تعود فتصبح دعامة من الدعامات القوية التي تبرهن عليه.
27
ومن أمثال هذه الصعوبات التي عارضت نظرية نيوتن في البداية ثم عادت لتثبتها انحرافات في مسار كوكب أورانوس، فتقدم جون آدامز من إنجلترا وأوربان لوفرييه من فرنسا بافتراض عن وجود كوكب وراء أورانوس يؤثر على حركته الخاضعة لقانون الجاذبية. وفي عام 1846م اكتشف الفلكي الألماني جاله بمقرابه هذا الكوكب وهو نبتون؛ ليكون تأكيدا قويا على صحة النسق النيوتوني؛ لهذا لا نلوم علماء ذلك العصر؛ إذ استقر في روعهم أن نيوتن اكتشف حقيقة هذا الكون، وصاغها صياغات رياضية دقيقة، فكان نسق الفيزياء الرياضية إطارا لمجمل نسق العلم بهذا العالم.
وكان من الطبيعي أن تندرج سائر علوم المادة كالكهربية والمغناطيسية وغيرها في هذا النسق، وتهدف جميعها إلى وضع قوانين تضاهي قوانين نيوتن في دقتها الرياضية الفائقة ونجاحها وصدقها الذي بدا يقينيا، وتواترت جهود العلماء لتنعش هذا الأمل. كان تورتيشللي في إيطاليا قد أثبت أن للهواء ضغطا يقل بازدياد الارتفاع ويمكن إخضاعه للتكميم الدقيق. ووضع بويل القانون الرياضي الخاص بالعلاقة العكسية بين ضغط الغاز وحجمه. وأظهر دالتون الأساس الفيزيقي في سلوك العناصر الكيميائية، بينما أظهر همفري دافي أساسه الكهربي. أما فاراداي فقد أوجد الرابطة بين الحركة الآلية وحدوث التيار الكهربي، ثم استطاع جيمس كلارك ماكسويل توحيد الظواهر الكهربية والمغناطيسية والضوء في معادلات تفاضلية من أعظم إنجازات العقل الفيزيائي، أثبتت أن جميع صور الطاقة متطابقة أصلا.
وقد يبدو الطريق ميسرا معبدا أمام الكيمياء، قرينة الفيزياء وأقرب العلوم الإخبارية إليها، فضلا عن أنها أعرق المناشط التجريبية للإنسان، فرضت عليه تعامل فرنسيس بيكون الحي مع المادة واستجوابها، والإنصات لشهادة الحواس بشأنها واستقراء متغيراتها، منذ أن كان لزاما عليه في العهود السحيقة تدبير احتياجاته العملية من قبيل الفخار والزجاج والأصباغ وتقطير الخمور والعطور والأشكال البدائية للعقاقير والأدوية. كانت هذه البدايات الخام تجريبية، لكنها حرف عملية تفتقر إلى الأساس النظري، ثم اقتربت الكيمياء من الإطار النظري والمنظومة المعرفية - المهوشة طبعا - منذ أن استبد بالإنسان القديم الحلم الجامح بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب بغية الثراء السريع. وفي سياق الجهد المشبوب والفاشل لتحقيق هذا الحلم تخلف رصيد هائل من المعارف بشأن طبائع المواد وتحولاتها، طبعا مشتت ومبعثر، لكنه منطلق كيمياء جابر بن حيان، وبالتالي السلف التاريخي للكيمياء الحديثة التي خرجت من أعطاف العلم المعني بتحويل المعادن إلى ذهب واكتشاف إكسير الحياة الذي يشفي من كل الأمراض - أي علم الخيمياء أو السيمياء
Alchemy ، مثلما خرج الفلك الرياضي الرائع من أعطاف علم التنجيم الذي يستكشف طوالع البشر وحظوظهم عن طريق البروج السماوية وحركات الكواكب! وسبحانه يخرج الحي من الميت.
التراث الطويل العريض للكيمياء - أو السيمياء - جعل عالمها ملبدا بكم هائل من الخرافات والتهاويم والتصورات الخزعبلية، عرقلت طريق الكيمياء للحاق بركب العلم الحديث، أبرز هذه الأفكار الخزعبلية التي هيمنت على الكيمياء في عصر العلم الحديث فكرة الفلوجستون
، وهي كلمة إغريقية تعني النار أو الشعلة أو الاحتراق. والفلوجستون شيء مشترك بين كل العمليات الكيميائية من احتراق وتكلس واستخلاص الفلزات من خاماتها، ومقدار الفلوجستون في بعض الأجسام قليل وفي بعضها كثير، وهذه الأخيرة سريعة الاشتعال، وقد تكون النار نفسها مظهرا من مظاهره تعمل معه أو على أساسه. قال بهذه النظرية الألمانيان يوشيم يوهان بيشر
J. J. Becher (1635-1682م) وتلميذه إرنست جورج شتال
E. G. Stahl
وحتى العقد الثامن من القرن الثامن عشر كان الفلوجستون أساس الكيمياء التي تدرس بالجامعات،
28
مانعا إياها من التكميم الرياضي والامتثال للمثل التي تمكنها من اللحاق بفيزياء نيوتن، حتى جاء أبو الكيمياء الحديثة أنطوان لوران لافوازييه
Lavoisier (1743-1794م) فأثبتت له التجارب أن الكبريت والفوسفور إذا احترقا لا يقل وزنهما؛ لأن الفلوجستون خرج منهما، بل يزيد لأن مقدارا ضخما من الهواء يثبت أثناء الاحتراق. وانتهى - قبل أن تطيح الثورة الفرنسية برأسه؛ لأنه من جباة ضرائب الملك - إلى أن هذا يحدث في كل حالة تزيد وزنا عندما تتكلس أو تحترق . واكتشف العالم الإنجليزي بريستلي
(1733-1804م) أن الغاز الذي تمتصه المعادن في هذه الحالات هو الأكسجين فانتهى لافوازييه إلى التركيب الصحيح للهواء، وطرد الكيميائيون الفلوجستون إلى غير رجعة. وكان جوزيف بلاك قد اخترع في عام 1754م التحليل الكيميائي الكمي وتوالت الإنجازات المشابهة، فانفتح الطريق أمام الكيمياء فوصلت إلى قوانين رياضية دقيقة تعلو وتعلو، تضاهي قوانين نيوتن وتتكامل معها في تشييد نسق العلم الحديث.
وكانت علوم الحياة بدورها قد نالت نصيبها من الانتصارات المتوالية في هذا المعمعان الظافر، وأحرزت إنجازاتها الملموسة، منذ أن ظهر كتاب أندريه فيساليوس عن تركيب الجسم البشري في نفس العام الذي ظهر فيه كتاب كوبرنيقوس «دوران الكرات السماوية»، عام 1543م، كان فيساليوس آنذاك لم يبلغ بعد عامه الثلاثين، ولكنه بثقة وجرأة يلفت الانتباه إلى أخطاء جالينوس الذي هيمن على الطب ألف عام، فكأن فيساليوس يعلن الثورة على الطب القديم ويشق طريقا جديدا لعلوم الطب الحديثة يؤكد فيها على التجريب، أو بتعبيره «وضع اليد في قلب العمل». أجرى بنفسه الكثير من عمليات التشريح وصنف مادته ببراعة وعني بتزويدها بالرسوم التوضيحية البديعة والدقيقة. كان فيساليوس بلجيكيا، درس الطب في فرنسا، وعين أستاذا له في جامعة بادوا بإيطاليا عام 1537م. خلفه في منصبه فابريزي
Fabrizzi
فواصل التشريح على الأسس التي أرساها فيساليوس، وحينما نشر فابريزي عمله عن صمامات الأوردة، كان وليم هارفي قد وصل من إنجلترا لدراسة الطب في بادوا، تلقف هذه المشكلة ليخرج بكشفه للدورة الدموية، التي كانت إيذانا ببدء تملك العلم لناصية الجسم الحي. في ذلك الوقت، كان النمساوي باراسيلسوس
(1493-1541م) الذي عين أستاذا للطب في جامعة بازل بسويسرا عام 1526م، يساهم هو الآخر في ثورة الطب الحديث، جمع المصنفات الطبية القديمة وأشعل فيها النار أمام طلبته في قاعة الدرس! ليعلمهم تجاهل الكتب القديمة والتعامل مع الطبيعة مباشرة. وعلى الرغم من طبعه المتبجح الشرس، ساهم في تحرير الطب من السحر والسيمياء والتقاليد العتيقة، وعمل على تأسيس طب حديث قائم على كيماويات من مصدر معدني كالزئبق والأنتيمون، و«كمحصلة لتأثير باراسيلسوس إلى حد بعيد، ارتفع الطب الكيميائي إلى موقع السيطرة على مجريات الطب في القرن السابع عشر».
29
ومنذ ذلك الحين فصاعدا والتعاون بين الطب والكيمياء يجري على قدم وساق، ولعله بلغ ذروة من ذراه مع عالم الكيمياء ذي التأثير الثوري على الطب لوي باستير
L. Pasteur (1822-1895م)، خصوصا بكشوفه في نشاط الميكروبات والبكتريا، التي كان العلم الحديث قد اكتشف عالمها منذ أن توصل أنطون ليفنهوك
A. Leeuvenhoek (1632-1723م) إلى المجهر «الميكروسكوب»، وفي هذه الحقبة التي تمثل مرحلة العلم الحديث، أي منذ القرن السادس عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، توالت إنجازات الفروع المختلفة لعلوم الحياة، كوظائف الأعضاء «الفيزيولوجيا» والحيوان والنبات والحشرات والبكتريا والكائنات البحرية ... إلخ، فضلا عن علم الحياة العام أي تاريخ الحياة على سطح الأرض.
أجل شهدت نهايات القرن العشرين أسسا وصياغات رياضية لنظريات وفروض حيوية، خصوصا في مجالات البيوفيزياء «الفيزياء الحيوية» والهندسة الوراثية وما إليها، فضلا عن دور الإحصاء وحساب الاحتمال في المجالات الحيوية، أي حدث الآن تلاق وتعاون بين الرياضيات وبعض فروع العلوم الحيوية، أما في مرحلة العلم الحديث، بل وحتى منتصف القرن العشرين، فنجد أن طبيعة الظواهر الحيوية ومستوى التقدم المحرز حال دون الصياغات الرياضية للنظريات البيولوجية، ولم تستطع العلوم الحيوية بلوغ التكميم الدقيق الذي بلغته العلوم الفيزيوكيماوية، وما زالت بعض علوم الحياة الوصفية لا علاقة لها بالرياضيات.
ومع هذا اندرجت علوم الحياة في نسق العلم الحديث، وتكاملت مع العلوم الفيزيوكيماوية في تشييده، وهذا بفضل امتثالها للنموذج الذي هيمن على حركة العلم الحديث، حتى اصطنعته تماما وأكدته نظرية نيوتن، وفرضته كإطار للعلم وللعالم، أي النموذج الآلي الميكانيكي الحتمي.
وقد كانت الميكانيكية بشكل ما عقيدة وإطار عمل فيساليوس وفابريزي وهارفي وقرنائهم رواد العلوم الحيوية، نظروا إلى الجسم الحي نظرة ميكانيكية، أي بوصفه آلة ميكانيكية، تنامت حتى أصبحت مشتقة من النظرة الفيزيائية؛ لترتد كل ظواهر الحياة في النهاية إلى مبدأي الفيزياء: المادة والحركة، ويمكن تفسير كل ظواهر الحياة بما فيها الإحساس والوعي والتفكير على هذا الأساس، إذن فما أيسر أن تندرج العلوم الحيوية مع العلوم الفيزيوكيماوية الأكثر منها عمومية، في نسق العلم الحديث ليبلغ كماله وشموليته، وتبلغ العلوم الحيوية بدورها المنزلة العلمية بعد أن أصبح العلم عنوان النجاح المعرفي وطريقه الوحيد.
وكشأن الفلوجستون، نجد مقولتين حلقتا في أجواء العلوم الحيوية، وكان التخلص منهما يعني الامتثال الكامل لمثاليات النسق العلمي والانخراط تماما في صفوفه؛ لأنهما ناوأتا التفسير الميكانيكي، ألا وهما:
افتراض القوى الحيوية في الأجسام العضوية.
افتراض الغائية في الكائنات الحية بسبب ما بدا فيها من تكيف طبيعي يوحي بأنها تهدف قبلا إلى تحقيق غاية مقصودة.
أما افتراض القوى الحيوية، فيعني أن الكائن الحي مزود «بقوة حيوية» تنظم المظاهر الحيوية فيه وأداءه المتكامل لوظائف الحياة، وتحرره من المؤثرات الفيزيوكيماوية، مما يبرر - مثلا - احتفاظ الكائن الحي بدرجة حرارته ثابتة في البيئة الباردة والبيئة الحارة على السواء. وهذا يعني انقطاعا بين الظواهر البيولوجية والظواهر الفيزيوكيماوية وأن قوانين الأولى تختلف في طبيعتها عن قوانين الثانية، مما يعني اختلاف منهج العلوم البيولوجية عن منهج العلوم الفيزيوكيماوية؛ ليكون أقرب شبها بمنهج التاريخ، على أساس أن العنصر الزماني «العمر» له أهمية جوهرية في الجانبين، بخلاف الفيزيوكيمياء التي لا تأبه بماضي مادة بحثها، وتمسك أنصار القوى الحيوية بأن منهج الاستبطان الذاتي - أي تأمل الذات لما يحدث داخلها أو في باطنها - يمكن أن يفيدنا في إدراك القوى الحيوية، مما يوضح كيف تتسع الشقة بينهم وبين طريق العلم الحديث.
30
ويعد جورج كوفييه
G. Cauvier (1769-1832م) من أبرز أنصار فرض القوى الحيوية، هاجم الفيزيولوجي «علم وظائف الأعضاء» ورآه عبثا لا يجدي! لأن فصل العضو عن الجسم وعن إطار عمل القوة الحيوية يعني إفساد طبيعته وإرجاعه إلى نظام المادة الميتة، وبدا له أن الأهم من وظيفة العضو وفائدته أن نعرف شكله وتكوينه، من هنا كان كوفييه من مؤسسي علم التشريح المقارن.
كثيرون من علماء الحياة رفضوا مفهوم القوى الحيوية، لكن أبا الفيزيولوجي الحديث كلود برنار
C. Bernard (1813-1878م) هو الذي أطاح تماما بمفهوم القوى الحيوية، حين وضع بدلا منه مفهوم البيئة الداخلية
Inner Environment
ليفسر قيام الجسم العضوي بوظائفه كوحدة منسجمة ، ولا يزال هذا المفهوم من أسس الفيزيولوجي الحديث، وكما أوضح برنار، الجهاز الوقائي - أو جهاز المناعة بمصطلحات القرن العشرين - في البيئة الداخلية العضوية الباطنة الخاصة بالإنسان والحيوانات ذوات الدم الحار، هو الذي يجعلها تبدي شيئا من الاستقلال عن ظروف البيئة الخارجية وعواملها من ماء وحرارة وهواء وضغط، وظواهر الحياة تنشط أو تفتر تبعا لهذه العوامل، لكن الحيوانات الدنيا لا تملك استقلالا حقيقيا عن البيئة الخارجية، وعلى أساس مفهوم البيئة الداخلية أكد برنار أن «الكائن الحي مجرد آلة مبنية بصورة ما من شأنها أن توجد اتصالا بين البيئتين الداخلية والخارجية»،
31
وأننا نستطيع أن نحلل الآلة الحية كما نحلل آلة جامدة لكل جزء من أجزائها دوره في الإطار المتكامل، أي إننا لن نعرف خواص المادة الحية إلا بنسبتها لخواص المادة الجامدة، فوجب أن تكون العلوم الفيزيوكيماوية الأساس الضروري لعلوم الحياة، هكذا استكملت علوم الطب والأمراض علميتها واندرجت في نسق العلم الحديث.
أما الغائية في علم البيولوجيا العام، الذي يدرس ظاهرة الحياة على سطح الأرض، فقد أطاحت بها نظرية التطور لتشارلز دارون
Ch. Darwin (1809-1882م) حين وضعت تفسيرا آليا عليا لنشأة الكائنات الحية وتطورها وبقائها واندثارها، ووضعت تصنيفا لها تبعا لدرجة التعقيد بحيث تبدأ من الأميبا ذات الخلية الواحدة ثم تنتقل من النوع إلى النوع الأقرب إليه شبها، تشريحيا وفيزيولوجيا، حتى ننتهي إلى تسلسل أو ترتيب منظم يقف الإنسان على قمته، تشكل عبر ملايين السنوات، عن طريق آلية التكيف مع البيئة والصراع من أجل الحياة ليكون البقاء للأصلح، وهذا من شأنه أن يغلق جميع أشكال الحياة في دائرة من التسلسل العلي، يفضي ماضيها إلى حاضرها عن طريق عوامل آلية أولا وأخيرا، لا غائية، كما تقضي نواميس نسق العلم الحديث.
فرض التطور طرحه كثيرون قبل دارون، أبرزهم الطائفة الإسماعيلية «الموسوعية» المعروفة باسم «إخوان الصفاء وخلان الوفاء» في العهد الذهبي للحضارة الإسلامية، وأيضا جد دارون، الطبيب إرازموس دارون (1731-1802م) ذو الاهتمامات والإنجازات العلمية، خصوصا في مجال الأرصاد الجوية، كتب قصيدة بعنوان «معبد الطبيعة» ترسم صورة لتطور الإنسان عن بقع مجهرية تشكلت في البحار في العهود السحيقة، هذا بخلاف معاصر تشارلز دارون جان لامارك
J. Lamarck (1744-1829م) الفرنسي الذي وصل من أبحاثه التجريبية بصورة مستقلة إلى نتائج متشابهة. وعلى أية حال، فإن دارون قد أتى بكم هائل من الشواهد التجريبية والأسانيد النظرية لفرض التطور، بحيث إن نظريته «هي النظرية الوحيدة في ميدانها - وحتى الآن - التي تنسجم مع الفيزياء، بل هي قائمة عليها بلا تحفظات ولا إضافات، إنها تضمن آخر الأمر، ما نسميه بالانسجام الإبستمولوجي لعلم الحياة، وتهب هذا الأخير مكانة بين علوم الطبيعة الموضوعية»
32
في نسق العلم الحديث، وأمامنا الآن ثلاث حجج لهذا: (1)
ظاهرة الحياة على الأرض، كانت في وقت ما مستحيلة، وذلك في العصور الغابرة حين كانت الحرارة مرتفعة والقشرة لم تبرد بعد ... إلخ ، إذا فلا بد أن الحياة قد تشكلت عن المادة اللاعضوية. (2)
التقدم الفعلي للعلوم البيولوجية عبر الخطوط الفيزيوكيماوية يبرز صحة هذا التفسير. (3)
أي نمط آخر من التفسير سيكون خارج نطاق العلم الطبيعي.
33
هكذا استوعب نسق العلم الحديث - بمثالياته الصارمة - سائر علوم الحياة.
ولم تبق إلا الدراسات الإنسانية لتجتهد هي الأخرى في سعيها نحو اقتفاء مثاليات نسق العلم الحديث ومبادئه، عساها أن تندرج فيه وتنال نصيبها من نجاحه المطرد المتوالي. وهذا الموقف بمبرراته ودوافعه وطموحاته، يجمله الفيلسوف الإنجليزي المعني بإشكاليات الدراسات الإنسانية، أشعيا برلين (1909-1998م) يجمله على النحو التالي:
والآن إذا كان نيوتن قادرا من حيث المبدأ على تفسير كل حركة وكل مكون من مكونات الطبيعة الفيزيقية في حدود عدد صغير من القوانين ذات العمومية المطلقة، إلا أنه يناقض العقل الافتراض القائل: إن استخدام مناهج مماثلة لنفسر الأحداث والوقائع الاجتماعية والسيكولوجية؟! صحيح أننا نعرف عنها أقل كثيرا مما نعرفه عن الوقائع الفيزيوكيماوية، ولكن هل ثمة اعتراض من حيث المبدأ على أننا يمكن أن نكتشف يوما ما قوانين قادرة على أن تعطينا تنبؤات في نفس دقة تنبؤات العلم الطبيعي؟ إذا لا بد من العمل على كشف هذه القوانين بواسطة بحوث في الإنسان على قدر كاف من الحذر والخيال .
34
وكان هذا هو معتقد العقلانيين والتنويريين في القرن الثامن عشر، هولباخ ودولامبير ولامتري وكوندرسيه، إنهم أكدوا إمكانية الرياضة الإنسانية والفيزياء الاجتماعية وفيزيولوجيا كل شعور أو اتجاه أو نزوع، في نفس دقة وجدوى أصولها في العلوم الطبيعية، وأن الميتافيزيقيين ضحية الوهم والخداع، فلا شيء في الطبيعة غائي، وكل شيء خاضع للقياس والتكميم، وفي الإجابة على الأسئلة التي تؤرقنا سيشرق علينا الفجر بنور العلم،
35
بل إن أصحاب الدراسات الإنسانية خصوصا النفس والاجتماع، نازعهم الحلم الطوباوي بالظفر بمنزلة تساوي منزلة الفيزياء، بمناهجها الرياضية وتطبيقاتها القوية، وربما الظفر بمنزلة تفوق الفيزياء؛ وذلك عن طريق إعادة تشكيل البشر والمجتمعات.
36
كان هذا هو الحلم الذي أينع طوال القرن الثامن عشر، حتى عرف كيف يتلمس طريقه إلى أرض الواقع خلال القرن التاسع عشر . وأبرز من أسهموا في إنجاز هذا الفرنسي أوجست كونت
A. Comte (1798-1857م)، رأى نسق العلم يستوعب الظواهر الكونية جميعا ما عدا الإنسان، فبدا له العلم بالمجتمع ضروريا لكي يكتمل النسق العلمي، كان تلميذا للواحديين الماديين والتنويريين كوندرسيه وسان سيمون، فبدأ من قضيتهم القائلة: إن الإنسان ليس فريدا ولا يحتاج لمعالجة فريدة، بل هو قاطن في مملكة الحيوان والنبات، يخضع مثلها لقوانين عامة، حين نكتشفها ستقودنا إلى الهناء والتجانس، ومن أجل كشفها دعا كونت إلى إنشاء الفيزياء الاجتماعية التي تدرس المجتمع بمنهج العلم الحديث، فتقتصر على تفسير الظواهر بفضل ما بينها من علاقات ثابتة لتماثلها وتعاقبها، إنها الطريقة الوضعية، لا اللاهوتية ولا الميتافيزيقية، طريقة العصر الحديث الوضعي، إن الفيزياء الاجتماعية تدرس الظواهر الاجتماعية، تماما كما تدرس العلوم الأخرى الظواهر الفلكية أو الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية. وقسم كونت الفيزياء الاجتماعية إلى قسمين، هما: الديناميكيا الاجتماعية التي تدرس المجتمعات في حركيتها وتقدمها، والاستاتيكا الاجتماعية التي تدرس المجتمعات في حالة ثباتها واستقرارها خلال مرحلة معينة من تاريخها. ولنلاحظ أننا إزاء حدود الميكانيكا والفيزياء الرياضية، وكونت بطبيعة الحال يقر أن الرياضيات على رأس نسق العلم وأنها النموذج الأمثل الذي ينبغي أن تحتذيه كل دراسة لكي تصير علما. لكن كونت اعترف فيما بعد بأن الظواهر الاجتماعية أكثر تعقيدا؛ لذلك فإن تطبيق المنهج الرياضي في دراستها سيكون محدودا - في الوقت الراهن على الأقل، وقد يعطي فقط مظهرا أو وهما علميا، ولن يصل بالاجتماع إلى قوانين دقيقة وحتمية؛ لذلك نبذ كونت مصطلح «فيزياء اجتماعية» واستقر على مصطلح علم الاجتماع (سوسيولوجي
Sociology ). وجاء من بعده إميل دوركايم
E. Durkheim (1858-1917م) ليؤكد أن علم الاجتماع قائم بذاته ويدرس ظواهر لا يشاركه بها أي علم آخر، وعليه أن يبحث عن علل ظواهره، وراح يؤكد أن كل ظاهرة لها علة واحدة، وليس هناك غائية أو هدف، ولكي تكتمل الإحاطة بالظاهرة الاجتماعية علينا أن نحدد علتها وأيضا وظيفتها، فقد تمسك بأن كل ظاهرة اجتماعية لها وظيفة ما، تماما كالوظيفة الحيوية للعضو؛ لأنه كان مولعا بإدخال المماثلة البيولوجية في علم الاجتماع، بمعنى النظر إلى المجتمع كما لو كان كائنا عضويا مترابط الأعضاء في وحدة منسجمة.
وإذ نعود إلى التقدم الذي أحرزته علوم الحياة والدفعة التي أعطاها كلود برنار للفيزيولوجي، نجد أن ذلك القرن الخصيب - التاسع عشر - يشهد كشوفا في فيزيولوجيا الجهاز العصبي خصوصا مع دراسات الألماني يوهانس مولر
J. Muller (1801-1885م) ومبدئه القائل إن كل عصب ينتج نوعا واحدا فقط من الإحساسات بصرف النظر عن المؤثر الحسي ذاته. وبتطوير المناهج المعملية الملائمة، أرسى رجال جملتهم ألمان، أمثال فيبر
Weber ، وهلمهولتس
Helmholtz ، وفخنر
Fechner ، وفونت
Wundt
أسس علم محدد للسيكوفيزيقا، أصبح فيما بعد علم النفس الفسيولوجي. وانتشرت هذه الحركة سريعا من ألمانيا إلى إنجلترا وأمريكا، حتى تبلورت مع فيلسوف أمريكا الرائد وليم جيمس
W. James (1842-1910م) في كتابه «مبادئ علم النفس» الصادر عام 1890م، وفيه يزهو بأنه يتناول علم النفس كعلم طبيعي،
37
وهذا كتاب يضع نهاية لمرحلة وليس فاتحة طريق،
38
نهاية المرحلة التجريبية الحسية لعلم النفس التي أنجزها القرن التاسع عشر كانت ضرورية، لكنها بدائية أو مبدئية تغفل تميز الظواهر النفسية، وبوضع هذا التميز في الاعتبار نضجت علمية علم النفس في القرن العشرين، متمثلة في مدارس عديدة، أبرزها القصدية والجشتلط وتحليلية فرويد وأشياعه وسلوكية واطسن وسكينر وقرنائهما، وأخيرا علم النفس المعرفي في الثلث الأخير من القرن العشرين. ولا شك أن ميراث العلم الحديث في القرن التاسع عشر كان مقدمة ضرورية.
ولعلنا لاحظنا أن تطور العلم الحديث وتقدمه في مساره الواعد كان من زاوية ما عملية تخلص متوال من مفاهيم وكيانات لا علمية، منذ مفهوم الحركة الكينماتيكية المستقلة عن أي قوة أو مؤثر حتى الفلوجستون والقوى الحيوية والغائية ... وبالمثل تخلص علم النفس تباعا من مفاهيم تعرقله كعلم وتعوق طريقه إلى نسق العلم الحديث، من قبيل مفاهيم الروح والأنا الترانسندنتالية والوعي التحتي والنفسي الكلية وما قبل الشعور والإدراك اللاواعي والجوهر العقلي. انتهى أيضا مفهوم «القوى العقلية» الرديف السيكولوجي لمفهوم «القوى الحيوية» بكل بواعثه الكامنة في التشبث بالجهل المريح والبعد عن نسق العلم الحديث بمثالياته الصارمة، هجره علماء القرن التاسع عشر هجرانهم لمفهوم القوى الحيوية ، وأيضا تبتلا للتصور الميكانيكي الحتمي. واضطلع يوهان هربارت
J. Herbart (1776-1841م) بمحاولة لإقامة علم نفس يمكن أن يكون علم ميكانيكا العقل، قائم على منهج الاستبطان (أي تأمل الفرد لذاته أو حياته الباطنية كوسيلة لاستكشاف النفس وإقامة علم النفس)، ويستعين ببعض الفروض الفلسفية عن ماهية العقل وإمكانياته وببعض القوانين الرياضية. وكان هدف هربارت من هذا الجهاز المعقد هو إثبات أنه مهما كان استقلال العقل عن المادة، فإن له هو الآخر طبيعة ميكانيكية، بلغت مثل هذه الجهود نضجها مع أبحاث العالم الروسي إيفان بافلوف
I. Pavlov (1849-1936م) في أنشطة الجهاز العصبي في الإنسان والحيوان عن طريق آلية ردود الأفعال الشرطية المنعكسة التي تنطبق في الإنسان والحيوان على السواء. فأرسى بافلوف أسس علم النفس الحيواني، وانزاحت تماما فرضية ديكارت بأن الحيوان آلة، بينما للإنسان الجوهر العقلي والإرادة الحرة. لقد أصبح الكل سواء في خضوعه لمد العلم الحديث والانضواء في أطر نسقه العظيم.
إن علم الاجتماع هو أكثر فروع العلوم الإنسانية عمومية، يكاد يماثل وضع الفيزياء بالنسبة لنسق العلم ككل، فهو يتناول النسق الاجتماعي نسق الأوضاع الإنسانية حيث تتفاعل شتى العوامل ككل متكامل، بينما علم النفس هو الأكثر خصوصية وجزئية؛ إذ يبحث سلوك الفرد؛ لذلك يقال: إن علمي الاجتماع والنفس هما قطبا العلوم الإنسانية أو القوسان اللذان يقوسانها، وإلقاء الضوء على نشأتهما الناضجة في القرن التاسع عشر يوضح كيف انفتح الطريق أمام العلوم الإنسانية بمختلف فروعها لتلحق بمسيرة العلم الظافرة. وتحتل مواضع في نسقه وتتفتح أكمامها العلمية بري إبستمولوجيته، وقد شهد القرن التاسع عشر أيضا - بخلاف القطبين الكبيرين النفس والاجتماع - نشأة فروع أخرى من العلوم الإنسانية، كعلم الاقتصاد على يد آدم سميث، ثم طريقه الجديد مع كارل ماركس، واستقام جذع علوم السياسة ومنها الاقتصاد السياسي، وأصبحت الجغرافيا علما دقيقا منضبطا يستعين بالرياضيات في بعض فروعه، واستحدثت مناهج دقيقة وأكفأ للتأريخ وللكشف عن آلية التاريخ الكبرى ... إلخ. وصحيح أن العلوم الإنسانية لم تحرز نفس درجة التقدم التي أحرزتها العلوم الطبيعية، وإلى حد يمثل مشكلة ملحة سنبحثها في الفصل السادس، لكنها أثبتت ذاتها كعلوم منتمية لنسق العلم وانفتح أمامها طريقه الواعد بمزيد من التقدم دائما.
ومن الناحية الأخرى استطاع نسق العلم الحديث أن يستوعب قوانين وفروض ونظريات تحكم ظواهر هذا الوجود، سواء فلكية فيزيوكيماوية أو بيولوجية أو إنسانية.
ثالثا: إبستمولوجيا العلم الحديث
إبستمولوجيا العلم الحديث، أي نظرته لطبيعة المعرفة العلمية ومسلماتها وحدودها وأهدافها ... كانت منبثة خلال كل سطور الجزء السابق من هذا الفصل، ونحتاج فقط لبلورتها وتعيينها لوضع النقاط على الحروف. فقد اتضح أمامنا كيف انتظم العلم الحديث نسقا، والنسقية تعني أن لكل مكون من المكونات موضعه، وفقا لعلاقات منطقية.
هنالك أولا الرياضيات، إنها تاج العلم الحديث وأقنومه رمزه المبجل، تتبارى العلوم في الاقتراب منها والتسلح بلغتها، وتأمل أن تبلغ ما بلغته الفيزياء في هذا. على أن العلوم الرياضية هي علوم صورية
Formal Sciences
تعنى بصورة الفكر دون محتواه، قالب بحت يملأه التطبيق بالمضمون، إنها ملكة العلوم والمبحث الرفيع المترفع عن شهادة الحواس ولجة الواقع والوقائع، فلا تغوص فيه وليس مطلوبا منها أن تأتي بخبر عنه. والرياضيات تتلوها العلوم الإخبارية
Informative Sciences
وهي العلوم التجريبية التي تأتينا بالخبر عن الواقع. وقد رأينا كيف انتظمت في ثلاث مجموعات كبرى هي العلوم الفيزيوكيماوية، ثم الحيوية ، ثم الإنسانية. هذا التدرج المنطقي تبعا لدرجة عمومية موضوعها. المقصود بالعمومية
generality
سعة المجال الذي يحكمه العلم المعني، ودرجة العمومية تتناسب طرديا مع درجة البساطة، أي عكسيا مع درجة التعقيد. والمقصود بالتعقيد كثرة المتغيرات والعوامل الفاعلة؛ لهذا كانت الفيزياء في المقدمة، قمة العلوم الإخبارية. فموضوع الفيزياء الكلاسيكية المادة في الزمان والمكان، مجمل عالم الظواهر، مجال شتى العلوم الإخبارية، فبدت قوانين الفيزياء كإطار لهذا الكون، لعالم العلم، قوانين الفيزياء هي الأكثر عمومية، تنطبق على مجمل موضوعات العلم، فلا بد وأن تسلم بمسلماتها كل فروع العلم الأخرى، ما دامت تضطلع بالإخبار عن هذا العالم.
وينتقل العلم إلى المجموعة الثانية، مجموعة العلوم الحيوية التي تدرس موضوعا أعقد من مجرد المادة. إنها المادة التي أضيفت إليها القدرة على القيام بوظائف الحياة، فلا بد وأن نضيف القوانين والفروض العلمية المختصة بظاهرة الحياة ووظائفها. وكما أوضح داعية الفلسفة العلمية، العالم الفيزيائي هانز رايشنباخ
H. Reichenbach (1891-1953م) الفيزياء - كما نرى - ليست علما موازيا للبيولوجيا، بل علما أكثر أولية يحكم حركة المادة بأسرها، بينما لا تحكم البيولوجيا إلا قطاعا محددا من المادة هو المادة العضوية الحية فحسب، لكن قوانين الفيزياء تشمل المادة الحية وغير الحية على السواء، بينما تقتصر البيولوجيا على دراسة تلك القوانين التي تسري مع القوانين الفيزيائية على الكائنات الحية. وبالتالي ينبغي أن تلحق القوانين البيولوجية بالقوانين الفيزيائية حتى تكتسب دقتها وعموميتها. ويساعد البيولوجيا على هذا أنها لا تملك استثناء للقوانين الفيزيائية؛ فالجسم الحي يسقط كالحجر تماما ولا يمكنه أن ينتج طاقة من لا شيء،
39
والعمليات الكيميائية تجري داخله كما تجري خارجه. ما يحدث هو مزيد من التعقيد. هكذا تتكامل العلوم البيولوجية مع العلوم الفيزيوكيميائية، وهاتان المجموعتان الفيزيوكيماوية والبيولوجية يمكن أن يمثلا معا مجموعة علوم المادة، الجامدة والحية، التي تقابل المجموعة الثالثة وهي مجموعة العلوم الإنسانية، موضوعها أعقد وأعقد، فلن تكفي قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، وإن كانت بالطبع تنطبق على الإنسان حين يسقط من عل وفقا لقانون سقوط الأجسام الفيزيائي، وحين تؤدي أعضاؤه وظائفها وفقا لقوانين البيولوجيا. ومن أجل الإحاطة بالظواهر الإنسانية لا بد وأن ينضاف إلى هذا وذاك قوانين أو فروض أو نظريات تتناول ظواهر الوعي الفردي والجمعي بسائر تشكلاته وتمثلاته ونواتجه، وهذه هي العلوم الإنسانية.
ويمكن ملاحظة أن هذا التدرج المنطقي للعلوم تبعا لمستوى تعقيد موضوعها يوازيه تدرج عكسي في مستوى تقدمها، ولعله أيضا تبرير منطقي لتدرج مستوى التقدم - من منظور العلم الكلاسيكي على الأقل. فالفيزياء أكثر العلوم تقدما وموضوعها أبسط، وكانت درجة تقدم البيولوجيا آنذاك أقل كثيرا؛ لأن موضوعها أعقد. والعلوم الإنسانية درجة تقدمها أقل وأقل؛ لأن موضوعها أعقد وأعقد وأضيفت إليه كل تعقيدات ظواهر الوعي بعد تعقيدات ظواهر الحياة. والجدير بالذكر أن تشكل نسق العلم على هذا النحو، أدى إلى فكرة سادت آنذاك عن العلم الواحد الموحد، بمعنى رد كل العلوم إلى الفيزياء، ومعالجة سائر الظواهر حتى الظواهر النفسية في حدود ومصطلحات ولغة الفيزياء، في إطار من العلم الموحد الذي كان مشروعا لم يحرز نجاحا، على الرغم من أنه كسائر تصورات العلم الكلاسيكي، يحدوه النجاح الذي أحرزته الفيزياء، وعلى وجه التحديد نظرية نيوتن، المثل الأعلى المطروح والتي حددت إطار نسق العلم الحديث؛ ليكون بحق أنجح المشاريع التي أنجزها الإنسان.
وقد رأينا نسق العلم الحديث يترسم طريقه واضحا، ويقطعه بثقة وثبات من إنجاز إلى إنجاز ومن نصر إلى آخر؛ لأنه استند إلى تصور واضح لطبيعة المعرفة العلمية، وكان أخطر ما في هذا التصور أنه في الوقت نفسه انعكاس لطبيعة موضوع المعرفة، أي تصور لطبيعة الكون والعالم الفيزيقي. وهذا ما يبلوره مبدأ العلم الحديث الذي هيمن على العلم وحكمه من رأسه حتى أخمص قدميه، أي مبدأ الحتمية
Determinism . وقد كانت الحتمية العلمية مبدأ أنطولوجيا «وجوديا» وإبستمولوجيا «معرفيا» في آن واحد، أي تصور لطبيعة الوجود الفيزيقي - طبيعة الكون ومسار أحداثه، ولطبيعة المعرفة به أي العلم وقوانينه. ولا غرو، فلم تكن المعرفة العلمية أو نسق العلم الحديث بأسره إلا تمثيلا مجردا لهذا الوجود الذي نحيا فيه.
40
لم تكن الحتمية آنذاك مجرد مبدأ من مبادئ العلم، بل كانت ركيزة يرتكز عليها وفي الوقت نفسه هدفا منشودا يسعى للوصول إليه، وبين هذا وذاك نجدها أيضا المحك المعتمد طوال الطريق العلمي، وهذا ما عبر عنه كلود برنار قائلا: إنه لا بد للعقل من نقطة ارتكاز أولى، ونقطة الارتكاز هذه هي مبدأ الحتمية المطلقة ولولاها لكان قد قضي على الإنسان وعقله أن يدور في دائرة مفرغة وألا يتعلم شيئا قط،
41
هكذا آمن العلماء، ولم يكتفوا بأن الحتمية هي الأساس، بل سلموا أيضا بأن الغرض الأولي من كل دراسة علمية تجريبية هو تعيين حتمية موضوعها، وصولا إلى الحتمية الشاملة التي هي الحقيقة المطلقة، وبالتالي هدف العلم النهائي، وفي غضون الطريق السائر من ذاك الأساس إلى هذا الهدف المنشود، يظل مبدأ الحتمية أيضا هو المحك التجريبي، والعلاقات الحتمية هي مقياس الحقيقة المنشودة، فيؤكد برنار أنها المبدأ الوحيد الذي يسندنا في وصولنا إلى النظريات العلمية وفي حكمنا عليها.
42
إلى كل هذا الحد سلم العلماء آنذاك بمبدأ الحتمية وبأنه المعبر الوحيد المفضي إلى العلم الحقيقي، وأن إليه يرجع الفضل فيما أصابه العلم من تقدم، والتسليم به سرعان ما جعل قوانين العلم تنطلق بسلاسة من نجاح إلى نجاح أعظم، ومن يقين إلى يقين أدق، ومن الناحية الأخرى أكد اطراد الطبيعة البادي أمام العلماء في ذلك العصر، وتواتر صدق قوانين العلم، خضوع تلك الطبيعة للحتمية، من هنا كانت الحتمية مؤكدة أنطولوجيا وإبستمولوجيا.
أنطولوجيا «أي وجوديا» تعني الحتمية أن نظام الكون مطرد ثابت شامل، لا يشذ عنه في أي زمان ولا في أي مكان شيء، فهو ذو علاقات علية ضرورية ثابتة تجعل كل حدث من أحداثه نتيجة ضرورية «معلولا» لما سبق، ومقدمة شرطية «علة» لما سيلحق أوضاع الكون في أي لحظة محصلة للوضع السابق، تبعا لقوانين ثابتة وهكذا دواليك، حتى إن مجرى الأحداث بجملته حتمته اللحظة الأولى في تاريخ العالم، ومنذ أن تحددت تلك اللحظة والطبيعة تسلك طريقا واحدا لا سواه، يستكشفه العلم، فتعني الحتمية - إبستمولوجيا - عمومية قوانين العلم وثبوتها واطرادها ويقينها، فلا استثناء لها ولا تخلف عنها ولا اتفاق فيها أو جواز أو إمكان أو عرضية، طالما أنه لا مصادقة في الواقع، وكل حدث محتوم وسواه مستحيل.
إن العلم يتوصل إلى القوانين التي تحكم مسار الطبيعة الأوحد؛ لذلك يستنبط أو يتنبأ مما هو حادث بما سوف يحدث في المستقبل، وبما كان من أمر الماضي كما هو - مثلا - في علوم الجيولوجيا والتاريخ البيولوجي والإنساني. تنبؤات العلم يقينية، وكذلك قوانينه ونظرياته، إنه يقين في يقين. واليقين هو التحديد المطلق الجازم الذي لا خطأ فيه ولا احتمال. إنهم يعملون بالرياضيات الإقليدية، ولا يعرفون إلا قيمتي الصدق والكذب، ولا وسط بينهما. صحيح أن الظواهر التي بدت مصادفة وموضع احتمال قد لفتت أنظارهم، حتى إن رجالات ذلك العصر هم مؤسسو الإحصاء وحساب الاحتمال، إلا أنهم فسروه تفسيرا ذاتيا، أي بإرجاعه إلى الذات العارفة وليس موضوع المعرفة، إلى الإنسان وعجزه عن إدراك العلة الحقيقية أو الكافية. نسبة الاحتمال إذن تعبر عن الجهل - فالعلم لا يكون إلا يقينا - وهي مسألة مؤقتة ستضمحل بالتقدم العلمي، لنصل يوما ما إلى اليقين في هذه الظواهر كما وصلنا إليه في سواها. إن اليقين هو التمثيل العيني للعلم بعالم يسير في مسار محتوم.
وأصبح كل هذا مثبتا حين أصبح العلم رياضيا. الرياضيات دائما هي الأنموذج الأمثل لليقين وللضرورة المطلقة. في كل مكان يظل دائما «2 + 2 = 4»، والمثلث شكلا محوطا بثلاثة أضلاع؛ لأن إنكار هذا يعني إنكار أن المثلث مثلث! وطالما أمكن التعبير عن القوانين الفيزيائية في صورة رياضية بلغت حد المعادلات التفاضلية للامتناهي في الصغر - كما رأينا، فمعنى هذا أن الضرورة الرياضية المطلقة قد أصبحت حتمية كونية شاملة، والواقع أن السمة الرياضية هي التي قلبت الحتمية من مبدأ فلسفي - يمكن أن تختلف بشأنه وجهات النظر - إلى مبدأ علمي صريح لا بد وأن يسلم به الجميع تسليمهم بالعلم.
أما الفارق بين الحتمية العلمية وبين الجبرية اللاهوتية أو الأسطورية العتيقة فيتمثل في مبدأ العلية «السببية»، وهي المبدأ القائل: إن كل حدث لا بد له من علة أحدثته، والعلية مبدأ متوشج في الحس المشترك - أي تفكير الإنسان العادي - وأيضا في الفكر الفلسفي، لكنه اتخذ موقع العمود الفقري في العلم الحديث؛ لأن حتمية الظاهرة لا تعدو أن تكون العلة الكافية لحدوثها، فأصبحت مهمة العلم هي تعليل كل الظواهر وتحديد علة كل حدث. أما التسليم بحدث بغير علة فلا يعني إلا إنكار العلم به، وتتلخص قوانين العلم في أحكام علاقة العلة بالمعلول؛ لتتخذ جميعها الصورة المنطقية: إذا كان ... فإن ... دائما طبعا، مما يجعل الطبيعة متصفة بالاطراد
Uniformity ، أي حدوث أحداثها على وتيرة واحدة لا تتغير ولا تتذبذب، في الماضي كما في المستقبل. واطراد الطبيعة هو الذي يدعم القانون العلمي؛ لأن مجرد التفكير في البحث عن قانون يفترض قبلا أن الطبيعة مطردة منتظمة تخضع لقانون ما، نبحث عنه، وبفضل العلية وما تضفيه من اطراد على الطبيعة كان القانون العلمي ذا عمومية مطلقة فلا يحكم حالاته الواقعة أمامنا فحسب، بل كل الحالات المتماثلة التي حدثت في الماضي والتي ستحدث في المستقبل، وطالما هو قانون صادق فلا يشذ عنه شيء، وتغدو الضرورة تحكم الطبيعة بفضل العلاقات الداخلية بين أحداثها، بين العلة والمعلول، وتسير أحداث الكون في تسلسل علي، يجعله أشبه بالسلسلة المحكمة الحلقات، تفضي كل حلقة إلى - وفقط إلى - لاحقتها، مثلما نشأت عن - وفقط عن - سابقتها، فيغدو الكون نظاما مغلقا، مساره مرسوم منذ الحلقة الأولى أو اللحظة الأولى في تاريخه، كما ذكرنا؛ لذا تعد العلية صلب الحتمية العلمية أو وجها آخر لها، حتى إن المصطلحين - الحتمية والعلية - كثيرا ما يستعملان كمترادفين، العلية هي التي تؤكد نظام الطبيعة الحتمي وقانون تسلسل الأحداث فيه، الحدث السابق علة واللاحق معلول، فيتدفق الزمان في اتجاه واحد من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل. إنه الزمان المطلق والمكان المطلق، الثابتان لجميع الراصدين مهما اختلفت مواقعهم، وهما الخلفية الأساسية لفيزياء نيوتن، وعليهما كان قانون نيوتن الأول، قانون القصور الذاتي، الذي ينص أن كل جسم يبقى على حاله ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي، أي «قوة» هي تجسيد للعلية.
وكما لاحظنا تصور نظرية نيوتن الكون ككتل مادية تتحرك على سطح مستو عبر الزمان والمكان المطلقين، والميكانيكا هي علم حركة الأجسام. إذن فالكون بالتأكيد نظام ميكانيكي، وهذا التصور الميكانيكي للكون الذي رفعته نظرية نيوتن على رءوس الأشهاد هو التمثيل العيني لأنطولوجية الحتمية. والواقع أنه لا حتمية علمية بغير الميكانيكية، أي بغير النظر إلى الكون بكل محتوياته وعناصره وظواهره على أنه مترتب في صورة آلة ميكانيكية ضخمة مغلقة على ذاتها، من مادة متجانسة، تسير تلقائيا بواسطة عللها الداخلية، وتبعا لقوانينها الخاصة في مسار تفضي كل حالة من حالاته إلى الحالة التالية. وبعد أن وضع العلماء فرض الأثير، وهو وسط لا نهائي المرونة كثافته أقل من الهواء، افترضوه بوصفه يملأ كل الفراغات في الآلة الميكانيكية العظمى، بحيث يحمل الضوء والإشعاعات لتندرج بدورها في التفسير الميكانيكي، وبعد أن اكتشفوا أن المادة الحية مؤلفة من نفس الذرات التي تؤلف المادة الجامدة، وأنها بالتالي تخضع لنفس القوانين، وتصوروا أن الحياة أيضا ذات طبيعة ميكانيكية، وأن الإنسان لا يعدو أن يكون آلة ميكانيكية حية، وإن تكن أكثر تعقيدا، والعقل بدوره هكذا ... بعد هذا أيقن العلماء أنهم يستحيل أن يفهموا أي شيء بغير أن يصطنعوا له نموذجا ميكانيكيا، وأن التفسير الوحيد الممكن لهذا الكون، ككل وكأجزاء، هو التفسير الميكانيكي.
وجاء لابلاس عام 1814م؛ ليصوغ في مقدمة كتابه «مقال فلسفي في الاحتمال» أشهر صياغة للحتمية العلمية، ومؤداها أننا إذا استطعنا أن نجمع معلومات دقيقة عن كل الظروف، لأمكن استنباط الحالة اللاحقة للكون بكل دقة، والعقبة الوحيدة أننا لا نعلم كل الظروف والشروط في وقتنا الحالي، فإذا تصورنا عقلا فائقا يعرف كل القوى التي تعمل في الطبيعة والوضع الراهن لكل مكوناتها - أي يعلم كل تفاصيل الكون - فإنه يستطيع التنبؤ بمنتهى الدقة بوضع كل جسيم في كل لحظة، ولن يكون ثمة أي شيء غير يقيني بالنسبة له، سواء ما يختص بحركة أضخم الأجسام أو أصغر الذرات، أو الإنسان المحصور بين هذا وذاك.
ولا غرو أن يراود العلماء طموحات جامعة مانعة هكذا، ما دام كل شيء في هذا الوجود، الكوكب في السماء والفقاعة في الهواء، موج البحر وأديم الأرض، النبتة الصاعدة والحجر الساقط، القذيفة المنطلقة والجبل الراسخ ... كل ما تراه الأعين وتدركه الحواس لا تراه ولا تدركه إلا وهو يقدم فروض الطاعة والولاء لقوانين نيوتن الصارمة. وكل علم يقتفي أثرها ويسير بهدي إبستمولوجيتها يحرز النجاح تلو النجاح، فيعلو نسق العلم ويتعاظم ويتكامل، حتى بات حلم فرنسيس بيكون بالعلم الكامل الشامل لمجمل هذا الوجود قاب قوسين أو أدنى.
ولم يبق إلا عقد أو عقدان من السنين ليأتي القرن العشرون، وبدلا من أن تقبع هذه الطوبى العلمية الوردية في انتظاره، انفجرت قبيل مجيئه أزمة الفيزياء الكلاسيكية لتعصف بتلك الإبستمولوجيا الواثقة المتفائلة؛ ونظرا للموقع الريادي للفيزياء، تأزم معها العلم الحديث بأسره حتى أصوليات التفكير العلمي، فما هي تلك الأزمة؟
رابعا: أزمة الفيزياء الكلاسيكية
أزمة الفيزياء الكلاسيكية، أو أزمة العلم الحديث في القرن التاسع عشر تتلخص في ظهور وقائع وعلاقات فيزيائية في عالم التجارب العلمية، استحالت أن تنحصر في أطر تلك الإبستمولوجيا أو تبدي خضوعها هي الأخرى لقوانين الفيزياء النيوتينية - أي الفيزياء الكلاسيكية. فقد كانت تؤدي مهامها بنجاح تام حينما كانت مقصورة على الظواهر الميكانيكية، بيد أن العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر شهدت اقتحام الفيزياء لمجالات جديدة، منها مثلا العمليات الحرارية التي أدت إلى علم الديناميكا الحرارية، وتطور أبحاث الضوء والظواهر الكهرومغناطيسية التي كانت فاتحة علم الديناميكا الكهربية، في البداية أمكن إخضاعها لأطر الفيزياء الكلاسيكية بقوانينها وإبستمولوجيتها، ولكنها سرعان ما أفصحت عن حقائق أقضت مضجع الحتمية حتى أطاحت في النهاية بمقولاتها وتصوراتها التي رأيناها ركيزة العلم وإطاره، وكانت تبدو واضحة تماما للحس المشترك، ومن تلك الجبهات التي فتحتها الفيزياء الكلاسيكية على نفسها تسرب الهوينى إلى بنية العلم ما ينقض الحتمية الميكانيكية كتفسير لعالم العلم الكلاسيكي، وما أصاب إبستمولوجيته بالتصدع الذي يؤذن بالانهيار، وأصبح من الضروري التسليم بنظرية نيوتن والفيزياء الكلاسيكية بأسرها، لا كتفسير لطبيعة الكون وترسيم لطبيعة العلم، بل كمجرد حالة محدودة، في إطار معرفي - إبستمولوجي - مختلف تماما. من هنا كان القرن العشرون مرحلة جديدة من التفكير العلمي، أعلى وأكثر خصوبة وثراء بما لا يقارن، فكيف كانت تلك الأزمة قبلا؟
لأن قوانين الحفظ والبقاء
Conservation
من أسس الفيزياء، فإن القانون الثاني للديناميكا الحرارية من أخطر مواطن تلك الأزمة، وقانون بقاء س يعني أنه مهما كانت س فإن المقدار الكلي ل س يبقى على الدوام كما هو. وهذا القانون فرضي، فهو لا يقول أكثر من أننا لم ننجح حتى الآن على الرغم من كل ما بذلناه في تغيير المقدار الكلي ل س، ومع هذا سلم الفيزيائيون تسليما قطعيا لا يقبل نقاشا ولا جدلا حتى منتصف القرن التاسع عشر، بأن هذا الكون يرسو على ثلاثة قوانين أساسية للحفظ والبقاء: (1)
بقاء المادة. (2)
بقاء الطاقة. (3)
بقاء الكتلة.
واستنبطوا منها قوانين حفظ وبقاء أخرى فرعية، كبقاء كمية التحرك «العزم» مثلا. على أن بقاء المادة - بمعنى أن كمية المادة في الكون ثابتة لا تفنى ولا تستحدث - بدا هو الأساس، أما بقاء الطاقة فأحدث نسبيا، وإن كان نيوتن قد بشر به، وقال: إنه يسري بمنتهى الدقة في الظروف المثالية، غير أن جول
J. P. Joule
هو الذي أكده حين أثبت أن الطاقة تتحول، ولا تفنى ولا تنعدم، ولكن تجارب جول نفسه التي أجراها بين عامي 1840م و1850م، بمعية تجارب ماير
D. R. Mayer
عام 1842م، أطاحت بالتصور القديم للحرارة على أنها سيال لا يمكن وزنه أو نتيجة لاهتزاز جزيئات المادة، وأثبتت تلك التجارب أن الحرارة ليست إلا شكلا من أشكال الطاقة، وأن كمية الطاقة داخل أي نظام ما ثابتة أو باقية محفوظة، فإذا فقدها في شكل ما عادت إلى الظهور في شكل حرارة مثلا، مما يعني مبدأ بقاء الطاقة المذكور ليكون أول مبادئ علم الديناميكا الحرارية الذي يدرس الظواهر الحرارية.
هكذا نجد المبدأ الأول للديناميكا الحرارية يتسق تماما مع أسس الفيزياء النيوتنية الكلاسيكية، بيد أن المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية ينقضها بوضوح؛ لأنه ينص على عدم قابلية الظواهر الحرارية للارتداد، فالحرارة لا تنتقل أبدا إلا في اتجاه واحد من الجسم الأسخن إلى الجسم الأبرد، ولا ترتد أبدا في الاتجاه المعاكس من الأبرد إلى الأسخن. وكان العالم النمساوي لودفيج بولتسمان
L. Boltzmann (1844-1906م) هو الذي أثبت أن أسلوب الفيزياء الكلاسيكية في التحديد الفردي اليقيني لا يجدي هنا، ذلك أن كمية الحرارة في جسم ما تتحدد بسرعات جزيئاته التي تتباين تباينا ليس يسيرا، وكل جزيء على حدة له سرعة خاصة به، ولا يمكن تفسير عدم القابلية للارتداد إلا بطريقة إحصائية نحسب بها متوسط سرعة الجزيء، وكلما زاد هذا المتوسط ارتفعت الحرارة، فإذا حدث اتصال مباشر بين جسيم ساخن وجسيم بارد واصطدمت جزيئاتهما السريعة والبطيئة، كان الناتج على وجه الإجمال هو تعادل السرعات عن طريق الصدمات، وهذا تفسير معقول تماما لانتقال الحرارة من الجسم الساخن إلى الجسم البارد، لكنه احتمالي، والاحتمالية هنا ليست جهل الذات العارفة المؤقت بالعلل المحتمة، بل هي احتمالية موضوعية، تفرضها طبيعة الموضوع. هكذا نجد المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية - مبدأ عدم قابلية الحرارة للارتداد - يعصف بالتصور الحتمي الميكانيكي وجدوى التعيين الفردي اليقيني لموقع كل مكون من مكوناته على حدة. إنه أول اقتحام حقيقي للإحصاء وحساب الاحتمال في أعطاف الفيزياء، فكان بولتسمان مؤسسا لعلم الميكانيكا الإحصائية.
على أن نتيجة المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية لا تقف عند تصور الحرارة وشكل انتقالها، وإنما تنسحب على حركة الكون جميعا، فبينما يؤكد المبدأ الأول بقاء الطاقة وبقاء الكون على حاله إلى الأبد - كما تنص الإبستمولوجيا الكلاسيكية - يعني المبدأ الثاني أن حالة الكون تتغير أكثر فأكثر، وأنه لن يبقى على حاله إلى الأبد. فقدم العالم رودلف كلاوسيوس
R. Clausius
لأول مرة في عام 1865م مفهوم الإنتروبي
Entropy
الذي يتغير نحو حد أعلى بمقتضى هذا المبدأ الثاني. والإنتروبي ببساطة هو افتراض قدر من فوضى أو اضطراب يقتحم النظام الفيزيائي، من أجل ضبط هذا النظام وتحديده! إن الإنتروبي كمية تقدم في المقام الأول لتسهيل الحساب ولتعطي تعبيرا واضحا لنتائج الديناميكا الحرارية. أما إنتروبي النسق
System
فهو قياس درجة اضطرابه
disorder ، وإنتروبي أي نسق منفصل إما أن يتغير بعملية غير قابلة للارتداد، وإما أن يظل ثابتا بعملية قابلة للارتداد، لكنه لا ينقص أبدا في أي تغير. على هذا يتزايد الإنتروبي الكلي للكون، متجها نحو حد أقصى، يناظر اضطرابا تاما للجزيئات فيه،
43
وبدا واضحا أنه لا يمكن تفسير الإنتروبي بالمبادئ الميكانيكية، فقدم جيمس كلارك ماكسويل
J. C. Maxwell ، وأيضا جوزيا ويلارد جيبز
J. W. Gibbs (1839-1903م) المناهج الإحصائية، فتصورا عددا كبيرا غير محدود من الجزيئات في سرعات مختلفة، وعلى أساس الدرجات المختلفة للسرعة ومبادئ الاحتمال الإحصائية يكون حساب الأثر النهائي، وتوطدت هذه النتائج بأبحاث لويس جوي.
هكذا أكدت الديناميكا الحرارية المناهج الإحصائية الاحتمالية لاتفاقها مع طبيعة موضوعها الذي يرفض التحديد الفردي الميكانيكي، فتعمل على أساس المتوسطات وتطرح تنبؤات تقريبية لا يقينية، تأكيدا لتمردها على الإبستمولوجيا الكلاسيكية، فضلا عن أنها تشير إلى أن الكون لن يبقى ثابتا على حاله إلى الأبد.
على أن أزمة الفيزياء الكلاسيكية لم تقتصر على قانون بقاء الطاقة والديناميكا الحرارية المتصلة به، بل لحق به قانون بقاء المادة وبقاء الكتلة.
وهذا الأخير - أي بقاء الكتلة - بدا وكأنه يجب أن يغادر ميدان العلم، منذ أن أثبت جوزيف جون طومسون
J. J. Thomson (1856-1940م) أن كتلة الجسيم المشحون بالكهرباء تتغير حين يتحرك، وكلما كانت سرعة الحركة أكبر كلما أصبحت كتلة الجسيم أكبر. بدأ هذا الفرض في صورة نظرية رياضية، ومع نهايات القرن التاسع عشر بدأ طومسون وأتباعه في تحطيم الذرة، وأصبح من اليسير التحقق التجريبي من أن كتلة الجسيم الذري تتغير بتغير سرعته تماما، كما تنبأت حسابات طومسون، خصوصا بعد اختراع المعجل النووي. وإثر تحطيم الذرة، جاء التلميذ النجيب لطومسون وهو إرنست رذرفورد
E. Rutherford (1871-1937م) وانتهى إلى أن الذرة مكونة من جسيمات مشحونة بكهرباء سالبة وهي الإلكترونات، وجسيمات مشحونة بكهرباء موجبة وهي البروتونات، فأصبحت المادة بأسرها جسيمات مشحونة بالكهرباء في حركة دائبة. وإذا كانت كتلة الجسم تتغير بتغير سرعته، فإن كلا من النظرية والتجربة أثبتا أن هذا التغير يتناسب تماما مع طاقة حركة الجسم، فتتغير كتلة الإلكترون بتغير طاقته. وسوف نرى أن آينشتين في نظريته النسبية قد مد هذا إلى درجة هائلة من التعميم، وأكد نهائيا تغير الكتلة الذي يتعارض تماما مع المفهوم النيوتوني ببقاء الكتلة، فضلا عن أن بقاء الكتلة - كما لاحظنا - لم يعد نتيجة لبقاء المادة فقط، بل يتدخل بقاء الطاقة أيضا، كما أن نظرية النسبية أدخلت في ذات الهوية بقاء المادة وبقاء الطاقة معا، فلم يعد أي منهما بالصورة التي تتطلبها الفيزياء الكلاسيكية.
وكما ذكرنا، كان بقاء المادة بالذات هو أساس الفيزياء الكلاسيكية، وربما يبدو للنظرة العابرة أنه مع كل هذا يظل بمنأى عن أي نقاش أو جدل، إلا أنه قد ظهرت في القرن العشرين فروض قوية مؤيدة بتحليل رياضي للوقائع الفلكية وترجح حدوث فناء للمادة في الأعماق السحيقة للفضاء، حيث تتوافر مادة فلكية ذات كثرة كافية، وأن عملية الفناء الذري تلك تحدث في أعماق النجوم تلقائيا بنفس تلقائية تفكك ذرات المواد ذات النشاط الإشعاعي.
44
وليست هذه الفروض قاطعة، لكن القاطع حقا هو حدوث تطورات علمية متوالية ومعقدة، يمكن أن ننتهي منها إلى أن التسليم بقوانين الحفظ والبقاء لا يكون راسخا إلا في نطاق الأنظمة الفيزيائية المغلقة. وقد أتت الأزمة من أن الفيزياء الكلاسيكية تصورت الكون بأسره نظاما ميكانيكيا مغلقا، فسهل عليها التسليم اليقيني بقوانين الحفظ والبقاء. وفي القرن العشرين انهار تماما التصور الميكانيكي المغلق للكون، واتضح أن التسليم بكمية المادة فيه ليست أمرا بسيطا كما تصور الكلاسيكيون، وكمية المادة يمكن تقديرها على أساس حركة الكواكب، فمنها يمكن حساب جاذبية الشمس، وبالتالي حساب كتلتها ووزنها، فلو كان وزن الشمس أقل ستكون حركة الكواكب أبطأ وهكذا. وفي الثلاثينيات أدرك الفلكيون أن حاصل جمع كتل النجوم التي يمكن رصدها أقل كثيرا مما ينبغي؛ لأن الجذب الحادث عنه لن ينتج إلا مقدارا ضئيلا من الحركة الكونية المرصودة، فاستنتج العلماء وجود نوع غامض من المادة لا تستطيع التلسكوبات الكشف عنه، لكنه يمارس جذبا هائلا على الأجرام المرصودة. تلك هي «المادة المظلمة»، فهي موجودة، تمارس جذبا هائلا يشد حتى الضوء فلا يصدر عنها، وبالتالي لا يمكن رؤيتها. من هنا سميت بالمادة «المظلمة»، ويبلغ مقدارها ما يتراوح بين 90٪ و99٪ من كتلة الكون!
45
معنى هذا أن ما نعرفه من مادة الكون قد لا يتجاوز 1٪، ولن يزيد عن 10٪.
ويرتبط بالمادة المظلمة الثقوب السوداء، و«الثقب الأسود» هو البقية الثقيلة لنجم ميت استنفد وقوده النووي فانكمش على ذاته، وأصبح له هو الآخر مجال جاذبية قوي جدا، بحيث لا يستطيع أن يفلت منه أي شيء ولا حتى الضوء،
46
وثمة أيضا الأوتار الكونية. و«الوتر الكوني» بمثابة انقطاع أو شق في بنية الزمان/المكان كما لو كان شقا على سطح بحيرة متجمدة، والأوتار الكونية ثقيلة جدا، حتى إن القطعة الواحدة من الوتر التي في حجم ذرة واحدة سيكون وزنها ألف مليون طن، على أن «الأوتار الكونية» ما زالت مجرد فرض نظري بلا أي دليل تجريبي، وما زالت الحاجة ملحة لتفسير وجود المادة المظلمة التي ثبت أنها تشكل القطاع الأعظم من مادة الكون ولا نستطيع أن نعرف عنها شيئا. والخلاصة أنه إذا أردنا الآن التسليم بمبدأ بقاء المادة فسوف يتم هذا في إطار يختلف تماما عن إطار الفيزياء الكلاسيكية، إن لم يعن هجران هذا الأخير وتقويضه.
وكما رأينا، انطلقت الأزمة التي أثارتها الديناميكا الحرارية في عالم الفيزياء الكلاسيكية الحتمية من إقحامها الإحصاء وحساب الاحتمال كأداة تفرضها فرضا طبيعة الظواهر المدروسة، فاتسع مجال هذه الأزمة وازدادت حدتها بفعل ظواهر أخرى فرضت بدورها تلك المعالجة الإحصائية الاحتمالية، وأكدت عجز الصياغات الإقليدية الكلاسيكية التي تنزع إلى التحديدي اليقيني، والمقصود على وجه التحديد:
أولا:
النظرية الحركية للغازات.
ثانيا:
نظرية الحركة البراونية.
أما عن الأولى، فإن الغاز الموجود في إناء مقفل - بالونة مثلا - يقوم بالضغط على جدران الإناء بدرجة واحدة في كافة جوانب الإناء، فيقع على سطح الإناء نفس الضغط الواقع على الأرضية، في حين أن السائل والجامد يمارس ضغطه على الأرضية فقط؛ لأن ضغط الماء مثلا يعزى إلى ثقله، أما ضغط الغاز فيعزى إلى أن الغاز يتألف من مجموعة كبيرة للغاية من الجزيئات التي أمكن اعتبارها كرات صغيرة متساوية، تتحرك حركة دائبة لا تنقطع، ويتصادم بعضها مع بعض، كما تتصادم مع الجوانب المحيطة بها، عددا كبيرا للغاية من المرات في كل ثانية. لذلك فدراسة الضغط الذي يبذله الغاز على جدران الإناء لا يتأتى بمعرفة مواضع جزيئات الغاز وسرعاتها معرفة تفصيلية دقيقة، كما علمتنا الفيزياء الكلاسيكية، فمن المستحيل دراسة حركات أي جزيء من جزيئات الغاز دون الدخول في معادلات يعجز العقل الإنساني عن تحديدها، بل هو عدد لا حصر له من المعادلات التي ينبغي صياغتها لتحديد حركة كل جزيء؛ لذلك لا سبيل إلى التنبؤ بتفاصيل حركتها، ولا إلى حساب طاقة كل جزيء على حدة؛ لما تمارسه من مصادمات وتغاير في الاتجاه لا ينقطع. أما لو حسبنا الطاقة الكلية الناجمة عن اصطدامات جزيئات الغاز البالغة التعدد، والتي تتحرك في سرعات هائلة غير منتظمة وفي جميع الاتجاهات لوجدنا أن الضغط على جدران الإناء يتناسب تناسبا قريبا جدا مع كثافة الغاز ومع مربع سرعة الجزيئات. على هذا لا يتأتى حساب ضغط الغاز بالمعرفة التفصيلية التحديدية، وإنما بمعرفة المتوسط الإحصائي لطاقة وحركة الجزيئات في وحدة حجمية معينة،
47
هكذا نجد النظرية الحركية للغازات تعني هي الأخرى أن المناهج إحصائية والنتائج احتمالية وضرورة هجران الحتمية.
ثم تفاقمت خطورة هذا الأمر حين اتضح أنه ليس مقصورا على الغازات، وإنما يمتد إلى المادة السائلة، كما أوضحت الحركة البراونية، نسبة إلى براون مكتشفها، والتي يمكن اعتبارها شرارة البدء في أزمة الفيزياء الكلاسيكية؛ لأنها الأسبق تاريخيا.
فقد كان أمين القسم الذي أصبح فيما بعد قسم النبات في المتحف البريطاني عالما اسكتلنديا يدعى روبرت براون
R. Brown (1773-1858م)، وكان قد أمضى بضع سنوات من شبابه في رحلة استكشافية بأستراليا، فجلب معه أربعة آلاف نوع من النبات ظل يدرسها طوال عشرين عاما. وفي صيف عام 1827م كان براون يستخدم الميكروسكوب في دراسة نبات
Clarkia Pulchella ، فلاحظ أن بعض الجزيئات الميكروسكوبية المتعلقة بالماء هي في حالة اهتزاز دائم، يحدث على منضدة متأرجحة أو على حامل ثابت، في الليل أو في النهار، في الريف أو في المدينة. وفي عام 1880م انتهت تجارب الأب البلجيكي إجناس كاربونيل
I. Carbonelle ، والعالم الفرنسي - المذكور آنفا - لويس جوي إلى أن هذا الاهتزاز ليس مقصورا على الماء، بل يتحقق في جميع السوائل، وأنه حركة دائبة في جميع الأحوال وتحت كل الظروف لا تكف أبدا. والأهم أنها ليست نتيجة لمؤثر ما، ولا تخضع لأي عامل خارجي، ولا تتوقف حتى على نوع الجزيئات، بل فقط على حجمها.
48
كان اكتشاف الحركة الدائمة لجزيئات السوائل، الحركة البراونية، أزمة خطيرة للفيزياء الكلاسيكية؛ فهي خروج مباشر على قوانين الحركة النيوتنية التي تنص على أن الجسم لا يتحرك ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي، علة هي قوة، فضلا عن أن حساباتها تستلزم هي الأخرى مناهج الإحصاء والاحتمال، لا لحساب درجة جهل الذات العارفة بالموضوع؛ ولكن لأن طبيعة الموضوع ذاته احتمالية تفرض المناهج الإحصائية مما ينقض مبدأ الحتمية الذي رأيناه شريعة العلم الكلاسيكي. وتتصل الحركة البروانية بالحركة الحرارية «الديناميكا الحرارية»، فكل جزيئات السائل في حركة دائبة، وعلى الرغم من أنها مجهرية لا تراها العين المجردة فإنها تزداد بارتفاع درجة الحرارة حتى تصل لدرجة ملحوظة جدا تعرف بالغليان، وتحدث تهيجا في ألياف الأعضاء باللمس، وهو إحساس نسميه بالسخونة، وفي المقابل تقل الحركة بانخفاض درجة الحرارة، حتى تنعدم في حالة تجمد السائل؛ لذا فإن ما نطلق عليه اسم درجة الحرارة ليس إلا مقياسا لدرجة الاضطراب الجزيئي.
مثلت قوانين الديناميكا الحرارية والنظرية الحركية للغازات والحركة البروانية، الثلاثة معا، أزمة للفيزياء الكلاسيكية، من حيث كانت تمردا وعصيانا لحتميتها العلمية، وتكاتفت لتؤكد عجز مناهجها، وأن الإحصاء والاحتمال ضرورة موضوعية تتفق مع الطبيعة الخاصة لهذه الظواهر؛ فهي في تغير دائم وحركة متواصلة عشوائية وغير منتظمة، تداخل وتفاعل وتشابك بين عناصرها، مما يجعل التحديد الفردي الميكانيكي خروجا عن طبيعتها الوضعية، وعبثا لن يفضي إلى معرفة ذات قيمة، فليس الأمر قصورا أو عجزا عن تحديد علل في الواقع، إنما هي وقائع موضوعية تختلف في طبيعتها عن وقائع الفيزياء الكلاسيكية، إنها قابلة للتحديد الكمي، لكن في غير الحدود الميكانيكية الحتمية.
والأخطر من كل هذا أن الحركة الغازية والحركة البراونية كانتا براهين مباشرة على الوجود الحقيقي للذرات توضح بجلاء الطبيعة المتجزئة للمادة،
49
ومن هذه الطبيعة واصلت الخلايا السرية للثورة العلمية نشاطها ليخرج من حدود خلق أزمة إلى موقف الإعلان الصريح عن انهيار الإبستمولوجيا الكلاسيكية.
كان افتراض الذرة قد ورد لأول مرة في الفلسفة الهندية القديمة، ثم أكده يمقريطس وأبيقور ولوكريتوس في الفلسفة الإغريقية، وأخذ به علماء الكلام الإسلاميون وأسموا الذرة: الجوهر الفرد، وأيضا تمسك به بعض من أنصار الواحدية المادية في القرن الثامن عشر، ولكنه اقتحم عالم العلم على يد عالم الكيمياء الإنجليزي ويليم بروت
W. Prout (1785-1850م) حين قدمه عام 1815م كفرضية بشأن وجود جسيمات دقيقة تساهم في مختلف التفاعلات الكيميائية دون أن تتحطم أو تستحدث، ثم صاغ جون دالتون
J. Dalton (1766-1844م) هذا الفرض الذري صياغة دقيقة في نظريته عن التفاعلات الكيميائية.
فكان الكيميائيون هم واضعو فرض الذرة في العلم الحديث، وحين أخذه الفيزيائيون منهم لم يسبب في بداية الأمر أزمة كبيرة، فقد بدأ هذا بافتراض دالتون ومندليف القائل: إن المادة مكونة من ذرات غير قابلة للانقسام، وهذا افتراض يدعمه نيوتن نفسه، لكنه بدأ يزعج الإبستمولوجيا الكلاسيكية حين تمكن ج. ج. طومسون - كما أشرنا - من تحطيم الذرة عام 1897م بدراسته لأشعة الكاثود التي أظهرت أنها تدفق الإلكترونات حاملة الشحنات الأحادية السالبة، فكان اكتشاف الإلكترون الذي يعني أن العلم قد اقتحم الذرة. واقتحم رذرفورد بعد ذلك نواة الذرة حين حطمها عام 1924م مكتشفا بهذا قوى جديدة في الطبيعة، ثم انطلقت من الذرة جسيمات عديدة، وقبل أن يأتي الربع الأخير من القرن العشرين كانت تعد بالعشرات. وبمجرد ظهور الجسيمات الأولية الأساسية وهي الإلكترون والبروتون والنيوترون، كانت الفيزياء الكلاسيكية قد ناءت تماما بثقلها.
وقد تبدى الثقل الوبيل للذرة وجسيماتها منذ أن شرع العلماء في دراسة النشاط الإشعاعي، والتي يمكن اعتبارها المقدمة الفعلية للفيزياء الذرية. فقد اكتشف العالم الفرنسي هنري بيكريل
H. Bacqueral
عام 1896م أن ثمة إشعاعا متصلا ينبعث من اليورانيوم بصورة ثابتة لا تنقطع في أي ظروف، والأهم أنه ليس نتيجة لأية علل خارجية، فهو عملية تفكك تلقائي للذرات دون أية شروط محددة، وأن هذا ليس مقتصرا على اليورانيوم، بل سائر المواد المشعة وأقواها الراديوم. وكشأن الحركة البراونية، تعجز الفيزياء الكلاسيكية مرة أخرى عن تفسير انطلاق الطاقة من المواد المشعة بلا أي علة خارجية أو قوة مؤثرة، بل فقط تبعا لنظرية التفكك التلقائي التي وضعها رذرفورد وفردريك سودي في عام 1903م. فالراديوم مثلا يقذف بثلاثة أنواع من الأشعة: ألفا وبيتا وجاما، فتتفكك ذراته بمجرد مرور الزمن عليها، وتخلف وراءها ذرات من الرصاص والهليوم، فينقص حجم كتلة الراديوم باستمرار ويحل محلها رصاص وهليوم. وفي مقابل حتمية الفيزياء الكلاسيكية، نلاحظ لا حتمية القانون الذي يحكم هذا التفكك، فيمكن تماما تحديد معدلات التفكك والإشعاع. لكن ما لا سبيل إليه ولا جدوى منه تحديد الأجل المحتوم الذي سوف يحل بهذه الذرة دونا عن تلك، فتخضع العمليات الإشعاعية للمعادلات الإحصائية.
والواقع أن الإشعاع كان معلوما تماما للكلاسيكيين، وقد حكمته معادلات ماكسويل الفذة حكما بارعا ويتفق مع الإبستمولوجيا الكلاسيكية، بيد أنه تلقى مددا عظيما باكتشاف أنواع جديدة من الإشعاع تختلف عن الضوء في أن موجاتها أقصر أو أطول، وظلت هذه الموجات مجهولة لوقت طويل؛ لأنها غير مرئية لا تؤثر على العين المجردة، ولكنها قادرة على إظهار تأثيرات فيزيائية معينة كالحرارة والتصوير الفوتوغرافي والتأثير الكهربي، ومن هذه الظواهر ألم بها الفيزيائيون.
50
فبدأ الإشعاع رويدا بالثورة على الوضع الذي تصورت الفيزياء الكلاسيكية أنها تملكت ناصيته، ثم استفحل شأن الإشعاع حتى تمكن في القرن العشرين من امتصاص مجمل عالم المادة من الكون الحتمي الضيق الصلب الساذج وألقى بها في عالم اللاحتمية الرحب المرن ذي الدهاء العميق. لقد تحولت كتل المادة الصلبة إلى إشعاع، إلى احتمالات موضوعية - كما سنرى - وكل ما ينقض الحتمية الميكانيكية التي رأيناها صلب عالم الفيزياء الكلاسيكية وإطار إبستمولوجيا العلم الحديث، فكانت أزمة علمية مضنية، قبعت في استقبال القرن العشرين، ويجمل عالم الطبيعة النووية الروسي فيتالي ريدنيك أمر هذه الأزمة التي عرضناها الآن على النحو التالي:
مع نهايات القرن التاسع عشر أضحت الميكانيكا النيوتونية في موقف متأزم، وشيئا فشيئا اتضح أن تلك الأزمة تعني سقوط الحتمية الكونية التي تسمى علميا مبدأ الحتمية الميكانيكية، ولم يعد الكون بسيطا إلى هذا الحد ولا باقيا على حاله إلى الأبد، فلم تجلب ميكانيكا الكوانتم معها عرفانا جديدا فحسب، بل أعطتنا تفسيرا لظواهر العالم مختلفا اختلافا جذريا، ولأول مرة يعترف العلم اعترافا كاملا بالمصادفة، ربما كان علينا أن ننحى باللائمة على الفيزيائيين؛ لأنهم وقفوا حيارى، لكن كان عليهم فقط أن يتخلوا تماما عن فكرة الحتمية الأبدية التي ابتدعوها هم أنفسهم؛ فقد ظنوا أن مثل هذه الحتمية إن هي انسحقت فإن الفوضى المطلقة ستحكم الكون ولن تعود الأشياء تطيع القوانين الدقيقة، ومضى ردح من الزمن قبل أن يجد الفيزيائيون مخرجهم من هذه الأزمة.
51
وقد كانت ميكانيكا الكوانتم ونظرية النسبية اللتان أبدعهما القرن العشرون هما المخرج من الأزمة، وكان مخرجا يعني انهيار الحتمية الميكانيكية، وبالتالي انهيار تصور حقيقة الكون وطبيعة العلم اللتين ساد الظن بأن نيوتن قد اكتشفهما، وبعد عهود من التسليم الدوجماطيقي «أي القطعي»، اتضح أن الفيزياء الكلاسيكية ليست اكتشافا لهذا أو ذاك، بل مجرد إنجاز عبقري ونظرية ناجحة فقط في مجال محدود وسطحي من الظواهر.
هكذا يمكن اعتبار أزمة الفيزياء الكلاسيكية بمثابة رأس المال الجاري والنقد السائل في ميراث القرن العشرين، وقد أحسن تصريفه وتشغيله حين قوض دعائم الإبستمولوجيا الكلاسيكية، وانطلق إلى إبستمولوجيا جديدة، تمثل مرحلة مختلفة تماما من مراحل التفكير العلمي، مرحلة جديدة أعلى وأدهى تسارعت معها معدلات التقدم العلمي بصورة غير مسبوقة، فاقت كل توقع أو حتى تخيل.
وكانت هذه المهمة التي اضطلع بها القرن العشرون مهمة عسيرة حقا؛ لأن أزمة الفيزياء الكلاسيكية كانت مثقلة بالنجاح المتوالي والمستجد للفيزياء الكلاسيكية وإبستمولوجيا العلم الحديث، ومثقلة أيضا بفلسفة العلم التي نضجت وتبلورت لتعكس هذا النجاح؛ لتبرره وتفسره.
فماذا عن هذا؟ ماذا عن ميراث فلسفة العلم الذي تلقاه القرن العشرون؟
الفصل الثالث
فلسفة العلم الحديث (الكلاسيكي)
أولا: حوار الفلسفة والعلم الحديث
رأينا كم كانت روح العلم الحديث دافقة متوثبة. وكما هو معروف بين الفلسفة والعلم علاقة وثقى وحوار عميق، بطول الحضارة الإنسانية وعرضها . وكانت الفلسفة قديما هي الأم الرءوم التي تطوي جناحيها على سائر العلوم، فتعد امتدادا لها، وكانت نشأة فروع العلم الحديث واحدا إثر الآخر - التي تتبعنا معالمها في الفصل السابق - بمثابة انفصال واستقلال تام لهذه العلوم عن الفلسفة، فشهد العصر الحديث العلم والفلسفة كتيارين متمايزين.
ومع هذا لا شك أن الروح الدافقة للعلم الحديث الذي استقل وتنامى وتصاعد وتعاظم أمره قد انعكست في كل خلجة من خلجات الفلسفة الحديثة المواكبة زمانيا للعلم الحديث، من القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر. وحتى التيارات اللاعقلانية في الفلسفة الحديثة، الصوفية والروحية والحدسية والرومانتيكية إلى الوجودية التي بدأت مع سرن كيركجور
S. Kierkegaard (1813-1855م) ... هذه التيارات المناهضة لروح العلم لا تفهم حق الفهم إلا كرد فعل لعملقة الروح العلمية وصرامة حتميتها التي تهدد فردانية الإنسان وحريته.
بيد أننا معنيون بالتيارات الفلسفية التي عملت على استقطاب روح العلم وبلورتها فانعكست فيها مثالياته وطبائعه وشرائعه، على الإجمال منهجه. والفلسفة بحكم طبيعتها كانت بالضرورة سباقة إلى هذا الاستقطاب لروح العلم الحديث وعصر العلم، وقد رأينا إلى أي حد أفلح فرنسيس بيكون في هذا، حتى عد إماما لتيار العلم الحديث. وكانت الروح العلمية كما بلورها بيكون هي الاستقراء: المنهج التجريبي والإنصات لشهادة الحواس كمصدر للمعرفة، الطبيعة هي مملكة المعرفة الإنسانية، ويجب الحيلولة دون أن يتجاوزها العقل، ولو حتى بفرض يحاول تفسير الوقائع. روح العلم يجب أن تحرر العقل من جنوحات الميتافيزيقا مثلما تحرره من الأوثان والأخطاء المتربصة به، هكذا علمنا الرائد فرنسيس بيكون أن روح العلم ترتكز على معاملين؛ هما التجريبية ورفض الميتافيزيقا.
وبفعل عوامل عديدة، تهيأت إنجلترا - أكثر من سواها - لتمثل هذه التجريبية والانتصار لها؛ فقد كانت إنجلترا جزرا ملقاة على هامش العالم القديم، فلا تضاهي الأمم العريقة في القارة الأوروبية، ذوات التراث الزاخر كإيطاليا وفرنسا مثلا. وباكتشاف الأمريكتين أصبحت الجزر البريطانية فجأة في المركز بين العالمين القديم والجديد. هكذا بدأ العصر الحديث - عصر العلم - بوضع مركزي مستجد لإنجلترا، فانطلقت بلا تراث يثقلها نحو استكشاف العالم الجديد والخبرة التجريبية المباشرة به، والمحصلة أن فرض أسطولها هيمنته على بحار الأرضين، بعد أن علا شأنه حتى على الإرمادا أسطول إسبانيا العظيم. وأفل العصر الحديث مع نهايات القرن التاسع عشر وقد أصبحت إنجلترا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، فلا ينفصل هذا عن أن يرفع بيكون الإنجليزي في البداية لواء التجريبية، وينتصف العصر ونيوتن الإنجليزي يزهو بأن نسق العلوم التجريبية الإخبارية قد اكتمل على يديه.
وعلى مدار العصر الحديث تبارى الفلاسفة الإنجليز في تأكيد التجريبية والنظرية الحسية في المعرفة والعزوف عن الميتافيزيقا حتى ارتبطت هذه النزعة ارتباطا خاصا بروح الفلسفة الإنجليزية، وقد بلغت ذروتها وأكثر صورها شعبية وشيوعا في إنجلترا إبان القرن السابع عشر مع جون لوك
J. Locke (1632-1704م). هاجم لوك القياس الأرسطي بطبيعة الحال وأشبعه تهكما وسخرية ورفض بقطع أي ادعاء بوجود أفكار مقطورة في العقل البشري ترتكز عليها المذاهب العقلية المقابلة للتجريبية. وأكد أن العقل يولد صفحة بيضاء ثم تخطها المعطيات الحسية والتجربة. ومع هذا تقدم الأسقف جورج بركلي
G. Berkeley (1685-1753م) بتجريبية ونظرية حسية في المعرفة أكثر تطرفا، تهدف إلى إثبات وجود الله، وأيضا إلى تخليص فلسفة لوك من عناصر لا تتسق مع التجريبية، فأنكر الوجود الحقيقي للمادة كجوهر مستقل، وهذا عن طريق نظرية حسية متطرفة في المعرفة، ترهن الوجود بالإدراك الحسي له، الوجود هو المدرك، فيغدو الشيء هو فقط الصفات أو الصور الحسية التي تبدو في أذهاننا عن طريق الحواس لا أكثر ولا أقل، وكل ما لا يدرك لا وجود له. ولا يعني إنكار المادة إنكارا لوجود الأشياء، فما دمنا ندرك المحسوسات لا نستطيع الشك في وجودها، إن لا مادية بركلي لا تجعل الأشياء معاني، بل تجعل المعاني أشياء، وكل شيء يدرك فقط داخل الذهن الإنساني كمحسوسات جزئية. إذن جميع معارفنا جزئية، ولا وجود للكليات، إنها مجرد «أسماء» تنطبق على جزئيات عديدة. هكذا انتهت التجريبية والمعرفة الحسية مع باركلي إلى المثالية الذاتية التي تربط الوجود بإدراك الذات له، وإلى اللامادية والاسمية. وعن طريق الألوهية يفسر باركلي تآلف الإحساسات في مجاميع واطرادها ، والمعاني ونظامها. وبقاء الله هو التأييد الوحيد لبقاء الأشياء وبقاء العلاقات بينها التي تعرض نظام العالم الطبيعي، وتغدو الطبيعة - التي يستكشفها العلم - بمثابة رسالة الله إلينا.
ولكن في هذا القرن الثامن عشر، يتزعم التجريبية الإنجليزية حقا شكاك اسكتلندا الشهير ديفيد هيوم
D. Hume (1711-1766م)، وسوف نرى لاحقا أثره الكبير على أم مشكلات فلسفة العلم: مشكلة الاستقراء، قامت فلسفة هيوم على أساس من الانطباعات الحسية وارتباطاتها. الانطباع هو الخبرة الفورية التي يمر بها الفرد حين يدرك شيئا بحواسه أو حين يعيش حالة انفعالية معينة، وعن طريق ما تخلفه الانطباعات من صور ذهنية وذكريات تتكون الأفكار. وبواسطة مبدأ تداعي المعاني السيكولوجي يرجع هيوم كل شيء إلى التجربة بمعنى الخبرة النفسية الفورية بالمحسوسات، أي الانطباعات، وأنكر هيوم كل وأية فرضية إخبارية أو عبارة متعلقة بالعالم وتكون مستقلة عن الحواس ولا يمكن ردها بشكل ما إلى الانطباعات الحسية، حتى ولو كانت هذه الفرضية هي قانون العلية المجيد الذي يقيم قائمة العلم الطبيعي آنذاك. وقد قام هيوم بالتمييز بين نوعين من المعرفة: النوع الأول هو المعارف المنطقية والرياضية، أي التحليلية التي تقتصر على تحليل الأفكار الذهنية لتحديد ما بينها من علاقات لزومية استنباطية. أما النوع الثاني فهو المعرفة المتعلقة بالإخبار عن الواقع كما تفعل العلوم الطبيعية، وهذه لا مصدر لها إلا انطباعات الحس ومعطيات التجريب. وعلى هذا ينصح هيوم القارئ أن يسأل نفسه قبل أن يتصفح كتابا: هل هذا الكتاب مبحث في العلاقات اللزومية، أي رياضة أو منطق؟ أم إن عباراته قائمة على الخبرة الحسية؟ فإذا كان الكتاب لا هذا ولا ذاك، كان ميتافيزيقا ووجب إلقاؤه فورا في النار! بهذه النصيحة الخرقاء، يجسد هيوم الروح العلمية آنذاك المقتصرة على التجريب والرافضة لأية أبعاد ميتافزيقية.
في هذه الآونة - النصف الثاني من القرن الثامن عشر - كانت تزدهر في فرنسا وألمانيا فلسفة التنوير التي مرت علينا في الفصل الأول بوصفها انعكاسا لنجاح العلم الحديث المبهر، فترفع كل وصاية عن الإنسان انطلاقا من الإيمان المطلق بقدرة العقل على فض كل مغاليق هذا الوجود لا سيما إذا استعان بالتجريب ومعطيات الحواس، فتصهر فلسفة التنوير عقلانية العلم وتجريبيته معا في إطار إيمانها الطاغي بالتقدم البشري، في طريقه الواحد والوحيد الذي يترسم بتطور الوعي الإنساني في طريق العقلانية والعلم. وعلى هذا الأساس كانت خطوط التنوير الإيجابية النيرة في الفكر السياسي والاجتماعي.
خرجت خلاصة فلسفة التنوير الفرنسية في مقالات الموسوعيين، وهم كوكبة من أقطاب الفكر الفرنسي التنويريين، أدباء وفلاسفة وعلماء، التفوا حول التنويري الرائد دينس ديدرو
D. Diderot (1713-1784م) من أجل وضع موسوعة عامة للعلوم والفنون والصنائع، تضاهي الموسوعة الإنجليزية التي لاقت رواجا تجاريا كبيرا وتقف على آخر تقدم للعلوم في العصر، خرج المجلد الأول من الموسوعة الفرنسية عام 1751م، بمقدمة عن أصل العلوم وتصنيفها كتبها العالم الرياضي دالامبير
d’Alember (1717-1783م)، وقد كان الأشد تحمسا للموسوعة ومختصا بالأجزاء الرياضية فيها، في هذه المقدمة هاجم دالامبير بضراوة الميتافيزيقا وأيضا الدين، وأسهب في محاولة إثبات عدم جدواهما البتة، مما يوضح الاتجاه العام للتنوير ولموسوعته التي أثارت كثيرا من النقاش والجدل والشبهات والمصاعب القانونية، حتى بلغت حد الاستدعاء من قبل الشرطة للتحقيق وإنزال العقوبات بسبب ما تحمله من بصمات إلحادية سافرة؛ لهذا تراجع دالامبير بعد صدور المجلد الأول، بينما ثابر ديدرو حتى أخرج المجلد السابع عشر عام 1772م، يعاونه في هذا، ويكتب مقالات الموسوعة، أئمة عظام للتنوير من أمثال مونتسكيو
C. S. Montesquieu (1689-1755م)، صاحب «روح القوانين» الشهير، وقد كتب للموسوعة مقالا في «الذوق»، وجان جاك روسو
J. J. Rousseau (1712-1787م)، وفولتير
Voltaire (1694-1778م). إنهم الثالوث المبشر بالثورة الفرنسية، ومعهم سائر أقطاب الفكر الاجتماعي التقدمي في فرنسا آنذاك أمثال كوندرسيه ونايجون وتورجو ... إلخ.
وبطبيعة الحال، ساهم أيضا في تحرير الموسوعة دعاة التفكير العلمي الطبيعي الفرنسيون في القرن الثامن عشر. واللافت حقا أنهم اعتنقوا مذهبا متطرفا، ظنوه المذهب المتسق مع الروح العلمية والأمين عليها كل الأمانة، ألا وهو مذهب الواحدية المادية، الذي يعرف أيضا باسم المادية الكلاسيكية، ويبدو وكأنه المذهب الرسمي للموسوعيين الفرنسيين. وهذا المذهب - بصفة عامة - قد ارتبط ارتباطا خاصا بروح العلم في الفلسفة الحديثة؛ لذا يجمل بنا أن نتوقف إزاءه مليا.
ويمكن تعريف المادية بأنها المذهب الذي لا يعترف إلا بوجود المادة فقط، وجودا واقعيا مستقلا عن أية ذات عارفة، ويفسر كل شيء بالعلل المادية فقط، والمادة ذاتها لا تعتريها إلا تغيرات كمية، وتنتفي عنها أية تغيرات كيفية، وأحداث العالم هي الأوجه المختلفة للمادة المتحركة؛ لذلك استطاعت المعرفة العلمية المثبتة بالتجربة أن تنفذ نفاذا تاما إلى العالم وقوانينه.
هذا الوجود صيغ من مادة خالصة، المادة هي الأصل والأساس وستوجد كما هي، حتى ولو لم يكن ثمة أي عقل يدركها ويحكم بوجودها أو عدمه؛ وذلك ببساطة لأن الأرض - تلك الكتلة من المادة - موجودة كما هي قبل أن يستطيع أي عقل أن يدركها، بل حتى قبل أن يوجد عليها أي إنسان. المادة إذن سابقة على الفكر، والفكر ذاته ظاهرة لاحقة للمادة، فيرتد إلى عمليات فيزيائية ميكانيكية أو فيزيولوجية تجري في قطعة متعينة ومتحيزة من المادة اسمها المخ، وفقا لقوانينها الخاصة. وكما يوضح الفيلسوف اليساري الفرنسي المعاصر روجيه جارودي - قبل أن يصبح المفكر الإسلامي المتحمس المخلص رجا جارودي - عندما تعلن المادية أن المادة هي الواقع الأول والفكر هو الواقع الثاني، فإن هذا يعني أمرين: (1)
الفكر لا يمكن أن يوجد دون موضوع خارجي، أي لا بد من وجود العالم الخارجي مستقلا عن وعي الإنسان، ثم ينعكس في هذا الوعي، وما هو منعكس «الطبيعة أو المادة» يمكن أن يوجد مستقلا عن العاكس «العقل»، غير أن العاكس لا يمكن أن يوجد مستقلا عن المنعكس. (2)
الفكر لا يمكن أن يوجد دون شروط مادية هي المخ أو الدماغ.
1
بدت الواحدية المادية وكأنها تفضي بالضرورة إلى النظرة الميكانيكية الحتمية التي فرضتها فيزياء نيوتن واقترنت بحركة العلم الحديث، خصوصا، وأن الأقدمين - وإن عرفوا المادية - لم يفرقوا تماما بين العقل والمادة، ولم يعرف الإغريق عالما عقليا بلا مادة، ولا عالما ماديا منتظما بلا عقل. في القرن السابع عشر تغير كل هذا؛ إذ كان العلم يكتشف عالما ماديا بمعنى محدد تماما، عالما من المادة تتخللها الحركة في كل الاتجاهات ، حركة مطردة، بلا إضافات كيفية وقابلة للتكميم الرياضي، فلم تعد المادة المؤلفة للعالم الطبيعي مادة خاما بلا شكل، صنع منها كل شيء بفرض صورة أو علة صورية عليها - كما قال أرسطو - بل أصبحت الطبيعة المادية هي الحركة الكلية للأشياء المنظمة تنظيما كليا، وأفضت هذه النظرة إلى نتيجة صلبة في شكل علم فيزيائي استمد هيلمانه من الرياضة،
2
وكان هذا في نظر التنويريين الفرنسيين يعني: الواحدية المادية.
ويمكن إرجاع أصول الواحدية المادية المستقاة من النظرة العلمية إلى جيوردانو برونو
G. Bruno (1548-1600م)، وقد فعل هذا بتأويله للكوبرنيقية، رأى برونو أن كوبرنيقوس مجرد رياضي متمكن، ولم يفقه المعنى الحقيقي - أي المعنى الفلسفي - لاكتشافه، وراح برونو يوضح هذا المعنى للفلك الذي تقبله بحماس وحرق من أجله فيما بعد، فنفى أي اختلاف بين المادة السماوية والمادة الأرضية. ومد برونو نطاق هذا النفي - كما لم يفعل كوبرنيقوس نفسه - من النظام الشمسي إلى النجوم البعيدة في السماء، مقرا بنوع واحد من الاختلاف والتميز بين الأجسام المعتمة والأجسام المضيئة أو النارية، والأجسام جميعها تتحرك تبعا لنفس القوانين في حركة دائرية، رفض برونو قسمة أرسطو إلى عالم ما فوق فلك القمر وعالم ما تحت فلك القمر، ورفض أيضا فكرته عن المحرك الأول المنفصل الذي لا يتحرك الشبيه بالألوهية، وأكد برونو أن الحركة حالة داخل صميم المتحرك، العالم المادي بهذا متصور كمكان لا متناه، لا خلاء فيه، مملوء بمادة مرنة، هي التي أدت إلى فرض الأثير فيما بعد، في هذا الأثير عدد لا حصر له من العوالم المماثلة لعالمنا، تشكل في جملتها كونا لا يتغير هو نفسه ولا يتحرك، لكن يحوي داخل ذاته كل تغير وكل حالة، إنه المادة الحاوية للكل، غير المتغيرة، قاعدة كل تغير، مادة في قدرتها على الامتداد والحركة، وهي أيضا صورة أو روح الله في قدرتها على التواجد بذاتها.
3
وهذا نمط من وحدة الوجود
- أي النظر إلى الكون ككل واحدي - تطور في القرن السابع عشر في اتجاه جديد، هو فكرة عالم الطبيعة الحاكم لذاته
Self-regulating
بفعل قوانينه الداخلية، وهذا هو الاتجاه الذي ارتبط ارتباطا وثيقا - كما يوضح كولنجوود - بفكرة الطبيعة كآلة ميكانيكية، ارتباطا أفضى بصورة مباشرة إلى النظرة المادية للطبيعة التي تمخضت عن الواحدية المادية، وهي بدورها شكل آخر من وحدة الوجود، شكل عار مجرد بارد.
ولكن برونو على الرغم من إعلانه أن العالم ليس مقدسا بل ميكانيكيا، فإنه لم يتخلص تماما من النظرة الحيوية للطبيعة ككائن عضوي، والتي كانت سائدة قبل عصر العلم الحديث وتصوره الميكانيكي للطبيعة، فضلا عن أن برونو كان مفتونا بالفكر المصري القديم لدرجة الهوس، ففسر حركة الأرض حول الشمس تفسيرا مأخوذا من اتجاه في الحضارة الفرعونية يردها إلى طاقة الحياة. ولمثل هذه العناصر التي تبعد جيوردانو برونو عن الروح الحقيقية للعلم الحديث - كما يحاول مذهب الواحدية المادية أن يجسدها - يمكن اعتباره فقط مبشرا بالمذهب أو مساهما في تأسيس أصوله.
والواقع أن الصياغة المتكاملة لمذهب الواحدية المادية تستلزم بالضرورة التفسير المادي الميكانيكي للحياة ذاتها. وقد رأينا كيف كان هذا مراما هينا أحرزته علوم الحياة الحديثة بسهولة، وعلى الرغم من أن ديكارت معارض تماما للواحدية المادية، وأرسى دعائم ثنائية مكينة سيطرت على الفلسفة الحديثة، تؤكد جوهرية المادة وجوهرية العقل على السواء، فإن ديكارت مع هذا رأى أن كل الظواهر سواء حيوية عضوية أو لا عضوية قابلة بالضرورة للتفسير الميكانيكي، وأكد أن الجسم الحي لا يختلف عن أي جسم آخر فتحكمه خصائص الامتداد والشكل والحركة - كما أشار جاليليو في إرسائه لأصول علم الميكانيكا - بيد أن ثنائية ديكارت الحادة جعلت تفسيره الميكانيكي قاصرا على الحيوان دونا عن الإنسان ذي العقل والروح والإرادة.
ومن أجل اكتمال الواحدية المادية تماما، كان من الضروري إنكار جوهرية العقل، ومد نطاق التفسير الميكانيكي من ظواهر الحياة إلى ظواهر الوعي أيضا. وعلى هذا، كان ظهور الواحدية المادية بصورتها الفلسفية المتكاملة في إنجلترا مع توماس هوبز
T. Hobbes (1588-1679م)، وهو تلميذ لفرنسيس بيكون عمل مساعدا أو سكرتيرا له، وطبعا تأثر به وبالروح العلمية الناهضة. وقد أكد هوبز أن كل حدث يحدث في العالم إنما هو نوع من الحركة، حتى إن الإحساسات والأفكار ليست سوى حركات داخلية في جسم حي. وباطراد نجاح العلم وازدياد علم العلماء بالصلة بين الظواهر النفسية والظواهر البدنية، وتوقف الأولى على الثانية، ترعرعت المادية واتخذت صورا أكثر تحديدا ويقينا، فسار في ركاب هوبز جمهرة من مواطنيه، نذكر من الفلاسفة جون تولاند
J. Toland (1670-1722م) الذي عرف الفكر بأنه وظيفة من وظائف المخ، وكان من دعاة الدين الطبيعي. ومن العلماء روبرت هوك الذي رأيناه سلفا لنيوتن أقل حظا وقدرات رياضية، نظر هوك إلى الذاكرة كمجرد خزانة مادية، وزعم أن الفحص المجهري «الميكروسكوبي» لخلايا المخ يظهر أن فيه متسعا لنحو مليوني فكرة يحصلها الفرد البالغ أثناء حياته.
وانتقلت المادية من إنجلترا إلى القارة الأوروبية؛ لتصبح المذهب الرسمي للموسوعيين الفرنسيين الذين تفانوا في عرضها وتأكيدها كما لم يحدث من قبل، مسلمين بأن كل الظواهر الغير مادية كالفكر والانفعالات والروح وما شابه هذا، إما أنها وظيفة ثانوية للمادة أو أنها خرافة لا معنى لها. أخرج الموسوعي جوليان دي لامتري
J. Lamattri (1709-1751م) كتابه «الآلة الإنسانية»، الذي يعد من أكمل عروض الفلسفة المادية فيعزو إلى المادة القدرة على الحس والحركة. صحيح أن العقل هو العلة، لكنه مادي بالضرورة؛ لأنه متحيز في الجسم، وإذا كان يصعب علينا تصور قيام المادة بفعل التعقل فثمة أشياء أخرى كثيرة يصعب علينا تصورها. ويبحث لامتري في علم التشريح والمشاهدات الطبية عما يؤكد توقف الظواهر النفسية على الظواهر البدنية، وأن العقل مجرد وظيفة من وظائف المخ. وإلى مثل هذا ذهب أدريان هلفثيوس
A. Helvetius (1712-1771م)، وطبعا ديدرو نفسه الذي بدأ مؤمنا بالله، منكرا للعناية الإلهية، وانتهى إلى أن المادة اكتسبت الحياة والحركة بذاتها عن طريق التطور عن خلية أولى. وقد بلغت ماديته حدا جعله يشكك في قيمة الرياضيات وجدواها؛ ربما لأنها تقطع الصلة بالتجريب والتعامل الحسي مع المادة! وربما لأن العالم الرياضي دالامبير تراجع ولم يكمل معه الموسوعة! ثم أفرط الطبيب الفرنسي بيير كابانيس
(1757-1808م) في إرجاع الظواهر النفسية إلى العوامل المادية كالبيئة والمناخ والغذاء، وقال قولته الشهيرة: «المخ يفرز التفكير كما تفرز الكبد الصفراء!» ... وهذه صورة متطرفة يصعب قبولها، وإذا كان المخ يفرز التفكير، فبالتأكيد ليس كما تفرز الكبد الصفراء، بل بآلية مختلفة تماما وأكثر تعقيدا بما لا يقارن. وإلى مثل هذا التطرف انتهى الموسوعي هولباخ
(1723-1789م) وهو ألماني لكن قضى حياته في باريس وكتب بلغة فرنسية بليغة كتابه الضخم «نسق الطبيعة» 1770م، حيث يتحدث عن الطبيعة بنفس اللهجة التي يتحدث بها المؤمنون عن الله، ويحارب أي موجود فائق للطبيعة، فلا وجود إلا للمادة والحركة، وهما أزليتان أبديتان، خصائصهما هي القوانين الطبيعية الضرورية، ولا مصادفة ولا تدبير إلهي ولا غائية ولا نفس ولا حرية للإنسان؛ لأنها إنكار للنظام في الطبيعة، ويختتم كتابه - كما يقول كولنجوود - بما لا يزيد أو ينقص عن الصلاة للمادة، بحيث إن تغيير كلمة أو كلمتين يعطي صورة لصلاة مسيحية. هكذا كانت الواحدية المادية من جبهات المواجهة بين العلم والدين، ولله في خلقه شئون!
وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلت الواحدية المادية، على الرغم من شديد اتساقها في حدودها مع الفيزياء الكلاسيكية ونظرتها الميكانيكية الحتمية للكون، لا تلقى رواجا كبيرا، كانت مجرد تيار من تيارات الفلسفة الحديثة التي غلب عليها بصفة عامة الثنائية الديكارتية، ثنائية المادة والعقل، فضلا عن أن القرن التاسع عشر شهد مادية أخرى أكثر حركية وتطورا من تلك المادية الواحدية أو الكلاسيكية، إنها «المادية الجدلية» التي لا تكتفي بأن تعزو إلى المادة تغيرات كمية، بل تعزو إليها أيضا تغيرات كيفية، وقد وضعها كارل ماركس
K. Marx (1818-1883م) برفقة فردريك إنجلز
F. Engels (1820-1895م) في محاولته لجعل التاريخ علما دقيقا، تماما كما جعل نيوتن الفيزياء علما دقيقا. فوضع ماركس أساسا منهجيا لتفسير مراحل التاريخ هو هذه المادية الجدلية. وقد بلغها عن طريق تطوير منهج أستاذه العظيم هيجل
F. Hegel (1770-1831م) المنهج الجدلي، أو قلبه ليقف على قدميه الماديتين، بعد أن كان يقف على رأسه المثالي مع هيجل. وعن طريق المراحل الثلاث للمنهج الجدلي: القضية أو الوضع، ثم النقيض، ثم المركب الشامل الذي يجمع خير ما في النقيضين ويتجاوزهما إلى الأفضل - يزعم ماركس أن التاريخ انتقل من المرحلة الإقطاعية إلى النقيض؛ وهو المرحلة البرجوازية الرأسمالية، وتغدو المرحلة الجدلية الثالثة هي المرحلة الشيوعية التي تجمع خير ما في النقيضين وتتجاوزهما إلى الأفضل، آتية حتما، وفقا للحتمية الشاملة التي ألقاها العلم على الوجود.
وإذا عدنا إلى عصر التنوير، حيث استبدت الواحدية المادية بمجامع الموسوعيين الفرنسيين، نجدها لم تلق هوى مع التنويريين الألمان. على العموم بلغ التنوير الألماني الذروة الشاهقة مع إيمانويل كانط
I. Kant (1724-1804م) شيخ الفلسفة الحديثة بلا منازع، تقوم فلسفته على الثنائية الشائعة، فيفرق بين الأشياء في ذاتها «النومينا» والأشياء لذاتها «الفينومينا»، النومينا موضوع الميتافيزيقا، أما الفينومينا أو الظواهر فهي موضوع العلم. ووضع كانط نظرية للمعرفة، هي علامة فارقة في تاريخ الفلسفة، وفي الوقت نفسه أقوى تمثيل لروح الفيزياء النيوتينية والعلم الحديث، وتقوم على عنصرين: هما العقل والحس، فالمقولات العقلية تتلقى المدركات الحسية لتشكلها في صورة معرفة بعالم الظواهر، وعبر كانط عن هذا بقوله الشهير: «المقولات بدون المدركات الحسية خواء، والمدركات الحسية بدون المقولات عمياء.» وعلى أساس من انسحاب الضرورة الرياضية إلى حتمية فيزيقية، سلم كانط بأن القضايا الفيزيائية تماما كالقضايا الرياضية، مطلقة يقينية ضرورية الصدق، والفارق الوحيد أن قضايا الرياضة قبلية - أي قبل الخبرة الحسية وسابقة عليها، بينما قضايا الفيزياء بعدية.
هكذا صاغت التجريبية الإنجليزية روح العلم، ثم أفرط التنوير الفرنسي في محاولة إنضاجها حتى كادت تحترق، وأعطتها قمة التنوير الألماني أصفى بلورة لها بنظرية كانط التي عينت حدود العلم بعالم الظواهر، أي الفينومينا، وأوضحت أن النومينا - موضوعات الميتافيزيقا - غير قابلة للإدراك.
فأصبحت أجواء النصف الأول من القرن التاسع عشر مهيأة لطرح الأساس والخلفية المكينة التي سوف تنطلق منها فلسفة العلم، ألا وهي «الفلسفة الوضعية
» التي تعني الاقتصار على ما هو موضوع
أمامنا في العالم الواقعي التجريبي، ورفض أية استنتاجات فلسفية أو ميتافيزيقية تتجاوز هذه الحدود، انطلاقا من رفض كل ما لا يتحقق تجريبيا.
وكان هذا الطرح في فرنسا، وأول من استخدم لفظ وضعي
هو المفكر الطوباوي المبشر بالدراسة العلمية للإنسان والمجتمع سان سيمون
Saint-Simon (1760-1825م)، أراد أن يجعل العلم شريعة البشرية وناموسها ودينها الجديد؛ لأنه طريق الخلاص الحقيقي للإنسانية، وكان التفكير «الوضعي» مع سان سيمون يمثل اتجاها إيجابيا (كما يفيد معنى اللفظ) مقابلا لأخلاق المسيحية السلبية، ويجب أن يحل محل الأفكار الخارقة للطبيعة والميتافيزيقية.
ثم أتى تلميذ سان سيمون وسكرتيره، أوجست كونت مؤسس علم الاجتماع ليضع الصياغة المعتمدة للمذهب الوضعي. انتقد كونت الواحدية المادية، لكنه بالطبع تجريبي اعتبر الميتافيزيقا من مخلفات الماضي، ويجب أن نستبدل بها القوانين العلمية، أي العلاقات الثابتة بين الظواهر، ومن أجل هذا صاغ الوضعية بوصفها أساس ومنهاج ومنطق التفكير في المرحلة العلمية، تعتمد على الملاحظة الحسية وترفض تجاوزها، وتنكر الفلسفة في صورتها التقليدية كرؤية للعالم؛ اكتفاء بالتفكير الوضعي الواقعي المباشر النسبي المقيد بالمعطى التجريبي. وأصبحت الوضعية فلسفة ظاهرية متطرفة، أي مقتصرة فقط على الظواهر البادية للملاحظات الحسية، حتى ذهب كونت إلى أن العلم ذاته وصف محض ولا شأن له بالتفسير، وهدف العلم هو التنبؤ، وإنجاز هذا الهدف يعتمد على الوصول إلى قوانين تعاقب الظواهر وفقا للعلية.
وظلت الوضعية حاضرة قوية في الفلسفة الفرنسية بفضل أتباع كونت المخلصين، خصوصا إميل ليتريه وبيير لافيت. اعتبر ليتريه
E. Littre (1801-1881م) نفسه من أشياع الفلسفة الوضعية، وأصدر عام 1867م مجلة «الفلسفة الوضعية» التي استمرت حتى عام 1883م، لكنه يعرض الوضعية لمنظار النقد ويعدد مناقصها في مجالات الأخلاق والجمال وعلم النفس، ويعدل ويرفض بعض جوانبها خصوصا منظورها السياسي. من ثم كان لافيت
(1823-1903م) أكثر تكرسا للوضعية. وتحت تأثير تنميط كونت الثلاثي لمراحل تطور الفكر البشري، أخرج لافيت كتابه «الأنماط الكبرى للإنسانية»، ومثلما وضع كونت «محاضرات في الفلسفة الوضعية» وضع لافيت كتابه «دروس في الأخلاق الوضعية». وكما أشرنا حين الحديث عن جورج سارتون (في الفصل
الأول ) فإن تنميط كونت لمراحل الفكر البشري من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الميتافيزيقية وصولا إلى المرحلة العلمية الوضعية، يوعز أهمية تاريخ العلم. وقد أنشئ كرسي التاريخ العام للعلوم في الكوليج دو فرانس عام 1892م من أجل بيير لافيت، شغله حتى وفاته عام 1903م، وكان قد أصدر «المجلة الغربية
Revue Occidental »
4
عام 1878م؛ لتكون معبرة عن الفلسفة الوضعية بوصفها اتجاها عاما للحضارة الغربية.
والواقع أن الوضعية إلى حد كبير هكذا، لقد صيغت في فرنسا كتجسيد لروح العلم التي انتشرت في أوروبا، فلا تنفصل البتة عن اتجاه جون ستيوارت مل وهربرت سبنسر في إنجلترا أو اتجاه أفيناريوس وماخ في ألمانيا وأمثالهم، وسوف نعرض لهم لاحقا. ولكن الآن - في تلك الحقبة من القرن التاسع عشر - قد نشأت فلسفة العلم، وفي سياقها كمبحث تخصصي، ثم احتواء الروح الوضعية في إطار صورة أكثر منهجية، تعرف بالنزعة الاستقرائية، وهي بالنسبة لنا بيت قصيد.
ثانيا: نشأة فلسفة العلم
كل هذه الاستجابات القوية لروح العلم التي رأيناها، كانت موزعة بين مباحث الفلسفة ومناحي الفكر الإنساني الذي رام أن يكون تقدميا، وباستثناء عمل فرنسيس بيكون «الأورجانون الجديد» عام 1620م ظل السؤال عن الإبستمولوجيا العلمية مطروحا في إطار انشغال الفلسفة بنظرية المعرفة عموما، وبعد أن صيغ مصطلح العالم
Scientist
فقط في عشرينيات القرن التاسع عشر لتعيين ذلك النشاط المعرفي الاحترافي، حينئذ فقط ترسمت حدود ومعالم فلسفة العلم كمبحث تخصصي مستقل ومتميز وتوالت أدبياتها، بوصفها نشاطا يهدف إلى تكوين معرفة بالمعرفة العلمية أو نظرية عن النظرية العلمية.
فلم تكن صياغة مصطلح العالم مجرد مفردة أضيفت للقاموس، بل كانت دلالة واضحة على أن البحث العلمي قد ترسمت معالمه الراسخة بوصفه منشطا ذا حدود مهنية قاطعة وآليات متعينة ووسائل نافذة تحكم عملية إنتاج منتظمة وراهنة للمعرفة. باختصار انتصب مارد النسق العلمي كفعالية جبارة، ترتكز على منهج محدد عمادة التجربة، فتبلورت فلسفة العلم لتصبح الوسائل المعرفية نفسها - أي المنهج العلمي - مادة بحث.
وساد الإجماع آنذاك ولحقبة طويلة لاحقة على أن المنهج العلمي هو الاستقراء الذي رأيناه بصفة مبدئية تجريدا وتجسيدا لروح العصر الحديث بأسرها، وعلينا الآن أن نقف عليه كما بلورته فلسفة العلم بوصفه منهج العلوم التجريبية الإخبارية التي تضطلع بالإخبار عن هذا الواقع، سواء فيزيوكيماوية أو حيوية أو إنسانية.
والمنهج
Method
بصفة عامة هو الطريقة،
5
بمعنى الطريق الواضح الذي يفضي إلى غاية مقصودة، فيكون المنهج طريقا محددا لتنظيم النشاط من أجل تحقيق الهدف المنشود. والمنهج العلمي هو طريقة تنظيم عملية اكتساب المعرفة العلمية، إنه المبادئ التنظيمية الكامنة في الممارسات الفعلية للعلماء الذين انخرطوا بنجاح في إنتاج المعرفة العلمية والإضافة لنسق العلم.
وكان المنهج العلمي التجريبي هو الاستقراء. الاستقراء في اللغة هو التتبع، ومن استقرأ الأمر فقد تتبعه لمعرفة أحواله. وعند التطبيقيين هو الحكم على الكلي لثبوت ذلك الحكم في الجزئي،
6
إن منهج الاستقراء
Induction
هو المقابل تماما لمنهج الاستنباط
deduction ، فهذا الأخير استدلال هابط يبدأ من مقدمات كلية ويهبط منها إلى نتائج جزئية تلزم عنها بالضرورة، وبغير حاجة إلى تجريب، ويظل دائما - في صورته المثمرة - منهج العلوم الصورية
Formal Sciences
كالمنطق والرياضيات. وكان القياس الأرسطي إحدى صوره المجدبة، أما الاستقراء - منهج العلوم الإخبارية
informal sciences - فهو استدلال صاعد، يبدأ من ملاحظة جزئيات تجريبية ليصعد منها إلى صيغة كلية على هيئة قانون عام يحكم جميع الحالات المتماثلة أينما وقعت ووقتما وقعت. فإذا حدثت الظروف التي لوحظ أنها توجب وقوع الظاهرة أمكن التنبؤ بحدوثها. هكذا نجد الاستقراء في جوهره عملية تعميم للملاحظات التجريبية، وهذا التعميم يستند على مبدأين هما - أولا - قانون العلية ، أي إن كل ظاهرة لها علة سببتها، فتنتظم أحداث الكون في تسلسل علي، وثانيا - قانون اطراد الطبيعة، بمعنى أن ظواهر الطبيعة تجري بشكل مطرد على وتيرة واحدة لا تتغير، ما حدث اليوم سوف يحدث غدا وإلى الأبد. فكل شيء حدث وسوف يحدث هو مثال لقانون عام لا يعرف الاستثناء طالما أنه محكوم بعلاقة علية ضرورية، وكما رأينا في عرض إبستمولوجيا العلم الحديث، هذان القانونان - العلية والاطراد - وجهان لعملة واحدة طالما أن العلية لا تعدو أن تكون اطراد التعاقب في الطبيعة، وذلك في إطار الحتمية الكونية الشاملة.
وبلغ الإيمان بالاستقراء كقواعد تنظم عملية إنتاج المعرفة العلمية حدا جعل فلاسفة العلم يتبارون في تحديد خطوات الاستقراء وترتيبها تصاعديا وصولا إلى الكشف أو النظرية العلمية. وأهم ما في هذا الترتيب أن الخطوة الأولى هي الملاحظة التجريبية، فلا بد أن يبدأ العالم بملاحظة عدة أمثلة للظاهرة موضوع الدراسة، ملاحظة دقيقة مقصودة منتقاة وهادفة، مرتبة ومتواترة، تتصف طبعا بالنزاهة والموضوعية والدقة التي توجب استخدام الأجهزة المعملية إلى أقصى حد ممكن وصولا للتكميم الدقيق، وما التجربة المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها، وهناك علوم تعتمد على الملاحظة فقط كالفلك والجيولوجيا، وعلوم تعتمد على التجربة فقط كالفيزياء والكيمياء، وعلوم تجمع بين الاثنتين كعلوم الطب والحياة.
الخطوة الثانية للمنهج العلمي التجريبي هي التعميم الاستقرائي للوقائع التي لوحظت، فإذا اشتعل الخشب كلما تعرض للهب في سائر الوقائع التي لوحظت، أمكن الخروج بالتعميم الاستقرائي: الخشب قابل للاشتعال، وعلى سبيل المثال، أجرى باستير ملاحظات عديدة على مواد قابلة للفساد، تعتبر مثالا يحتذى للتجريب العلمي، وخرج بتعميم استقرائي لها في صور القانون: لا تفسد المواد القابلة للفساد إلا إذا تركت مكشوفة. والخطوة الثالثة للمنهج الاستقرائي - كما صاغه فلاسفة العلم - هي افتراض فرض يعلل أو يفسر هذا التعميم، كافتراض أن الخشب قابل للاشتعال؛ لأنه يتحد بالأكسجين، أو افتراض باستير أن الهواء يسبب الفساد؛ لأنه يحتوي على كائنات دقيقة. والخطوة الرابعة هي التحقق من صحة الفرض، لا بد أن يكون من الناحية المنطقية قادرا على حل المشكلة المطروحة للبحث ومتسقا مع ذاته، ومع القوانين العلمية الأخرى المعمول بها. وتبرز محورية التجريب مجددا حين نجد أن إنجاز هذه الخطوة يكون بإثبات الفرض أو دحضه، عن طريق اختباره تجريبيا، ويكون قبول الفرض أو تعديله، أو رفضه والبحث عن فرض آخر إذا تم دحض، كل هذا وفقا لنتائج محكمة التجريب، تنفيذ حكمها يعني الخطوة الأخيرة للمنهج، وهي بلوغ معرفة جديدة والإضافة إلى بنيان العلم.
ولا نحسبن أحدا من فلاسفة العلم المحترفين آنذاك قد اعتقد حقا أن هذه المصفوفة لخطوات المنهج الاستقرائي (ملاحظة ثم تعميم، افتراض فرض، التحقق منه، البرهان أو الدحض وبالتالي المعرفة) الشائعة في الكلاسيكيات البائدة لفلسفة العلم التجريبي هي المفتاح الذهبي للإنجاز في العلم، كما تصور بيكون من قبل. الواقع أنها لم تكن إلا تبريرا
Justification
للقانون العلمي وتمييزا للمعرفة العلمية. إنها معيار يلحق بنتيجة جاهزة، فقد انطلق فلاسفة العلم التجريبيون المتطرفون من هاجس الافتتان بالنسق العلمي في حد ذاته؛ لتغدو فلسفة العلم معنية فقط بتبرير المعرفة العلمية كما هي معطاة. وهذا التبرير يستند أولا وأخيرا على إحكام العلاقة بين الوقائع التجريبية والنظرية العلمية أو القانون العلمي، وكيفية الانتقال من هذه إلى تلك، وما ينبغي أن نلاحظه هنا أن «تاريخ العلم» يغدو مسألة ثانوية أو جانبية، ليس من شأنها أن تلقي الضوء على النسق العلمي الذي تفجر ألقه، أو أن تساهم في تعميق النظرة إليه، فضلا عن دفع معدلات تقدمه واستشراف آفاقه، وأصبح هذا هو الموقف السائد المعترف به لفلسفة العلم وإلى ما بعد منتصف القرن العشرين بعقد من الزمان.
إذن فحين تبلورت فلسفة العلم وأصبحت وسائل المعرفة العلمية ذاتها مادة بحث - أي حين انفصل النشاط النظري الهادف إلى تكوين نظرية عن النظرية العلمية - انحصر هم فلاسفة العلم في أطر المنهج من حيث هو تقنين للانتقال من التجربة إلى القانون، وداروا بين رحى جهاز من المفاهيم رأوه قادرا على تبرير المعرفة العلمية، بوصفها معرفة صدقها أفضل ما يمكن أن يوثق به. وفي إطار منطق التبرير اللاتاريخي الذي ازدهر وساد طوال القرن التاسع عشر، تنامت مباحث فلسفة العلم، وأينعت نظرياتها حول المنهج العلمي وخطواته ومصادراته وطبائعه، ومقولاته العلمية كالحتمية والعلية واليقين والاحتمالية، ووظيفة العلم بين الوصف والتفسير والتنبؤ، وطبيعة القانون العلمي، وترسخ الاتجاه نحو اعتبار النظرية العلمية أساسا مجرد تعميمات استقرائية، خصوصا وأن هذا الاعتبار ملائم تماما للفيزياء الكلاسيكية، وهي لم تقتحم بعد عالم ما دون الذرة وتتعامل مع كون فيزيائي كل شيء فيه قابل للملاحظة الحسية، فما أيسر أن نلاحظ ثم نعمم؛ لذا ساد المرحلة الأولى من فلسفة العلم هذا الاتجاه التبريري اللاتاريخي، المواصل لمسار الفلسفة الوضعية، والمفرط في الارتكاز على المنهج الاستقرائي بصورته التقليدية التي تصر على البدء بالملاحظة، وتجعل نسق العلم بناء مشيدا على أسس صلبة هي الملاحظات أو الوقائع التجريبية. وهذا الاتجاه هو ما يعرف بالمذهب الاستقرائي أو النزعة الاستقرائية
Inductivism ، على أن نلاحظ الفارق بين المنهج الاستقرائي والمذهب الاستقرائي.
أجل، كان الاستقراء آنذاك مسلما به بوصفه منهج العلوم التجريبية، لكن الاقتصار عليه فقط، والارتكاز على حجة تعميم الوقائع التجريبية بوصفها تبريرا كافيا للمعرفة العلمية، هو تجريبية متطرفة انتهى إليها أصحاب النزعة الاستقرائية. إنهم الاستقرائيون الخلص، أو أكثر الاستقرائيين استقرائية التجريبيون المتطرفون، وأكثرهم تطرفا جون ستيوارت مل، أبرز من تفانوا في صياغة الاستقراء كمنهج وكمذهب.
وعلى الرغم من أنه يصعب إرجاع التوجهات الفكرية السائدة إلى اعتبارات شخصية، فضلا عن أن العلم بالذات هو الذي علم البشرية كيف تكون العوامل الموضوعية، إلا أنه لا يمكن فصل سيادة النزعة الاستقرائية التبريرية اللاتاريخية عن قوة شخصية جون ستيوارت مل، وانتصاره في المناظرة بينه وبين وليم هيوول في أواسط القرن التاسع عشر، وانتهت بالغلبة لمل وفريقه التجريبي المتطرف، بينما توارى في الظلام وليم هيوول ورؤاه الثاقبة.
ربما كان جون ستيوارت مل أكثر تعبيرا عن روح العصر الوضعي، بينما كان هيوول سباقا لعصره. على أية حال، فإن المناظرة أو المقابلة بينهما تعد نقطة البدء والمرحلة الأولى الريادية لفلسفة العلم كنشاط فلسفي مستقل ومتميز عن فروع الفلسفة الأخرى؛ لذا يجمل بنا التوقف عند كل من طرفيها. وصحيح أن وليم هيوول - الأقل حظا وشهرة - هو الطرف المغلوب، إلا أنه الأكبر سنا والأسبق في الإنتاج، ويمكن أن نقول وأيضا الأبعد نظرا؛ لذلك سوف نبدأ به، ثم ننتقل إلى جون ستيوارت مل واتجاهه الذي ساد، فيمكن في إثره أن نتتبع مسار فلسفة العلم وتطوراتها. وفي أعقاب مل، لا بد من العود إلى فرنسا والإشارة إلى نظرية كلود برنار المنهجية؛ لأنها تعد من المعالم البارزة في مسار نظرية المنهج التجريبي آنذاك، والتي رأيناها صلب فلسفة العلم. إن فلسفة العلم في منتصف القرن التاسع عشر تكاد تكون موزعة بين إنجلترا وفرنسا، مع بضعة إسهامات لاحقة من ألمانيا. فهل جزافا أن كانت إنجلترا وفرنسا آنذاك سيدتا العالمين، تتباريان لاقتسامه واحتلاله، أم إن الأمر كما قال فرنسيس بيكون منذ البداية: العلم قوة؟
ولد وليم هيوول
W. Whewell (1794-1866م) في لانكستر، وتوفي في كمبردج بعد أن قضى معظم حياته في جامعتها، طالبا وزميلا وأستاذا بكلية ترنتي «الثالوث» العريقة، حيث شغل منصب أستاذ كرسي فلسفة الأخلاق، وقبل أن يكون فيلسوف علم رائدا، كان أيضا عالما وعضوا في الجمعية الملكية للعلوم، وبفضله وضعت الجمعية مصطلح عالم
Scientist . درس علم المعادن، وله أعماله في الفلك والفيزياء العامة والميكانيكا، قيل عنها: إنها أساسا كتابات تعليمية، ولكنه ساعد فاراداي في وضع عدد من المصطلحات الهامة في مجال الصلة بين الكهرباء والتحاليل الكيميائية.
وهو أيضا مؤرخ للعلم، في عصره الذي لم يعن بتاريخ العلم إلا قليلا، وتركه للمحاولات الفردية. أصدر هيوول في عام 1837م «تاريخ العلوم الاستقرائية» في ثلاثة مجلدات تمتد من أقدم العصور حتى عصره الراهن. وطبعا في سياق النعرة الأوروبية الممهدة لعصر الاستعمار الوبيل، تكون أقدم العصور هي العصور الإغريقية، ثم السكندرية، الكتاب يستبعد الإشارة لما هو خارج مسار ونطاق الحضارة الغربية. ثم أصدر عام 1840م كتابا آخر بعنوان «فلسفة العلوم الاستقرائية المؤسسة على تاريخها»، وفي مواجهة النزعة الاستقرائية التجريبية المتطرفة اللاتاريخية، يؤكد هذا الكتاب أن فلسفة العلم لا تدرك المنهج العلمي حق الإدراك إلا من خلال فاعليته عبر تاريخ العلم؛ لذلك يتلاحم في عنوان الكتاب الطرفان: تاريخ العلوم الاستقرائية وفلسفة العلوم الاستقرائية. وصدرت لهذا الكتاب طبعة ثالثة مزيدة وموسعة تحت ثلاثة عناوين مستقلة: الأول «تاريخ الأفكار العلمية» في مجلدين عام 1858م، والثاني في نفس العام بعنوان «إحياء الأورجانون الجديد»، والثالث «في فلسفة الكشف» عام 1860م؛ حيث يعرض نظرية جون ستيوارت مل المنهجية للنقد الشديد.
والوعي التاريخي الذي سبق به هيوول فلسفة العلم في عصره، يتجلى بقوة في الكتاب الأول «تاريخ الأفكار العلمية» يقول: إنه عنوان فرضته طبيعة المادة المعروضة ومضمونها، وإنه استقى هذه المادة من صلب الأعمال الكبرى خلال تاريخ العلم وهو بصدد إعداد كتابه الأول «تاريخ العلوم الاستقرائية» الذي يعرض لتاريخ العلم بقدر ما هو معتمد على الوقائع والملاحظات، بينما «تاريخ الأفكار العلمية» يعرض لتاريخ العلم بقدر ما هو معتمد على الأفكار والمفاهيم والتصورات. ويوضح الكتاب أن مناقشة النظريات تهدف إلى جعلها متسقة مع شروط وظروف التفكير البشري. ومن ثم يناقش الكتاب تاريخ المفاهيم العلمية الكبرى كالمكان والزمان والعدد والحركة والعلة والقوة والمادة والوسط والكثافة والعنصر والانجذاب والجوهر والذرة والتماثل والمشابهة والأنواع والحياة والوظيفة والقوى الحيوية والعلل الغائية والعلة الأولى ... ويؤكد هيوول أن المناظرات حول التحديد الدقيق لهذه الأفكار أو المفاهيم وخصائصها ودورها تشكل القطاع الأساسي من تاريخ العلم وأيضا من فلسفته، ولن تكتمل أية فلسفة للعلم بدون أن تضع حلولا للإشكاليات والصعوبات والتناقضات التي تثيرها المناظرات حول هذه الأفكار والمفاهيم؛ لذلك حاول هيوول عبر صفحات الكتاب أن يوضح الأصول الباكرة لهذه المفاهيم وتطوراتها حتى وصولها إلى الأشكال التي اتخذتها في القرن التاسع عشر، موضحا ما بدا له من حل أمثل لكل إشكالية تثيرها تلك المناظرات، وقد تأدى به الأمر إلى التوغل أحيانا في أعماق الميتافيزيقا، مؤكدا أن مثل هذه الميتافيزيقا جزء جوهري من تقدم العلم،
7
في مواجهة الوضعية والنزعة الاستقرائية التي تقصف تماما الأبعاد الميتافيزيقية.
هكذا أعطانا وليم هيوول فلسفة للعلم قائمة على الوعي بتاريخه، مخالفا بهذا النزعة الاستقرائية التجريبية المتطرفة باتجاهها اللاتاريخي المقتصر على النسق العلمي كمنجز راهن. وبالتالي لا بد أن تكون نظرة هيوول للمنهج التجريبي مختلفة.
بداية سلم هيوول بناموس العصر: الاستقراء كما هو واضح من مجرد عناوين كتبه، لكن الوعي التاريخي الذي تسلح به جعل المنهج التجريبي معه - ولنقل الاستقراء - أكثر حيوية وتبصرا من الاستقراء التقليدي القائم على تعميم الملاحظات المستقرأة، الذي اعتمدته النزعة الاستقرائية، فيقول هيوول: إن دراسة تاريخ العلم تكشف عن عملية استقرائية لا تماثل البتة حجة التعميم التي يتمسكون بها، بل ثمة ربط للوقائع التجريبية من خلال مفهوم عقلي عبقري. من هنا أكد على نقطة غامضة
Mysterious Point
في الانتقال من الملاحظة إلى القانون، وأوضح أن الفروض العلمية بالأمس قد تبدو اليوم في صورة وقائع تجريبية. إنها نظرية عقلية تم إدراكها؛ لذلك قيل: إن فلسفة هيوول عقلانية استقرائية
Inductive Rationalism .
8
لقد صحبه في السنوات الأخيرة من عمره شعور حاد بأن الاستقراء لا يكفي. لم يكن عصره يسمح بإسقاط الاستقراء، فاكتفى هيوول بأن الاستقراء والاستنباط يصعدان ويهبطان نفس الدرج. وعلى أساس المفهوم العقلي العبقري أو النقطة الغامضة، عمل هيوول على تطوير المنهج التجريبي؛ ليتخذ صورة المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يعني إبداع فروض علمية ثم اختبارها تجريبيا، والحكم عليها والاختبار بينها وفقا لنتائج التجريب. ولم تعرف قيمة هذه الدعوة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، حين تبلورت صورة المنهج التجريبي بوصفه اختبارا للفروض وليس البتة تعميما لوقائع مستقرأة، وأصبحت الأطراف المعنية تتفق على أن المنهج التجريبي هو المنهج الفرضي الاستنباطي؛ لذلك قلنا: إن هيوول سبق روح عصره.
لقد أدرك بجلاء أن المسألة أعمق من التعميم الاستقرائي، وأن المعرفة العلمية ليست محصلة التجريب، بل محصلة تفاعل العقل مع معطيات الحواس. وبينما انشغل أصحاب النزعة الاستقرائية بالوقائع الجزئية الملاحظة، انشغل هيوول بإبداع الفرض العلمي وبالنظرية ودور العالم وإمكانياته العقلية، مؤكدا خطأهم في إهمال الفرض والتعويل على التعميم. من هنا صب جون ستيوارت مل جام نقده على هيوول، واعتبر فكرة الفرض عنده تأثرا منه بكانط ونزوعا نحو المثالية الألمانية.
9
فتراجعت نظرية هيوول الأكثر نفاذا واستبصارا التي تقرر دور العقل الإنساني المحوري في الإنجاز العلمي، مثلما تراجعت رؤيته لفلسفة العلم المسلحة بتاريخه، وساد الاتجاه المقابل لأصحاب النزعة الاستقرائية التبريرية اللاتاريخية. إنهم التجريبيون المتطرفون، وقد التفوا حول علم أعلام فلسفة العلم آنذاك، جون ستيوارت مل، بكل ما ملكه من ألق اجتماعي ومقام رفيع يغرينا بأن نتعرف على شخصيته كمدخل لعرض فلسفته للعلم التي سادت.
لقد قيل: إن حياة جون ستيوارت مل
J. S. Mill (1806-1873م) تلخيص لمسار الأمة الإنجليزية في تلك الحقبة من العصر الفيكتوري - حكم الملكة فيكتوريا - الذي يعد من أزهى عصورها. وكان مل رفيع الخلق، جم الفضائل، مرهف المشاعر، وإذا كانت قدراته الإبداعية محدودة فإنه أنموذج للباحث الجاد والمفكر الملتزم، ومحل احترام وإكبار من الخصوم قبل الأنصار ومن الأعداء قبل الأصدقاء، وقد نشئ تنشئة خليقة بإخراجه هكذا، فأبوه جيمس مل (1773-1836م) من أعلام فلاسفة عصره، أدرك منذ نعومة أظفار ولده تألق قواه العقلية، فاستشعر المسئولية إزاء تربيته وتثقيفه وإعداده للمهام الفكرية، لم يأل الأب جهدا ولا وقتا من أجل هذا، وبلغ إحساسه بالمسئولية إزاء الطفل النجيب أن استبد به الخوف من أن توافيه المنية قبل أن يتم تنشئته، فأهاب بصديقه الفيلسوف الأبعد منه صيتا وأثرا جيرمي بنتام
J. Bantam (1748-1832م) بأن يشاركه العبء في حياته، وأن يتكفل بالفتى إن هو توفي، فرحب بنتام بهذا، غير أنه قضى نحبه قبل صديقه جيمس مل بأربع سنوات!
ومن جراء هذا نشأ الصبي بين طوفان من عوالم المعرفة، ينهل على عقليته بمنهجية وإحكام، فأتقن اليونانية قبل أن يتم عامه الثامن واطلع على تراثها الزاخر، وتراث الرومان. علم نفسه الرياضيات واتصل - طبعا - بمنجزات العلوم في عصره. قرأ كثيرا في التاريخ والقوانين وأصول التشريع والاقتصاد السياسي، وانتابته أزمة نفسية عنيفة في العشرين من عمره، خرج منها بأهمية الشعر والأدب. وبينما بدت الفلسفة الألمانية في نظره كتابا مغلقا بسبعة أختام لم يجد في نفسه أدنى رغبة لفضها، فتن فتنة شديدة بالحضارة الفرنسية وأتقن لغتها وتتبع منجزاتها، وكان كثير التردد على فرنسا. أمضى جون ستيوارت مل حياته في قصة حب رومانسية غريبة لليدي هارييت تيلور التي ما فتئ يعدد مناقبها وأياديها البيضاء على إنجازاته الفكرية. ظل أكثر من عشرين عاما ينتظرها، حتى توفي زوجها عام 1849م وتزوجها جون ستيوارت عام 1852م وبعد ست سنوات أسلمت الروح وكانا في فرنسا، فواراها التراب هناك واشترى منزلا بجوار قبرها المحبوب. كان صديقا لأوجست كونت، رفيقه في نفس المنطلقات. ألف مل عام 1865م كتابا عن فلسفته الوضعية وناصره بحماس في دعواه بضرورة إخضاع العلوم الاجتماعية للمنهج التجريبي.
كان جون ستيوارت مل قد عمل في مطلع حياته بشركة الهند الشرقية، وتدرج في مناصبها حتى وصل إلى أعلاها. ولما حلت الشركة عام 1858م وصار البرلمان الإنجليزي هو الذي يحكم الهند، وعم الفرح في إنجلترا بالجوهرة التي ظفر بها التاج البريطاني، كان مل - وهو عضو بالبرلمان في ذلك الوقت - من أعنف المهاجمين لهذا والمنددين بالاستغلال الوحشي للهند، والمطالبين بترك حكم الهند لأهلها! ولا غرو، فقد اقترن اسم مل بتمجيد الحرية واحترام رأي الفرد وحقوقه. ويعد كتابه «في الحرية 1859م» دستورا للنظام الديمقراطي للحكم في إطار ليبرالي. واتخذ في الأخلاق المذهب الذي ورثه عن أبيه وأستاذه بنتام، مذهب المنفعة العامة الذي يعني أن هدف القيم الأخلاقية هو تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. وفي النهاية أخرج مل كتابه «استعباد النساء 1869م» الذي يعد المقدمة الحقيقية لاستقلال المرأة في القرن العشرين. لقد عاش مل ملء الأسماع والأبصار، فهل ساعد هذا على التمكين للنزعة الاستقرائية؟!
فقد كان جون ستيوارت مل متطرفا في تجريبيته حتى بلغ إيمانه بالاستقراء مبلغا لم يبلغه أحد من قبله ولا من بعده، فالاستقراء عنده الطريق الوحيد الذي لا طريق سواه، ليس فقط للمعرفة العلمية، بل أيضا لكل وأية معرفة صحيحة أو حقيقية. وباختصار كل مكونات الذهن ومحتوياته مجرد تعميمات استقرائية، لا يستثنى من ذلك شيء البتة، حتى قوانين الرياضة «2 + 2 = 4»، وقوانين الفكر الصورية مثلا «أ هو أ» ... كلها ليست إلا تعميمات استقرائية لكثرة ما لاحظته حواسنا من أن اقتران 2 و2 ينتج عنه دائما 4، ومن أن أ هي دائما أ، لم يكن الاستقراء عند مل مجرد منهج للعلم، بل هو أيضا منطق الحقيقة
Logic of truth .
أجل، كان مل معاصرا لمواطنه جورج بول
G. Boole (1815-1864م) الذي فجر ثورة المنطق الرياضية الرمزية، لكنه لم يشهدها وهي تؤتي أكلها في القرن العشرين. وفي أيام مل كان المنطق لا يزال هو المنطق الصوري الأرسطي. رفض مل المنطق الصوري بجملته وليس فقط قياساته العقيمة، قائلا: إنه منطق للاتساق وإقامة البرهان ... لذلك فهو استدلال ظاهري لا يتضمن أية إضافة ولا يناسب إلا الله الذي أحاط بكل شيء علما، فيستنبط من هذا العلم الشامل ما يريد. أما الإنسان فهو بحاجة إلى منطق يتعقب الحقيقة ويأتيه بمعرفة جديدة لن تكون إلا بالاستقراء؛
10
أي الاستدلال التجريبي الذي هو الاستدلال الحقيقي الوحيد. إن الاستقراء - كما يجزم مل - هو منطق العلم ومنطق العمل ومنطق التفكير ومنطق الحياة، والسبيل المعرفي الواحد والوحيد المثمر الذي يمتلكه الإنسان.
وفي هذا الإطار وضع مل أضخم وأهم كتبه «نسق المنطق 1843م»، محاولا تحقيق حلمه بأن يكون نبي الاستقراء مثلما كان أرسطو نبي القياس. وكما وضع أرسطو للقياس أشكالا وضروبا، وضع مل للاستقراء لوائح أو مناهج، ضمنها الكتاب الثالث من «نسق المنطق»، الفصول الثامن والتاسع والعاشر. إنها خمسة مناهج رآها مل جامعة مانعة لأساليب البحث التجريبي والعلمي، ولطرق التفكير المنتج إجمالا! خمسة مناهج هي وسيلة اكتشاف العلاقات العلية وإثباتها، وهي على النحو التالي: (1)
منهج الاتفاق
Method of Agreement : وينص على أنه إذا اتفق مثالان أو أكثر للظاهرة المطروحة للبحث في نفس الظرف، كان هذا الظرف الذي تتفق فيه كل الأمثلة علة لهذه الظاهرة، أو معلولا لها،
11
إنه منهج التلازم في الوقوع بين العلة والمعلول، ويستلزم جمع أكبر عدد ممكن من الحالات التي تبدو فيها الظاهرة، والمقارنة بين عناصرها، وتحديد ما هو السابق وما هو اللاحق، السابق هو العلة واللاحق هو المعلول.
وهذا المنهج يعبر عن طريقة شائعة الاستعمال في الحياة اليومية أكثر منها في البحوث العلمية، فالظواهر الطبيعية قد لا تكون بهذه البساطة بحيث يظهر دائما العامل الواحد الذي لا يتغير، وقد تتشابك الظروف وتختلط، ويظهر العنصر مع آخر من قبيل التصادف العرضي في الوقوع. (2)
منهج الاختلاف
Method of Difference : وينص على أنه إذا حدث مثالان تقع الظاهرة المطروحة للبحث في أحدهما ولا تقع في الآخر، واتفق المثالان في كل شيء ما عدا عامل واحد، كان هذا العامل المختلف فيه هو علة الظاهرة، أو معلولها، أو جزءا ضروريا من علتها، بحدوثه في المثال الأول حدثت الظاهرة، وبغيابه في الآخر غابت. إنه نوع من البرهان العكسي، وقد يحوي نفس قصور المنهج السابق فيكون اختلاف العاملين مجرد تصادف، بالإضافة إلى صعوبة تحقيقه، فاستبعاد العلة قد يعني استبعاد الظاهرة بأسرها، وإن كانت الوسائل التحليلية للبحث العلمي تستطيع التغلب على هذه الصعوبة.
على أية حال يعد هذا المنهج أقوى المناهج، وفكرته الأساسية خصبة للغاية وأساس نظريات منهجية حديثة في القرن العشرين، وإن كان بيكون قد أرسى أصوله بقائمة الغياب. (3)
منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف
Joint Method of Agreement and Difference : وهو منهج يجمع بين الطريقتين السابقتين، فيكون أكثر فعالية من أيهما على حدة. إنه محاولة التحقق من ظهور المعلول بظهور العلة، واختفائه باختفائها، أو ما أسماه الإسلاميون دوران العلة مع معلولها وجودا وعدما. (4)
منهج البواقي
Method of Residue : وهو منهج لوضع الافتراض أكثر منه لتحقيقه، وينص على أنه إذا كان لدينا ظاهرة ما لها عدة عناصر، عرفناها بالعمليات الاستقرائية السابقة على أنها علة لمعاملات لاحقة معينة، فإن ما يتبقى من عناصر تلك الظاهرة هو علة لما تبقى من معلولاتها اللاحقة،
12
ونوه مل إلى أنه يعتبر هذا المنهج من مناهج التجريب بشيء من التجاوز؛ لأنه لا يستقل عن الاستنباط ثم يتطلب خبرات تجريبية، فضلا عن أنه يعتمد على ممارسات المناهج الثلاثة السابقة. إذن كان من الأليق أن يأتي هذا المنهج في مؤخرة قائمة المناهج، غير أن مل وضعها في «نسق المنطق» بهذا الترتيب. (5)
منهج التلازم في التغير
Method of Concomitant Variation : وهو يعني الكشف عن العلاقة الكمية بين العلة والمعلول، أي التناسب الطردي بين شدتيهما؛ لذلك فهو أدق المناهج؛ لأنه منهج للتكميم.
وضع جون ستيوارت مل هذه المناهج الخمسة ليلزم بها الباحث إلزاما، إن لم نقل ليلزم البشرية بأسرها طالما أن الاستقراء أسلوب المعرفة والتفكير المثمر الوحيد، ومل «لا يعرف ولا حتى يستطيع أن يتخيل مناهج سواها»!
13
ويعترف مل بفضل وليم هرشل
W. Herschel (1738-1822م)، وهو عالم فلكي، صنع بمعاونة شقيقته كارولين مرصدا يحوي مراقب «تلسكوبات» محسنة، فاكتشف عام 1781م كوكب أورانوس وأقماره وأيضا قمرين لزحل، ووضع كتابه «خطاب تمهيدي لدراسة الفلسفة الطبيعية
»، حيث كان مصطلح الفلسفة الطبيعية في القرن الثامن عشر لا يزال يعني «العلوم الطبيعية»، ويعد هذا الكتاب من معالم تاريخ الاستقراء في صورته التقليدية ومحاولة صياغته كمنهج للعلم الحديث، وكانت صياغة مزيدة بثروة مستقاة من ممارسة العلوم الطبيعية. في هذا الكتاب وضع هرشل إرشادات تشبه مناهج مل، غير أن كليهما لم يزد كثيرا على منهج فرنسيس بيكون وإرشاداته ؛ ذلك أن مل قال: إنه سيأتينا بأربعة مناهج، ثم أتانا بخمسة، وبعد أن شرحها ظل مصمما أنها أربعة! واختلف الباحثون أي المناهج هو الزائد وتمسك كل فريق بواحد منها، ولكن يمكن ملاحظة أن منهجي البواقي والتلازم في التغير يعتمدان على المناهج الثلاثة الأولى، وأن الثالث (منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف) مجرد ربط للمنهجين الأولين معا، وأن المنهج الثاني نفي أو عكس للأول، فلا يبقى إلا المنهج الأول وهو معروف منذ أن دعا بيكون إلى التجريب.
وفلسفة مل المنهجية بصفة عامة مليئة بأوجه القصور، فهو مثلا خلط بين اكتشاف الفروض أو ابتداعها وبين تأييدها، ودافع عن هذا بأن القانون العلمي ليس فرضا، بل حقيقة نريد أن نثبتها ومناهجه تثبت أنها فعلا قانون
14
مؤكدا بهذا خطأ بيكون في إغفال أهمية الفرض، وأقام مل بنيانه الضخم على أساس العلية ومن أجلها، ومع هذا لم يقف إزاءها موقفا فلسفيا للحظة واحدة، بل سلم بها كما يفعل الإنسان العادي، هل لأنها تقيم صلب العلم؟ فماذا بقي لفلسفته إذن؟ صرح مل بإمكانية رد معلول واحد إلى عدة علل، ومع هذا تجد منهجي الاتفاق والاختلاف يردان المعلول إلى علة واحدة ... ويمكن أن نستأنف المسير طويلا في تعداد المآخذ على نظرية مل المنهجية، خصوصا بسبب تطرف تجريبيته حتى بلغت حد التسطيح.
بيد أن هذا التطرف التجريبي ذاته هو الذي جعلها صلب النزعة الاستقرائية، وبنظرة واحدة نلاحظ كيف أنها تساير إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي المطروحة في الفصل السابق؛ فقد كانت الروح العلمية آنذاك تنزع نحو التجريبية المتطرفة. وحين أتى عام 1850م كان هذا المنزع التجريبي مصوغا جيدا بفضل جون ستيوارت مل وكتابه «نسق المنطق» إنه النزعة الاستقرائية التي أفلح مل في تأكيدها حين أسهب في تبيان أن كل المفاهيم العلمية يجب أن ترتد إلى دوال قابلة للملاحظة عن طريق الاستقراء الذي تنشأ عنه النظرية العلمية، والاستقراء يستند على العلية العامة التي لا تعدو أن تكون اطراد التعاقب في الطبيعة؛ لذلك يقوم منهج العلم على تعميم الوقائع الملاحظة، وسار خلف مل جمع غفير من فلاسفة العلم ذوي المنزع الوضعي، تواصلت مسيرتهم حتى بلغت النصف الثاني من القرن العشرين، بدا هؤلاء - أصحاب النزعة الاستقرائية - وكأنهم المعبرون الشرعيون عن العلم وفلسفته، على الرغم من أن تجريبيتهم الحادة فجة ومباشرة، لا تولي اعتبارا كافيا لدور العقل الإنساني في ملحمة العلم المجيدة، فضلا عن أنها ملغومة بمشكلة الاستقراء ... أشهر مشكلات فلسفة العلم.
وقبل أن ننتقل إلى مشكلة الاستقراء لا بد من العود إلى كلود برنار، الذي رأيناه، في الفصل السابق مقوضا لفرض القوى الحيوية ومؤسسا لعلم وظائف الأعضاء الحديث على أساس من الحتمية الشاملة والعلية والنظرة الميكانيكية، لقد انطلق من الخلفية الوضعية التي صيغت في وطنه فرنسا، اتخذ الموقف التبريري اللاتاريخي فلم يعارض النزعة الاستقرائية كما فعل هيوول، بل على أساس من استيعاب توجهاتها، حاول أن يداوي قصوراتها، ويضيف إلى النظرية المنهجية الاستقرائية إضافات ثاقبة سوف تفتح الطريق للحركة النقدية، وهذه سوف يتعاظم أمرها حتى تعصف في النصف الثاني من القرن العشرين بالنزعة الاستقرائية، عصفا مواكبا ومتسقا مع نواتج ثورة الفيزياء الكبرى في هذا القرن.
وقد كان كلود برنار أيضا من الشخصيات النبيلة حقا في مسار العلم وفلسفته على السواء، تخرج في كلية الطب، وتنازل تماما منذ بدء حياته العملية عن الممارسة الإكلينيكية والعمل في العيادات، مضحيا بفرص الكسب المالي لكي يتفرغ تماما للبحث العلمي في الفيزيولوجيا، تكرس له طوال حياته، حتى بعد أن وهنت صحته وغزاه المرض كان يحمل إلى قلب معمله، علم البشرية كيف يكون التفاني بين جدرانه كما يتبتل العابد الصوفي في محرابه، لم يكن يتوقف إلا إذا قهره الإرهاق. وذات مرة طلب فنجانا من الشاي ليقاوم الإرهاق ويجدد نشاطه، وبهدوء وضعه الخادم الذي تعلم ألا يقطع تركيزه، امتدت يد برنار للفنجان، لكنه سحب كأسا به عينة من بول أرانب جيء بها من أجل التجارب على فيزيولوجيا الجهاز الهضمي. الوعي كله مكرس للتجربة العلمية، وبلا وعي أخذ برنار رشفة من بول الأرانب! ربما انتفض الإنسان العادي اشمئزازا وتقززا إن حدث هذا، لكن العالم المتبتل برنار انتبه فجأة على خبرة تجريبية لا تعوض، فلم يهدرها ولاحظ المذاق السكري لبول الأرانب التي لم تتناول طعاما منذ فترة. طرح برنار السؤال: من أين جاء المذاق السكري؟ وللإجابة عليه دخل في سلسلة أبحاث معملية طويلة انتهت إلى اكتشاف وظيفة البنكرياس ومرض السكر الذي يعاني منه الكثيرون.
وما يعنينا من أمر كلود برنار الآن، أنه توقف هنيهة في خضم أبحاثه العلمية التي لا يشغله عنها شاغل؛ ليضع في عام 1865م كتابه «مدخل إلى دراسة الطب التجريبي»
Introduction a l’etude de la medicine experimental. ، حيث يؤكد أن فن البحث العلمي حجر الزاوية من كل العلوم التجريبية، لكن قواعد المنهج لا تفرض على العالم من الخارج، بل تنبع من صميم ممارساته، وتتطور وفقا لمتطلبات البحث العلمي ذاته، من هنا شرع في تطوير النزعة الاستقرائية تطويرا نقديا يكاد يفتح طريقا جديدا.
وقد رأينا كيف كان كلود برنار كعلماء عصره شديد التمثل لإبستمولوجيا العلم الحديث الحتمية، وبالتالي العلية واليقين والضرورة، وتراتب العلوم الفيزيوكيماوية والحيوية في نسق واحد. وإذا كان يشق طريقا جديدا، طريقا نقديا لحدود المعرفة التجريبية، فإنه حريص على تأكيد الطابع النقدي للعلم ذاته ولمنهجه التجريبي، فيقول: «عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة، يجب قبول الواقعة ونبذ النظرية، حتى ولو أخذ بها الجميع؛ نظرا لتأييد مشاهير العلماء لها.»
15
ويؤكد برنار أن الفارق بين التفكير المدرسي في العصر الوسيط والتفكير العلمي، يتمثل في أن المدرسيين يبحثون دائما عن نقطة بدء مطلقة الصدق كي يبدءوا منها. أما العالم المجرب فعلى العكس من ذلك؛ يشك في كل شيء دائما، حتى في نقطة بدئه، وذهنه بالضرورة متواضع مرن؛ لأن العلم الصحيح يعلم الشك والتورع والإحجام عند الجهل. ومن هنا يؤكد برنار على ضرورة تسلح الباحث بروح النقد المتشككة؛ لأن القاعدة العامة التي تمثل أساس المنهج التجريبي هي الشك. نتيجة الاستدلال العلمي يجب أن تظل دائما ظنية، فالعلم يتقدم دوما في طريقه نحو إدراك الحتمية الشاملة، والحالة الراهنة مصيرها إلى زوال لا محالة ... إلى هنا ويتوقف برنار ليؤكد أن «النقد التجريبي يشك في كل شيء ما عدا مبدأ الحتمية العلمية والعقلية المسيطرة على الوقائع»،
16
وحتى النظريات نفسها يجب أن يزول الشك فيها بمجرد الوقوف على الحتمية التجريبية،
17
ومن السهل ملاحظة أن برنار بهذا ينقض نفسه، فما هو إذن الفارق بين العلماء والمدرسيين؟ طالما أن مبدأ الحتمية هو نقطة البدء المطلقة للعلماء والغير قابلة للشك.
وفي إطار مثل هذا التسليم بالحتمية، مبدأ الإبستمولوجيا دعا برنار إلى التجريب المقارن بين الوقائع ومحاولة تعيين الشدة العددية لها بمعنى تكميم الوقائع إذا أمكن. ومع هذا لم يرحب برنار كثيرا بإدخال الرياضيات في العلوم الحيوية؛ لأن الرياضيات الملائمة للتطبيق فيها هي الإحصاء وحساب الاحتمال التي تهز من دعائم الصورة الحتمية المكينة، وهذا هو بالضبط موقف أوجست كونت نفسه في علم الاجتماع، فقد أسماه في البداية «الفيزياء الاجتماعية»، حتى أخرج عالم الفلك البلجيكي المهتم بالاجتماع أودلف كيتليه كتابه «الفيزياء الاجتماعية 1869م»، حيث يعالج الظواهر الاجتماعية معالجة رياضية إحصائية دقيقة تأسيسا للعلم بها. فثار كونت، ومن أجل رفض الإحصاء وحساب الاحتمال ترك مصطلح «الفيزياء الاجتماعية» إلى «علم الاجتماع»، وسحقا للسمة واللغة الرياضية بجلال قدرها، فلا رياضة ولا فيزياء المهم علم حتمي بأي شكل كان ولندعوه علم الاجتماع. أجل سحقا لكل ما يمس الحتمية العلمية، وليس هذا تعبيرا إنشائيا بل دلاليا، فقد «أدان كونت المجهر؛ لأنه هدم الصورة البسيطة لقوانين الغازات»!
18
وقد رأينا النظرية الحركية للغازات من مواطن أزمة الفيزياء الكلاسيكية وبوادر الثورة على الحتمية.
وبهذا التمثل للإبستمولوجيا الكلاسيكية وحتميتها، انطلق كلود برنار من فلسفة العلم المواكبة لها والمتسقة معها، الوضعية والنزعة الاستقرائية، لم يرفض حجة التعميم الاستقرائي كما فعل هيوول، سلم بها ثم واصل المسير في طريقه النقدي، فأضاف إليها الفرض. وبفضل برنار استقر الفرض في منظومة المنهج الاستقرائي، ومنذ برنار فصاعدا أصبح منهج العلوم الإخبارية يقوم على دعامتين هما الفرض والتجريب.
لقد علمنا الفيلسوف العظيم إيمانويل كانط أن النقد كمصطلح فلسفي لا يعني فقط تصيد الأخطاء، بل أيضا وقبلا سبر الإمكانيات وتعيين الحدود. وبهذا نتفهم تسليم برنار النقدي بالنزعة الاستقرائية، إنه يقبلها بمنحاها التبريري اللاتاريخي ثم يعين حدودها وقصوراتها. ومن أجل استئناف مسار البحث العلمي يصبح الفرض ضرورة، وفي هذا يميز برنار تمييزا قاطعا بين الملاحظة
observation ، والتجربة
experiment . إن الملاحظة إمبيريقية
empirical
أي تجريبية خالصة، وهي تمهيدية عامة بسيطة، تلاحظ الواقعة الغفل كما تحدث لجمع المعلومات بتعميم استقرائي مباشر، أما التجربة والبحوث التجريبية
experimental
فهي موجهة في إطار محدد ومسلحة بالأجهزة المعملية الدقيقة، تخلق الظواهر خلقا في المعمل، ويكون التعميم الاستقرائي نتيجة اختبار فرض. إذن الفارق الكبير بين الملاحظة والتجربة يعود إلى الفرض، يفرق برنار بين الطب الإمبيريقي القائم على الملاحظة ومحض تراكم وقائع الخبرة، وبين الطب التجريبي الذي يطمح في معرفة قوانين الجسم السليم والمريض، بحيث لا نتمكن من توقع حدوث الظواهر فحسب، بل نتمكن أيضا من تنظيمها وتعديلها في حدود معينة. الطب التجريبي هو العلمي حقا، هو القائم على الفرض مع التجربة، وكتاب برنار المذكور في المنهج بعنوان مقدمة أو مدخل إلى دراسة «الطب التجريبي»؛ إذن إثبات دور الفرض مرماه الأساسي.
بغير الفرض يكون الاستقراء منهجا إمبيريقيا للملاحظة فقط، وتكون النزعة الاستقرائية التقليدية التي تمسكت به هكذا، أي فلسفة إمبيريقية، فلسفة للملاحظة أكثر منها للتجربة، ربما تعبر عن مراحل تمهيدية في العلم، لكنها لا تكفي، فلا علم بغير فرض. هاجم برنار بشدة إغفالهم لقيمة الفرض وإفراط الإمام بيكون في التحذير منه ومن الأفكار المسبقة، وأوضح أنهم خلطوا بين ابتداع التجربة وبين تسجيل نتائجها، يقول برنار:
صحيح أنه من الواجب تسجيل نتائج التجربة بذهن خلا من الفروض وتجرد من الأفكار السابق تصورها، لكن واجب المجرب في الوقت نفسه أن يحذر العدول عن استخدام الفروض والأفكار، حين يكون الأمر خاصا بوضع التجربة أو تصور وسائل الملاحظة. وعلى المرء أن يفعل عكس هذا فيطلق لخياله العنان؛ ذلك أن الفكرة هي أصل كل استدلال واختراع، وإليها يرجع الفضل في البدء، ولا يجوز للمرء وأدها أو استبعادها، بحجة أنها قد تضر، وكل ما يقتضيه الأمر هو تنظيمها وإخضاعها لمقياس.
19
يشدد برنار على أهمية الفكرة والفرض، ويراها أسبق من التجريب، وقد تتولد عن الحدس أو العقل أو الشعور أو الملاحظات الإمبيريقية العامة، لكن الفرض هو الذي ننتقل منه إلى التجريب ونصمم التجربة على أساسه ولكي نختبره. الفكرة أو الفرض أسبق من التجريب وأيضا أهم منه، ويستشهد برنار بالعالم الطبيعي الفرنسي فرانسوا هوبر
Francois Huber
وهو أيضا من القرن التاسع عشر وترك أبحاثا وتجارب علمية جديرة بالإعجاب، على الرغم من كفاف بصره؛ إذ كان يتصور هذه التجارب ثم يعهد بتنفيذها إلى خادمه الذي كان خالي الذهن من أية فكرة علمية. فكان هوبر الذهن المدبر ينشئ التجارب ويديرها، ولكنه لكفاف بصره مضطر لاستعارة حواس غيره، يقول برنار إن الخادم يقوم بعمل الحواس المنفعلة التي تطيع العقل لتحقيق التجربة المنشأة تبعا لفكرة سابقة، إن الفرض هو العقل المدبر والتجارب هي الحواس التي تعمل تبعا للعقل وفي الإطار الذي يحدده.
يقول برنار إن الفروض حتى ولو كانت فاسدة تفيد في اهتدائنا إلى الاكتشافات، وينطبق هذا على جميع العلوم، فقد تأسس علم الكيمياء في محاولة العصور القديمة لتحقيق فرض فاسد هو تحويل المعادن إلى ذهب. الفروض فقط هي التي تمكننا من تجاوز الوقائع الحسية المحدودة والسير بالعلم قدما إلى الأمام. الفروض لا تفتح الطريق للتجارب الجديدة فقط، بل أيضا تجعلنا نكتشف وقائع جديدة ما كنا لنلحظها دون الفرض . ويشير برنار إلى أهمية العمليات المنطقية كالاستنباط والقياس، في العلوم التجريبية. الفرض قد يكون مستنبطا من نظرية، مع هذا لا بد دائما من التحقق التجريبي، أي إن الاتساق المنطقي لا يغني عن وقائع التجريب.
إن العالم ليس طفلا يجلس بين يدي الطبيعة ليتعلم منها ما تمليه عليه كما تومئ النظرة التي تغفل أهمية الفرض، بل هو - في رأي برنار - أشبه بقاض يحقق مع الطبيعة، وإن كان لا يواجه أفرادا يضللونه بالشهادات الكاذبة، بل يتناول ظواهر طبيعية أشبه بأشخاص يجهل لغتهم ويريد أن يعرف أغراضهم ومراميهم، وهو يستخدم من أجل ذلك كل ما يستطيعه من حيل، أو بعبارة أخرى يبدع قصارى ما يستطيعه من فروض، ما دامت ستخضع لمحكات التجريب.
وسوف نرى لاحقا أن دخول الفرض في منظومة المنهج التجريبي ليس مجرد عنصر أضيف، بل إيذانا بتغيير جذري في طبيعة المعرفة العلمية وفي علاقة العقل الإنساني بالعالم. إذا لم يكن التطوير النقدي للنزعة الاستقرائية مع برنار أمرا هينا، وله أيضا افتراقه البين عن أساسها الوضعي بما يمثل إضافة حقيقية، فقد حرصت الوضعية على أن تنعى الفلسفة وتعلن انتهاء عصرها بمجيء المرحلة العلمية الوضعية. أما كلود برنار فقد دافع عن الفلسفة والحاجة إليها بقوة. هناك فارق واضح بين الفلسفة والأدب وبين العلم، الفلسفة - بتعبير برنار - معبرة عن طموحات العقل البشري من حيث هو عقل في أي زمان ومكان، الأدب يعبر عن عواطف غير قابلة للتغير؛ لذلك فهما من آيات التراث الإنساني، تظل إلى الأبد جديرة بالبحث والدراسة. أما العلم فأمره مختلف، إنه يعبر عن وقائع تجريبية تكشفت أمام الباحث، ولما كانت هذه الوقائع في ازدياد مستمر كان العلم في تقدم مستمر، وعلم الأمس غير ذي جدوى اليوم لا ينبغي إهدار الوقت في كتب الأقدمين، وحتى الفروض والنظريات لا نهتم بها كثيرا، بل يكون البحث دوما في الوقائع ذاتها واليقظة لملاحظة كل ما يظهر ويستجد أثناء التجربة، فالعلم في صعود مستمر. ومع هذا الفلسفة والعلم كلاهما ضروري ومطلوب، وكلاهما مفيد للآخر، الفلسفة تضيف للعلم أبعادا فلسفية، والعلم يطامن من غرورها وتحليقها في آفاق المطلق - كما يرى برنار.
بهذه التوجهات النقدية التطويرية نجد كلود برنار أقرب إلى فلاسفة المنهج في القرن العشرين منه إلى المعاصرين له. لقد كان فيلسوف علم عظيما، كما كان عالما عظيما شغل مناصب علمية رفيعة وحاز جوائز عديدة على كشوفه في الهضم والسموم والتخدير وسواها. ومع كل هذا النفاذ في نظرة برنار الميثودولوجية - أي المنهجية - كان يعمل في إطار تسليم عصره المطلق بالحتمية ووجهها الآخر وهو العلية الشاملة التي هي أساس التعميم الاستقرائي، وإذ يدخل الفرض في هذا الإطار يغدو قبوله مستندا أيضا على تعميم استقرائي، مما يعني أن مشكلة الاستقراء ما زالت ملحة، فما هي هذه المشكلة؟
ثالثا: مشكلة الاستقراء
رأينا كيف نشأت فلسفة العلم معنية بتبرير المعرفة العلمية، وأنها وجدت هذا التبرير في تقنين الانتقال من الملاحظات إلى النظرية العلمية، أي في حجة التعميم الاستقرائي التي هي في الوقت نفسه معيار يميز العلم ويرسم حدودا للمنشط المعرفي الذي يعطينا محتوى إخباريا عن العالم التجريبي الواقعي الذي نحيا فيه، فإذا كانت العبارة تعميما لوقائع مستقرأة من هذا العالم التجريبي فلا بد أنها إخبار عنه، هكذا حققت حجة التعميم الاستقرائي الهدف، فهي معيار يميز المعرفة العلمية كتبرير كاف لها.
ولكن ما هو تبرير التعميم الاستقرائي ذاته؟
إن العالم في معمله يلاحظ عددا محدودا من الحالات، مثلا القطعة (1) من الحديد تمددت بالحرارة ... القطعة (2) ... القطعة (3) ... القطعة (4) ... القطعة (ن) ... فيخرج بتعميم استقرائي: الحديد يتمدد بالحرارة. أو مثلا افترض باحث أن المضاد الحيوي «س» فعال في علاج التيفود، وجربه على المرضى الذين يعالجهم وهم عشرة أو عشرون أو حتى ألف، وهب أنهم شفوا جميعا، سيخرج بتعميم استقرائي: المضاد الحيوي «س» يشفي من التيفود، القانون العلمي طبعا عبارة عامة تحكم الحالة المطروحة للبحث بصفة كلية، وليس مجرد حصر أو تعداد ساذج لأمثلة لوحظت، إن العالم يلاحظ ويجرب على عدد من الوقائع الجزئية مهما كان كبيرا فهو عدد محدود، ثم يخرج منه بعبارة كلية تنطبق على كل الوقائع المماثلة في أي زمان ومكان.
والسؤال الآن: بأي مبرر يخرج من وقائع جزئية محدودة إلى قانون كلي عام؟ كيف يسحب الحكم مما لاحظه على ما لم يلاحظه؟ لماذا يفترض أن الوقائع التي لم يشاهدها تماثل تلك التي شاهدها؟ من أدرانا أن الحديد منذ مليون عام أو بعد ألف سنة أو على كوكب المريخ أو في مجرة أخرى يتمدد أيضا بالحرارة؟ ما الذي يضمن عدم وجود عينات من الحديد هنا أو هناك لا تتمدد بالحرارة ولم يصادفها الباحثون؟ مشكلة الاستقراء هي مشكلة تبرير القفزة التعميمية من عدد محدود من الوقائع التجريبية إلى قانون كلي عام، على أي أساس تمارس التعميم الاستقرائي وهو صلب عملية إنتاج المعرفة العلمية؟ «وهذا التساؤل ليس إثارة لكشف جديد، فأرسطو لاحظ الفارق بين الحجة الصورية المنطقية والحجة الاستقرائية التجريبية، وأن الأخيرة ليست مبرهنة،
20
ولكنه تساؤل اكتسب خطورة كبيرة لما تصدر العلم التجريبي مسيرة العرفان في العصر الحديث.
أول ما يتبادر إلى الذهن أن الاستقراء يمارس - كما أوضحنا - على أساس الحتمية والعلية والاطراد. والعلية بالذات هي اطراد التعاقب في الطبيعة وهي الوجه الآخر للحتمية التي افترض العلماء أنها تحكم عالم الظواهر. وبفضل الحتمية الكونية تغدو العلية شاملة لا تعرف استثناء ولا جوازا، وكما حكمت الوقائع الماثلة سوف تحكم كل الوقائع المماثلة. فيمكن تعميم ما لوحظ على ما لم يلاحظ. هكذا سلم فلاسفة العلم «بقانون العلية» كمبدأ للاستقراء نمارس على أساسه التجريب ونعمم الوقائع، وانقسموا في هذا إلى فريقين يعبران عن اتجاهي الفلسفة الأساسيين:
أولا:
الاتجاه التجريبي - خصوصا الإمبيريقي - يرى أن العقل لا يعرف ولا يصل إلى المبادئ أو غيرها إلا عن طريق الاستقراء. الاستقراء مردود إلى العلية، والعلية بدورها توصلنا إليها - كما توصلنا إلى كل شيء في عقولنا - عن طريق التجريب. فالتجارب تدل على أن الظواهر ترتبط ببعضها ارتباطا ضروريا هو بلا شك ارتباط العلة بالمعلول. وعلى أساس العلية نقيم الاستقراء ومبدأه إقامة تجريبية، أبرز الممثلين لهذا الاتجاه جون ستيوارت مل، وسار وراءه معظم دراويش النزعة الاستقرائية.
بيد أن الدوران المنطقي هنا شديد الوضوح، تبرير الاستقراء - أي العلية - يبرره الاستقراء، التجريب الذي دلنا على العلية! فما زلنا في حاجة إلى مبدأ لتبرير الاستقراء وقفزته التعميمية.
ثانيا:
الاتجاه العقلي: يصدق أيضا على أن الاستقراء يستند على العلية، لكنه يجعلها مبدأ عقليا أوليا سابقا على التجربة كامنا في الذهن سلفا. إن مبدأ الاستقراء ومبرره - أي قانون العلية - ليس مشتقا من التجريب، ولكن هذا هو ما يعرف بالنزعة الأولانية
Apriorism ، أي المصادرة على مبادئ معينة بزعم أنها كامنة في الذهن سلفا، وما أيسر الالتجاء إلى هذا حين يستحيل العثور على مصدر أو تبرير معقول لتلك المبادئ.
وأبرز ممثلي هذا الاتجاه إيمانويل كانط ، وأيضا برتراند رسل
B. Russell (1872-1970م)، وذهب رسل في تحليله لمنطق الترابط بين الأحداث إلى أن تصورات الحتمية والضرورة الكونية والعلية ليست قضايا تحمل خبرا محددا قد يكون صادقا أو كاذبا، بل هي مسألة دالة قضية أي صورة منطقية خاوية من المضمون، وبالتالي هي صورية سابقة على الخبرة التجريبية وليست مشتقة منها.
21
إن كانط ورسل فيلسوفان عملاقان بلا شك، لكنهما لم يثبتا العلية. ورسل بالذات - بحكم حداثته وأنه أدرك فلسفة العلم في القرن العشرين - انتهى من تحليلاته إلى أن الحتمية والضرورة والعلية دعاوى غير ذات بأس شديد. وعلى أية حال يصعب موافقة الاتجاه العقلي على أن قانون العلية كامن في الذهن سلفا؛ لأن المبادئ والقوانين العقلية لا تكون إلا تحصيل حاصل. العقل لا يستقل بنفسه إلا في العلوم الصورية التحليلية كالمنطق والرياضة، فيقتصر عمله على تحليل الرموز وإعادة تركيبها دون أن يأتينا بفتوى عن الواقع، أما قانون العلية فهو قضية إخبارية تركيبية بشأن العالم الواقعي، وقضية هائلة فكيف يكون العقل الخالص مصدرها كما ذهب كانط، وأيضا رسل في مراحل تفكيره الأسبق.
هكذا لا يمكن أن نجعل قانون العلية سابقا على الخبرة التجريبية - أي قبلها - كما يذهب العقليون، ولا أمكن أن نجعله بعدها، أي تاليا للخبرة ومشتقا منها كما ذهب التجريبيون.
نلاحظ مما سبق أن مشكلة الاستقراء في جوهرها هي مشكلة العلية ، وتتبدى خطورتها حين نجد العلية قائمة في التفكير العادي للحياة اليومية والتفكير الفلسفي والتفكير العلمي على السواء، اعتبرها المعلم الأول أرسطو ذات مبادئ أربعة هي الصورة والمادة والفاعل والغاية، قادرة على تفسير شامل للوجود بأسره. كان الإمام الغزالي سبق وشكك فيها، وتبعه الأب نيقولا مالبرانش في العصر الحديث، بينما كان ديكارت يعتبرها علاقة ضرورية. وعلمنا بيكون أنها تفسر طبائع الظواهر الطبيعية واطرادها، حتى قامت بهذا الدور الكبير في إبستمولوجيا العلم الحديث ومنهجه على السواء.
وأول متحد لقانون العلية في عصور العلم الحديث هو الفيلسوف المادي توماس هوبز، اتفق مع أستاذه بيكون في أن الحواس مصدر المعرفة، ثم أشار إلى أن الحواس لا تعطينا ذلك الكائن الغيبي المسمى بالعلية. لكن هوبز على الرغم من نزعته العلمية ومن ماديته، وأيضا على الرغم من تواضع قدراته الرياضية، كان مفتونا بالرياضيات وقوة الاستنباط الرياضي، ولم يتوقف كثيرا أمام التجريب ومشاكله، فكان أول متحد حقيقي ذي خطر لقانون العلية هو ديفيد هيوم الذي رأيناه يرد المعرفة إلى انطباعات الحس. لقد بدأ معه تاريخ مشكلة العلية في العلم الحديث.
أجل تشكك الغزالي ومالبرانش وأمثالهما في العلية، لكن كان هذا مقدمة لسحب الثقة من المعرفة الحسية والتجريب، إنه إنكار للترابط بين الأحداث والوقائع ليسفر إدراكنا الحسي لها عن ركام لا يفضي إلى شيء ولا تعود الحواس مصدرا للمعرفة. فكان إنكار العلية أداة في يد الراغبين في تقليص سطوة العلم التجريبي وهدم النظرية الحسية في المعرفة أصلا. وأتت خطورة هيوم من أنه أول فيلسوف علمي النزعة يشكك في العلية من أجل النظرية الحسية في المعرفة وبناء عليها وإخلاصا لها.
وقد كان هيوم شكاكا كبيرا، يرى أن منهج الشك هو الكفيل بأن يقي الفلسفة مغبة التطرف والحيود في هذا الاتجاه أو ذاك وسائر الأشكال غير الملائمة للتفلسف، يقول هيوم:
على أية حال هناك نوع واحد من الفلسفة يبدو أقل تعرضا لأن يكون بهذا الشكل غير الملائم؛ وذلك لأنه لا ينبثق عن نزوع أهوج للعقل الإنساني، ولا يمكن أن يختلط بأي ميل طبيعي أو وجدان، وتلك هي الفلسفة الأكاديمية أو الفلسفة الشكية، ودائما يتحدث الأكاديميون عن الشك وتعليق الحكم، وعن خطورة التحديدات الرعناء، وعن أن نحصر تساؤلات الفهم الإنساني في حدود ضيقة جدا، وعن إنكار كل التأملات التي لا تقع داخل حدود الحياة والممارسة المألوفة.
22
بهذا النبذ للميتافيزيقا - إذ تتجاوز تلك الحدود - راح يعرض كل شيء لمنظار الشك؛ لكي يتثبت من أنه مردود إلى انطباعات الحس، وإلا كان خرافة بلا معنى.
وكانت تحليلات هيوم قد انتهت إلى أن العلاقة العلية هي العلاقة الوحيدة التي تنقل الذهن إلى أبعد مما هو محسوس، إنها المبرر الوحيد للاستدلال على الوقائع،
23
ومع هذا راح يتشكك فيها ويفحصها متسائلا: على أي أساس نستنتج أن العلل المعينة سوف يكون لها بالضرورة تلك المعلولات المعينة؟ لماذا نستدل من إحداهما على الأخرى، وذلك هو التساؤل الذي اتخذ فيما بعد شكلا أكثر عمومية كالآتي: لماذا نخرج من الخبرة التجريبية الراهنة بأية استنتاجات تتجاوز الحالات الماضية التي مرت بخبرتنا؟ أي: لماذا نمارس الاستقراء؟ وهي الأسئلة التي لم نجد إجابة عليها، وأوضح هيوم أن أية إجابة لا بد أن تلتجئ إلى مبدأ عام - من قبيل العلية - يحكم بأن الحالات التي لم تمر بخبرتنا لا بد وأن تماثل تلك التي مرت، وأن مسار الطبيعة يسير دائما بصورة مطردة،
24
وقد رأينا آنفا أن مشكلة الاستقراء في جوهرها مشكلة العلية؛ لذلك لا يختلف الوضع حين نلاحظ أن هيوم لم يتعرض لمشكلة الاستقراء بصورة مباشرة، بل فقط أثار مشكلة العلية، وبينما نجد مصطلح «الاستقراء» شديد الحضور في كتابات بيكون، وأيضا جون لوك، فإنه لا يرد في كتابات ديفيد هيوم إلا لماما وعرضا، وبدلا من الاستقراء أو حجة التعميم، يستعمل هيوم مصطلحات من قبيل الاستدلال أو الحجج المحتملة أو التعقل من الخبرة، ثم تركزت في مصطلح الدليل البين والحجج المستنبطة.
25
ويستخدم هيوم هذه المصطلحات وسواها بالمغزى التجريبي المعروف عن فلسفته، وما كان ليشك لحظة واحدة في الحسية والتجريبية، بل يشك ليرد كل شيء إلى التجريبية، أو بمصطلحاته المتطرفة، إلى انطباعات الحس، ونحن لا نجد في انطباعات الحس أبدا هذه العلية، لا أحد رآها أو سمعها أو لمسها، إننا لا نلاحظ إلا تعاقبا بين الأحداث، أما العلية فهي ملاط غيبي لنربط بين هذه الأحداث، ولا مرد لها إلا العوامل السيكولوجية. إن العلية مجرد عادة نفسية! يقول هيوم في نص طويل نسبيا لنتبين مجمل حجته:
هب أن شخصا ما جيء به على حين غرة إلى هذا العالم، على أنه مزود بأمضى ملكات العقل والتفكير، حقا سيلاحظ للوهلة الأولى تتابعا متصلا للأشياء، وأن حادثة ما تعقب الأخرى، لكنه لن يستطيع البتة أن يستكشف أي شيء أبعد من هذا، وفي البداية لن يكون قادرا على الوصول إلى فكرة العلة والمعلول بأي شكل من أشكال التفكير، ما دامت القوى التي تحدث بفعلها سائر العمليات الطبيعية لا تظهر أبدا للحواس، وليس من المعقول أن يستنتج أنه ما دامت حادثة في مثال ما قد سبقت أخرى، فلا بد أن تكون الأولى علة والثانية معلولا، فقد يكون الارتباط بينهما جزافا أو عرضا عليا، وقد لا يكون ثمة ذريعة لأن يستدل على وجود واحدة من ظهور الأخرى، وبعبارة موجزة، فإن مثل هذا الشخص، بغير مزيد من الخبرة، يستحيل عليه أن يوظف حدسه أو تفكيره فيما يتعلق بأي أمر من أمور الواقع، أو أن يكون على ثقة من أي شيء يتجاوز ما هو حاضر حضورا مباشرا أمام ذاكرته وحواسه.
وهب، مرة أخرى، أنه اكتسب خبرة أوسع، وعاش فترة طويلة في العالم تكفي لأن يلاحظ كيف ترتبط الأشياء والاحداث المألوفة معا ارتباطا ثابتا، فماذا عساه أن ينجم عن هذه الخبرة؟ إنه لا يلبث أن يستدل على وجود شيء ما من ظهور الآخر، إلا أنه وبكل الخبرة التي تزود بها، لا يكتسب أبدا أية فكرة أو أية معرفة بالقوة السرية التي عن طريقها ينتج شيء ما شيئا آخر، كلا ولا توجد أية عملية من عمليات التفكير تلزمه بأن يخرج بهذا الاستدلال، لكنه يجد نفسه لا يزال ملزما بأن يستنتج هذا الاستدلال، وعلى الرغم من أنه لا بد مقتنع بأن الفهم لا يلعب دورا في هذه العملية، فإنه مع هذا يظل سائرا في هذا المسار للتفكير، فثمة مبدأ آخر يحتم عليه أن ينتهي إلى مثل هذه المحصلة، هذا المبدأ هو العادة أو الطبع.
26
معنى هذا أنه لا يوجد في العالم الحسي التجريبي، عالم العلم، شيء اسمه العلية، إنها مجرد عادة سيكولوجية تجعلنا نتوقع الاطراد في الحالات المستقبلة، إذا تكرر في الخبرات الماضية، وإذا كانت العلية عادة أو طبعا
Custom or habit ، فلا بد أن يكون وجهها الآخر، أي افتراض الاطراد في الطبيعة، بدوره هكذا، ولا شيء يضمن وجوده فعلا في الطبيعة. وحين نلاحظ الحادثة «أ» تتبعها الحادثة «ب» في أكثر من مرة أو حتى في كل المرات، لا نستطيع القول إن ذلك يحدث لأن «أ» علة معلولها «ب»، وما دامت العلية والاطراد قد ارتدا إلى مجرد عادة سيكولوجية أو طبع، فكل ما نستطيع أن نقوله إن «أ» قد أعقبتها «ب» فحسب، وليس لدينا ما يبرر توقع الحادثة «ب» حين نرى «أ» مرة أخرى، أو أن نفترض قانونا يربطهما، فكل ما في الأمر أن تكرار الخبرات التجريبية أو الانطباعات الحسية يخلق فينا عادة الاعتقاد في قانون. إن معرفتنا بالعالم الخارجي، أو بالأحرى «معتقداتنا» بشأنه من قوانين علية مطردة مجرد عوائد نفسية، وليس ثمة مبرر للزعم بمثولها الفعلي في عالم التجربة الخارجي، وانطلق هيوم في تحليلات سيكولوجية للاعتقاد ولأثر تكرار الانطباعات الحسية، وهي طبعا تحليلات بدائية بالنسبة لعلم النفس اليوم، لكنه يخلص منهما إلى أن العلية والاطراد - مبدأي الاستقراء - هما تكويننا النفسي ولا نملك أن نحيد عنه.
لقد كان هيوم من السائرين في مسار النزعة النفسية التي تنكر استقلال المنطق عن الحياة والنفس، وتحاول رد العلوم والحقائق وكل شيء إلى الحياة النفسية ومكوناتها، وهذا اتجاه قديم يعود إلى ما قبل سقراط، إلى السفسطائي بروتاجوراس حين قال إن الإنسان مقياس الأشياء جميعا. وسار فيه ميشيل دي مونتاني
M. Montaigne (1532-1592م) داعية الشك المذهبي بغية توطيد الدين والعلم المنزل من الله. ولعل ديفيد هيوم أشد أقطار النزعة النفسية تطرفا، أخرج أول عمل له باسم «رسالة في الطبيعة البشرية»، رغم أنها في المنطق ونظرية المعرفة، وهي تسمية واضحة الدلالة على أن العقل البشري لا ينفصل في رأيه عن الطبيعة البشرية، بل إن العقل على نحو ما معبر عن هذه الطبيعة وثمرة لها.
27
وبالغوص في الدروب النفسية أوضح هيوم أن تكرار الخبرة الحسية التي تقع فيها «ب» بعد «أ» يخلق عادة لتوقع «ب» كلما شوهدت «أ»، في الإنسان وفي الحيوان أيضا، فكما يقول برتراند رسل، الحيوانات المنزلية تتوقع الطعام حين ترى الشخص الذي يطعمها عادة، ولكن أوليس يمكن أن يأتي يوم يطيح فيه برقبة الدجاجة الشخص نفسه الذي اعتادت أن تتلقى منه الطعام كل يوم؟ إذن تكرار الوقائع التجريبية لا يعني شيئا ولا يضمن شيئا، فمن أدرانا أن الطبيعة لن تفعل بنا ذلك في الغد، فتسممنا ثمرة فاكهة اعتدنا أنها شهية.
28
هكذا اتضح أن مبدأي الاستقراء، العلية والاطراد، يقومان على شفا جرف هار، ومردودان إلى عادة سيكولوجية أو طبع، فهل يمكن أن نقيم نسق العلم العظيم الذي علم البشرية المعنى الحق للموضوعية على مجرد عادة سيكولوجية؟! وإذا أخذنا في الاعتبار أننا سنرى في الفصل القادم توا كيف اهتزت أركان الحتمية أيضا، اتضح أمامنا كيف تتفاقم مشكلة الاستقراء، وأصبحت حجة التعميم لا عقلانية! ما دامت لا تقوم على أساس مقبول، لا منطقيا ولا تجريبيا، وأصبح على الجميع - شاءوا أو أبوا - الاعتراف بأن قوانين العلم تفتقر إلى أساس مطمئن وحجة تثبت مصداقيتها، طالما أن القانون العلمي - مهما كان عدد الوقائع التي تؤيده - يتجاوز بعموميته الخبرة التجريبية والمنطق على السواء، حتى إن التأمل في أصول المعرفة العلمية جعل نفرا من الفلاسفة التجريبيين شكاكا أو لا عقلانيين أو متصوفة. لا عجب إذن أن يدين رسل هيوم بأنه المسئول عن الشيزوفرنيا «انفصام الشخصية» التي أصابت التجريبيين العلميين. وعن اللاعقلانية التي تفشت في الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر، يقول رسل:
لقد أثبت هيوم أن التجريبية الخالصة لا تشكل أساسا كافيا للعلم، في حين أننا إذا سلمنا بتلك القاعدة الوحيدة، أي الاستقراء، كل شيء بعد ذلك يتلاءم مع النظرية القائلة إن كل معرفتنا قائمة على الخبرة، ويجب التسليم بأن هذا افتراق خطير عن التجريبية الخالصة. فقد يتساءل بعض التجريبيين لماذا نسمح بالخروج عن نطاق التجربة في هذه النقطة المتعينة ونمنع في غيرها؟! وعلى أية حال هذه تساؤلات لا تثيرها مناقشات هيوم بصورة مباشرة، ولكن ما تثبته تلك المناقشات - ولا أعتقد أن هذه الحجة يمكن معارضتها - هو أن الاستقراء كقاعدة منطقية مستقلة لا يمكن أن نستدل عليها من التجربة، ولا من قواعد منطقية أخرى، وأنه بغير هذه القاعدة يصبح العلم مستحيلا.
29
هذه هي مشكلة الاستقراء التي حيرت الفلاسفة منذ هيوم، و«عدت واحدة من أعقد المشاكل الفلسفية وأكثرها إثارة للمناقشة والجدل».
30
وكانت طبعا شغلا شاغلا لفلاسفة العلم، قل أن يمر أحدهم دون أن يبذل قصارى جهده لمواجهتها، حتى ذهب البعض إلى محاولة حلها عن طريق القياس الأرسطي ذاته الذي نهض الاستقراء أصلا في القرن السابع عشر لكي يناهضه ويلغيه، ويحل محله كأسلوب للتفكير ومنهج للبحث. قال هؤلاء القياسيون إن كل استدلال استقرائي يتضمن قياسا مقدمته الكبرى عقلية قبلية مؤداها «الصدفة لا تتكرر دائما ولا حتى كثيرا»، ومقدمته الصغرى هي «أ» و«ب» اقترنتا في كل الحالات المستقرأة والنتيجة: إذن «أ» علة «ب».
31
والمناقشة السابقة للاتجاه العقلي في التسليم بالعلية كمبدأ قبلي، ورفض ما ينطوي عليه هذا من نزعة أولانية
Apriorism ... ذلك يعني بالضرورة رفض التسليم بالمقدمة الكبرى في هذا القياس، فمن أين أتينا بها؟ وما الذي يمنع أن تتكرر الصدفة؟!
ولكن ماذا عن أصحاب النزعة الاستقرائية أنفسهم، الاستقرائيين الخلص أو أكثر الاستقرائيين استقرائية، كيف واجهوا مشكلة الاستقراء؟ إنهم لا ينكرون أن هيوم أثبت استحالة وضع تبرير حاسم للاستقراء، وراح بعضهم يزعم أن الاستقراء ليس في حاجة إلى تبرير؛ لأن المنهج ذاته لا يبرر، فقط يمكن تطويره وتحسينه،
32
وبإعفاء أنفسهم من التبرير غاصوا في مستنقع ما يمكن أن نسميه باللاعقلانية التجريبية، حين نجدهم يقولون: إن العلم يتقدم سواء حلت هذه المشكلة أم لا، فلا داعي لإثارتها! ويجعلون التقدم العلمي تبريرا برجماتيا - أي عمليا نفعيا - للاستقراء، فنسلم به؛ لأنه نافع ومفيد. بيد أن منطق العلم ليس مرابيا يتنازل عن الاعتبارات مقابل الفائدة والربح، وفتح الباب لقبول أي شيء غير مبرر وبلا حجة ولا سند، فقط لأنه نافع ومفيد، يؤدي إلى نتائج وبيلة، كما يسلم نقاد الفلسفة البرجماتية الكثيرون والرافضون لها.
أما أصحاب النزعة الاستقرائية في القرن العشرين، حيث انتهت الضرورة والحتمية الميكانيكية، وأصبح الاحتمال هو منطق العلم - كما سنرى، فقد ذهبوا إلى أنهم كان يمكن أن يتركوا الاستقراء لو أنهم يبحثون به عن اليقين، لكن طالما أن جميع القوانين العلمية احتمالية، فلا بأس أن يكون أساس الاحتمال ليس ثابتا.
33
وببساطة نلاحظ أنهم لم يفعلوا شيئا أكثر من سحب السمة اللاعقلانية من القوانين اليقينية لتغطي أيضا القوانين والفروض الاحتمالية. والمحصلة أن الاستقراء يجعل العلم - سواء يقينيا أو احتماليا - قائما على غير أساس.
ليس فقط أصحاب النزعة الاستقرائية، بل جل فلاسفة العلم التجريبي حاولوا جاهدين حل مشكلة الاستقراء ولم يفلح أحد. فما دام البدء من وقائع تجريبية محدودة، يستحيل العثور على مبرر للقفزة التعميمية، وفي النهاية يحق القول الدارج: الفلسفة لا منها ولا كفاية لشرها! لم تستطع أن تنجز ما أنجزه العلم، وحين قنعت بمحاولة تبريره وتمييزه بمعيار يحدد معالمه، انتهت إلى ما لا يمكن تبريره وما لا يعني إلا أن العلم التجريبي بجلال قدره قائم على غير أساس، وأسفر الوضع بفلسفة العلم عن موقف مأساوي وهزلي: العلم الحديث هو النحيب الأثير للعقل الإنساني وآيته ودرة ما أنجزه «ولكن منذ زمان هيوم أصبحت البدعة المستحدثة في العلم هي إنكار عقلانيته!»
34
لذا يقول وايتهد
A. N. Whitehead (1861-1947م) إن مشكلة الاستقراء هي «يأس الفلسفة» وأسماها برود «فضيحة الفلسفة»! إن فلسفة العلم من الأعضاء الجدد في الأسرة الفلسفية، فهل حقا جلبت للأسرة العريقة النبيلة كل هذا العار والشنار ... الفضيحة واليأس؟!
كلا وألف كلا! والسؤال الحاسم: هل مشكلة الاستقراء - غير القابلة للحل - دليل على عقم المباحث الفلسفية؟ أم هي برهان وتبيان لمدى ثقوب النظر الفلسفي؟
الواقع أن التطورات اللاحقة للعلم وفلسفته في القرن العشرين تجعل كل الشواهد تؤكد البديل الثاني، تؤكد قدرة التفلسف الفذة على استشراف الآفاق المستقبلية واستبصار ما ينبغي أن يكون، قدرة الفلسفة على كشف عقم وقصور ظروف حضارية ومعرفية معينة وضرورة تجاوزها بعد أن أدت دورها واستنفدت مقتضياتها، ووجب الصعود إلى مرحلة أعلى من التقدم، والمقصود على وجه التحديد قصورات ظروف حضارية معينة دفعت العلماء والمعنيين بظاهرة العلم آنذاك إلى تأكيد أن الملاحظة هي نقطة البدء، والقانون العام هو النهاية التي نخلص إليها، في حين أن العكس هو الصحيح، ولا يمكن إيضاح هذا إلا من موقع يرابط في قلب القرن العشرين.
رابعا: الملاحظة أم الفرض: آفاق القرن العشرين
إن مشكلة الاستقراء شاهد قوي على مكانة الفلسفة ومآلها؛ لأنها - بنظرة شاملة وعميقة - ليست مجرد مشكلة تقنية منهجية وأسلوب عمل خاص بقوم يحترفون مهنة جليلة اسمها «البحث العلمي»، بل إن مشكلة الاستقراء من أمهات مشاكل الموقف الفلسفي إطلاقا؛ لأنها مشكلة العلاقة بين التجريب والتنظير ... الحواس والعقل ... اليد والدماغ ... الواقع والفكر، وبمصطلحات فلسفة العلم وقد أضحت فلسفة العصر: الملاحظة والفرض «إن بينهما انفصالا وتمايزا لا يمكن تجاهله، وتأييد أحدهما للآخر مسألة لا تخلو من الغموض، حتى إن العلاقة بينهما ملتبسة أمامنا»،
35
مما يجعلها دائما من المحاور المركزية لفلسفة العلم.
والسؤال الآن الذي ظل ردحا طويلا ماثلا هو: أيهما أسبق: الملاحظة أم الفرض؟ وليس الأمر تلاعبا بأطراف منظومة معرفية، بل هو طرح انقلابي لطبيعة العلم وطبيعة موقع العقل في هذا الكون، فلو كانت الملاحظة هي الأسبق والفرض أو القانون يتبعها - كما ينص الاستقراء - فإن العلم تعميم آلي للوقائع ودور العقل الإنساني تابع للحواس سلبي هامشي، فقط يخدم الملاحظة الحسية ليخرج بقوانين مستقرأة من صلب الواقع التجريبي فتكون يقينية ضرورية حتمية، ويغدو نسق العلم بناء مشيدا راسخا ثابتا، يعلو ولكن لا تبديل ولا تعديل، أما إذا كان الفرض هو الأسبق، فإن العقل الإنساني المبدع للفرض هو الذي يخلق ملحمة العلم المجيدة، لا يخدم الملاحظة الحسية، بل يستخدمها لتمحيص وتقنين الفروض، لقبولها أو رفضها، وتظل دائما إبداعا إنسانيا، وكل شيء في عالم الإنسان متغير ومتطور، فلا يعود نسق العلم بناء مشيدا، بل فعالية إنسانية حية نامية ومتطورة دائما، ويتضح لماذا نجد التقدم العلمي مفطورا في صلب البحث العلمي.
هكذا قدمت فلسفة العلم نظريتين في المنهج التجريبي، متقابلتين ومتعاقبتين، الأولى تبدأ بالملاحظة والثانية تبدأ بالفرض:
أولا:
نظرية البدء بالملاحظة، أي الاستقراء التقليدي الذي رأيناه فيما سبق، ويثير المشكلة الشهيرة، وهي نظرية منهجية تواكب العلم الحديث حتى نهاية القرن التاسع عشر، العلم الكلاسيكي الذي تؤطره فيزياء نيوتن، فكان نيوتن هو الممثل الرسمي لهذه النظرة، جسدها بقوله: أنا لا أفترض الفروض
Hypotheses non Fingo ، بمعنى أن القوانين العلمية مأخوذة من تعميم الوقائع التجريبية مباشرة، وحتى بعد أن تدخل الفرض في القرن التالي ظل مردودا أيضا لنفس هذا المصدر: الوقائع التجريبية الملاحظة، من أجل تفسير تعميمها.
ثانيا:
نظرية البدء بالفرض، والهبوط منه إلى وقائع التجريب والملاحظة لتحدد مسير ومصير الفرض، وهذا ما لاح لعبقرية كلود برنار وذهب إليه وليم هيوول، في القرن التاسع عشر بيد أنها نظرية منهجية تفرضها طبيعة العلم والإبستمولوجيا العلمية في القرن العشرين، المختلفة تماما عن المرحلة الأسبق المعروضة آنفا، من هنا كان عنوان هذا الفصل «فلسفة العلم الحديث الكلاسيكي» كمرحلة سابقة ومختلفة ومتمايزة عن فلسفة العلم في القرن العشرين.
العلم في القرن العشرين أملى نظرية البدء بالفرض، وإذا كان آينشتين - كما سنرى - هو الذي تربع على عرش نيوتن، فإنه بدوره خير ممثل لهذه النظرية، فقد رأى أن منهج البحث يتلخص في أن يتخذ الباحث لنفسه مسلمات عامة أو مبادئ يستنبط منها النتائج، فينقسم عمله إلى جزئين: يجب عليه أولا أن يهتدي إلى المبادئ التي يستند إليها، ثم يتبع ذلك بأن يستنبط من هذه المبادئ النتائج التي تترتب عليها، ويؤكد آينشتين تأكيدا حاسما على أن الوقائع التجريبية بمفردها تظل عديمة النفع للباحث ما لم يهتد إلى قاعدة لاستنباطاته.
36
وقد صيغت نظرية المنهج التجريبي البادئ بالفرض فيما يعرف بالمنهج الفرضي الاستنباطي
Hypothetical deductive Method ، يبدأ بفرض صوري عام لا يشتق من الخبرة ولا يخضع هو ذاته للتحقيق التجريبي المباشر، فيلجأ الباحث إلى منهج الاستنباط؛ كي يستنبط منطقيا ورياضيا النتائج الجزئية التي تلزم عنه، وهنا يأتي التجريب ودور الملاحظة، فيقابل بين النتائج المستنبطة من الفرض وبين وقائع التجريب، إن اتفقت معها تم التسليم المؤقت بالفرض، وإن لم تتفق يكون تعديله أو الاستغناء عنه والبحث عن غيره، مع ملاحظة أن مصدر الفرض لا يعنينا، فقد يأتي به العالم من الحصيلة المعرفية السابقة أو من وقائع التجريب أو من صفاء ضوء القمر أو رؤية وجه المحبوبة، أو من أي أين تستطيع العقلية العلمية المبدعة الخلاقة أن تستلهمه فرضا.
أهم ما يميز هذا المنهج أن الاستدلال الرياضي عموده الفقري وأهم من وقائع التجريب ذاتها. الاستدلال الرياضي عملية استنباطية، فلا يعود التجريب مقابلا تماما للاستنباط كما كان الحال مع الاستقراء، على أن الاستنباط هنا لا يعود طبعا إلى القياس الأرسطي، ولا علاقة له بأرسطو ولا حتى في استنباط النتائج الجزئية من الفرض؛ لأن الاستنباط هنا منطقه هو المنطق الرمزي الحديث الذي تنامى في القرن العشرين، منطق العلاقات، والفروض العلمية الآن لم تعد تحكم وقائع بقدر ما تحكم قوانين وعلاقاتها ببعضها.
وحتى هذه الآونة قد يرد في الأحاديث الجارية مصطلح «الاستقراء» كمرادف للمنهج التجريبي، ولكن في سياق المعالجة الدقيقة عبر هذه الصفحات يعني الاستقراء منهج البدء بالملاحظة، وهو حالة خاصة للمنهج التجريبي، فضلا عن أنها متخلفة وقاصرة، منهج العلم التجريبي فعلا هو المنهج الفرضي الاستنباطي.
وكان الاستقراء بهذا التعريف قرين فلسفة العلم الحديث الكلاسيكي، إنه يساوق التفسير الميكانيكي للكون ومبدأه الحتمي، وأيضا يماثله من حيث كونه افتراضا ساد مرحلة مر بها العقل العلمي، كانت مهمة وضرورية في أوانها، ولكن به وبها من المزالق والأخطاء والقصورات المعرفية التي تكشفت للعقل العلمي أثناء سيره أو تقدمه المطرد، فوجب أن يتجاوزها، بعد أن أدت دورها واستنفدت مقتضياتها ودواعيها، وارتفع التقدم العلمي إلى مرحلة أعلى من سابقتها.
والحق أن استيعاب الإبستمولوجيا العلمية في القرن العشرين يرتهن بالرفض المنطقي لمنهج الاستقراء بمعنى البدء بالملاحظة. ولم يكن هذا أمرا يسيرا؛ لأن الاستقراء أكد حركة العلم الحديث وتأكد بها.
ولكي يتضح هذا ونتمكن من استقبال إبستمولوجيا العلم في القرن العشرين بمجامع الصدور لا بد من العودة مرة ثانية إلى نشأة العلم الحديث؛ لكي نلقي الضوء على أبعاد وعوامل لم يتسع لها المجال فيما سبق، وتغدو الآن ضرورية لتفسير سيادة الزعم بالبدء بالملاحظة الحسية، على الرغم مما في هذا الزعم من قصور وأغاليط. فقد رأينا كيف انبثق العلم الحديث في أعقاب العصور الوسطى التي تحددت معالمها بكتب سماوية جعلت القياس الأرسطي هو المنهج الملائم للعصر ومنهج رجال الكنيسة، وأن هذا القياس استدلال هابط، استنباط يتطرف في التنظير والعزوف عن التجريب، ويمكن الآن أن نفهم كيف تمخض في العصر الحديث عن رد فعل معاكس في الاتجاه ومساو في المقدار من حيث إنه يتطرف في التجريب والعزوف عن التنظير، بعد أن أثبتت العصور الوسطى الأوروبية عقم التنظيرات المنبتة الصلة بالطبيعة النابضة والواقع المتأجج الحي، فبدا للعقول الناهضة آنذاك أن شق الطريق الحديث للعلم الحديث يعتمد على نبذ القياس الأرسطي والاستنباطات العقلية طرا، وسلك الطريق العكسي وهو الاستقراء، منهج البدء بالملاحظة ثم تعميمها، يقول برتراند رسل:
لم يكن الصراع بين جاليليو ومحاكم التفتيش صراعا بين الفكر الحر والتعصب، أو بين العلم والدين، بل كان صراعا بين الاستنباط والاستقراء.
37
محاكم التفتيش تستدعي العوامل الخارجية المحيطة بنشأة العلم الحديث، لنجد أنه حين كان يشق أولى خطواته الغضة في القرن السادس عشر لم يكن يتفتح كالزهر، بل كان ينبجس كالدم، وتفاصيل الصراع الدامي بينه وبين السلطة المعرفية التي كانت آنذاك لا تزال في يد رجال الكنيسة معروفة جيدا، ورجال الدين استمدوا سلطانهم هذا، لا لأنهم مبدعون أو يفترضون فروضا جريئة، بل العكس تماما؛ لأنهم فقط أقدر البشر طرا على قراءة الكتاب المقدس، ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية والاستقلال بنشاطهم ، بدا من الحمق الصراح والخسران المبين إقحام فكرة الفرض صنيعة العقل الإنساني الخطاء، القاصر في المواجهة مع رجال الدين المتوسلين بالكتاب المقدس والحقائق الإلهية، فأصر العلماء على أنهم هم الآخرون أقدر البشر طرا على قراءة كتاب آخر لا يقل عن الأناجيل عظمة ولا دلالة على قدرة الرب وبديع صنعه، إنه كتاب الطبيعة المجيد. وأصبح تعبير «قراءة كتاب الطبيعة المجيد»
38 - ومنذ أن استعمله جاليليو قائلا: إنه مكتوب بلغة الرياضيات - تعبيرا شائعا في تلك المرحلة للدلالة على نشاط العلماء. إنه محض قراءة مصوغة باللغة الرياضية، محض مشاهدة لوقائع التجريب ثم تعميمها، فلا إبداع ولا فروض، بل وفي تجسيد وتجريد الفلسفة لروح الموضوع وعصره، عمل فرنسيس بيكون على تحذير العلماء من مغبة الفروض، وأسماها «استباق الطبيعة» موضحا طرق تجنبها، كما رأينا، هكذا لم ينحصر الاستقراء في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ العلم الحديث في البدء بالملاحظة، بل وأيضا الاقتصار عليها.
ومع انتهاء الصراع مع سلطة رجال الدين، واستقلال حركة العلم الطبيعي، ثم تحررها التام بفضل قوتها المنطقية المتنامية، شهد القرن الثامن عشر فكرة الفرض العلمي تتقدم على استحياء، خصوصا على يد عالم الكهرباء الفرنسي أمبير، ثم تعاظم شأنها وأثبتت ذاتها في القرن التاسع عشر بفضل العالم الفرنسي أيضا المتوقد الذهن كلود برنار الذي أكد أن عماد البحث العلمي شقان: الفرض والملاحظة.
وإذا تركنا العوامل الخارجية وعدنا إلى قلب حركة العلم وعواملها الداخلية، نجد أن المنهج الاستقرائي يتواكب أيضا وأكثر مع إبستمولوجيا العلم الحديث زمانيا وتاريخيا. وهو هكذا؛ لأنه على تمام التساوق والاتساق المنطقي مع تفسيرها الميكانيكي للكون ومبدأها الحتمي. وإذا كانت فرضية الاستقراء كمنهج قد مكنت رجال العلم من خوض صراعهم مع رجال الدين والانتصار عليهم، فإن الحتمية الميكانيكية قد مكنت لفرضية الاستقراء من التربع جاثمة على صدر حركة العلم الحديث «الكلاسيكي»، فيستند التعميم الاستقرائي على قانون العلية الذي هو وجه آخر للحتمية، وكل وجوه أو عناصر الحتمية الميكانيكية، هي الأخرى تتساوق وتتسق مع الاستقراء كمنهج. فإذا كانت الحتمية تعني - كما ذكرنا - ضرورية قوانين الطبيعة المطردة دائما وثبوتها ويقينها، فلا تخلف ولا مصادفة ولا احتمال موضوعي ... فسوف يكون الجزء شاهدا على الكل، وتكفي ملاحظة بسيطة، وقائع تجريبية محدودة ثم تعميمها، لا سيما وأن العلم الكلاسيكي تعامل مع ظواهر كبرى، جميعها واقعة في خبرة الحواس، فتبدو موضوعا قابلا للملاحظة المباشرة، وبموضوعية مطلقة بلا أدنى تدخل من الذات العارفة، ويكاد يقتصر عملها على تعميم وقائع الملاحظة المحدودة في قوانين كلية، وسنصل في النهاية إلى الصورة الكاملة لكون ميكانيكي، آلة ضخمة مغلقة على ذاتها، من مادة واحدة متجانسة، وبواسطة عللها الداخلية، وتبعا لقوانينها الخاصة تسير تلقائيا في مسارها المحتوم.
فكانت كل خطوة ناجحة يحرزها العلم الكلاسيكي في إطار مشروعه الحتمي الميكانيكي، تؤكد الاستقراء، ويتأكد بها. ومنذ الوهلة الأولى بدا للعيان أن هذا النجاح المنقطع النظير الذي أحرزه العلم، دونا عن كل المحاولات المعرفية التي بذلها الإنسان من قبل، لا بد وأنه يدور وجودا وعدما مع العنصر المستحدث في هذا النسق المعرفي الجديد - العلم. العنصر المستحدث هو التجربة: الاعتماد النظامي على معطيات الحواس فبدأ العلم تجريبيا متطرفا - لردة الفعل العكسية للاستنباط الأرسطي - ثم جعله نجاحه يتطرف أكثر وأكثر في تجريبية. إن الاستقراء، الذي يبدأ بالملاحظة التجريبية ليتقهقر دور العقل والإبداع الإنساني - إن لم يلغ - هو طبعا تجريبية متطرفة، إمبيريقية صاغتها النزعة الاستقرائية وإمامها جون ستيوارت مل.
هكذا كان العلم الحديث منتشيا بتجريبيته المتطرفة، وتحرص النزعة الاستقرائية على تأكيدها والتطرف بها أكثر. ولكن في قلب تلك الأجواء، وقبل جون ستيوارت بقرن من الزمان، نهض ديفيد هيوم ليلفت الأنظار إلى أن التعميم الاستقرائي ينطوي على مغالطة هي قفزة غير مبررة، فكانت مشكلة الاستقراء، يأس الفلسفة وفضيحتها؛ إذ بدا أنها وصلت بالميثودولوجيا - أي فلسفة أو نظرية المنهج العلمي - إلى طريق مسدود. والواقع أنها كانت إيذانا بالطريق المسدود الذي ستصل إليه الفيزياء الكلاسيكية ذاتها وضرورة الانقلاب على إبستمولوجيتها، كما فعلت نظرية الكوانتم ونظرية النسبية لآينشتين في القرن العشرين.
لذلك أكدنا أن مشكلة الاستقراء التي أثيرت قبل أزمة الفيزياء الكلاسيكية بمائة عام ونيف ليست يأس الفلسفة أو فضيحتها، بل هي تأكيد لقدرة الفلسفة على استشراف الآفاق المستقبلية. إن استعصاء مشكلة الاستقراء على الحل وفقا لإبستمولوجيا العلم الكلاسيكي الحديث (حتمية، علية، اطراد، ضرورة، يقين ...) لم يكن يعني عقم الميثودولوجيا وضرورة وأد فلسفة العلم، بل كان يعني عقم الاستقراء ذاته وضرورة الانقلاب عليه من أجل الوقوف على الكنه الحقيقي للنشاط العلمي، بعبارة أخرى، لم تكشف المشكلة عن مثلب في الفلسفة، بل عن مثلب أو مثالب منطقية في فرضية الاستقراء ذاتها، كالآتي: (1)
استحالة تبرير القفزة التعميمية. (2)
لو كان القانون العلمي محض تعميم لوقائع مستقرأة، فكيف يتسلل إليه الخطأ، وهو طبعا أمر واقع في العلم ؟! (3)
إذا عجزنا عن تبرير الخطأ، وبالتالي تبرير التصحيحات، فكيف يتأتي التقدم العلمي. (4)
البدء بالملاحظة يرسم طريقا إلى الفرض أو القانون، كل من يسلكه، ويتبع خطوات الاستقراء يصل إلى قانون، إلى اكتشاف حقيقة كما أوضحت مناهج جون ستيوارت مل، وأوضح بيكون أن البحث العلمي متاح لذوي العقول المتوسطة. إذن العلم - بتعميماته الاستقرائية - نشاط آلي، فكيف يمكن أن نفلسفه كفعالية إنسانية نامية باستمرار؟! (5)
إذا كان العلم نشاطا آليا، ولا نجد دورا للذكاء والإبداع الإنساني، فما هو تبرير التفاوت في قدرات العلماء وإنجازاتهم؟! (6)
والأهم، ما هو تبرير بقاء مشاكل علمية (مثلا السرطان) بغير حل، مع توافر كم هائل من المعطيات التجريبية بشأنها يمكن ملاحظتها ثم تعميمها.
ثم تقدمت فلسفة العلم في القرن العشرين خطوة منطقية أبعد وأجرأ؛ لتؤكد أن الاستقراء كمنهج للعلم التجريبي ليس به مثالب وأغاليط منطقية فحسب، بل به استحالة منطقية أصلا، بعبارة موجزة البدء بالملاحظة يستحيل أن يفضي إلى شيء، والمسألة - كما طرحها جاستون باشلا - أن الواقع هو نقطة نهاية التفكير العلمي لا نقطة بدايته. وهذه فكرة انطلق فيها فلاسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين وأمعنوا في الانطلاق، فقد أصبح من الممكن بعد كل هذا الشوط من التقدم العلمي والإحاطة الوصفية بالوقائع - من الممكن أن يناقش بول فيبرآبند فكرة علم طبيعي بغير خبرة تجريبية، بغير عناصر حسية!
39
وكما سنرى كان كارل بوير أول وأهم من اعتنوا بتوضيح وإثبات أن البدء بالملاحظة الخالصة فقط، ثم تعميمها فنصل إلى قانون أو نظرية علمية وبغير أن يكون في الذهن أي شيء من صميم طبيعة النظرية ... هذه فكرة مستحيلة خلف محال، وقد مثل بوبر لهذا بأقصوصة عن رجل كرس حياته للعلم فأخذ يسجل كل ما استطاع أن يلاحظه، ثم أوصى أن تورث هذه المجموعة من الملاحظات التي لا تساوي شيئا إلى «الجمعية الملكية للعلوم بإنجلترا»؛ لكي تستعمل كدليل استقرائي! وهي طبعا لن تفيد العلم في شيء ولن تفضي إلى شيء. وإذا افترضنا كومبيوتر يقوم بدور آلة استقرائية فيجمع المعطيات الحسية المتماثلة ليعممها في قانون، فإن عمله هذا مستحيل بدون فرض مسبق، لا بد قبلا من برنامج يحدد للكومبيوتر ما هي أوجه التماثل التي يبحث عنها ومتى يأخذ الوقائع التجريبية أو المعطيات الحسية على أنها متماثلة. وقد حاول بوير أن يؤكد هذا أكثر، فبدأ إحدى محاضراته في فيينا بأن قال لطلاب الفيزياء: «أمسك بالقلم والورقة، لاحظ بعناية ودقة، سجل ما تلاحظه.» بالطبع تساءل الطلاب عما يريدهم بوبر أن يلاحظوه، وهنا أوضح لهم كيف أن «لاحظ!» فحسب لا تعني شيئا، العالم لا يلاحظ فحسب، الملاحظة دائما منتقاة، توجهها مشكلة مختارة من موضوع ما، ومهمة محددة، واهتمام معين، ووجهة من النظر نريد من الملاحظة أن تختبرها. المشكلة هي ما يبدأ به العالم وليس الملاحظة الخالصة كما يدعي الاستقرائيون، فماذا عساه أن يلاحظ ويسجل؟ بائع جرائد ينادي وآخر يصيح، وناقوس يدق ... أم يلاحظ أن كل هذا يعرقل بحثه؟ إن العالم يحتاج مسبقا لنظرية يلاحظ على أساسها، فهو يبدأ من الحصيلة المعرفية السابقة لتحدد له موقف المشكلة وتعين على فهمها، فيقدح عبقريته العلمية ليتوصل إلى الفرض الذي يستطيع حلها، ها هنا فقط يلجأ إلى الملاحظة ليختبر فرضه تجريبيا عن طريق النتائج المستنبطة؛
40
تلك هي الصورة العامة لمسار البحث التجريبي، إنه المنهج الفرضي الاستنباطي.
ومن الرائع أن نحسم الأمر بشهادة أعظم عالم فيزياء نظرية الآن، يزهو القرن العشرون حقا به مستقبلا القرن الحادي والعشرين، وهو الوحيد الذي يمكن مضاهاته بآينشتين، إنه ستيفن هوكنج
S. Hawking (1942-؟):
41 «لم أسمع عن أية نظرية كبرى قد طرحت على أساس من التجربة فحسب، فالنظرية هي التي تأتي دائما أولا، ويتم طرحها بسبب الرغبة في الحصول على نموذج رياضي رائع ومتسق. ثم تعطي النظرية تنبؤات، وهذه يمكن اختبارها بالملاحظة، وإذا اتفقت الملاحظات مع التنبؤات فإن هذا لا يبرهن على النظرية، وإنما تظل النظرية باقية لتصنع تنبؤات جديدة، يتم مرة أخرى اختبارها بالملاحظة. وإذا لم تتفق الملاحظات مع التنبؤات، نتخلى عن النظرية.»
42
وحين يعرض الفصل السادس لنظرية كارل بوبر المنهجية سوف نلاحظ أن قول هوكنج هذا بمثابة تلخيص لنظرية بوبر بأسرها، وليس فقط تأكيدا لأسبقية الفرض مع الملاحظة التي بات مسلما بها من قبل الأطراف المعنية. وهذا عالم الفيزياء الرياضية بولكين هورن، الذي ينعم بزمالة النابغة الفذ ستيفن هوكنج في قسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية بجامعة كمبردج، يقول إن الملاحظة لا تفضي إلى الفرض أبدا؛ لأن الفرض قراءة للوقائع التجريبية بواسطة فعل فردي خلاق، إبداع لعقلية علمية، ثم يمحص المجتمع العلمي تلك البصيرة الخلاقة جيدا قبل أن يصدق عليها. والواقع أنه لا كوبرنيقوس ولا جاليليو ولا نيوتن، ولا أي رائد من الرواد الذين شيدوا صرح العلم الحديث، ولا أي من العلماء الأقل حجما ولا من العلماء طرا، توصل إلى إنجازاته عن طريق الاستقراء، أي عن طريق البدء بالملاحظة ثم تعميمها لكي يصل إلى القانون العلمي، بل جميعهم يبدأ بفرض يستنبط نتائجه ثم يقوم باختبارها تجريبيا، ولكن بفعل العوامل الداخلية والخارجية لحركة العلم الحديث ران الوهم الاستقرائي على العقول، من حيث ران الوهم الحتمي الميكانيكي.
وقد تبددت هذه الأوهام في ضوء ثورة الكوانتم والنسبية، ثورة الفيزياء الكبرى في القرن العشرين، وسوف يتكرس لها الفصل التالي توا. وأصبح العلم الإخباري التجريبي يتعامل مع كيانات غير قابلة للملاحظة أصلا، فلا يمكن رصد الجسيمات الذرية، يمكن فقط رصد آثارها على الأجهزة المعملية، لقد انتهى القرن العشرون مهللا للإنجاز العبقري للعالم المصري أحمد زويل، وقد فاز عن جدارة بجائزة نوبل، فعن طريق أشعة الليزر استطاع لأول مرة في التاريخ تصوير ميلاد الجزيئات، أي رصده تجريبيا وهو يحدث في زمن يقدر بالفمتو ثانية؛ أي واحد على مليون بليون من الثانية، والجزيئات وحدة كبيرة نسبيا، على مدار القرن العشرين يتعامل العلماء مع ما هو أصغر كثيرا كثيرا، الذرة والإلكترون وسائر الجسيمات الذرية التي ارتدت إلى الكواركات، وأنجز علم القرن العشرين ما أنجزه وسائر هذه الكيانات غير قابلة للملاحظة والرصد، لكن يمكن الملاحظة التجريبية الدقيقة لتأثيراتها على الأجهزة المعملية، مما يعني أن التجريب يشترط قبلا فرضا نصمم التجربة والآثار المتوقعة على أساسه، وإلا سيدخل العالم معمله ولا يجد شيئا يفعله. تبعا لما ترسمه نظرية المنهج الفرضي الاستنباطي التي وضعت الإصبع على حقيقة المنهج التجريبي، لا بد من فرض يفترضه العقل، يخلقه خلقا ويبدعه إبداعا، ثم يستنبط نتائجه وهنا ينزل إلى الملاحظة التجريبية، بل وأحيانا كثيرة يصعب إجراء التجربة لأسباب فنية أو لأنها باهظة التكاليف فيحتكم العلماء إلى «التجارب العقلية»، أي تخيل التجربة وافتراض نتائجها المتوقعة، وعلماء الفيزياء النظرية في القرن العشرين مغرمون «بالتجارب العقلية» هذه.
وفي كل حال «العلم تجريبي» كما أن «أ هي أ»، ولكن في ضوء المنهج الفرضي الاستنباطي ليست الملاحظة التجريبية مصدرا للفرض العلمي، بل محكا له، فهو لا يحدد الطريق إلى الفرض، هذا الطريق لا يمكن أن يكون تحديده مسألة منطق أو قواعد منهجية؛ لأنه يعتمد على عنصر العبقرية والإبداع والذكاء الإنساني، فيمكن أن يترك مثلا للدراسة السيكولوجية للإبداع العلمي. معنى هذا ببساطة أن العلم صنيعة الإنسان، وقد تبدو هذه حقيقة أوضح من شمس النهار، لكنها غابت بفعل الغيوم الاستقرائية، ولم تتبلور إلا في القرن العشرين، الذي أدرك أن العلم ليس البتة نشاطا آليا متاحا لذوي العقول المتوسطة كما رأى بيكون، أو مجرد قراءة لكتاب الطبيعة المجيد كما قال جاليليو. وبغير حاجة لتفصيلات واستطرادات يمكن إدراك كيف أن كل المثالب المنطقية المحيقة بالاستقراء تنداح كما تنداح دوائر في لجة ماء ألقي فيه بالحجر، مع رؤية المنهج الفرضي الاستنباطي.
إن العلم صنيعة الإنسان أي فعالية نامية باستمرار، كل خطوة قابلة للتجاوز، للتقدم؛ لذلك يجعل المنهج الفرضي الاستنباطي كل قانون مجرد فرض ناجح، في حين أن المنهج الاستقرائي يجعل كل فرض ناجح قانونا، اكتشافا لحقيقة. إن الاستقراء - منهج البدء بالملاحظة الصلبة - هو منهج لتأسيس وتبرير العبارات العلمية على أساس مكين هو الوقائع التجريبية، في حين أن العلم التجريبي بناء صميم طبيعته الصيرورة والتقدم المستمر، وها هنا نجد المنهج الفرضي الاستنباطي نظرية في الإبداع والتقدم المستمر.
إن وضع الفرض قبل الملاحظة بمثابة ثورة منهجية، تكاد تشابه الثورة الكوبرنيقية التي وضعت الشمس بدلا من الأرض كمركز، فتغيرت منظومة الكون والنظرة إلى طبيعته وحلت إشكاليات فلكية جمة وارتسم طريق لتقدم متسارع للعلم. وبالمثل تغيرت منظومة المنهج والنظرة لطبيعة المعرفة العلية وحلت إشكاليات إبستمولوجية جمة وارتسم طريق لتطور متسارع في فلسفة العلم.
على أن النظرية الميثودولوجية (أي نظرية المنهج العلمي) التي تبدأ بالفرض لا يقتصر مردودها على عقر دارها - الإبستمولوجيا وفلسفة العلم - بل أيضا هي القادرة على صياغة المنهج التجريبي من حيث هو العقلانية التجريبية، وبوصفه قوة إيجابية امتلكها الإنسان وفعالية حضارية يمكن استغلالها وتسخيرها في كل تعامل مع الواقع المتعين.
وقبل أن نوضح هذه النقطة الهامة والمجدية كثيرا، نلاحظ قبلا أن المنهج العلمي واحد وهو كثير! واحد على مستوى النظر الفلسفي وكثير متعدد على مستوى التطبيقات العينية.
ذلك أن النظرية الفلسفية الميثودولوجية ليست مجرد توصيف لما يفعله العلماء، ولا هي محض معيار صوري يفرض عليهم، بل مركب جدلي من الوصفية والمعيارية. إن الفلسفة دائما هي الوعي بموضوعها، الوعي المتميز عن الفهم التفصيلي التفتيتي، متميز بأنه أشمل نظرة لما هو كائن؛ تأصيلا له واستشرافا لما ينبغي أن يكون، استشراف الطبائع العامة المميزة للبحث العلمي، أي المعالم المحورية أو الثوابت البنيوية، علم مناهج البحث - الذي رأيناه صلب فلسفة العلم - حين يتعرض للمنهج التجريبي بهذه النظرة الجذرية التأصيلية والشمولية الاستشرافية، يحاول الاهتداء إلى سمات البنية والقسمات الجوهرية، فيكون المنهج الفرضي الاستنباطي - كما كان المنهج الاستقرائي - هو التصور الفلسفي المنطقي للهيكل العام الذي يرسم أسلوب التعامل العلمي مع الواقع؛ لذلك فهو واحد.
لكن الواقع العلمي متنوع، فالعالم التجريبي للبكتريا مختلف عن العالم التجريبي للفلك، وغير العالم التجريبي للنفس ... إلخ، وبطبيعة الحال لا بد أن تختلف طرائق البحث وأساليبه الإجرائية وتقاناته الإمبيريقية من علم إلى علم، بل إنها تختلف داخل العلم الواحد، أولا تبعا لدرجة تقدمه، وثانيا تبعا لزوايا ومستويات تناوله لموضوعه. على هذه الاختلافات الإجرائية ينصب اهتمام العلماء المتخصصين، كل يسخره لخدمة موضوعه، وبما يتلاءم مع الطبيعة النوعية لمادة بحثه، بكل تميزها وخصوصيتها عن مواد العلوم الأخرى. بهذا المنظور التخصصي تظهر علوم لمناهج البحث ملحقة بفروع العلوم المختلفة لتعالج الأساليب التقانية والوسائل الاختصاصية المتكيفة مع موضوع البحث ومادته التي تختلف من علم لآخر، فنجد مثلا «مناهج البحث في علم الاجتماع»، و«مناهج البحث في علم الفلك»، و«مناهج البحث في الهندسة الوراثية»، و«مناهج البحث في علم النفس» ... إلخ، وكل فرع قد ينقسم بدوره إلى فروع، فنجد «مناهج البحث في علم النفس الاجتماعي»، و«مناهج البحث في علم نفس الشخصية»، و«مناهج البحث في علم النفس الإكلينيكي» ... إلخ هذه المسائل المتعلقة بنوعيات الإمبيريقيات وأساليب الممارسة الإجرائية، مسألة تخصصية يعالجها كل علم وفقا لطبيعة مادته، والعلماء المنشغلون بها هم الأخبر.
والفلسفة دائما هي النظرة الكلية الباحثة عن المبادئ العمومية الكامنة في الأعماق البعيدة، وبهذا المنظور نجد الميثودولوجيا - أي علم مناهج البحث الذي رأيناه صلب فلسفة العلم - يبحث من وراء هذه الاختلافات عن الأسس العامة التي يمكن تجريدها من المواقف العلمية المختلفة، لنجدها أسسا منطبقة لا على الفلك دون الاجتماع أو النفس دون الكيمياء، بل هي منطبقة على كل بحث علمي من حيث هو علمي. معنى هذا أن المنهج الفرضي الاستنباطي هو المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية الفيزيوكيماوية والعلوم الحيوية والعلوم الإنسانية على السواء.
وكما ذكرنا لا يقتصر أمره على تجريد روح العلوم الإخبارية وطرائق تناميها، والتصور الفلسفي للمنهج التجريبي حين يقف على المعالم المحورية والثوابت البنيوية في شتى متغيرات المناهج العلمية التجريبية، فإنه يعطينا خلاصة وفحوى آلية تعامل العقل الإنساني - الملتزم والمثمر - مع الواقع الذي نعيش فيه، ولا غرو أن تأتينا من العلم، فمهما تمخضت البحوث العلمية في النهاية - أو في تطبيقاتها - عن إنجازات تلغي الزمان والمكان، كالسفر بسرعة الصوت والتواصل بسرعة الضوء، وغزو الفضاء والذرة، وتحويل مجاري الأنهار واخضرار الصحاري، مقاومة الأمراض ومداواة العاهات الجسدية والنفسية والاجتماعية ... مهما تحققت إعجازات تتضاءل بجوارها معجزات الأساطير، سيظل المغزى الأعظم للبحث العلمي هو أنه تجسيد لطرائق التفكير السديدة المثمرة، لقوة إيجابية وآلية فعالة امتلكها عقل الإنسان وأحسن تشغيلها وتطويرها، ويمكن تسخيرها في تعاملات شتى مع الواقع وليس البحث العلمي فحسب، فتمثل قوة دافعة للحضارة بجملتها.
ربما لهذا رأى جون ستيوارت مل أن المنهج الاستقرائي هو آلية الاستدلال الوحيدة التي يمتلكها العقل ومنطق العلم ومنطق العمل ومنطق الحياة، وكما رأينا، التعميم الاستقرائي الساذج محاط بقصورات وصعوبات وإشكاليات جمة. أما حين تقدم النظرة الفلسفية المنهج العلمي التجريبي بوصفه المنهج الفرض الاستنباطي الذي ينطلق من فرض أبدعه عقل الإنسان ثم يخرج منه بنتائج جزئية يهبط بها إلى الواقع التجريبي ليختبر الفرض، فيقبله أو يعدله أو يرفضه، فإن النظرية الفلسفية بهذا تقدم صياغة مثلى للعقلانية التجريبية، للعقل حين يرسم سبلا موجهة ناجحة، حين ينطلق بمجمل طاقاته وقدراته أقصى انطلاقة في محاولاته الجسورة لوضع الفروض العلمية، لكنها دونا عن كل انطلاقات العقل ملتزمة بالواقع بما تنبئ به التجربة لتتعدل الفروض أو تقبل أو تلغى وفقا له. منهج العلم التجريبي ينصت لشهادة الحواس ومعطيات الوقائع، فتعين موضع الخطأ والكذب في الفرض حين يتعارض معها، يتم تصحيحه والبحث عن فرض جديد متلاف لذلك الخطأ، يعرض بدوره على محكمة التجريب، ويتم تعديله بفرض جديد ... وهكذا دواليك في متوالية لتقدم لا يتوقف أبدا، حتى ليكاد أن يكون البحث العلمي هو التمثيل العيني لمقولة التقدم، كفعالية مستمرة تحمل في صلب ذاتها عوامل تناميها المتواصل دوما، كل إجابة يتوصل إليها العلم تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم إلى تقدم أعلى، ومهما علونا في مدارج التقدم لن تغلق المعامل أبوابها، ولن ينتهي البحث العلمي أبدا. لذلك لم يكن العلم بناء مشيدا من حقائق قاطعة، بل هو نسق من فروض ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة، كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة - تغير مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر.
وفي خضم هذه الحركية التقدمية الجبارة ينتصب مارد المنهج العلمي بوصفه الثابت الديناميكي إن جاز التعبير، أو القوة المثمرة الولود لكل ما يتواتر من تغيرات. في أعطاف هذا المارد تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاس لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ، دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحكم الموجب النفاذ: إنها مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع لا يقوى على الاضطلاع بها إلا المنهج العلمي، فهو التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنه العقلانية التجريبية.
هكذا يستقي المنهج العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة مستصفاة للتفكير المثمر الملتزم بالواقع والوقائع؛ لتعقيل السير نحو الهدف، وكل لحظة من لحظات زماننا الظافر ببلورة المنهج العلمي - بفضل فلاسفة العلم في بحثهم الدءوب عن صياغة طرائق التفكير العلمي السديد - تشهد بتصديق مستديم على أن هذا المنهج أنجع وسيلة امتلكها الإنسان للسيطرة على واقعة، إنه سبيل إلى الظفر المبين في خضم عالم الواقع ومشكلاته.
لقد امتد هذا السبيل واضحا ممهدا بفضل جهود القرن العشرين في العلم وفلسفته. وترسم عبر الصفحات السابقة في هذا الفصل حد واضح بين فلسفة العلم الحديث حتى نهاية القرن التاسع عشر وفلسفة العلم في القرن العشرين، حد أو فارق يتبلور حول مغزى التجريبية، فبعد أن كانت معينا نغترف منه الفروض العلمية أصبحت في القرن العشرين محكا نلتجئ إليه لاختبار الفروض وقبولها أو تعديلها أو رفضها، فاتضح أن التجريبية في جوهرها هي الاختبارية. ويمكن أن نلاحظ عبقرية اللغة العربية التي وضعت مصطلح «المختبر» مرادفا للمعمل، ورمزه النمطي أنبوبة «الاختبار» الشهيرة. وأخيرا إذا كانت نظرية المنهج الفرضي الاستنباطي قد ارتهنت بها كل تلك الإيجابيات الجمة، فالواقع أنها انعكاس لإيجابيات التطورات العلمية التي تسارعت في القرن العشرين واقتحمت أعماق الذرة وأغوار الفضاء السحيق. ألم نتفق قبلا على أن نظرية المنهج خير تجريد وتجسيد لروح العصر والقرن؟!
والحق أن المحصلات الباذخة للعلم وفلسفته ونظريته المنهجية في القرن العشرين، كانت نتاجا للثورة المباركة التي اقترنت بها مطالع القرن العشرين.
فما خطب هذه الثورة؟
الفصل الرابع
ثورة الفيزياء الكبرى من منظور فلسفة العلم
أولا: الكوانتم
1
في فاتحة القرن العشرين، وبالتحديد في السابع عشر من ديسمبر العام 1900م، في جلسة الجمعية الفيزيائية التابعة لأكاديمية العلوم في برلين، أعلن ماكس بلانك
M. Plank (1858-1947م) فرض الكوانتم العبقري، ولحقت به نظرية النسبية لآينشتين بعد سنوات خمس. هذه البداية الحاسمة تجعل القرن العشرين متميزا كوحدة فريدة ونقطة تحول في مسار العلم، فلم تكن بدايته مجرد مسألة تقويم ميلادي أو تعدادا في تواريخ الأيام، بل هي مستهل طريق جديد في البحث العلمي، وطريق جديد بكل معاني الجدة المتمايزة عن المألوف والقديم. إنه طريق شقته ثورة كبرى تقوم بصفة أساسية على دعامتين هما نظرية الكوانتم ونظرية النسبية.
سرعان ما أثبتت سنوات القرن العشرين وعقوده كم كانت هذه الثورة مباركة، وكم كان الانقلاب الذي أحدثته في مسلمات العقل العلمي ومنظوره ورؤاه انقلابا إيجابيا ممثلا لمرحلة أعلى من تطور التفكير العلمي، وكم كان طريقها الجديد مثمرا واعدا، وحق اعتباره طريقا للظفر العلمي المبين. فقد انتهى القرن العشرون متوجا بحصاد علمي يتيه به على القرون أجمعين، تفجرت فيه الطاقة التقدمية للعلوم الطبيعية، وفاقت كل معدلات التقدم المعهودة من قبل، وبمجرد أن انتهى نصفه الأول قيل: إن «أكثر من ثلاثة أرباع علم الفيزياء المعروف لنا اليوم قد أنتجه القرن العشرون»،
2
وفي نصفه الثاني تضاعف هذا النتاج . ولحقت بالفيزياء - وهي العلم الطبيعي الأم - بقية أفرع العلوم الطبيعية، ونشأت فروع أخرى ولا تزال تنشأ في حركية تقدمية دافقة، تبدو فيها الفيزياء وكأنها ظلت طوال القرن العشرين محتفظة بدماء الثورة، ومحورا تدور حوله فلسفة العلم.
ومنذ البداية تصدر فرض الكوانتم طليعة المد الثوري، فما هو الكوانتم؟
لكي نجيب على هذا السؤال، لا بد من العود إلى المشكلة العلمية التي تقدم فرض الكوانتم لمحاولة حلها، ثم تعاظم أمره فيما بعد، وتلك المشكلة لم تكن مجرد مشكلة، بل كانت معضلة في إطار أزمة الفيزياء الكلاسيكية زادت من حدة الأزمة، يمكن أن نسميها «الكارثة فوق البنفسجية نسبة إلى الأشعة فوق البنفسجية».
إن عائلة الإشعاع الكهرومغناطيسي رحيبة جدا، تمتد بطول الكون وعرضه، ويمكن تصنيفها تبعا لصغر طول الموجة كالآتي: الأشعة الكونية - أشعة جاما - الأشعة السينية - الأشعة فوق البنفسجية - الأشعة المرئية «وهي الضوء بالمعنى المعتاد للكلمة» - الأشعة تحت الحمراء - ذبذبات الراديو. وتنبعث الأشعة تحت الحمراء بفعل التأثير الحراري للمصباح أو الموقد أو اللهب أو الشمس أو النجوم البعيدة ... إلخ. وقد وضعت الفيزياء الكلاسيكية قوانين للإشعاع الحراري، نشير الآن إلى اثنين مألوفين في التجربة اليومية للحس المشترك: (1)
كلما سخن الجسم ازداد سطوعه. (2)
يتغير لون التوهج بازدياد درجة الحرارة.
3
ولكن ظهر للأجسام السوداء خاصية القدرة على امتصاص أشعة الضوء، كما للفلزات خاصية عكسها، فقرر الفيزيائيون اختيار الأجسام السوداء في بحثهم عن الجسم المثالي لتكون عاملا قياسيا، فالجسم الأسود يمتص الإشعاع الكهرومغناطيسي، وهذا يعني أنه يسخن بواسطته إلى أعلى درجة حرارة بالنسبة للأجسام الأخرى، والعكس صحيح فالجسم الأسود يصبح عند التسخين لدرجة حرارة عالية مصدرا للضوء وتنبعث منه الإشعاعات في درجة الحرارة العالية بقوة أكبر من جميع الأجسام الأخرى. إذن فباستعمال الجسم الأسود يمكن وضع قوانين الإشعاع الحراري الكمية بأفضل شكل. وتمثلت هذه القوانين في قانونين، الأول وضعه العالمان ستيفان وبولتسمان، وينص على أن الطاقة التي تنبعث من الجسم الأسود في كل ثانية على صورة إشعاع حراري يتناسب مع الأس الرابع لدرجة حرارته المطلقة،
4
وتحسب درجة الحرارة المطلقة ابتداء من 273 مئوية تحت الصفر فأعلى. أما القانون الثاني فقد وضعه العالم النمساوي فين
W. Wien ، وينص على أنه: بارتفاع درجة حرارة الجسم الأسود فإن طول الموجة المناظرة لأقصى سطوع للضوء المنبعث منه يجب أن يكون أقصر وتنحرف باتجاه القطاع البنفسجي من الطيف الضوئي.
5
وكان كل شيء يسير على ما يرام؛ إذ تشهد الوقائع بالصحة الكاملة لكل قانون منهما على حدة، بيد أن الأزمة التي وصلت إلى حد الكارثة جاءت من إجراء بسيط قام به الفيزيائيان الإنجليزيان رايلي
Rayleigh ، وجينز
Jeans ؛ ليصلا إلى القانون الشامل الذي يجمعهما معا ومؤداه: قوة الإشعاع المنبعث من جسم ساخن تتناسب طرديا مع درجة حرارته المطلقة وعكسيا مع مربع طول الموجة الضوئية المنبعثة منه. وبدا أن هذا القانون يتوافق تماما مع المعطيات التجريبية، ثم اكتشف العلماء أن التوافق يحدث فقط في نطاق الموجات الطويلة من الطيف المرئي وهي الأخضر والأصفر والأحمر. ولكن قانون رايلي/جينز لا ينطبق على الموجات القصيرة عند الاقتراب من الأشعة الزرقاء والبنفسجية وفوق البنفسجية. على هذا يتبع قانون رايلي/جينز الشامل أنه كلما قصرت الموجة كلما ازدادت شدة الإشعاع الحراري، بيد أن شيئا من هذا لم يحدث إبان التجربة، والأدهى أن شدة الإشعاع يجب أن تنمو بغير حدود عند الانتقال إلى موجات أقصر وأقصر، وبالطبع، هذا لا يحدث فيستحيل أن يوجد نمو غير محدود في شدة الموجة، لا شيء في الطبيعة غير محدود باستثناء الكون نفسه؛ لذلك عندما يفضي قانون فيزيائي إلى اللامحدودية فمعنى هذا أن نهايته قد حلت.
6
أصبح هذا المأزق الناجم عن نظرية الإشعاع معروفا باسم الكارثة فوق البنفسجية؛ لأنها بخلاف ما تصور الجميع لم تكن أزمة قانون واحد، بل أزمة التصور الفيزيائي الكلاسيكي بأسره.
هكذا كانت المشكلة التي حاول ماكس بلانك حلها هي إيجاد رابطة بين قانون بولتسمان/ستيفن وقانون فين، بطريقة مختلفة تؤدي إلى نتائج معقولة، وبعد أبحاث عدة، وجد بلانك المعادلة التي تربط بينهما، بطريقة تحول دون الكارثة فوق البنفسجية. بيد أن هذه المعادلة كانت متورطة في مصاعب عديدة ، تتلخص في أنها تأبى الخضوع للأطر الحتمية، أطر الفيزياء الكلاسيكية بينما تتجاوب تجاوبا رائعا مع المعطيات التجريبية، وكان هذا موقفا تراجيديا وجد بلانك نفسه فيه فماذا يفعل؟ هل يأخذ بمنظور العقيدة الحتمية ويحارب الوقائع؟ أم يقف في صف الحقائق ويحارب النظرة القديمة؟ وقد اختار بلانك البديل الثاني.
كانت الفيزياء الكلاسيكية كما أشرنا تقوم على مبدأ بقاء الطاقة، وترى أن الجزيئات تتبادل الطاقة عند اصطدامها مع بعضها، وإن كانت قد وجدت ضربا آخر من الطاقة، لا علاقة له بحركة الجزيئات ويسمى بطاقة الحركة الموجية. ومنذ أن وضع ماكسويل معادلاته الكهرومغناطيسية تحتم على طاقة الإشعاع الضوئي - خصوصا ذات الأصل الحراري - أن تخضع للقوانين العامة للموجات، وهذه الطاقة أيضا مستمرة منتشرة مع الموجة المتحركة، وكان الفيزيائيون على أية حال يسلمون تسليما بأن المادة يمكن تقطيعها أجزاء صغيرة، حتى نصل إلى حد الجزيء والذرة وما هكذا الطاقة. بيد أن تطورات العلم، قد أفصحت عن أن «أية محاولة لاعتبار سيل
Flow ، الطاقة
Stream
عينيا، على الفور تدحض نفسها».
7
حتى جاء ماكس بلانك، فقال: إن الأجسام تكتسب الطاقة أو تعطيها، لا باستمرار كسيل، بل على كمات أو كوانتات حسب المصطلح الذي اختاره «كوانتم وهو كلمة لاتينية تعني كمية أو وجبة»، وكوانتم الضوء بمثابة قطاع ضئيل للغاية من الطاقة إدراكه ليس أسهل من إدراك الذرة. وهذا الكوانتم الذي استحدثه بلانك هو الوحدة الأولية للضوء وللطاقة، يناظر الذرة بوصفها الوحدة الأولية للمادة. وبهذا غزا المنظور الذري الضوء تحت قيادة بلانك.
كل إشعاع - وبالطبع ضمنه الضوء - يخضع لتحكم أعداد صحيحة من وحدة الطاقة الأولية، أي من الكوانتم، فتغدو الطاقة مؤلفة من وحدات أولية، هي الكوانتات جمع كوانتم، وحينما تنبعث الطاقة أو تستوعب، ينتقل كوانتم واحد أو اثنان أو مليون كوانتم، لكن لا يكون ثمة أبدا جزء أو كسر من الكوانتم، الكوانتم بمثابة ذرة الطاقة، ولكن مع ملاحظة أن حجم هذه الذرة، أي مقدار وحدة الطاقة، يتوقف على طول موجة الإشعاع الذي ينتقل به الكوانتم، فكلما كان طول الموجة أقصر كان الكوانتم أكبر؛
8
إذن يختلف كوانتم الطاقة في مقداره باختلاف أنواع الإشعاع، وبينما نعرف عددا معينا من الذرات يحددها الجدول الدوري لمندليف، ثمة عدد لا محدود من الكوانتات.
وها هنا نصل إلى اكتشاف بلانك الفائق الأهمية بخصوص مقدار الكوانتم وسيبدو مؤقتا بطلا متواضعا للنجاة من الكارثة فوق البنفسجية، كوانتم الطاقة - كما ذكرنا - يختلف باختلاف أنواع الإشعاع، فكلما قصر طول موجة الضوء، أي كلما ازداد ترددها، أو بعبارة أخرى كلما كانت أكثر بنفسجية، كلما ازداد كوانتم الضوء، ويعبر عن هذا رياضيا بعلاقة بلانك بين التردد وبين طاقة الكوانتم:
أو ط = ه د. «ط » ترمز للطاقة
energy
و«د » للتردد، أما «ه »
فمعامل التناسب، وهو ثابت في جميع أنواع الطاقة المعروفة حتى الآن؛ لذلك يعرف بثابت بلانك، «أو كوانتم الفعل» وهو ضئيل للغاية تبلغ قيمته: 6,55-10 −27
أرج في الثانية، «أي الرقم 6,55 مقسوما على واحد أمامه سبعة وعشرون صفرا»، ولما كان هذا ثابتا، كانت الطاقة ط تتغير فقط بتغير التردد د، أي بالتوغل في المنطقة فوق البنفسجية، وعلى هذا النحو تنحل ببساطة الكارثة فوق البنفسجية، التي أتت من الجمع بين قانونين؛ هما قانون بولتسمان/ستيفن وقانون فين، في قانون واحد هو قانون رايلي/جينز.
هذه العلاقة المعجزة ط = ه د، لا يمكن إطلاقا إثباتها بأي استنباط منطقي، شأنها في هذا شأن قانون التثاقل «أي الجاذبية» النيوتوني.
9
إنها مثله طريق جديد طرحته العبقرية الخلاقة، ويفضي إلى طرق تزداد رحابة كل يوم، حتى إنها المنعطف الجذري - بألف ولام التعريف - أي المفرد العلم في دنيا العلم الذري.
ليست الكوانتم مجرد حل لمشكلة إشعاع الأجسام السوداء، أو حتى لأية مشكلة معينة، حقا إنها محض نظرية عن أو حول الطبيعة الفيزيائية للإشعاع، ولكن ما أدراك ما الإشعاع! وقد تفاقم أمره حتى استحال الكون بأسره إلى مجموعة من الإشعاعات، كل شعاع منها يتملك زمامه تماما الكوانتم، إنها إبداع جديد كل الجدة، سرعان ما أتى السير فيه بالثمار التي تفوق الحصر والخيال، «وفي كل ظاهرة تدرسها الفيزياء في القرن العشرين يثبت فرض الكوانتم منذ أولى تطبيقاته كل ما يؤيده ويعززه، كل تطبيق يفضي إلى صياغة يظهر فيها ثابت بلانك «ه» بحيث إن مقارنة هذه الصياغة بالنتائج التجريبية تكون دائما مقارنة نشتق منها «ه»؛ أي ثابت بلانك، كوانتم الفعل، وكل قيم «ه» التي حصلنا عليها من دراسة ظواهر شديدة التباين والاختلاف كانت على اتفاق جلي، إنها نفس القيمة التي حددها بلانك».
10
والنتيجة أن دخل الكوانتم في صلب العلم بالعالم الذري.
إن ثبات هذا الثابت هو مناط عظمته المدهشة، وعلى الرغم من أن الظواهر الذرية كانت مطروحة للدراسة المظفرة المطردة النجاح، وموضوعا للعلم الذي يستأثر بأعظم العقول قبل أن يضع بلانك ثابته وفرض الكوانتم بسنوات عديدة، فإن كشف بلانك بلا جدال أعظم إنجاز في ميدان الذرة والأكثر أصالة وعبقرية، وكما يقول لويس دي بروي، لم يكن محض منبه أو دافع للفيزياء الذرية التي شهد القرن العشرون بأنها أكثر فروع العلم حيوية وطموحا، ولكنه أيضا وبلا جدال قد وسع الآفاق، وطرح عديدا من أساليب الفكر الجديدة ستظل نتائجها العميقة في المستقبل الرحيب للفكر البشري. وأدرك الفيزيائيون أنهم بغيرها كانوا سيظلون عاجزين عن فهم واستيعاب أي شيء بخصوص الطبيعة الحقة للظواهر الفيزيائية، لا ظواهر الضوء ولا ظواهر المادة. وفيما بين عامي 1900 و1930م انضافت إلى إنجاز بلانك العبقري جهود كوكبة من ألمع عقول القرن العشرين، أمثال آينشتين نفسه ونيلز بور وإيرفين شرودنجر ولويس دي بروي وفيرنر هيزنبرج وماكس بورن وبول ديراك، فأصبح الكوانتم نظرية شاملة تحكم قبضتها على عالم الإشعاع والذرة، العالم المتناهي في الصغر، الذي تعجز فيزياء نيوتن الكلاسيكية عن التعامل معه، ولن تجد أية همزة وصل بينه وبين حتميتها الميكانيكية البائدة. إن عالم الكوانتم والذرة والإشعاع عالم لا حتمي، وهذا انقلاب جذري في إبستمولوجيا العلم، من النقيض إلى النقيض، من الحتمية إلى اللاحتمية.
وبهذا الانقلاب كان استيعاب أزمة الفيزياء الكلاسيكية التي أتت من ظواهر وعلاقات فيزيائية تأبت على الإطار الحتمي. وفي عرض تلك الأزمة، رأينا النظرية الحركية للغازات وكيف ظهرت الميكانيكا الإحصائية، وقد واجهت مشكلة التجزئة المتساوية
Equipartition
للطاقة على النحو التالي: في أي نظام ميكانيكي ذي عدد كبير من الأجزاء، نجد هذه الأجزاء في حالة توازن أو تعادل حراري
Thermal equilibrium
في درجة الحرارة الثابتة، بحيث تكون طاقة الاضطراب الحراري مقسمة بالتساوي على الدرجات المختلفة للحرية - أي القابلية للحركة - في النظام.
11
وهذه نظرية إحصائية، لكن ما زالت مرتبطة بالمبادئ الكلاسيكية، وقد أثبتت نجاحها إلى حد معقول، إلا أنها وصلت إلى طريق مسدود خلق مشكلة في نظرية التجزئة المتساوية للطاقة، فكيف أتت هذه المشكلة؟
في الإجابة على هذا نلاحظ أنها ذات علاقة بقانون رايلي/جينز الذي أدى إلى الكارثة فوق البنفسجية. ومن ناحية أخرى، ترى فيزياء الجوامد أن الذرات في الجسم الجامد المتجانس تأخذ مواضعها من التوازن، بحيث تظل غير قابلة للتزحزح ما لم يكن ثمة اضطراب حراري، وتتذبذب الذرات - كنتيجة للاضطراب الحراري - عن مواضعها الأصلية من التوازن، بشدة تتزايد كلما ارتفعت درجة الحرارة، ولكل الذرات هنا نفس متوسط الطاقة، وهذا المتوسط مكن الميكانيكا الإحصائية الكلاسيكية من استنباط النتيجة التالية: الحرارة النوعية الذرية لأي جسم جامد (كمية الحرارة التي تلزمه لكي ترتفع حرارة جرام واحد منه درجة حرارة واحدة) معادلة لما يقرب من 6 سعرات حرارية، وهذا القانون يعرف بقانون دولون وبيتي
Dulong & Patit
باسم واضعيه. وقد بدت صحته إلى حد كبير، ولكن ظهرت جوامد معينة خصوصا الجوامد شديدة الصلابة كالماس لها حرارة ذرية نوعية أقل من ستة سعرات حرارية. وبالنسبة لكل الأجسام الجامدة إذا انخفضت درجة الحرارة ستأتي نقطة يسقط معها قانون دولون وبيتي؛ إذ تصبح الحرارة النوعية أقل مما قدرا، مما يعني مشكلة تهز دعائم فرضية التجزئة المتساوية للطاقة.
أما نظرية الكوانتم فقد فسرت هذه الظواهر الشاذة تفسيرا جيدا، فدرأت مثلمة قانون دولون/بيتي مثلما درأت مثلمة قانون رايلي/جينز، وأحرزت بدقة فائقة هدف تحاشي التجزئة المتساوية للطاقة؛ ذلك أن ذرات الجسم الجامد تهتز فعلا عن مواضعها من التوازن بتردد يعتمد على كتلتها وعلى شدة القوة المتجددة، وتبعا لفرض الكوانتم، يكون تذبذب الذرة معادلا لما لا يقل عن كوانتم واحد من الطاقة مناظرا لتردد التذبذب، فإذا كان الاضطراب الحراري يستطيع بصعوبة بالغة أن يمد الذرة فقط بالكوانتم الذي تحتاجه لكي تهتز، لن تتحرك الذرة عن موضعها ولن تحدث التجزئة المتساوية. كوانتم التذبذب بالنسبة لذرات عدد كبير من الجوامد صغير جدا لدرجة أن الاضطراب الحراري في درجات الحرارة العادية، يمكنه بسهولة تزويد الذرات به، فتحدث التجزئة المتساوية للطاقة وينطبق قانون دولون وبيتي. ولكن بالنسبة للأجسام شديدة الصلابة كالماس، نجد أن كوانتم التذبذب كبير، حتى إن التجزئة المتساوية لا يمكن أن تحدث في درجات الحرارة العادية؛ لهذا ينهار قانون دولون وبيتي. وأخيرا كلما انخفضت درجة الحرارة ستأتي نقطة حيث لا يعود الاضطراب الحراري كافيا - بالنسبة لكل الجوامد - ليزود كل الذرات بما تحتاجه من كوانتم للتذبذب، ونتيجة لهذا تسقط الحرارة النوعية دون معدلها العادي،
12
وهكذا يحل الكوانتم المشكلة ببساطة ويبقى ليحكم الميدان.
لقد استطاع الكوانتم أن يحل هذه المشكلة أو تلك في هذا الميدان أو ذاك؛ لأنه استطاع قبلا أن يجتاح العالم الذري بأسره، ففي عام 1913م كان مفهوم بلانك الألمعي المدهش قد تدعم بالعديد الجم من الوقائع، وفي هذا الوقت جاء أهم تطبيق للكوانتم؛ وهو نظرية الذرة عند نيلز بور
Niels Bohr (1855-1962م)، حيث توحد أخيرا اتجاها التطور: اتجاه نظرية الذرة واتجاه نظرية الإشعاع؛ إذ رأى بور أن الوصف الكامل للظواهر يتطلب كليهما، بعد أن كانت الفيزياء الكلاسيكية ترى أنهما يستبعدان بعضهما، فالظاهرة إما ذرة وإما إشعاع. رفض بور هذا، ووضع مبدأه المعروف باسم مبدأ التكامل
Complementary
الذي لبى الاحتياج لكلا المفهومين بغير أن يتصادما أو يتعارضا، بل يتحدا ويتآلفا.
كان قد اتضح أن الذرة ذاتها ينبغي أن تعد مجموعة من الجسيمات الأصغر منها، والتي مع هذا تتماسك بقوة تجعل الذرة تسلك بالنسبة لجميع التفاعلات الكيميائية كوحدة ثابتة، فكانت الفيزياء النظرية السابقة على عصر الكوانتم تعلم أن للذرة تركيبا داخليا هو ذلك الذي قام به العالم الروسي مندلييف في أواخر القرن التاسع عشر، ثم ربط العالم الإنجليزي إرنست رذرفورد بين هذه الكشوف الكيميائية وبين كشف الإلكترون، ووضع الأنموذج الكوكبي الشهير للذرة بوصفها مؤلفة من نواة يدور حولها عدد معين من الإلكترونات، كأنها الكواكب تسير في مداراتها. والعلماء بالطبع لا يستطيعون اختراق الذرة، ولكن يكشفون عن بنيتها عن طريق ملاحظة الظواهر الناجمة عن هذه البنية، ومن بين هذه الظواهر أطياف الأشعة الكهرومغناطيسية التي تنبعث من الذرة أو من مكوناتها تحت ظروف اضطراب حراري أو كهربي معينة، وهذه الأشعة تعد بحق مميزة للذرة التي تنبعث عنها، فهي تناظر الأحداث التي تحدث داخلها فيمكن أن تعلمنا الكثير عن بنية الذرة، من هنا كان تصنيف الأطياف ودراستها دراسة منهجية هي مهمة كبرى للفيزيائيين، وقاموا بجهود ضخمة في هذا الصدد ووصلوا إلى نتائج هامة، وهذا منذ أن تمكن هيرشيل في عام 1832م من التمييز بين المواد الكيميائية المختلفة عن طريق معرفة الأطوال الموجبة للضوء المنبعث منها. وفي السنوات التالية لذلك تمكن العالمان الألمانيان روبرت فيلهلم بانسين وجوستاف روبرت كيرتشوف من تصنيف أطياف عدد كبير من الموجات وتسجيلها في كتالوجات خاصة. وفي عام 1868م درس الفلكي الإنجليزي جوزيف لوكير الطيف الشمسي المجهول واكتشف غاز الهيليوم، كما أنه درس بالتفصيل طيف ذرة الهيدروجين،
13
وتوالت الجهود المماثلة. وكما يقول لويس دي بروي، بدت الأفكار الكلاسيكية عاجزة تماما عن تفسير القوانين الطيفية التي نجح الفيزيائيون بعد جهد ومثابرة في استخلاصها.
وكان طوق النجاة في نظرية الكوانتم، ألقى به نيلز بور، وهو دانمركي، لكنه سافر عام 1912م - بعد حصوله على الدكتوراه - إلى إنجلترا وعمل في كمبردج مع ج. طومسون ثم اتجه إلى مانشستر وعمل مساعدا لرذرفورد، وقبل أن يعود إلى كوبنهاجن عام 1916م، وبالتحديد في عام 1913م طرح نظريته التي توضح أن أنموذج الذرة عند رذرفورد ينبغي أن يرتبط بكوانتم الطاقة عند بلانك،
14
فالإلكترونات لا يمكنها إلا أن تدور في مدارات تقع على مسافات محددة معينة من المركز، وهذه المسافات محددة بحيث إن الطاقة الميكانيكية التي يمثلها كل مدار، إما أن تكون كوانتم واحدا أو اثنين أو ثلاثة، وهكذا دواليك، فأدى إدخال بور لفرض الكوانتم إلى نجاح مذهل في إيضاح ما لوحظ من وقائع القياس الطيفي الناتجة من دراسة الأشعة المنبعثة عن الذرة، أو لسلسلة الأطياف الإشعاعية التي تميز كل عنصر على حدة. ومن ناحية أخرى، كان هذا نقطة البداية التي أدت إلى توليد أشعة الليزر، أي التضخيم الضوئي عن طريق الانبعاث التحريضي للإشعاع. وقد تعاظم أمر الليزر في النصف الثاني من القرن العشرين، حتى سمي «شعاع القرن» وبدا حلا ينتظر أية مشكلة.
طرح بور نظريته في الذرة عام 1913م، كما ذكرنا، والسنوات التالية وحتى عام 1925م وبزوغ ثورة الكوانتم الثانية مع هيزنبرج، شهدت تطبيقا وتعميقا لنظرية بور، بحيث تقدم تفسيرا للتركيب الذري لكل عنصر على حدة. وقد أدى إنجاز نيلز بور العظيم في فيزياء الأطياف إلى توحيد بين الذرة والإشعاع، سوف يتعاظم شأنه مع الميكانيكا الموجية، وسنصل إليه عبر انتصار آخر للكوانتم في الظاهرة الكهروضوئية.
كان تطبيق الكوانتم في دراسة التأثير الكهروضوئي أسبق زمانيا من نظرية بور، وأول لفت للأنظار إلى اتساع مداها، وكان هذا على يد ألبرت آينشتين، وعنه لا عن نظرية النسبية حصل على جائزة نوبل! فقد خرج بنتائج عظيمة حين توسع في تطبيق نظرية بلانك واعتبر الضوء يتألف من حزم من الموجات يحمل كل منها كوانتم واحدا من الطاقة، لكن ما هو التأثير الكهروضوئي أو الظاهرة الكهروضوئية؟
عندما تصطدم حزمة من الأشعة الضوئية أو من الأشعة فوق البنفسجية بسطح معدني تنطلق منه إلكترونات، وهذا ما يسمى بالظاهرة الكهروضوئية ولا يحدث انبعاث الإلكترون إلا لأشعة يتجاوز تردد موجاتها قدرا معينا، دونه لا يمكن أن يحدث الضوء أي تأثير كهروضوئي، ويجب افتراض أن الطاقة الكهروضوئية تتكثف في نقطة معينة من سطح الموجة بحيث تتمكن من انتزاع الإلكترونات من المعدن. على ذلك فالظاهرة الكهروضوئية، تقتضي وجود حبيبات للطاقة وجسيمات للضوء، وكان آينشتين أول من أدرك هذا، فقدم الصياغة الآتية:
أو ه د = ط + 1 / 2 ك س
2 .
وهي صياغة يسهل فهمها على أنها تطبيق لمبدأ الطاقة «ط = ه د» حيث ه ثابت بلانك، وه د حاصل ضربه في تردد الضوء، وط طاقة جسيم الضوء، وعندما تصطدم هذه الطاقة بالمعدن تعمل على انتزاع الإلكترون من المجال الكهربي الذي توجد فيه الطاقة ط، وفي إعطاء الإلكترون القوة الكبيرة 1 / 2 ك س
2 ، حيث ك كتلته وس سرعة خروجه، وتسمى كمية الطاقة المضيئة «الكوانتم» في هذه الحالة بالفوتون. الفوتون هو الجسيم في كل إشعاع، هناك فوتونات الأشعة السينية وفوتونات الأشعة تحت الحمراء وهكذا.
15
وليس الأمر مجرد تطبيق للكوانتم الذي فرغنا من شأن نجاحه الخفاق، بل نحن بإزاء ثورة فرعية؛ إذ كان العلماء منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر - كما سنرى - قد طردوا التفسير الجسيمي لطبيعة الضوء واجتمعوا على التفسير الموجي له. لكن آينشتين يعود ومعه التفسير الجسيمي من جديد. إن الفوتون هو الكوانتا، هو الجسيم في الإشعاع كمتميز عن الموجة، وإذا كان كل جسيم له كتلته، فإن الفوتون كتلته صفر، وكان الفوتون من الكيانات التي أدت إلى الانقلابة الجذرية في إبستمولوجيا العلم، وإلى أقوى وأرسخ تصور للاحتمية، وهو الميكانيكا الموجية.
نشأت الميكانيكا الموجية البارعة حين أصبح من الضروري في حالة الضوء - كما هو في حالة المادة - أن نضع موضع الاعتبار الأمواج والجسيمات معا، لكي نحصل على نظرية تخليقية فريدة قادرة في نفس الوقت على تفسير النواحي الجسيمية والموجية التي تعرضها خواص الضوء،
16
فكانت الميكانيكا الموجية على يد رائدها الفرنسي لويس دي بروي وتطويرها مع النمساوي إيرفين شرودنجر
I. Schrodinger (1887-1961م) وسواه لتقوم بهذه المهمة.
فقد أدت دراسة الظاهرة الكهروضوئية إلى قوانين لا تتفق مع التصور الموجي للإشعاع، بينما أثبتت فكرة آينشتين بأن الضوء يتكون من جسيمات هي الفوتونات خصوبتها، ومهدت السبيل - طبعا بفضل يعود إلى الكوانتم الداخل في صلبها - إلى تفسير وقائع حاسمة عجزت النظرية الموجية عن تفسيرها، مثلا وجود حد أعلى للترددات في الأشعة السينية و«تأثير كومبتون». إن تأثير كومبتون هو الكشف الذي توصل إليه العالم الفيزيائي الأمريكي آرثر هولي كومبتون
A. H. Compton
17 (1892-1962م)، ويعد من أهم تعزيزات نظرية الكوانتم وتطبيق آينشتين لها، ومن أدق البراهين على فرضية الفوتون. لقد درس كومبتون التأثير الكهروضوئي حينما ينتج عن الأشعة السينية؛ ليثبت أن هذه الأشعة بدورها وحدات فوتونية هي كوانتات. وكان من المعروف أن الأشعة إذا اصطدمت بجسم معدني، فإن جزءا من هذه الطاقة يتشتت في كل الاتجاهات على صورة أشعة مشتتة،
18
فدرس كومبتون الأشعة السينية والأشعة السينية المشتتة، ووضع عام 1923م نظريته المعروفة باسم «تأثير كومبتون» ومفادها اختزال أو تخفيض طاقة الفوتون كنتيجة لتبادله الفعل مع إلكترون حر، ذلك أن جزءا من طاقة الفوتون ينتقل إلى الإلكترون (الإلكترون المرتد أو إلكترون كومبتون)، وجزءا يتوجه ثانية بوصفه فوتون الطاقة المختزلة (بعثرة
scatter
كومبتون)،
19
هكذا نجد هنا ظاهرة تقتضي التفسير الجسيمي للضوء والإشعاع، ولكن ظاهرة التداخل مثلا وهي من أهم خواص الإشعاع ستظل أولا وأخيرا خاصية موجية، وتظل الموجة متميزة بها عن سيال الجسيمات، ومثلها أيضا ظاهرة الحيود في الضوء،
20
والخلاصة أن بعض الظواهر تقتضي تفسيرا جسيميا للضوء والإشعاع وبعضها الآخر يقتضي تفسيرا موجيا.
بدا وكأنه لا توجد وسيلة للتوفيق بين النظرتين المتناقضتين، حتى تقدم لويس دي بروي في رسالته للدكتوراه عام 1917م - التي أنجز بعض فصولها في خنادق الحرب العالمية الأولى - وأعلن أن الضوء مكون من جسيمات ومن موجات، ولأول مرة نقل هذه الفكرة إلى ذرات المادة، فأصبح كل جسيم صغير من المادة مقترنا بموجة على أساس رياضي دقيق، هكذا بدأ العقل العلمي عصر التفكير المزدوج، وأصبحت طبيعة الضوء جسيمية وموجية في آن واحد، وكذا المادة، ويخبرنا دي بروي أن هذا أمر قد يبدو بالغ الصعوبة إذا فكرنا بمفاهيم الفيزياء الكلاسيكية وبحثنا عن الحتمية، ولكنها تبدو واضحة وبسيطة عندما ندخل الاحتمالات بصورة منتظمة في صلب الظواهر الأولية، ونضع موضع الاعتبار في وصف الظواهر نواحي تكميلية معينة، فالمادة التي افترضها دي بروي هي توزيع لاحتمال وجود الفوتونات على المكان، بحيث إن فكرة الاحتمال هنا أساسية.
وبفضل توالي أبحاث العلماء تجددت في عام 1927م بالنسبة إلى الإلكترون الثنائية الموجية الجسيمية التي ثبتت في عام 1917م بالنسبة للضوء، فلم تقتصر على الضوء، بل توسع هذا الازدواج بين الأمواج والجسيمات حتى يشمل كل عناصر المادة وعلى الأخص الإلكترونات، فطبقت على كل عناصر المادة تصورات الاحتمال واللاحتمية ، وعدم التحديد واللافردية والمظاهر التكميلية.
21
والآن لم يعد ثمة تعارض بين المادة والطاقة، أو الذرة والإشعاع، ولا من أن الطاقة مع بقائها دائما يمكن أن تنتقل من حالة المادة إلى حالة الضوء والعكس، ونعلم اليوم أن هذا هو الواقع بالفعل، فقد أصبح الضوء باختصار أنقى أشكال المادة وأكثرها تحررا من القصور والشحنة. لقد سقط الحاجز الذي بدا كما لو كان فاصلا بين الضوء والمادة، في حين أنهما معا ليسا إلا مظهرين مختلفين للطاقة، يمكن أن يأخذ أحدهما مظهر الآخر.
فتحت الميكانيكا الموجية الباب اللاحتمي على مصراعيه؛ لتنطلق الفيزياء في طريق التقدم بسرعة مذهلة، فجاء إيرفين شرودنجر عام 1925-1926م؛ ليأخذ بآراء دي بروي، ويضع معادلة تفاضلية أصبحت أساسا رياضيا في نظرية الكوانتم، وأتاحت لعالم الفيزياء أداة رياضية قوية، ثبت بها الاتحاد بين صورتي الميكانيكا الجديدتين: ميكانيكا الكوانتم والميكانيكا الموجية.
كان دي بروي يعتقد أن ثمة جسيمات تصحبها موجات، أما شرودنجر فكان يعتقد أنه يستطيع الاستغناء عن الجسيمات، وأنه لا توجد إلا موجات تتجمع في بقاع صغيرة معينة فينتج عنها شيء يشبه الجسيم، ومن ثم قال بوجود حزم موجية تسلك على نحو شبيه بالجسيم، ولكن بعد أن اتضح أن الرأيين لا يمكن قبولهما معا، اقترح ماكس بورن
Max Born
الفكرة القائلة: إن الموجات لا تمثل أكثر من احتمال، فتعمقت جذرية التحول اللاحتمي في الذرة. الكيانات الأولية جسيمات لا تتحكم في سلوكها قوانين علية إنما قوانين احتمالية، وواصل فيرنر هيزنبرج السير في هذا الطريق، فبين أن هناك قدرا محددا من اللاتعين أو اللاتحدد أو اللايقين، فيما يتعلق بالتنبؤ بمسار الجسيم. وبفضل كشوف بورن وهيزنبرج، تمت الخطوة الأخيرة في الانتقال من التفسير العلي الحتمي إلى تفسير إحصائي للعالم الأصغر، وأصبح من المعترف به أن الحادث الذري المنفرد لا يتحدد بقانون علي، بل قانون احتمالي فحسب، واستعيض عن فكرة «إذا كان ... فإن» التي عرفتها الفيزياء الكلاسيكية بفكرة «إذا كان فإن، بنسبة مئوية معينة»، وأخيرا جمع نيلز بور بين نتائج ماكس بورن ونتائج هيزنبرج، فوضع مبدأ التكامل الذي أشرنا إليه سابقا.
ومع فيرنر هيزنبرج
W. Heisenberg (1901-1976م) حدث التطور الأعظم أو الميلاد الثاني للكوانتم، وذلك حين وضع مبدأه الشهير المعروف باسم مبدأ اللاتعين
Indeterminacy
، وهذا المبدأ بصورته العامة يأخذ في اعتباره أدوات القياس أو الأجهزة المعملية وتأثيرها على الظواهر المرصودة، فينص على استحالة التعيين الدقيق لموضع الإلكترون، وسرعته في آن واحد؛ لأننا إذا أردنا أن نحدد سرعته لا بد من إثارة الاضطراب في موضعه، وإذا أردنا تحديد الموضع لا بد من إثارة الاضطراب في سرعته، ومن ثم فإن دقة تحديد أحد الجانبين تكون على حساب الدقة في تحديد الجانب الآخر. وهذا المبدأ الذي ينطبق على جسيمات الذرة قد لا يكون ملحوظا في الموضوعات الكبيرة، فيمكن إهماله بالنسبة للذرة ككل؛ لأنها كبيرة إلى حد ما فما بالنا بموضوعات الفيزياء الكلاسيكية، إنها من الكبر بحيث إن اصطدام شعاع الضوء بها لا يغير مسارها، أما في حالة جسيمات الذرة فإن الأمر يختلف؛ لأن التغيير الذي يحدثه الملاحظ وأدوات الملاحظة يجعل من المستحيل قياس الوضع والسرعة معا في نفس الوقت بنفس الدرجة من الدقة، هكذا لم يعد من الممكن إغفال أثر أدوات القياس والرصد والتجريب على الظواهر موضوع الدراسة.
وأصبح من الضروري في وصف العمليات الذرية، وضع خط فاصل واضح بين جهاز القياس الذي يمكن وصفه بالمفاهيم الكلاسيكية وبين الظاهرة دون الذرية التي تمثل دالة الموجة سلوكها. العلاقات الموجودة في كل من هذين الجانبين متميزة عن العلاقات الموجودة في الجانب الآخر، في الأول يمكن تطبيق المفاهيم الكلاسيكية أما في الثاني فلا بد من تطبيق معادلة التفاضل لميكانيكا الكوانتم، على أن وجود الخط الفاصل لا يبدو إلا في شكل علاقات إحصائية، وتأثير جهاز الدراسة على موضوعها هو إحداث إقلاق في منطقة الخط الفاصل الذي يفرض حدا قاطعا على تطبيقات المفاهيم الكلاسيكية.
22
هكذا أعلن مبدأ هيزنبرج الخروج النهائي من العالم الميكانيكي الحتمي، وفي واضحة الضحى.
استغرق مد ثورة الكوانتم العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، ثلاثين عاما حق اعتبارها أروع وأخصب الحقب في ملحمة العلم وفي ملحمة العقل البشري إجمالا. وهناك بعض الظواهر المحددة في العالم الماكروسكوبي - عالم الخبرة العادية - أمكن تفسيرها استنادا على قواعد ميكانيكا الكوانتم، مثل خصائص التبلور في المواد الصلبة.
23
ومن ناحية أخرى كان جيمس كلارك ماكسويل قد وضع في النصف الأول من القرن التاسع عشر معادلات تفاضلية تحكم المجال الكهربي والمجال المغناطيسي على السواء، فكان التوحيد بينهما في المجال الكهرومغناطيسي. وتقوم فيزياء القرن العشرين على أربع قوى أساسية في الطبيعة؛ هي القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الشديدة والقوة النووية الضعيفة وقوة الجاذبية «أو التثاقل النيوتوني ». وفي عام 1971م تمكن العلماء محمد عبد السلام وستيفن واينبرج
S. Weinberg
وشلدون جلاشو
S. Glashow
من توحيد المجال الكهرومغناطيسي والمجال النووي الضعيف في إطار الكوانتم، فحصلوا على جائزة نوبل مشاركة عام 1979م. ثم قطع شوط جزئي محدود في التوحيد بين هذا وبين مجال القوة النووية الشديدة «القوية». كما يحاول العلماء التوحيد بين القوى الأربع بما فيها الجاذبية في إطار نظرية الكوانتم. ومع هذا فإن الكوانتم لم يثبت سطوته ويحكم الميدان إلا في العالم الميكروسكوبي المتناهي في الصغر، عالم الذرة وما دون الذرة، فهل يعني هذا أن ثورة الفيزياء الكبرى في مطالع القرن العشرين قصرا على عالم الذرة؟ وظل العالم الأكبر بمنجاة عن مدها، قابعا في أمان تحت رعاية فيزياء نيوتن الكلاسيكية؟
الواقع أن الثورة على هذا المستوى الأكبر كانت أعنف وأشد وطأة على مسلمات الفيزياء الكلاسيكية وأكثر تقويضا لعالمها، فهذا هو ما فعلته نظرية النسبية التي وضعها ألبرت آينشتين - أول رجل في التاريخ استطاع أن يأتي بنظرية يمكن أن تحل محل نظرية نيوتن وتؤدي مهامها بصورة أكفأ وأدق.
ثانيا: النسبية
كما كانت الكوانتم إبداعا حقيقيا وطريقا جديدا كل الجدة، كانت النسبية هكذا، وكما بدأ ماكس بلانك من مشكلة رايلي/جينز التي أدت إلى الكارثة فوق البنفسجية، بدأ آينشتين من مشكلة تمخضت عنها تجربة ميكلسون/مورلي وأدت إلى كارثة أخرى حلت بالفيزياء الكلاسيكية، هي كارثة الأثير، أي سقوط فرض الأثير الذي اعتمدت عليه الفيزياء الكلاسيكية خصوصا في تفسيرها الموجي للضوء والإشعاع. وفي النهاية نجحت النسبية في معالجة انتقال الضوء وحركته مثلما نجحت الكوانتم في تفسير الانبعاث الضوئي وامتصاصه «بحيث تبلورت هاتان النظريتان حول ظاهرة فيزيائية واحدة هي الأمواج الضوئية»،
24
وبينما بدت كتل المادة في الفيزياء الكلاسيكية كأنها تحمل سر الوجود، إن اكتشفناه فقد أحكمنا قبضة اليد على هذا الكون، فإن فيزياء الكوانتم والنسبية في القرن العشرين جعلت شعاع الضوء هو الحامل لأسرار الوجود.
والسؤال الآن: كيف حدثت كارثة الأثير التي أفضت إلى النظرية النسبية؟
على الرغم من اتساع عائلة الإشعاع، فإن الضوء خصوصا يحتل مكان الأولوية في الطبيعة؛ لأن له سرعة لا يمكن أن يبلغها أي شيء آخر يتحرك، وكان ثمة نظريتان متعارضتان لتفسير طبيعة الضوء - كما لاحظنا فيما سبق - النظرية الجسيمية والنظرية الموجية، الأولى تشبه الضوء بمجموعة من الجسيمات المنفصلة أو القذائف الصغيرة تسير في مسارات متقاربة جدا، فهي تتصور المصدر الضوئي كما لو كان يقذف جسيمات مضيئة في كل اتجاه، وكان هذا هو تصور فيلسوف الذرة الإغريقية الشاعر الروماني لوكريتوس
Lucretius (99-55ق.م) والحسن بن الهيثم وديكارت، وأيضا نيوتن ولابلاس، الجسم المتحرك - كالقذيفة مثلا - ينطلق في خط مستقيم، وحينما أثبت نيوتن أن الضوء ينطلق أيضا في خط مستقيم في الوسط المتجانس اعتبره سيالا من الجسيمات يقذف بها مصدر الضوء؛ لذا عرفت نظرية نيوتن في الضوء باسم النظرية الجسيمية
Corpuscular Theory of Light . ولما كان الضوء شكلا من أشكال الإشعاع، فإن أي إشعاع سيال من الجسيمات، على أساس النظرة النيوتنية.
ولكن هذه النظرية وصلت إلى طريق مسدود بسبب ظواهر ضوئية من قبيل الانعكاس والانكسار والتداخل والحيود، الانعكاس يحول مسار جزء من الضوء، والانكسار يقطع طريقه إذا دخل في الماء أو أي وسط سائل مسببا مظاهر للخداع البصري كأن يتغير مظهر المجداف المغموس في الماء أو يبدو النهر أكثر ضحالة. وقد توصل عصر نيوتن إلى القوانين التي تحكم هذه الظواهر، فكانوا يعرفون مثلا أن زاوية سقوط الضوء هي زاوية انعكاسه نفسها، وفي حالة الانكسار جيب زاوية السقوط ذو نسبة ثابتة إلى جيب زاوية الانكسار.
ولكن حين يسقط شعاع الضوء على سطح ينكسر جزء من الشعاع، وينعكس الجزء الآخر مسببا انعكاس صورة الأجسام أو انعكاس ضوء القمر على سطح البحيرة مثلا. ونظرية نيوتن الجسيمية تفشل في تفسير هذا، فلو كان الضوء مكونا من جسيمات لكائن أثر الماء واحدا فيها جميعا، وإذا انكسر مسار جسيم واحد وجب أن تنكسر جميع الجسيمات، وقد حاول نيوتن مواجهة هذا بأن يعزو إلى سطح الماء أدوارا متبادلة من النفاذ والانعكاس
Alternative fits of transmission and Reflection ، مما يجعل جسيما معينا ينفذ من سطح الماء، بينما يمتنع نفاذ الجسيم الآخر، فيحدث الضوء المنعكس، لكن النظرية الجسيمية واجهت صعوبة أخرى أخطر، تتلخص في أن الضوء لا يسير دائما في خطوط مستقيمة تماما، بحيث يمكن فعلا القول: إنه جسيمات تنطلق أو تتحرك، فالأجسام الضخمة تحجب الضوء وتلقي ظلا، أما الجسم الصغير - كالسلك الرفيع أو الخيط أو الشعرة - لا يلقي مثل هذا الظل، إنه لا يحجب الضوء فلا نرى ظلا، بل نرى ما يعرف بمناطق التداخل. وبالمثل ثمة حلقات الحيود في حالة تمرير الضوء من ثقب صغير جدا، وقد تصور نيوتن أن الضوء ينحني حول الأجسام الصغيرة الرفيعة، فلا تلقي ظلا، وبدا لعبقريته النافذة أن هذا دليل على أن الجسيمات الضوئية قد جذبتها الأجسام الصلبة، وقال إن أشعة الضوء تنحني حول هذه الأجسام كأنما هي منجذبة إليها، وأن أشد الأشعة انحناء هي الأقرب في أثناء سيرها إلى هذه الأجسام، كأنما هي الأكثر انجذابا إليها، ولعله بهذا كان يبشر بكشوف الفيزياء في القرن العشرين، لكنه فشل في إقناع معاصريه بهذا وإعطائهم تفسيرا مفصلا لظاهرة الحيود في الضوء، فلم تلق نظريته الجسيمية استحسانا.
25
وقدر للنظرية الموجية في تفسير طبيعة الضوء أن تنتصر وتسود، وهي تشبه الضوء بموجات متصلة تنتشر على سطح الماء، بحيث يكون المصدر الضوئي مركز الاهتزاز الذي تتولد عنه الموجات فتنتشر بعد ذلك من حوله في كل اتجاه. لقيت النظرية الموجية مساندة قوية في «كتاب الضوء» الذي صدر العام 1690م للفيزيائي الهولندي الكبير كريستيان هويجنز
C. Huygens
وهو معاصر لنيوتن ومن أقرب أصدقاء ديكارت. لكن تجارب العالم الفرنسي أوجست فرزنل
A. Fresnel (1788-1827م) التي أجراها فيما بين العامين 1815م و1820م بدت كأنها إثبات للتصور الموجي للضوء، وأنه هو وحده الذي يستطيع تفسير ظواهر التداخل والحيود التي عجزت النظرية الجسيمية عن تفسيرها، ويشارك فرزنل في هذا زميله فرانسوا أراجو، وإن كان يعمل بتصورات مختلفة لطبيعة الضوء وكيفية دراسته، وانفصمت عرى الزمالة بين فرزنل وأوراجو العام 1821م،
26
لكن توطد التفسير الموجي للضوء.
وإذا كان الضوء موجات تنتشر في الفضاء فيجب أن نتخيل له حاملا هو وسط يهتز أو يتموج. وكما أن الاهتزازات الميكانيكية والصوتية هي اهتزاز للأوساط الجامدة أو السائلة والغازية التي تنتشر فيها، كذلك الضوء لا بد أن يكون اهتزازا لوسط ما يؤدي وظيفة الحامل للموجات، أو هو فاعل الفعل يتموج. افترض العلماء الأثير
Ether
بوصفه هذا الوسط. والأثير فكرة يونانية قديمة، عادت إلى الظهور في العلم الحديث منذ أن رأى فيها ديكارت مادة أولية مسئولة عن الثقل وعن صفات أخرى ليست مستمدة من خاصية الامتداد في حد ذاتها، واستفاد منها كبلر ليفسر كيف تحتفظ الشمس بالكواكب السيارة في حركة، ثم لعب الأثير دورا جوهريا في الفيزياء الكلاسيكية لكي يكتمل التفسير الموجي للضوء والإشعاع، ويكتمل التفسير الميكانيكي للكون بأسره، فافترضوا أن الأثير يملأ كل الفراغ أو الفضاء في الآلة الكونية العظمى، وأن كثافته أقل من الهواء، وأنه لا نهائي المرونة، وحاول العلماء محاولات مستفيضة لتحديد خواص مرونته كوسيلة للاهتداء إلى قوانين انتشار الضوء، وقدموا خواص متعارضة تماما، كأن نتصور مثلا أنه صلب على الرغم من أن حواسنا لا تدركه، وأن النجوم تمرق فيه دون أن تعاني احتكاكا أو مقاومة، وقد بذل أوجست فرزنل جهودا مكثفة لتوطيد شأن الأثير. وعندما أصبح مألوفا العام 1860م - اتباعا لماكسويل - أن ننظر إلى الضوء كما لو كان ذا طبيعة كهرومغناطيسية، سلم العلماء تسليما بالأثير بوصفه حامل الإشعاعات الكهرومغناطيسية أو الوسط الذي يحدث فيه انتشار الإشعاعات، وكما يقول جيمس جينز لم يتحرج العلماء من الزعم بوجود نسق من قوى الجذب والدفع والالتواء يمكن تدبيرها في الأثير كي تنتقل كل ظواهر الطبيعة خلال الفضاء، ظواهر الضوء والإشعاع وظواهر البصريات، بل وأيضا ظواهر الجاذبية «التثاقل»، هكذا يستوعب التفسير الحتمي الميكانيكي كل الظواهر، ويبدو عالم الفيزياء الكلاسيكية - تلك الآلة الكونية العظمى - كأنه قائم على أكتاف الأثير.
ولأن الكون ليس آلة ميكانيكية بحال، لم يكن غريبا أن تضاف إلى أزمة الفيزياء الكلاسيكية كارثة أخرى حلت بالأثير من جراء تجربة قام بها - ابتداء من العام 1886م - ألبرت ميكلسون
A. Michelson ، وهو من أصل ألماني وأول عالم أمريكي يحصل على جائزة نوبل (العام 1907م)، ورفيقه إدوارد مورلي
E. Morley . وتعد تجربة ميكلسون/مورلي من أخطر التجارب في حركية العلم ومن نقاط تحوله العظمى. فما فكرة هذه التجربة، أو الفرض الذي قامت لاختباره؟
فكرتها ببساطة تأتي من أن المركب تسير في اتجاه الريح أسرع مما تسير بعكسه، كما ينشأ على جانبيها تيار من الماء يتجه عكس اتجاه سير المركب - كما هو معروف للجميع - فإذا كانت الأرض تمخر عباب الأثير، سوف ينشأ في الأثير تيار يتجه عكس اتجاه سير الأرض، ستكون سرعة هذا التيار أو هذه الريح الأثيرية المفترضة حوالي 185 ميلا في الثانية وهي سرعة الأرض في مدارها حول الشمس، فهل لهذا من إثبات؟ من هنا جاءت تجربة ميكلسون/مورلي للتحقق من الآتي: هل سرعة الضوء في اتجاه الريح الأثيرية تتأثر إيجابا بال 18,5 ميلا/ثانية، وسرعته ضدها تتأثر عكسيا بهذا المقدار؟ وأحسن طريقة لاكتشاف الفرق بين السرعتين، هي أن نأتي بشعاعين يختلفان في الاتجاه والسرعة ونجعلهما يتقابلان في نقطة لنرى طريقة تقابلهما، هذه هي الفكرة البسيطة لتجربة ميكلسون/مورلي.
فقد أقام ميكلسون/مورلي سباقا بين شعاعين ضوئيين متعامدين، ثم أعادا السباق بعد تبادل الشعاعين وبحثا عن الانحراف في الوضع النهائي لكلا الشعاعين، فمثل هذا الانحراف يثبت وجود ريح الأثير.
والكارثة تتلخص في أنه عندما أجرى ميكلسون ومورلي التجربة لم يلحظا أي انحراف لأي من الشعاعين، ومعنى هذا أنهما لم يستدلا على وجود للأثير وأعادا التجربة في أوقات مختلفة من النهار وفي أيام مختلفة من العام، ولكن ظلت النتائج هي هي لم يستدلا على وجود أي ريح للأثير.
27
وبذلت أربع محاولات مختلفة كتفسيرات محتملة لفشل العلماء في الاستدلال على وجود الأثير، لكنها جميعا كشفت عن استحالة، وفشلت فشلا ذريعا.
وكانت هذه هي المشكلة الكبرى، إن كل الجهود التي بذلت للاستدلال على وجود الأثير لم تفشل فحسب، بل إن أسباب فشلها متعارضة وغير واضحة، فهل يوجد الأثير أم لا؟ وإذا كان موجودا فلماذا لا يمكننا الاستدلال عليه؟ وإذا لم يكن موجودا فما تفسير حركة الضوء الموجية؟
إننا مضطرون إلى ترك الأثير الآلي هذا وأن نبدأ من جديد. لقد نجمت كل الصعوبات عن افتراض مبدئي مؤداه: أن كل شيء في الطبيعة - وموجات الضوء على وجه الخصوص - قابل للتفسير الآلي، وعلى الإجمال من أننا حاولنا أن نعامل الكون كما لو كان آلية ميكانيكية، وفقا لما أملته علينا الفيزياء الكلاسيكية.
هكذا جاء الألماني ألبرت آينشتين
A. Einstein (1879-1955م) الموظف في مكتب براءات الاختراع ببرن في سويسرا التي هاجرت إليها أسرته؛ ليشترط على الجميع التخلي تماما عن فرض الأثير وعن التصور الميكانيكي للكون، ويضع نظرية عامة للحركة، أي نظرية فيزيائية بحتة بدلا من نظرية نيوتن وأكفأ وأدق منها، وتعد أشهر نظريات القرن العشرين طرا، وهي نظرية النسبية.
تنقسم النظرية النسبية إلى نظرية النسبية الخاصة التي أعلنها آينشتين العام 1905م، ونظرية النسبية العامة التي أعلن تخطيطها في العام 1916م. النظرية الخاصة تتناول الأجسام أو المجموعات التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة ثابتة، أي حركة منتظمة من دون عجلة (فالعجلة هي مقدار التغير في السرعة)، والنظرية النسبية العامة تعالج الأجسام أو المجموعات التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة متزايدة أو متناقصة، أي تتحرك بعجلة. إذن النظرية الخاصة سميت هكذا؛ لأنها حالة خاصة من النظرية العامة، فالمجموعات التي تتحرك بسرعة ثابتة يمكن اعتبارها تتحرك بعجلة مقدارها صفر، وهي أسهل في دراستها من المجموعات التي تتحرك بسرعة متغيرة؛ لذلك استطاع آينشتين أن يضع النظرية الخاصة أولا، وبصورة مكتملة أكثر كثيرا من النسبية العامة. ومن الناحية المنطقية الفلسفية لا تتخلى النسبية العامة أبدا عن أي من المبادئ الإبستمولوجية الأساسية للنسبية الخاصة، ولا تناقضها بأي حال ما دامت تستوعبها داخلها كحالة خاصة.
28
وكانت نقطة البداية هي تجربة ميكلسون/مورلي التي انتهت إلى سقوط الأثير وذلك لثبات سرعة الضوء، فبدأت النظرية النسبية بالتسليم بهذين الفرضين الأساسيين، وهما استبعاد الأثير ثم ثبات سرعة الضوء بصورة مطلقة، وهذا هو الشيء الوحيد الثابت المطلق في الكون النسبي، وليس الضوء فقط، بل المقصود السرعة الكونية لجميع الظواهر الكهرومغناطيسية، كلها تتحرك بالسرعة نفسها وهي 229,776كم/ثانية أو 186,300 ميل/ثانية، وعبثا الحديث عن سرعة أكبر منها، فهذا مستحيل كما تثبت النظرية النسبية، وعلى هذا الأساس كانت قوانين النظرية النسبية الخاصة، وهي أنموذج أمثل على ما يمكن تحقيقه في الفيزياء بحد أدنى من الفروض البسيطة والتطوير الرياضي لها المفرط في الدقة والصرامة.
في القانون الأول للنسبية الخاصة تنكمش الأجسام في اتجاه حركتها،
29
وبما أننا نفترض عادة أن الجسم يتحرك في اتجاه طوله فإننا نتكلم عن انكماش الطول، بيد أن العرض أيضا - وأي بعد آخر - ينكمش إذا تحرك الجسم في اتجاهه، وهذا القانون يحدد مقدار انكماش الجسم بالنسبة لسرعته، بحيث يزداد الجسم في القصر أو الانكماش كلما ازدادت سرعته، حتى إذا اقتربت السرعة من سرعة الضوء اقترب طول الجسم من الصفر، أي إنه يختفي ببلوغه سرعة الضوء، مما يعود بنا إلى مصادرة استحالة تجاوزها. وفي القانون الثاني تزداد كتلة الجسم بازدياد سرعته، حتى إذا وصل إلى سرعة الضوء تصبح كتلته لا نهائية؛ لذلك - مرة أخرى - كانت سرعة الضوء هي أقصى سرعة ممكنة، ولا يمكن أن يتحرك أي شيء أسرع من الضوء؛ لأنه ينكمش حتى يتلاشى وتزداد كتلته حتى تصبح لا نهائية، لقد كانت الكتلة في الفيزياء الكلاسيكية ثابتة لا تتغير، سواء أكانت ساكنة أم متحركة، قد يتغير وزنها فقط من موضع لآخر، لكن النسبية الآن تقول: إن الكتلة تتغير بالحركة فتزداد بازدياد السرعة، طبعا من العبث البحث عن هذا التغير في الكتلة والطول أو العرض في الماكروكوزم، أي العالم الأكبر العياني الذي تتعامل معه الفيزياء الكلاسيكية وهو عالم الخبرة اليومية العادية؛ لأن الكتل ضخمة والسرعات بطيئة نسبيا؛ لذلك فالتغير في الطول أو الكتلة سيكون ضئيلا للغاية، ومن العبث أن نحسب له حسابا، السيارة التي تسير بسرعة خمسين ميلا في الساعة ينكمش طولها فعلا، لكن بمقدار قطر نواة الذرة، والطائرة النفاثة التي تسير بسرعة 600 ميل في الساعة تنكمش بمقدار قطر الذرة، وحتى الصاروخ الفضائي السائر بين الألفاك بسرعة 25000 ميل في الساعة والبالغ طوله مائة متر، ينكمش طوله بمقدار 1٪ من المليمتر، ولكن حين دراسة جسيمات أشعة بيتا مثلا، أو دراسة جسيمات الذرة في دورانها حول النواة، فنحن هنا إزاء كتل متناهية الضآلة وتتحرك بسرعة يمكن مقارنتها بسرعة الضوء؛ لذلك فالتغير الناجم كبير، وقد أمكن إخضاع قانوني النسبية الخاصة هذين للاختبار التجريبي والتحقق منهما بصورة ملحوظة للغاية، خصوصا بعد اختراع المعجل النووي الذي يستطيع الإسراع بحركة الجسيم الذري.
وفي أوائل سنة 1952م، أعلن المختبر الوطني في بروكهافن
Brokhaven ، أنه استطاع أن يسارع البروتون في نواة ذرة الأيدروجين حتى وصلت سرعته إلى 177 ألف ميل/ثانية، أي حوالي 95٪ من سرعة الضوء، ونتيجة لذلك، فإن كتلة البروتون زادت ثلاثة أضعاف. وفي يونيو 1952م، أعلن معهد التكنولوجيا في كاليفورنيا أنه استطاع أن يسارع بالإلكترون حتى وصل به إلى سرعة تقل عن سرعة الضوء بعشر ميل في الثانية أو 0,9999999 من سرعة الضوء، فزادت كتلة الإلكترون حوالي 900 مرة.
30
أما القانون الثالث فهو خاص بجمع أو تحصيل السرعات، كحساب السرعة النسبية لجسمين يتحركان بالنسبة لبعضهما في اتجاه معاكس، فينص على أنها ليست حاصل جمع السرعتين - كما تتصور الفيزياء الكلاسيكية - بل هي أعقد كثيرا، وتحكمها معادلة تدخل فيها سرعة الضوء كثابت أساسي، بحيث إذا عوضنا عن الرموز في هذه المعادلة بحالة جسم سائر بسرعة الضوء إلى حالة جسم آخر سائر بسرعة الضوء نفسها، كان الحاصل سرعة الضوء أيضا، مما يعود بنا من جديد إلى مصادرة استحالة تجاوز سرعة الضوء.
أما القانون الرابع فينص على أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء. وهذا القانون، كما رآه آينشتين نفسه ووافقه الجميع على هذا «أهم النتائج ذات الطابع الخاص التي أدت إليها النسبية الخاصة، فقبله كان قانون بقاء الطاقة وبقاء الكتلة يبدوان مستقلين عن بعضهما، لكنهما عن طريق نظرية النسبية قد أدمجا في قانون واحد»،
31
وكما سبق أن أشرنا حين الحديث عن قوانين الحفظ والبقاء في أزمة الفيزياء الكلاسيكية، فإن الطاقة مع هذا القانون أصبحت مظهرا من مظاهر المادة، والمادة مظهرا من مظاهر الطاقة. وأيضا فسر هذا القانون الطاقة التي تنبعث من الشمس كل هذه الملايين من السنين، وعلم البشر أن كمية صغيرة من المادة تعطي كمية ضخمة من الطاقة في ظروف التفاعلات النووية، وعليه كانت القنبلة الذرية.
في القانون الخامس يتباطأ الزمن تبعا للسرعة، وبالمعامل نفسه الذي ينكمش به الطول؛ لذلك يختلف الزمن أو يتباطأ باختلاف السرعة التي يسير بها حامل الساعة - أي الذي يقوم برصد الزمن - وبهذا ينهار تماما الزمن الموضوعي المطلق في الفيزياء الكلاسيكية الذي يتدفق بمعدل واحد بالنسبة للجميع من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل.
وكان هذا كما يقول هيزنبرج: «أول هجوم سلط على الفرض الأساسي للفيزياء الكلاسيكية.»
32
والمقصود فرض الزمان والمكان الموضوعيين المطلقين كخلفية لمجمل الأحداث، أطاحت بهما النظرية النسبية، وأطاحت بالانفصال التقليدي بين مفهومي الزمان والمكان، حين جعلت الزمان بعدا رابعا للأبعاد الثلاثة التي لم يخطر الكلاسيكيون سواها: الطول والعرض والارتفاع، وأتت بالمتصل الزماني/المكاني
spatio-temporal
الرباعي الأبعاد، ويعد الفيزيائي مينكوفسكي
Minkowisky
من رواد معالجة العالم ذي الأبعاد الأربعة، وقد أوضح كيف يمكن تطويق المطلق بالعود إلى أصله الرباعي، وأن نبحثه بعمق أكثر،
33
وهذا ما فعله آينشتين حين طرح المتصل الزماني المكاني الرباعي الأبعاد، وهو ليس كيانا واحدا يحل محل كيانين هما الزمان والمكان، وليس شيئا وليس مسرحا جديدا للوقائع الفيزيائية، بل هو نظام من العلاقات بين الأحداث، يهدم تماما التصورات الكلاسيكية عن التتابع الزماني والتجاور المكاني، وعن المادة بوصفها مكونة من جزيئات عبر آنات الزمان في نقطة من المكان،
34
من حيث يهدم مفهومي الزمان والمكان المنفصلين والمطلقين.
لقد نقض آينشتين المطلق النيوتني، في أول صياغة لقانون النسبية العام 1905م، حين أعلن أن الطبيعة تجعل من المستحيل تعيين الحركة المطلقة عن طريق أية تجربة مهما كانت. والحق أن نيوتن نفسه قد أعرب عن استحالة تعيين الحركة المطلقة والسكون المطلق، فظلا في الواقع نسبيين، أي بالنسبة للأرض التي تتحرك بالنسبة للشمس المطلقة والسكون المطلق، وفي هذا ألمعية فذة منه، لكنه في النهاية لم يضع النسبية في اعتباره وأقام نظريته على الأساس المطلق كما رأينا، بينما عجز العلم عن إيجاد الجسم الذي افترضه نيوتن في حالة سكون مطلق، أو بالأصح أثبت استحالة وجوده، فالقمر متحرك بالنسبة للأرض، والأرض متحركة بالنسبة للشمس والمجموعات الكونية الأخرى متحركة، والكون كله في حركة دائبة.
35
لذلك نجد أن النسبية تعلم أنه لا يوجد في الكون كله مقياس معياري للطول أو الكتلة أو الزمان؛ لأنه سوف يتضمن الثبوت في مكان معين وهذا شيء لا وجود له. الزمان الذي تحدده حركة الأجرام السماوية، وبعدها المتغير عنا، كلاهما نسبي غير منتظم، ولا يجري في جميع أنحاء الكون بالتساوي، فأين الزمان المطلق الذي تحدث عنه نيوتن؟
والواقع أن المطلق لا وجود له إلا في ذهن نيوتن وأشياعه، والنظرية النسبية نسبية؛ لأنها تدخل الذات العارفة كمتغير في معادلة الطبيعة؛ إذ تجعل موقع الراصد وسرعته معينات أساسية، والقائمون بالملاحظة الذين يتأملون السماء من كواكب مختلفة سوف يدرك كل منهم سماء مختلفة. كذلك يتحكم تأثير المكان في ساعاتهم - بمعنى أجهزتهم للرصد - بحيث إن الوقت الذي يقرأه كل منهم يختلف في اللحظة الواحدة، بل كلا منهم يقدر مرور الزمن تبعا لسرعة مختلفة، قد يكون مكان الملاحظ بالنسبة لنا هو الأرض في كل الأحوال، لكن الملاحظ المرتبط بالأرض لا يستطيع أن يجري الأقيسة الفلكية نفسها التي يجريها الملاحظ بكوكب آخر، والنسبية تدرس كيف تؤثر حركتا هذين الملاحظين النسبية في ملاحظاتهما، ولم يكن هذا بطريقة لا ذاتية فحسب، بل ولتحرز درجة هائلة من الموضوعية المدهشة، لكن غير المطلقة.
يقول آينشتين:
يمكن وصف عالم الأحداث وصفا ديناميكيا عن طريق تصور يتغير عبر الزمان في إطار خلفية من الفضاء ثلاثي الأبعاد، ولكن يمكن أيضا وصف الأحداث عن طريق تصور إستاتيكي في إطار خلفية من المتصل الزماني/المكاني رباعي الأبعاد. من منظور الفيزياء الكلاسيكية التصوران متكافئان، ولكن من منظور النظرية النسبية التصور الإستاتيكي أكثر ملائمة وأكثر موضوعية، وحتى في إطار نظرية النسبية ما زلنا نستطيع استخدام التصور الديناميكي، إذا كنا نفضل هذا، لكن يجب أن نتذكر أن تلك القسمة التي تفصل بين الزمان والمكان ليس لها أي معنى موضوعي، ما دام الزمان لم يعد مطلقا.
36
في المتصل الزماني/المكاني رباعي الأبعاد قد يصبح الزمان مكانا والمكان زمانا، فلم تعد المسافة هي البعد بين نقطتين مكانيتين بصورة بحتة، بل هي البعد بين نقطتين متحركتين أو حادثتين تفصل بينهما فترة زمانية بالإضافة إلى الفترة المكانية، بحيث تأتي المسافة بجمع مربع الطول مع مربع العرض، ثم مربع الارتفاع، ثم طرح مربع الفاصل الزمني من ذلك، وفي هذا يقول آينشتين إنه يمكن تحديد المسافة ذات الأبعاد الأربعة بتعميم بسيط لنظرية فيثاغورث، وإن هذه المسافة تلعب دورا أساسيا في العلاقات الفيزيائية بين الأحداث الكونية أهم من الدور الذي يلعبه الفاصل الزمني وحده.
37
وأجرى آينشتين من العلاقات الرياضية شديدة التعقيد ما يحافظ على طبيعة البعد الزماني، دامجا المكان والزمان في وحدة واحدة ترسي القانون: «إذا وقع حادثان في المكان نفسه، لكن في لحظتين مختلفتين من وجهة نظر مشاهد، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في مكانين مختلفين إذا نظر إليهما مشاهد في حالة حركية أخرى»، وعلى أساس تكافؤ الزمان والمكان الذي يجعل أحدهما دالا على الآخر، يصح العكس، فإذا وقع حادثان في اللحظة نفسها، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في لحظتين مختلفتين إذا نظر إليهما مشاهد آخر في حالة حركية أخرى، وأيضا إذا وقع حادثان في اللحظة نفسها من وجهة نظر مشاهد، فإن هذين الحادثين من وجهة نظر مشاهد آخر - في حالة حركية أخرى - يكونان منفصلين عن بعضهما بفترة زمانية معينة.
كل هذه المتغيرات المتحركة في تحديد الزمان، والتي تجعل حادثا بعينه ماضيا لمشاهد ومستقبلا لمشاهد آخر، نجم عنها ما يعرف بمشكلة التآني
Simultaneity ، أي استحالة الحكم بأن حادثا وقع قبل أو بعد الآخر، كما يشترط التحديد العلي للأحداث إلى علة سابقة ومعلول لاحق في خط الزمان الواحد المطلق. لقد تلاشت العلية الكونية، كما سبق أن تلاشت في الكوانتم، لكن النسبية تنفي أيضا خاصية عدم قابلية الزمان والأحداث للارتداد، ويمكن افتراض التتابع الزماني للأحداث في الاتجاه المعاكس. مع النسبية أصبح الذهن البشري يستطيع إدراك نظم مختلفة للترتيب الزماني، النظام الكلاسيكي التسلسلي مجرد واحد منها.
والتوغل بإشكالية الزمان إلى هذا الحد يطرح التناقض بين صورة الكون كما ترسمها الفيزياء في القرن العشرين، وصورة الكون في الخبرة العادية للإنسان في حياته اليومية التي تتفق مع صورة الكون في العلم النيوتني، على أن قوانين الديناميكا الحرارية غير القابلة للارتداد والظواهر التي تعكس اتجاها وترتيبا زمانيا واضحا أبسطها الفيلم السينمائي، وآثار الأقدام على الرمال وقرص العجة الذي لا يمكن أن يعود بيضا ... إلخ، كلها يمكن أن تهب دفاعا عن الزمان غير القابل للارتداد الذي اغتالته النظرية النسبية. وقد تصدى لهذه المشكلة كثيرون، من أبرزهم هانز رايشنباخ الذي أسمى هذه الظواهر أنساقا فرعية: تنشأ عن ظروف أو شروط مبدئية معينة، وليس عن طبيعة الكون الفيزيائي. إنها «أنظمة ثانوية» داخل النظام الكوزمولوجي الكوني الذي لا يعني البتة أن الزمان له اتجاه معين أو ترتيب أوحد، ويمكن أن نأخذ هذه الأنساق الفرعية مأخذا برجماتيا، أي عمليا إجرائيا، ونتصرف على أساسها بغير حاجة للدخول في النظريات الشديدة العمومية كالنظرية النسبية العامة.
38
وتقوم النظرية النسبية العامة على أساس تكافؤ كل النظم الإحداثية في وصفها للظواهر الفيزيائية، لذلك فعند أي نقطة في الفضاء ثمة تكافؤ بين الآثار الناتجة عن قوى الجاذبية، وعن الحركة بعجلة، أي بسرعات متغيرة، ولا يمكن التمييز بينهما،
39
وحين جعل آينشتين «مبدأ التكافؤ» فرضا أساسيا حل التحدب محل قوى الجاذبية «التثاقل»، حيث نجد الكون مكانا تسري عليه هندسة ريمان - هندسة السطح المحدب. إن الكون مكان محدب ذو شكل كروي، وليس معنى هذا أنه مقفل بنوع من القشرة الكروية، وإنما معناه أن المكان متناه دون أن تكون له حدود، وحيثما كنا نجد على الدوام مكانا لا تبدو نهاية له، وإذا تحركنا قدما في خط مستقيم سوف نعود يوما إلى نقطة بدايتنا من الاتجاه الآخر، وقد قام الرياضيان فريدمان
Friedman ، ولوميتر
Lemaitre
بإدخال تعديلات على آراء آينشتين، بحيث أصبحت تقوم على افتراض أن مجموع المكان المتناهي ليس له حجم ثابت، وإنما هو يتمدد، والرياضيات التفاضلية في النظرية النسبية تسمح بهذا. وعموما فإن تمدد الكون أصبح فرضا فيزيائيا مأخوذا به وتشهد عليه ملاحظات عدة.
40
وأهم ما في الأمر أن آينشتين أخذ بهندسة ريمان التي تفترض أن السطح متحدب، في مقابل هندسة إقليدس التي تأخذ بها الفيزياء الكلاسيكية، والتي تفترض أن السطح مستو، وترى النسبية أن الفضاء غير منسجم ولا متشابه ولا متناسق كما يزعم نيوتن مرتكزا على الاطراد، إنما هو يتحدب حول الكتل السابحة فيه، ويزداد تحدبه حول الكتل الكبيرة، فيتحدب حول الشمس أكثر من تحدبه حول الأرض، ويتحدب حول الأرض أكثر من تحدبه حول القمر، وهكذا. وعلينا أن ندرك أنه متحدب هكذا بأبعاده، ورابعها الزمن.
تحدب الفضاء يحل مشاكل عدة عجزت الفيزياء الكلاسيكية عن حلها، مثبتة بهذا أن هندسة إقليدس بسطحها المستوي لا تصلح تفسيرا لظواهر الكون جميعا، فمثلا، ثمة نقطة في مدار الكوكب تسمى بالحضيض الشمسي، وهي أبعد نقطة في مدار الكوكب عن الشمس، ولا يمر الكوكب في نقطة الحضيض الشمسي نفسها؛ لأن هذه النقطة بدورها تتحرك حول الشمس حركة بطيئة جدا، فالتغير طفيف جدا في مواضع هذه النقطة، وقد لجأ العلماء إلى حسابات دقيقة لتحديدها واضعين في الاعتبار أن دوران الحضيض الشمسي لكل كوكب يتأثر بالكواكب المجاورة له، وقانون جاذبية نيوتن كاف لحساب مقدار تأثير الكواكب. خضعت دورات الحضيض الشمسي كلها للحسابات النيوتنية إلا عطارد - أقرب الكواكب إلى الشمس وأسرعها. وكان اختلاف حضيض عطارد الشمسي لغزا لم يستطع العلماء أن يجدوا له حلا. حضيضه يدور حول الشمس 574 ثالثة كل قرن (إذا قسمنا الدرجة 60 ثانية، كانت الثالثة جزءا من 60 جزء للثانية) لا تستطيع جاذبية نيوتن إلا أن تفسر 531 ثالثة فقط، أما الثلاث والأربعون الباقية فليس لها تفسير بحال.
41
وتأتي جاذبية آينشتين الكونية، وهي نتيجة لتحدب الكون الذي يؤدي إلى انحراف الضوء وانحراف الأجسام أيضا، هذا الانحراف يبدو لنا في صورة الجاذبية ويجعل الكوكب بدوره منجذبا حول الشمس، أي إن حركته تنعطف نحوها، ولولا هذا التأثير لسارت الكواكب في خط مستقيم وفي اتجاه مطرد. وهذا التصور للجاذبية وبالقوانين التي وضعها آينشتين قد حل المشكلة عند تطبيقها على دوران عطارد، وأعطى الجواب الصحيح: 574 ثالثة كل قرن. وكان هذا شاهدا على صحة الفرض الأساسي للنسبية العامة، ودليلا مقنعا نظرا للفارق الكبير الملموس بين الواقع التجريبي ونتائج نيوتن. إنه انتصار للتصور اللاميكانيكي على التصور الميكانيكي وفي عقر داره: الماكروكوزم، أي العالم الأكبر العياني، والتعامل مع الكتل الضخمة.
والواقع أن أول شاهد تجريبي يعزز النظرية النسبية جاء في أثناء كسوف للشمس في 29 مايو العام 1919م، وكان حدثا جللا هز أركان المجتمع العلمي. فعالم الفيزياء النيوتنية هو العالم نفسه الذي يمر به الشخص العادي في خبرته العادية وحياته اليومية - أي عالم الحس المشترك. وبقدر ما ناقض آينشتين مسلمات الفيزياء الكلاسيكية فقد ناقض أيضا عالم الحس المشترك والخبرة اليومية الذي يبدو معقولا أمام الناس أجمعين، وكما أوضحنا، رسمت النسبية أطر كون يصعب تصوره ويبدو لا معقولا، فواجهت النظرية في البداية ردود أفعال قوية وتيارات علمية رافضة، ورآها بعض العلماء تركيبة عبقرية قد نعجب بها، لكن لا ينبغي أخذها مأخذ الجد، فضلا عن الذين رأوها مؤامرة يهودية خبيثة لتقويض دعائم العلم الفيزيائي والنيل من مجده.
حتى كان مايو من العام 1919م الذي سيشهد كسوفا كليا للشمس في منطقة جنوب إفريقيا. والمكان في النظرية النسبية وسط محدب يفرض على الضوء نوعا من الانحراف يمكن حسابه مقدما والتنبؤ به، فيتحدب حول الأجسام الثقيلة كالشمس كما لو كان منجذبا نحوها. بعبارة أخرى، على أساس من مبدأ التكافؤ بين الجاذبية والتحدب، فإن الضوء تجذبه الأجسام الثقيلة كالشمس تماما كما تجذب الكتل المادية، إنها تجذب الضوء جذبا يحرفه عن مساره لو لم تكن هذه الشمس موجودة، ونتيجة لهذا يمكن التنبؤ بأن الضوء المنبعث من نجم في وضع ظاهري قريب من الشمس يصل إلى الأرض من اتجاه يجعل النجم يبدو كما لو كان مائلا قليلا عن الشمس. بعبارة أخرى، نقول: إن النجوم القريبة من الشمس تبدو كما لو كانت قد تحركت قليلا عن بعضها البعض، وهذا الشيء لا يمكن ملاحظته في الأحوال الطبيعية، ما دامت النجوم حول الشمس غير مرئية في النهار بسبب اللمعان الشديد للشمس، ولكن يمكن تصويرها فوتوغرافيا إبان كسوف الشمس، حيث يحجب القمر ضوء الشمس فتتكشف النجوم حولها. ولو صورنا هذه النجوم في أثناء الليل - أي في أثناء غياب الشمس - يمكن قياس المسافات على الصورتين، وحساب الأثر المتوقع.
وهنا تقدم اللورد آرثر ستانلي إدنجتون
A. S. Eddington
وهو من أعظم علماء الفلك في النصف الأول من القرن العشرين، ويقف في طليعة فيزيائيي النسبية الذين أسهموا في تطويرها وتنقيحها خصوصا في كتابيه «المكان والزمان والجاذبية 1920م»، و«النظرية الرياضية للنسبية 1923م». لقد أجاد استيعاب الآثار العميقة لثورة الفيزياء وتمثل إبستمولوجيا القرن العشرين، فكان فيلسوف علم مرموقا، وإن رآه البعض واقعا في براثن المثالية الذاتية. هذا على الرغم من أن إدنجتون هو الذي اقترح أن نطلق على مبدأ هيزنبرج اسم مبدأ اللاتعين
Indeterminacy
بدلا من اسم مبدأ اللايقين
Uncertainty ؛ لأن اللاتعين أكثر موضوعية، أكثر انطباقا على موضوع البحث وليس على الذات العارفة ويقينها أو تشككها. وإدنجتون على أي حال راهب من رهبان المعرفة، لم يتزوج ونذر حياته الهادئة - في جامعة كمبردج - تماما للعلم وفلسفته. تقدم إدنجتون بطلب رسمي بألف جنيه لتمويل حملة علمية إلى جنوب إفريقيا العام 1919م، وذهب لتصوير النجوم في أثناء كسوف الشمس، وذلك لمقارنتها بصورة النجوم في أثناء الليل التي التقطت منذ شهور خلت حين كانت الشمس في الموقع نفسه المرصود من السماء، وتمت المقارنة وحسابات الآثار، وجاءت النتيجة تماما كما تنبأ آينشتين مخالفا بهذا جموع العلماء،
42
أبرق إدنجتون إلى آينشتين يزف النتيجة، وبروح الدعابة التي اشتهر بها آينشتين قال: إنه واثق من صحة نظرياته وسلامة تنبؤاته، ولو كانت النتيجة قد جاءت مختلفة لرثي لحال صديقه العزيز آرثر إدنجتون!
هكذا بفضل بعثة إدنجتون اجتازت النظرية النسبية الاختبار التجريبي العسير، وهنا فقط وبعد أعوام من إعلانها، خرجت من صفحات مجلة «الفيزياء: وقريناتها، ودوائر ثلة من العلماء المتخصصين غير المتعاطفين أحيانا، وأدرك الجميع أنهم بإزاء أثقب نظريات القرن العشرين وواحدة من أخطر المنجزات في تاريخ العلم بأسره. وأصبح آينشتين أشهر علماء القرن العشرين، وتوالت الاختبارات التجريبية التي اجتيزت بنجاح، وفرضت النظرية النسبية نفسها على روح القرن وعلى جميع الأوساط والمستويات الفكرية، وحين انتصف القرن كانت مكتبة نيويورك المركزية تضم أكثر من خمسمائة كتاب عن النظرية النسبية.
وعلى الرغم من أن إسهام الكوانتم في التقدم الفعلي للعلوم الطبيعية في القرن العشرين أثقل وأكثر وأشد عينية من إسهام النسبية، فإن الأخيرة حازت شهرة أكثر في الأوساط الثقافية العامة وأيضا الشعبية، حتى إذا ذكرت ثورة الفيزياء ورد إلى الأذهان اسم آينشتين ونظريته النسبية دونا عن أو قبل اسم ماكس بلانك وزملائه من فرسان الكوانتم العظام، الذين دفعوا العلم الطبيعي دفعته الجبارة في القرن العشرين. على العموم، النظريتان معا هما أساس ثورته الفيزيائية الكبرى وإنجازاته التقانية «التكنولوجية» الباهرة.
وقد أسلم آينشتين الروح رافضا تولي الرئاسة الشرفية لإسرائيل أو حتى الانتقال إليها من مهجره الأمريكي، ويحاول تحقيق أمل العلماء في ضم النظريتين معا في إطار نظرية واحدة للمجال الموحد، بدلا من اثنتين، مثلما ارتكزت الفيزياء الكلاسيكية على نظرية واحدة هي نظرية نيوتن. لم يتمكن آينشتين من إنجاز هذا الأمل، وما زال الشوط طويلا أمامه. وعلى كرسيه المتحرك بالكومبيوتر الشخصي الذي يعوضه العجز عن النطق وعن الحركة، يحاول العبقري الفذ ستيفن هوكنج تحقيق هذا الأمل والجمع بين الكوانتم والنسبية في نظرية واحدة، ربما يتوصل إليها في القرن الحادي والعشرين.
على أن النظرية النسبية حين اتخذت من هندسة ريمان هندسة تطبيقية، بدلا من هندسة إقليدس التي عمل بها نيوتن، جعلت الرياضيات بجلال قدرها وعظيم شأنها تسير في ركاب الثورة، ولا نستطيع أن نتغاضى عن هذا.
ثالثا: الرياضيات في ركاب الثورة
لقد عم المد الثوري وساد تصورات العلم ومفاهيمه واكتسب منتهى الشرعية والمشروعية حين بلغ مداه رحاب السلطة الحكمة وملكة العلوم: الرياضيات، بحيث أصبح التطور المعرفي منذ بدايات القرن العشرين يسير من كل حدب وصوب في ركاب المتغيرات الثورية. على أن نلاحظ قبلا أن الرياضيات ضرورية، بل هي - بتعبير إميل بوترو - علم الضرورة. إننا إذا سلمنا بالمقدم في القضية الرياضية لا بد بالضرورة أن نسلم بالتالي. لم تكن الرياضيات في أي مرحلة من مراحل تطورها التاريخي أكثر أو أقل من تلك الصورة النهائية للضرورة التي تربط بين طرفي القضية الرياضية من حيث هي قضية رياضية في إطار نسقها المطروح. القضية الرياضية بهذا هي الكيان الوحيد في عالم العلم الذي ينبثق كاملا، أو هي الوليد المعجز الذي يولد ناضجا، وكانت الرياضيات دائما هي النموذج الأمثل للضرورة المنشودة في الاستدلال العقلي واليقين المطلق.
ومع هذا، فإن الرياضيات مجرد بناء عقلي بحت وإنشاء منطقي خالص، لا يلتجئ ولا يحتاج - إن قليلا وإن كثيرا - إلى ذلك الوجود المتعين موضوع الفيزياء وسائر العلوم الإخبارية التجريبية. إن الرياضيات ملكة العلوم والمبحث الصوري الرفيع المترفع عن شهادة الحواس وجزئيات الواقع التي تغوص في لجتها العلوم الإخبارية. بعض الأحداث في خبرتنا العادية، كرؤية سحابة تجتمع بأخرى، فنجد حاصل جمعهما سحابة واحدة وليس اثنتين، قد ينقض قواعد الحساب، وأبسط قواعد الهندسة قد يحتاج إلى عالم هندسي مثالي، وقد لا يصدق على الواقع، ولكن نحن لا نطلب منها أن تصدق عليه، بل فقط أن تكون متسقة مع مقدماتها، وأن تتسق معها نتائجها، وبهذا تكون قواعد علم ناجح، و«كما هو معروف العلم الناجح الصحيح على نطاق واسع جدا، بل وغير محدود، إنما يعمل بقواعد الرياضة».
43
على هذا ليس من المفروض إطلاقا على عالم الرياضة البحتة أن يغادر أوراقه وحجرة عمله؛ لينظر إلى الخبرات الواقعية يستمليها أو يستفتيها، ولا حتى عن طريق الرياضة التطبيقية، فكأننا به يقول ملخصا عمله: افترضوا معي هذه المسلمات أو المقدمات، وتعالوا لأريكم ما عساه أن ينتج عنها بواسطة المنهج الاستنباطي الصرف من نظريات، إن صحت فهي ضرورية يقينية يستحيل أن يدانيها سوى اليقين المطلق.
والرياضيات بهذا دونا عن لغات العالمين هي اللغة المنضبطة والاستدلال الدقيق الذي لا مثيل له في أي شكل آخر من أشكال التفكير؛ لذلك قال كانط إن الرياضيات هي الحظ السعيد للعقل البشري. والواقع أنها فعلا هدية الله الحقيقية للإنسان.
وهي مطردة التقدم شأن كل قاطني عالم العلم، فما بالنا بملكة العلوم! يومها أفضل من الأمس، يسجل العقل فتحا متتاليا لآفاق أوسع وإحرازا متواليا لمنجزات مستجدة. لكن تقدم العلوم الإخبارية التجريبية يلغي المراحل السابقة من تاريخ العلم، فينسخ الجديد القديم، يكشف عن مواطن كذب فيه وأحيانا يبلغ هذا حد اكتشاف مواطن للخطل واللامعقولية. أما في الرياضيات فقد تستوعب المناهج المتطورة المشاكل القديمة وتقدم طرقا أبسط وأعمق لمعالجتها، فضلا عن فتح آفاق أوسع، لكن ما دامت ثبتت صحة قضية رياضية في إطار نسقها؛ أي ما دام ثبت الارتباط بين المقدم والتالي فيها، فسوف تظل صحيحة إلى أبد الآبدين وتتمتع القضية الرياضية داخل نسقها بثبات صدق وضرورة منطقية تميزها عن قضايا العلوم التجريبية، ومهما علت الرياضيات في مدارج التقدم لن تسخر من براهين القدامى في العهود السحيقة أو تكتشف خطأها فجأة، كما يحدث في العلوم الأخرى. ما زال آينشتين منبهرا بنظرية فيثاغورث الموضوعة قبل الميلاد بقرون ويعمل على أساسها، وما زالت هندسة إقليدس نموذجا لبناء النسق الهندسي، وقد وضعها في مصر في العصر البطلمي، في الإسكندرية في أثناء القرن الثالث قبل الميلاد. إن القضية الرياضية إذا كذبت كانت متناقضة ذاتيا، وإذا صدقت كانت ضرورية الصدق، وكذبها مستحيل إطلاقا في أي ظروف وشروط «2 + 2 = 4» لا ترتبط بأي شروط زمانية أو مكانية، بل تصدق دائما وأبدا ما دمنا متفقين على معان محددة للرموز: 2، 4، الجمع، التساوي، وسائر حدود نسقها الرياضي. وبالمثل إنكار أن المثلث شكل محاط بثلاثة أضلاع يعني إنكار أن يكون المثلث مثلثا!
وإذا كان هذا هو حال الرياضيات، فكيف بلغها المد الثوري؟
لقلد تلمسناه حين رأينا آينشتين يستبدل بالهندسة الإقليدية هندسة لا إقليدية للكون هي هندسة ريمان، فأدركنا فقط في القرن العشرين أن تطبيق الإقليدية على الكون مسألة تعسفية إن لم تكن قاصرة. أما فيما سبق، فقط كانت هندسة إقليدس هي الأنموذج الأعظم لليقين، بكل معاني اليقين ودلالاته، الإبستمولوجية والأنطولوجية وما قبلهما وما بعدهما، حتى إن القديس توما الإكويني
Thomas Acquinace (1225-1274م) قد شغلته قضية مهمة هي : ما الذي يكون فوق إرادة الله؟ فوضع إجابة تتضمن بضعة أشياء، منها: أن الله لا يستطيع أن يجعل مجموع زوايا المثلث أقل من قائمتين! فقد كان الجميع - فلاسفة وعلماء ومثقفون وعوام - شأنهم شأن إيفان كرامازوف بطل رائعة دستويفسكي «الإخوة الأعداء» على يقين من أن الله قد خلق العالم بموجب الهندسة الإقليدية.
فليس غريبا أن تطرح النيونية كل تلك الحتمية واليقين وهي تقوم بتطبيق الهندسة الإقليدية على الواقع الفيزيائي أو على الكون. ولأن هندسة إقليدس كانت آنذاك هي الهندسة الوحيدة التي لا هندسة سواها - ولا حتى تصورا - كانت بمنأى عن كل جدال، «ولم تكن هناك مشكلة متعلقة بهندسة المكان الفيزيائي، وكان من الطبيعي أن تعد الهندسة الإقليدية منطبقة على المكان الفيزيائي لعدم وجود هندسة أخرى. وقد كان الفضل يرجع إلى كانط في أنه أكد أكثر من غيره على تطابق الهندسة الرياضية مع الهندسة الفيزيائية».
44
لكن تماما كما أثارت الفيزياء الكلاسيكية مشاكل أدت إلى الخروج من عالمها الميكانيكي، أثار نسق الهندسة الإقليدية مشاكل أدت إلى الخروج منه إلى أنساق هندسية أخرى، وهي المشاكل الخاصة بالمسلمة الخامسة.
فالنسق الهندسي يقوم على مقدمات أساسية، هي تعريفات للحدود الهندسية المستخدمة، ثم قضايا نسلم بها بلا برهان، يحددها العالم فنسلم بها معه ما دام رآها ضرورية لبناء النسق بشرط أن تكون متسقة فيما بينها وكافية للبرهنة على نظريات النسق، وأيضا لا بد أن تكون كل مسلمة مستقلة بذاتها فلا يمكن استنتاجها أو استنباطها من القضايا الأخرى المسلم بها؛ لأنه لو أمكن استنباطها لكانت نظرية مبرهنة وليست مسلمة. من هذه المقدمات، وعن طريق الوسائل المنطقية وقواعد الاستدلال، تستنبط النظريات أو المبرهنات. النظرية الرياضية مبرهنة
theorem
وليست مجرد نظرية
theory
مطروحة؛ فقد برهن عليها، وتم إثباتها بناء على المقدمات. وبهذه العناصر الثلاثة - المقدمات والقواعد المنطقية والمبرهنات - يكتمل بناء النسق الصوري.
والواقع أن المعلم الأول أرسطو قد أرسى هذه الأسس الباقية، حين ميز في كتابه «التحليلات الثانية» بين المبادئ المشتركة لكل العلوم (وهي قوانين الفكر الأساسية: قانون الهوية، أي «أ» هي «أ»، وقانون عدم التناقض، وقانون الثالث المرفوع أو الوسط الممتنع، أي إن الشيء إما «أ» وإما لا «أ»، ولا وسط، أي: لا طرف ثالث) وبين المبادئ الخاصة بكل علم على حدة. والمبادئ الخاصة بالرياضيات هي أولا التعريفات للحدود المستعملة، وثانيا البديهيات وهي قضايا واضحة بذاتها، وتعد صادقة عند كل من يفهم معناها بغير حاجة إلى برهان، وثالثا المسلمات التي نصادر عليها كي تؤسس العلم وتقيم البرهان، وقد لا تكون واضحة لكنها تتضح فيما بعد. وبهذا التحليل غير المسبوق كان أرسطو يرسي على أساس منهجي ومنطقي مقنن حجر الزاوية للتعاون بين الرياضيات والفلسفة - والذي لن تنفصم عراه بعد ذلك أبدا - مثلما يرسي أسس نسق الهندسة. لكن أرسطو لم يتجاوز حد التأسيس، ولم يقم نسقا رياضيا،
45
على الرغم من أن جهوده الرياضية تمتد إلى محاولة إثبات بعض المبرهنات، مثل مبرهنة تساوي الزاويتين المقابلتين للساقين المتساويين في المثلث.
46
على أية حال، جاء إقليدس المعاصر تقريبا لأرسطو ليقوم بتطبيق ذلك التحليل الأرسطي في إقامة نسقه. لم يضف إقليدس كثيرا للجهود السابقة عليه، لكنه فعل ما هو أهم: الربط المنطقي بينها ربطا بلغ حدا جعله مثالا يحتذى للمنهج الرياضي الاستنباطي طوال ألفين من السنين، عالج إقليدس كل الرياضيات المعروفة في عصره: الهندسة والحساب ونظرية الأعداد، وأودعها كتابه «الأصول». ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة عشر كتابا أو فصلا، الستة الأولى منها تشكل نسقا متكاملا لهندسة السطح المستوي، وكان أول ما فعله إقليدس هو وضع تعريفات من قبيل: النقطة هي ما ليس له أجزاء وليس له حجم، والخط طول بغير عرض ... إلخ، فيستهل الكتاب الأول بخمسة وثلاثين تعريفا، بخلاف التعريفات المطروحة في صدر كل كتاب من الكتب الخمسة التالية،
47
وأيضا وضع إقليدس في مقدمة الكتاب الأول من الأصول اثنتي عشرة بديهية بخلاف بديهيات مطروحة في كتب أخرى، من قبيل: الكل أكبر من جزئه، والمقدران المساويان لثالث متساويان ... إلخ، واكتملت مقدمات إقليدس بخمس مسلمات من قبيل: يمكن رسم خط مستقيم بين أي نقطتين ويمكن مده إلى أي طول نشاء ... ومن هذه المقدمات - أي التعريفات والبديهيات والمسلمات - أقام البرهان على نظرياته العدة التي كانت جميعها مناط الإكبار والإعجاب.
وكما ذكرنا أتت المشاكل من المسلمة الخامسة وهي مسلمة الخطين المتوازيين، وأبسط صورها: الخطان المتوازيان لا يلتقيان مهما امتدا، أو: من نقطة خارج مستقيم معلوم لا يمكن رسم إلا مستقيم واحد يوازيه. فقد شك الرياضيون - ومن بينهم نصير الدين الطوسي والحسن بن الهيثم - في كونها مسلمة، وراودهم الاعتقاد بأنها يمكن أن تكون نظرية مبرهنة نثبتها، فحاولوا إثباتها باستخدام المسلمات الأخرى، ولم ينجح أحد في إثباتها، وبعضهم أسلمته هذه المسلمة للجنون.
وبصفة عامة يمكن القول: إن البراهين المباشرة تعرب عن فشلها للوهلة الأولى، فلم يكن أمام الرياضيين إلا برهان الخلف وهو منهاج أثير لديهم، يعني إثبات صدق القضية عن طريق إثبات كذب نقيضها أو عكسها، فإذا أثبت كذب (لا «أ») فمعنى هذا أننا أثبتنا أن («أ» صادقة)، وبالتالي إذا أثبت الرياضيون خطأ أو كذب القضية: الخطان المتوازيان يلتقيان، كان هذا إثباتا لصدق القضية القائلة إنهما لا يلتقيان مهما امتدا، أي تلك المسلمة المذكورة.
ولكي يفترضوا عكسها، أي إمكان التقاء المتوازيين، افترضوا أن السطح غير مستو، أي غير إقليدي، ومن هنا أدت المسلمة الخامسة إلى الهندسات اللاإقليدية، وهي الأنساق الهندسية التي تختلف عن نسق إقليدس من حيث إنها لا تفترض أن السطح مستو، فلا تسلم بمسلماته، بل بمسلمات مختلفة.
وكان العالم الإيطالي جيرولامو ساكشيري
G. Saccheri
قد أحرز بعض النجاح في الكفاح اليائس ضد المسلمة الخامسة، لكنه لم يصب الهدف، شأن جميع سابقيه ومعاصريه من الرياضيين. ثم جاء الألماني يوهان لامبرت
J. H. Lambert (1667-1733م) من دون أن يعرف شيئا عن أعمال ساكشيري واستخدم شكلا رباعيا مختلفا نوعا ما، به أربع زوايا، ثلاث منها قائمة والرابعة إما أن تكون حادة، وإما أن تكون قائمة أو منفرجة. أما الحادة فقد حار فيها لامبرت - كما حار من قبله ساكشيري - وبين أن فرضية الزاوية القائمة تكافئ مسلمة إقليدس، ودحض - كما فعل ساكشيري - فرضية الزاوية المنفرجة، ولكن لامبرت زاد فبين أنها لا يمكن أن تتحقق إلا على سطح كرة، إذا ما قامت الخطوط المنحنية لدائرة كبيرة بدور الخطوط المستقيمة، فكان لامبرت - بهذا - المبشر الأول بالهندسة اللاإقليدية.
48
وبعد حوالي عشرين عاما من وفاة كانط، أي العام، 1824م، اكتشف رياضي مجري شاب هو جون بولياي
J. Bolyait (1802-1860م) أن مسلمة التوازي ليست عنصرا ضروريا، فشيد هندسة تخلى فيها عنها، وأحل محلها مسلمة جديدة هي القائلة: إن هناك أكثر من مواز واحد لمستقيم معين من نقطة معينة، وفي هذا الوقت كانت فكرة الهندسة اللاإقليدية قد تراءت بوضوح في ذهن العالم الألماني الفذ كارل جاوس
K. F. Gauss ، بل إنه قام بمحاولة لقياس مجموع زوايا المثلث اللاإقليدية في الطبيعة، بيد أنه لم يكسب أفكاره أي شكل متكامل، ولم ينشر أعماله، واقتصر على الرسائل الخاصة، وكتب في إحداها يقول:
إنني أميل أكثر فأكثر إلى الاقتناع بأنه لا يمكن إثبات ضرورة علم الهندسة بشكل دقيق، على أي حال يستحيل ذلك بالعقل البشري وللعقل البشري.
49
وكان يعني بهذا أن الهندسة الإقليدية على قدم المساواة مع الهندسة اللا إقليدية، كلتاهما خاضعة لعدم التناقض، معيار الرياضة البحتة، ولا ضرورة لإحداهما من دون الأخرى.
هكذا شهد الثلث الأول من القرن التاسع عشر بدايات ثورة في عالم الرياضيات، حين أصبحت ضرورة انطباق الرياضيات على الواقع لأول مرة محل أخذ ورد، وظهر نسق للهندسة اللا إقليدية مع العالم الروسي نيكولاي نوفتش لوباتشيفسكي (1792-1856م)، المعاصر لبولياي وجاوس، فقد نشر العام 1829م في جامعته قازان مذكراته حول مبادئ الهندسة، وكان هذا أول عرض منهجي مكتمل لهندسة لا إقليدية، ترفض مسلمة التوازي، فتفرض أن السطح ليس مستويا بل مقعرا.
ثم جاء الألماني ريمان
E. Riemann (1826-1866م) ليفترض أن السطح محدب، ووضع نسق هندسة لا إقليدية لا توجد فيه أي خطوط متوزاية على الإطلاق.
هكذا أدركنا أن الله يمكن أن يخلق مثلثات زواياها أكثر أو أقل من قائمتين، وأن ما قاله إقليدس محض بناء عقلي معجز، وليس ضربة لازب مفروضة على الله قبل الإنسان!
هاتان الهندستان: هندسة لوباتشيفسكي بسطحها المقعر وهندسة ريمان بسطحها المحدب، تناقضان الهندسة الإقليدية بسطحها المستوي، ومع ذلك فكل منهما لا تنطوي على أي تناقض داخلي، وإنما هي نظام متسق بالمعنى نفسه الذي تكون به هندسة إقليدس متسقة، وعن طريق معادلات تحويل مناسبة أثبت كلين
Klein ، وكايلي
Cayley ، ووايتهد أن كل قضية في هندسة إقليدس تناظرها قضية في هندسة ريمان، وتناظرهما ثالثة في هندسة لوباتشيفسكي، فإذا كان ثمة خلل أو عدم اتساق في أي من هاتيك الأنساق الثلاثة فلا بد أن يكون الأمر هكذا في الباقيتين. والآن أي من هذه الأنساق هو الحقيقة؟ هذا سؤال لا تثيره الرياضة البحتة، الثلاثة في نظرها متساوية، كل منها صحيح ما دام متسقا مع البديهيات، أو بالأصح المقدمات التي بدأت منها، وانطباق أي منها على الطبيعة مسألة فيزيائية وليست رياضية.
50
وكان يمكن أن تظل هذه الثورة على المستوى الخالص، مستوى الرياضيات البحتة التي تبلورت وتميزت فقط في القرن التاسع عشر بفعل عوامل أهمها ظهور هذه الهندسات اللاإقليدية، وكما يقول دافيد هيلبرت، لرياضيات البحتة غير ذات صلة إطلاقا بالرياضيات التطبيقية والهندسة الفيزيائية! إنها لا تصبح تطبيقية إلا بعد اتباع طرق رياضية خاصة، أما الرياضيات البحتة في حد ذاتها فلا تلتزم إطلاقا بأي متعينات أنطولوجية - أي وجودية. لذلك أمكن للكلاسيكيين في البداية الحكم بأن هذه الهندسات تعبر عن عبقرية رياضية لا أكثر، أو أنها إنجاز عقلي فحسب، فتبقى إبستمولوجيتهم مصونة، أي يبقى عالمهم حتميا ميكانيكيا ويبقى علمهم يقينيا قطعيا ضروريا، ولوباتشيفسكي نفسه كان يميل إلى الاعتقاد بأنه تحقق في عالمنا الهندسة الإقليدية.
ولكننا ذكرنا أن جاوس حاول أن يثبت قابلية الهندسة اللاإقليدية للتطبيق التجريبي على العالم الفيزيائي، وبفضل جهود جاوس وغيره نشأت عن هذه الهندسات المتعددة مشكلة هندسة العالم الفيزيائي، فأيتها هندسته؟ وقد أدى هذا إلى مآزق، كان المخرج القوي منها إجرائيا بحتا وهو: أن ننظر إلى مسألة التطابق بين النسق الهندسي والعالم الفيزيائي لا على أنها مسألة ملاحظة تجريبية، بل مسألة تعريف، فينبغي ألا نقول: إن القضيبين الموضوعين في مكانين مختلفين هما بالفعل متساويان، إنما الواجب أن نقول: إننا نسميهما قضيبين متساويين، ويسمى هذا النوع من التعريفات بالتعريفات الإحداثية
Coordinative Definition
وهي تربط أو تكون إحداثيا بين موضوع كالقضيب الصلب، وبين تصور الطول المتساوي. وعلى هذا فإن القضايا المتعلقة بهندسة العالم الفيزيائي لا يكون لها معنى إلا بعد وضع تعريف إحداثي للتطابق، فإذا غيرنا التعريف الإحداثي للتطابق، نتجت هندسة جديدة، وهذه الحقيقة يطلق عليها اسم نسبية الهندسة، وهي تدل على أنه لا يوجد وصف هندسي واحد للعالم الفيزيائي، وإنما توجد فئة من الأوصاف المتكافئة، وكل من هذه الأوصاف صحيح داخل نسقه، أما الفروق الظاهرة بينها فلا تتعلق بمضمونها، وإنما باللغة التي تصاغ فيها فحسب.
51
والحق أن هذا التفسير الإجرائي بشكل عام هو أساس مدرسة مهمة من مدارس الاتجاه الأداتي في فلسفة العلم سنتوقف عندها في نهاية الفصل التالي، وهي المدرسة الإجرائية التي تعمم هذا التصور على كل المفاهيم العلمية.
المهم الآن أن نلاحظ كيف أن وجود أنساق هندسية تناقض بعضها، وإمكان تطبيق أكثر من نسق واحد وطبيعة هذا التطبيق نفسه «التعريفات الإحداثية»، كل هذا ينهار معه، بل يستحيل معه، مد الضرورة المنطقية الرياضية إلى ضرورة أنطولوجية تتخذ صورة الحتمية الميكانيكية، فضلا عن إقامتها على الأساس الإقليدي. فلم تعد الخاصة الأولية للهندسة الإقليدية مسلما بها، وأوضح بناء الهندسات اللاإقليدية إمكان الاتساق التصوري لمسلمات إقليدس التي كانت تبدو مبرهنة حدسيا. إنها حرمت الهندسة الإقليدية من صفة الضرورة، طبعا الهندسة الإقليدية صحيحة، ولم يختلف أحد على صحتها، الاختلاف فقط في تبرير هذه الصحة وفي تأويلها الإبستمولوجي؛
52
أي في محاولة اشتقاق ضرورة أنطولوجية من تطبيقها.
ثم جاء آينشتين وأثبت القصور في محاولة تطبيق الهندسة الإقليدية على العالم، فوضع المسمار الأخير في نعش الحجة الرياضية الإقليدية للتصور الميكانيكي الكلاسيكي للكون، حين جعل من هندسة ريمان الهندسة الفيزيائية، أي هندسة الكون الذي نحيا فيه. وكان آينشتين يعتبر هذا أعظم إنجازاته، فحين سأله ولده عن سبب شهرته الفائقة، أجابه: «أتعلم يا ولدي، عندما يزحف صرصور أعمى على سطح كرة فإنه لا يلاحظ أن الطريق الذي سار فيه منحن ، بينما أنا بالعكس أسعدني الحظ أن ألاحظ ذلك!»
53
أفلا يعني هذا أن الكلاسيكيين حين استمدوا من إقليدية النيوتنية سندا لإبستمولوجيتهم الحتمية كانوا صراصير عميانا؟!
ومن ناحية ثانية، شهد رحاب الرياضيات على مشارف القرن العشرين منجزات أخرى تعد من المنظور الفلسفي ثورة وعلى مستوى آخر أعمق غورا وأكثر أولية، مستوى المنطق الرياضي، إنها ثورة المنطق الرياضي أو ثورة الرياضة المنطقية مع رسل ووايتهد اللذين رأيا - بخلاف جبر المنطق مع جورج بول، أي رد المنطق إلى الرياضة - رأيا أن الرياضيات هي التي ترد بأكملها إلى المنطق، خاصة بعد تحسيب الرياضيات، أي ردها إلى علم الحساب على يد فريجه، ورد علم الحساب إلى مفهوم العدد على يد بيانو، ورد العدد إلى المنطق على يد برتراند رسل، الأمر الذي جعل رسل يعبر عن العلاقة بين المنطق والرياضة بقوله الشهير إنهما لا يختلفان، إلا كما يختلف الصبي عن الرجل، فالمنطق هو صبا الرياضيات، والرياضة هي رجولة المنطق.
ثم أخرج رسل ووايتهد معا كتابهما العظيم «برنكبيا ماتيماتيكا» أي «أصول الرياضيات» العام 1910-1913م ليبدآ فيه بثلاثة لا معرفات هي الإثبات والنفي والبدائل، ومنها فقط تمكنا بواسطة التدوين الرمزي من استنباط قواعد المنطق الصوري بأسرها. وهذا التناول التحليلي للرياضة أثبت أنها مثلها مثل المنطق، قضايا تحليلية فارغة من أي مضمون، وأصبح مبرهنا أن الرياضة بأسرها لا تعني إلا اشتقاق النتائج الضرورية التي تلزم عن مقدمات معينة، ومقدمات الرياضة البحتة بأسرها ليست إلا قواعد للاستدلال، إنها تحصيلات حاصل، المقدم هو ذاته التالي، لكن في صورة أخرى ولا إضافة البتة؛ لذلك يستحيل أن تقبل الكذب أو أن تتعرض للتكذيب، إنها يقينية؛ لأنها لا تمثل إلا ارتباطات جديدة بين مفاهيم معروفة وتبعا لقواعد معروفة.
وهذا الكشف عن الطبيعة التحليلية للرياضيات، حل كثيرا من الألغاز المستعصية، فمثلا يمكن أن نفهم الآن كيف فقدت الإقليدية أي ضرورة أنطولوجية، بل إبستمولوجية، بينما ظلت محتفظة بالضرورة المنطقية، فتبقى إلى أبد الآبدين صحيحة؛ وذلك لأنها محض تحصيلات حاصل تربط الضرورة المنطقية بين طرفيها، فإذا سلمنا بالمقدم وهو البديهيات والمسلمات وجب أن نسلم بالتالي، وهو النظريات أو المبرهنات في إطار النسق الإقليدي. لقد أدرك الجميع أن الهندسة ليست أكثر من لعبة منطقية إلى حد معين، وكل ما يعرفه عنها عالم الرياضيات هو البديهيات، أي قواعد اللعب، المستقيم والنقطة والسطح المستوي ... هي بيادق هذه اللعبة، وقواعد المنطق هي قواعد اللعب بهذه البيادق.
54
أقر الرياضيون أن النسق الهندسي قد بني وفقا لمتواضعات
conventions . إنها تمثل صيغا فارغة، لا تتضمن أي عبارات حول العالم الفيزيقي، اختيرت على أسس صورية محضة، ويمكن أن تحل محل الصيغ الإقليدية صيغا لا إقليدية، وبهذا اكتشف الرياضياتي أن ما كان يستطيع إثباته لا يعدو أن يكون نسقا من علاقات اللزوم الرياضية، أي علاقات «إذا كان ... فإن» التي تؤدي من البديهيات إلى النظريات الهندسية، وأصبحت الهندسة الرياضية بدورها مجرد حقيقة تحليلية.
وحل أيضا اللغز المتمثل في أن الخاصة المميزة للفيزياء هي أنها مطروحة في حدود المعادلات الرياضية، وبينما تظل المعادلات الرياضية البحتة يقينية، فإن المعادلات الفيزيائية الرياضية محض احتمالية، خصوصا كما يؤكد عالم الكوانتم، والحل بات واضحا، فصدق القضايا الرياضية يعتمد على العلاقات الداخلية بين حدودها وأطرافها داخل نسقها، أما صدق القضايا الفيزيائية - من الناحية الأخرى - فيعتمد على علاقتها بشيء ما خارجي، مرتبط بالخبرة. إن التمييز راجع إلى اختلاف موضوعات العلمين، واختلاف الخاصة المنطقية لكليهما: الرياضة تحليلية والفيزياء تركيبية، وموضوعات الفيزياء لا يمكن أن تتحدد ببديهيات ومسلمات؛ لأنها شيء من العالم الواقعي التجريبي، وليست في العالم المنطقي للرياضيات، ومهما درسنا الفيزياء في سمتها الرياضية، فستظل دوما في حاجة إلى إثبات صدق معادلاتها على الواقع، وهذه العلاقة تختلف بالمرة عن الاتساق الداخلي للرياضيات؛
55
لذا تظل الفيزياء رياضية بغير أن تستطيع الزعم بيقين الرياضيات.
وعلى الرغم من أنه ليس ثمة نتيجة منطقية حظيت بالقبول الذي حظيت به إثباتات الطبيعة التحليلية للرياضيات؛ لأنه ليس ثمة نتيجة منطقية كانت دامغة ومثمرة مثلها، فإنها لم تنج من الاعتراض، شأن كل قضية كبرى مترامية الأطراف، يصعب أن يصدق عليها الجميع.
فهذا التوحيد بين الرياضة والمنطق يقابله اعتراض، يشترك فيه العقلانيون والتجريبيون، مؤداه أنه ليس ثمة شيء جديد في نتيجة الحجة المنطقية لم يكن متضمنا في المقدمات، فالمنطق بأسره يتكون من التقرير «أ هي أ» وعلى هذا؛ فإن كانت الرياضيات منتجة حقا فهي لا يمكن أن تكون محض منطقية، بعبارة أخرى، الزعم المنطقي التحليلي للرياضيات يفشل في تفسير الجدة
Novelty
وهي حادثة بلا مراء في الرياضيات، غير أن هذا الاعتراض - كما يخبرنا موريس كوهين - لا يعدو أن يكون سوء استعمال للألفاظ، فما الذي نعنيه حين نسأل: هل نتيجة الحجة الاستنباطية محتواة
containing
في المقدمات؟ إننا بالطبع لا نعني ما نعنيه نفسه حين نقول: إن الأشياء محتواة في الحجرة، والمعنى الوحيد الملائم الذي نعزوه إلى علاقة الاحتواء بين المقدمات والنتيجة هو معنى التضمن المنطقي، أي اللزوم
logical Implication ، الذي يجعل التالي يلزم بالضرورة عن المقدم. من هذه الزاوية يصبح التمسك بأن الاستنباط يفضي إلى قضايا متضمنة في المقدمات واضحا تماما، ونحن لسنا على وعي بكل النتائج المتضمنة في افتراضاتنا، وهذه واقعة أساسية في الخبرة الإنسانية، ومن ثم فإن اكتشاف ودراسات تلك التضمينات، يجب أن يشغل نطاقا واسعا من البحث عن الحقيقة،
56
فتظل الرياضيات مجالا لإنجازات مستجدة.
ويبدو أن مثل هذا الاعتراض - الذي عرف كوهين كيف يرده - من الآثار التي خلفها منطق أرسطو، ولو تخلصنا من هذا ولفتنا الأنظار شطر المنطق الحديث - الذي سنتوقف عنده تفصيلا في الفصل القادم، والذي أنجب هذا الكشف التحليلي العظيم للرياضيات - لأدركنا أنه حتى القضية «أ» هي «أ» يمكن أن تكون نتيجة مثبتة وليست بديهية؛ فقد كانت هكذا في نسق دوال الصدق التكرارية الذي وضعه رسل،
57
إن هذا المنطق الحديث منطق علاقات، والرياضيات - بأسرها، وبكل جديتها وجدتها - إثبات لعلاقات بين رموز، أو علاقات بين أطراف معادلات؛ هكذا نستطيع أن نسلم بأن الرياضيات بأسرها ليست إلا محصلات منطقية ونتيجة للمنطق.
إن الرياضة محض أداة ولغة فحسب، وليس ثمة لغة أخرى غير الرياضة يمكن أن تصف ظواهر الكون، بمثل هذا الكمال والبساطة والمواءمة والدقة. كانت الرياضيات، منذ أفلاطون وحتى كانط، تعد نسقا من قوانين العقل، يتحكم في العالم التجريبي، واتضح الآن أن الرياضة ليست هكذا، وأنها لا تقيم قوانين للعالم الفيزيائي، إنما تقتصر على صياغة علاقات فارغة تسري على كل عالم ممكن. وعلى المعنيين بالأمر استغلالها أو تطبيقها للتعبير عن عالمنا المتعين، دون أن يعني هذا سحب الضرورة الرياضية على قوانين العالم الفيزيائي.
لقد أثبتت الخاصة التحليلية للرياضيات، وأنها فارغة من المضمون الإخباري بفضل المنطق الرياضي وأقطابه العظام: بيانو وجوتلوب فريجه، ثم رسل ووايتهد وكتابهما العمدة «برنكبيا ماتيماتيكا» الذي ينبغي أن نعده من المعالم البارزة للقرن العشرين. وبطبيعة الحال، عينت بعض المآخذ والقصورات فيه، وخضعت بعض الجوانب لتعديلات وتنقيحات، فظل طوال القرن العشرين وحتى الآن فاعلا ومتطورا، بجهود أنصاره وخصومه معا.
لقد كان تأثير «برنكبيا ماتيماتيكا» في تطور العقل إبان القرن العشرين أكثر جذرية وخطورة، ربما أكثر مما تصور برتراند رسل نفسه. وفي العام 1931م أخرج كورت جودل
K. Gdel (1906-1978م) بحثا بعنوان «حول قضايا غير قابلة للبت صوريا في برنكبيا ماتيماتيكا ومنظومات ذات صلة»، صحيح أن رسل أعلن بعد هذا بسبع سنوات أنه لا يرى ما يدعو لتعديل الأطروحة الأساسية للكتاب وهي أن المنطق والرياضيات متطابقان، إلا أن بحث جودل المذكور حمل تخطيطيا لنظريته في مبرهنتين نالتا حقا من بهاء اليقين الرياضي حين أثبت أنه لا اكتمالا في الأنساق الرياضية. وتعد «نظرية جودل» بدورها من معالم تطور العقل الصوري في القرن العشرين.
برهن جودل في نظريته على أنه في أي نسق صوري يقوم على سلسلة الأعداد الطبيعية التي تبدأ من الصفر، توجد قضية أو صياغة
formula
لا يمكن إثباتها ولا إثبات نفيها، أي غير قابلة للبت أو الحسم صوريا، وينتج عن هذا مبرهنة جودل الثانية التي تبرهن على أنه لا يمكن إثبات اتساق النسق الصوري ببرهان من داخله، الإثبات الذاتي للاتساق يقتضي توافر خصائص جوهرية لا يتمتع بها النسق الصوري الملائم لسلسلة الأعداد الطبيعية، وهذا يعني لا اكتمالا في النسق الصوري؛ لذلك تعرف مبرهنتا جودل أو نظريته باسم «نظرية اللااكتمال»، وكان لها بدورها تأثير بالغ في القرن العشرين. فقد اشترط جودل صفات جوهرية أخرى في النسق لكي يكون متكملا ومتسقا ذاتيا، منها أن تكون مسلماته قابلة للميكنة، وقدم جودل العام 1934م تعريفا فنيا واسعا لمفهوم الميكنة، فقام آلان تورنج
A. M. Turing
العام 1936م بتصميم ماكينات نظرية معروفة باسمه، تمثل تعريف جودل الأوسع لمفهوم الميكنة. وفي الأربعينيات نجح جون فون نيومان
J. Von Newmann (1903-1957م) وآخرون في تجسيد ماكينات تورنج فعليا باستخدام دوائر كهربائية، ومن هنا كانت نشأة الكومبيوتر،
58
فهل كان انهيار اليقين الرياضي مثمرا إلى كل هذا الحد؟! فقد تبدل وضعه تماما بعد نظرية كورت جودل في اللااكتمال.
لحق اليقين الرياضي بثوابت أخرى في الإبستمولوجيا العلمية، اهتزت أركانها أو تبدل وضعها بعد ثورتي الكوانتم والنسبية، والمحصلة أن إبستمولوجيا العلم - أي نظرية المعرفة العلمية - في القرن العشرين أصبحت مختلفة تماما عن إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي، وعلينا الآن أن نرسم ملامحها، كخلفية عامة لفلسفة العلم في القرن العشرين، من حيث هي خلفية عامة لمعدلات تقدم علمي غير مسبوقة.
رابعا: إبستمولوجيا العلم في القرن العشرين
اتضح الآن مدى خصوبة المنجزات العلمية التي ارتهنت بإشراقة القرن العشرين وتوالت قدما في الثلث الأول منه، فكانت حقبة فريدة في توهجها، وتعد من أخصب وأروع الحقب في تاريخ العلم وفي ملحمة العقل البشري بأسرها. لم تكن هذه المنجزات مجرد إضافات تتراكم فوق ما سبق، بل هي تقويض لدعائم ارتكز عليها العلم ثلاثة قرون أو يزيد، وشق لطريق جديد، فحق اعتبار ثورة الكوانتم والنسبية من أعظم الثورات التي أحرزها الإنسان وخطوة تقدمية جريئة وواسعة. ببساطة، بعدها لم يعد العلم الحديث «حديثا»! بل أصبح ينعت بمصطلح «العلم الكلاسيكي»، والحداثة الحقيقية أو ما بعد الحداثة إنما هي في القرن العشرين. الفيزياء الحديثة
Modern
الآن هي فيزياء القرن العشرين، فيزياء الكوانتم والنسبية ونواتجهما التي تلت.
لقد كشفت قصورا في تصورات الكلاسيكيين العينية لمفاهيم الكتلة والسرعة والأبعاد الثلاثة الثابتة والجامعة المانعة، وفي مطلب الدقة المتناهية في تحديد موضع وسرعة كل جسم والتنبؤ بتفاصيل حركته. على الإجمال اتضحت سذاجة تصورهم لعالم فيزيقي يمكن وصفه بدقة متناهية، إن لم يكن بواسطة علماء اليوم فعن طريق علماء الغد، وهو المشروع الذي طرحه فرنسيس بيكون منذ البداية. وكما يقول لويس دي بروي: «لقد ظنوا أن أية حركة أو تغير يجب تصويره بكميات محددة الموضع في المكان والتغير في مجرى الزمان، وأن هذه الكميات لا بد أن تيسر الوصف الكامل لحالة العالم الفيزيقي في كل لحظة، ويستكمل هذا الوصف تماما بواسطة معادلات تفاضلية أو مشتقات جزئية، تتيح لنا تتبع موقع الكميات التي تحدد حالته، ويا له من تصور رائع لبساطته! توطدت أركانه بالنجاح الذي لازمه لمدة طويلة.»
59
وبهذه البساطة ولذلك النجاح ساد الكلاسيكيين غرور علمي أهوج، فرأوا أن قوانين نيوتن ذات عمومية مطلقة، لا تفلت من بين يديها ولا من خلفها كبيرة ولا صغيرة، لا في الأرض ولا في السماء، بحيث إنها اكتشاف لحقيقة هذا الكون. فت في عضد هذا الغرور أزمة الفيزياء الكلاسيكية، ثم تلقى ضربة قاصمة من عالم الذرة والإشعاع، غير الخاضع لقوانين نيوتن، لكنه خضع لعملاق متناه في الصغر اسمه الكوانتم. حررتنا ميكانيكا الكوانتم من وهم التحديد الفردي اليقيني، واتخذت الإحصاء منهجا يفضي إلى النتائج الاحتمالية الرائعة التي يمكن أن نلمس جبروتها في كل شيء، بدءا من غزو الفضاء وقهر الأمراض الخبيثة وانتهاء بأدوات التسلية والترفيه، بغير الزعم بأن تنبؤاتها قضاء مبرم أو كشف عن القدر المحتوم. والرياضة محض الأداة عقلية خاوية نملؤها بالمضمون، مضمون المتوسطات التي لا تزعم عمومية مطلقة ولا تبحث عنها؛ هكذا كان نجاح الكوانتم الخفاق في العالم دون الذري «الميكروكوزم».
أما عن العمومية في النظرية الفيزيائية العامة للحركة، نظرية نيوتن ثم نظرية آينشتين، فإنه بينما تقتصر نظرية نيوتن على العالم الأكبر أو العالم العياني «الماكروكوزم» وتفشل في الاقتراب من الميكروكوزم، فإن النظرية النسبية تحكم العالمين معا «الماكروكوزم والميكروكوزم» بالقوانين نفسها وتخضعهما للمعادلات الرياضية نفسها، فكانت درجة أعلى من العمومية وأيضا من الدقة.
لقد شيدت النظرية النسبية عالمها الرباعي الأبعاد،
60
بمتصله الزماني/المكاني. إنه عالم أو بالأحرى تصور لعالم، محدب يختلف بل يتناقض مع عالمنا المستوي الواحد والوحيد المعهود في تجربة الحس المشترك، والذي ثبتته في أذهاننا خبرتنا العادية السطحية وحواسنا الفجة الغليظة، وجاءت نظرية نيوتن لتصدق على هذا العالم وعلى حدوده وتجعلها حدودا لها، فتكتسب بهذا يقينا فوق يقين! يقينا مطلقا، ثم علمتنا النسبية أنه لا شيء مطلق في عالم الإنسان، وليس ثمة تساؤل حول التصور الوحيد المطلق للزمان والمكان، فثمة إطار زماني/مكاني لملاحظي الأرض، وآخر لملاحظي الأفلاك السماوية، وآخر لملاحظي السدم، وبالمثل الطول والعرض وكل الأبعاد. لقد أحدثت النسبية تغييرا جذريا في أفكارنا حول المكان والزمان والجاذبية، وثورة في الكوزمولوجيا - أي نظرية تصور الكون - الكلاسيكية، فكان تأثيرها بالغ العمق في المبادئ الإبستمولوجية الراسخة في تجربة الحس المشترك، والتي كستها النيوتنية برداء الفيزياء الرياضية المهيب.
في عالم النسبية تدخل الذات العارفة - كمتغير في معادلة الطبيعة؛ لتحرز بهذا درجة أعلى من الموضوعية، أو بالأحرى درجة مباينة تماما، قامت على أنقاض موضوعية نيوتن المطلقة والموهومة، في خضم هذه الأطلال الدوارس أضحى التصور الميكانيكي للكون أثرا بعد عين، واستبينت تفاهة الواحدية المادية التي عززها. لم تعد المادة مجرد كتل تصطدم بها القدم حين تتعثر في الطريق، ولم يعد يجدينا البتة التفكير فيها على أنها شيء صلب جامد تشعر بها حاستنا اللمسية كمقاومة لها. كانت النظرة الميكانيكية تعتمد على هذا المفهوم للمادة، والآن يجب هجرانه نهائيا لكي نحقق الحد الأدنى من تفهم مغزى الفيزياء في القرن العشرين، حيث تحولت المادة إلى كيان أكثر شفافية من أي كيان تحدث عنه الروحانيون، إنها شعاع من مركز. وكما أشرنا، تبلورت الكوانتم والنسبية حول الشعاع وحلت أمواجه محل كتل المادة في الفيزياء الكلاسيكية.
هكذا نجد ثورة الكوانتم والنسبية التي تعززت بتطور الرياضيات، قد أقامت العلوم الإخبارية على أسس ومنطلقات مختلفة، قلبت رأسا على عقب عناصر إبستمولوجية راسخة كالحتمية والميكانيكية والعلية واطراد الطبيعة وثبوت ويقين قوانينها، والضرورة لكليهما - للطبيعة وقوانينها - والموضوعية المطلقة وكتل المادة المتحركة في مكان مستو من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل ... هذه المبادئ التي لم يكن أحد في المجتمع العلمي يجرؤ على رفضها فضلا عن قلبها، بحيث أصبح لدينا الآن حد فاصل بين إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي وإبستمولوجيا العلم في القرن العشرين.
وإذا كانت الأولى يعبر عنها مبدأ الحتمية الميكانيكية، فإن الثانية يمكن أن يعبر عنها النقيض تماما، أي مبدأ اللاحتمية
Indeterminism
الذي رفعته الكوانتم جهارا نهارا. أما النسبية فإنها في حد ذاتها لا تنفي الحتمية ولا تؤكدها، لكنها تكفلت بتقويض الإطار الأنطولوجي للحتمية - أي التصور الميكانيكي للكون - الذي سارت في أطره العلوم الحيوية والإنسانية أيضا، كما رأينا في الفصل الثاني.
كان العلم الكلاسيكي مراهقا يشق طريق النمو والنضج، وفي حاجة إلى راع وجده في مبدأ الحتمية، لكن المبدأ أدى دوره واستنفد مقتضياته وتكشفت قصوراته ووصل إلى طريق مسدود، أصبحت مسلماته لا يقبلها العقل العلمي، فوجب تجاوزه لاستيعاب المرحلة الأعلى من التقدم العلمي التي يمثلها القرن العشرون.
في العقود الأولى قوبل انهيار الحتمية الكونية بالتوجس والارتياب. تصور البعض أن هذا يجعل الفوضى تعم عالم العلم، وكان آينشتين نفسه من غير المحبذين للاحتمية، بتعبيره الشهير: الله لا يلعب النرد في الكون، فسمع كارل بوبر فيزيائيين شبانا لامعين يصفون آينشتين - وكان لا يزال يعمل بجد - بأنه في رفضه للاحتمية إنما يقف ضد الطوفان، وهذا، كما يقول دي بروي، نتيجة لعادات فكرية متأصلة؛ لأن الفيزيائيين الشبان - آنذاك - الذين تعودوا منذ بداية دراستهم على النظر إلى الأشياء بمنظار الفيزياء الجديدة كانوا لا يقابلون من الصعاب في التخلي عن مبدأ الحتمية قدر ما يقابل الأكبر سنا. أما اللورد آرثر إدنجتون فيؤكد أن صديقه آينشتين من أوائل الذين أدركوا اللاحتمية في الفيزياء الجديدة، ولم تكن الحتمية عنده إلا مسألة معتقدات شخصية،
61
ولا شك أن الحتمية تحظى بقبول سيكولوجي، تريح الإنسان حين تخبره أنه يعيش في عالم كل ما فيه ضروري، بيد أنها راحة قد أصبحت حراما في عالم العلم، فلا يبحث عنها العالم ولا يسترشد بهديها، ولا بد دوما من النقد والاختبار ومواصلة طريق التقدم.
ورب قائل: حتى يومنا هذا ربما يدافع عالم عن الحتمية! الواقع أنه يدافع عنها مثلما يدافع عن أي قضية تروقه، لكنها خرجت من إبستمولوجيا ولن تعد الفيزياء رهينة النظام الحتمي بحال. وبعد ثورة الكوانتم الثانية ومبدأ اللاتعين لهيزنرج انتقل الفيزيائيون من لا مبالاة تجاه الحتمية إلى جهود موجهة بتعمد من أجل الخلاص النهائي منها، فلم يعد الأمر عجزا عن إثبات صدقها، بل بالأحرى لقد اكتشفنا أنها استندت إلى مبررات كاذبة أو زائفة.
وتطور الأمر على مدار القرن العشرين، فأصبح لدينا الكومبيوتر، كل شهر كومبيوتر أفضل، وهذا الجهاز يمكنه أن يقوم بدور العقل الذي افترضه لابلاس في صياغته الشهيرة لمبدأ الحتمية، العقل الفائق الذي يستطيع التنبؤ بحالة الكون في أية لحظة إذا ما أعطي حالته الراهنة بكل تفاصيل شروطها المبدئية، ولكن من المستحيل أن تعين بدقة فائقة كل الشروط المبدئية المرادة، ولا يمكن التنبؤ بتفاصيل موضع وحركة كل جزيء في أي نظام مركب، في فقاعة من الهواء، ودع عنك الكون بأسره، فهنالك كثرة لا نهائية من المكونات ومن المتغيرات. واتضحت خاصة مميزة هي عنصر من عدم القابلية للتنبؤ في التطورات اللاحقة للنظام الفيزيائي. هذه الخاصة المميزة أو العنصر اللاتنبئي يسمى بالنسق الكايوسي
System Chaotic ، والأنساق الكايوسية كائنة في كل مكان من عالمنا الفيزيقي،
62
وتقدم الكايوس (= علم الشواش) وهو علم يبحث كيفية دراسة الآثار المتراتبة بعيدة المدى لتغير أولي يبدو بسيطا، يتراكم ويتضخم بفعل العلاقات المتبادلة بين كثرة لا نهائية من العوامل والمكونات في النظم المركبة. والمثال النمطي على هذا هو إمكان الربط بين فراشة ترفرف بجناحيها في الصين وعاصفة تهب في المحيط الهادي عن طريق تراكم وتضخم آثار هذه الرفرفة في نظام الطقس بمكوناته العدة. (الكايوس
Chaos
كلمة إغريقية تعني الفوضى والعماء)، وأصبح الكايوس أو علم الشواش في العقدين الأخيرين موضوعا مهما يتكاتف في بحثه فيزيائيون ورياضيون ومناطقة، فهل نتحدث بعد ذلك عن حتمية علمية؟!
وبخلاف النسق الكايوسي اللاتنبئي، علمتنا الكوانتم أن التنبؤات الناجحة ذاتها لا تعني حتمية شاملة، وأن الارتباط اللزومي بين حدث وآخر لا يعني أن ذلك الحدث، وكل الأحداث، محتومة سلفا، وكان الإحباط العنيد لكل الجهود التي تحاول إدخال عالم الذرة والإشعاع في قلب التصور الحتمي إيماءة قوية لضرورة تبديل هذا التصور الذي يهدف إلى مثال زائف، هو مثال الوصف الكامل للعالم، فقد اتضح أن العالم ليس البتة نظاما مغلقا كما تفترض الحتمية، ولا هو نظام ميكانيكي.
هكذا، بعد أن كانت العقول تتصور اللاحتمية بوصفها قرينة الجهل والظلام واللاعلمية تبدل وضعها وارتفع لواؤها في إبستمولوجيا القرن العشرين، نفيا للحتمية؛ لأن تكون كل الأحداث محددة سلفا بدقة مطلقة في كل تفاصيلها المتناهية في الكبر أو في الصغر. في المنظور اللاحتمي المنفتح، الأرحب والأكثر دهاء وعمقا، ثمة عوامل عدة تؤدي علاقاتها ببعضها إلى احتمالات عدة ممكنة، لم يعد حدوث الحدث ضروريا، ولا سواه مستحيلا يهدم العلم والعالم، العالم اللاحتمي يستوعب الأنساق الكايوسية ويظل منتظما ومعقولا، تخضع وقائعه للقوانين العلمية، لكن في إطار تعاقب الأحداث الاحتمالي وليس الحتمي. حل الترابط الإحصائي محل الترابط العلي الضروري، وأصبح التنبؤ العلمي أفضل الترجيحات بما سوف يحدث وليس كشفا عن القدر المحتوم، فانقطعت كل همزة وصل بين العلم والجبرية العتيقة، بعد أن تكفل في مراهقته الحتمية بمواصلة مسيرتها، إنه زيف اليقين الذي انكشف كما انكشف زيف المطلق، فاختفى المثل الأعلى للعالم العالم بالحقيقة المطلقة، حينما اختفى المثل الأعلى للعالم الذي يسير كما تدور الساعة المضبوطة.
كان البحث عن قوانين وعلاقات رياضية لا تتغير بالنسبة لجميع الراصدين، لجميع الذوات العارفة أيا كان الموضع والموقع، هو صميم مهمة العلم، حتى جاء آينشتين ليجعل موقع الراصد وسرعته معينات أساسية للطبيعة،
63
فكان دخول الذات العارفة كمتغير في معادلة الطبيعة واحدة من أخطر النتائج الإبستمولوجية للنظرية النسبية كما أشرنا. إن الراصدين الذين يلاحظون من كواكب مختلفة أو مجرات مختلفة يدرك كل منهم سماء مختلفة، ويتحكم تأثير السماء في ساعاتهم - بمعنى أجهزتهم للرصد - بحيث إن الوقت الذي يقرأه كل منهم يختلف في اللحظة الواحدة، وكل منهم يقدر مرور الزمن تبعا لسرعة مختلفة، فارتبطت الملاحظة بالملاحظ - بالذات العارفة - بموقع الملاحظ وحركته، قد يكون موقع الملاحظ بالنسبة لنا هو الأرض في كل الأحوال، لكن الملاحظ المرتبط بالأرض لا يستطيع أن يجري الأقيسة الفلكية نفسها التي يجريها الملاحظ المرتبط بكوكب آخر، والنسبية تدرس كيف تؤثر حركتا هذين الملاحظين النسبية في ملاحظاتهما،
64
ولم يتيسر هذا إلا بعد تقدم ملحوظ في الرياضيات ساعد على الترجمة المتبادلة للمظاهر التي تبدو لملاحظين مختلفين، وهي الترجمة التي تبلغ حدا عظيما من الصعوبة شاعت عن النظرية النسبية.
وكما رأينا، في هذا الإطار ظهر التآني، أي استحالة الحكم بأن حدثا وقع قبل أو بعد الآخر، فثمة أنظمة زمانية مختلفة، حتى إنه يمكن أن يكون الزمن قابلا للارتداد، للرجوع إلى الوراء. هكذا قوضت النسبية مفاهيم الاطراد والتسلسل الزماني المتعاقب، الضروري لمفهوم العلية ليجعل الحدث السابق علة واللاحق معلولا، بالإضافة إلى أن جاذبية نيوتن «التثاقل» التي تعد التمثيل العيني للعلية قد حل محلها تحدب الكون، لقد اهتزت العلية الكونية، واهتز تسلسل الأحداث العلي في اتجاه واحد من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل، وكل ما على العالم أن يلاحظها بموضوعية مطلقة وكأنه يراقبها من وراء ستار، فلا يتدخل إطلاقا، دوره سلبي لا يؤثر البتة في نتيجة استقراء الظاهرة: القانون العلمي الذي هو اكتشاف لحقيقة الظاهرة.
لقد أثيرت مشكلة الاستقراء حين كشفت التحليلات الفلسفية والمنطقية، منذ أيام هيوم، عن استحالة تبرير مبدأ العلية واطراد الطبيعة، وما أضافته ثورة الفيزياء الكبرى هو أنه ليس ثمة حاجة إليهما، إن الكوانتم جعلت الفيزيائي في القرن العشرين لا ينشغل بالعلية، بل بالقوانين الإحصائية، يحصر همه في الارتباطات والعلاقات والتأثيرات والتفسيرات، وليس التعليلات، يعمل بالآلات الدقيقة في معمله ليكشف قوانين انتظام الطبيعة، ولا يعوزه البتة مفهوم الاطراد الحتمي؛ لأنه يعلم جيدا حدود الدقة المتاحة ويدرك صعوبة أن يجعل الظاهرة تكرر نفسها تماما، إلا داخل حدود من اللاتعين - بعد أن لفت هيزنبرج الأنظار إلى تأثير الأجهزة المعملية في الظواهر المرصودة - فلا يبحث عن اطراد الطبيعة، ويكفيه انتظامها القائم على أساس إحصائي لا علي ليبحث عن احتمالية الظاهرة - أي ترددها بنسبة مئوية معينة مستمدة من ترددات لوحظت في الماضي - ويفترض أنها سوف تسري تقريبا في المستقبل.
هكذا تبرأت الإبستمولوجيا العلمية من مبدأ العلية الكونية واطراد الطبيعة ودورانهما المنطقي الشهير. ربما ظل مبدأ العلية هاديا للعقل حين التفكير في هذه الزاوية أو تلك، لكنه بالتأكيد لم يعد أساس الإبستمولوجيا العلمية كما كان في الفيزياء الكلاسيكية، خصوصا بعد دخول المصادفة في بنية الطبيعة. لقد ارتدت المصادفة ثوبا قشيبا، وتخلصت من أدران جائرة لحقت بها في عصور يقين العلم الحتمي الذي كان يفسر المصادفة والاحتمال تفسيرا ذاتيا، أي كان يرجعه إلى جهل الذات العارفة وعجزها عن الإحاطة بعلل الظاهرة. علمتنا الميكانيا الموجية ومعادلات إيرفين شرودنجر أن المصادفة والاحتمال تفسيران لصميم طبيعة الظاهرة موضوع الدراسة، لقد أصبح الاحتمال موضوعيا.
والمحصلة أن تبخر اليقين من عالم العلم، حتى شاع القول الدارج: إن العلماء ليسوا على يقين من أي شيء، ويكفي أن العوام على يقين من كل شيء. وتبقى أبرز معالم إبستمولوجيا القرن العشرين أنها انتهت إلى أن أي قضية إخبارية، بما هي إخبارية، تظل احتمالية، اليقين فقط في القضايا التحليلية الفارغة من أي مضمون، كقضايا المنطق والرياضيات، وحتى اليقين الرياضي اتضح أن أمره ليس بسيطا ومحسوما كما كان يظن، ولكن نتفق على أن صياغة القوانين العلمية في لغة رياضية لن تعني حتمية أو لا حتمية؛ لأن الرياضيات في حد ذاتها محايدة، محض رموز نعبر بها عن أي مرموز إليه، ونملؤها بالمضمون التطبيقي، سواء افترضناه حتميا أو لا حتميا.
ومع تقدم فيزياء القرن العشرين المتوالي في طريقها اللاميكانيكي اللاعلي الإحصائي الاحتمالي، امتدت اللاحتمية إلى فروع العلم الأخرى. وإذا كانت نظرية دارون قد جلبت ظاهرة الحياة تحت مظلة الحتمية، فإن البيولوجيا في القرن العشرين قد انتهت إلى خطأ افتراض دارون القائل: إن الصفات المكتسبة تنتقل وراثيا. وعن طريق الاسترشاد باللاحتمية أمكن تفسير التغيير الوراثي تفسيرا مبنيا على الإثبات التجريبي للتحولات - أي للتغيرات في المادة الوراثية وأنها تتم بفعل أسباب عشوائية - فيترك الأمر لقوانين الاحتمال التي تؤدي بمضي الوقت وببطء إلى أشكال من الحياة نزداد علوا بالتدريج. ومن ناحية أخرى، تقدم العالم البريطاني جبرييل دوفر
G. Dover
من جامعة كمبردج في الثمانينيات بفرض يطرح مبدأ الصدفة التي تحكم الطفرات الوراثية.
تمسك كلود برنار في القرن التاسع عشر بمبدأ الحتمية لكي تلتحم العلوم البيولوجية بالعلوم الفيزيوكيمائية، ومن أجل هذا الالتحام في القرن العشرين تقدم البيولوجي الفرنسي مونو (1910-1976م) الحاصل على جائزة نوبل بنظرة لا حتمية تستوعب أبعاد الكوانتم والنسبية ومحصلات ثورتيهما، ويخرج منها بأن العالم الحي لم يظهر البتة بصورة ميكانيكية، بل هو ظاهرة فريدة ولا تنبئية، لكن يمكن تماما تفسيرها على أساس الإبستمولوجيا العلمية اللاحتمية، وقبل أن يثبت خصوبة هذا الفرض ينبهنا إلى قسوة اللاحتمية البيولوجية؛ لأننا نريد لوجودنا أن يكون ضروريا وحتميا ومرادا منذ أول الخلق. والعلم البيولوجي الحتمي استمرار لجهد البشرية الدائب والبطولي في سبيل قلب احتمال وجودها إلى ضرورة.
65
إن خصائص الكائنات الحية لا تنتهك طبعا القوانين الفيزيوكيمائية، لكنها غير قابلة للاستنتاج منها أو الرد إليها كما رأى الكلاسيكيون. ثمة عنصر لا حتمي كايوسي في بنى الكائنات الحية. لقد انهارت الحتمية الميكانيكية في المادة الجامدة التي اتضح أنها أكثر دهاء وتعقيدا، فما بالنا بالمادة الحية؟! الحق أن مبدأ اللاحتمية بترابطاته الإحصائية يفرض نفسه على البيولوجيا أكثر من أي علم آخر.
أما في العلوم الإنسانية فقد وصل المد اللاحتمي إلى حد ثورة مناظرة لثورة الفيزياء - وإن تأخرت عنها نصف قرن وأتت في أواسط الخمسينيات - نتيجة لتطور العلوم الإحصائية، ولكي تنشئ نوعا جديدا من المرونة الفكرية وامتدادا لاستراتيجيات بحث الظواهر النفسية. إنه علم النفس المعرفي
Cognitive Psychology
الذي يدرس الاختيار والحرية والإرادة، وهي ظواهر أسرف علم النفس التحليلي والسلوكي على السواء في إلغائها انسياقا وراء الحتمية العلمية الشاملة . أما علم النفس المعرفي فهو طريق ثالث، لكن يستوعب إيجابيات السلوكية بإمبيريقياتها الفعالة في إجراء وضبط التجارب والقياسات والاختبارات السيكوميترية والجداول الإحصائية، ثم يتجاوز قصوراتها وتسطيحها للظاهرة النفسية؛ ليصوب الانتباه على الطريقة التي يفكر بها الناس وعلى معرفتهم وتصوراتهم كمحددات أساسية للشعور والفعل والسلوك، وهذا ما أغفلته السلوكية امتثالا للإبستمولوجيا الكلاسيكية الميكانيكية. إن الناس يختارون الكثير من معارفهم ومداركهم. نحن لا نشاهد كل وقائع الرؤية ولا نسمع كل وقائع الصوت، الانتباه انتقائي إلى حد كبير مما يجعل وقائع معينة دون غيرها تدخل حيز الإدراك، وليس من الضروري أن تكون هي الأقوى في إثارتها للأعصاب الحسية، فالبرنامج المعرفي للشخص أقوى في توجيه الانتقاء في الانتباه. اللغة أيضا تخضع لهذا الاختيار الانتقائي في اكتسابها وفي استخدامها، وبفضل الجهود الدءوبة لرواد - نخص منهم بالذكر أولريك نايسر وجيروم برونر وريتشارد لازاروس - تبلور علم النفس المعرفي خلال الستينيات وشق طريقه الواعد مستفيدا من إيجابيات للعلم في القرن العشرين، وأيضا تقاناته، خصوصا نظريات الذكاء الاصطناعي وأنظمة الكومبيوتر كمناظرة تخطيطية لفهم أنظمة الذكاء الطبيعي أو العقل الإنساني في حل المشكلات.
وأيضا لم يعد علم الاجتماع في القرن العشرين أسيرا للحتمية الميكانيكية التي حكمت منظور أوجست كونت الوضعي في القرن التاسع عشر ظهرت مدارس عدة تستوعبها وتتجاوزها، وتبدي مزيدا من الفعالية والكفاءة في دراسة الظواهر الاجتماعية ودراسة العنصر الكايوسي فيها. ولم يدحض الواقع قضية مثلما دحض الزعم الفاسد بحتمية التاريخ. والواقع أن الحتمية التاريخية في أصلها - كما أوضح كارل بوبر - حيلة أيديولوجية للصهيونية: حتمية تحقق وعد الله وعودة شعب الله المختار إلى أرض الميعاد، وأصبحت هكذا للشيوعية والنازية والفاشية، تخلى عنها جمهرة المؤرخين في القرن العشرين الباحثين عن منظور علمي للتاريخ، لدرجة أن المؤرخين الألمانيين إدوارد ماير وماكس فيبر قاما بدراسة جادة للاحتمال الموضوعي في التاريخ، أي تصور ما كان يمكن أن يحدث في الماضي، وهذا تصور علمي يعين على فهم أعمق للحاضر.
66
إن هناك نهاية مفتوحة للتاريخ تفرض دائما نظرة لا حتمية.
ولا يذكر التاريخ من دون الجغرافيا، وهي علم علاقة الإنسان ببيئته، النظرة الحتمية التي تدين للإبستمولوجيا الكلاسيكية ترى المسألة نتاجا آليا للعوامل البيئية، أما النظرة اللاحتمية في القرن العشرين فتنطلق من أن العامل البشري أكثر حسما. مراكز الصناعة مثلا لا تعتمد على العوامل البيئية قدر اعتمادها على العوامل البشرية، وهناك بيئات متشابهة طبيعيا لكنها مختلفة بشريا، مثلا يختلف سكان خط الاستواء في إفريقيا عنهم في جزر جنوب آسيا. وظهرت لا حتمية صريحة في جغرافيا القرن العشرين صاغتها بقوة «مدرسة الإمكانات
»، وهذا مصطلح قدمه لوسيان فيفر
L. Febvre
في كتابه «مقدمة جغرافية للتاريخ» تعبيرا عن الاتجاه الذي أسسه أستاذهفيدال دو لابلاش
V. D. La Blache (1845-1918م) مؤكدا على تحالف الإنسان مع عوامل البيئة، وكان تلميذه فيفر متطرفا في تأكيده على دور الإنسان. مدرسة الإمكانات بجملتها تنطلق من أنه لا توجد في الطبيعة ضرورات أو حتميات، بل توجد إمكانات تنتظر فعالية الإنسان. ولما كانت الجغرافيا علما إنسانيا اتضح لماذا تكون اللاحتمية هي الأنسب لها. وقد بلغت اللاحتمية في الجغرافيا ذروتها بنشأة علم «الجغرافيا الإرادية»، وهي مبحث مستقبلي يقوم على معلومات تتقاطع فيها تحليلات الاجتماع والاقتصاد والسياسة لتكتمل معطيات المواجهة بين الإنسان والبيئة، وتوضع بين أيدي فريق عمل مزود بأدوات تمكنه من التنبؤ بوجوه التطور ونتائجه، ويسهم في إمداد اختيارات واسعة لمصلحة الحريات الجديدة، حرية العمل وحرية الراحة وحرية شغل أوقات الفراغ.
67
إن المنظور اللاحتمي عم فروع العلوم الإنسانية هي الأخرى، وساد مجمل عالم العلم في القرن العشرين، إيذانا بالتقدم المتسارع وأفقه المفتوح في هذا القرن المتوهج.
هكذا لم يكن الانقلاب الإبستمولوجي في القرن العشرين عميقا فحسب، بل أيضا شاملا بقدر ما كان مثمرا. على أن انهيار الأسس الإبستمولوجية التي ارتكن إليها العلم الكلاسيكي وتأكد نجاحها يوما بعد يوم، قد خلق أزمة أضنت العلماء في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين قبل أن تنحسم الأمور. هكذا عادت التساؤلات الفلسفية تلح من جديد في الأفق العلمي، وهذا بدوره بعث قوة دافقة في أعطاف فلسفة العلم، جعلتها أبرز فروع الفلسفة في القرن العشرين. قبيل نشأة فلسفة العلم ساد الاعتقاد بأن الانفصال أصبح نهائيا بين التفكير الفلسفي والتفكير العلمي، وحتى مشارف القرن العشرين نجد علماء أمثال دالتون ورذرفورد ومندليف يتصورون أن العالم عالم بقدر ما لا ينشغل البتة بأية تساؤلات فلسفية. ثم جاءت ثورة الفيزياء الكبرى لتطيح بالأسس التي كانت ثابتة، وتطرح منظورات جديدة لا تستغني عن المعالجات الفلسفية، وتجعل الإبستمولوجيا سؤالا ملحا. وشهد القرن العشرون مجددا فئة متميزة هي فئة العالم/الفيلسوف، مثل ألبرت آينشتين وإرنست ماخ وهنري بوانكاريه وفيرنر هيزنبرج وآرثر إدنجتون وموريتس شليك وجيمس جينز وآرثر هولي كومبتون ... إلخ. وفي كل حال لم تعد الإبستمولوجيا واضحة قاطعة كما كانت في العصر الكلاسيكي، بل هي كيان أكثر عمقا، ملبدا بالتساؤلات الفلسفية، فتظل الفلسفة دائما الأفق الضروري للعقل الإنساني في حركيته المتوثبة.
برزت الفيزياء كل فروع العلم في طرحها للتساؤلات الفلسفية وتأكيد الاحتياج إلى التحليلات المنطقية والميثودولوجية والإبستمولوجية؛ لأن الثورة كانت أساسا ثورة فيزيائية كما رأينا، وعلى عاتقي الكوانتم والنسبية تقع مسئولية الانقلاب الذي حدث في طبيعة التفكير العلمي ومنظور العقل العلمي ورؤاه، وأيضا التقدم المتسارع للعلم. وهذا الزحف التقدمي المظفر جعل القرن العشرين بحق عصر الفيزياء، وفضلا عن هذا تظل الفيزياء - بحكم عمومية موضوعها - ذات موقع استراتيجي في نسق العلم. كل هذه العوامل جعلت فلسفة العلم على مدار القرن العشرين مرتهنة بالفيزياء وتدور في مدارها وبين رحاها، وتستكشف دائما أبعادا أرحب وأكثر خصوبة ودفعا للتقدم في الإبستمولوجيا الجديدة.
ربما لم يعد العلم الآن - بعد أن انتهى القرن العشرون - متصورا بوصفه نسقا راسخ المعالم كما كان، وأصبحت تسود العلوم علاقات بينية وتخصصات متداخلة ومتقاطعة ومزدوجة، يصعب معها الإجماع على موقع معين بوصفه الموقع الاستراتيجي. وشهدت نهايات القرن العشرين دعاوى تزعم أن عصر الفيزياء قد انتهى، وانبثق عصر البيولوجيا بخطاه التقدمية المتسارعة وقفزاته التي تزلزل ثوابت في العلم وفي الحياة على السواء، وأن البيولوجيا أكثر تعقيدا، يمكن أن تحتوي الفيزياء داخلها باعتبار الفيزياء حالة خاصة أبسط، فيرتد البسيط إلى المعقد في مقابل إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي التي ترد المعقد إلى البسيط. ولكن سواء أصبحنا في عصر البيولوجيا أو عصر الهندسة الوراثية أو عصر الحاسب الآلي «الكومبيوتر» والمعلوماتية أو عصر الاتصالات ... فإن هذه المنجزات وسواها إنما هي من الثمار اليانعة والقطوف الدانية لثورة الفيزياء الكبرى، ولولا تملك ناصية الإلكترون بفضل الكوانتم لما تطورت فيزياء الموصلات التي حولت ماكينة تورينج النظرية البحتة إلى هذا العملاق المائل: الكومبيوتر، ولولاه لما استطاع العقل البشري أن يتعامل مع عشرات الآلاف من المورثات وأن يشيد عصر الهندسة الوراثية ومشروع الجينوم البشري. بصفة عامة «تقف أشباه الموصلات وراء تكنولوجيا القرن العشرين في تصنيع الإلكترونيات الدقيقة والدوائر المتكاملة التي تحتوي على عدد كبير من الترانزستورات والثنائيات الكهربية والمكثفات والملفات وسواها، مما ساهم في تطوير الصناعات الإلكترونية المسموعة والمرئية والأقمار الصناعية».
68
هكذا تقف ثورة الفيزياء الكبرى وراء تطورات العلم والتقانة «التكنولوجيا» والحضارة الإنسانية على مشارف القرن الحادي والعشرين، وبالتالي - ومن باب أولى - وراء تطورات فلسفة العلم المتوقعة فيه، فإذا شهدت فلسفة العلم منحى مغايرا يعني علاقة أوهى بالفيزياء واتخاذ محاور سواها، فلن يعدو هذا أن يكون امتدادا للازدهار والتوقد الذي بثته ثورة الفيزياء في فلسفة العلم على مدار القرن العشرين.
ولكي نصل في النهاية إلى هذه الآفاق المستقبلية المستشرفة، آن الأوان لوقفة منهجية عن كثب أكثر إزاء التيارات الكبرى لفلسفة العلم في القرن العشرين، وقد انبثقت انطلاقتها اللافتة حين تسلحت الفلسفة التجريبية بالكيان المهيب الذي صادفنا حين الاقتراب من ثورة الرياضيات، ألا وهو المنطق الرياضي أو المنطق الرمزي.
إن التجريبية - معقل فلسفة العلم - قد أصبحت منطقية.
كيف حدث هذا؟ وإلام تأدى؟
الفصل الخامس
التجريبية أصبحت منطقية
أولا: المد التجريبي في فلسفة القرن العشرين
مثلما كان عام 1900م الذي شهد نشأة فرض الكوانتم حاسما بالنسبة للعلم، والقرن العشرون في إثره مرحلة علمية شديدة التميز والتوهج، كان هذا العام حاسما، وأكثر حسما بالنسبة للفلسفة، والقرن العشرون أيضا مرحلة فلسفية شديدة التميز والتوهج. ومن الطبيعي أن تستقطب فلسفة العلم التميز والتوهج من كلا الجانبين، فتغدو أبرز فروع الفلسفة في القرن العشرين والمعبر الفلسفي الأول عن روحه العامة وطبيعة المد العقلي فيه.
ويأتي الحسم من أن الفلسفة بأسرها تنقسم بصفة مبدئية إلى تياري المادية التجريبية والمثالية العقلية. وقد شهد العام 1900م صدور أعمال فلسفية رائدة وتكاثفا لمد فلسفي سوف يتنامى ليزيح المثالية لحساب التيار التجريبي، ويغدو تقلص نفوذ المثالية الميتافيزيقية الخالصة من المعالم المميزة لفلسفة القرن العشرين. ويمثل تطور مد التجريبية وعلو شأنها - كما وكيفا - أهم عناصر الالتقاء بين الفلسفة والعلم.
كما لاحظنا مما سبق، كانت التجريبية دائما تمثيلا عاما لروح العلم. والتجريبية المتطورة المتبصرة في القرن العشرين أكثر تمثيلا لروح العلم. وهناك مبررات قوية لاعتبار فلسفة العلم فلسفة تجريبية، من حيث هي فلسفة للعلوم الإخبارية، الفيزيوكيماوية والحيوية والعلوم الإنسانية التي تحذو هذا الحذو وتضطلع بالإخبار عن الواقع التجريبي. وأقوى مواطن تميز ونجاح العلم الحديث دخول الرياضيات التطبيقية في صلبه، كلغة للإخبار عن الواقع وأداة للاستنباط الدقيق الولود. أما المشاكل الفلسفية للرياضيات البحتة وأصولها فهي أكثر ارتباطا بالمنطق منها بفلسفة العلم. وقد رأينا كيف تطور مفهوم المادة ودور التجربة في فيزياء القرن العشرين، وحتى السبعينيات منه كان الأمر محسوما لصالح الفيزياء بوصفها أنجح وأقوى ضروب المعرفة التي امتلكها الإنسان، وبات ينظر إلى علماء الفيزياء على أنهم في عتاد الأمن القومي. ولئن شهد العقدان الأخيران رجحان كفة علوم الحاسب الآلي والمعلومات، فإن الفيزياء تظل طرازا معرفيا رفيعا ومرتبة عالية ارتقى إليها العقل الإنساني، وارتقى تصوره للتجريبية إلى درجة تمثل قطعا معرفيا عن ما سبق، واتضح في ضوئها الصورة الحقيقية الخلاقة للتكامل والتآزر بين العقل والحواس، أو الفرض والملاحظة، فاكتسبت السمة العلمية والتجريبية قوة توجيهية كبيرة للفكر الفلسفي في القرن العشرين. وبجانب فلسفة العلم التي غدت أبرز فروع الفلسفة، أصبحت معظم التيارات الكبرى في فلسفة القرن العشرين توصف بأنها «فلسفات علمية» مما يعكس المد الكبير للتجريبية. فلسفة العلم موضوعها ظاهرة العلم الحديث، أما الفلسفة العلمية فتبحث الموضوعات الأخرى التقليدية للفلسفة، لكن بأسلوب جديد يقتبس روح العلم وطابعه، خصوصا كما يتمثل أساسا في تجريبية القرن العشرين المتطورة بأبعادها الجديدة. أجل، موضوعنا هو فلسفة العلم وليس الفلسفة العلمية، بيد أن التجريبية نقطة التقاء وأرضية مشتركة؛ لذلك سنحاول الآن رسم تخطيط عام لهذه الأراضي، أي نتتبع مد التجريبية، مما يساهم في اكتمال أطر الصورة العامة لفلسفة العلم ، وتبرير موقعها الريادي في فلسفة القرن العشرين.
في مقال لبرتراند رسل بعنوان «فلسفة القرن العشرين» بكتابه «مقالات شكية 1928م» يقول إنه في عام 1900م بدأت الثورة على المثالية الألمانية بعملاقيها كانط وهيجل، والتي مثلت قوة طاغية إبان القرن التاسع عشر، موازية لفلسفة العلم وللفلسفة العلمية ومحتلة لأراض على حسابهما.
لقد رأينا التجريبية العلمية العتيدة للفلسفة الإنجليزية، منذ فرنسيس بيكون ثم جون لوك وباركلي وديفيد هيوم وصولا إلى جون ستيوارت مل، ومع هذا لم تنج هي الأخرى من مد المثالية الألمانية. وفي بدايات القرن التاسع عشر انضم الشعراء والكتاب الرومانتيكيون في إنجلترا إلى زملائهم في القارة الأوروبية، واستقطبوا اتجاهات مثالية فرارا من عقلانية التنوير المفرطة وتعملق العلم الذي كان حتميا ميكانيكيا. وظهرت المثالية الألمانية في أشعار شيلي ووردزورث وكتابات توماس كارليل، واكتسبت ثقلا مع الشاعر الكبير كولريدج
S. T. Colerid (1772-1834م) الذي درس فلسفة كانط بتفاصيلها. ومع هذا كانت غزوة ضعيفة؛ لأنها تمت على أيدي هؤلاء الرومانتيكيين من الكتاب والشعراء، وجميعهم غير متخصصين في الفكر الفلسفي ولا محترفين إياه؛ لذلك سهل اندحارها على يد جون ستيوارت مل، وقد رأيناه يناصب المثالية الألمانية العداء. لكن هبت على الأراضي الإنجليزية غزوة مثالية ثانية في الثلث الأخير من القرن، افتتحها ستيرلنج
J. H. Stirling
بكتابه «سر هيجل 1865م»، حيث أوضح كيف أن هدف هيجل أو سره هو إحياء الإيمان بالله وخلود الروح وحرية الإرادة، فانتشرت المثالية مجددا في أعطاف الفلسفة الإنجليزية، من أجل إحياء تلك القيم التي هددها تقدم العقل العلمي، وتبدى ذلك في كتابات جمع من الفلاسفة الإنجليز أهمهم فرنسيس برادلي
F. H. Bradley (1846-1924م) وجون ماكتاجارت
J. E. Mctaggart (1866-1925م) وقرناء لهم من فلاسفة كمبردج العظام ذوي الثقل، ليبرزوا قوة المد المثالي آنذاك. في كتابيه «المظهر والحقيقة 1893م»، وأيضا «أصول المنطق 1883م» يعرض فرنسيس برادلي للمذهب الواحدي الذي يرى العالم ككل واحديا محكوما بعلاقات داخلية ولا أجزاء له ولا تعدد فيه، فيما يمكن اعتباره من أقوى عروض المثالية المتطرفة التي تنكر أية جدوى أو دور للتجريبية، وفي تاريخ الفلسفة بصفة عامة.
أما في فرنسا فالذي ينبغي أن يستوقفنا في تلك الحقبة هو تيار «نقد العلم» الذي يحاول تقليص نفوذ التجريبية وتقليم أظافرها، مستعينا في هذا بفلسفة كانط، يؤكد فلاسفته أنهم وضعيون. فقد نشأ هذا التيار النقدي موازيا للوضعية العلمية مع أوجست كونت وأشياعه، كرد فعل لها، لا يرفضها ولا يناصبها العداء كما تفعل الرومانتيكية، وإنما يحاول تحقيق شيء من التوازن معها عن طريق إبراز مشروعية المعرفة العلمية التجريبية كمعرفة وضعية بالعالم التجريبي، ثم الرفض البات لأن يتجاوز العلم الحدود المعرفية «الإبستمولوجية»، فلا ترتع حتميته في العالم الأنطولوجي لتهدد حرية الإنسان؛ لذلك غلب على أقطاب حركة «نقد العلم» الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أنهم يتبارون في محاصرة الحتمية العلمية داخل القوقعة الإبستمولوجية، أو دحضها ورفضها إجمالا؛ دفاعا عن الحرية الإنسانية والتصور الإنساني للعالم؛ لذلك يسمون بفلاسفة الحرية، هدفهم الأساسي إثباتها؛ وذلك عن طريق البدء منها، من الحرية كفكرة ... كشعور معطى ... كواقعة أولية للأنا ... كنشاط روحي مستور. باختصار الحرية واقع أولي معاش سابق على العلم وخارج عن إطاره، فلا تستطيع حتميته التي كانت أن تلغي تلك الحقيقة الماثلة: الحرية الإنسانية.
من هذا المنطلق كان تيار «نقد العلم» الذي يمثل استجابة قوية لفلسفة كانط، ويزعم أصحابه أن أساس فلسفتهم هو الوضعية، أو نوع متبصر من الوضعية. وينقسم هذا التيار إلى فرعين هما: الوضعية الميتافيزيقية أو الروحية، والوضعية النقدية.
الفرع الأول، الوضعية الميتافيزيقية أو الروحية، يجمع بين تأثير كانط وتأثير مين دي بيران
Main De Biran (1766-1824م) الذي رأى أن الواقع الأولي السابق على كل شيء هو الحياة الروحية الباطنية، والعلامة المميزة للحياة الإنسانية هي الشعور، والواقعة الأولية للشعور هي الأنا بوصفها العلة والقوة والفعل. ها هنا - كما يرى دي بيران - نجد معاني أولية هي أصول الفكر وأصول العلم على السواء من قبيل الوجود والجوهر والوحدة والهوية والقوة والعلة، وأهمها معنى الحرية كما يتجلى في معارضة الإرادة للنزوع. إن هذا الفرع يريد استيعاب الوضعية في إطار الروحية الميتافيزيقية. وقد رأينا نسق العلم يبدأ من المادة؛ لأنها المفهوم البسيط ويتدرج منها إلى الأكثر تعقيدا، إلى الحياة. أما هذا الفرع فيريد العكس، البدء من المعقد ليصل إلى البسيط؛ لأن المعقد يحتوي البسيط، فيبدأ من الروح والوجدان ليصل إلى الحياة وأخيرا المادة، ويرون المادة قاصرة غير قادرة على الاستقلال أو الاستمرار بدون الروح.
ومن أقطاب هذا الفرع جول لاشيليه
J. Lachelier ، وكانت رسالته للدكتوراه عام 1871م «في أساس الاستقراء»، حيث يخرج من مشكلة الاستقراء - غير القابلة للحل - بأن التجريبية لا تكفي، إنها تعين العلل الفاعلة الخاضعة للحتمية، ولا بد أن نضيف إليها العلل الغائية التي هي مجال الحرية الإنسانية. على أن أهم رجال الوضعية الروحية هو إميل بوترو
E. Boutroux (1845-1921م) الذي يقف في صفوف فلاسفة العلم، يحاول الإطاحة بالحتمية منذ رسالته للدكتوراه عام 1874م في «إمكان قوانين الطبيعة» حتى بحثه الهام «القانون الطبيعي في الفلسفة المعاصرة 1895م». يهدف بوترو إلى إثبات أن الضرورة العقلية لا تتحقق في الأشياء كما يزعم الحتميون الميكانيكيون، وأن قوانين العلم مجرد مناهج للملاءمة بين الأشياء وبين عقولنا، إنها تعبر عن طريقتنا في النظر إلى الأشياء. بعبارة أخرى، قوانين العلم كيانات إبستمولوجية، أي معرفية فقط ولا شأن لها بالأنطولوجيا، بالوجود، بالواقع المعاش. إن رؤية إميل بوترو لطبيعة القوانين العلمية هي ما سوف ينمو ويتطور في شكل المذهب الأداتي في فلسفة العلم. لكن مع هذا - وبفعل تأثير المثالية الألمانية - يعد بوترو فيلسوفا مثاليا، كسائر رفاقه الوضعيين الروحيين.
الفرع الثاني لتيار نقد العلم هو الوضعية النقدية، وهو أقوى تأثيرا وأوسع انتشارا وأكثر خلوصا للمؤثرات الكانطية. الفلسفة النقدية هي فلسفة كانط، هي محاولة سبر وتعيين إمكانيات وحدود المعرفة الإنسانية. واللافت حقا أن معظم رجال هذا الفرع من كبار علماء الرياضيات، في مقدمتهم أوجست كورنو
A. Cournuot (1801-1877م) وهو من آباء حساب الاحتمال وأول من صاغ نظرية موضوعية للمصادفة، أي تحسب احتماليات حدوث عدة بدائل لواقعة من وقائع الطبيعة، فلا تعود الاحتمالية ذاتية، أي تعتمد على الذات العارفة وتطورات علمها وانحسار جهلها. وعلى هذا انتهى كورنو إلى أن اللاحتمية البادية لا ينبغي تفسيرها تفسيرا ذاتيا، أي بوصفها حتمية مجهولة، بل العكس هو الصحيح، والحتمية البادية هي التي ينبغي أن تفسر تفسيرا ذاتيا. وكان كورنو يحرص دائما على تأكيد أن العلم بدون فلسفة أعمى، كما أن الفلسفة بدون علم جوفاء. أما العالم الرياضي شارل رينوفييه
C. Renouvier (1815-1903م) فهو واحد من أهم فلاسفة الحرية في الفلسفة بصفة عامة. لم يشهد رينوفييه التحليل الحقيقي والتحليل المركب والتحليل الدالي وسواها من فروع الرياضيات البحتة التي تطورت في القرن العشرين لتحكم تعامل العقل مع اللامتناهي. وفي حدود رياضيات القرن التاسع عشر حاول إثبات أن اللامتناهي الرياضي ممتنع، وأقام فلسفته على أساس التناهي والنسباوية والحرية.
إن فلاسفة هذا الفرع يسمون أنفسهم أصحاب النقدية المثالية المحدثة، هم نقديون مثاليون إبستمولوجيون مثل كانط، فيؤكدون مثله على الدور الإيجابي للعقل بالنسبة للحواس، وحجتهم في هذا أنه لا علم بغير فرض، ثم يفترقون عن كانط في حداثتهم، أي في تأكيدهم على حساب الاحتمال الذي يعني أن العلم لا يصل أبدا إلى المطلق، يأخذون باللاحتمية في الطبيعة ويرفضون اعتراف كانط بالحتمية الشاملة لعالم الظواهر حتى إنه نفى الحرية من عالم الظواهر «الفينومينا» إلى عالم النومينا «الشيء في ذاته» المفارق. لكنهم على أية حال يفخرون بانتسابهم إلى مثالية كانط وسيرهم على منواله.
إن تيار نقد العلم بفرعيه، خصوصا الفرع الوضعي النقدي الأكثر علمية والأكثر كانطية، يوضح كيف كان تأثير المثالية الألمانية - الكانطية خصوصا - قويا ومترامي الآفاق قبيل مجيء القرن العشرين توا، حتى إنها اقتحمت ساحات للتفكير العلمي والتفكير في العلم، فتصبغها بصبغة مثالية.
وإذا كان هذا هو الوضع في إنجلترا وفرنسا، الأمتين اللتين اضطلعتا أكثر من سواهما بتأسيس فلسفة العلم وإنمائها وصقل المنهج العلمي والروح التجريبية، فلنا أن نتصور قوة نفوذ المثالية الألمانية في شتى مواطن الفلسفة الأوروبية.
حتى كان العام الحاسم 1900م لتبدأ الثورة على المثالية الألمانية من جهات شتى، كما أشار برتراند رسل.
في ألمانيا نفسها كان الانشقاق على المثالية، حين شهد ذلك العام صدور كتاب إدموند هوسرل
E. Husserl (1861-1938م) «بحوث منطقية» الذي يعنى عناية بالغة بتوصيف الزمان ، ويؤسس مذهب الفينومينولوجيا
، أو الفلسفة الظاهرية. ترى الفينومينولوجيا أن افتقاد العلم للأسس الإنسانية وأبعاد الوعي الإنساني بمثابة خطر داهم يهدد الحضارة. أما التخلف النسبي للعلوم الإنسانية فهو أزمة العلم الغربي بجملته، ويرجع إلى تبنيها الأعمى لمسلمات ومناهج العلوم الطبيعية على الرغم من الاختلاف النوعي للظواهر الإنسانية عن الظواهر الطبيعية بكل ما تفتقده. وعلى هذا تعمل الفينومينولوجيا على أن تشق طريقا جديدا مختلفا للعلوم الإنسانية يقيلها من عثرتها ويحقق تقدمها المأمول، ويبطل ردها إلى العلوم الطبيعية أو اتباع طريقها.
إنه طريق يقوم على أساس أن التجربة الحية هي المدخل الوحيد للعلم. والمنهج الفينومينولوجي الذي نما وتطور خلال القرن العشرين، مع كثيرين نذكر منهم مرويس ميرلو بونتي
M. Merleau Ponty (1908-1961م)، يعني تركيزا خاصا على الظاهرة، أي ما يظهر أمام الوعي. إنه يبدأ من الواقعة الأولية المعطاة للوعي والمدركة حدسا، فنكون بإزاء «الإحالة» إلى الوعي و«قصدية» الوعي، أي إن الوعي يقصد الظاهرة المعنية فيتوجه إليها، إلى شيء آخر سوى ذاته. بالقصدية والإحالة المتبادلة بين الوعي وموضوعه تنهار القسمة المصطنعة بين الذات والموضوع التي ورثناها عن الفلسفة التقليدية والتقابل الشهير فيها بين المثالية والمادية. بالمنهج الفينومينولوجي لا يبقى إلا التجارب الشعورية الحية التي تحمل الطابع الخاص لما هو إنساني. إنها معطيات واقعية، فتظهر الحقيقة بوصفها تيارا من الخبرات، الخبرات باعتبارها أفعالا خاصة بالوعي، ومن حيث هي بنيات وتراكيب وليست مجرد تجارب شخصية. لا بد إذن من وصف المضامين الخالصة لما هو حاضر في الوعي، في الخبرة أو الشعور، وتأويل الظواهر بحيث تعرض نفسها للتحليل في شكل خالص لتكشف لنا عن الأشياء نفسها، عن الماهيات. ومن ثم يقوم المنهج الفينومينولوجي على تعليق الظاهرة في حد ذاتها أو وضعها بين قوسين، ثم إعادة بنائها عن طريق تحليلها كما هي معطاة للوعي، أي من حيث هي خبرة شعورية مندرجة في تيار الزمان.
تطورت الفينومينولوجيا وكان لها حضور قوي في فلسفة القرن العشرين، خصوصا في مجال الهيرمنيوطيقا
Hermeneutics
أو فلسفة التفسير والتأويل، ولا سيما تأويل النصوص. فما دامت الفينومينولوجيا تعنى بتحليل الظواهر من حيث هي تجارب معاشة، لإدراك معانيها المستقلة «ماهياتها» فلا غرو أن يدخل النص في صميم موضوعها، فهو ظاهرة حية في وعي الكاتب وفي وعي القارئ، مهمة الكاتب تنتهي بخروج النص، أما القراءة والتأويل فمهمة مستمرة وإمكانية مفتوحة دوما لفهم جديد ... لتأويل. من هنا تحولت فينومينولوجيا أو ظاهريات النصوص إلى علم مستقل هو الهيرمنيوطيقا، يستفيد من علوم إنسانية عديدها ويفيدها، وعلى اتصال وثيق بنظرية المعرفة. وبفضل هانزجيورج جادامر
H. G. Gadamer
وكتابه الرائد «الحقيقة والمنهج 1960م» استوت الهيرمنيوطيقا علما له مدارسه، واتجاها واسعا مارس سيطرة كبيرة على الأجواء الثقافية ومدارس النقد الأدبي في الربع الأخير من القرن العشرين. إنه علم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص، أو ما رأينا الفينومينولوجيا تمارسه من إلغاء التباعد بين الذات والموضوع. وبالتالي فهم النص ليس كموضوع مفارق، بل في سياق إنتاجه وفي أفق المتلقي له أو القارئ، فتتعدد مدلولاته بتعدد آفاق المتلقين باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويبقى النص معينا لا ينضب وإمكانية متجددة دوما ... باختصار التعامل مع النص كظاهرة في تيار الشعور معطاة للوعي، هكذا نجد الهيرمنيوطيقا أقوى امتدادات الفلسفة الفينومينولوجية.
ولكن كان الهم الأساسي للفينومينولوجيا - كما ذكرنا - هو العلوم الإنسانية وتقدمها. والواقع أنها لم تساهم كثيرا في هذا الصدد، وأسفرت عن مدارس محدودة التأثير في علم النفس وعلم الاجتماع، ولم تأبه بها المدارس الكبرى التي أحرزت حصادا علميا هائلا كالسلوكية المعدلة وعلم النفس المعرفي والوظيفية والسوسيومترية في علم الاجتماع والاقتصاد التحليلي ... إلخ. وحتى حين نشأ علم النفس الفينومينولوجي ظل أقرب إلى الفلسفة منه إلى العلم السيكولوجي، وأيضا لم يكن للفينومينولوجيا تأثير على فلسفة العلم، ولم تتلاق معها إلا فيما ندر.
من الأعمال المبكرة للرائد إدموند هوسرل كتابه «الفلسفة بما هي علم دقيق 1910م» فقد كانت الفينومينولوجيا حريصة على تمثيل ما لروح العلم، وفعلت هذا بطريقتها المتميزة والخاصة جدا التي ترفض الاستنباط الرياضي والاستقراء التجريبي على السواء. انصبت على عالم الظواهر كما يفعل العلم، وشقت لهذا طريقا مختلفا - كما صادرت منذ البداية - بما أسمته بالتجربة الحية المعاشة وتحليل ماهية الظواهر المعطاة للوعي، وبهذه الطريقة افترقت الفينومينولوجيا عن التيار المثالي في القرن التاسع عشر، واقتبست - بأسلوبها الخاص - الروح التجريبية للقرن العشرين. وعلى أية حال فإن الفينومينولوجيا بتفرعاتها وامتداداتها وتطبيقاتها من التيارات الهامة في فلسفة القرن العشرين التي تساهم في التعبير عن روحه العامة، خصوصا وأن الفينومينولوجيا منهاج للبحث وأسلوب للنظر، وليست البتة مصفوفة من الحقائق الأولية المثالية أو الميتافيزيقية المطلقة.
وكانت معاقل الهجوم الأخرى على المثالية الألمانية في مطلع القرن العشرين أكثر تمثيلا لروح التجريبية العلمية. جاء مد تجريبي قوي من الفلسفة الأمريكية التي لم تكن أبدا مرعى خصيبا للمثالية، بحكم روح وطبيعة الحضارة الأمريكية، وإن كان يوجد بالطبع قلة من المثاليين الأمريكيين أهمهم جوزيا رويس
J. Royce (1855-1916م) الذي يجاهر بأنه فيلسوف هيجلي، ومع هذا تأثر بأستاذه وليم جيمس، فلم تخل فلسفته المثالية من استجابة ما للبرجماتية
التي هيمنت على الفلسفة الأمريكية. لقد اكتملت البرجماتية، ونضجت لتكون بمثابة التمثيل العيني للفلسفة الأمريكية حديثة النشأة والنماء، حتى اتخذت أساسا لتفسير الدستور والقوانين والقيم الأمريكية. البرجماتية اسم مشتق من اللفظ اليوناني «براجما» ومعناه العمل. الفلسفة البرجماتية إذن هي الفلسفة العملية التي تبحث عن النافع والمفيد.
أول من صاغ البرجماتية كاسم وكمسمى هو الفيلسوف الأمريكي العظيم حقا، والمغبون الذي لم يلق ما يستحقه من تقدير، تشارلز ساندرز بيرس
C. S. Peirce (1839-1914م)، وهو رائد من رواد المنطق الحديث وفلسفة اللغة وفيلسوف علم جدير بالإعجاب، في طليعة المثبتين للاحتمية على أسس منطقية وفي سياق الفيزياء الكلاسيكية ذاتها. وضع بيرس نظرية للمنهج العلمي شديدة الشبه والتقارب مع أهم نظريات المنهج في القرن العشرين، أي نظرية كارل بوير، حتى يمكن أن تعد استباقا لها وإرهاصا بها. كان ابنا لأستاذ رياضيات مبرز في جامعة هارفارد، حيث درس بيرس ونال إجازته في الكيمياء، ثم انشغل بالمنطق والفلسفة، ولكنه للأسف لم يظفر بمنصب أكاديمي رفيع في الفلسفة على الرغم من محاولاته المستميتة . ويعنينا من أمره الآن أنه طرح أساس البرجماتية بمقاليه «تثبيت الاعتقاد 1877م»، و«كيف نجعل أفكارنا واضحة 1878م»، ثم صاغ المذهب ببحثه الهام «البرجماتية» الصادر عام 1905م، حيث نجد القاعدة الأساسية للمذهب البرجماتي؛ وهي أن معنى القضية يتوقف على نتائجها العملية، وإذا أردنا الحكم بأن مفهوما عقليا ما ذو معنى، لا بد وأن نأخذ في الاعتبار النتائج العملية التي تنتج بالضرورة من صدق هذا المفهوم. وخلاصة هذه النتائج تشكل المعنى الكلي للمفهوم.
ثم تحددت معالم البرجماتية وأصبحت مذهبا فلسفيا متكاملا على يد وليم جيمس ذي الفلسفة التجريبية الراديكالية «الجذرية»، والنظرة التعددية للعالم رفضا للواحدية المثالية. ويراه برتراند رسل صاحب أقوى أثر في تقويض المثالية الألمانية، فقد شن جيمس حملة شعواء على فلسفة هيجل ومطلقها المثالي ورآه كفيلا بتدمير القوى الخلاقة للإنسان الفرد، وقدم واحدا من أقوى عروض الفلسفة التجريبية لدرجة يصح معها الحكم بأن فلسفة جيمس المدخل الحق للتجريبية الغالبة على فلسفة القرن العشرين. وقد أشرنا سابقا إلى كتابه «مبادئ علم النفس 1890م» ودوره في علم النفس التجريبي، وهذا الكتاب له أيضا دور في لفت النظر الفلسفي إلى أن التحليل المجرد للعقلانية لا يكفي ولا بد من الانتباه إلى أهمية التفاعل والتواصل بين ما هو ذهني وما هو بيولوجي واقعي، أي علمي تجريبي، ورأى أن البرجماتية في ربطها المعنى بالنواتج الواقعية إنما هي تطوير طبيعي للتجريبية التقليدية، فأخرج عام 1907م كتابه «البرجماتية»، بعنوان فرعي: «اسم جديد لمنهج قديم في التفكير»، وأهداه إلى ذكرى جون ستيوارت مل مؤكدا أنه لو كان حيا لناصر البرجماتية بكل قوة. وكان جيمس دائما يميل إلى الدين ونصرة الإيمان، وفي كتابه «إرادة الاعتقاد 1897م» قدم تبريرا برجماتيا للدين، بمعنى أن نؤمن به؛ لأن الإيمان الديني نافع ومفيد في جلب الراحة والهدوء النفسي والضبط الأخلاقي. يحتوي «إرادة الاعتقاد» على أشهر مقال لجيمس وهو «معضل الحتمية» حيث يبين تناقضات الحتمية مع ذاتها ومع القضايا المتصلة بها، ويرفضها تماما إثباتا للحرية، وأبلى جيمس بلاء حسنا في قضية الحرية حتى عد من سدنتها المخلصين، وربما أيضا لأسباب برجماتية، فالحرية الإنسانية لها نتائج عملية مفيدة في تحمل المسئولية ، وجدوى الثواب والعقاب والقيم الخلقية إجمالا، والإبداع والتميز ... إلخ. وقبيل وفاته بعام واحد، أصدر عام 1909م كتابه «معنى الصدق: تتمة للبرجماتية»، حيث فصل ما أجمله تشارلز بيرس، فأوضح جيمس أن الصدق أو الحقيقة
truth
خاصية للاعتقاد الإنساني وليست كيانات مطلقة، وكل ما يقع خارج الدائرة الإنسانية ليس حقائق بل وقائع، وإذ تصبح الحقائق مسألة إنسانية فإنها بالتالي نسبية قابلة للخطأ متغيرة ومتطورة شأن كل ما هو إنساني؛ وذلك هو صلب الفلسفة البرجماتية.
ثم تطورت البرجماتية واتسع مداها مع فلاسفة أمريكيين لاحقين، خصوصا جون ديوي
J. Dewey
الذي بدأ من الفلسفة الهيجلية ولكي يداوي ما رآه فيها من انفصال بين الفكر والواقع انساق تماما للبرجماتية ورأى أن المعرفة وظيفتها تنظيم السلوك، وأن الفكرة أداة للعمل، فتنعت برجماتية ديوي بأنها وظيفية أو أداتية، وقد جعلها أساسا فلسفيا للتربية وللدفاع عن الحرية والليبرالية الحديثة ونظريته السياسية إجمالا.
خلاصة الفلسفة البرجماتية أن العقل يحقق هدفه حين يقود صاحبه إلى العمل الناجح. إذن الفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة، ولا تقاس الفكرة إلا بنتائجها العملية، أي بفائدتها. هكذا تنتفي تماما الحقائق الثابتة والأفكار المطلقة التي تبحث عنها المثالية. الحق والخير والجمال هو العملي النافع المفيد. تنشأ القيم من الواقع الطبيعي وتكون متغيرة متطورة تبعا لنواتج الخبرة التجريبية التي تشهد بقدرة المبدأ الخلقي أو القيمة على حل المشكلات. في هذا تلتقي البرجماتية مع سائر مدارس فلسفة الأخلاق التي تستلهم الروح العلمية التجريبية، وترفض الحاسة الخلقية والحدسية الأخلاقية ومبدأ الواجب المطلق عند كانط ... وما إليه من اتجاهات مثالية في فلسفة الأخلاق، وعلى الرغم من أن وليم جيمس لم يتعاطف مع التطورية الاجتماعية، فإن البرجماتية بتأكيدها على قدرة القيمة والمبدأ الخلقي على حل المشكلات إنما تلتقي مع التطورية الخلقية. والتطورية اتجاه في الفلسفة الإنجليزية استقطب مد الروح العلمية والعلم عموما ونظرية دارون التطورية خصوصا، ومن أعلامه هربرت سبنسر
H. Spencer (1820-1903م) وليزلي ستيفن
L. Stephen (1823-1904م) والتطورية الخلقية تواصل المد الوضعي الذي يريد الأخلاق علما طبيعيا وليس فلسفيا بل مثاليا، يدرس السلوك الإنساني وغاياته، أخضعوا القيم لناموس التطور الحيوي كما أفصحت عنه نظرية دارون، أي ناموس الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح، فيبقى من مبادئ الأخلاق ما يثبت أنه الأصلح، أي الأكفأ في مساعدة الفرد على حل مشكلات الحياة والتكيف مع البيئة، والأخلاق بهذا متطورة متغيرة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وليست البتة مطلقة ثابتة كما يتوهم المثاليون.
كان دارون كما هو معروف إنجليزيا، والفلسفة التطورية الأخلاقية والاجتماعية أيضا إنجليزية، على أن أقوى التمثلات الإنجليزية للفلسفة العلمية التجريبية مذهب انطلق من ذلك العام الحاسم 1900م وهو الفلسفة التحليلية التي سنراها تفصيلا في حينها.
تنطلق البرجماتية وقريناتها من مذاهب الفلسفة التجريبية العلمية من الخبرة
experience . الخبرة هي التفاعل المتنامي دائما بين الكائن الحي والبيئة، المعرفة ذاتها وسيلة لتنظيم الخبرة، ويبقى صلب التجريبية الجذرية في أن حقائق الأشياء يستحيل إدراكها بصورة قبلية سابقة على الخبرة التجريبية، والصدق خاصة للمعتقد الإنساني حين يستوفي شروط تمليها التجربة. وتؤكد البرجماتية على مقولتين قوضتا روح المثالية وسادتا في فلسفة القرن العشرين وساهمتا كثيرا في جعلها وثيقة الاتصال بروح العلم التجريبية: المقولة الأولى هي الواقعية بمعنى الاعتراف بالوجود الواقعي المستقل للعالم التجريبي، فلا يعود فكرة أو تصورا مرتهنا بالعقل الذي يدركه كما تذهب المثالية المتطرفة. المقولة الثانية هي التعددية، بمعنى أن العالم ليس كما يذهب المثاليون - وفي طليعتهم فرنسيس برادلي - ليس كلا واحديا محكوما بعلاقات داخلية ولا أجزاء له ولا تكثر فيه، بل إن العالم تعددي ... كثرة متكثرة من الوقائع والجزئيات. والتعددية هي نظرية أنطولوجية متسقة مع روح العلم أو مع التجريبية، ومن الذين مكنوا لها، شارل رينوفيه الذي اعتبره جيمس أستاذا له في إثبات الحرية الإنسانية، وأيضا الفيزيائي إرنست ماخ فيلسوف التجريبية الألمانية الشهير الذي ارتد العالم بأسره على يديه إلى إحساسات، بينما ارتد مع جيمس إلى خبرات، وفي النهاية أتت التعددية التجريبية مع وليم جيمس ومعاصره إرنست ماخ قوية ماضية، ولم يكن ينقصها إلا خطوة واحدة سوف تقطع لاحقا على يد برتراند رسل، وهي التسلح بالصياغات المنطقية.
لقد التقت مختلف مذاهب الفلسفة التجريبية في القرن العشرين على خصائص عامة مقتبسة من روح العلم، باتت تميز فلسفة هذا القرن بأسرها، فهي جميعا تتجه نحو عالم الظواهر والخبرة وتنصب على الواقع فتغدو وثيقة الاتصال بفرائده لا تنفصم البتة عنه، ولا قبل لها بالتحليق في سرمد الفلسفات المثالية الخالصة. وبتأثير المد التجريبي شهد القرن العشرون عزوفا عن بناء أنساق شامخة تستوعب الوجود والمعرفة والقيم جميعا، على غرار مذاهب كانط وهيجل والفلسفات المثالية عموما منذ أفلاطون. وأصبحت الفلسفة في القرن العشرين مناهج أكثر منها مذاهب، أي أسلوبا للبحث وطريقة للنظر وليست مصفوفة من الحقائق أو بناء مهيبا من الأفكار المطلقة. وبالتالي أخذت الفلسفة من الروح العلمية التجريبية التناول الجزئي، وأحيانا التفتيتي للموضوع، فانفسح رحاب الفلسفة لطابع العلم الجمعي التعاوني؛ لتتآزر الجزئيات معا نحو التصور الأكمل للموضوع والمتنامي دوما. لم يعد المذهب الفلسفي فتحا لعبقرية جبارة يقتصر اللاحقون على ترتيله، بل أصبح شقا لطريق تتوالى فيه الجهود وتتواصل.
لقد نجحت التجريبية منذ مطالع القرن العشرين والعام الحاسم 1900م في أن تفرض ذاتها، وتفرض هذا الطابع العلمي على التيارات الكبرى المشكلة لفلسفة القرن؛ لأنها أصبحت تجريبية قوية، متطورة ومتبصرة ومدججة، بحيث تمثل تقدما فلسفيا وعقليا عما سبق. إنها تختلف اختلافا ملحوظا عن التجريبية الفجة الساذجة السالفة، التي بلورتها النزعة الاستقرائية، خصوصا في تسلحها ببعدين:
فقد تسلحت تجريبية القرن العشرين بالتطور الذي أنجزته ثورة الفيزياء الكبرى في تصور المادة والعالم التجريبي، وفي تصور دور التجربة وعلاقة المعطيات الحسية بالعقل المبدع للفروض العلمية، كما أوضحنا سابقا.
تسلحت أيضا بأداة نافذة مكينة جليلة الشأن، تخلقت وتشكلت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ليغدو تسخيرها واستغلالها، استخدامها وخدمتها، علامة فارقة مميزة للقرن العشرين، إنها المنطق الرياضي.
إن المنطق الرياضي أو الرمزي هو عصب تميز التجريبية على العموم وفلسفة العلم على الخصوص ... في القرن العشرين.
ثانيا: المنطق الرياضي عصب لفلسفة القرن العشرين
المنطق علم يدرس قوانين التفكير الأساسية، بصرف النظر عن مادة هذا التفكير أو موضوعه، فهو معني بصحة الاستدلال وسلامة الانتقال من المقدمات إلى النتائج، ولا شأن له بالحكم بانطباقها أو عدم انطباقها على الواقع، إنه معني بالصحة وليس بالصدق، فالصحة أو البطلان خاصة للاستدلال، أما الصدق أو الكذب فمجرد خاصة للقضية. وأيضا يدرس المنطق التصورات والمفاهيم، لا في علاقاتها بالعالم الخارجي، بل في علاقاتها الداخلية بمبادئ التفكير المنطقي، وببعضها واتساقها معا. هكذا نجد الهدف الذي يتعقبه المنطق في النهاية هو دراسة الاستدلال، أو العلاقة بين قضايا الحجة والعلاقة بين المفاهيم، فيضع قواعد إذا تحراها الذهن البشري سوف تعصمه من الزلل ومن الاستنتاجات الخاطئة، رآه ابن سينا آلة عاصمة للذهن من الخطأ، وخادما للعلوم جميعا، بينما رآه الفارابي رئيس العلوم لنفاذ حكمه فيها. وهو على أية حال ليس علما يوضع بجوار بقية العلوم، بل هو من مستوى مخالف وأسبق منها جميعا، ما دام آلة وأداة للفكر معنيا بصورته العامة لا بمضمونه.
أكد كانط وهيجل على أن المنطق صورة بغير مضمون، وكانط أول من استعمل مصطلح «الصوري
Formal » كصفة للمنطق التصقت به دائما، فيقال: «المنطق الصوري»، وهو فعلا صوري، معني - كما ذكرنا - بصورة التفكير وهيكله وقالبه وإطاره العام، وليس بمضمونه الإخباري ومحتواه المعرفي. هذه الصورية هي التي جمعت المنطق والرياضة في مستوى واحد أو سلة واحدة هي سلة العلوم الصورية التي لا تضطلع بالإخبار عن الواقع التجريبي، ولكنها تسبق العلوم الإخبارية جميعا كقانون كإطار وكلغة لها. وكانت نشأة المنطق مع الإغريق في سياق النزعة العقلانية الوليدة، وارتبط بجهودهم في تأسيس الهندسة كمبحث أكسيوماتيكي، أي نسق استنباطي يستند على بديهيات. وقد أوضحنا في الفصل السابق كيف مهد أرسطو لإقليدس، ومع هذا فإن المنطق الحديث الذي صبغ فلسفة القرن العشرين بصبغة منطقية يختلف ويتمايز تماما عن المنطق التقليدي في أنه منطق رياضي - كما سنرى.
بداية وبصرف النظر عن الإرهاصات والمقدمات والتوجهات الخاصة للمنطق الصيني والمنطق الهندي القديمين، نشأ علم المنطق الصوري ناضجا مكتملا في القرن الرابع والثالث قبل الميلاد على يد المعلم الأول أرسطو أعظم فلاسفة الإغريق. واللافت حقا أن أرسطو لم يعرف مصطلح «المنطق
Logic »، وضع بحوثه المنطقية تحت عنوان «التحليلات» وأسماها تلامذته «الأورجانون»، أي الأداة أو آلة التفكير. وكان الإسكندر الأفروديسي في القرن الثاني الميلادي أول من استخدم مصطلح
Logic
المشتق من اللفظة الإغريقية الشهيرة «لوجوس
Logos » ذات المعنى المزدوج: الكلمة/العقل. في هذا الازدواج البارع للمعنى كل الدلالة المطلوبة، والتي تجعل
ology - المأخوذ من
Logos - مقطعا بعديا للفظ للدلالة على العلم بمدلوله، الحياة
Bio ، وعلم الحياة
Biology ، النفسي
، وعلم النفس
، أرض
Geo ، وعلم طبقات الأرض
Geology ... وهكذا. فماذا عسى أن يكون العلم بموضوع ما سوى كلمة العقل في هذا الموضوع.
لقي المنطق اهتماما وتطويرا من الرواقيين في الحضارة الهلينستية، وفي رحاب الحضارة العربية الإسلامية قام المسيحيون السريان في سوريا والعراق، في أواسط القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري بترجمة الكتب الأربعة لأرسطو في المنطق إلى اللغة العربية. كانت ترجمة حرفية فجة، راجعها على الأصل اليوناني ونقحها وهذبها الجيل الثاني من المترجمين وعلى رأسهم حنين بن إسحق وولده إسحق بن حنين، وترجموا أيضا شروحا وتعليقات. أصبح المنطق الأرسطي مطروحا بوضوح في الحضارة الإسلامية، وانفتح المجال لتوالي جهود العرب وإسهاماتهم المنطقية، دشنتها دراسات الكندي - أول الفلاسفة العرب - وتوالت إنجازات المناطقة العرب من فرق شتى.
منذ البداية أرسي هذا العلم في الحضارة العربية تحت اسم «المنطق»، وهو علم الميزان؛ إذ به توزن الحجج والبراهين، يقول التهانوي:
إنما سمي بالمنطق؛ لأن النطق يطلق على اللفظ وعلى إدراك الكليات وعلى النفس الناطقة، ولما كان هذا الفن يقوى بالأول ويسلك بالثاني مسلك السداد ويحصل بسببه كمالات الثالث اشتق له اسم منه وهو المنطق، وهو علم بقوانين تفيد معرفة طرق الانتقال من المعلومات إلى المجهولات وشرائطها بحيث لا يعرض الغلط في الفكر.
1
قسم الإسلاميون المنطق إلى التصور والتصديق، التصور هو إدراك جزئية أو مفردة، إنه بحث يتناول الألفاظ والتعريفات والحدود والكليات الخمس،
2
وكان مناط إضافة وإبداع ملحوظ عند العرب. أما التصديق فهو إدراك العلاقة بين التصورات بحيث يمكن وصف هذه التصورات بالسلب والإيجاب، بالنفي والإثبات. ومبحث التصديق يضم موضوعين هما القضايا والاستدلال. ميز العرب بين ثلاثة سبل للاستدلال؛ وهي: القياس والاستقراء والتمثيل . الشكلان الأولان مرا علينا فيما سبق، واتضح أن القياس هو الانتقال من الكليات إلى الجزئيات التي تلزم عنها، والاستقراء هو الانتقال من الجزئيات إلى الكلي أو الحكم على الكلي لثبوته في الجزئيات، أما التمثيل فهو الانتقال من جزئية إلى جزئية أخرى تماثلها. وكان القياس هو الاستدلال العمدة كما رأينا في العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية على السواء.
ثم تكاثفت مؤثرات الحضارة الإسلامية على أوروبا، وعبر سبل شتى من قبيل قرطبة في الأندلس وبقية مراكز العلم العربي والأسفار والرحلات التجارية والحروب الصليبية ... إلخ. انتقل إلى أوروبا المد العقلي الإسلامي، وفي سياقه إنجازاتهم المنطقية وشروح ابن رشد الرائدة لأرسطو ومنطقه. وبفضل المد العربي أعاد آباء الكنيسة الكاثوليكية اكتشاف المنطق إبان القرن الثاني عشر الميلادي، وبدأت مرحلة جديدة لازدهار المنطق الأرسطي في الحضارة الأوروبية استمرت حتى منتصف القرن الرابع عشر، وهي مرحلة التفكير المدرسي الذي كان نموذجا للصرامة المنطقية في التفكير وأيضا للعقم والخواء. من أهم المناطقة في هذه الحقبة القديس أبيلار
Abelard (1079-1142م) أخرج دراسة شاملة للمنطق في خمسة أجزاء تحت عنوان «الجدل
Dialectica »، ومع هذا فإنه المسئول عن شيوع مصطلح
Logic
كاسم لهذا المبحث طوال العصر المدرسي وما تلاه. وفي بدايات القرن الثالث عشر الميلادي تأسست جامعتا باريس وأكسفورد، وقع تدريس المنطق الصوري الأرسطي في الصفوف الأولى من كلية «الفنون الحرة»، أي كلية الآداب ليشكل عقلية الطالب منذ البداية؛ نظرا لاعتماد آباء الكنيسة هذا المنطق كمنهج للبحث. إنها المرحلة المدرسية التي سادها المنطق الأرسطي أكثر مما ينبغي، حتى استغرقها التفكير النظري الخالص والدوران في القياسات الأرسطية العقيمة التي لا تأتي بجديد عن الواقع، خصوصا مع تراجع الاهتمام بالرياضيات والطبيعة، وتكرس العقل لخدمة اللاهوت، وتفسير الكتاب المقدس.
وكما رأينا في الانتقال «من العلم القديم إلى العلم الحديث» (الجزء الخامس من الفصل الأول) اقترنت حركة العلم الحديث بالثورة على المنطق الأرسطي وقياساته العقيمة، وسلك الطريق المضاد تماما وهو طريق الاستقراء التجريبي. فلا يدهشنا أن المنطق الصوري منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر يدخل في مرحلة بيات شتوي طويل استمرت خمسمائة عام، وهي المرحلة التي تصدرها المنهج الاستقرائي كتعبير عن روح العلم وروح العصر ساد فيها الظن بأن المنطق غير ذي نفع كبير ما دام لا يصلح لاكتشاف الطبيعة المتأججة وتنحصر معاملاته في الصحائف والأوراق، وأنه بحكم طبيعته لا يقبل تطويرا، بل إنه عائق دون استقبال العصر الحديث والعالم الحديث. هيمنت الروح التجريبية بوصفها روح العصر ومنهج البحث، وتراجع المنطق إلى زوايا الإهمال والجمود لما يقرب من خمسمائة عام.
حتى كانت الانبثاقة الكبرى للمنطق الحديث في منتصف القرن التاسع عشر، فلماذا حدثت؟ وكيف جعلت المنطق الحديث رياضيا؟
نلاحظ أنه يغلب على الباحثين تتبع نشأة المنطق الحديث في سياق منطقي خالص، وجهود مناطقة كبار في إنجلترا أمثال ريتشارد ويتلي
R. Whately (1787-1863م)، ووليم هاملتون
W. Hamilton (1788-1856م) حاولوا - من داخل حدود المنطق الأرسطي - إخراجه من زوايا النسيان وبعث الحياة والدماء فيه وتطويره وتجديده. ثم يأتي جورج هنريك فون رايت، وهو من كبار أساتذة المنطق في القرن العشرين، مارس تدريسه وتطويره لما يربو على ستين عاما من هذا القرن، وارتبط بعلاقات حميمة مع كبار المناطقة فيه، يسهب فون رايت في إيضاح أن المنطق الحديث جاء في منتصف القرن التاسع عشر كنتيجة لنشأة الرياضيات البحتة من جانب وتطور الرياضيات التطبيقية كأداة للعلم من جانب آخر، مما جعل السؤال عن الفحص النقدي لأصول الرياضيات والأسس التي تستند عليها سؤالا ملحا. ومن خلال الجهود المبذولة للإجابة على هذا السؤال كانت نشأة ونماء المنطق الرياضي الحديث،
3
وعلى هذا نستطيع أن نربط تماما بينه وبين فلسفة العلم.
أجل، كانت نشأة المنطق الرياضي الحديث مساوقة تماما لنشأة فلسفة العلم، في نفس الزمان والمكان ولنفس العوامل والمبررات والأهداف، تقنين أسس العلم الحديث وفحصها فحصا نقديا، فلا غرو أن يتكامل المنطق الرياضي مع فلسفة العلم ويتآزرا في القرن العشرين حتى كادت تلحق به من منظورات ذات اعتبار، خصوصا حين كانت فلسفة العلم مستغرقة في سؤال المنهج، فقيل: إن المنطق صوري كما ذكرنا، وفلسفة العلم هي مناهج البحث هي المنطق المادي أو المنطق التجريبي، وما زالت كثير من الجهات الأكاديمية تعتبر المنطق وفلسفة العلم تخصصا واحدا، أو على الأقل متصلا، فهكذا كانا منذ بواكير النشأة.
في ذلك الأوان - منتصف القرن التاسع عشر - بلغ العلم الحديث درجة عالية من النضج والنماء؛ ليغدو من الممكن تأمل أسسه وتقنينها وفحصها فحصا نقديا. من أجل هذا كانت المناظرة بين وليم هيوول وجون ستيوارت مل التي أسفرت عن صياغة النزعة الاستقرائية كتقنين للأساس التجريبي للعلم. بيد أن العلم الحديث لم يكن تجريبا فقط، بل تجريبا مسلحا بلغة دقيقة وأداة فعالة لرسم الصورة الحديثة للكون وهي الرياضيات، فكان لا بد من فحص وتقنين أسس وأصول الرياضيات أيضا. وفي هذا انتهت النزعة الاستقرائية إلى أنها مثل أي علم آخر تعميمات استقرائية، وتتمتع باليقين لسعة مجالها وكثرة الوقائع الشاهدة على صدقها، كثرة ما لاحظته حواسنا من أن اقتران 1 و1 - مثلا - ينتج عنه دائما 2. ونظرا لطبيعة الرياضيات كعلم صوري غير مستقى من الواقع التجريبي ولا متكفل بشأنه، فإن هذه الإجابة التجريبية المتطرفة لم تقنع علماء الرياضيات، ونهض فريق منهم لفحص أصول الرياضيات من الطريق المخالف لهذه الاستقرائية، أي طريق التعقل المنطقي الخالص. ومن أجل هذا انكبوا بأدواتهم الرياضية على دراسة علم قوانين الفكر الأساسية، أي علم المنطق. ولما كان أميز ما يميز الرياضيات أنها لغة رمزية خالصة كانت بحوثهم وفحوصهم علة لترميز المنطق وجعله هو الآخر لغة رمزية خالصة كالرياضيات.
إن «المنطق الحديث» هو «المنطق الرياضي» هو «المنطق الرمزي»، المصطلحات الثلاثة مترادفة، ويمكن أن نضيف إليها مرادفا رابعا طرحه في ذلك العام الحاسم 1900م لويس كوترا
L. Coutrat (1868-1914م) لتمييز المنطق الرمزي الحديث عن المنطق الأرسطي التقليدي، وهو مصطلح اللوجسطيقا
Logistic ، أو بلغته الفرنسية
Logistiqe ، وأعاد طرحه أليستون عام 1904م. وقد فند كواترا براهين سلفه شارل رينوفيه على امتناع اللامتناهي وقام بدوره في تطوير الرياضيات البحتة وفحص أصولها، وأيضا تطوير المنطق الرياضي أو اللوجسطيقا بمصطلحه.
وفي طليعة أولئك الرياضيين الفاحصين لأصول الرياضيات يتقدم الأيرلندي جورج بول
G. Boole (1815-1871م) الذي يعزى إليه الفضل في تأسيس المنطق الحديث . استفاد بول من أستاذه أغسطس دي مورجان
A. de Morgan (1806-1871م) الذي خصه بالرعاية والتشجيع. كان دي مورجان عالم رياضيات أيضا معنيا بتطبيق الأدوات الرياضية على المنطق التقليدي، وفي كتابه «المنطق الصوري 1847م» صاغ نظرية العلاقات لأول مرة في صورة رمزية، وعلم بول أن المنطق يمكنه استخدام أساليب الرياضة، وأن قوانين الجبر يمكن تعميمها بصرف النظر عن تفسيراتها الجزئية، فاستطاع بول أن يصل إلى جبر عام مجرد يتمثل في قوانين الفكر الأساسية، واستبعاد اللغة الجارية كوسيط غير دقيق والتعبير عن هذه القوانين بلغة رمزية دقيقة كلغة الحساب، وإقامة علم المنطق على هذا الأساس. هكذا تم تأسيس المنطق الرياضي بكتابي جورج بول «التحليل الرياضي للمنطق 1847م»، و«فحص قوانين الفكر 1854م». نلاحظ أن الأول صدر في نفس عام صدور كتاب أستاذه مورجان، فيمكن اعتبار هذا العام - 1847م - عام ميلاد المنطق الرياضي الرمزي الحديث.
استخدم بول ثلاثة أنواع من الرموز، أولا رموز لغوية مثل: «س» و«ص» و«ك» و«م» لتدل على مفاهيم وقضايا. ولكي يمكن استخدام هذه الرموز تبعا لقوانين تركيب معروفة تعطي نتائج متسقة، استخدم بول - ثانيا - رموزا أو علامات دالة على عمليات مثل +، −، ×، وثالثا علامة الهوية «=» التي اعتبرها بول علاقة أساسية،
4
وكما يقول الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه الرائد «المنطق الوضعي، الجزء الأول 1952م» ليست المسألة مجرد استعمال رموز من أحرف الهجاء أو غيرها لتحل محل الحدود والقضايا، وإلا لكانت لعبة صبيانية لا طائل وراءها يستحق اهتماما، بل إن جوهر المنطق الحديث هو تحويل القضية المنطقية إلى قضية شبيهة بمعادلات الجبر فتكتسب عمليات التفكير ما في الرياضة من صرامة ودقة وانضباط.
طبق بول جبره المنطقي على فروع المنطق وموضوعاته، بما في ذلك نظرية القياس الأرسطية، واتضح أنها مجرد حالة لمنطق الفئات. إن المنطق الرياضي يستوعب المنطق التقليدي في سياق أوسع وأرحب، والأهم أنه أدق وأكفأ. لا يعرف المنطق الأرسطي التقليدي إلا القضية الحملية «أ هي ب»، حيث تحمل «ب» على الموضوع «أ»، أما في المنطق الرياضي فثمة القضية اللزومية الشرطية ، والقضية الانفصالية، والقضية العطفية، والقضية المنفية، والقضية التركيبية من هذا وذاك ... وينقسم المنطق الرياضي إلى ثلاثة مباحث رئيسية، وهي: حساب القضايا، وحساب الفئات، وحساب العلاقات. طبعا تعامل المنطق الأرسطي مع القضايا، وأيضا مع الفئات، أما العلاقات فهي الإنجاز المستجد تماما للمنطق الرياضي، والذي لم يعرفه المنطق التقليدي بحال، والواقع أن مبحث العلاقات هو الأسبق تاريخيا؛ إذ طرحه دي مورجان، وهو أيضا أخصب الإضافات وصاحب الأثر الأكبر في تصويب الأطروحات، في الفلسفة وفي الرياضة البحتة على السواء، وفي المعرفة الإنسانية بصفة عامة، لقد اتضح أخيرا أن القضية «أ» على علاقة ب «ب» مثلا «أ يماثل ب»، أو «أ يحب ب» لا تحمل طرفين هما «أ» و«ب» فحسب، بل ثمة طرف ثالث هو العلاقة بينهما، التماثل أو الحب أو أية علاقة أخرى. وإغفال العلاقة كطرف ثالث يكمن وراء كثير من الترديات في عمليات التفكير، والآن نجد المحصلة الواسعة لحساب العلاقات تبرز - أكثر من سواها - الأهمية الكبيرة التي ترتبت على ترييض المنطق. وكما أشار برتراند رسل - في كتابه «مقدمة للفلسفة الرياضية 1919م»، «ليست الرياضيات إلا أنماطا من العلاقات تتم معالجتها بالأسلوب الرمزي».
وفي إثر الإنجاز الرائد لجورج بول توالت جهود المناطقة لتطوير وتنقيح وتبسيط وإكمال المنطق الرياضي، في مقدمتهم تشارلز بيرس، وأيضا وليم ستانلي جيفونز
W. S. Jevons (1835-1882م) وجون فن
J. Venn
وسواهم. إنهم سالكون طريق جورج بول وأستاذه دي مورجان فيعملون على تطبيق الأدوات الرياضية على المنطق التقليدي، أي رد المنطق إلى الرياضيات، حتى خرج من بين أيديهم منطق رمزي يستقي أرومته من الرياضيات.
وكما أوضحنا، انطلقت هذه الجهود بصفة مبدئية من هاجس الفحص النقدي لأصول الرياضيات، التقت معها جهود أخرى سلكت الطريق المخالف لتصل إلى نفس المقصد، وبدلا من رد المنطق إلى الرياضة حاولوا العكس، أي رد الرياضيات إلى المنطق بغية تأمين أصولها. إنه الطريق الذي شقه جوتلوب فريجة
G. Frege (1848-1925م)، وجوزيب بيانو
G. Peano (1858-1932م) وواصله وايتهد وبرتراند رسل حتى أخرجا كتابهما الفذ «برنكبيا ماتيماتيكا»، أي «أصول الرياضيات» الذي يفصح عن الخاصة التحليلية للرياضيات، وعن أن المنطق صبا الرياضيات والرياضيات رجولة المنطق، كما سبق أن أوضحت ثورة العلوم الرياضية في الفصل السابق. وكان كتاب «برنكبيا ماتيماتيكا» علامة فارقة على نضج المنطق الحديث واستوائه على العرش. ويظل برتراند رسل أعظم الباحثين في - أو عن - أصول الرياضيات وأعظم المناطقة في القرن العشرين وفي تاريخ الفكر الإنساني برمته.
وكان عالم الرياضيات البحتة ديفيد هيلبرت
D. Hilbert (1862-1943م) يبحث أصول الرياضيات من اتجاه آخر هو الاتجاه الصوري أو الشكلي
Formalism
الذي يذهب إلى أن قضايا الرياضة صيغ متفق على معاني رموزها دون أن يكون لها مدلولات خارجية، بمعية الاتفاق على قواعد متى راعيناها فقد ضمنا بلوغ اليقين والضرورة. فانصب منظور هيلبرت على المفاهيم والتصورات الرياضية والتحسيب الصوري لها على أساس نسق من البديهيات يتوافر فيها الاتساق والكفاية والاستقلال وخصائص الاكتمال الأخرى التي تتحدد في مبحث ما بعد الرياضيات
Meta-Mathematics . يرى فون رايت أن مشروع هيلبرت هو بشكل ما إحياء لمشروع ليبنتز في القرن السابع عشر، الذي كان يطمح إلى وضع لغة رمزية عالمية يتحد الناس جميعا في استعمالها بصرف النظر عن لغاتهم الطبيعية، تماما كالرياضيات، وتشكل حروفها أبجدية الفكر البشري، فيناظر كل حرف مفهوما أوليا بسيطا، وعن طريق قواعد التركيب نشكل من هذه المفاهيم البسيطة مفاهيم مركبة. وأشار ليبنتز صراحة إلى أن فن التركيب هذا حساب عقلي كالجبر تماما. هكذا تصور الفكرة الأساسية للمنطق الرياضي، ولكنه لم ينجز مشروعه هذا ولم يفطن إلى أهمية العلاقات ولم يتحرر أصلا من إعجابه بأرسطو. يظل ليبنتز مجرد مبشر، أو هو المبشر الأول، تبعه في القرن الثامن عشر مبشرون آخرون من علماء الرياضيات المعنيين بالمنطق أهمهم ليونارد أويلر
L. Euler ، ويوهان لامبرت
J. Lamber ، وبرنار بولزانو
B. Bolzano ، حتى كانت نشأة المنطق الرياضي المهيأة للنضج والنماء في القرن التالي كما رأينا.
الاتجاه الثالث نحو أصول الرياضيات هو الاتجاه العقلي الحدس المثالي، الذي يرى أن الحدس
intuition ، أي الإدراك الفوري المباشر هو الطريق لإدراك حقائق الرياضيات وأسسها. وهذا اتجاه قديم منذ أفلاطون حتى ديكارت وكانط. وحين أثيرت مشكلة أصول الرياضيات بعث مجددا على يد الهولندي لويتسجن بروور
L. E. Brouwer (1881-1966م)، وأيضا أرند هايتنج
A. Heyting . أنكر الحدسيون أن يكون المنطق قادرا على تأسيس أصول الرياضيات، وعرضوا قوانين التفكير الأساسية لمنظار النقد، وأثاروا الشك في قانون الثالث المرفوع أو الوسط الممتنع، أي «الشيء إما أ أو لا أ، ولا ثالث أو وسط». لقد اختلفت رؤيتهم لدور المنطق عن رؤية فريجة ورسل والمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات، واختلفت أيضا عن رؤية ديفيد هيلبرت والمدرسة الصورية، وكان النقاش حادا بين الحدسيين والصوريين.
لقد تراجع تماما التفسير التجريبي الاستقرائي لأصول الرياضيات، وأصبح المنطقيون والصوريون والحدسيون يمثلون المدارس الثلاث الكبرى المتنافسة فيما بينها، إلا أن المدرسة المنطقية مع رسل كانت بمثابة ثورة وصاحبة الأثر الأكبر في توجيه فلسفة القرن العشرين. وبشكل عام تمخضت المناقشات الدائرة بين هذه المدارس الثلاث في أصول الرياضيات عن نماء ونضج المنطق الحديث، الذي أصبح بالضرورة منطقا رمزيا ما دام في أصله رياضيا.
انطوى ترميز المنطق على قفزة عقلية هائلة طرحت إمكانيات إبستمولوجية أبعد، بحيث يمكن أن نماثلها بالقفزة التي حدثت ممهدة لنشأة العلم الحديث من جراء استخدام رموز الأرقام الهندية العربية بدلا من الأرقام الرومانية القاصرة العقيمة التي استمرت في أوروبا حتى القرن الثالث عشر أو بالتحديد عام 1202م، عام عودة ليوناردو فيبوناسي إلى بيزا؛ لينشر شروحا للأرقام التي تعلمها من العرب. يكفي أن نقارن مثلا العدد 988 في صورته العربية هكذا أو 988 وهي صورة عربية أخرى، وبين صورته بالأرقام الرومانية هكذا:
DCCCCLXXXVIII ، أو بين إمكانية إجراء عملية حسابية بسيطة مثل «113 × 8» بصورتها العربية وبين إجرائها في الصورة الرومانية
VIII X CXIII ، حيث تحتاج لجهد خارق وعقيم، المثل تماما يحدث بفضل ترميز قضايا وعلاقات الحجة أو البرهان أو الصياغة في المنطق الرياضي. وإذ يصطنع المنطق لغة رمزية مبرأة من عيوب اللغات الطبيعية، فإنه يتجنب الخلط والإبهام وعدم دقة التعبير والمراوغة في المعنى الكامنة في اللغة الطبيعية، أجل، استخدم المنطق الأرسطي الرموز إلى حد ما، رمز للموضوع ورمز للمحمول، ربما كان الفرق في الرمزية بينه وبين المنطق الرياضي الحديث فرق درجة وليس فرق نوع، لكنها درجة هائلة شاسعة تصل إلى حد صنع اختلاف كيفي بين المنطق القديم والمنطق الحديث، وتجعل هذا الأخير أداة قوية ناجزة للتحليل وللاستنباط، وقادرا على أن يكشف عن البنية المنطقية للقضايا والحجج بوضوح لم يكن متاحا البتة قبل كل هذا القدر من الترميز.
5
منح المنطق الرياضي فلسفة القرن العشرين ذات المنزع المعرفي والتجريبي والعقلي إجمالا أسلوبا فنيا للصياغة الدقيقة والتعبير المنضبط، وأداة فريدة مكنتها من استنباط النتائج من المقدمات بطرق ممهدة لم تكن متاحة من قبل، لقد جعل من الممكن صياغة مشكلات فلسفية تقليدية بطرق جديدة خصيبة ومثمرة، فقام بدور كبير في تطوير مدارس وأنساق فلسفية عديدة. وقدم التحليل المنطقي للقضايا عتادا هائلا للنظرة التعددية للعالم رفضا للواحدية وعلاقاتها الداخلية، فقد أوضح أن خواص الشيء أو أوصافه لا تفصح عن علاقاته بالأشياء الأخرى مما يعني أن العلاقات خارجية، وبالتالي العالم تعدديا.
6
وبشكل عام أدى المنطق الرياضي إلى إزالة مواطن لبس وغموض رانت طويلا على صدر الفلسفة متذرعة بالخلط اللغوي، مثلا توصل برتراند رسل عام 1905م إلى «نظرية الأوصاف المنطقية»، وعن طريقها تستطيع الفلسفة - أخيرا - إثبات أن غولا أو دائرة مربعة مفاهيم لا وجود لها. «كل العفاريت حمراء»، و«كل المصريين عرب»، «قضيتان متساويتان في نظر المنطق الأرسطي، وعن طريق الأوصاف المنطقية يتم إثبات أن المقدم «المبتدأ أو الموضوع» في القضية الأولى لا وجود له، بينما هو في الثانية موجود، هناك فئة فارغة وفئة غير فارغة، هدف «الأوصاف المنطقية» هو تمييز الصور المنطقية عن الصور النحوية وإبعاد الكيانات الزائفة التي لا يستطيع النحو إثبات زيفها. فتعتبر نظرية الأوصاف المنطقية مثالا نموذجيا للفلسفة في القرن العشرين المتسلحة بالمنطق الرياضي، ومثلها أيضا نظرية رسل في الأنماط المنطقية عام 1908م التي تفرق بين قضية تشير إلى شيء جزئي وقضية تشير إلى مبدأ عام أو تشير إلى قضايا أخرى، مما أدى إلى حل مفارقات كثيرة.
وبالعود إلى العام الحاسم 1900م نجد شهر يوليو منه يشهد مؤتمرا دوليا للفلسفة عقد في باريس، حضره كبار الفلاسفة والمناطقة أمثال: ألفرد نورث هوايتهد وبرتراند رسل وجوتلوب فريجه وجوزيب بيانو ... كان هذا المؤتمر علة فاعلة لتلاقح الفلسفة والمنطق الرياضي، وشهد القرن العشرون فئة مستجدة تفلح أراضي لم تستكشف من قبل هي فئة الفيلسوف/المنطقي، غالبية أعضائها من فلاسفة العلم، مما أدى إلى توظيف فلسفي واسع للمنطق الرياضي. لم يعد المنطق كما كان مجرد أورجانون أو أداة للفلسفة، ومن أسبق الشواهد على هذا أعمال هوايتهد «مبادئ المعرفة الطبيعية 1919م»، و«مفهوم الطبيعة 1920م» و«مبدأ النسبية 1922م». وكان هوايتهد من أعظم الباحثين في أصول الرياضيات والمساهمين في تطوير المنطق الرياضي، بلغت إسهاماته الذروة في الكتاب الفذ «برنكبيا ماتيماتيكا»، لكنها أيضا توقفت بهذا العمل واتجه إلى الفلسفة الخالصة، بينما واصل رسل جهوده المنطقية بلا كلل أو ملل. وكان رسل قد أعلن أن أي مشكلة فلسفية إذا خضعت للتدقيق والتحليل الضروريين؛ اتضح أنها إما أن تكون مشكلة منطقية أو أنها ليست مشكلة فلسفية فعلا، بعبارة أخرى، كل المشاكل الفلسفية فعلا هي مشاكل منطقية،
7
وأصبح مألوفا أن تكنى فلسفة العلم بمنطق العلم. وكان فريجه قد رأى أن العلوم الفيزيائية تدرس قوانين الطبيعة، والمنطق يدرس قوانين تصور قوانين الطبيعة، المنطق من هذه الزاوية هو علم قوانين الطبيعة ليدخل في ذات الهوية مع علم العلم أو فلسفة العلم.
وإذا كان المنطق الرياضي قد لعب دورا كبيرا في تطوير فلسفة القرن العشرين ذات المنزع العقلاني والمعرفي، فإن فلسفة العلم على الخصوص هي التي أحرزت تقدما تقنيا كبيرا بفضله، وإذ تسلحت بهذه الأداة الفعالة - أي المنطق الرياضي - أصبحت التجريبية فيها مقننة تقنينا دقيقا يفصلها بمراحل عن التجريبية الفجة التي عبرت عنها النزعة الاستقرائية في القرن الأسبق. لقد أصبح من الممكن تجريد بنية النظرية العلمية للتعامل معها ومع العلاقات بين عناصرها، وبينها وبين وقائع الملاحظة، وانفتح الطريق إلى محاولة صياغة التجريبية ذاتها بلغة منطقية دقيقة تكون لغة للعلم الموحد.
إن المنعطف الحاد الذي جعل فلسفة القرن العشرين تصطبغ بصبغة منطقية إنما يتبوأر في حجر زاوية أساسي هو اللغة. أجل، المنطق هو علم قوانين الفكر منذ أرسطو وحتى عنوان كتاب جورج بول. ولكن القرن العشرين أدرك أن المنطق لا يدرس قوانين الفكر كسديم سابح في الأجواء الميتافيزيقية، أو كما يدرسها علم النفس مثلا، بل يدرس المنطق قوانين الفكر كما تتمثل في الانتقال من قضايا لغوية إلى أخرى، أسرف تشارلز بيرس في إيضاح أن اللغة جوهر التفكير، إنها الموضوع الفعلي للمنطق ومادته الخام التي يتعامل معها ويعالجها، فيبدو جليا أن المنطق يدرس الارتباط بين التفكير واللغة؛ لذا يزدهر في الأجواء التي تشهد ازدهارا في المباحث اللغوية، كما كان الوضع في كمبردج وأكسفورد، ومن قبل في الحضارة العربية الإسلامية.
الواقع أن العرب أدركوا مبكرا هذا الارتباط الوثيق بين المنطق واللغة، وأرسوها قاعدة تقول: إن المنطق هو نحو التفكير، والنحو هو منطق اللغة، وفي قول آخر: المنطق نحو يوناني والنحو منطق عربي، خصوصا وأن النحو العربي يتميز بأصول للاشتقاق وبتقنين وتقعيد محكم لا مثيل له في لغات العالمين. لقد رأينا التهانوي يعرف المنطق بالنطق والنفس الناطقة واللفظ، بحيث ارتبط المنطق - اشتقاقا ومضمونا، كاسم وكمسمى - بالنطق وباللغة، يقول التهانوي:
النطق بالضم وسكون الطاء يطلق على النطق الخارجي وهو اللفظ، وعلى النطق الداخلي الذي هو إدراك الكليات، وعلى مصدر ذلك الفعل وهو اللسان، وعلى مظهر هذا الانفعال، أي الإدراك. المراد بالنطق في قولهم الإنسان حيوان ناطق هو القوة الموجودة في جنان الإنسان التي تنتقش فيها المعاني، ولا خفاء في أنها لا توجد في الببغاء والملائكة والجن؛ لفقد الجنان في الجن والملائكة، وفقد انتقاش المعاني في الببغاء.
8
هكذا نلاحظ التطابق بين التفكير والنطق أو اللغة كقوة مميزة للإنسان، فيغدو المنطق في ذات الهوية مع التفكير ومع اللغة، وحينما أصبح المنطق الرياضي عصبا لفلسفة القرن العشرين اتجهت هذه الفلسفة بقوة نحو الاهتمام باللغة، وأصبحت فلسفة اللغة من محاورها.
في دفع الفلسفة نحو الاتجاه اللغوي، ربما تكاتفت مع المنطق فروع أخرى لعلوم نهضت في القرن العشرين من قبيل اللغويات النظرية وعلوم الكومبيوتر ودراسة الذكاء الاصطناعي وتشغيل برامج المعلومات، بيد أن دور المناطقة الرياضيين كان العلة الفاعلة بلا شك. ألم يتضح أن الرياضيات ليست حقائق ووقائع ميتافيزيقية كامنة في الما وراء، بل هي محض لغة للتعبير الدقيق؟! ثم تحمل الحركة التحليلية وفيلسوفها رسل فلسفة اللغة على كواهلها، مما يعني ارتباطا بالمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات. في منتصف القرن العشرين اتضح الدور الكبير لجوتلوب فريجة كفيلسوف لغة. ربما لم يكن لديفيد هيلبرت دور في فلسفة اللغة، لكن الاتجاه الحدسي مع بروور - فيما يرى فون رايت - لعب دورا غير مباشر، فهجوم بروور على النزعة الصورية لهيلبرت هو بشكل ما نقد للغة في اتصالها بالحدوس الكامنة خلف التفكير الرياضي، والتي تشكل أصول الرياضيات كما يرى الحدسيون. هكذا تبدو مختلف المدارس في أصول الرياضيات والمنطق الرياضي وهي تدفع الفلسفة نحو اللغة، حتى أصبحت مناط ثورة فلسفية في القرن العشرين. معظم تياراته الفلسفية تهتم باللغة ولم تعد تسلم بها كوسيط شفاف للتعبير والتواصل، وكأنها اكتشفت فجأة أن عدسات النظارة التي ننظر بها دائما محتاجة لجلو وتنظيف.
وهنا يتقدم الفيلسوف النمساوي لودفيج فتجنشتين
L. Wittgenstein (1889-1951م) بوصفه صاحب الأثر الواسع والعميق في صبغ فلسفة القرن العشرين بالصبغة المنطقية، تقنينا وتنضيدا للغة، وإحكاما وضبطا للتفكير بواسطة قصر اللغة على صياغة العبارات التجريبية والعلاقات المنطقية. فيمثل فتجنشتين نقطة التقاء الخطوط السابقة، المد التجريبي والمنطق الرياضي كعصب الفلسفة وكيف يتبوأر تلاقيهما معا وتفاعلهما في التجريبية وهي تتمنطق في شكل فلسفة للغة.
كان فتجنشتين يدرس هندسة الطيران والملاحة الجوية، اجتذبته الرياضيات في سياق دراسته الهندسية، وانكب على الرياضيات البحتة وألحت عليه التساؤلات بشأن أصولها. أرشده أساتذته إلى كتاب «برنكبيا ماتماتيكا» الذي دفعه إلى دراسة أعمال فريجه، سافر فتجنشتين إلى يينا
Jena
في ألمانيا عام 1911م؛ لكي يناقش أصول الرياضيات مع فريجه، فنصحه بالدراسة في كمبردج على يد برتراند رسل. هكذا شد فتجنشتين الرحال إلى إنجلترا والتحق بكلية تيرنتي في كمبردج لينتقل من أصول الرياضيات إلى المنطق، ويتفرغ بقية حياته للفلسفة، عازفا عن إمكانياته المهنية الهندسية ومتنازلا عن ثروة طائلة ورثها ومعرضا عن الزواج ... إلخ. هذا لكي يتكرس تماما لثورة المنطق الرياضي في المملكة التجريبية كما تمخضت عن فلسفة اللغة التي ستلعب دورا كبيرا في فلسفة العلم.
نمت بينه وبين أستاذه برتراند رسل صداقة عميقة ورفقة فلسفية ثمينة، أثمرت ثمرا وفيرا في مضمار الفلسفة التحليلية. في أوائل العشرينيات صدر كتاب فتجنشتين «الرسالة المنطقية الفلسفية»، ترجم توا إلى اللغة الإنجليزية ثم ترجم مرارا وتكرارا، ويظل من أهم النصوص الفلسفية في القرن العشرين، ومن أقوى الموجهات التي أثرت على فلسفة العلم. إنه كتاب شديد التميز، عباراته قصيرة حادة مركزة قاطعة حاسمة مرقمة بدقة، لا يمكن قراءتها بسرعة أو فهمها بسهولة.
كان فتجنشتين نموذجا لفئة المنطقي/الفيلسوف، بل هو حاد في الاتسام بالسمة المنطقية. الفلسفة في عرفه إما هي منطقية أو أنها لا شيء وقول فارغ يخلو من المعنى، بله الجدوى. قام بدوره في تطوير وسائل المنطق الرياضي من قبيل قوائم الصدق، ودوال الصدق التكرارية (انظرها في الفصل
الرابع ) انطلق من الرياضيات وله بحث في أصولها، ويقف عمله على أكتاف فريجه ورسل، إلا أنه لا يوضع ضمن أقطاب المدرسة المنطقية في فلسفة الرياضيات، ويظل من أرباب الفلسفة التحليلية. وتحتل «الرسالة المنطقية الفلسفية» موقعا استراتيجيا بالنسبة لدور المنطق في فلسفة القرن العشرين على العموم، وفي فلسفة العلم على الخصوص.
أوضحت «الرسالة المنطقية الفلسفية» أن المنطق ما هو إلا صورة للفكر كما يتمثل في اللغة. إذن فالمنطق ما هو إلا صورة للغة، وكل ما يمكن التفكير فيه يمكن التعبير عنه بوضوح، يقول فتجنشتين:
تهدف الفلسفة إلى التوضيح المنطقي للأفكار، وليست الفلسفة علما
Lehre
إنما هي نشاط. حصيلة الفلسفة ليست عبارات فلسفية، وإنما توضيح للعبارات. يجب أن تعمل الفلسفة على توضيح الأفكار وتحديدها تحديدا قاطعا، وإلا ظلت تلك الأفكار مبهمة وغامضة.
9
هكذا يؤكد على أن الفلسفة مجرد نشاط مهني لتوضيح الأفكار؛ وذلك عن طريق التحليل المنطقي للعبارات التي تصاغ فيها الأفكار وردها إلى عناصرها الأبسط، فتزداد وضوحا ونتأكد من مطابقتها للواقع التجريبي وإلا اعتبرناها لغوا. رأى فتجنشتين أن معظم المشكلات الميتافيزيقية والفلسفية الكبرى ، إذا خضعت لمجهر التحليل اتضح أنها تحير العقول؛ لأنها بلا معنى وليست مشكلات على الإطلاق! الفلسفة بهذا المنظور التحليلي لا تحمل معرفة ولا تضيف جديدا، بل هي توضيح للأفكار ومعركة ضد البلبال الذي يحدث في عقولنا نتيجة سوء استخدام اللغة، معركة سلاحها المنطق الرياضي.
كان موقف فتجنشتين في منتهى الجذرية، فنجده يبحث في إمكانية اللغة أصلا، وما الذي تعنيه العلامات اللغوية؟ في الإجابة على هذا ارتبطت اللغة بالعالم ارتباطا وثيقا، فتمثلت التجريبية في أكثر صورها نصوعا وسطوعا، طبعا بفضل المنطق الرياضي. فقد وضع نظريته التصويرية للغة التي تقوم على تماثل وتطابق هيئة التكوينات اللغوية مع تكوينات الأشياء في العالم التجريبي. إن جوهر اللغة هو جوهر العالم هو الصورة المنطقية العميقة المشتركة بينهما. الغلالة النحوية التي تحكم ظاهر استخداماتنا للغة، تخفي هذا التشارك من حيث تحجب جوهرية البنية المنطقية العميقة للغة. كشفت «الرسالة المنطقية الفلسفية» عن المفاهيم عميقة الجذور المشتركة بين اللغة والعالم، وطبيعة الصورة المنطقية والضرورة والصدق؛ وما إليه من زوايا منطقية محورية.
والمثير حقا أن فتجنشتين وضع في الأربعينيات عمله الآخر المكتوب بنفس طريقة الفقرات القصيرة المرقمة، 693 فقرة، والذي يمثل المرحلة الثانية من تفكيره وهو «بحوث فلسفية»، حيث يتطرف في الاتجاه اللغوي المنطقي إلى آخر المدى مما يمثل انفلاقا واضحا. فلم يعد ينطلق من منطلق الرسالة؛ وهو أن العبارات اللغوية لا بد وأن ترتبط بوقائع العالم التجريبي، بل يولي ظهره لهذا مؤكدا أن العبارات تعتمد أولا وأخيرا على القواعد التي اصطلحنا عليها لاستعمال اللغة، وليس المقصود بقواعد اللغة هنا النحو والصرف والاشتقاق التي يعنى بها علماء اللغويات. القواعد اللغوية التي هي موضوع الفلسفة المنطقية هي قواعد السيمانطيقا
Semantics ، أي التحليل المنطقي لدلالات الألفاظ وقواعد السينتاطيقا
Syntax ، أي التحليل المنطقي لبنية اللغة والتراكيب اللغوية. وأصبح يطلق على مبحث السيمانطيقا والسينتاطيقا معا اسم ما بعد المنطق
Metalogic . والواقع أن أية لغة لا تعدو أن تكون رموزا دالة وقواعد لتركيبها. وبهذا نفهم كيف تتعامل الفلسفة المنطقية مع اللغة من حيث هي لغة لا من حيث هي لغة عربية أو يونانية أو فرنسية أو إنجليزية ...
في فاتحة «بحوث فلسفية» يؤكد فتجنشتين أنه لا يزال يبحث المعنى والفهم والقضية والمنطق وأصول الرياضيات وحالات الوعي وما إليه، بيد أنها عولجت مجددا من اتجاه مغاير.
10
لقد باتت العبارات اللغوية مقطوعة الصلة بالخبرة التجريبية، ولا تعتمد على أية إحساسات يتلقاها شخص ما أو حتى كل الأشخاص. ليس هناك لغة خاصة تعبر عن الخبرة الخاصة؛ لأن مثل هذه اللغة تشير إلى إحساسات فورية خاصة بالمتكلم لا يعرفها سواه، فيستحيل أن يفهمها شخص آخر. «أنا أتألم» ليست لغة بالمعنى الصحيح، هذا التعبير اللغوي عن الألم يحل محل الصراخ والتأوه، وليس توصيفا للألم،
11
أو معرفة به. الخبرة الحسية ليست معرفة أصلا. الوحدة الأولية للمعرفة هي القضية التي تقبل الخطأ أو الصواب والكذب أو الصدق. لا يمكن أن يخطئ المرء وهو يقول: «أنا حزين»، أو «أرى مقعدين في الغرفة»، فلا يمكن أن تكون المدركات الحسية موضوعا للمعرفة ولا أساسا للغة. أساس اللغة هو فقط قواعدها. هب أنك اعتدت أن تقرن إحساسا معينا بالعلامة «س»، فإن أي تركيز على خبرتك الحسية ذاتها لا يكسب العلامة «س» معنى، إنها تكتسب كل المعنى فقط من القواعد التي نصطلح عليها لاستعمال «س» في اللغة المتداولة بيننا. هكذا كل العلامات اللغوية - كالألفاظ - لا يتوقف معناها على الخبرة الحسية، بل على قواعد اللغة، السيمانطيقية والسينتاطيقية، أي القواعد التي تحكم الدلالات والتراكيب اللغوية.
وبعد أن كانت وظيفة اللغة في «الرسالة» هي تصوير العالم، أصبحت وظيفتها التواصل مع الآخرين. واللغة بهذا المنظور نشاط جمعي مثل المباريات الرياضية، ينبغي أن نتعلم قواعدها تماما كما نتعلم قواعد المباراة الرياضية. يستعمل فتجنشتين مصطلح «مباراة
game » ليعني أن اللغة لها الخصائص الآتية: (1)
الطابع التنافسي. (2)
محكومة بقواعد. (3)
تتطلب مهارات تتفاوت. (4)
ليس لها هدف نهائي، مجال الأهداف مفتوح. (5)
يمكن اعتبار اللغة مجموعة أنشطة مستقلة تماما كما أن المباريات الرياضية أنشطة مستقلة. وهذا لا يعني البتة أن اللغة نشاط تافه أو مجرد تسلية، بل هي الفاعلية الاجتماعية الأم.
ومع هذا الانتقال من وقائع العالم التجريبي في «الرسالة» إلى قواعد اللغة في «بحوث فلسفية» ما زال فتجنشتين مخلصا لهدفه الأولي، وهو أن تكون مهمة الفلسفة التوضيح لنحذف اللغو وينفرد العلم بمجال المعرفة. إننا نتعلم قواعد الدلالة أو السيمانطيقا والتركيب اللغوي أو السينتاطيقا كما نتعلم قواعد مباراة، وعن طريق هذه القواعد يتم تمييز المعرفة العلمية واستبعاد الميتافيزيقيات التي يتسع لها النحو، بينما هي خالية من المعنى. «حتى إذا تساءلنا لماذا يهتم الفيلسوف بدراسة قواعد مباريات اللغة؟ لكان ذلك فقط من أجل التوضيح والتمييز بين اللغو وبين الكلام ذي المغزى»؛
12
أي المنطق والرياضة والعلوم الطبيعية وسائر العبارات التجريبية. جميعها يسير التعبير فيها تبعا لإرشادات تخطيطية مجردة، وتبني لنفسها سياقها الخاص الذي يسير بواسطة فروض مطروحة بوضوح في إطار للعمل أو البحث. ويمكن الحكم على انتماء العبارات لهذه المجالات وفقا لاقتفاء العبارات قواعد السير فيها، أي قواعد التعبير اللغوي. وإذا أخذنا عبارة علمية أو منطقية كنموذج للوضوح وكمورد نهائي للصدق الأصيل، سوف نستطيع تحديد القواعد اللغوية للتمييز، وسوف يتجه تصورنا للوضوح نحو نوع من الصفاء الفطري الخالص.
13
لقد رأينا بادئ ذي بدء أن نشأة النزعة الاستقرائية، وفلسفة العلم إجمالا كانت بهدف تمييز المعرفة العلمية، ويأتي فتجنشتين متسلحا بالمنطق الرياضي؛ ليجعل التعبيرات التجريبية هي كل الكلام ذي المغزى وما عداه لغوا، ويحقق هدف التمييز عن طريق قواعد التعبيرات اللغوية، فلا غرو أن يصر إصرارا على قصر الفلسفة على منطق اللغة، متخذا موقفا غاية في القسوة والعنف من بقية امتدادات الفلسفة وفروعها - خصوصا الميتافيزيقا - يهدف إلى استئصالها جميعا بضربة واحدة!
يقول هنريك فون رايت إن المناطقة والرياضيين على السواء قابلوا إنجاز فتجنشتين ببرود. لعل كارل بوبر يفوق زملاءه المناطقة في هذا، فقد أسرف في رفض دعاوى «الرسالة المنطقية الفلسفية»، أما «بحوث فلسفية» فيصفه بوبر بأنه غث وتافه ومضجر! وأنه لا يجد فيه ما يستحق الاتفاق أو الاختلاف! ولا نندهش فديدن الفلسفة دائما هو الرأي والرأي الآخر، ومهما كان هذا الرأي أو ذاك فالذي لا شك فيه أن «الرسالة المنطقية الفلسفية» بالذات ظلت باقية وأعيد إحياؤها المرة تلو المرة، في الفلسفة المنطقية وفي تطورات النظرية اللغوية، ومن ناحية أخرى في فلسفة العقل التي تستلهم الكومبيوتر كما تتمثل في العلوم المعرفية ودراسة الذكاء الاصطناعي، وكان تأثيرها الأقوى في فلسفة العلم. ويظل فتجنشتين بمنطقه الصارم صاحب أخطر رسالة لغوية تلقتها الفلسفة.
كانت المحصلة القوية لفلسفة فتجنشتين في التيار التحليلي العريض، وأقوى مدارسه الوضعية المنطقية. هذا التيار كثيرا ما ينعت بأنه أهم تيارات الفلسفة في القرن العشرين، وإليه تعود الصبغة المنطقية القوية فيها. يلزم التوقف إزاء الفلسفة التحليلية وفيلسوفها برتراند رسل، ثم الوضعية المنطقية التي انسلت عنها لتمثلها في فلسفة العلم، بكل القوة والمضاء. وقبل أن ننتقل إلى هذا وذاك، نختم حديثنا في هذا الجزء من الفصل بنظرة شاملة على مآل ومسير المنطق حتى نهاية القرن العشرين.
أهم تطور حدث في المنطق بعد الحرب العالمية الأولى أتى من المدرسة المنطقية البولندية التي أسسها في وارسو، في فترة ما بين الحربين العالميتين أحد تلاميذ برنتانو وهو تفاردوفسكي
K. Twardowiski (1866-1938م) لتعكف على المنطق الحديث وأبعاده في الفلسفة وأصول الرياضيات، استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية لتتفكك بوفاة وهجرة أعضائها، بعد أن تنجز خطى تقدمية محورية، لعل أهمها ظهور المنطق المتعدد القيم
many-valued logic
لا يعرف المنطق الأرسطي التقليدي إلا قيمتي الصدق والكذب، القضية إما صادقة وإما كاذبة والقيمة الثالثة ممتنعة. أما المنطق الرياضي الحديث فلا بد وأن يعمل بقيم متعددة، فهو تحليلي يرد القضية إلى مكوناتها، كل مكون صادق أو كاذب، أما القضية في حد ذاتها فقد لا يمكن الحكم عليها بهذا أو ذاك. إذن ظهرت قيمة ثالثة، فضلا عن القيم المتعددة لحساب الاحتمالات بين قيمتي الصدق والكذب. لا ينفصل هذا عن بعث وإحياء منطق الجهة
Modal Logic ؛ أي الحكم على القضية من جهة الضرورة أو الإمكان أو الامتناع. وهذا مبحث عني به أرسطو والمناطقة العرب - خصوصا الفارابي وابن رشد - ثم أهمله جورج بول وفريجة. فلم يكن منطق الجهة محط اهتمام في مرحلة نشأة المنطق الرياضي. وفي العشرينيات بعثته البحوث السيمانطيقية مجددا وأعادت إحياءه. وكان هذا أساسا في إطار نقد منطق برتراند رسل. إن أعمال رسل ذات مردودات وحصائل لا أول لها ولا آخر، إنه عملاق في الفلسفة وفي الرياضيات على السواء. وقد رأينا كيف مثل المنطق الحديث معاملا مشتركا بينها.
منذ أرسطو وحتى يومنا هذا، المنطق جزء لا يتجزأ من دراسة الفلسفة، وهو الجزء الأهم، سار المنطق التقليدي في سياق مختلف عن الرياضيات، أما المنطق الحديث فيحتل مكانته في أقسام الفلسفة وأقسام الرياضيات على السواء بمختلف الجامعات في شتى أنحاء العالم. ولم يكن انضمامه للأسرة الرياضية سهلا، هذا ألفرد تارسكي
A. Tarski (1901-1983م) صاحب الإنجازات الحاسمة في مبحث ما بعد المنطق خصوصا السيمانطيقا وما بعد اللغة وما بعد الرياضيات والمنطق المتعدد القيم، ووصل إلى تعريف حاسم لمفهوم الصدق، وهو على الإجمال من أبرز رجال المدرسة البولندية، هاجر بعد تفككها إلى الولايات المتحدة. ويحدثنا تارسكي عن الصعوبات التي واجهته لكي يجعل المنطق تخصصا موقرا في أقسام الرياضيات بجامعة باركلي. على العموم، احتل المنطق الآن موقعه بين علوم الرياضيات في مختلف الجامعات.
في «برنكبيا ماتيماتيكا» يلتحم المنطق مع الرياضيات تماما، في إطار نسق موحد يبدأ من حساب القضايا وينتقل إلى حساب الفئات ثم العلاقات، ويتدرج دون أدنى فجوة أو قطع إلى الحساب العددي منتقلا منه إلى بقية فروع الرياضيات كما نسقها المذهب الحسابي لفريجه في تسلسلها عن العدد الصحيح. نحن هنا لا نستطيع أن نقول أين انتهى المنطق وأين بدأت الرياضيات.
14
لذلك أصر فتجنشتين على أن المنطق بأسره جزء من الرياضيات. وأوضح رسل أن المنطق يأخذ من الفلسفة، بخلاف التطبيق والتفعيل في المجالات العقلية الواسعة، فقط البدايات والأسس والأصول والقواعد، ثم يتوغل في متاهات قاصرة على الرياضيات. ومع هذا، ما أن انضم المنطق إلى الأسرة الرياضية الأرستقراطية الجليلة، إلا وراح يثير غبار الشك على أفرادها الموقرين، وتكفي مبرهنة كورت جودل الشهيرة التي أثبتت عنصرا من اللااكتمال في الإنساق الرياضية. فهل لهذا كان المنطق - خصوصا في الثلث الأول من القرن العشرين - قوة هائلة تجذب الطلبة الواعدين من أقسام الرياضيات إلى أقسام الفلسفة؟
رأينا هذا يحدث لفتجنشتين، ويشبه ما حدث لبرتراند رسل نفسه. فقد التحق بجامعة كمبردج في أكتوبر 1890م واختار دراسة الرياضيات وحصل على إجازته فيها بعد ثلاث سنوات. رأى رسل أسلوب التدريس في كمبردج عقيما ومجرد حشد للأذهان بحيل بارعة تمثل إهانة لذكاء الطالب، حتى بدت الرياضيات بأسرها أمامه مثيرة للغثيان! يقول رسل:
لما انتهيت من آخر امتحاناتي في الرياضيات عند نهاية سنتي الثالثة في كمبردج، أقسمت ألا أنظر بعدها إلى الرياضيات، وبعت كل كتبي الرياضية، وفي هذه الحالة النفسية والعقلية واجهتني الفلسفة بكل البهجة التي يبتهج بها الهارب من نفق إلى واد مزدهر فسيح.
15
وأيضا الفيلسوف الكبير ألفرد نورث هوايتهد، أستاذ رسل ورفيقه في «برنكبيا ماتيماتيكا» وصاحب الرؤية العضوية العميقة للطبيعة في إطار فلسفة شاملة للعلم، كان هو الآخر أستاذ رياضيات بارزا في كمبردج ولندن، وانتقل من الرياضيات إلى أصولها إلى المنطق الرياضي والفلسفة المنطقية، ثم الفلسفة إجمالا حتى فلسفة الحضارة وفلسفة التربية، وسافر عام 1924م إلى جامعة هارفارد العريقة أستاذا للفلسفة بها ومكرسا لها بقية حياته، وهو لم يتلق دراسة نظامية في الفلسفة، ولا حصل على شهادة فيها.
تأثير المنطق كقوة جذب للعقول النابهة من رحاب الرياضيات إلى رحاب الفلسفة لا يقتصر على طبقة وايتهد ورسل وفتجنشتين، بل حدث كثيرا حتى كان مألوفا في ألمانيا - كما يخبرنا فون رايت - أن يهجر الطلبة النابهون أقسام الرياضة ذاهبين إلى الفلسفة بفعل سحر المنطق.
وفيما بعد خف هذا كثيرا، وكما أوضحت ثورة العلوم الرياضية في الفصل السابق، مثلت مبرهنة كورت جودل التي طرحت في أوائل الثلاثينيات منعطفا حادا في توجهات العقل الصوري. وبعدها فقد البحث في أصول الرياضيات كثيرا من سحره وجاذبيته، وفقدت الأحلام العظيمة للمنطقيين والصوريين والحدسيين بهاءها ورونقها، لكن بعد أن تخلف عنها هذا العلم المهيب: المنطق الرياضي الذي أجادت فلسفة القرن العشرين تشغيله واستثماره والاستفادة منه. ومن قبل ومن بعد، فإن المنطق الرياضي نهض على أكتافه عملاق القرن العشرين والقرون التالية - أي الكومبيوتر - في برمجياته أو جانبه المرن
Soft-Ware
وفي عتاده أو جانبه الصلب
hard-ware
على السواء.
وإذ يودعنا القرن العشرون، يبدو المنطق - كما يلاحظ فون رايت - وكأنه يلحق بمصير مباحث عديدة - بدءا من الفيزياء ووصولا إلى علم النفس - تنفصل عن الفلسفة وتصبح علوما مستقلة. فلم يعد المنطق الآن مرتبطا بالفلسفة كما كان طوال تاريخه، وبعد تطوراته المتتالية أصبح علما مستقلا ووثيق الصلة بالرياضيات وبعلوم أخرى استحدثت على مسرح القرن العشرين مثل علوم الكومبيوتر والدراسات المعرفية والسيبرناتيكا واللغويات العامة، وجميعها أصبحت مباحث تنحدر بشدة تجاه الرياضيات، إلا أن فون رايت يقول:
إن الفلسفة تزدهر في غسق الغموض، وستظل ثمة جوانب غامضة في المنطق في حاجة إلى جهود الفلاسفة، فلن ينفصل عن الفلسفة أبدا، وسيظل الفلاسفة يجدون في المنطق نسيجا لأثواب ميتافيزيقية قشيبة، ولكن لا أعتقد أن المنطق سوف يلعب مرة أخرى دورا جسيما وهائلا كهذا الذي لعبه في فلسفة القرن العشرين. فقد كان القرن العشرون العصر الذهبي للمنطق.
16
ثالثا: برتراند رسل والفلسفة التحليلية
من العوامل التي جعلت القرن العشرين عصرا ذهبيا للمنطق أن شهد هذا القرن برتراند رسل
B. Russell (1872-1970م) الذي رأيناه عملاق الفلسفة وعملاق الرياضيات على السواء، فأينعت الثمار في المعامل الذي أضحى مشتركا بينهما وهو المنطق. وقدم لنا رسل فلسفة علمية بلغت الذروة في تسلحها بالمنطق الرياضي. والواقع أن رسل على وجه التحديد هو الذي علم فلسفة القرن العشرين كيف يمكن أن تصبح التجريبية منطقية. على العموم اجتمعت صفحات سابقة في مواضع متفرقة على التنويه بدوره الكبير في فلسفة هذا القرن، منذ رؤيته للعلية ومشكلة الاستقراء حتى كتاب «برنكبيا ماتيماتيكا» والمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات والإسهام الحاسم في ثورة العلوم الرياضية، وفي المنطق الرياضي وفي جعل فلسفة القرن العشرين مصطبغة بالصبغة المنطقية ... والآن نلتقي به عن كثب أكثر.
ولد برتراند آرثر وليم رسل لأسرة أرستقراطية عريقة من أرفع طبقات المجتمع الإنجليزي، وتولى جده رئاسة الوزارة ثلاث مرات، وقبل أن يبلغ عامه الرابع كان قد فقد أبويه، تعهدت جدته ذات الصرامة الأرستقراطية بتربيته وتنشئته وتثقيفه، لم ترسله إلى أية مدرسة نظامية، وقامت بتعليمه في المنزل بمساعدة مدرسين خصوصيين، على عادة الطبقة الرفيعة في إنجلترا آنذاك. تبدى نبوغه في الرياضيات، وهو بعد طفل يرفل في مدارج الصبا ويتلقى دروسه في الحساب والهندسة من أخيه الأكبر والوحيد، ويشكك في بديهيات إقليدس. ولعل هذه الشكوك هي ما أدت في النهاية إلى «برنكبيا ماتيماتيكا» وما تلاه. التحق بجامعة كمبردج عام 1890م ليدرس الرياضيات، وعين عام 1910م محاضرا بها، وفي عام 1916م فصل منها وصدر حكم بحبسه ستة أشهر؛ لأنه معارض لدخول إنجلترا الحرب العالمية الأولى ورافض لسياستها الاستعمارية. بعد انتهاء الحرب سافر إلى الصين وروسيا اللتين زادتا عقليته رحابة وثراء. تبرع بثروته خصوصا لجامعة كمبردج، وتكسب عيشه من كتاباته الغزيرة ومحاضراته العامة. أمضى فترة الحرب العالمية الثانية في أمريكا يحاضر في جامعاتها، وواجهته اعتراضات حادة بسبب دعواه إلى حرية العلاقات الجنسية، وهو الذي تزوج أربع مرات! لكنه حظي باعتراف العالم به كشخصية مرموقة وواحد من أعظم عقول القرن العشرين. وحين عاد إلى وطنه عام 1944م أعيد انتخابه زميلا بكلية ترينتي في جامعة كمبردج. وفي كل هذا كانت إنجازاته الفلسفية تتوالى باطراد معالم بارزة على طريق الفلسفة العلمية في القرن العشرين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى رحيله، لم يأل جهدا ولا فكرا ولا مالا لخدمة قضايا السلام ونزع السلاح النووي وإنهاء الاستعمار والدفاع عن الحرية في كل مكان. آخر ما كتبه - قبل وفاته بيومين - رسالة إلى المؤتمر البرلماني العالمي الذي كان منعقدا بالقاهرة في أوائل شهر فبراير عام 1970م، يندد فيها بإسرائيل ويطالب بانسحابها من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967م، محذرا إياها بأن «الغارات في عمق الأراضي المصرية لن تقنع المدنيين بالاستسلام، بل ستعزز تصميمهم على المقاومة».
17
فقد كان رسل بحق عقل القرن العشرين الصوري المحلل، وروحه العلمية الدافقة، وأيضا ضميره الحي، فلا غرو أن يلقب «بفيلسوف القرن»
18
وبغير منازع.
عاش رسل حياة طويلة عريضة عميقة، القراءة والكتابة في أعقد المواضيع خبزه اليومي ، وظل حتى آخر لحظة محتفظا بتوقده الذهني وقدرته الفريدة على مراجعة نفسه وتعديل مواقفه وتطوير فلسفته. وفي كل حال ظلت رسالته الراسخة التي يصر عليها إصرارا أن تكون الفلسفة علمية تصغي باهتمام لشهادات العلم ، وتستفيد من مناهجه التجريبية والصورية معا، وتتحلى بطبائعه، من هنا كان أكثر العقول تجريدا وتجسيدا لروح القرن العشرين، بآلام مخاضه ثم تطورات نمائه الثورية. استقبل الدنيا عام 1872م في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ليتلقى خلاصة مده، التيار العلمي التجريبي المغرور من ناحية ومد المثالية الألمانية كتيار مواز له من الناحية الأخرى. وقع رسل في إسار كانط وهيجل، ثم انقلب عليهما؛ ليستقبل القرن العشرين وهو في صدر الشباب وأوج النضج ويكون في طليعة الجاعلين عام 1900م عاما حاسما لصالح المد التجريبي، تأكيدا للثابت الباقي في كل المتغيرات والتطورات التي خضعت لها فلسفته، أي الرسالة التي حملها باقتدار وامتياز وأجاد إبلاغها للقرن العشرين، وهي أن تكون الفلسفة علمية، ومن أجل هذا لا بد وأن تصبح التجريبية منطقية.
رأى رسل الفلسفة تتميز عن العلم في أن القضية الفلسفية لا تتعلق إطلاقا بالشيء المتعين في إطار زماني مكاني محدد، إنها ذات عمومية شاملة، مما جعل الفلسفة العقلانية تعين دائما على فهم العالم ككل ما أمكنها ذلك، أما الفلسفة في جانبها الوجداني، فتضع قيما وغايات للحياة. ويؤكد رسل أن مهام الفلسفة لا تختلف باختلاف العصور، والفلسفة حين تصل إلى تصور عام للعالم، إنما تصل بنا إلى أقصى نقطة ممكنة في الابتعاد عن الموقف الإنساني المحدود المتعين في الهنا والآن، في المكان المحدد بالزمان المعين. كل الأنشطة المعرفية - على رأسها العلم - ترتفع بالإنسان عن قوقعته الزمانية المكانية، وتجعل حياته أرحب بأن يترامى تفكيره إلى سعة الأفق الوجودي، فلا ينحصر في موطئ قدميه. التاريخ والجيولوجيا مثلا يبتعدان بالإنسان عن الآن، الجغرافيا والفلك يبتعدان عن الهنا، أما الفلسفة في نظرتها الأنطولوجية «الوجودية» العامة فينبغي أن تستوعب كل هذا وتتجاوزه حين تغامر بوضع تصور عام للعالم أو الكون؛ فذلك هو البحث الشامل الذي تتميز به الفلسفة ولا يستطيعه سواها. وحين تصبح الفلسفة علمية تغدو هذه المغامرة مأمونة ومحسوبة، وأيضا ضرورية؛ لأن العلم في القرن العشرين طرح أمامنا عالما جديدا تماما ومفاهيم ومناهج لم تعرفها الأزمنة الأسبق، وتعد بسبل أكثر خصوبة وثراء من كل ما أتيح للأقدمين.
19
لكي تكون الفلسفة علمية وتتقي جنوحات الخيال وشاعرية الأحلام عليها الالتزام بحدود المنطق وأطره والعمل بأدواته المشحوذة؛ لهذا أكد أن كل المشاكل الفلسفية في جوهرها مشاكل منطقية. حاول أن يتجاوز المنطق الرياضي إلى ما أسماه بالمنطق الفلسفي الذي يعنى بحصر الصور المنطقية والأنواع المتعددة للقضايا وأنماط الوقائع وتصنيف مكوناتها المنطقية. والمنطق الفلسفي أكثر صعوبة من المنطق الرياضي وأهم؛ لأنه هو الذي جعل من الممكن مناقشة القضايا الفلسفية مناقشة علمية، وهذا الجزء الفلسفي من المنطق في حقيقة الأمر نظرية ميتافيزيقية يحاول رسل أن يجعلها منطقية تبدو وكأنها نتيجة لفلسفة الرياضيات،
20
ولم يصل رسل إلى تصوره للمنطق الفلسفي إلا بعد أن أشبع المنطق الرياضي دراسة وتطويرا وتطبيقا، وكل هذا في إطار نزوعه نحو أن تتمنطق الفلسفة بأسرها لكي تكون علمية. وبالتالي لم يصل إلى تصوره المنطقي الخالص الشامل للفلسفة العلمية دفعة واحدة، بل عبر مراحل متعاقبة من التطور الفلسفي، فكيف كانت هذه المراحل؟
بدأت علاقة رسل النظامية بالفلسفة فور انتهائه من دراسة الرياضيات في كمبردج عام 1893م، نفس العام الذي صدر فيه كتاب برادلي «المظهر والحقيقة» ليكون أول ما قرأه رسل، وهو أقوى تمثيل للغزوة المثالية الألمانية التي اجتاحت إنجلترا آنذاك. فوقع رسل بدوره في إسار المثالية الألمانية، ودرس الفلسفة في عامه الجامعي التالي بهذه الروح، وكان أستاذاه هما الفيلسوفان المثاليان ستوت وماكتاجارت الهيجلي الكبير. نمت صداقة بينه وبين ماكتاجارت جعلته يرتاح معه لرؤية هيجل للعالم ككل واحد ومتماسك، ينكر حقيقية المادة أو الزمان والمكان. الحق الوحيد هو المطلق ... إله هيجل، ومن قبل كان أستاذه في الرياضيات وايتهد ميالا إلى كانط. وأيضا سافر رسل مع زوجته الأولى إليس إلى ألمانيا في خريف 1895م، لدراسة الاقتصاد والاشتراكية الديمقراطية. وكان رسل يجيد الألمانية ويتحدثها بطلاقة،
21
لكل تلك العوامل غرق رسل حتى أذنيه في المثالية الألمانية بعملاقيها كانط وهيجل. وسوف نرى كيف كان رسل حتى في هذه المرحلة المثالية الباكرة، التي استمرت فيما بين عامي 1893م و1898م، مخلصا لوعده الصادق بأن تكون الفلسفة علمية، وأن فلسفة العلم هي الممارسة الفلسفية الأصيلة، لنستطيع صياغة المحصلات العلمية بواسطة المناهج الفلسفية.
تجلت المثالية في أول أعمال رسل «مقال في أسس الهندسة 1897م»، وهو بحث نال به رسل درجة الزمالة من كمبردج، بعد أن ناقشه وايتهد وجيمس وارد عام 1896م وأثنيا عليه. وفيه يطرح رسل السؤال الكانطي الشهير: كيف كان علم الهندسة ممكنا؟ وانتهى إلى أنه لا يكون ممكنا إلا إذا كان المكان واحدا فقط من التصورات الثلاثة المطروحة، مكان إقليدس المستوي أو مكان لوباتشيفسكي المقعر أو مكان ريمان المحدب. ولأن الأخيرين لا يستغنيان البتة عن مقياس ثابت للانحناء، بدت الإقليدية هي الهندسة الوحيدة الممكنة، وما كانت الكانطية تسمح بغير هذا. لم تكن نظرية النسبية لآينشتين التي جعلت هندسة ريمان هندسة تطبيقية قد ظهرت بعد لتطيح بكل هذا، فتصور رسل في حينه أنه أرسى التصور الإقليدي للعالم، وأنه حل كل المشاكل الفلسفية المتعلقة بأسس الهندسة!
وإمعانا في الانسياق مع المثالية الألمانية، انتقل رسل من هذا الأساس الكانطي إلى هيجلية ديالكتيكية «أي جدلية تنتقل من القضية إلى النقيض إلى المركب الشامل لكليهما». راح إبان العامين التاليين (1896-1898م) في انشغال عميق بتفسير ديالكتيكي «جدلي» لأسس العلوم الرياضية والفيزيائية على السواء، وخرج مقاله «في العلاقات بين العدد والكمية» ليعلن أنها علاقة انقلابات جدلية، وشرع في معالجة مماثلة لأسس الفيزياء، وانشغل بالمقابلة بين الحركة المطلقة والحركة النسبية، وبأن المادة في حقيقتها تجريد غير واقعي، وليس ثمة علم بالمادة - كالفيزياء - يمكن أن يستوفي الشروط المنطقية، وعلى هذا انتهى إلى تفسير جدلي أو منطق ديالكتيكي لأسس الفيزياء، ينتقل بين الطرفين المقابلين وهما المقولات العقلية والإحساسات، ويرتبط بالمظهر البادي أكثر من ارتباطه بالمنطق الصوري؛ ليكون منهجا لتحويل المظهر إلى حقيقة، بدلا من أن نبني الحقيقة أو الواقع أولا، ثم تواجهنا بعد ذلك ثنائية لا مخرج منها.
22
وكان رسل يأمل في كتابة سلسلة كتب في فلسفة العلم، تتجه تدريجيا نحو ما هو أكثر عينية، فينتقل من الرياضيات والفيزياء إلى البيولوجي، وتوازيها سلسلة أخرى من الكتب بشأن المسائل الاجتماعية والسياسية، تتجه تدريجيا نحو ما هو أكثر تجريدا، عساه أن يحرز في النهاية، بعملية تركيب جدلية هيجلية، عملا موسوعيا يغطي النظرية والتطبيق على السواء.
23
لكنه لم يفعل، فقد انقلب فجأة على هذه المثالية، واعتبر كل ما قاله فيها - خصوصا بشأن أصول الهندسة - لغوا، انقلب إلى النقيض تماما، إلى فلسفة واقعية، انسياقا مع المد التجريبي في مطالع القرن العشرين أو بالأحرى إحداثا له. وكانت هذه الانقلابة في ذلك الأوان هي التي شهدت نشأة الفلسفة التحليلية، ولكننا سنوضح الآن كيف جعلت المنطق الرياضي عصب الفلسفة وجعلت التجريبية منطقية.
بدأت رحلة الخروج من المثالية الكانطية الهيجلية عام 1898م بفعل عدة عوامل، منها أن رسل قرأ كتاب هيجل «المنطق الأكبر» فوجد ما يقوله هيجل عن الرياضة لغوا ناتجا عن رأس مشوشة أو موحلة
muddle
بتعبير رسل! والواقعة العارضة شديدة الأهمية هي أن ماكتاجارت سافر فجأة لزيارة أهله في نيوزيلندة، وعهدت كمبردج إلى رسل بتدريس ليبنتز بدلا من ماكتاجارت، فوجد نفسه منكبا على أعمال ليبنتز. وها هنا اكتشف أن أساس الميتافيزيقا المثالية الواحدية هو المنطق الأرسطي الحملي، منطق الجوهر وأعراضه الذي يعجز عن التعبير عن العلاقات الخارجية، أية علاقة تتحول إلى محمول يحمل على الموضوع فتغدو كيفية مباطنة للموضوع محايثة فيه. من هنا كانت العلاقات داخلية والجوهر واحدا حاويا للكل. هكذا كان المنطق الأرسطي وراء الخديعة المثالية بتصور العالم ككل واحدي وإنكار المادة والتعددية والعلاقات الخارجية. أدرك رسل ضرورة الإطاحة به تماما والأخذ بالمنطق الرياضي النامي حديثا، وهو الذي علم رسل أهمية العلاقات في الرياضة وفي الفلسفة على السواء، وأن إهمالها أدى إلى نتائج وبيلة في كليهما، شن رسل حملته المضرية على المنطق الأرسطي وميتافيزيقاه في سلسلة محاضراته آنذاك والتي حملها كتابه «عرض نقدي لفلسفة ليبنتز 1900م».
كان هذا الكتاب علامة فارقة في مستهل طريق فلسفة القرن العشرين توجهها صوب المنطق الرياضي وتعلمها أنه صلب الفلسفة، فلا بد وأن تكون منطقية. وكان رسل بدوره قد اكتشف بفضل المنطق الرياضي - منطق العلاقات - العالم الخارجي التعددي الذي كان محروما منه بفعل الإسار المثالي الذي يرى العالم مجرد تصور للذات. انقلب رسل إلى الواقعية المفرطة الساذجة
naive
التي تقر بالوجود الواقعي لكل شيء حتى الأسماء الكلية والأعداد ... واستقبل القرن العشرين وهو مفعم بالبهجة والثراء. وبهذه الروح حضر المؤتمر الدولي للفلسفة في يوليو 1900م، وألقى بحثا يؤكد فيه هذا التصور الجديد للعالم الواقعي التجريبي التعددي ذي العلاقات الخارجية. إنه عالم مكون من جماع هائل من الجزئيات المادية والنقاط المكانية واللحظات الزمانية ... كل منها وجميعها حقيقي حقيقية المطلق الهيجلي، وبدلا منه.
كان هذا المؤتمر الهام نقطة تحول في حياة رسل، فقد قابل فيه بيانو لأول مرة، وأدرك دقة تفكيره وخطورة أبحاثه في مفهوم العدد والتصورات الرياضية. أثناء المؤتمر طلب منه رسل أعماله الكاملة ودرسها جميعا، ووجد في منطقه الرياضي أداة للتحليل طال البحث عنها. وحين أتى سبتمبر من هذا العام الحاسم كرسه رسل لتطبيق هذه الأداة التي استقاها من بيانو على منطق العلاقات، وخصص أمسيات سبتمبر لمناقشة هذه الفكرة مع وايتهد، يقول رسل: «سبتمبر 1900م أعلى قمة بلغتها في حياتي.»
24
فمن هذه الأمسيات أتت فكرة «برنكبيا ماتيماتيكا 1910-1913م» إلى الوجود، ويؤكد رسل أن تركيز الاهتمام على منطق العلاقات أخطر الدلالات الفلسفية لهذا العمل الجبار.
كان رسل قد عكف منذ أكتوبر 1900م على عمله الأسبق «أصول الرياضيات 1902م»،
25
وهو يحمل محاولات لرد الرياضيات إلى المنطق، محاولات مليئة بأوجه قصور تجاوزها برفقة وايتهد في «برنكبيا ماتيماتيكا». بيد أن «أصول الرياضيات» يحمل أقوى تجسيد لهذه المرحلة الواقعية من فلسفة رسل، يحمل أيضا العلامة الفارقة وهي تآزر المنطق والفلسفة. منذ هذا الكتاب فصاعدا سوف تصبح فلسفة رسل فلسفة منطقية وحججها قائمة على أساس المنطق الرياضي، وسوف يحمل رسل بامتياز وريادة هذه البطاقة النادرة التي طبعها القرن العشرون، بطاقة المنطقي/الفيلسوف الذي يمنطق الفلسفة.
وكما رأينا كان المنطق هو الذي رسم لرسل العالم الواقعي المفرط في واقعيته حتى امتدت إلى فلسفته للرياضيات، فجعل كياناتها واقعية، عبر رسل عن هذا بقصة طريفة تدور حول حلم تراءى لعالم رياضيات، لم تكن الأرقام فيه مجموعات جامدة كما كان يظنها من قبل، بل كائنات تنبض بالحياة، الأعداد الفردية مذكرة والزوجية مؤنثة، كلها تتراقص وتنشد:
نحن الأعداد المتناهية ... خامة هذا الكون
تفعل الفوضى ما شاءت ... ونحن نحيل الأرض بسيطة
ونبجل أستاذنا فيثاغورث ... ونعمنا بتكريم الخالد أفلاطون
نكره الحمقى الأفاقين ... ويعرف كل الناس أنا نبع الحكمة.
وتسير أحداث القصة بحيث يندفع في النهاية جيش الأعداد العرمرم صوب أستاذ الرياضة في ثورة عارمة، ويستبد به الرعب هنيهة، ما لبث بعدها أن تمالك نفسه وصاح بصوت جهوري: ابتعدوا عني فما أنتم سوى رموز ملائمة. ثم استيقظ من نومه،
26
في إشارة إلى انقلابة رسل بعد ذلك على هذه الواقعية المفرطة.
فقد ظل رسل ينعم بهذا التصور الواقعي الزاخر، حتى قال له وايتهد ذات مرة: «إنك ترى العالم كما يتراءى في ظهيرة يوم مشرق بديع، أما أنا فأراه كما يبدو في بكرة الصباح ساعة يصحو المرء من نوم عميق.»
27
وراح وايتهد يوضح له كيف أنه يستعمل المنطق الرياضي في عالمه الغامض كصباح لندن ذي الضباب الكثيف، فهب رسل من سباته على صدر الواقعية الوثير؛ ليجد وايتهد يعلمه منهاجا منطقيا لبناء الجسيمات المادية والنقاط المكانية واللحظات الزمانية بوصفها مجموعات من الأحداث، كل حدث ذي امتداد متناه في المكان وديمومة متناهية في الزمان. وهذا يعني أن الأحداث
events
هي خامة العالم، أما الجسيمات والنقاط واللحظات التي ترتد جميعها إلى الأحداث، فينبغي استئصالها وحذفها بواسطة «نصل أوكام».
هكذا تعلم رسل من وايتهد استخدام «نصل أوكام» وهو قاعدة منهجية تعني التقليل من الفروض والكيانات التي لا تدعو الحاجة إليها وحذفها تحقيقا لمبدأ الاقتصاد في التفكير. فإذا كان لدينا الكيانات «أ وب وج» وأمكن رد «ج» إلى «أ وب »، حذفنا «ج» لنعمل بكيانين بدلا من ثلاثة. وفيما بعد سيجعل رسل «نصل أوكام» القاعدة العليا للتفلسف العلمي؛ لأنه القادر على جعل التصورات الفلسفية أصفى وأنقى. وحين حذف النصل الجسيمات والنقاط واللحظات، وأبقى فقط على الأحداث أمكن التوفيق في كل منسجم بين الإدراك الحسي وبين فيزياء القرن العشرين التي ابتعدت تماما عن التصورات العادية للحس المشترك. أوضح نصل أوكام قدرة المنطق الرياضي على تصفية الأنطولوجيا وتطويرها، واكتشف رسل - بفضل وايتهد - القوى الفلسفية الجبارة للمنطق الرياضي، وأن الأمر لا يقتصر على منطق العلاقات، فثمة نصل أوكام وتطبيقه بمنهج البناء المنطقي وهو التخلص من كيانات مستدل عليها، أي غير واضحة، فنحل محلها بناء منطقيا من كيانات تجريبية نكون على معرفة مباشرة بها من قبيل المعطيات الحسية، وثمة أيضا اللغة الرمزية المثالية للتعبير عن هذا تعبيرا منطقيا؛ كل تلك الأدوات المنطقية تمثل عتاد الفلسفة التحليلية، وعن طريقها تصبح التجريبية منطقية.
أخذ رسل عن وايتهد أن العالم مكون من أحداث
events ، وبتطبيق تلك الأدوات المنطقية عليها أصبحت الأحداث محايدة لا هي عقل ولا مادة، بل شيء مختلف عن كليهما وأسبق منهما. إنها نظرة واحدية محايدة تقضي على الثنائية الديكارتية ثنائية العقل والمادة، وتختلف عن الواحدية المثالية التي تقر بجوهرية العقل فقط، وبنفس القدر تختلف عن الواحدية المادية التي تقر بجوهرية المادة فقط، والتي اقترنت بالفيزياء الكلاسيكية.
في واحدية رسل المحايدة قد تبدو الظواهر العقلية مختلفة عن الظواهر المادية، إلا أن كليهما أبنية منطقية من نفس الخامة وهي الأحداث المحايدة. كلاهما خطوط أو سلاسل من أحداث تنظمها قوانين علية. العلية ليست قوة إجبار وإحداث كما كانت في الفيزياء الكلاسيكية، بل أصبحت مجرد قوانين للتعاقب، وهي بهذا المفهوم الواسع تضم كل القوانين التي تربط الأحداث في مختلف الاتصالات الزمانية المكانية. السلسلة العلية خط من الأحداث نستطيع أن نستدل من أية حادثة فيه على شيء ما يتعلق بحادثة أخرى في نفس السلسلة أو الخط العلي شبه المستقل. الإدراك الحسي بوصفه مصدرا للمعرفة المتعلقة بالعالم الفيزيقي مستحيل بدون السلاسل العلية شبه المستقلة.
28
هناك قوانين علية تنظم سلاسل الأحداث في صور ذهنية
images
فتكون ظواهر عقلية وموضوعا لعلم النفس، وهناك قوانين علية أخرى تنظمها في هيئة إحساسات
sensations
فتكون ظواهر مادية وموضوعا لعلم الفيزياء.
29
اقترنت الأحداث المحايدة باسم رسل؛ لأنه هو الذي صاغها صياغة منطقية دقيقة بفضل أدواته المشار إليها آنفا، وهي نصل أوكام والأبنية المنطقية واللغة المثالية الرمزية. لكنها كانت شائعة من قبل بين فلاسفة الواقعية الجديدة في أمريكا وعلى رأسهم وليم جيمس، وأيضا تشونسي رايت
C. Wright (183-1875م) ورالف بارتون بيري
R. B. Perry (1876-1957م) فضلا عن نفر من فلاسفة القارة الأوروبية أهمهم إرنست ماخ. رسل نفسه يطلق على الواحدية المحايدة اسم «فرضية ماخ وجيمس». قام ماخ في كتابه «تحليل الإحساس 1886م» بتحليل الأشياء الفيزيقية إلى عناصر أسماها الإحساسات ما دمنا نكتشفها من الخبرة الحسية، وليست الإحساسات علامات على الأشياء، بل الشيء هو الذي يعد رمزا فكريا لإحساسات ذات ثبات نسبي. والإحساسات ليست ذهنية ولا هي فيزيقية، إنها محايدة وتشكل النسيج الذي يتألف منه العالم. وهذا الذي بلغه ماخ من خلال الفيزياء بلغة وليم جيمس من خلال علم النفس. فمن أجل تجريبيته الجذرية أراد جيمس الوصول إلى تصور للعالم لا يسمح بدخول أي عنصر غير تجريبي لا يقع في الخبرة، وبهذا تغدو الخبرة الخالصة هي الخامة الواحدة والوحيدة التي يتركب منها كل شيء في العالم، عقلي أو مادي، وهي مختلفة عن كليهما.
إحساسات ماخ أو خبرات جيمس أو أحداث رسل، خامة واحدة لا هي عقل ولا هي مادة، بل محايدة بينهما، ويتشكل كلاهما منها. تلك هي الواحدية المحايدة، فلسفة العالم التعددي تعددية أحداثه البالغة الكثرة، والتي تمثل أساسا أنطولوجيا ملائما للعلم التجريبي. وبعد أن كان رسل ينتقد جيمس ويرفض خبراته المحايدة، انقلب فجأة في عام 1919-1920م ليسلم بها ويثني على جيمس الثناء الجميل ويعتبره من أهم الأعلام المشكلين لفلسفة القرن العشرين.
لماذا كان هذا الانقلاب من رسل؟ الإجابة: لأن عام 1919م شهد نصرة النظرية النسبية لآينشتين التي أوضحها الفصل السابق، حين خضعت للاختبار التجريبي العسير واجتازته بفضل بعثة آرثر إدنجتون. كان شغف رسل بالغا بمتابعة أخبار وتفاصيل هذه البعثة، وانفعاله بنتائجها عميقا حتى مر عليه وقت - على حد تعبيره - رأى فيه أي شيء بخلاف النسبية لا يستحق اهتماما وندم على أعوام عمره السابقة، التي أنجزت ما أنجزت؛ لأنه أنفقها في غير مجالات النظرية النسبية! على العموم يسير رسل في الاتجاه العام لفلسفة العلم في القرن العشرين ويعتبر الفيزياء أخطر العلوم وأهمها والبوصلة الموجهة للعقل العلمي ومحور فلسفة العلم.
الواقع أن النظرية النسبية هي التي جعلت رسل يقلع تماما عن أية ثنائية للعقل والمادة ويأخذ بالتصور الواحدي المحايد للعالم؛ لأن النظرية النسبية تملي الأحداث المحايدة. لقد أطاحت بالانفصال التقليدي بين مفهومي الزمان والمكان، وأحلت بدلا منهما المتصل الزماني/المكاني الرباعي الأبعاد، وهو ليس كيانا واحدا يحل محل كيانين وليس شيئا وليس مسرحا جديدا للحدوثات، بل هو نظام من العلاقات بين الأحداث، يهدم تماما التصورات التقليدية عن التتابع الزماني والتجاور المكاني، وعن المادة بوصفها مكونة من جزئيات عبر آنات الزمان في نقطة من المكان. يبين رسل الواحدية المادية والواحدية المثالية كلتيهما ذات فكرة مرتبكة عن المادة، أصحابهما عاشوا عبيدا لتصور الزمان والمكان ككيانين منفصلين، فتصوروا المادة حدثا في المكان والعقل حدثا في الزمان،
30
تملي علينا النسبية الإطاحة بكل هذا، فلا يبقى إلا أحداث محايدة. الحادثة لا تبقى ولا تتحرك كقطعة المادة، إنها توجد ثم تنتهي، فتنحل قطعة المادة إلى سلسلة من الحوادث، والجسم سلاسل من هذه الحوادث، الجسم هو تاريخه وليس كيانا ميتافيزيقيا يحمل تلك الحوادث، تماما كما أن العقل هو تاريخ سلاسل أحداث وليس كيانا ميتافيزيقيا،
31
الكوانتم أيضا تملي علينا هذا، فقد ارتدت الذرة إلى إشعاعات، إلى سلاسل من الأحداث، ولا سكون البتة في قلب الذرة، ولا وجود للشيء أو الجوهر المادي. ولعل المخ أبعد منا عن المادة؛ لأننا أكثر جهلا به، وكل ما يعرفه عالم الفيزيولوجيا عن المخ ما هو إلا نتاج سلاسل أحداث واتصالات علية أعقد وأطول.
هكذا نجد أن تصور عالم من أحداث محايدة ، تكاتفت لتشييده أربعة علوم هي: المنطق الرياضي والفيزياء وعلم النفس والفيزيولوجيا. وكان انعكاسا لكشف العلم عن الطبيعة الذرية لكل شيء، وقد وجد صياغته الدقيقة عام 1918م في مذهب الذرية المنطقية
Logical Atomism
الذي يعتز به رسل كثيرا، فيؤكد دائما أنه لا يرتبط إلا ببطاقة فلسفية واحدة هي أنه ذري منطقي، عالم الأحداث المتكثر يتشكل في هيئة وقائع ترتبط بعلاقات، الواقعة هي شيء معين له كيفية معينة، أو أشياء معينة ترتبط بعلاقات معينة، الواقعة ترسمها القضية الذرية التي تعبر عن الشيء الواحد في نقطة معينة من المكان ولحظة معينة من الزمان. أما إذا ارتبطت واقعتان أو أكثر فإن القضية التي تسميهما هي القضية الجزيئية. ويعترف رسل بأنه يدين في هذا المذهب كثيرا لتلميذه وصديقه فتجنشتين، فهو مذهب مشترك بينهما، طوره كل منهما تطويرا خاصا به، بدا عند فتجنشتين أكثر تطرفا.
تلك هي أنطولوجية رسل أو تصوره للعالم، هيكل فلسفته العلمية التحليلية التي علمت القرن العشرين كيف تكون التجريبية منطقية. إنها تجريبية تختلف اختلافا كبيرا عن تجريبية القرن الأسبق الفجة التي راودت رسل أيام واقعيته الساذجة المفرطة، وقد كان إمامها جون ستيوارت مل صديقا لوالديه، وكان أباه في العماد، وبنفس القدر تختلف التجريبية المنطقية عن مثالية برادلي وسواه التي ترى العقل وحده بمنطقه كفيلا بإدراك العالم ولا حاجة لمعطيات الحواس، فتطيح بالتجريبية من أساسها.
كان رسل مثاليا، ثم انقلب إلى النقيض إلى الواقعية الساذجة، وفي مرحلة ثالثة افترق عن الواقعية؛ ليصل إلى مركب جدلي شامل يختلف عن المثالية وعن الواقعية يجمع خير ما فيهما ويتجاوزهما إلى الأفضل، مما يجعل تجريبية القرن العشرين تقدما فلسفيا ملحوظا. إنها تستبقي مساحة ما من المثالية، من حيث ترهن وجود العالم بقوى الإدراك، وترى المعرفة الأصل الذي ترتكز عليه نظرية الوجود، فترتد الأنطولوجيا إلى الإبستمولوجيا. إن أسبقية المعرفة على الوجود هي عنصر مثالي.
رأينا مع رسل أن نوع سلسلة الأحداث يتحدد تبعا للنظرية العلية للإدراك، فإذا كانت إحساسات أي مدركة عبر أعضاء الحس فالعلة مادية فيزيقية تجعل سلسلة الأحداث مادية منتمية لعلم الفيزياء، وإذا كانت صورا ذهنية، أي مدركة عبر علية مركزية في المخ والذاكرة فالسلسلة علية سيكولوجية منتمية لعلم النفس. إذا التمييز بين العقل والمادة ليس خاصة كامنة في أيهما، بل يتوقف على طريقة إدراكنا للشيء. ولما كان هذا الإدراك يحدث في ذهن الإنسان، فإن التمييز بين الحوادث التي تشكل العالم بأسره يكون في ذهن الإنسان، بل الحوادث ذاتها في ذهن الإنسان! فنحن لا نعلم شيئا عن العالم إلا استدلالا مما يقع في خبرتنا، فلا نستطيع القول: إن العالم المادي خارج رءوسنا يختلف أو لا يختلف عن العالم العقلي داخلها؛ لأنه لا عالمين أصلا، بل مجاميع أحداث ترتبط بروابط علية مختلفة. يعقب رسل على هذا وتأثيره على التجريبيين الخلص بقوله: «قد أفزعت الفلاسفة بقولي إن أفكارهم في رءوسهم، وراحوا يؤكدون في صوت واحد أن رءوسهم ليس فيها أفكار قط، لكن الأدب يمنعني من قبول هذه القضية.»
32
إننا إزاء ما يمكن وصفه بالتجريبية المثالية، وكان المنطق هو القادر على تطعيم التجريبية بعنصر مثالي، يحد من غلوائها الاستقرائي وتطرفها المغرور، ما دام المنطق في أصله علم قوانين الفكر. والرائع حقا أن تطورات العلم وفلسفته ونظريته المنهجية في القرن العشرين تبارك هذه التجريبية المثالية، من حيث نجعل الفرض قبل الملاحظة، والعقل قبل الواقع.
سوف تغمر مثل هذه التجريبية المنطقية المثالية فلسفة العلم في القرن العشرين، وكان رسل هو القادر على شق الطريق المنطقي للتجريبية. وكما يقول فيلسوف التحليل جيلبرت رايل
G. Ryle (1900-1976م) كان رسل دائما ذلك المخلوق النادر، الفيلسوف الموزع بين الترانسندنتالية المتعالية والنزعة الطبيعية. القمم المثالية لأفلاطون وليبنتز وفريجه تتنازعه، تماما كما تتنازعه وديان هيوم ومل وجيمس، أو أنه موزع بينهما. ومنذ يفاعة الصبا تشكلت عقليته بأصابع جون ستيوارت مل من ناحية وبصمات الرياضة البحتة من الناحية الأخرى. وفي سنوات إنتاجه المتميز لم يكن مستكنا على قمم المثالية، ولا كان هاجعا في وديان التجريبية، وأيضا لم يكن متأرجحا كالبندول بينهما، الحق الصراح أنه كان دائم البحث عن طريق آمن وممهد بينهما ، ربما كان أكثر ارتياحا للسفوح التجريبية، لكنه لم يهجر القمم المثالية أبدا. وكان منذ البداية يأمل في أن يجمع بين النزعة العقلية المثالية كما تتجسد في المنطق والرياضيات وبين النزعة الحسية كما تتمثل في التجريبية؛ ليصل إلى إطار تتلاءم داخله المكتشفات الثورية للعلم.
وأصبح رسل هذا الفيلسوف المنطقي، وقدم فلسفته العلمية التحليلية، الذرية المنطقية، التي كانت قوة موجهة لفلسفة العلم في القرن العشرين. وقد وقفنا على هيكلها الأنطولوجي المتمثل في نظرية الأحداث المحايدة. أما فلسفة العلم ذاته عند رسل فلم تكن بهذه القوة والمضاء. لعل أهم ما فيها أنه وضع خمس مصادرات للمنهج التجريبي هي: (1) الثبات النسبي، (2) الاستدلال الزمكاني، (3) السلاسل العلية شبه المستقلة، (4) المصادرة البنائية، (5) مصادرة التمثيل. وبنظرة عميقة لوحظ أنها جميعا - باستثناء التمثيل - بمثابة خصائص للأحداث المحايدة.
33
وتأتي نظرية رسل للمنهج التجريبي - التي يمكن اعتبارها الفلسفة المباشرة للعلم - أقل من العادية. وتتلخص في أنه أيام واقعيته الساذجة وحتى ظهور نظرية النسبية العامة اعتبر الاستقراء التقليدي المرتكز على مبدأي العلية الكونية واطراد الطبيعة هو منهج العلم، على الرغم من تأكيده أن مشكلة الاستقراء غير قابلة للحل، مما يعني الشك في أسس الاستقراء وصحته. وبحكم طبائع التطور في القرن العشرين فقد الاستقراء التقليدي هذه المكانة، وتمسك رسل بالمنهج الفرضي الاستنباطي الذي يبدأ بفرض ثم نستنبط منه جزئيات تكون محل الاختبار التجريبي. كما بحث رسل نظرية الاحتمالات وخصائص المعرفة العلمية، وأيضا «أثر العلم في المجتمع»، وهذا عنوان كتاب ممتع له مترجم إلى العربية. أخرج رسل معالجة مبكرة وقوية لمبدأ الاستقراء ومشكلته في كتابه «مشكلات الفلسفة 1912م»، وينتهي منها إلى أن القوانين التجريبية لا يمكن أن تكون إلا احتمالية، فنهض جمع من فلاسفة العلم الشبان في كمبردج يعالجون منطق العلم التجريبي، ويحاولون إنقاذ الاستقراء كتبرير للمعرفة العلمية على أساس حساب الاحتمالات، كلما زادت الوقائع التجريبية المفضية إلى القانون كلما زادت درجة احتماليته. أبرز هؤلاء جونسون
W. E. Johnson ، وجون ماينارد كينز
J. M. Keynes
قبل أن يتحول إلى الاقتصاد وهارولد جيفرييز
H. Jeffreys ، والعبقري الفذ فرانك رامزي
F. Ramsy
الذي رحل عام 1930م عن سبعة وعشرين عاما، وتعرف حركتهم باسم البيزية
Bayesianism
نسبة إلى عالم الرياضيات توماس بييز
T. Bayes (1702-1761م) الذي كان من رواد حساب الاحتمال ردا على تشكيك معاصره ديفيد هيوم في التجريبية والاستقراء.
34
وقد أشرنا إلى هذه المحاولة أثناء مناقشة مشكلة الاستقراء في الفصل الثالث وأوضحنا أنها ليست حلا حاسما ما دامت تسحب المشكلة من اليقين إلى الاحتمال.
ظل رسل من أقوى موجهات الفلسفة طوال الربع الأول من القرن العشرين، إنها الفترة التي شهدت نشأة ونماء وتطبيقات الفلسفة التحليلية التي وصفت بأنها ثورة فلسفية مدوية رافضة للوضع الفلسفي، آتية بالجديد في المنهج، أي أسلوب البحث، وفي المذهب، أي موضوع البحث. خفتت الأضواء عن رسل فيما بعد إلى حد ما، ولم تعد أعماله قوية التأثير مثلما كانت، وتصدر الواجهة أتباعه من فلاسفة التحليل الآخرين. على أن رسل لم يفجر الثورة التحليلية بمفرده، شاركه صديقه مور وتلميذه فتجنشتين. انطلق ثلاثتهم من جامعة كمبردج.
رافق جورج إدوارد مور
G. E. Moore (1873-1958م) رسل منذ البداية في الثورة على المثالية الألمانية التي طغت في كمبردج، وهذا تصعيد للمد التجريبي. ثار رسل عليها؛ لأنها لم تعد تتفق مع روح العلم الذري والمنطق الرياضي، بينما ثار عليها مور؛ لأنها لا تتفق مع الحس المشترك
Common Sense ، أي الإدراك الفطري والخبرة العادية للإنسان العادي. وترجع فاتحة الفلسفة التحليلية إلى مقال كتبه مور عام 1903م بعنوان «تفنيد المثالية» قدم فيه مثالا عمليا لمنهج جديد في معالجة المشكلات الفلسفية مطبقا على الحس المشترك. وهذا المنهج الجديد يقوم على فكرة مؤداها أن المشكلات الفلسفية ترجع إلى سبب غاية في البساطة، وهو محاولة الإجابة على الأسئلة المطروحة دون أن نتبين أولا وعلى نحو دقيق حقيقة السؤال الذي سنجيب عليه. وأكد مور أن الفلاسفة لو حاولوا اكتشاف المعنى الحقيقي للأسئلة التي يطرحونها - عن طريق تحليلها - قبل أن يشرعوا في الإجابة عليها، لكانت هذه المحاولة الحاسمة كافية في الغالب لضمان النجاح. وإذا تم هذا سوف تختفي معظم المشاكل الخادعة والخلافات الفلسفية، فغموض المعنى هو مصدر الاضطراب في البحث الفلسفي. ويتألف التحليل عند مور من ترجمة العبارة الغامضة المراد تحليلها، إلى عبارة أخرى مرادفة لها وأوضح منها، أي أقل إثارة للحيرة. إن التحليل عند مور يتعلق بشكل أو بآخر بالتعريف، أما رسل فقد رأى أن التحليل هو ترجمة العبارة المصوغة في اللغة العادية إلى صيغ منطقية؛ وذلك لأن الصيغ النحوية مضللة يمكن أن نصب فيها أي شيء بغير معنى، وما هكذا المنطق. إذا هناك اختلاف بينهما، مور يبغي الأوضح باللغة، ورسل يريد الأدق بالمنطق. وثمة أيضا اختلاف في الهدف، فبينما يهدف جهاز رسل المنطقي إلى حل مشاكل فلسفية وميتافيزيقية فإن تحليل اللغة اليومية عند مور يهدف إلى إثبات وجهة نظر الذوق الفطري أو الحس المشترك. على هذا كان تحليل مور منصبا على اللغة، وتحليل رسل منصبا على المنطق، أما تحليل الرائد الثالث فتجنشتين فهو منصب على منطق اللغة، كما رأينا في الجزء السابق من هذا الفصل. هكذا خلق هؤلاء الرواد الثلاثة التيار التحليلي الذي هو أقوى تشغيل واستثمار للمنطق الرياضي في فلسفة القرن العشرين في فلسفة للغة.
كان فتجنشتين بعباراته الصاروخية القاطعة هو الأقوى تأثيرا في التيار التحليلي، حتى اعتبر الأب الروحي لسائر فلاسفته، وهو الذي صبغه بالصبغة اللغوية الساطعة. كان متطرفا إلى حد يلامس العصابية في حكمه بأن كل المشاكل الفلسفية لغو ينبغي استئصاله؛ لأنها لا تطابق الواقع التجريبي، حتى قيل: إن «نصل أوكام» يهدف إلى استئصال الشطحات الفلسفية الزائدة، بينما هدف فتجنشتين إلى استئصال شجرة الفلسفة من جذورها! أمثال هذه الدعاوى الهوجاء تظهر في كل عصر ومصر، وتظل شجرة الفلسفة ريانة الأفنان غير قابلة للاستئصال. وقد ظلت ناضرة مثمرة على الرغم من شيوع فلسفة فتجنشتين بشكل أو بآخر في سائر المذاهب التي تفرعت عن التيار التحليلي.
أول فروع التيار التحليلي هو ما يمكن أن نسميه مذهب التحليل العلاجي
Therapeutic Analysis
الذي ساد في كمبردج ذاتها طوال الثلاثينيات مع جون ويزدم وموريس ليزرويتز ومالكوم وسواهم. أخذوا عن فتجنشتين أن التحليل المنطقي «علاج» للالتباسات والبلبال الناشئ عن سوء استخدام اللغة، ويشفينا من الترهات الفلسفية ، إلا أنهم لم يهاجموا الفلسفة بالضراوة التي هوجمت بها من فتجنشتين، بل رأوا المشاكل الفلسفية الكبرى تقوم بدور في تنوير العقل البشري، ولا بد أن ثمة أسبابا وجيهة تدفع إلى الانشغال بالمشاكل الميتافيزيقية الكبرى كحقيقة المادة ووجود الآخرين وخصائص المطلق ... إلخ. على هذا رأوا أن مهمة التحليل الفلسفي ليس مجرد التوضيح وإزالة اللبس والغموض، بل أيضا تهدئة القلق الفلسفي وعلاج العقول من الهم الميتافيزيقي وتحريرها من ضغوطه؛ وذلك بالكشف عن حقيقة المشاكل الفلسفية بواسطة التحليل المنطقي الدقيق، حتى إن جون ويزدم في كتابه «الفلسفة والتحليل النفسي 1953» يقارن هذا بالتحليل النفسي. والتحليل الفلسفي العلاجي لا يستأصل شأفة الفلسفة، بل يزيل المشكلة الفلسفية مبقيا على الدور الذي لعبته في تنوير العقول. والفلسفة التحليلية في كل حال نشاط فني احترافي للتوضيح، وقد أصبح هنا أداة للعلاج.
استمر فلاسفة كمبردج في تحليلاتهم للمشاكل الفلسفية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعدها انتقل مركز التحليل إلى إكسفورد متخذا طورا جديدا ينصب على تحليل اللغة الجارية بين الناس مع جيلبرت رايل وجان أوستن وبيتر ستراوسون، هذا بخلاف فروع التيار التحليلي في قلب القارة الأوروبية وعلى رأسها بالطبع الوضعية المنطقية في النمسا. وأيضا التحليلات البولندية التي مورست في ظلال مدرسة المنطق العظيمة في وارسو، وقد كان رائدها تفاردوفسكي يؤكد أن السيمانطيقا وتحليلات المعاني مدخل ضروري للفلسفة، فقط مدخل، وليس كل الفلسفة كما ذهبت الوضعية المنطقية.
وقد حدد سكوليموفسكي
H. Skolimowisk
في كتابه «الفلسفة التحليلية البولندية 1967م» أربع خصائص تجتمع عليها سائر فروع التيار التحليلي، على ما بينها من خلافات وفوارق، حتى إن هذه الخصائص الأربع تمثل صلب الفلسفة التحليلية. أولها الاهتمام الواعي المتزايد باللغة، فأصبحت اللغة نفسها موضوع البحث الفلسفي، حتى قيل: إن الفلسفة التحليلية مجرد دراسة للغة، وكما أوضحنا في الجزء السابق، ليس المقصود اللغة الإنجليزية دونا عن العربية أو الصينية ... إلخ، بل اللغة من حيث هي لغة كما تتمثل في رموز وقواعد للتركيب، أو في السيمانطيقا والسينتاطيقا. الخاصة الثانية هي التفتيت، بغرض معالجة المشاكل الفلسفية جزءا جزءا، وهذا التفتيت يجعل الممارسة الفلسفية أقرب شبها بروح العلم التجريبي ومناهضة للاتجاه الشمولي الهادف إلى بناء الأنساق الميتافيزيقية الواحدية الشامخة. وقد وجد هذا التفتيت التحليلي لغته المنطقية الرسمية في مذهب الذرية المنطقية لرسل وفتجنشتين. يتصل التفتيت بالخاصة الثالثة وهي السمة المعرفية، كل الفلسفات التحليلية ترتبط بشكل أو بآخر بمشكلات المعرفة والعلاقة بعالم العلم التجريبي؛ لذلك اتصلت اتصالا وثيقا بفلسفة العلم وأفضت إلى واحد من أهم مذاهبها هو الوضعية المنطقية. أما الخاصة الرابعة فهي التناول البين- ذاتي، التحليل المنطقي لا يرتبط بذات دون أخرى، بل له دائما معناه ومدلوله المشترك بين الذوات جميعا، كلها تشارك فيه وتتفق عليه. إن البين-ذاتية هي المفهوم المعاصر للموضوعية المتفادي لمشاكلها، وبهذا تتميز الفلسفة التحليلية عن سواها من فلسفات قد تمارس تحليلا لا هو موضوعي ولا هو لغوي ولا هو منطقي، وأبرز الأمثلة تحليلات الوجوديين المسهبة للوضع الإنساني. ويمكن ملاحظة أن الخصائص كلها تستقطب روح العلم، وتمثل طابع الفلسفة العلمية التي سادت القرن العشرين.
هذه الصفات أو الخصائص الأربع تجتمع في سائر فروع الفلسفة التحليلية، حتى «الرسالة المنطقية الفلسفية» لفتجنشتين، ومنطق رسل وفلسفته التحليلية التي قامت هذه الرسالة على أكتافها. إن رسل هو الرائد الأكبر، وانطلقت الفلسفة التحليلية من رحابه؛ لتنمو وتتطور وتتجاوز الحدود التي رسمها، كما يحدث كثيرا للأفكار الفلسفية الكبرى. وكان رسل في كل حال دائم الاستعداد للدفاع عن التحليل، ويسهب في تبيان أن رفضه هو رفض للتقدم العلمي ولروح العلم، وإن ساءته بعض التطورات اللاحقة. منذ البداية أراد جورج مور قصر الفلسفة على التحليل، ورفض رسل هذا مؤكدا أن التحليل اللغوي مجرد وسيلة مفيدة جدا، ولا ينبغي أن يتحول إلى غاية تلهي عن إنجاز الأهداف الفلسفية الكبرى، وجاهر بأن التحليل في حد ذاته لا يكفي أبدا لحل المشكلة الإبستمولوجية والمشكلة الأنطولوجية. هاجم رسل الفروع التي جعلت التحليلات اللغوية غاية وقصرت الفلسفة عليها، مؤكدا أن المأخذ الوحيد الذي يمكن أن يؤخذ على الفلسفة التحليلية هو أنها أدت إلى هذه الفروع المتطرفة حيث أصبحت الفلسفة معنية أكثر بفهم نفسها وتنكرت للمهمة التي اضطلعت بها منذ طاليس وطوال عهودها، وهي مهمة فهم هذا العالم. أوسع رسل هذه الفروع نقدا، وقال عن فلاسفة اللغة الجارية في أكسفورد: إنهم ينشغلون بالأشياء التافهة التي يقولها البلهاء، وهذا أمر قد يكون مسليا لكنه ليس هاما!
وعلى الرغم من أن الوضعية المنطقية أكثر المدارس استفادة من جهاز رسل المنطقي المهيب، وتوظيفا لنظريته في الأوصاف المنطقية والخلو من المعنى، فإن رسل خص الوضعية المنطقية بالقسط الأكبر من نقده الموجه، وأفرد لهذا مقالا مطولا بكتابه «المنطق والمعرفة 1956م» الذي حمل أهم محاضراته ومقالاته طوال النصف الأول من القرن العشرين، فهل هذا لشدة تطرف الوضعية المنطقية التحليلي أم لعلو صيتها حتى كادت تكون التمثيل الرسمي لفلسفة العلم، ليس في سياق الفلسفة التحليلية فقط، بل في سياق الربع الثاني من القرن العشرين بأسره؟!
رابعا: الوضعية المنطقية
الوضعية المنطقية هي المسئولة عن كل تطرفات وجنوحات التيار التحليلي، فقد تمسكت بمفهوم رسالة فتجنشتين الضيق للفلسفة بوصفها منطقا للغة العالم التجريبي، كما تتبلور في لغة العلم. وشيئا فشيئا تخلق عن هذا مفهوم للفلسفة بأسرها بوصفها تحليلا منطقيا لكل أشكال الأقوال حتى في اللغة الجارية. هكذا نجد الوضعية المنطقية - بتعبير فون رايت - هي ينبوع التحليل، يتدفق ليتفرع ويتشعب في التيار التحليلي العريض.
وليست الفلسفة التحليلية فحسب، بل كل الخطوات السابقة في فلسفة العلم تتجمع وتتكثف في فلسفة الوضعية المنطقية. هذا منذ أن علمنا فرنسيس بيكون أن الروح العلمية تعني التجريبية ورفض الميتافيزيقا رفضا لكل ما يتجاوز العالم التجريبي أو الطبيعة مملكة المعرفة الإنسانية، ثم تطورات الروح العلمية مع التجريبيين الإنجليز والتنويريين الفرنسيين، حتى صاغ أوجست كونت الفلسفة «الوضعية» ذاتها؛ لتقوم النزعة الاستقرائية بمنهجتها، أي صبها في شكل المنهج الاستقرائي الذي يميز العلم عن أي نشاط عقلي آخر.
سلم الوضعيون المنطقيون بالنزعة الاستقرائية كما صيغت في القرن التاسع عشر بتجريبيتها الحادة؛ ليمنطقوها بعد أن تمنهجت، أي ليجعلوها منطقية بحكم ناموس القرن العشرين، فبدأوا من الأصول في الرياضيات ثم مدوا نطاق استخدام المنطق الرياضي لتحليل مفاهيم العلم، ثم لبناء لغة العلم، أو السيمانطيقا، ثم السينتاطيقا، فلم يعد المنطق الرياضي مع الوضعية المنطقية عصبا للفلسفة فحسب، بل هو مجمل جهازها العصبي وهيكلها بأسره.
وإذ تستجمع الوضعية المنطقية كل المد السابق في فلسفة العلم، فإنها - بغرور قاصم - تكثفه وتحوله إلى بؤرة تشع نورا ساطعا ونارا تحرق ما حولها، وفي إصرار على الانفراد بفلسفة العلم التي رأوها ينبغي أن تكون الفلسفة برمتها، اتخذت الوضعية المنطقية اسم «التجريبية المنطقية» بألف ولام التعريف،
35
وكأن ما سواها من فلسفات للعلم لن تكون هكذا! اتخذت أيضا أسماء أخرى مثل التجريبية العلمية والتجريبية المتسقة والوضعية الحديثة ... ولكن شاع اسم «الوضعية المنطقية» الذي صاغه بلومبرج وفيجل عام 1931م. والواقع أن الاسم الأصلي لهذه المدرسة هو «دائرة فيينا»، فكيف تشكلت دائرة فيينا لتشكل فلسفة الوضعية المنطقية؟
في عام 1895م قررت جامعة فيينا لأول مرة إيجاد كرسي لفلسفة العلوم التجريبية؛ لتنمية وصقل هذا الفرع الفلسفي الهام النامي حديثا، وكانوا يفضلون أن يشغله عالم طبيعي ذو ميول فلسفية قوية. أول من شغله إرنست ماخ. وفي عام 1922م استدعت جامعة فيينا شليك من وطنه ألمانيا لشغل هذا الكرسي، فقد كان موريتس شليك
M. Schlick (1882-1936م) عالم طبيعة، حصل عام 1904م على درجة الدكتوراه برسالة موضوعها «انعكاس الضوء في وسط غير متجانس» تحت إشراف ماكس بلانك أبي الكوانتم، وعمل أستاذا للفيزياء في جامعة روستوك من عام 1911م حتى 1917م، ثم في جامعة كيل حتى عام 1921. وكان شليك واسع الإلمام بالفلسفة وتاريخها وعميق الاهتمام بها. صدر له في برلين «المكان والزمان في الفيزياء المعاصرة 1917م»، و«النظرية العامة للمعرفة، 1918م»، فضلا عما صدر له من كتب بعد ذلك، أهمها «عن مغزى الحياة 1927م»، و«مشكلات علم الأخلاق 1930م»، و«مستقبل الفلسفة 1932م»، ثم «الأبحاث المجمعة» في فيينا عام 1938م، أي بعد وفاته. وكان منذ البداية يأخذ بتجريبية ماخ وهلمهولتس الحادة واصطلاحية بوانكاريه، ويرفض فينومينولوجيا إدموند هوسرل والكانطية الجديدة التي شاعت في جامعات ألمانيات آنذاك، ويرفض الكانطية الأصلية رفضا للمطلق النيوتوني ولاعتبار قضايا الفيزياء قطعية أو قضايا الرياضة تركيبية. هكذا كان شليك فيلسوفا على الأصالة، معنيا بنظرية المعرفة ومنطق العلم، وأيضا بالأخلاق وفلسفة الحياة والثقافة؛ لذلك اصطنع شليك لنفسه لقب العالم/الفيلسوف، ربما أسوة بآينشتين، وقد كان شليك في طليعة شراح النظرية النسبية ومفلسفيها بألمانيا.
وما إن حط شليك رحاله في فيينا عام 1922م، إلا وتحلق حوله جمع من علماء ذوي ميول فلسفية قوية وفلاسفة ذوي ميول علمية قوية ورياضيين ومنطقيين محترفين، كانوا يجتمعون في لقاءات دورية استمرت من عام 1922م حتى عام 1938م، لمناقشة قضايا ومفاهيم فلسفة العلم. هذه هي دائرة فيينا التي صاغت مناقشاتها فلسفة الوضعية المنطقية.
أوصى بتشكيل هذه الدائرة عالم الرياضيات هانزهان والفيزيائي فيليب فرانك وعالم الاجتماع أوطو نويراث، ومن أعضائها هربرت فيجل وفيزمان وجوستاف بيرجمان وفيكتور كرافت، وأبرزهم رودلف كارناب. انتسب إليها كورت جودل صاحب مبرهنة اللااكتمال الشهيرة، وأيضا كارل منجر وفليكس كاوفمان وإدجار تسيلزل. اتخذت الدائرة صيغة رسمية عام 1929م، وأصدرت مجلة «المعرفة
Erkenntnis »، وتعاونت مع جمعية برلين للفلسفة التجريبية برجالها هانز رايشنباخ وجريلنج وليفين وفردريك كراوس وكارل همبل وريتشارد فون ميرس صاحب النظرية الهامة في حساب الاحتمال، كلهم ذوو اتجاه واحد، عقدوا معا مؤتمرا دوليا في براغ وكونجسبرج. صالت الوضعية المنطقية وجالت وتدفقت عنها الكتابات المتميزة جدا في فلسفة العلم، وصارت أعلى مدارس فلسفة العلم صوتا وأبعدهم صيتا، حتى أصيبت باغتيال رائدها موريتس شليك في 22 يونيو عام 1936م في قلب جامعة فيينا على يد طالب يدعى نلبك
Nelbock
لقي عقوبة مخففة ولم يتحدد سبب فعلته هذه. ثم أعقب هذا الغزو النازي لتتفكك دائرة فيينا تماما، فقد انتمى معظم أعضائها البارزين إلى أصول يهودية، وخوفا من بطش النازية باليهود فروا إلى غرب أوروبا وأمريكا، وذهب آخرون ليسوا يهودا بفعل إغراء العروض والعقود، فقد كانوا جميعا ذوي قدرات منطقية متميزة في العصر الذهبي للمنطق، حملوا معهم الوضعية المنطقية من الإطار الجرماني في النمسا وألمانيا إلى الإطار الأنجلو أمريكي في إنجلترا وأمريكا وأيضا أستراليا؛ لتنمو وتستمر بعض الوقت، قبل أن تخبو تماما، بفعل عوامل عديدة سوف تتضح في حينها، أهمها التطرف الحاد الذي لا بد أن يصل إلى طريق مسدود.
مهما يكن الأمر، فإن دائرة فيينا تداخلت فيها الفئتان اللتان ميزتا القرن العشرين فئة العالم/الفيلسوف وفئة الفيلسوف/المنطقي، جميعهم سلموا تسليما «بالرسالة المنطقية الفلسفية» لفتجنشتين، حتى عدت إنجيل الدائرة، كانوا يرتلونها ويتدارسونها ويجدون العزم في تطبيقاتها حتى في الوقت الذي كان فتجنشتين فيه مشغولا بنقض الرسالة وتطويرها في «بحوث فلسفية»! ولولا أنه كان يرفض الانتماء لأية جماعة أو مذهب، لكان مركز دائرة فيينا وقطبها. والحق أن الأمر الواقع كان على خلاف النهج التقليدي في نشأة المدارس الفلسفية، فلا نجد في الدائرة أستاذا نفذ ببصيرته العبقرية إلى كنه الحقيقة، فاصطف من حوله التلاميذ ينصتون إليه في رهبة وخشوع، بل نجد أقوى تمثيل لروح الفلسفة العلمية في القرن العشرين، نجد جمعا من الزملاء التفوا حول زميلهم شليك، اختلفت آراؤهم وتقاربت هاماتهم تقاربا شديدا، وراحوا يتعاونون لتحقيق غاية واحدة؛ هي قصر النشاط العقلي على العلم الرياضي والطبيعي ثم تحليلاته المنطقية، وإذا طرح سؤال تناولوه تناول الأنداد، قد تختلف الإجابات فيحاول كل منهم تنقيح إجابة الزميل وتصويب أخطائه، وقد تتباين مشاربهم الفلسفية في هذه القضية أو تلك، لكنهم يتفقون على مبادئ تمثل دعائم الفلسفة الوضعية المنطقية لا بد من التسليم بها جميعا، ولا بأس من الاختلاف في أية مسألة بعد هذا، هذه المبادئ على وجه التحديد هي:
أولا:
الفلسفة تحليلية.
ثانيا:
الفلسفة علمية.
ثالثا:
القضية إما تحليلية أو تركيبية.
رابعا:
الميتافيزيقا لغو.
خامسا:
معيار التحقق سيمانطيقيا، ولغة العلم سينتاطيقيا؛ لتمييز المعرفة العلمية.
على هذا يجتمع الوضعيون المنطقيون على أن تكون الفلسفة مقتصرة على التحليل بخصائصه الأربع المذكورة، وهي: اللغوية والتفتيتية والمعرفية والبين ذاتية، ثم تتميز الوضعية المنطقية بقصر هذا التحليل بأدواته المنطقية على العبارات العلمية لا سواها، بهذا تغدو الفلسفة علمية.
رأوا أن الفلسفة مهمتها التحديد، ومع هذا لم تحدد لنفسها مجالاتها، وأخذت تصول وتجول حيث تشاء حيث ضاق بها الجيران، وراحوا يستبعدونها من أراضيهم واحدا بعد الآخر، بادئين بالفلك والطبيعة ومنتهين بالنفس والاجتماع، ولم يبق أمام الفلسفة إلا العلوم المعيارية والميتافيزيقا والمنطق. العلوم المعيارية هي فلسفة الأخلاق والسياسة وفلسفة الجمال، أصر الوضعيون على أنها جميعا عبارات انفعالية وجدانية لا تزيد عن ضحكة المسرور أو صرخة المتألم، طالما أنها ليست البتة عبارات معرفية، أما الميتافيزيقا فهي جلبة أصوات بغير معنى ولا جدوى يجب أن تقبع أبنيتها الشامخة التي لا تضر ولا تنفع في متاحف التاريخ المهجورة. ولا يبقى أمام الفلسفة ميدان جدير بالبقاء إلا المنطق، عليها أن تتمسك به وتجعله شغلها الشاغل والوحيد، والعقل البشري لا ينبغي أن ينشغل إلا بالمجالات العلمية؛ أي مجال سواها من خلق الخيال العاجز، وبالتالي تقتصر الفلسفة على تسخير المنطق لتقديم الخدمات التحليلية للعلم، فتقتصر نفسها على مجالاته وتدور معه وجودا وعدما. وليس معنى هذا أن ينازع الفلاسفة العلماء في بحوثهم التي تبغي المعلومات عن العالم التجريبي الواقعي الواحد والوحيد، فهذا شأن العلماء فقط، والفلسفة تختلف، فهي توضح ولا تضيف، إنها كما قال فتجنشتين علم البحث عن المعنى، معنى العبارات العلمية. بعض المصطلحات العلمية قد يكتنفها من اللبس والغموض ما يستطيع التحليل المنطقي أن يجلوه. ومن ناحية ثانية قد تكون مقولة علمية مترتبة على أخرى أو متضمنة فيها أو متناقضة مع نفسها أو مع أخرى تم التسليم بها ... والتحليل المنطقي للعلم يتكفل بكل هذا ويكشف عنه.
هكذا جعل الوضعيون المنطقيون العلم هو النشاط العقلي الأوحد، الذي ينقسم بين فئتين ولا ثالث لهما، فئة العلماء الذين يقومون بجمع المعلومات ووضع النظريات، ثم فئة فلاسفة العلم الذين يقومون بتحليلات منطقية تساعد على تقدم العلم وازدهاره. قد يقوم العالم نفسه بهذه التحليلات، وفي هذه الحالة سوف يصبح فيلسوفا بعد أن كان عالما، أو يصبح العالم/الفيلسوف، بالمفهوم الوضعي المنطقي للفلسفة الذي يعني المطابقة بينها وبين التحليل المنطقي للعلم، فتغدو الفلسفة بأسرها علمية، ولا يعود ثمة متسع للميتافيزيقي السابح في أجواء المطلق، أو الأخلاقي الحالم بمجتمع الفضيلة أو السياسي الباحث عن اليوتوبيا أو الجمالي الهائم في العالم الأستطيقي الخلاب.
ولكي يستطيع الوضعيون المنطقيون أن يعلمنوا الفلسفة بهذا الحصر والقصر ارتكزوا على حجة منطقية؛ وهي أن القضية إما تحليلية، وإما تركيبية. فقد كانت الرياضيات عقبة كئود في وجه التجريبيين، طالما أن العقل الرياضي يستقل بنفسه عن التجربة ليصل إلى القضايا الرياضية الضرورية الصدق ذات اليقين المطلق. فكيف نفضل على هذا المنهج العقلي الخالص المستقل عن التجربة - منهج الرياضة الذي تقتفيه الميتافيزيقا - منهجا آخر يعتمد على التجربة، فتجيء نتائجه احتمالية؟! ولم يكن التجريبيون جميعا بجرأة جون ستيوارت مل وصلابته التجريبية كي يزعموا معه أن الرياضة أيضا تستند على تعميمات تجريبية.
36
ربما كانت هذه العقبة الرياضية هي التي منعت التجريبيين خمسة وعشرين قرنا - هي عمر الفلسفة - من اتخاذ موقف شديد التطرف كموقف دائرة فيينا.
حتى كان كتاب «برنكبيا ماتيماتيكا» والمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات التي أثبتت أنها امتداد للمنطق ومثله تحصيل لحاصل لا تحمل خبرا جديدا عن الواقع. ثم أكدت رسالة فتجنشتين أن الصورة المنطقية للقضية الرياضية هي: أ هي أ، بينما تتخذ قضايا العلوم الطبيعية الإخبارية الصورة المنطقية: أ هي ب. من هذا المنطق كان تقسيم الوضعية المنطقية الشهير للعبارات أو الجمل أو سائر ما يتمثل في الصور النحوية إلى فئتين هما: (1)
العبارات ذات المعنى
meaningful : وهي إما العبارات التحليلية، أي قضايا العلوم الصورية «المنطق والرياضة»، وإما القضايا التركيبية التجريبية «قضايا العلوم الطبيعية الإخبارية»، واصطلاح «ذات معنى» أفضل من اصطلاح «لها معنى
has a meaning »؛ لأن الأول يظهر أن المعنى ليس شيئا يضاف إلى العبارات، بل صفة تتحد بنفس طبيعة العبارة. (2)
العبارات الخالية من المعنى
meaningless : وهي كل ما يخرج عن النوعين السابقين، وخصوصا قضايا الميتافيزيقا. إن الوضعية المنطقية تطابق بين المعنى وبين العلم، وحيث لا علم لا معنى!
ولكي يكون الحديث ذا معنى، لا بد وأن يقتصر على نوعين من القضايا لا ثالث لهما، هما نوعا العبارة العلمية: القضايا التحليلية
Analytic
والقضايا التركيبية
Synthetic .
القضايا التحليلية هي قضايا العلوم الصورية حيث تنحصر قيمة القيمة داخل ذاتها، فهي تحصيل حاصل تكرارية، تكرر في الشق الثاني، أي التالي عين ما قيل في الشق الأول، أي المقدم، ليس لها محتوى معرفي أو مضمون إخباري عن الواقع، نصل إليها استنباطا، ونعرف صدقها أو كذبها فقط بتحليلها تحليلا منطقيا لغويا، فإذا أوضح التحليل أن الشق الأول هو عينة الشق الثاني مثلا «الأرملة امرأة مات زوجها»، أو «للمربع أربعة أضلاع» كانت صادقة؛ لأن القضية التحليلية مجرد إثبات للهوية، في المثال هوية أ لأرملة أو المربع، أو ما اصطلحنا على تسميته أرملة مربعا. من هنا كان صدقها مطلقا يقينيا؛ لأنه يعتمد على الضرورة المنطقية التي تعني استحالة النقيض. القضية التحليلية إذا كانت صادقة كانت ضرورية وإذا كانت كاذبة كانت متناقضة ذاتيا. الضرورة هنا في قوانين منطق الفكر واللغة وليست في الواقع، فالواقع لا ينطوي على ضرورة، غير أن القضية التحليلية لا تلتزم بالواقع؛ لأنها لن تحمل خبرا جديدا بشأنه. والخلاصة أن القضية التحليلية صورية تكرارية استنباطية عقلية يقينية ضرورية، محك الصدق فيها هو منطق اللغة.
أما القضايا التركيبية فهي قضايا العلوم الطبيعية وشتى المباحث التجريبية، التي تنقل خبرا عن العالم الواقع من حولنا، فهي إذن إخبارية ذات محتوى معرفي، نصل إليها باستقراء خبرة الحواس. التحليل المنطقي للقضية التركيبية يردها إلى سلسلة من القضايا الذرية، كما علمتنا ذرية رسل وفتجنشتين المنطقية، ثم ينتهي تحليل الوضعيين إلى سلسلة من المعطيات الحسية التي تبعث بها الواقعة الذرية. المرجع هنا في الحكم بالصدق أو الكذب هو خبرة الحواس، وهو حكم نسبي يستحيل إطلاقه. المعطيات تشير الآن إلى صدق القضية، لكن من يدري؟ قد تأتينا في الغد معطيات أخرى عن العالم الطبيعي، أو تتكامل بعد نقص، فتصبح القضية كاذبة. إنها إذن عرضية احتمالية يستحيل أن تكون ضرورية. والخلاصة أن القضية التركيبية تجريبية استقرائية احتمالية عرضية محك الصدق فيها هو خبرة الحواس.
هذان هما نوعا القضايا ذوات المعنى.
وعلى هذا الأساس يسهل الوصول إلى الهدف الاستراتيجي لدائرة فيينا، وهو إثبات أن الميتافيزيقا لغو
nonsense
ما دامت قضاياها لا هي تحليلية ولا هي تركيبية بذلك التحديد المنطقي الدقيق.
أجل، اتخذت النزعة الوضعية منذ أن شق بيكن طريقها موقف الرفض للميتافيزيقا، وسبق أن رأينا ديفيد هيوم يدعو إلقاء كتب الميتافيزيقا في النار، وهو في الواقع يعد أباهم الشرعي ورائدا لهم. إلا أن هذا الموقف قد تكاثف في فلسفة الوضعية المنطقية إلى درجة رهيبة جعلت الهجوم على الميتافيزيقا هيكل فلسفتهم ومضمونها وغايتها. لقد حملوا تجريبية النزعة الاستقرائية في القرن التاسع عشر التي عززتها الفيزياء الكلاسيكية التجريبية المباشرة، ثم فاجأهم القرن العشرون بكارثة الأثير المطلق التي تصدع لها عرش الفيزياء الكلاسيكية، وكما أشار بريدجمان
، رأى الوضعيون المنطقيون أن الكارثة التي سببها الأثير راجعة إلى أنه مفهوم ميتافيزيقي لم يختبر تجريبيا بما يكفي وبالمثل تماما مفهوم المطلق. من هنا أخذ الوضعيون المنطقيون على عاتقهم تأمين العلم من أمثال هذه الكوارث والأزمات التي لحقت بالفيزياء الكلاسيكية عن طريق الحيلولة دون أي اختراق ميتافيزيقي للعلم مرة أخرى، أو أن يتسلل إليه مفهوم ليس تجريبيا بما يكفي. وإذ هم مضطلعون بهذه المهمة كانت فيزياء القرن العشرين توالي السير قدما نحو مزيد من الاقتراب من الرياضي والعقلي والمجرد ومزيد من الابتعاد عن العيني الشيئي المحسوس مباشرة؛ لتزداد مهمة الوضعيين المنطقيين صعوبة وتأزما، وتزداد حساسيتهم تجاه الميتافيزيقا وضراوة حروبهم المنطقية عليها.
من هنا كان أميز ما يميز دائرة فيينا أن فلاسفتها ضاقوا ذرعا بما تصوروه من عقم للمشاهد الميتافيزيقية، زاعمين أنها بقيت ثلاثة وعشرين قرنا حيث خلفها أرسطو، بينما يحقق العلم التجريبي تقدما متصلا لا ينقطع، فمن ذا الذي يزعم أن ميتافيزيقا القرن العشرين أدنى إلى الصواب من ميتافيزيقا أرسطو؟ ما هو هذا الصواب؟! وهل من خبرة عساها أن تخبرنا به؟! وآمنوا أن الوضعية على العموم والمنطقية منها على أخص الخصوص فلسفة قامت لكي تقوض دعائم الميتافيزيقا وتزيحها تماما من عالم ينبغي أن ينفرد به العلم وحده، ورأوا أن هذا يمكن أن يتيسر لهم بناء على ما سبق، فمبدؤهم التجريبي الأساسي هو: «أية قضية إخبارية مفهومة لا بد وأن تقوم على أساس الخبرة الحسية». وقد انزاحت العقبة الرياضية حين اتضح أنها إثباتات للهوية ولا تخبر بشيء عن الواقع، وبفضل جهود رسل وفتجنشتين، أمكن للوضعي المنطقي أن يحتفظ تماما بالمبدأ التجريبي، فقط يضيف إليه: «ما لم تكن إثباتا للهوية»، وبطبيعة الحال لا يوجد ميتافيزيقي واحد يمكنه الاعتراف بأن قضاياه مجرد إثبات للهوية ولا تخبر بشيء عن العالم، وهي طبعا ليست قائمة على أساس الخبرة الحسية، فيمكن استئناف المسير الوضعي إلى غايته والانتهاء إلى أن القضايا الميتافيزيقية غير واضحة ولا مفهومة؛ لأنها غير ذات معنى ولا أي مغزى نفهمه منها لكي نحكم عليها بالصدق أو الكذب. إنها لا ترقى إلى مرتبة الكذب؛ لأنها تدعي الإخبار عن عالم يخرج عن حدود الخبرة، أي تخبر عما لا يمكن الإخبار عنه وتدعي فعل ما لا يمكن أن يفعل! من هنا تعج ساحة الميتافيزيقا بقضايا تناقض بعضها، كما سبق أن أوضح كانط في تعيينه لنقائض العقل الخالص.
وسرعان ما زودهم المنطق الرياضي بأدوات تحليلية نافذة يقطعون بها أوصال المعالجات الميتافيزيقية لينتهوا إلى أنها كلام غير ذي معنى؛ إما لأنها تحوي مصطلحات لا معنى لها مثل المطلق والعقل والنفس والجوهر، أو لأنها تستخدم مصطلحات ذات معنى، لكن في تركيب لغوي غير ذي معنى. وفي محاولاتهم لإثبات هذا بتحليلاتهم المنطقية، أسرفوا في تسخير أدوات المنطق الرياضي، ومنها نظرية رسل في الأوصاف المنطقية والخلو من المعنى، وإلى درجة من التطرف كان رسل نفسه في طليعة الرافضين إياها.
وهذا الاستخدام للمنطق الرياضي في تجسيد دعاويهم الفلسفية يتبلور نهائيا في معيار التحقق
Criterion of Verification
الذي يميز المعرفة العلمية ويمثل الفيصل الحاسم بين العلم واللاعلم، وبالتالي بين المعنى واللامعنى؛ ليكون الأساس الذي تقوم عليه فلسفة الوضعية المنطقية وتقوم من أجله، حتى إذا قيل في تعريفها إنها المذهب الذي ينادي بمعيار التحقق لما جانب هذا الصواب. والواقع أن معيار التحقق هو بالضبط ما رفضه رسل، وكان محور معظم الخلافات التي اشتجرت بينهم وبين الفلاسفة والنقاد. وبشكل عام يترسم التاريخ الحق للوضعية المنطقية بمحاولاتهم لحل طائفة من المشاكل نجمت عن تعويلهم على هذا المعيار، وأدت محاولات الحلول إلى طرح بدائل أخرى لتحرز نفس الهدف متفادية الأخطاء. فلم يعد أمامنا معيار التحقق فقط، بل أيضا معيار القابلية للاختبار والتأييد، بالإضافة إلى لغة العلم عند كارناب.
وخلاصة معيار التحقق أن كل قضية تركيبية لا بد وأن تكون تجريبية، وبالتالي يمكن «التحقق» منها بواسطة الخبرة الحسية، ويترتب على هذا أن كل قضية تركيبية لا يمكن تحديد صدقها أو كذبها من ملاحظات حسية هي جملة بغير معنى، إنهم يستبعدون قضايا المنطق والرياضة التحليلية ، وهي كل ما يساهم به العقل في عملية المعرفة لينطبق المعيار فقط على القضايا التركيبية فيحدد منها ما ينتمي للعلم الطبيعي والعالم التجريبي، ويستبعد الميتافيزيقا. ودع عنك الأوامر والنواهي وسائر التعبيرات الدالة على قيم معيارية مثل «ما أجمل الزهور!» «القتل جريمة بشعة»؛ فهم يعتبرون أمثال هذه التعبيرات إنشائية محضة. ولما كانت الوضعية فلسفة معرفية، فهي لا تهتم بهذه التعبيرات وما إذا كان لها معنى أم لا، فمعناها بالقطع ليس معرفيا ولا تمثل موضوعا للمعرفة، قد يهتم بها نقاد الأدب والفن والمصلحون الاجتماعيون، أما الوضعيون المنطقيون بوصفهم فلاسفة معرفيين فلن يعيروها التفاتا، لا بالإحلال والتعظيم كقضايا العلم، ولا بالرفض والاستنكار كقضايا الميتافيزيقا، شريطة ألا يدعي أصحابها - فلاسفة الفن والجمال والأخلاق والسياسة - أنهم يزيدوننا معرفة وإدراكا للعالم الواقعي.
كان تشارلز بيرس هو الذي قدم الفكرة الخصيبة التي تربط معنى القضية بالخبرة التجريبية، لكن معيار التحقق بهذه الصورة القاطعة مأخوذ من رسالة فتجنشتين التي كانت رائدة في محاولة إثبات أن المشاكل الفلسفية لغو، وانتهت إلى ضرورة مقارنة القضية بالوجود الخارجي - أي الواقع - الذي ترسمه، فإن طابقته كانت صادقة، وإلا فهي كاذبة، وفي كلتا الحالتين القضية ذات معنى، أما إذا استحال مقارنتها بالواقع فهي قضية زائفة وبغير معنى. وأدى هذا بالوضعيين إلى المطابقة بين معنى القضية وأسلوب تحققها.
وطالما أن التحقق معيار لتمييز المعنى، فإنه ينطبق أيضا على المفاهيم والكلمات، بل إن التحقق منها أهم؛ لأن العبارة لن تقبل التحقق إلا إذا كانت كل المفاهيم الواردة فيها ذات معنى ومرتبطة بعلاقات منطقية ارتباطا سليما. فذهب شليك إلى ضرورة أن نستطيع الإشارة بأصابعنا إلى مدلول الكلمة أو المفهوم؛ ليكون التحقق النهائي منه.
غير أن هذا المعيار أثار من النقاش والجدل الشيء الكثير، فمثلا منطوق المعيار ذاته ليس قضية تحليلية ولا هو ممكن التحقق تجريبيا؛ لذا يجب عليهم هم أنفسهم أن يرفضوه بوصفه لغوا! وقد تنبه فتجنشتين إلى هذا التناقض الذاتي، فقال: إن نتيجة التفلسف ليس عددا إضافيا من القضايا، بل النتيجة هي جعل القضايا واضحة ، لذلك فالرسالة مجرد سلم نصعد عليه بغية الوصول إلى الوضوح في فهم القضايا، حتى إذا وصلنا إلى هذه البغية وجب إلقاؤه بعيدا، وذهب الوضعيون مذهبا قريبا من هذا فقالوا: لا يجب أن نأخذ معيار التحقق بوصفه عبارة، بل فقط بوصفه اقتراحا أو مجرد «توصية» بألا نقبل القضية إلا إذا كانت ممكنة التحقق، وما أسهل أن يرفض الفلاسفة أجمعون هذه التوصية كي لا يذهبوا بفلسفاتهم إلى الجحيم! ويجيء رودلف كارناب لينصحنا بتواضع غير معهود منه أن نقبل معيار التحقق على أساس قريب من البرجماتية؛ لأنه سوف يمكننا من تحقيق الهدف: تمييز المعرفة العلمية واستبعاد الميتافيزيقا، وبالتالي تحديد مجالات الأنشطة العقلية بدلا من أن تختلط ببعضها.
وثمة مناقشات أخرى حول طبيعة الكائنات التي ينطبق عليها المعيار، أهي القضايا أم الجمل أم العبارات؟ إذا كان يطبق على القضايا، فإن القضية بحكم تعريفها المنطقي هي ما يوصف بالصدق أو الكذب، فهي لا بد وأن يكون لها معنى خبري نبحث عن صدقه، فكيف نجعل إمكانية التحقق - التي قد تكون أو لا تكون - في ذات الهوية مع المعنى؟ وعلى أحسن الفروض يكون هذا المعيار الذي يبحث عن المعنى زائدا ولا ضرورة له، على أساس أن السؤال الذي وضع للإجابة عليه لا بد وأن يكون مجابا قبل أن نفكر في تطبيق المبدأ. وأبرز من دافعوا عن هذا، الفيلسوف البريطاني ألفرد جوليوس أير (1910-1989م) الذي قام باستيراد الوضعية المنطقية من فيينا إلى بريطانيا ... وقد حاول درء هذا الاتهام بتقديم مصطلحات فنية يمكن عرضها على هذا النحو:
الجملة
Sentence :
هي أية صورة للكلمات تراعي القواعد النحوية للغة.
العبارة
Statement :
كل جملة دلالية
indicative ، أي إخبارية، سواء أكان لها معنى أم لا، تبعا لمفهوم الوضعية للمعنى. وعلى هذا فأي جملتين خبريتين يمكن أن تترجم الواحدة منهما للأخرى، يعبران عن عبارة واحدة.
القضية
:
هي العبارة التي لها معنى حرفي، أيضا تبعا لمفهوم الوضعية للمعنى. وعلى هذا تكون القضايا فئة فرعية للعبارات، كما يوضح الرسم:
ويكون التحقق معيارا لتمييز العبارات التي تنمي لفئة القضايا عن تلك التي لا تنتمي لها، متخذا الصورة الآتية: «تكون العبارة ذات معنى حرفي فقط إذا ما كانت تحليلية أو كانت ممكنة التحقق تجريبيا.»
37
ونلاحظ أن التعديل الوحيد هو استبدال مصطلح عبارة بمصطلح جملة، وآير فعلا يحل المشكلة كما لو كانت اصطلاحية بحتة، وليس هذا غريبا من فيلسوف تبنى مذهبا لغويا متطرفا.
ومن المناقشات التي أثيرت في وجه المعيار أن القضايا قد تكون غير قابلة للتحقق، إما لأننا لا نستطيع التحقق منها في اللحظة الراهنة، أو لأننا لا نستطيع التفكير في طريقة للتحقق منها، أو لأنه من المستحيل علينا فيزيائيا التحقق منها، أو لأننا نستبعد أية محاولة للتحقق منها لأسباب منطقية بحتة. فأي وجه من هذه الوجوه لعدم القابلية للتحقق يحمل معه الخلو من المعنى؟ فالقضية قد تكون علمية تجريبية، ولكنها مستحيلة التحقق - الآن على الأقل - مثل: «ثمة جبال على كوكب أورانوس» ويستحيل أن نذهب إلى أورانوس لنتحقق منها. لحل هذه المشكلة ميز الوضعيون بين التحقق المباشر، وهو للقضايا التي تقرر شيئا ما حول المدركات الحالية، والتحقق غير المباشر لبقية القضايا العلمية ذات المعنى.
38
وقريب من هذا ما فعله آير حين اقترح التفرقة بين: التحقق بالمعنى القوي وهو الفوري والحاسم والقاطع، والتحقق بالمعنى الضعيف، كمجرد إمكانية وليست استحالة. وهذا هو فقط المطلوب من العلم البحت.
غير أن هناك مشكلة معينة على درجة كبيرة من الأهمية، وهي أن قوانين العلم بطبيعة الحال مستحيلة التحقق؛ إذ ليست هناك أية مجموعة من الخبرات يكون اكتسابها مكافئا لصدق قانون علمي. وقد تنبه فتجنشتين إلى هذا مقدما في رسالته، فأكد أثناء بحثه للمنزلة المنطقية للقضايا العلمية على أن الكثير من العبارات العامة في العلم لا تحتاج إلى معاملتها على أنها دالات صدق للقضايا الأولية؛ لأنها ليست تجريبية، وبالتالي ليست قضايا بالمعنى الدقيق، هي على الأصح توصيات بمنهج لتمثيل فئة معينة من الظواهر.
39
وكان حل شليك قريبا من حل أستاذه وصديقه فتجنشتين، فقد ادعى أن القوانين العلمية ليست عبارات، بل هي قواعد أو رخص للاستدلال، غير أن كارناب ونويرات اعترضا على هذا؛ لأن القواعد لا يمكن اختبارها أو تكذيبها، وما هكذا قوانين العلم. وقد كان هذا الخلاف بشأن القوانين العلمية، واعتبار أنها ليست قضايا ورفض البعض لهذا فيصلا في تاريخ الوضعية قسمها، أو قسم جماعة فيينا على ذاتها إلى شعبتين.
تلك بصفة عامة المشاكل التي تبدت في وجه معيار التحقق، مما جعله يتخذ تدريجيا صورا أخرى، على أمل التغلب على هذه الصعوبات.
أول هذه الصور «القابلية للتأييد
Conformability » وهي تعني أن القضية لا تكون ذات معنى إلا إذا أمكن تأييدها، أي اشتقاق قضايا صادقة منها. وقد ارتبط معيار القابلية للتأييد بالقابلية للاختبار
Testability . والواقع أن نقد كارل بوير لمعيار التحقق هو الذي أجبر أعضاء الجماعة على تعديله والاتجاه به نحو القابلية للاختبار، ومنطوقة كالآتي: تكون الجملة قابلة للاختبار إذا كنا نعرف الإجراءات المعينة (مثلا تنفيذ تجارب معنية) التي من شأنها أن تؤيد الجملة أو تؤيد نفيها بدرجة ما، بينما تكون الجملة قابلة للتأييد إذا أمكن منطقيا لأي نوع من الأدلة التجريبية أن يؤيدها، حتى ولو كنا لا نعلم المسار المعين لإجراءات الحصول على هذه الأدلة. وواضح أن القابلية للاختبار مجرد صور قوية فعلية من القابلية للتأييد المضعفة. والفارق بينهما يطابق الفارق بين التحقق القوي أو المباشر والتحقق الضعيف أو غير المباشر، مما يعني أن القابلية للتأييد هي الأصل وهي الأوسع في ماصدقاتها، والقابلية للاختبار تابع لها يحدد فئة معينة من ماصدقاتها، هي الفئة القابلة للتأييد فعلا.
ورغم هذا ميزت الوضعية في أحد أطوارها بين أربعة معايير: القابلية التامة للتأييد - القابلية التامة للاختبار - درجة معينة من القابلية للتأييد - درجة معينة من القابلية للاختبار، وكلها تتعاون معا لتمييز العلم واستبعاد الميتافيزيقا.
وكان كارل همبل
C. Hempel (1905-1997م) بالذات أكثر الوضعيين استجابة لنقد بوير للتحقق، فأكد أن هذا المبدأ يفضي إلى مشكلات منطقية يستحيل الخروج منها، فضلا عن أن تاريخ العلم لا يدلنا بصورة واضحة على ما يمكن أن نسميه بالتحقق.
40
ولهذا تمسك بمعيار القابلية للتأييد والاختبار بصورة تجعله معيار الوضعيين الوحيد الذي يفيد العلم ومنهجه ؛ إذ يمكن بواسطته تمييز النظرية العلمية، وأيضا المفاضلة بينها وبين النظريات العلمية الأخرى عن طريق ما أسماه بدرجات القابلية للتأييد والاختبار، وقد عني همبل عناية شديدة بمسألة الدرجات هذه، التي هي فعلا ذات فائدة عظمى للمنهج وإجراءات البحث العلمي، في حين أننا لم نسمع إطلاقا عن درجات للقابلية للتحقق.
هكذا نجد أن معيار التحقق بعد أن كان غاية في القوة والمضاء قد قنع بأن يحل محله معيار التأييد الذي هو غاية في الضعف والتواضع؛ إذ يقنع فقط بإمكانية تأييد أية قضية لكي يقول بأنها ذات معنى، ومع هذا لم يستطع أن يؤدي المهمة بجدارة أو أن ينجو من الصعوبات ومن النقد العنيف.
إن هذه المعايير جميعا تنحو في التحليل المنحى السيمانطيقي، أي تحليل الدلالات والمعاني؛ لتصل إلى الهدف الوضعي وهو الشيء التجريبي العيني المحسوس، ولما تبدت الصعوبات في وجه هذه المعايير، حاول نفر من الوضعيين المنطقيين الوصول إلى تمييز المعرفة العلمية واستبعاد الميتافيزيقا من الطريق التحليلي الآخر، وهو طريق السينتاطيقا أو التركيب اللغوي بتحليل منطق اللغة ذاتها، ومن حيث هو مطابق لمنطق بنية العالم التجريبي.
من هنا جاءت محاولة عضو الجماعة البارز رودلف كارناب
R. Carnap (1891-1970م) في البناء المنطقي للغة العلم، على أساس أن العلم يتعامل فقط مع وصف الخصائص البنائية للأشياء في الزمان والمكان والعلاقات التي تربطها ببعضها، ووضع كارناب قواعد هذه اللغة على نوعين؛ هما قواعد تشكيل وصياغة الجمل والتعبيرات الفيزيائية ثم قواعد استنباط جملة من أخرى، وهي قواعد يمكن تعديلها فور أن يتضح لنا ما هو أفضل،
41
المهم أن تكون هذه القواعد دقيقة فتستوعب كل التعبيرات الفيزيائية وتستبعد تماما أي تعبير ميتافيزيقي.
أما الأسس التجريبية التي ترتكز عليها لغة العلم فهي ما يسمى بجمل البروتوكول، ويعرفها كارناب بأنها الجمل التي تشير مباشرة إلى خبرات حسية متاحة، جمل البروتوكول هي المحك الذي نبدأ منه قياس واختبار بقية جمل اللغة العلمية، بغير أن تكون هي ذاتها، بحاجة إلى قياس أو اختبار أو تبرير، وهي جمل أساسية غير قابلة للتعديل.
على هذه الأسس تكون لغة العلم المنطقية التي شيدها كارناب برفقة أوطو نويراث
O. Neurath (1882-1945م) قادرة على حصر التعبيرات داخل حدود العالم التجريبي، وتنغلق دون متاهات الميتافيزيقا التي لا تقبل بحال الصياغة في حدود هذه اللغة، وكل ما هو ذو معنى يمكن التعبير عنه في حدودها، خصوصا علم النفس على قدر ما هو علم، هكذا ترتد العلوم جميعها إلى الفيزياء داخل إطار هذه اللغة، وأي مجال فرعي للعلم يمكن ترجمة عباراته - بصورة مكافئة تماما لصورتها الأصلية - إلى لغة العلم. ونخلص إلى أن العلم نسق واحدي تكاملي مركزي، لا نجد داخله مجالات لمواضيع ذات تباين جوهري، وتبعا لهذا لا نجد هوة بين العلوم الطبيعية والعلوم السلوكية مثلا،
42
وهذا صلب من أصلاب الوضعية المنطقية، إنه الدعوة إلى العلم الموحد في إطار الفيزياء؛ ليغدو أي علم آخر مجرد فرع أو امتداد للفيزياء، فيقول كارناب: إنه مع لغة العلم كلغة عمومية ستتحول جميع العلوم إلى الفيزياء وتستبعد الميتافيزيقا على أنها لغو، وتصبح العلوم المختلفة أجزاء من العلم الموحد.
اتفق الوضعيون المنطقيون جميعا على مشروع العلم الموحد، الذي يبرز مدى تطرفهم في الافتتان بالفيزياء بنفس درجة تطرفهم في الغضب المضري الذي لا يبقي ولا يذر على الميتافيزيقا. لكن الدائرة انقسمت على نفسها انقساما حادا بين فريقين، أحدهما فريق التحقق السيمانطيقي وعلى رأسه شليك وفيزمان، حصر نفسه في الخبرة التجريبية. والثاني هو فريق التركيب اللغوي السينتاطيقي، على رأسه كارناب ونويراث، حصر نفسه في العبارات والأنساق اللغوية. هذا في حين أن الوضعية المنطقية قامت أصلا للربط بين هذين الجانبين: الخبرة التجريبية والتعبيرات اللغوية؛ لتنحصر الثانية في حدود الأولى كوسيلة لاستبعاد الميتافيزيقا وتمييز المعرفة العلمية، استمرارا لمهمة فلسفة العلم منذ أن نشأت في القرن الأسبق من أجل تبرير وتمييز العلم.
في القرن العشرين لم تعد حجة التعميم الاستقرائي تصلح بحال لتمييز وتبرير العلم، فجاء الوضعيون مواصلين لنفس التطرف التجريبي، ويحاولون إنقاذ النزعة الاستقرائية باستخدام سلاح مستجد هو المنطق الرياضي، وعن طريقه كانت محاولاتهم التي رأيناها لتمييز المعرفة العلمية، وبدلا من أن يستخدموه لتطوير التجريبية والكف من غلوائها الاستقرائي بإثبات دور العقل الإنساني كما ينبغي أن تفعل التجريبية المنطقية المتبصرة في القرن العشرين، فعلوا العكس وحاولوا استغلال وتسخير المنطق الرياضي للإبقاء على الحسية التجريبية المتطرفة. هذا بينما كان العلم يواصل السير قدما في الابتعاد عن الحسي المباشر إثباتا لدور العقل الإنساني في صنع التقدم العلمي، فلا غرو أن تنقسم دائرة فيينا على نفسها، وتصل الوضعية المنطقية إلى نفس الطريق المسدود الذي وصلت إليه النزعة الاستقرائية.
كان تطرفهم القاصم حقا في قصر الفلسفة بأسرها فقط على التحليل المنطقي للعلم. لا شك أن منهج التحليل مفيد ومثمر للغاية، لكن غاب عنهم أنه يكون أكثر فائدة إذا تعاون مع المناهج الفلسفية الأخرى، ومتى كان فريق فلسفي واحد يستطيع الزعم باحتكار الحقيقة؟! هذا فضلا عن الحروب الضروس وجبهات الرفض العريضة التي فتحوها على أنفسهم بإثارتهم لحفيظة كل مقدر لدور الميتافيزيقا في ملحمة العقل البشري، وكل رافض لأن تنحسر الفلسفة بجلال قدرها إلى مجرد ظل باهت للعلم. كما أن الماركسيين رأوهم ثبوتيين رجعيين تعمل تحليلاتهم المنطقية على تسكين الأمر الواقع والحيلولة دون الثورة والتغيير.
ومع كل هذا لا مندوحة عن الاعتراف بالجوانب الأخرى الإيجابية. يكفي فضل الوضعيين في تطوير المنطق الرياضي وتطبيقاته الفلسفية. ومنذ الوضعية المنطقية فصاعدا لم تعد فلسفة العلم نشاطا على هامش الفلسفة، ولا تسكعا للعقول المتميزة، بل أصبحت فلسفة العلم نشاطا فنيا احترافيا دقيقا ومرموقا. والحق أن فلسفة العلم كنشاط أكاديمي تخصصي إنما هي ربيبة جامعة فيينا، كانوا تنويريين يشنون الحرب على الخرافة والعقل المنطلق بلا ضوابط، ألقوا في النفوس رهبة من الاسترسال في الأقوال الفضفاضة بغير حساب، وأجبروا الفلاسفة الآخرين على مزيد من الدقة والوضوح في التعبير، حتى بات التعبير الواضح المفهوم من سمات الفلسفة في القرن العشرين، بعد أن اشتهرت طوال تاريخها بالغموض والإلغاز والصعوبة.
وفي الحضارة العربية ظفرت الوضعية المنطقية بما لم يظفر به سواها من مذاهب الفلسفة الغربية، ظفرت بنصير متحمس هو عملاق الفلسفة العربية في القرن العشرين زكي نجيب محمود (1905-1993م). وكان يدرس للدكتوراه في جامعة لندن إبان الأربعينيات، وحضر محاضرات لرسل وآير وسواهما يقول:
شعرت في اللحظة التي قرأت فيها عن الوضعية المنطقية بأنه إذا كانت الثقافة العربية في حاجة إلى ضوابط تصلح لها السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا.
43
فهي دعوة إلى الأخذ بأحكام العقلي العلمي الصارم - وحده دون العاطفة - والتزام الدقة البالغة في استخدام الألفاظ والعبارات.
44
وتبنى زكي نجيب الوضعية المنطقية تبنيا كاملا، واتخذها عنوانا وبطاقة لهويته الفلسفية وتكرس إبان الخمسينيات لنشرها والدعوة إليها، غير آبه بمردودها على العقائد الدينية. وفي عرضه المنهجي الأستاذي الرائد للمنطق الرياضي وفلسفة العلم، وضع عمله بجزأيه تحت عنوان «المنطق الوضعي»! أجل بعض فصول الكتاب مكرسة للوضعية التي تنتسب إلى المنطق، ولكن المنطق الرياضي ذاته بحث مجرد لا ينتسب لمذهب دون الآخر، ومهما كان استغلال فلاسفة الوضعية للمنطق وإنجازاتهم فيه، فهذا «ليس من شأنه أن يسحب صفة الوضعي على المنطق نفسه، فلم يأت المنطق الرياضي لخدمة مقاصد الفلاسفة الوضعيين»،
45
على العموم أعقبه الدكتور زكي نجيب بكتابيه «خرافة الميتافيزيقا 1953م»، و«نحو فلسفة علمية 1958م»، وهما من أفضل عروض الوضعية المنطقية، وعلى مستوى العالم. وثمة أيضا الجزء الثاني من «قشور ولباب 1956م»، هذا بجانب أنها منبثة في معظم ما كتبه بعد هذا.
كانت الوضعية المنطقية مع الأستاذ المعلم زكي نجيب محمود رسالة تنويرية وسبيلا إلى صحوة عربية، بتوجيه الأنظار إلى الواقع بدقة وصرامة المنهج العلمي، ووجهت بهجوم عربي حاد لم ينل من عزيمة الأستاذ المعلم. لكن خفت وطأة الهجوم حين انتقل زكي نجيب إلى الاهتمام بتجديد الفكر العربي والبعد الإسلامي لحضارتنا وتمثل الوضعية المنطقية بشيء من الهوادة، فأخرج طبعة ثانية من «خرافة الميتافيزيقا» تحت عنوان «موقف من الميتافيزيقا 1983م». وظل زكي نجيب دائما على إيمان بضرورة الوضعية المنطقية لتوجيه العقل العربي نحو الواقع، ومحاربة الخرافة التي تعشعش فيه وكبح استرسالنا في الإنشائيات والخطابيات والخوض في لغو العقول.
خامسا: الأداتية
الاتجاه السياسي الآخر في فلسفة العلم هو الأداتية
instrumentalist
بمعنى النظر إلى القوانين والنظريات والأنساق العلمية بوصفها أدوات للربط بين الظواهر والتنبؤ بها والسيطرة عليها توصف بالصلاحية أو عدم الصلاحية، وليست تعميمات استقرائية أو قضايا إخبارية ذات محتوى معرفي عن العالم التجريبي لتوصف بالصدق أو الكذب. فتقاس قيمة النظرية العلمية بقدرتها على أداء وظائف العلم، وليس بقدرتها على التعبير عن الواقع بصدق. القانون العلمي لا يصف الطبيعة، بل لعله يصف تصورنا للطبيعة. إنه اختراع أكثر منه اكتشاف ولا يمليه الواقع التجريبي. العقل يبدع النظرية العلمية بقدر من الحرية، مثلما يبدع أية أداة أخرى يريدها لأداء وظيفة معينة. وليست التجربة محكا حاسما للحكم على النظرية العلمية، المحك هو الملاءمة لأداء الوظيفة، ومعايير الملاءمة منطقية منهجية قبل أن تكون تجريبية، فهي المرونة والخصوبة والدقة في التنبؤات والشمولية والاتساق، ومن قبل ومن بعد البساطة. والمقصود بالبساطة
Simplicity
أن تكون النظرية محتوية على أقل عدد ممكن من المفاهيم الأساسية والعلاقات. والوقائع التجريبية ذاتها تقبل أو ترفض تبعا لقرار منهجي بناء على تلك المعايير المنطقية.
أطاح الأداتيون بالأساس الاستقرائي، وألقوا مشكلة الاستقراء وراء ظهورهم، أصبح العلم في نظرهم مجرد نسق منطقي من عبارات هي دوال منطقية، لا تعدو أن تكون مجرد أدوات تحقق هدف العلم أو تؤدي وظيفته؛ وهي السيطرة على العالم ثم التقانة «التكنولوجيا». وبالتالي أعفوا أنفسهم من العلية وافتراض الاطراد في الطبيعة، فلا تواجههم مشكلة الاستقراء، ما دامت قوانين العلم ليست تعميمات نحكم عليها بالصدق وحدود الصدق، بل هي - كما ذكرنا - أدوات نافعة ومفيدة لأداء وظيفة معينة، ومن إبداع العالم وخلقه الحر. وهذه الحرية ليست عشوائية أو تعسفية، بل محكومة بالمعايير المنطقية. القانون العلمي لا يمكن التحقق التجريبي من صدقه أو كذبه، ولا جدوى من هذا، يكفي أن يكون عبارة متسقة بسيطة ومثمرة، فيوصف بالمواءمة والصلاحية.
أصر الأداتيون على أنه لا يمكن اعتبار القانون العلمي مشتقا من الاختبارات التجريبية؛ لأن القانون عام والتجربة جزئية، القانون محدد بدقة والتجربة تقريبية تحتوي على عديد من التعقيدات يستبعدها القانون.
46
التجربة منتهية والقانون قابل دائما للتطور والتقدم، فكيف تكون النظرية العلمية نتاجا للوقائع التجريبية؟! إنها نتاج العقلية العلمية المبدعة، وتكشف عن عمليات منطقية أكثر مما تكشف عن وقائع تجريبية. قد تتكيف النظرية وفقا لمقتضيات التجربة التي لا تمثل أكثر من مرشد، فدورها استشاري فقط لتحديد أنسب الفروض العلمية والأكثر ملاءمة، أي الأدق في التنبؤ والأوسع في العمومية، دون الزعم بأن القانون حقيقة متمثلة في الواقع التجريبي.
لم تعد التجربة إطارا مرجعيا للحكم على القوانين والنظريات. الإطار المرجعي معايير منطقية هي على وجه التحديد المواءمة والاتساق والبساطة المرتبطة بمبدأ الاقتصاد في التفكير، خصوصا البساطة؛ لأن الواقع معقد ومهمة القوانين العلمية تبسيطه. البساطة إذن معبرة عن وظيفة العلم في نظرهم، من هنا كانت أهم المعايير المنطقية والإطار المرجعي الأكبر بالنسبة للأداتيين.
ومع رفع لواء البساطة وتحجيم دور التجربة، تظل الأداتية فلسفة تجريبية منطقية بالمعنى الشامل المستخدم على هذه الصفحات. إنها لا بد وأن تكون تجريبية مهما جعلت دور التجربة استشاريا وتاليا للمعايير المنطقية؛ لأنها فلسفة للعلم التجريبي. والواقع أن الأداتيين أخذوا الأساس الوضعي الذي صاغه كونت حين قال إننا لا نبحث عن حقيقة الظاهرة إنما نكتفي بالوقوف عند سطحها الخارجي وعلاقاتها بالوقائع الأخرى. وهذا إرنست ماخ التشيكي المولد النمساوي الجنسية الذي اعتلى لأول مرة في تاريخ الجامعات كرسيا لفلسفة العلوم التجريبية، ويعد ماخ رائدا للأداتية وفي الوقت نفسه رائدا للوضعية المنطقية. إنه وضعي متطرف في فلسفته التي ترتكز على رد كل شيء إلى الإحساسات حتى إنه يرفض الصعود من الإحساسات إلى أية دلالة إخبارية للعبارات العلمية. من هنا رأى ماخ في النظرية العلمية محض أداة نافعة وإجراء مفيد ليس أكثر، والقوانين العلمية مجرد وصف للعالم التجريبي وليست تفسيرا له، وصف لعلاقات بين الظواهر قابلة للملاحظة، ولا مكان في العلم لغير هذا. وكان ماخ يبرر انطباق الرياضة على الواقع الفيزيائي بأن علم الرياضة التطبيقية ميكانيكا، وهو ببساطة وصف مناسب للظواهر. والنظرية الفيزيائية عند ماخ أوصاف من حيث هي تعريفات ضمنية مطابقة للخبرة، وهي في الواقع وصف له دور وقوة الأداة. والقانون العلمي مهما كان مجرد أداة، هو أسلوب للبحث ودالات قضايا توصف بالصلاحية وعدم الصلاحية، ولا توصف بأنها صادقة أو كاذبة.
هكذا انطلق ماخ من الأساس التجريبي الوضعي الحاد ليصل إلى لب الأداتية، وهو في هذا وذاك يهدف إلى نفس هدف الوضعية المنطقية وهو تأمين العلم من أي اختراق ميتافيزيقي أو تسلل لمفاهيم وأبعاد ميتافيزيقية. قصر ماخ وظيفة العلم على الوصف ورفض أن يضطلع العلم بالتفسير؛ لأن التفسير هو الباب الذي تتسلل منه الرؤى الميتافيزيقية إلى نسق العلم. وقد بلغ به الأمر أن حارب النظرية الذرية في الفيزياء؛ لأنها ليست توصيفات قائمة على الخبرة! وبالمثل يجاهر بيير دوهيم بأن «فلسفته تقتصر على إثبات أن الفيزياء ليست مأخوذة من أية رؤية ميتافيزيقية».
47
يقترن اسم بيير دوهيم برفيقه هنري بوانكاريه
H. Poincare (1854-1912م) بوصفهما مؤسسين للأداتية في فلسفة العلم في القرن العشرين في شكل الاصطلاحية. وقد أشاد كارناب بماخ وبوانكاريه بوصفهما من أبطال حركة تحرير العلم من الميتافيزيقا. لكن الأداتيين لم يشنوا حربا هوجاء لا قبل للعلم بها على الميتافيزيقا لتحقيق هذا الهدف، كما فعلت الوضعية المنطقية، بل اقتصروا على حدود العلم وحاولوا تجريدها من الأبعاد الأنطولوجية التي تسمح بتسلل الميتافيزيقا. وعلى أية حال، فإن هذا الموقف من الميتافيزيقا في نظرية العلم لا يتأتى إلا من تجريبية قاطعة.
وتجريبية الأداتيين بدورها تجريبية منطقية، لكن بأسلوبهم المختلف. حقا لم يستخدموا المنطق الرياضي بالتقنية الحرفية التي رأيناها مع الوضعيين المنطقيين والتحليليين، ولم يهتم دوهيم بأبحاث بيانو وفريجه ورسل. درسها بوانكاريه، لكن لم يستفد كثيرا منها، وهاجم إفراطهم في التفاصيل المنطقية، وقال متهكما: «إذا كانوا قد احتاجوا إلى سبع وعشرين معادلة لإثبات أن الواحد عدد، فكم معادلة يحتاجونها لإثبات مبرهنة حقيقية؟!»
48
واستأنف بوانكاريه هجومه على رسل وكواترا وأقرانهما. ومع هذا كانت التجريبية الأداتية تجريبية منطقية في احتكامها لمعايير منطقية مثل البساطة والاتساق والمواءمة، هذا بعد أن أطاحوا بالأساس الاستقرائي لتنفرد المعايير المنطقية بالميدان. وفوق هذا نجد أن الأداتية في جوهرها مد لنطاق فلسفة العلم الرياضي إلى فلسفة العلم التجريبي، على أساس أن أي نسق منطقي أو رياضي متسق ومترابط قابل للتطبيق على الواقع، ولا فارق في نظرهم بين النسق الرياضي والنسق التجريبي. في كلتا الحالتين ثمة حقائق بسيطة ومتسقة وموائمة، أبدعها العقل بحرية ولم تفرضها عليه التجربة ويمكن أن نصطلح عليها لتنظيم وقائع الخبرة، «والرياضيات تصدق على الطبيعة؛ لأن هذا النمط من التفكير يمكننا من التعامل مع الطبيعة بأكثر الصور ملاءمة. وإنها لصورة منتقاة عبر عملية تطور لصور الفكر الكائنة في أذهاننا».
49
هكذا تساهم الأداتية بدورها في إبراز النقلة المحورية لفلسفة العلم في القرن العشرين في اتجاه أبعاد المنطق والرياضيات بحيث أصبحت التجريبية منطقية.
هذه الحدود المموهة بين الرياضيات والعلوم التجريبية تبرز الفارق المحوري بين الأداتية وسواها من مذاهب فلسفة العلم، ويتمثل هذا الفارق في عدم التزام الأداتية بالواقعية، بمعنى الوجود الواقعي المستقل للعالم الخارجي كإطار مرجعي. لقد رأينا فلسفة العلم من حيث هي فلسفة تجريبية تسلم بالواقعية، وترى العلوم التجريبية إخبارية، أي تحاول أن تعطينا مضمونا خبريا ومحتوى معرفيا عن هذا العالم. وهي محاولات ليست نهائية أو مطلقة الصدق، لكنها متطورة وتظل في الوقت المعني أفضل ما لدينا. وهي على أية رؤية حصيفة لبنية العالم وطبيعته ومحاولة بارعة لوصف وتفسير جوانب معينة منه، تلتزم بأفضل صياغة نستطيعها للعالم التجريبي. بالنسبة للأداتية الموقف مختلف، فليس هناك مضمون خبري أو محتوى معرفي، ولا التزام بصياغة الواقع، بل فقط أدوات لإقامة الروابط بين ظواهره والتنبؤ والسيطرة، أدوات مفيدة، لكنها خاوية. إنها مجرد اصطلاحات ومتواضعات اتفقنا عليها؛ لأنها أكثر ملاءمة من البدائل أو النظريات الأخرى. وفي النهاية تنفرد الأداتية بهذا الفصل بين المعرفة والوجود، وتجريد الإبستمولوجيا العلمية من دلالاتها الأنطولوجية، في حين تتفق بقية الأطراف على أن معلم نجاح العلم الحديث هو هذا التمثل الواقعي للإبستمولوجيا وهذه القيمة الأنطولوجية للنظرية العلمية، خصوصا الفيزيائية. ومن الصعوبة بمكان تجريد الفيزياء بالذات من ارتباطها بمشكلة تفهم العالم الذي نحيا فيه. هذا الموقف من أنطولوجية النظرية العلمية واعتبارها بنية إبستمولوجيا خالصة، هو الذي صنع حدودا للاتجاه الأداتي.
ولكن الأداتية مثل كل الأطروحات الفلسفية الكبرى، يمكن تتبع الأصول إلى مراحل تاريخية أسبق، وتصل بنا إلى الخطوة الأولى من نسق العلم الحديث في القرن السادس عشر، حين كتب اللاهوتي أوسياندر - كما ذكرنا - مقدمة لكتاب كوبرنيقوس «دوران الأجرام السماوية» كان يعبر عن هذا الموقف الأداتي؛ إذ يقول إن الفلكي يبدع فروضا يمكن بواسطتها وطبقا لمبادئ الهندسة أن نحسب بدقة حركة الأجرام السماوية، وليس من الضروري أن تكون هذه الفروض صادقة في الواقع، شيء واحد يكفي هو أن تمدنا بحسابات مطابقة للملاحظة. معنى هذا أن نظرية كوبرنيقوس ليست وصفا صادقا أو كاذبا للعالم، بل مجرد «جهاز حسابي يسمح بربط مجموعة من مواقع الكواكب القابلة للملاحظة بمجموعة أخرى مماثلة. والحسابات تكون أيسر وأسهل إذا عوملت منظومة الكواكب وكأن الشمس تشغل مركزها».
50
وأمل أوسياندر أن ينجح هذا التفسير الأداتي في تمرير النظرية أمام رجال الدين، ما دامت مجرد أداة وليست خبرا عن الواقع يناقض أو يطابق ما هو مذكور في الكتب المقدسة. ثم تبناها بيير جاسندي وأعلنها كنظرية للعالم في كتابه
Syntagma
عام 1658م.
51
أما عن الأصول الفلسفية الصريحة، فقد أسهب كارل بوير في إيضاح أن مؤسس الاتجاه الأداتي في فلسفة العلم هو الأسقف جورج باركلي الذي رأيناه في «حوار الفلسفة والعلم الحديث» بالفصل الثالث من أعلام التجريبية الإنجليزية في القرن الثامن عشر، رهن الوجود بالإدراك الحسي له، ورأى أن النظريات العلمية كنظريات كوبرنيقوس وكبلر وجاليليو ونيوتن مجرد أدوات للحساب والتنبؤ بشأن الظواهر وشيكة الحدوث. إنها لا تصف العالم ولا أي جانب من جوانبه، ولا يمكنها أن تفعل هذا؛ لأنها ببساطة خالية من المعنى. المصطلحات الواردة فيها من قبيل القوة والتثاقل والجذب والقصور لا معنى لها من حيث إنها لا تشير إلى وقائع مدركة أو ملاحظات حسية أو ظواهر طبيعية، بل تصف خصائص غير مرئية لعالم غير مرئي، إنها مفاهيم خفية غامضة
occult . وبالتالي فإن نظرية نيوتن لا تعني شيئا، وليست تفسيرا للعالم، بل هي ببساطة وهم
Fiction
رياضي وحيلة رياضية، لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، بل فقط مفيدة أو غير مفيدة. ويستعمل باركلي مصطلح «الفروض الرياضية» لهذا النوع من الحيل الخلو من المعنى لكن المفيدة، والتي وضعت من أجل المواءمة الرياضية لاختزال وتيسير الحسابات.
وفي أعقاب باركلي جاء شيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط بنظريته في المعرفة التي تجعل العقل مزودا بمقولات معينة تنصب في إطارها المعطيات الحسية، فتتشكل المعرفة. وهذا يعني: العقل هو الذي يفرض مقولاته وتصوراته على الطبيعة، وليست الطبيعة هي التي تفرض صورتها على العقل، كما توحي النزعة الاستقرائية التي تمثل التجريبية المتطرفة والمادية الخالصة. تلك هي الدرة الثمينة في فلسفة كانط التي توصف بأنها مثالية، واستفادت منها الأداتية وفلسفات علم مناهضة للأداتية، وسوف تستوعبها تجريبية القرن العشرين فتغدو متبصرة أكثر، وتمثل مركبا جدليا يجمع خير ما في المثالية والمادية ويتجاوزهما إلى الأفضل، كما سبق أن فعل الرائد الأكبر برتراند رسل بطريقته.
وعلى مشارف القرن العشرين نجد أن الأداتية كاسم وكمسمى صيغت في إطار الفلسفة البرجماتية الأمريكية التي رأيناها تؤكد على أن الفكرة لا توصف بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مفيدة أو غير مفيدة، وارتهن المعنى عندهم بالنفع في الواقع العملي الذي يوجه السلوك ويرسم العمل كما تفعل الخريطة الجغرافية. ألقوا بالمشاكل المنطقية للصدق وراء ظهورهم، وعني جون ديوي على وجه الخصوص بطرح النظرة الوظيفية للمفاهيم، وتبيان أن التفكير أداة للمعرفة والمعرفة أداة لتنظيم الخبرة، والعلم ذاته مجرد أداة كي يؤمن وجود الإنسان ويكفل له الانتصار في معركة الصراع من أجل البقاء، والمعيار هو الصلاحية لأداء هذه الوظيفة وليس الصدق أو الكذب. ويستخدم مصطلح «الأداتية» أيضا للدلالة على فلسفة ديوي. لا مغالاة إذن في القول: إن الأداتية هي تطبيق إبستمولوجي للبرجماتية في فلسفة العلم.
ومع كل هذه الأصول والأساس الذي ألقاه باركلي والريادة المباشرة لإرنست ماخ، فإن الأداتية احتلت موقعها المرموق في فلسفة العلم في القرن العشرين بفضل يعود إلى الفلسفة الفرنسية قبل سواها. وكانت الأصول المباشرة في حركة نقد العلم التي رأيناها تسود الفلسفة الفرنسية في القرن التاسع عشر حاملة التأثير الكانطي، وفي سياقه تلك الدرة الثمينة: العقل هو الذي يفرض تصوراته على الطبيعة. وكما رأينا في الجزء الأول من هذا الفصل، هدفت حركة نقد العلم إلى تحجيم الحتمية العلمية انتصارا لحرية الإنسان، وكانت وسيلتهم إلى هذا هي الزعم بأن الحتمية العلمية مجرد أداة إبستمولوجية خالصة لتنظيم المعرفة العلمية والمشروع العلمي، ولا تنطوي البتة على أي تصور للوجود أو خبر أنطولوجي بشأن الواقع. ونذكر على وجه الخصوص إميل بوترو ورسالته «إمكان قوانين الطبيعة 1874م» التي تؤكد أن الحتمية والضرورة فكرة عقلية خالصة لا توجد إلا في الأنساق المنطقية والرياضية، ويحاول العقل أن يفرضها قسرا على تصوراته للواقع؛ لأن هذا مفيد للبحث العلمي، في حين أن الواقع خلو منها ويتسم بالتعددية والتداخل فهو احتمالي وقوانين الطبيعة ممكنة وليست ضرورية. وإذا اتسمت الأبنية الإبستمولوجية العلمية بالضرورة فلا يعني ذلك اتسام الواقع بها؛ لأن عالم الأعيان يختلف عن عالم الأذهان بتعبير الإسلاميين. الخلاصة أن حركة نقد العلم فسرت الحتمية العلمية تفسيرا أداتيا، ثم واصلت الفلسفة الفرنسية تعميم هذا التفسير على النسق العلمي بأسره.
وكان هذا كشأن كل اتجاهات فلسفة العلم في القرن العشرين، مدفوعا بثورة العلم الكبرى التي عرضها الفصل السابق. ولما كانت الأداتية في جوهرها مدا لنطاق فلسفة الرياضيات إلى العلم التجريبي، فإن ظهور هندسات لا إقليدية متسقة ومكافئة لهندسة إقليدس كان أقوى سند للفلسفة الأداتية، فقد اتضح أن مسلمات إقليدس ليست البتة حقائق مطلقة، بل متواضعات أبدعها العقل الإنساني، ثم اصطلحنا عليها؛ لأنها موائمة ونافعة. وما أسهل الزعم بأن اتخاذ هندسة إقليدس أو سواها مسألة متروكة للاختيار الحر المحكوم باعتبارات الفائدة البرجماتية والبساطة والمواءمة. وحين كشفت مبرهنة كورت جودل عن لا اكتمال في الأنساق الرياضية، مثلت هي الأخرى سندا قويا، فهنالك صياغة غير قابلة للبت ولا يمكن إثباتها ولا إثبات نفيها، إذن قبولها أو رفضها لن يتم إلا على أساس برجماتي ولاعتبارات المواءمة. ويخرج الأداتيون من هذا بأن الحقائق الحسابية مثل الحقائق الهندسية، لا تفرض على الذهن ويتوقف قبولها أو رفضها على المتواضعات التي اصطلحنا عليها. يختلف المنطق عن الهندسة ونظرية الحساب، ولا يخضع للرؤية الاصطلاحية فكل حقائقه مبرهنة ولا يمكن الاستغناء عن مسلماته، وقواعده كافية للاستدلال ولوضع معايير الملاءمة. ولكن ما أسهل أن نمد التفسير الأداتي إلى الفيزياء، بعد أن انهارت الفيزياء الكلاسيكية وصعدت فيزياء الكوانتم والنسبية. فشهد العلم نظريات متعددة لنفس الظاهرة كلها ذات صلاحية ومواءمة في حدود معينة يختار العقل أن يعمل في إطارها، الضوء جسيم وموجة، والإلكترون داخل الذرة جسيم له كتلة، وإذا خرج منها تحول إلى طاقة، ومبدأ هيزنبرج يكشف عن أثر أدوات الرصد على الظاهرة المرصودة؛ ليمكن الزعم بأنه ليس هناك واقع متعين يكشف عنه العلم. وأسفر اقتحام عالم الذرة بأسره عن معرفة استدلالية بحتة، ولم تعد النظرية العلمية تشير إلى وقائعه بعلاقة واحد إلى واحد كما تصور الكلاسيكيون. وعلى هذا نزعوا البعد الأنطولوجي عن المفاهيم العلمية وحولوها إلى أدوات. فهل المفاهيم الذرية كيانات حقيقية حتى وإن تعذر إدراكها؟ أم إنها مجرد أدوات تيسر الاستنباط والتنبؤ؟ بدا للأداتيين أن البديل الثاني أصوب وأقرب إلى واقع ممارسة البحث العلمي.
وعلى هذا الأساس أمكن لفلسفة العلم الفرنسية في القرن العشرين، بفضل بوانكاريه ودوهيم، أن تستهل طريقها بتأسيس أقوى صورة للاتجاه الأداتي تعرف باسم الاصطلاحية
Conventionalism ، وتعني أن حقائق المنطق والرياضة متواضعات اصطلح العلماء على استخدامها تبعا لرموز معينة وقواعد لصياغة التعريفات والمسلمات وللاستدلال، وتظل صادقة ما دامت تستخدم بطريقة متفقة مع هذه الرموز والقواعد ، بصرف النظر عن معطيات الواقع. ومع بدايات القرن العشرين قام هنري بوانكاريه بتطبيق هذه الرؤية الاصطلاحية على الفيزياء، فتدين الاصطلاحية بنشأتها الناضجة إليه. أخرج بوانكاريه ثلاثة أعمال رائدة في فلسفة العلم هي «العلم والفرض 1902م»، و«قيمة العلم 1905م»، و«العلم والمنهج 1908م». لقد كان فيلسوف علم وأيضا عالم رياضيات عظيم الشأن. حصل على درجة الدكتوراه في الرياضة عام 1883م، وأصبح أستاذا للفيزياء الرياضية بكلية العلوم بباريس، وعضوا بالأكاديمية الفرنسية للعلوم منذ عام 1887م. «قبيل ظهور النسبية وبالتحديد عام 1904م أعطى بوانكاريه محاضرة أشار فيها إلى أن نظرية نيوتن لا تستطيع تفسير الظواهر المستجدة في الفيزياء، وناقش إمكانية أن تحل نظرية أخرى محل الميكانيكا النيوتونية. فكان بوانكاريه أكثر من مجرد ممهد للنظرية النسبية».
52
رأى أن الفيزياء لا تنفصل أبدا عن الهندسة، وكان منطلق اهتمامه المركزي الهندسات اللاإقليدية، رأى أن هندسة إقليدس ستظل دائما متربعة على عرش العلم لأنها الأبسط، ومع هذا لا توجد هندسة أفضل من الأخرى، فقط ثمة بدائل عديدة لحل المشكلة العلمية، ثم يتخذ العالم قرارا باختيار بديل دون سواه، كما ذكرنا، ليست الوقائع التجريبية هي التي تحسم هذا القرار، بل الاعتبارات المنطقية المذكورة. إنها اعتبارات برجماتية وأيضا جمالية. فماذا عسى أن يكون الجمال الخلاب سوى تكامل قيم الاتساق والبساطة والمواءمة، لكنه ليس الجمال الحسي المباشر الذي تتذوقه الحواس، بل هو نوع رفيع من الجمال لا يتذوقه إلا الذكاء العلمي.
كان بوانكاريه في طليعة المؤكدين على أن دور التجربة ليس ملزما بحال، بل فقط يتفاعل مع العوامل الأخرى لاتخاذ القرار، وأن الوقائع التجريبية لا تكفي أبدا لتبرير المعرفة العلمية، فهي تعطينا ركاما مهوشا، ولا بد من عنصر في ذهن العالم يضفي الوحدة والنظام والنسقية على ركام الوقائع المتناثرة. وهذه في رأيه هي وظيفة العلم في مواجهة الوقائع، إنها التفسير والتنبؤ والسير نحو الوحدة. يميز بوانكاريه بين الواقع المعقد والقوانين البسيطة، وإذا كان هناك تعميم استقرائي فمهمته التنبؤ، وليجعل الواقع أبسط ويعبر عن الوحدة في مجال العلم «إبستمولوجيا»، ولكن لا يتبعها بالضرورة افتراض الوحدة أنطولوجيا. فكما رأينا، يجعل الأداتيون جميعا الإبستمولوجيا في واد والأنطولوجيا في واد آخر.
بطبيعة الحال رفض بوانكاريه تماما التفسير التجريبي لأصول الرياضيات مع جون ستيوارت مل، وجعل الرياضيات عقلية خالصة. أما في الفيزياء فيميز بوانكاريه بين عناصر التجربة والنتائج الاختبارية وبين عناصر التعقل الرياضي والاصطلاح والفرض، موضحا أننا نميل إلى الخلط بينهما، لكن لا بد من التمييز بين المبادئ والنظريات البحتة وبين القوانين الجزئية، ودور العناصر التجريبية في القوانين الجزئية فقط. صحيح أن التجربة تصدق على قوانين نيوتن الثلاثة، إلا أن التجربة لا يمكنها أبدا انتهاك هذه القوانين أو إثبات خطأها، وستظل إلى أبد الآبدين صحيحة، فهي مجرد اصطلاحات وتعريفات متفق عليها ونحن نقبلها؛ لأنها الأبسط، ونمارس البحث العلمي كما لو كانت هي أبسط نظرية، على الرغم من صعوبة إثبات هذا. وأخيرا انتهى بوانكاريه إلى أن هذه النظرة الاصطلاحية لا تنطبق على العلم التجريبي بأسره، بل فقط على المبادئ الأولية والنظريات البحتة والقوانين شديدة العمومية كقانون القصور الذاتي مثلا، أما القوانين التجريبية الجزئية فليست اصطلاحية.
كان بوانكاريه عالما ثوريا تقدميا مشهودا له بالنجاح، بينما هو فيلسوف علم محافظ، يتحفظ في تطبيق اصطلاحيته ذاتها. ثم يرى الإقليدية ستظل متربعة دائما على عرش العلم، ويصر على أن قوانين نيوتن فوق مطاول الاختبار التجريبي، وهذا ما نقضته تطورات العلم التالية في القرن العشرين.
أما بيير دوهيم (1861-1916م) فقد سحب التفسير الاصطلاحي على العلم بأسره، وذلك في كتابه «هدف وبنية النظرية الفيزيائية 1906م»، رأى أن النظرية العلمية تمدنا بنظام صوري عام لضم عدد كبير من القوانين الجزئية. وهي بهذا بنية من كيانات مجردة، ليست وصفا ولا تفسيرا لوقائع العالم التجريبي، بل هي مجرد أدوات اصطلحنا عليها للتنبؤ، صيغت بحيث تكون أكفأ وتنبؤاتها أدق. كل ما يبدو وصفا هو مجرد تعيين لعلاقات تجعل التنبؤ أسهل وأدق. أما التفسير فغير ذي قيمة ولا دور. مهمة العلم تنحصر في تحديد العلاقات بين الظواهر.
يتفق دوهيم مع بوانكاريه على دور الرياضيات الجوهري في أداء هذه المهمة. وأوضح دوهيم أننا حين نستخدم الرياضيات في العلم فإننا نعبر بها عن خصائص قابلة للقياس بطريقة اصطلاحية بحتة، وذلك عن طريق الرموز الرياضية التي تربط الظواهر بعلاقات فيما يسمى «بالفروض» وتترابط الفروض على أساس الطرق الرياضية، والنتائج تترجم إلى لغة الفيزياء لكي تصبح تنبؤات. وبشكل عام يلعب «الفرض» دورا بارزا في الفلسفة الاصطلاحية بأسرها.
لم يهتم بوانكاريه بتاريخ العلم، بينما كان دوهيم شديد الاهتمام به. وهذا الوعي التاريخي الفريد جعل دوهيم يرى النظريات العلمية في نشأتها ونموها ثم ذبولها لتحل محلها أخرى، ورفض تماما ما ذهب إليه بوانكاريه من أن قوانين نيوتن تظل دائما صحيحة ولا يمكن أن تنتهكها تجربة. كان دوهيم على عكس بوانكاريه الفيلسوف المحافظ والعالم الثوري التقدمي الناجح، أما دوهيم فهو فيلسوف ثوري تقدمي وعالم محافظ، بل رجعي وذو نجاح محدود، وعلى الرغم من قدراته المنطقية العالية، فإنه في كل قضية علمية تصدى لها اتخذ الجانب الخاطئ الخاسر، رفض معادلات ماكسويل الكهرومغناطيسية الفذة وانتصر لنظرية هلمهولتس التي راحت الآن في طي النسيان. لم يرحب بالفرض الذري في الفيزياء وهاجم النسبية بشراسة حين ظهورها، على الرغم من أن هذه الجوانب التي يرفضها هي الأكثر اتساقا مع فلسفته الاصطلاحية.
53
ويبدو أن ما دفع دوهيم وأقرانه إلى مثل هذه المواقف المناوئة لخطى التقدم العلمي هو المذهب الاصطلاحي ذاته حين ينفصل عن الدلالة الأنطولوجية للقانون العلمي، ويرفض المحك التجريبي ومفهوم التجربة الحاسمة، وتغدو النظريات المتعاقبة أوصافا متكافئة لنفس الظاهرة. ولن يعترف الاصطلاحيون والأداتيون عموما بتزايد المحتوى الإخباري أو عمق القوة التفسيرية للعالم الذي نحيا فيه. ولم يكن بوانكاريه موفقا في هجومه على المدرسة المنطقية في أصول الرياضيات، تماما كما لم يكن ماخ موفقا في رفضه للنظرية الذرية في الفيزياء، ولا كان دوهيم موفقا في هجومه على النسبية.
ثم شهدت فلسفة العلم في القرن العشرين فلاسفة آخرين قادرين على جعل الاصطلاحية مسايرة وموائمة أكثر لخطى التقدم العلمي الثورية، منهم آرثر إدنجتون نفسه الذي ربط منزلة القوانين العلمية بمناهجنا لاكتساب المعرفة، ولويس
C. I. Lewis
الذي بحث في عناصر أولانية سابقة على الخبرة التجريبية تتسلل إلى نسق العلم في شكل التعريفات والتصنيفات والمعيار المقبول ضمنا للحقيقة. ذهب لويس إلى أنه لا توجد معرفة بدون تأويل عقلي، والتأويل يعتمد على هذه العناصر الأولانية، وفي إطارها ينمو العلم ويتطور بحيث إن ما يبدو قانونا تجريبيا قد يصبح في مرحلة لاحقة مبدأ اصطلاحيا، وأخرج لويس عملية «العقل ونظام العالم 1929م»، و«المفهوم البرجماتي للأولانية 1932م»، وهما من العروض الهامة للمذهب الاصطلاحي. ثم عمل آرثر باب
A. Pap
على تطوير نظرية لويس في التصور البرجماتي للمعرفة الأولانية، وأخرج كتابه «الأولانية في النظرية الفيزيائية 1946م»، حيث يؤيدها بالممارسات الفعلية وإجراءات البحث العلمي في الفيزياء.
وها هنا نعرج على صورة أخرى من الصور القوية التي اتخذتها الأداتية في فلسفة العلم، وهي الصورة التي تعرف باسم الإجرائية
Operationalism . صاغ هذا المصطلح العالم الفيزيائي بيرسي بريدجمان
الحاصل على جائزة نوبل عام 1946م عن دراساته لفيزياء الضغوط العالية، وقدم لفلسفة العلم كتابيه «منطق الفيزياء الحديثة 1927م»، و«طبيعة النظرية الفيزيائية 1936م»، حيث نجد عروضا للإجرائية. إنها مذهب يربط المفاهيم العلمية بإجراءات البحث العلمي والتجارب المعملية ومحصلات الملاحظة، ويستبعد كل المفاهيم التي لا تتعين إجرائيا بوصفها ليست تجريبية، وبالتالي يغدو النسق العلمي بأسره أدوات للبحث. فأي قانون مؤلف من مفاهيم، وأي مفهوم هو طريقة قياسه والإجراءات التي تتخذ بشأنه، فلا يمكن الحكم على القانون العلمي بالصدق أو الكذب ولا معنى لهذا.
يزعم الإجرائيون أن مفاهيم المتصل الزماني المكاني والتآني والتكافؤ في النظرية النسبية هي التي فرضت المنظور الإجرائي، خصوصا بعد أن تقدم مفهوم «التعريفات الإحداثية» الذي أشار إليه الفصل السابق من جراء تطبيق النسبية لهندسة ريمان. إن النظرية النسبية بأسرها فروض عبقرية غاية في التجريد، ولا يمكن فهمها حقيقة إلا بوصفها إجراءات معينة للبحث العلمي. هكذا دأب بريدجمان على تعريف المفاهيم العلمية بواسطة عمليات قياسها وتكميمها؛ لتتلاقى الإجرائية مع معايير الوضعية المنطقية الدالة على المعنى. والواقع أن بريدجمان يكاد يتخذ موقفها، فما هو الطول؟ هو إجراءات قياسه؛ ليكافئ المفهوم ما هو ملاحظ بشأنه، لا من وقائع تجريبية، بل من إجراءات فعلية. وعلى الرغم من أن هذا التعريف الإجرائي قليلا ما استخدمه العلماء وفلاسفة العلم، فإن بريدجمان يرى أن الإجرائية تعبر عما يحدث بالفعل في الواقع العلمي. وهكذا يعمل العلماء أنفسهم بالنظريات والقوانين والمفاهيم العلمية. وباقتدار وتطرف واصلت الإجرائية ما دأبت عليه الأداتية من حذف مفهوم الحقيقة العلمية والواقع والصدق وإمكانية التحقق من القانون أو تكذيبه.
وإذا كانت الإجرائية مذهبا أداتيا طرحه علماء محترفون، فثمة مذاهب أخرى للأداتية في فلسفة العلم طرحها فلاسفة محترفون، ساروا في الاتجاه الأداتي الذي يجرد النظرية العلمية من مضمونها المعرفي ودلالتها الأنطولوجية. وأول من يتقدم في هذا الصدد الفيلسوف الألماني هانز فاينجر
H. Vaihinger (1852-1933م) الذي يعد المواصل الحقيقي لميراث الرائد الأول باركلي وفلسفته عن الوهم الرياضي. درس فاينجر الدين والأدب والأساطير الإغريقية، وتأثر بنظرية دارون وبالفلسفة الكانطية. ورأى أننا لن نعرف حقيقة العالم، فلننظر أي التصورات التي نتوهمها أقدر على التعبير عن العالم، ويتصرف العقل «كما لو» كان العالم هكذا. وضع فاينجر فلسفة الأوهام
fictions ، الوهم يعني إهمال الواقع والانفصال عنه؛ لينصب الاهتمام على تشييد كيانات ذهنية تتصف بخصائص معينة. هكذا تشيد النظريات العلمية، بيد أنها أوهام مفيدة وسليمة بخلاف الأوهام الأسطورية الفارغة. وأوضح الأمثلة على أن مفاهيم العلم كيانات وهمية هو اللامتناهي الرياضي، سواء في الصغر أو في الكبر. إنه منفصل عن الواقع وتوهمه العقل ليفتح أمامه آفاقا أوسع. إن الأبنية العلمية كيانات وهمية ترشد العقل لتحقيق المهام المنوطة بالعلم، حتى إذا أدت دورها زالت وحلت محلها نظريات أكثر تقدما؛ أي أوهام مفيدة أكثر. من هنا كانت الأوهام العلمية مؤقتة ومتطورة، بينما تتحجر الأوهام الأسطورية وتبقى دائما، النظرية المعمول بها هي الوهم العلمي الراهن، وتعني أن نعمل على تحقيق مهام العلم «كما لو» كان العالم بالصورة التي ترسمها النظرية. من هنا صاغ فاينجر فلسفته عن الأوهام العلمية في كتابه الشهير الصادر في برلين بعنوان «فلسفة كما لو 1911م».
وفي النصف الثاني من القرن العشرين يظل الإنجليزي ستيفن تولمان
S. Toulmin (1922م-؟) من أهم الفلاسفة المحترفين الذين أفادوا الأداتية وطوروها وجعلوها تدفع فلسفة العلم إلى آفاق مستشرفة، بأعماله الكثيرة وأهمها: «فلسفة العلم 1958م»، «البصيرة والفهم 1961م»، «الفهم الإنساني 1972م»، وهو يشبه القانون العلمي بالخريطة الجغرافية التي توجه السائر وترشده في التعامل مع الواقع دون الزعم بأن الخريطة صورة طبق الأصل من الواقع. ويتميز تولمان بقدرته على تجسيد وعي الأداتية الفريد بتاريخ العلم والذي ناهضته الوضعية المنطقية؛ لذلك سوف يحتل موقعه بين فلاسفة الردح الأخير من القرن العشرين الواعدين بآفاق مستقبلية لفلسفة العلم، وسوف نعود إليه مجددا.
إن الأداتية بلا جدال تيار قوي ومتميز يملك حيثياته، ويمثل إضافة حقيقية لفلسفة العلم ونجح في حل مشاكل منهجية فنية معقدة. وأجمل ما في الأداتية أنها تبرز دور العقل الإنساني المبدع في مواجهة الواقع وفي خلق قصة العلم، فتومئ لأهمية تاريخ العلم، وكانت قوة جذب لفلاسفة وفرق شتى. تستطيع الأداتية أن تفسر بطريقتها زوال النظريات العلمية بعد أن كانت عمدا، ولماذا تعمل نظرية نيوتن في الماكروكوزم ومستوى الخبرة العادية حيث نعتمد عليها، ونحن نعلم أن هناك نظرية أفضل هي النسبية، وأيضا كيف تدب الحياة ثانية في نظرية ماتت ودفنت كما حدث لفرض الذرة. إنهم يرون الواقع ثابتا والعلم متغيرا. وإذا اعتبرنا النظريات العلمية ليست تمثيلا للواقع بل مجرد أدوات نصطلح عليها لتسفر عن إجراءات معملية، فنعدل هذه الأدوات ونطورها، استقامت النظرة إلى طبيعة المعرفة العلمية في مواجهة الواقع، وأصبح من السهولة أن يتدفق التقدم والتغير في العلم واستبدال نظرية بأخرى. لم يعد الحكم قاطعا بأن هذه النظرية صادقة وتلك كاذبة، بل فقط ثمة نظرية أفضل وأكثر تقدما؛ ليس لأنها الأصدق، بل لأنها الأبسط والأنفع والأكثر مواءمة. وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين، حين احتلت برامج الحاسب الآلي موقعها على صدر المسيرة المعرفية استبينت أكثر فعالية وجدوى التفسير الأداتي والإجرائي للأنساق العلمية.
ولكن مهما كانت إيجابيات الأداتية، ومهما أمكن الاستفادة منها في هذه الزاوية أو تلك، يصعب كثيرا موافقتهم على نزع الدلالة الأنطولوجية عن العلم بأسره؛ لينصرف العلم والفلسفة جميعا عن المشكلة الأنطولوجية ولا يبقى إلا أدوات مفيدة أجل لكن خاوية من المضمون. كيف تغض الفلسفة النظر عن الانسجام الآسر والمتنامي بين العلم وبين الواقع الفيزيقي الذي يوجهه ويدفعه نحو مزيد من التقدم؟! خصوصا وأن الفيزياء كانت محور فلسفة العلم طوال القرن العشرين، ويظل العلم دائما ذا دلالة إخبارية هي أصدق وأفضل ما نملك، ولا نستطيع أن نلقيها وراء ظهورنا مع الأداتيين. فقال ماكس بلانك: «إن نشاط الأداتيين ضروري ونافع، ولكنه ينطوي على خطر لا يستهان به، وهو أن الصورة الفيزيائية للعالم يختفي معناها فتظهر صورة فارغة من المحتوى.»
54
وفند رسل الإجرائية ببساطة حين أشار إلى أن العلماء كثيرا ما يتحدثون عن إجراءات معملية أفضل من إجراءات أخرى للوصول إلى نتيجة معينة. معنى هذا أن هناك معيارا يعلو على الإجراءات المعملية ويفاضل بينها، فكيف تحدد الإجراءات كل شيء؟!
ثم تقدم كارل بوبر بالنقد الحاسم فعلا. فإذا كان إرنست ناجل يأخذ على هنري بوانكاريه أنه لم يميز بين الهندسة البحتة والهندسة التطبيقية، فإن بوبر يوضح خطورة إصرار الأداتية على أن تغفل أصلا الفوارق الجوهرية العميقة بين العلوم البحتة والأساسية وبين التطبقيات التكنولوجية، فتنظر الأداتية إلى ميكانيكا نيوتن مثلا تماما كما تنظر إلى القواعد الحسابية
Computation rules
لوضع جداول الملاحة أو ضبط عمل آلة التصوير الفوتوغرافي أو سواهما من تمثلات العلوم التطبيقية والهندسية،
55
في حين أن الفوارق ضخمة بين الجانبين سواء في البنية أو في الدور الإبستمولوجي أو في الاعتبارات المنهجية ... إلخ. والنظرة الأداتية التي توحد بين الجانبين وتغفل هذه الفوارق الجوهرية تنطوي على تشويه جسيم لتصور العلم وفلسفته. هذا فضلا عن أن بوبر يصر إصرارا على أن الرؤية الواقعية للعالم وفكرة الاقتراب التدريجي من الصدق ضروريان ولا يمكن الاستغناء عنهما لتفهم منطق العلم أو فلسفته. لقد أخرج بوبر أكثر من دراسة لمناقشة ونقد الأداتية من زوايا عديدة، على أن نقده للوضعية المنطقية أعنف وأكثر تفصيلا وأعمق تأثيرا على تطور فلسفة العلم.
الأداتية والوضعية المنطقية كانتا التيارين الأساسيين المشكلين لفلسفة العلم في أواسط القرن العشرين، مثلا تطورا ملحوظا حين جعلا التجريبية منطقية. فعلت الوضعية هذا حين صبت الأساس الاستقرائي لتبرير العلم في القرن التاسع عشر في قالب منطقي هو معيار التحقق أو لغة العلم، هذا القالب قادر على تمييز المعرفة العلمية وتبريرها. أما الأداتية ففعلت هذا عن طريق معايير منطقية كالاتساق والبساطة قادرة على تمييز المعرفة العلمية وتبريرها. في كلتا الحالتين فلسفة العلم هي منطق تبرير المعرفة العلمية، تبرير يسوغ الوضع القائم وقد يمهد لتطوراته المقبلة.
ربما كانت الأداتية أكثر معقولية وتفتحا وإيجابية. لكنها كما رأينا اتجاه شاع بين فلاسفة وفرق شتى واتخذ صورا متعددة، لم تكن مذهبا محددا بمنهاج متعين ومشروع مرسوم أو فريق عمل متكاملا كشأن الوضعية المنطقية التي تصدرت الواجهة. استطاعت الوضعية أن «تستوعب الأداتية بنقاط الالتقاء المشترك فضلا عن أنها استخدمت الأداتية صراحة لمواجهة عدم قابلية النظريات العمومية للتحقق، فميزت الوضعية المنطقية بين العبارات التي تشير إلى وقائع ملاحظة وبين النظريات، الأولى تفترض عالما واقعيا، والثانية مجرد أدوات وحيل منطقية للربط بين الظواهر ولا تلتزم بتعيين الواقع التجريبي. وبجانب هذا تتقدم الوضعية المنطقية بوصفها مواصلة للمسيرة الرسمية لفلسفة العلم التي بدأت في القرن التاسع عشر بالنزعة الاستقرائية. ومع تعنت الوضعيين المنطقيين وحدة مواقفهم وصلابتهم وتماسكهم وتدفق أعمالهم نجدهم في الربع الثاني من القرن العشرين وقد استبدوا تماما بفلسفة العلم وكادوا أن ينفردوا بالميدان حتى استقر في التصورات العامة أن فلسفة العلم هي الوضعية المنطقية، هي تبرير المعرفة العلمية.
وكان كارل بوبر أعظم فلاسفة العلم في القرن العشرين وأهمهم وأخطرهم تأثيرا؛ لأنه كان قادرا على مواجهة كل هذا، وإحداث التطور الجوهري في فلسفة العلم الذي يفتح أمامها آفاقا مستقبلية بلا حدود، ما دام ينتقل بها نقلة جذرية من منطق تبرير المعرفة العلمية إلى منطق الكشف العلمي والتقدم المطرد.
فكيف كانت فلسفته للعلم التي أدت إلى كل هذا؟
الفصل السادس
من منطق التبرير إلى منطق التقدم
أولا: كارل بوبر ... نقطة تحول
رأينا كيف سارت فلسفة العلم بشكل عام في إطار منطق تبرير المعرفة العلمية بمعنى تحديد مبررات تميزها ووثوقها ومصداقيتها ونجاحها في أداء المهام المنوطة بالعلم، سواء استند هذا التبرير على معطيات التحقق التجريبي الاستقرائية أو على معايير البساطة والمواءمة الأداتية، وإن مالت كفة الطرح الأول الوضعي، في كلتا الحالتين ثمة تبرير للنسق العلمي كمنجز راهن وراسخ ويمكن أن يستوعب تطورات أبعد. من هنا تمثل فلسفة كارل ريموند بوبر
K. R. Popper (1902-1994م) نقطة تحول حاسمة، ما دامت فلسفة العلم قد انتقلت معها من منطق التبرير إلى منطق الكشف العلمي والمعالجة المنهجية له على أساس من قابليته المستمرة للاختبار التجريبي والتكذيب؛ لتعيين الخطأ كي يحل محله - يوما - كشف أفضل وأكفأ وأقرب إلى الصدق. وسوف نرى أن الكشف علمي بقدر ما يكون قابلا للتكذيب، بقدر ما يفتح طريقا إلى تقدم أبعد. فليس منطق الكشف العلمي منطق لبنة جديدة تضاف إلى صرح العلم، بقدر ما هو منطق فتح طريق جديد للتقدم العلمي، إنه فلسفة التقدم المستمر. وكان لهذا تأثيره الكبير على التطورات اللاحقة للوضعية المنطقية والأداتية ذاتهما.
تستند فلسفة بوبر بأسرها على أن الخاصة المنطقية المميزة للعلم التجريبي هي إمكانية تكذيب عباراته، هي قابليته المستمرة للمواجهة مع الواقع والوقائع، للنقد والمراجعة واكتشاف الأخطاء وبالتالي التصويب والاقتراب الأكثر من الصدق، التقدم المستمر. بهذا علمنا كارل بوبر كيف تكون فلسفة العلم هي منطق قابليته المستمرة للتقدم، بحيث تكون قواعد البحث العلمي قواعد مباراة هي من حيث المبدأ بلا نهاية، أما العالم الذي يقرر يوما ما أن العبارات العلمية أصبحت لا تستدعي أية اختبارات أخرى ويمكن أن نعتبرها متحققة بصورة نهائية، فإنه ينسحب من المباراة؛ لذا فنحن لسنا في حاجة إلى منطق للتبرير والتحقق أو المواءمة، بقدر ما نحن في حاجة إلى منطق للكشف والتقدم المستمر.
لاحظ بوبر أن كل فلاسفة العلم منذ جون ستيوارت مل، بل كل فلاسفة المعرفة التجريبية منذ ديفيد هيوم حتى ماخ والوضعيين والأداتيين على السواء، ينظرون إلى المعرفة العلمية بوصفها حقائق مثبتة مؤسسة فينشغلون بتبريرها. وصمم بوبر على إحراز الخطوة الأبعد، وأكد أنه على عكسهم جميعا لا يعنى البتة بتبرير المعرفة العلمية أو حدود صدقها وصحتها، بل يعنى فقط بمشكلة نمو المعرفة وكيفية تقدمها، فيصوب الأنظار إلى منطق الكشف العلمي واللحظة الدراماتيكية الكبرى المتمخضة عن الجديد، لحظة التكذيب والتفنيد، في إطار من معالجة منطقية منهجية بالغة الدقة والإحكام، بحيث كانت النظرة البوبرية أقدر من سواها على طرح المعرفة العلمية بوصفها قابلة للاختبار البين ذاتي، أي الموضوعي، كمعرفة ديناميكية متحركة لا ثبات ولا جمود فيها. يرى بوبر أن المعرفة على العموم والمعرفة العلمية على أخص الخصوص بناء صميم طبيعته الصيرورة، التقدم المستمر. فلا تكون نظرية العلم نظرية في تبريره، بل في أسلوب هذه الصيرورة أو كيفية التقدم المستمر. الأسلوب أو الكيفية هو ما يعرف بالمنهج العلمي، ومن ثم تكون نظرية العلم أو فلسفة العلم هي نظرية المنهج العلمي، هي ذاتها منطق الكشف العلمي.
أتت فلسفة بوبر رائدة قادرة على دفع فلسفة العلم إلى آفاق أبعد؛ لأنها انطلقت من موقف الاستيعاب والاستشراف لآفاق ثورة العلم العظمى، ثورة الكوانتم والنسبية، بعقل تحرر تماما من رواسب المرحلة النيوتونية الحتمية، فاستطاع بوبر أن يقدم صياغة دقيقة لمنطق الكشف العلمي في أعقد وأدق تفصيلاته حققت استفادة بالغة من تقنيات المنطق الرياضي. وما دام بوبر يؤكد أن منطق العلم ومنهجه وجهان لعملة واحدة، كان من الطبيعي أن تنصب فلسفته الرائدة للعلم في إطار نظرية منهجية.
وتتفق الأطراف المعنية على أن كارل بوبر فيلسوف المنهج العلمي الأول وبغير منازع على هذه الأولوية. وفي نهاية القرن العشرين يقول واحد من علماء الفيزياء النظرية، بتعبير بليغ حقا: «إن كارل بوبر هو المفرد العلم الذي يشار إليه بالبنان حين طرح السؤال عن المنهج العلمي.»
1
كما قال عالم الفلك الإنجليزي سير هيرمان بوندي
H. Bondi : «إن العلم ببساطة ليس شيئا أكثر من منهجه، وليس منهجه شيئا أكثر مما قاله بوبر.»
2
هذا بخلاف علماء حصلوا على جائزة نوبل أمثال جاك مونو وبيتر مدوار
Medawar
وسيرجون إكسلز
J. Eccles
أكدوا على أهمية الاسترشاد بفلسفة بوبر للمنهج العلمي، وكانت نصيحتهم للعلماء الشبان أن يقرءوا ويتدبروا كتابات بوبر في فلسفة العلم. نخص منهم بالذكر جون إكسلز الذي وقف في حفل استلامه لجائزة نوبل في البيولوجيا يوضح القوة التحررية العظيمة التي يكتسبها ذهن العالم بفضل تمثل نظرية بوبر في المنهج العلمي؛ ليتخلص من فكرة محببة ثبت عقمها ويستقبل بفعالية فكرة جديدة مثمرة. وفي النهاية أخرج إكسلز بمشاركة بوبر كتاب «النفس ودماغها 1977م»، حيث يبحثان مشكلة العقل والمادة والتفاعل بينهما عن طريق تأكيد لعنصر بيولوجي قوي في فلسفة بوبر يستحق أن نبرزه الآن؛ إذ يمثل بوبر الاتجاه العام لفلسفة العلم في القرن العشرين من حيث إن الفيزياء هي محورها والمثال الأعلى للمعرفة العلمية التي نريد أن نفلسفها.
وعلى هذا الأساس الفيزيائي كانت فلسفة بوبر للمنهج العلمي كما يتدفق في قلب معامل العلماء، لكننا سنرى أنه في جوهره صورة مستصفاة متطورة جدا للوسيلة التي امتلكها الإنسان عموما للتعامل الناجح مع واقعه والسيطرة عليه، وبمزيد من التدقيق والتعميم الفلسفي يتكشف هذا المنهج بوصفه محض صياغة لأسلوب تعامل الكائن الحي عموما مع مشكلات واقعه. إن نظرية بوبر في المنهج العلمي امتداد لنظريته في المعرفة، وكلاهما ينطلق من أصول بيولوجية أولية منذ أن وجدت الحياة على سطح الأرض، ثم تنمو المعرفة العلمية وتتطور بتطور الحياة والحضارة. والمحصلة أن فلسفة بوبر للمنهج العلمي فلسفة دارونية تطورية، وفي عرضنا الآتي لنظريته في المنهج سوف نتفهم حيثيات إصراره على قدرة هذا المنظور التطوري البيولوجي في تفسير النشاط المعرفي والعلم. الجدير بالذكر أن بوبر بعد أن تجاوز الثمانين من عمره حاد بشدة في اتجاه الإبستمولوجيا التطورية حتى أعلن أن هدف نظرية المعرفة هو البحث عن أوجه التشابه والاختلاف بين معرفة الحيوان ومعرفة الإنسان، بمعنى إنشاء جهاز معرفي مقارن يكون منطلقا للإبستمولوجيا،
3
وقد أثار هذا الحيود تساؤلات حول ما إذا كان بوبر قد هجر الفيزياء إلى البيولوجيا.
وسوف نرى أنه ليس هناك حيود أو هجران، بل نماء عادي جدا لتوجهات فلسفة بوبر. ولما كانت فلسفة العلم في القرن الحادي والعشرين تنتظرها آفاق مستقبلية واسعة في اتجاه البيولوجيا والمنظورات البيولوجية، أدركنا منذ البداية كيف كان بوبر نقطة تحول، ودفع فلسفة العلم إلى آفاق مستقبلية متتالية.
ومن ناحية أخرى انعكست صياغة بوبر للمنهج العلمي في مجموعة من الآليات والقيم، ترتد نهائيا في صورة مجتمع مفتوح للرأي والرأي الآخر، لكل محاولات حل المشاكل؛ ليفوز الحل الأقدر والرأي الأرجح، فيكون الانتقال بهندسة اجتماعية جزئية من المشكلات إلى حلولها في إطار ديمقراطي، يستلزم التسامح وينقض كل دعاوى الديكتاتورية والانفراد بالرأي والتعصب والتطرف، فضلا عن الإرهاب، ويستحيل معه صب المجتمع داخل الإطار الشمولي الكلي والنسق الموحد، سواء أكان النسق هو الماركسية أو سواها؛ لأن هذا مجاف لمنطق العلم ومنطق الواقع ومنطق التاريخ، وإن استحقت الماركسية بالذات نقدا مكثفا. هذا هو مضمون كتاب بوبر «المجتمع المفتوح وخصومه 1945م» في جزأين، حيث تعقب بوبر جذور الاتجاه الشمولي فيما قبل الماركسية والهيجلية حتى أرسطو وأفلاطون، بل وما قبل أفلاطون ليصل في النهاية إلى أقوى نقد وجه للماركسية. وعلى الرغم من أن بوبر أساسا ودائما فيلسوف علم، فإنه حاز شهرته من هذا الكتاب الذي طبق الخافقين، وتوالت طبعاته منذ صدوره وحتى الآن، وترجم إلى عديد من اللغات. وبمجرد انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي أتى مصداقا لمضمون «المجتمع المفتوح»، صدرت ترجمته الروسية عام 1992م في خمسين ألف نسخة.
أعقب بوبر «المجتمع المفتوح» بكتابه «عقم النزعة التاريخية: دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية 1957م» الذي يكاد يكون ملحقا له؛ لأن بوبر ينقض فيه كل حجج الاتجاه الفلسفي المعتقد في مسار محتوم للتاريخ يرى وظيفة العلوم الاجتماعية في التنبؤ بهذا المسار. إنه اتجاه عريق موغل في القدم، معروف منذ فكرة اليهود عن مآل شعب الله المختار، وهيراقليطس وهيزيود وأفلاطون، وفيكو وبوسويه وكوندرسيه وهيجل وأوجست كونت وغيرهم، تحدثوا عن أنماط أو إيقاعات أو مراحل تاريخية لا بد حتما أن تحدث، لكن ماركس بالذات؛ نظرا لأثره العظيم، قد ضلل معظم ذوي العقول النيرة حين جعلهم يعتقدون أن الأسلوب العلمي لتناول المشاكل الاجتماعية هو النبوءة التاريخية. فماركس - كما يقول بوبر - هو المسئول عن الأثر المدمر للمنهج التاريخي أو للنزعة التاريخية،
4
على أن كتاب «عقم النزعة التاريخية» لا يعنى أساسا بالماركسية، بل يعمل على تفنيد كل حجج النزعة التاريخية، سواء أكانت مستقاة من النزعة الطبيعية والتوجه العلمي أم معارضة لهذا.
وفي غضون الطريق السائر من فلسفة العلم ومنهجه إلى فلسفة المجتمع والسياسة تترسم فلسفة كارل بوبر كاتجاه قوي مترامي الأطراف، متعدد الجوانب متسق الأبعاد، شديد الولاء والإخلاص لمنطلقات وتوجهات فلسفة العلم، يوسم بالعقلانية النقدية، ويعد من أهم تيارات فلسفة القرن العشرين وأكثرها خصوبة وأعمقها تأثيرا، أدلى بوبر بدلوه في ميادين حضارية ومجالات فلسفية عديدة ترك فيها بصماته، بحيث ساهم في تشكيل ملامح الفكر الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
ويظل أهم ما في فلسفة بوبر أنها دفعت فلسفة العلم دفعة واسعة في اتجاه منطق الكشف والتقدم، فتحت أمامها آفاقا أوسع، واستحق بوبر أن يكون أهم فلاسفة العلم خصوصا في العالم المتحدث بالإنجليزية والألمانية. وحتى في فرنسا، حيث لا تتمتع أعماله بالدرجة نفسها من الذيوع والانتشار، سعى إدكار فور المفكر ووزير التعليم المتميز إلى تأسيس مركز للدراسات البوبرية في فرنسا عام 1982م، ولا غرو ما دام بوبر عملاق المنهج العلمي، داعية المجتمع المفتوح، نصير الديمقراطية الليبرالية في أكثر صورها إنسانية، مهاجم الماركسية ذا البأس الشديد الذي سبق الأحداث بنفاذ بصيرة رائع واستبصر ذلك المآل للأنظمة الشمولية المغلقة في أوروبا، العدو الشرس للفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية بانكبابها على تحليل عبارات العلم لتنزع عن الفلسفة بهاءها السرمدي، وتحاول سحق الميتافيزيقا. كان بوبر مجيدا ومجيدا وهو يدافع عن الميتافيزيقا من أجل العلم، فهي الأفق النهائي للفروض العلمية الخصيبة.
ويعنينا من كل هذا أنه إطار فلسفته للعلم، فلسفة التقدم العلمي، وقبل أن نعرض لها نلقي نظرة على حياة الفيلسوف التي كانت مسرحا مواتيا لها.
ولد كارل ريموند بوبر في فيينا، في 28 يوليو عام 1902م، لأسرة نمساوية خليقة بأن تنجب فيلسوفا، الأب حاصل على درجة الدكتوراه وكذا أخواه، وكان أستاذا للقانون في جامعة فيينا ومحاميا، ويبدو أنه كان مثقفا ثقافة رصينة، حتى إننا لا نجد - كما يخبرنا الابن كارل بوبر - حجرة واحدة في منزله غير مكتظة بالمراجع الكبرى وأمهات الكتب الفلسفية وآيات التراث الإنساني، باستثناء حجرة المعيشة كانت بدورها مكتظة بمكتبة موسيقية تحوي أعمال باخ وهايدن وموزار وبيتهوفن ... وبوبر يعتز كثيرا بأنه يمتلك نسخة من طبعة القرن السابع عشر لكتاب لجاليليو، ونسخة من طبعة القرن الثامن عشر لكتاب لإيمانويل كانط فيلسوفه الأثير. وقد كان الأب حريصا على تنشئة ابنه، ومنذ نعومة أظفار الصبي كارل بوبر، ووالده يحفزه على قراءة الكتب الفلسفية الكلاسيكية، ويناقشه في مشاكل اللامتناهي والماهية والجوهر، وحينما تعييه حذلقة الصبي يعهد به إلى عمه ليستأنف المناقشة.
أما عن أمه جيني تي شيف، جيني بوير، فهي تنتمي لأسرة تسري في دمائها الموهبة الموسيقية ، كانت هي وشقيقاتها شأن غالبية مواطني فيينا - عاصمة الألحان وكعبة الموسيقى - عازفات ماهرات على البيانو، أختها الكبرى وأبناؤها الثلاثة عازفون محترفون. وقد لعبت الموسيقى دورا كبيرا في حياة الابن بوبر، فهو أيضا عازف على البيانو، ومتذوق عميق لها، مما ساعد في صقل شخصيته وإرهاف مشاعره، ويخبرنا في تفصيلات مسهبة كيف أن الموسيقى الأوروبية البوليفونية كانت ملهمة ببعض توجهاته الفكرية. ولم يسلم بوبر الروح إلا بعد أن حقق حلم حياته وقام بتأليف قطعة موسيقية وهو في التسعين من عمره!
والحق أن كل ما في سيرة الفيلسوف مدعاة للإجلال والإكبار، فهو ذو حس إنساني رفيع، شديد التعاطف مع مظاهر البؤس والحرمان والشقاء، وكانت منتشرة في أحياء فيينا الفقيرة - نتيجة حرب أهلية - إبان صبا الفيلسوف، وكان أول حب خفق له قلبه - وهو طفل صغير يرفل في الخامسة من عمره - لطفلة صغيرة في روضة أطفال ذهب إليها مرة واحدة، برؤية وجهها انفطر قلب الطفل بوبر، وهو لا يدري: ألروعة ابتسامتها الأخاذة؟ أم لمأساة كف بصرها؟
وحينما شب عن الطوق ورث عن أبيه العمل الاجتماعي من أجل الأطفال المهملين والأيتام، ولما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها (1919-1920م) وهذا العام حاسم في فلسفته، ترك منزل والديه رغم توسلاتهما، كي يستقل بنفسه، وكي لا يشكل عبئا عليهما، فقد أصبح أبوه شيخا جاوز الستين، فقد كل مدخراته في التضخم المالي الذي استشرى في أعقاب الحرب، وأقام بوبر في مبنى قديم لمستشفى عسكري مهجور، حوله الطلبة إلى بيت طلاب بدائي جدا. عمل بغير أجر في عيادة النفساني ألفرد آدلر، وبأجور زهيدة في أعمال أخرى كتدريس أو تدريب لطلبة أمريكيين، أو كمساعد لنجار ... هذا النجار أثر كثيرا على شخصية بوبر، ولكن ترك في نفسه رد فعل عكسيا عنيفا حين كان بوبر يراه دائما يؤكد أنه يعرف كل شيء وأنه على صواب ولا يخطئ أبدا، فأصبحت احتمالية الخطأ الكامنة في كل موقف هي جذع الفلسفة البوبرية. لم يكن بوبر يدخن أو يحتسي خمرا، كان يأكل قليلا ويرتدي ثيابا متواضعة. المتعة الوحيدة التي لم يستطع التخلي عنها آنذاك هي التردد على حفلات الموسيقى السيمفونية، وكانت التذاكر رخيصة؛ لأنه كان يستمع واقفا.
بخلاف العمل الاجتماعي من أجل الأيتام، والموسيقى، كان اهتمام بوبر الثالث في يفاعته هو الفلسفات السياسية اليسارية، أمضى إبان مراهقته ثلاثة أشهر ماركسيا، لكنه انقلب بحماس إلى الاشتراكية الديمقراطية ... وأصبح في النهاية داعية ما يمكن أن نسميه: ليبرالية معدلة، ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين، التي اقترنت باسم بوبر.
التحق بوبر بجامعة فيينا عام 1918م، حضر مختلف المحاضرات: تاريخ الموسيقى والأدب وعلم النفس والفيزياء ... بل وحتى العلوم الطبية، وسرعان ما ترك هذا، وقصر حضوره على محاضرات الفيزياء النظرية والرياضة البحتة ... إذ كان يرى تلك المحاضرات «رائعة بحق».
وفي عام 1922م قيد طالبا منتظما بالجامعة، فأمضى عامين للحصول على إجازة للعمل في المدارس الابتدائية، حصل عليها إبان عمله كنجار، وواصل دراساته حتى حصل على إجازة التدريس في المدارس الثانوية. ظل بوبر لآخر يوم في حياته على اعتقاد راسخ بأن تربية النشء والتعليم - في كل صوره - أقدس مهمة عرفتها البشرية. حصل على إجازته تلك من معهد تربوي أنشئ حديثا، وفيه تعرف بوبر على محبوبته، التي أصبحت زوجته حتى آخر العمر، وما فتئ بوبر في كل موضع أن ينوه بفضلها وفضل حبها العظيم عليه. وبعد تخرجه استأنف دراساته، حتى حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، من جامعة فيينا عام 1928م.
وكسب عيشه من العمل كمدرس طبيعة ورياضة في المدارس الثانوية، ولم يكن هذا شيئا يسيرا في النمسا آنذاك.
وتبقى ملاحظة أن كارل بوبر حارب بشراسة كل زعم بمسار محتوم للتاريخ والماركسية أنضج صور هذا الزعم، لكن أولاها هي حتمية إياب اليهود إلى أرض الميعاد. وقال في سيرته الذاتية: «إن كل الدعاوى العنصرية والعرقية شر مستطير، وإن الصهيونية لا تستثنى من ذلك»
5 ... وهذا الرجل الذي يرفض الصهيونية بعمق ومنهجية ولد لأبوين يهوديين، اعتنقا المسيحية البروتستانتية قبل إنجاب أي من أطفالهما؛ لكي يخرجا من وضع الأقلية ويندمجا في الأغلبية النمساوية المسيحية. وهكذا لأن بوبر ينحدر من أصول يهودية اضطر إلى الهجرة من النمسا عام 1937م، بسبب الغزو النازي، واتجه إلى نيوزلاند حيث قضى سني الحرب وكتب «المجتمع المفتوح»، وظل يدرس الفلسفة في جامعتها حتى عام 1945م، وفي عام 1946م انتقل إلى إنجلترا واستقر في إحدى ضواحي لندن حتى وفاته؛ إذ عمل أستاذا للمنطق ومناهج العلوم في جامعة لندن إلى أن بلغ سن التقاعد عام 1969م، وكان قد حصل على لقب «سير» عام 1965م، وعلى رفقة أو رتبة شرف من ملكة إنجلترا إليزابيث الثانية في عام 1982م، مثلما حصل على خمس عشرة دكتوراه فخرية من جامعات أمريكا وبريطانيا والنمسا وكندا، وعديد من الجوائز من جامعات أوروبا، والميدالية الذهبية للخدمة المتميزة للعلم من المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي ... وبالمثل عديد من المناصب الأكاديمية والعلمية الفخرية. ورحل بوبر في السابع عشر من سبتمبر عام 1994م، بعد أن أنجز في فلسفة العلم خطوات تقدمية واسعة، ونال ما يستحقه من تقدير وتكريم. واللافت حقا أن بوبر استهل طريقه ببداية شديدة التميز والتوقد، فأول أعماله، وأهمها كتابه الرائد «منطق البحث العلمي
Loik der Forschung » الصادر في فيينا باللغة الألمانية عام 1933م، وهو في طليعة النصوص المشكلة لمسار فلسفة العلم في القرن العشرين.
وبحكم انتشار وسيادة اللغة الإنجليزية عموما وفي مجال فلسفة العلم خصوصا، فإن هذا الكتاب لم يمارس تأثيره الكبير إلا بعد أن ترجم إلى اللغة الإنجليزية عام 1959م، تحت عنوان أكثر حصافة ودلالة هو «منطق الكشف العلمي»، وفي حوار شهير بين بريان ماجي وكارل بوبر، تساءل ماجي عن سبب هذا التغيير في العنوان، تجاهل بوبر السؤال ولم يعره انتباها، فلم يكن السبب جليا.
6
وفيما بعد اتضح تأثير بوبر الكبير على مسار فلسفة العلم وعلى فلاسفتها التالين - كما سيوضح الفصل التالي - وأزاحت الدراسات الإبستمولوجية التالية النقاب عن السبب المطمور لهذا التغيير، وهو أن «الكشف» أكثر حركية وديناميكية من «البحث» فيكون الأقدر على أن يبلور الانتقال من منطق تبرير المعرفة العلمية، إلى منطق التقدم المستمر.
ألحق بوبر بالترجمة الإنجليزية «منطق الكشف العلمي» ملحقا مطنبا بعنوان «بعد عشرين عاما» أثبت فيه بضعة مستجدات، منها محصلة لقائه بآينشتين ومحاولات بوبر لكي يقنعه بالعدول عن الإيمان بالحتمية العلمية التي تبخرت، جرى هذا اللقاء عام 1950م، حين ذهب بوبر إلى أمريكا تلبية لدعوة تلقاها كي يلقي محاضرة بجامعة هارفارد في ذكرى وليم جيمس. ما زالت طبعات «منطق الكشف العلمي» تتوالى حتى يومنا هذا، وترجم إلى سبع عشرة لغة منها العربية، كما ترجمت أربعة كتب أخرى لبوبر إلى اللغة العربية.
بعد هجرة بوبر إلى أستراليا ثم إلى إنجلترا ليستقر فيها صدرت كتبه بالإنجليزية، وتوالت على مدار السنين أبحاثه ودراساته ومحاضراته في فلسفة العلم بصورة نظامية متواترة حتى آخر لحظة في حياته التي غطت القرن العشرين بأسره إلا قليلا، حمل بعضها كتاباه الكبيران في الحجم والقيمة «الحدوس الافتراضية.
7
والتفنيدات: نمو المعرفة العلمية 1963م»، و«المعرفة الموضوعية: تناول تطوري 1972م». وليس بوبر من نمط الفلاسفة الذين يمرون بمراحل فكرية أو تتعرض فلسفاتهم لتطورات وتعديلات، بل هو - على عكس رسل مثلا - ظلت منطلقاته وتوجهاته الفلسفية ثابتة راسخة بطريقة غير عادية. ساعد هذا على أن يظل «منطق الكشف العلمي» دائما مركز فلسفته، حتى إنه بعد نصف قرن، في عامي 1982م و1983م صدرت ثلاثة أعمال لبوبر ، هي: «الواقعية وهدف العلم»، و«الكون المفتوح: حجة للاحتمية»، و«نظرية الكوانتم والانشقاق العظيم في الفيزياء»، حرص الناشر على أن يثبت على أغلفتها أن ثلاثتها مأخوذة من شروح وهوامش على «منطق الكشف العلمي»! صدر بعدها كتابان باللغة الألمانية هما «بحثا عن عالم أفضل 1992م»، و«الحياة بأسرها حلول لمشاكل 1994م» يضمان مقالات فلسفية عامة، كلاهما مترجم إلى الإنجليزية وأيضا إلى العربية. وكان آخر ما صدر له قبيل رحيله كتاب «أسطورة الإطار»، وهو دفاع عن العلم وعن العقلانية التنويرية في مواجهة تيارات ما بعد الحداثة التي تنقض مفاهيم عصر التنوير أو تتجاوزها. وفي هذا يعد بوبر نفسه آخر التنويريين العظام، ولا مفر من الاعتراف بأنه بهذا المنظور كان أيضا آخر الاستعماريين العظام. إنه شوفوني الإعجاب بالحضارة الغربية، يراها بما حققته من حرية وفردانية وتقليص للفقر والجهل والمرض أعلى مد بلغة الإنسان، والحضارات الأخرى في ناظريه بمثابة أطفال نفكر ألف مرة قبل إعطائهم أي قدر من الحرية والاستقلال!
ثانيا: بوبر ضد الوضعية والاستقرائية
والآن لا يدهشنا أن كتاب «منطق الكشف العلمي» كان الدافع الأساسي إلى تأليفه هو نقد الوضعية المنطقية، وطرح البنية المنطقية والاختبارية للنظرية العلمية بأسلوب يكشف عن حيودات وأخطاء الطرح الوضعي. من هذا المنطلق يعالج الكتاب نفس موضوعات دائرة فيينا كالاستقراء والاحتمالية والتأييد ومشاكل المفاهيم النظرية للكوانتم ... إلخ. وأيضا لا يدهشنا أن اعترف الوضعيون أنفسهم بأنه كتاب فذ وفريد على درجة عالية من العمق ومن التقدم، وأصدرته دائرة فيينا في سلسلة منشوراتها، وكان موريتس شليك وفرانك هما اللذان أعداه للطبع. فكما رأينا، كان بوبر يدرس في جامعة فيينا، فيما بين عامي 1918م و1928م في نفس مكان وزمان نشأة دائرة فيينا، كان أعضاؤها هم أساتذته وزملاؤه، وارتبط بصداقات شخصية حميمة مع بعض منهم، خصوصا كارناب وفيجل وفيزمان ومنجر وفيكتور كرافت وكورت جودل صاحب مبرهنة اللااكتمال، حضر بوبر اجتماعات فرعية للدائرة في منزل العضو إدجار تسيلزل، وألقى محاضرة هي أساسا نقد للوضعية المنطقية، كان بوبر مثلهم منطقيا وفيلسوف علم معنيا بتمييز المعرفة العلمية وبالأسس المنطقية للتجريب، وداعية لوحدة المنهج بين العلوم الطبيعية والإنسانية ... لكنه ليس وضعيا ولا استقرائيا بحال، وقف وحيدا ليتخذ موقفا معارضا لهم، حتى أطلق نويراث على بوبر لقب المعارض الرسمي»، وفيما بعد طرح مؤرخ الفلسفة جون باسمور سؤاله: من الذي قضى على الوضعية المنطقية؟ وبوبر يخشى أن يكون هو المسئول.
8
والواقع أن اضمحلال الوضعية المنطقية لا يعزى إلى فرد بعينه، بل إلى صعوبات داخلية وإلى إصرارها على مواصلة طريق التحقق الاستقرائي المباشر ... إلى آخر ما رأيناه. ولكن بوبر على أية حال استنشق أجواء مشبعة بسيادة الوضعية المنطقية في فيينا، ولاحقته هذه الأجواء في إنجلترا حين هاجر إليها، ثم زفرها ثورة ضد الوضعية المنطقية. كانت أولى المهام الإجرائية التي اضطلع بها بوبر في فلسفة العلم هي وقف المد الوضعي، ثم الإطاحة بأساسها الأبعد وهو النزعة الاستقرائية، هذا وذاك رفضا لمنطق التبرير.
بادئ ذي بدء نلاحظ أن الوضعية المنطقية أتت كثورة في عالم التفلسف ، تقلبه رأسا على عقب حين زعمت أن التحليل المنطقي يمكنه الكشف عن أن المشاكل الفلسفية لغو بغير معنى، وبوبر لا يرى في هذا ثورة ولا حتى جديدا، فالمناقشات الحامية الوطيس حول ما إذا كانت الفلسفة توجد أو لها الحق في أن توجد أم لا، قديمة قدم الفلسفة ذاتها، مرارا وتكرارا تقوم حركة فلسفية «جديدة تماما» تدعي أنها ستتمكن «أخيرا» من كشف النقاب عن المشاكل الفلسفية لتبدو على حقيقتها كمشاكل زائفة، وأنها ستواجه اللغو الفلسفي الخبيث بأحاديث العلم التجريبي الوضعي ذي المعنى الرفيع والمغزى الحميد. ومرارا وتكرارا ينهض حماة الفلسفة التقليدية ليشرحوا لقادة الهجوم الوضعي الأخير أن الالتجاء إلى سلطة الخبرة الحسية بالنسبة له برنامج بحث وليست في حاجة للفحص النقدي.
9
الوضعيون المنطقيون هم قادة الهجوم في القرن العشرين، وبوبر هو المدافع المستخف به عن الفلسفة التقليدية الذي يصر على أن مشاكلها حقيقية. وليس هناك شيء على وجه الإطلاق - في نظر بوبر - يعز على النقد أو حتى يستغنى عنه. ولما كان بوبر يرى أن الفلسفة هي الدراسة النقدية ، للخبرة الحسية وسواها، بدا بوضوح لماذا يعادي بصراحة هذا التوجه الذي يعادي وجود الفلسفة أصلا. النقد دائما هو حجر الزاوية من أفكار بوبر، وهو الآن يصوبه على الوضعية المنطقية.
أما عن منحاها اللغوي، فهو أيضا ليس بالجديد، الاهتمام بالكلمات ومعانيها واحد من أقدم المشاكل الفلسفية، كان السفسطائي بريديقوس مهتما بتمييز المعاني المختلفة للكلمات، فأطلق أفلاطون على هذا الاهتمام اسم «مبدأ بريديقوس»، يقول بوبر: إن هذا المبدأ كان جديدا وهاما عام 420ق.م فهل نعتبره جديدا وهاما في القرن العشرين؟! ببساطة يرفض بوبر الفلسفات التحليلية اللغوية بتعبير موجز يقول فيه: «ما زلت على اعتقادي بأن أقصر طريق إلى الخسران العقلي المبين هو هجران المشاكل الحقيقية من أجل المشاكل اللفظية.»
10
ليس معنى هذا أن بوبر لا يعتبر اللغة مهمة، إنها في نظره أخطر مكونات العالم الإنساني، لكن لا ينبغي أن تدور فلسفة اللغة في متاهات لفظية، بل يجب أن تعمل على شرح الوظائف الأربع الأساسية للغة ، وهي: الوظيفة التعبيرية بمعنى التعبير عن النفس، والوظيفة الإشارية والوظيفة الوصفية والوظيفة الجدلية بمعنى النقاشية. ويوضح بوبر أن اللغة - أيا كان مستواها - لن تكون لغة إلا إذا كانت قادرة على إثارة استجابة من كائن حي آخر. لغات الحيوان أو وسائل تواصله من رقص أو تلامس أو إصدار أصوات أو غيره، قادرة على أداء الوظيفتين التعبيرية والإشارية، ثم تتميز اللغة الإنسانية فقط بقدرتها على أداء الوظيفتين العليتين الوصفية والنقاشية. اللغة الإنسانية بوظائفها الأربع - لا سيما العليتين - هي علة خروجنا من مملكة الحيوان وعلة كوننا بشرا، فالوعي نتيجة لها. إننا ندين بعلمنا وحضارتنا للغة، فهي التي كفلت تواصل الأجيال واستئناف المسير. هكذا يعلي بوبر من قدر اللغة، بينما يحط من قدر الفلسفات اللغوية التحليلية المتطرفة التي عرضها الفصل السابق كالتحليل العلاجي وفلسفة اللغة الجارية في أكسفورد، ومن قبل ومن بعد الوضعية المنطقية، فلسفة العلم التي اقتصرت على التحليل المنطقي اللغوي وأرادت قصر الفلسفة عليه.
هذا هو الخلاف الأساسي بين بوبر والوضعية، إصراره على أن المشاكل اللغوية لم تكن أبدا مشكلة فلسفية، فضلا عن أن تكون المشكلة الفلسفية الوحيدة. يؤكد بوبر أن المشكلة الفلسفية الوحيدة هي عينها المشكلة العلمية الوحيدة: المشكلة الكوزمولوجية، أي مشكلة فهم العالم بما في ذلك نحن أنفسنا كجزء من العالم. العلم والفلسفة معا يساهمان في حل هذه المشكلة، وإنهما ليفقدان كل روعتهما وجاذبيتهما إذا ما تخليا عنها. قد يساعدنا فهم وظيفة اللغة على الحل، أما أن نحيل المشكلة بأسرها إلى متاهات لغوية فإن هذا مرفوض، ولا يمكن أبدا إحلال دراسة اللغة وأنساقها الاصطناعية الرمزية محل دراسة الإبستمولوجيا لنمو المعرفة العلمية وتطور محتواها. لقد أخطأ الوضعيون المنطقيون حين حددوا الفلسفة بمشكلة معينة واحدة هي المشكلة اللغوية.
وأخطئوا قبلا حين حددوا منهج الفلسفة بمنهج واحد لا سواه هو التحليل المنطقي. يرى بوبر أن التحليل إذا طرح أصلا لا يكون فقط للغة، بل تحليلا لموقف المشكلة العلمية بأسره وللمناقشات الدائرة حولها، ولا يمكن تكثيف ماهية الفلسفة وتعريفها بممارسة منهج محدد، وهي المتميزة عن العلم بأنها مبحث لا تقيده حدود قاطعة. كل المناهج الفلسفية مشروعة، طالما ستفضي إلى نتائج يمكن مناقشاتها ونقدها، وليس الذي يعنينا في الفلسفة هو المنهج أو الأساليب الفنية، تحليلية كانت أم تركيبية، بل الحساسية للمشكلات واستنفاد كل الجهد من أجل حلها.
يروم بوبر التعامل الديناميكي مع النظرية العلمية، أي البحث في صيرورتها: كيفية تقدمها وعوامل هذا التقدم ودرجته، تكريسا لمنطق التقدم. أما التحليل المنطقي فيتعامل مع النظرية بصفة استاتيكية: يحلل منطوقا معينا للنظرية أو تعريف مصطلح معين أو يحلل عبارة معينة من نسق يفترض أنه محدد، كل هذا تكريس لمنطق التبرير والتسويغ؛ لذلك يناصب بوبر التحليل المنطقي العداء، إنه يحلل ما هو كائن ولا يبحث عن الجديد، ولن يجدي في نمو المعرفة العلمية، ولن يصل بنا أبدا إلى أعتاب منطق الكشف والتقدم.
يرى بوبر أن هدف الإبستمولوجيا - سواء مثالية أو تجريبية - هو المساهمة في تقدم المعرفة. والفلسفة يحدوها دائما الأمل في أن تعرف أكثر عن المعرفة العلمية، حتى جاء الوضعيون المنطقيون ليفقدوها هذه النغمة الحلوة المتفائلة التي ألهمتها يوما بالتقليد العقلاني، فهم يقصرون مهمة تقدم العلم على العلماء وحدهم، ويعرفون الفلسفة بنفس الذي سوف تصبح عليه طالما ستنحصر في تحليل معاني اللغة ودراسة أنساقها، وتصبح بحكم التعريف غير قادرة على أدنى مساهمة في معرفتنا بالعالم إنهم يجعلون الفلسفة خواء وفراغا؛ إذ يجردونها من مشكلاتها أو يقصمون جذور هذه المشكلات، ويحترفون ممارسة منهج مستحدث كموضة، فتغدو الفلسفة معهم تطبيقات وممارسات وليست بحثا وطرح أفكار. والفلسفة ليست احترافا أو تخصصا، إنها انشغال ومعاناة.
إن بوبر يعادي التخصص الاحترافي المنغلق حتى في العلم، يقول: إن العظام من العلماء أمثال كبلر وجاليليو ونيوتن وآينشتين ونيلز بور، هم الرجال الذين يكرسون حياتهم بتواضع من أجل البحث عن الحقيقة ونمو المعرفة العلمية، وحياتهم هي أفكارهم الجريئة، يمكن أن نضم إليهم مساعديهم الأقل ألمعية، لكن لن ينضم إليهم أبدا أولئك الذين لا يعني العلم بالنسبة لهم أكثر من احتراف ومهنة فنية.
أما إذا كان التحليل من أجل هدفه المعروف وهو تحقيق الوضوح والدقة، فإن الوضوح في حد ذاته له قيمته العقلية الكبرى، أما الدقة فليست هكذا، إنها طبعا مرغوبة، دقة التنبؤ مثلا لها قيمة كبرى، لكن البحث عن الدقة - كما يؤكد بوبر - يكون فقط ذا طابع برجماتي، فلا نبحث عن الدقة فقط من أجل الدقة؛ لأن هذا إهدار للوقت والجهد في مسائل جانبية. ولم يعتد الفيزيائيون الدخول في مناقشات حول معاني المصطلحات التي يستخدمونها أو تعريفاتها، مثل الطاقة أو الضوء ... إنهم يعتمدون عليها وهي ليست محددة بدقة، ولم يعق هذا تقدم العلوم الطبيعية.
تردى الوضعيون في متاهات التحليل اللغوي والبحث عن الدقة بهدي رائدهم فتجنشتين الذي شبه الميتافيزيقيين بفراشة دخلت في زجاجة وأخذت تذهب هنا وهناك وتزن، وهو يزعم أن التحليل اللغوي سيوضح لهذه الفراشة طريق الخروج من الزجاجة لينتهي الزن الميتافيزيقي إلى الأبد. لكن بوبر يرى أن فتجنشتين هو الذي دخل الزجاجة وراح يزن ولم يستطع الخروج منها؛ لأنه نسي أن اللغة وسيط للتعبير، ربما هدف من تحليلاته إلى الوضوح، إلى تلميع النظارات اللغوية؛ كي يحظى برؤية واضحة للعالم، غير أنه أمضى العمر كله في هذا التلميع ولم يستفد منه، فاندفع في ممارسة التحليلات بطريقة مملة مللا عقيما ولا يطاق، شأنه في هذا شأن نجار أمضى العمر كله في صقل أدواته وشحذها ببعضها البعض وفاته أن يستخدمها في صنع شيء مفيد.
إن فتجنشتين بلا ريب تطرف، لكنه قمة فلسفية على أية حال، وما ينبغي أن يتحدث بوبر عنه بهذه اللهجة. إن بوبر - بصراحة - يتجاوز حدود اللياقة حين الحديث عن فتجنشتين أو معه فهو خصمه الفلسفي اللدود، حتى إن بوبر يقسم الفلاسفة إلى فريقين متقابلين، أحدهما يأتم بفتجنشتين، والآخر يأتم بإيمانويل كانط الذي جعل العقل يفرض تصوراته على الطبيعة، الوضعيون المنطقيون في الفريق الأول، وبوبر في الفريق الثاني الكانطي. وعلى الرغم من حدة صراع بوبر مع فريق الوضعيين فإنه أحيانا قليلة يشير إلى إيجابياتهم كاقتدائهم برسل ومنحاهم التنويري وتأكيدهم للعقلانية وحرب العقل ضد السلطة التعسفية وضد الخرافة، وأنهم بلا مراء علامة بارزة في فلسفة القرن العشرين ومنطقه على السواء. ويعترف بوبر بأن كتابي كارناب «التركيب المنطقي للعالم»، و«القابلية للاختبار والمعنى» من أهم نصوص فلسفة العلم في تلك المرحلة. أما بالنسبة للإمام فتجنشتين فلا تفاهم ولا هوادة في القتال.
والواقع أن موقف فتجنشتين وأتباعه الوضعيين من الميتافيزيقا هو الذي دفع بوبر إلى هذا العداء السافر، فهو يرى أن الميتافيزيقا ضرورية لتقدم العلم ذاته؛ لتوسيع الخيال العلمي فتلهم بفروض خصيبة. وبالنظر إلى هذه المسألة من الزاوية السيكولوجية، فإن بوبر يرى الكشف العلمي مستحيلا بغير الإيمان بأفكار من نمط تأملي خالص، لعل النظرة العلمية الصارمة لا تبيح هذا الهامش الميتافيزيقي، لكنه الأمر الواقع.
وربما عاقت بعض الأفكار الميتافيزيقية طريق التقدم العلمي، وأبرزها فكرة أفلاطون بتحقير المادة وكل ما يتصل بالحواس كأداة للمعرفة. لكن إذا تركنا الأمثلة القليلة، وأيضا بعضا من الشطحات الميتافيزيقية التي يمكن أن نعدها فعلا ثرثرة ولغوا، وجدنا أفكارا ميتافيزيقية جمة ساعدت على تقدم العلم، بل كانت ضرورية له، وبعضها أوحى بصورة مباشرة بنظريات علمية تطورت عن فروض ميتافيزيقية صريحة أبرزها مركزية الشمس وفرض الذرة ذاته الذي طرحه ديمقريطس في القرن الخامس ق.م وظل حتى عام 1905م غير قابل للاختبار التجريبي، أي أقرب إلى الميتافيزيقا؛ لذلك رفضه هلهولتس وماخ ودوهيم.
يتفق الكثيرون مع بوبر على أن معظم مشكلات العلم لها جذور في الفلسفة، لكن من زاوية أخرى تبرز العلاقة التبادلية. أخرج بوبر مقالا بعنوان «طبيعة المشكلات الفلسفية وجذورها في العلم»،
11
يوضح فيه كيف أن المشاكل الفلسفية والميتافيزيقية دوما ذات جذور علمية واجتماعية ودينية وسياسية، وإنها لتنهار وتتحول إلى لغو إذا ما أنكرت عليها تلك الجذور أو استئصلت منها، ويذهب بوبر إلى إثبات دعواه بشروح مسهبة لأمثلة عديدة لمشكلات من أخص خصائص الفلسفة كالمثل الإفلاطونية والأعداد الفيثاغورية والمقولات الكانطية ... ليثبت جذورها في حدود علم عصرها، وينتهي إلى أن الوضعيين المنطقيين هم الذين قلبوا المشاكل الفلسفية الحقيقية إلى لغو ومشاكل زائفة، حين أنكروا تلك الجذور أو لم يفطنوا إليها وراحوا يتعقبون منطوقات ظاهرية بمنهج التحليل المنطقي ليغووا الفلسفة إلى مستنقع المشاكل الزائفة واللغو. بعبارة موجزة يرى بوبر أن مشاكل الفلسفة حقيقية ومشاكل الوضعيين المناطقة هي التي ينبغي أن تعد ثرثرة بغير معنى ولغوا، والقواعد التي وضعوها لاستعمال اللغة تجعل حياتنا بأسرها لغوا، طالما ترد كل أنشطة العقل بما في ذلك العلم والمناقشات الإبستمولوجية إلى ما لا يمكن قبوله، إلى محض مدركات حسية.
لا يمل بوبر من التأكيد على ضرورة التفلسف وإلا لما كان هو فيلسوفا، وعلى أن المشاكل الفلسفية أصيلة وليست مشاكل مستهلكة
Second hand
متخلفة عن العلم في صياغته اللغوية. وبهذا يرفض كل محاولات الوضعية والتحليلية لإذابة المشاكل الفلسفية، ويرفض أيضا اعتبار المشاكل الفلسفية مشاكل منطقية على أساس أن حلها يمكن فقط بواسطة الأساليب المنطقية، يرد بوبر على هذا بأن كثيرا من مشاكل الفيزياء لا يمكن حلها إلا بأساليب الرياضة البحتة، ولا يؤثر هذا على تصنيفها كمشاكل فيزيائية ما دامت موضوعا لبحوث الفيزيائيين.
وبوبر ككل إبستمولوجي جاد في القرن العشرين، شديد التقدير والإكبار والولاء لبرتراند رسل، ويرى نظريته في الأنماط المنطقية إنجازا عظيما وعالجت مفارقات كانت في حاجة إلى التحليل المنطقي ليكشف عنها، لكن الخطأ جاء من فتجنشتين والوضعيين حين عمموا هذه الفكرة وعدوا جميع المشاكل الميتافيزيقية قائمة على مغالطات منطقية ونتيجة لسوء استعمال اللغة. ونلاحظ أن رسل نفسه انتقد تعميمهم لأفكاره في شكل معيار التحقق الذي وضعوه لتمييز العلم، وكانت معاييرهم لتمييز العلم جبهة ساخنة لهجوم ضار ومفصل من بوبر.
يرى بوبر أن معايير الوضعية لم تهدف إلى تمييز العلم حقيقة، بل لتحقيق الغرض المسبق والمستحيل وهو استبعاد الميتافيزيقا بأسرها بوصفها لغوا بغير معنى، ولا يمكن استبعاد كيان ثري مهيب كالميتافيزيقا بجرة قلم، ولو أرادوا استبعاد اللغو حقا فعليهم أن يقوموا بفحصها فحصا نقديا مفصلا، ولو فعلوا لاكتشفوا كنوز الأفكار الخصيبة التي تحويها الميتافيزيقا. وكما رأينا استبعاد الميتافيزيقا بجرة قلم ألقى بالنظريات العلمية البحتة في نفس هوة العبارات الزائفة؛ لأنها لن ترتد إلى وقائع الملاحظة ولن تقبل التحقق التجريبي أكثر مما تقبله عبارات الميتافيزيقا. وقد نفذ الوضعيون من هذا بالتفسير الأداتي كما أوضحنا.
فكان الخطأ الكبير الذي تعثرت فيه الوضعية ولا مخرج منه هو المطابقة بين العلم والمعنى واللاعلم واللامعنى، هذه المطابقة هي التي ردت سهامهم إلى نحورهم وجعلت مناقشاتهم عن المعنى بغير معنى، وبهذا المنظور يغدو كثيرا مما قيل في العلم والرياضيات - لا سيما - في الكلاسيكيات ينبغي أن يعد بغير معنى. يضرب بوبر مثالا بحساب التفاضل والتكامل في عهوده الأولى حتى القرن الثامن عشر، فكان بلا شك لغوا وتناقضات بغير معنى وفقا لمعايير فتجنشتين وأتباعه الوضعيين، فهل كان عليهم أن يشهروا أسلحتهم في وجه رواد هذا الحساب وينجحوا في استبعاد جهودهم، بينما فشل في هذا نقادهم المعاصرون لهم كجورج باركلي الذي كانت أحاديثه في هذا الصدد ذات معنى ومطابقة تماما لمعايير الوضعية! إن تهمة الخلو من المعنى فضفاضة ولا يمكن وضع خط فاصل قاطع بين المعنى واللامعنى. وكما يوضح المثال إذا أمكن وضع هذا الخط تبعا لتصور مسبق ومحدد لمفهوم المعنى، فلن يكون هذا في صالح التقدم العلمي أبدا.
من ناحية أخرى يطابق الوضعيون بين معنى القضية وأسلوب تحققها وصدقها، لكن التحقق نهائي ما دام واقعا، فهل يعني هذا أن الصدق نهائي وكل قضايا العلوم التجريبية يقينية؟! إنهم أول من يرفض هذا، ومع ذلك جعلوا التحقق منهجا لتمييز الكلمات أيضا فيما يعني تأويلا عدديا لمعنى الكلمة بإحصاء الأشياء التجريبية التي تسميها الكلمة، وهذا يفضي بنا إلى لغة اسمية لا تناسب إطلاقا الأغراض العلمية! وينتهي بوبر إلى أن معيار التحقق لن يميز العلم، بل هو مكنسة تكنس الكثير كالنظريات البحتة والقوانين العلمية العمومية، وتكنس القليل لأن قضايا العلوم الزائفة كالتنجيم والفراسة يمكن الزعم بأساليب للتحقق منها. وليس معيار القابلية للتأييد والاختبار أسعد حظا، بل هو أكثر غموضا والتباسا في موقعه من المعنى وتمييز العلم.
ويرى بوبر أن لغة العلم الموحد هي الأخرى لن تميز العلم ولن تستبعد الميتافيزيقا. الميتافيزيقيون يعلمون أن عباراتهم ليست تجريبية ولن يتخلوا عنها؛ لأنها لا تصاغ داخل لغة مناسبة للعلم التجريبي، فهناك لغات أخرى كثيرة يمكن أن تناسب الميتافيزيقا، بل وضع بوبر فرضا ميتافيزيقيا موغلا هو: توجد روح مشخصة عالمة بكل شيء وقادرة على كل شيء وحاضرة في كل مكان. وراح بوبر في تفاصيل منطقية مسهبة يوضح كيف يمكن التعبير عن هذا الفرض داخل لغة العلم الموحد! فضلا عن أن قيام هذه اللغة على حمل البروتوكول جعلها تقيم نسق العلم على خبرات ذاتية. وجمل البروتوكول في حقيقتها مخلف أثري وذكرى باقية من زعم النزعة الاستقرائية البائد بأن العلم يبدأ من وقائع تجريبية ثم تعميمها. وبالمثل لم يكن معيار التحقق إلا رد العبارة إلى معطياتها الاستقرائية، أما معيار القابلية للاختبار والتأييد، فلأنه حرص على الناحية الميثودولوجية، كان صريح الارتباط بالمنهج الاستقرائي مباشرة. وكما أوضح الفصل السابق، كانت فلسفة دائرة فيينا معالجة منطقية للنزعة الاستقرائية؛ ليبقى تبرير العلم على أساس ارتكازه على الوقائع التجريبية وخروجه منها.
وهنا نصل إلى حجر الزاوية ومفترق الطرق في فلسفة العلم، ولعل هجوم بوبر الضاري على الوضعية المنطقية انطلق من عزمه الأكيد على استئصال شأفة النزعة الاستقرائية من فلسفة العلم، وتلك هي معركة بوبر الكبرى حتى لو أردنا تلخيص فلسفته التجريبية في كلمة واحدة لكانت: ضد الاستقراء أو اللااستقراء، فما من محاضرة يلقيها أو مقالة يكتبها وإلا ويؤكد فيها أن الاستقراء خرافة، لا هو يصف ما يفعله العلماء في الواقع ولا ما يجب أن يفعلوه ولا حتى ما يمكن أن يفعلوه؛ لأن البدء بالملاحظة الخالصة مستحيل ولن يفضي إلى شيء. ويدخل في مناقشات تفصيلية مسهبة ليوضح أن أيا من نظريات العلم يستحيل أن تكون قد انتشرت نتيجة للتعميمات الاستقرائية.
يقول بوبر: إن النزاع الضاري بينه وبين الاستقرائيين يتلخص في السؤال: ما الذي يأتي أولا الملاحظة «ح» أم الفرض «ض»؟ وهذا يشبه السؤال التقليدي: ما الذي أتى أولا الدجاجة «ح» أم البيضة «ض»؟ وبوبر يجيب على كلا السؤالين ب «ض»، نوع أولي بدائي من البيض، وأيضا نوع أولي بدائي من الفروض هي التوقعات الفطرية التي يولد الذهن مزودا بها لتمثل أولى تعاملات العقل مع العالم التجريبي. ويمتد إنكار دور الملاحظة الحسية في التوصل إلى الفرض أو القانون حتى أعمق الجذور.
طبعا بوبر فيلسوف تجريبي، لكنه لا يرى الذهن يولد صفحة بيضاء تخطها التجربة كما يدعي التجريبيون المتطرفون أمثال لوك وهيوم، ولا هو يرى الذهن يولد بأفكار فطرية كما يدعي المثاليون المتطرفون، لكنه يرى الذهن يولد مزودا بمجموعة من الاستعدادات السيكولوجية والنزعات والتوقعات الفطرية التي قد تتغير وتتعدل مع تطور الكائن الحي، ومنها النزوع إلى الحب والعطف وإلى مناظرة الحركات والأصوات، وأيضا إلى توقع الاطراد في الطبيعة. والاطرادات ليست نتيجة الخبرات المتكررة، بل لوحظت في الحيوانات والأطفال الحاجة إلى إشباع هذا التوقع بأي شكل، وإذا تحطمت بعض الاطرادات المتوقعة يؤدي هذا إلى الشقاء والحيرة وربما حافة الجنون. يستعين بوبر بأبحاث مواطنه ومعاصره كونراد لورنتس
K. Lorentz
في علم النفس الحيواني التي أجراها على البط والإوز، وخرج منها بأن الحيوانات تولد مزودة بآلية فطرية
inborn Mechanism
في القفز إلى نتائج وطيدة. مثلا، فرخ الإوز حديث الخروج من البيضة يتخذ أول شيء متحرك يراه على أنه أمه، وهذه آلية ملائمة في الظروف العادية، لكنها قد تكون خطيرة في بعض الظروف إذا كان هذا الشيء الكبير ثعلبا مثلا. والطفل حديث الولادة يتوقع أن يجد من يحبه ويحميه. كل كائن حي لديه توقعات أو نزوعات فطرية قد تكون متكيفة مع أحداث وشيكة الوقوع، إنها فطرية وسابقة زمانيا ومنطقيا على أي تعرف على البيئة أو تلقي خبرة حسية عن العالم التجريبي، وقد تكون خاطئة وخطيرة كما في حالة الثعلب، والوليد قد يهجر ويترك ليموت جوعا. التوقعات الفطرية ليست ذات صحة أولية، وهي قابلة للتعديل والتصحيح. أمثال هذه التوقعات هي نقطة البدء. فتكون أولى حلقات المعرفة التجريبية في العصر الحجري توقعا فطريا أخطأ في مواجهته للواقع التجريبي، فحاول الإنسان البدائي تصويبه بتوقع آخر، كانت له قصوراته ومشاكله، فتم تصويبه بفرض جديد، وهكذا دواليك وصولا إلى نسق العلم اليوم. ولا يكون ثمة استقراء لوقائع الحس من الطبيعة ثم تعميمها في أي مرحلة على وجه الإطلاق، الأسبقية دائما للكائن الحي وللعقل، فيمكن استئصال الاستقراء أو البدء بالملاحظة الخالصة من أعمق الجذور.
في نهايات الفصل الثالث طرحت إشكالية الفرض والملاحظة، وأوضحنا أن القرن العشرين استقر على أن الأسبقية للفرض، وكان هذا بفعل عدة عوامل أهمها تطورات البحث العلمي ذاته وجهود بوبر المستميتة في هذا الصدد.
ونحن الآن في حاجة لتحديد المعالم الأساسية لإبستمولوجيا بوبر وأركان نظرية المعرفة عنده، وهذا بعبارة أخرى هو تخطيط لاستراتيجية الحرب الضروس ضد منطق التبرير سواء في الشكل الذي صاغته النزعة الاستقرائية أو في امتداداته المتطورة مع الوضعية المنطقية.
وفي هذا نجد أن المنطلق الأساسي لنظرية بوبر في المعرفة أو ركنها الركين هو إصراره على أن المعرفة في كل صورها - وعلى رأسها العلم - موضوعية؛ ذلك أن بوبر يميز بين مغزيين لمعنى كلمة «معرفة
Knowledge »:
المعرفة بالمغزى الذاتي:
وهي تتكون من اعتقادات الذات ونزوعاتها ومشاعرها وما تراه أو تقره أو تنكره، وبوبر يرى أن المعرفة بهذا المغزى من اختصاص علم النفس.
المعرفة بالمغزى الموضوعي:
وهي تتكون من كل مخزونات الكتب وأجهزة الكومبيوتر، أي كل الأفكار المطروحة سواء فلسفية أو علمية، ما دامت مصاغة لغويا إنها موضوع الإبستمولوجيا التي تبحث في محتواها المعرفي وعلاقاتها المنطقية وأسسها المنهجية ... تفكير نيوتن في نظريته ونزوعه نحو صياغتها مثال للمعرفة الذاتية، أما اللحظة التي صاغها فيها فهي الحد الفاصل الذي نقلها من بحوث علم النفس إلى بحوث الإبستمولوجيا؛ هذا لأن الصياغة اللغوية هي التي تجعلها قابلة للنقد والنقاش والتداول بين الذوات فتصبح موضوعية.
ويلاحظ بوبر خطأ كبيرا تردت فيه الإبستمولوجيا التقليدية منذ أرسطو وديكارت وهوبر، ثم باركلي وهيوم حتى كانط وصولا إلى رسل وفريجه، حين اعتبروا الإبستمولوجيا بحوثا في المعرفة التي تؤول إلى علاقة تربط عقولنا الذاتية بموضوع المعرفة، أسماها رسل الاعتقاد
belief ، أو الحكم
Judgement ، يكثف بوبر جهوده ليستأصل هذا الخطأ، ويؤكد أن الإبستمولوجيا لا شأن لها البتة بالذات العارفة، بل فقط بموضوع المعرفة. وهذه الموضوعية المنفصلة تماما عن الذوات تنسحب على العلم، وسواء اعتبرناه إبستمولوجيا متقدمة أو ظاهرة اجتماعية أو بيولوجية أو مجرد أداة معرفية أو حتى وسيلة للتكنولوجيا والإنتاج الصناعي، فهو بناء موضوعي متجرد من معرفة الذوات. وفلسفة بوبر بهذا تفترق تماما عن بعض التأويلات المثالية الذاتية التي شهدتها فلسفة العلم في القرن العشرين نتيجة التطرف في معالجة التغير الكبير الذي طرأ على مفهوم التجريبية.
ولكي تكون المعرفة العلمية موضوعية تماما لا بد من محك موضوعي للحكم عليها بالصدق أو الكذب، خصوصا وأن بوبر يسلم تسليما بالواقعية، بمعنى الوجود الواقعي المستقل للعالم الخارجي، ويرى أن العلم هدفه الوصول إلى تفسير مرض لهذا العالم، والنظرية العلمية ذات مضمون معرفي ودلالة إخبارية، فيفترق بوبر افتراقه الحاد عن الأداتية، ويؤكد أن وظيفة العلم هي البحث الدءوب عن حقيقة العالم وعن الصدق
Truth . ويلعب الصدق دور المبدأ التنظيمي الذي يحكم شتى الجهود المعرفية بوصفه الغاية المرومة بعيدة التحقيق. البحث عن الصدق ومزيد من الصدق هو الهدف الدائم للعلم التجريبي، الصدق وليس اليقين، فليس هناك علم تجريبي يقيني ولن يكون. ويوضح بوبر هذا بأن يشبه الصدق بقمة جبل عادة ما تكون مغلفة بالسحب، من يحاول تسلق الجبل والصعود إليها تواجهه صعوبات كثيرة، وحتى إذا وصل إليها قد لا يعرف أنه بلغها فعلا؛ لأنه قد يعجز وسط أطياف السحب عن التمييز بين ذروة الجبل الحقيقية وبين القمم الثانوية. غير أن هذا لا يؤثر على الوجود الموضوعي لذروة الجبل الحقيقية، واستحالة اعتبار النظرية العلمية يقينية أو مطلقة الصدق ويمثل اعترافا ضمنيا بالوجود الواقع للصدق الموضوعي الذي نفشل في الوصول إليه رغم أن العلمي يتقدم نحوه باستمرار.
وإذا كان الصدق يلعب هذا الدور الكبير، فما هو معياره؟ في هذا يتخذ بوبر الموقف الشائع وهو التناظر
correspondence
مع الواقع. معيار التناظر يحقق أهداف بوبر الإبستمولوجية، ويؤكد رفضه للأداتية ومعاييرها، والأهم أن التناظر على طرف النقيض من النظريات الذاتية في الصدق التي ترجعه إلى تاريخ أو علاقة المعتقد بالمعتقدات الأخرى، فيكون الصدق هو ما نستطيع تبرير الاعتقاد فيه أو قبوله ،
12
وبوبر بالطبع لا يريد معيارا للتبرير، ولا للاعتقادات التي هي مسألة ذاتية، بينما يصر دائما على موضوعية المعرفة.
يضفي بوبر منتهى الموضوعية على المعرفة لدرجة الاستقلال التام عن أي شخص يعرف أو يعتقد، حتى يزعم أنها معرفة بغير ذوات عارفة أصلا. ما دام مكانها هو العالم3، فما هو العالم3؟ إنه ابتكار مثير لبوبر حين يقول: إن هناك ثلاثة عوالم:
العالم 1:
هو العالم الفيزيقي المادي.
العالم 2:
هو العالم الذاتي، عالم الوعي والشعور والمعتقدات والإدراكات والحالات العقلية والميول السيكولوجية.
العالم 3:
عالم المحتوى الموضوعي للفكر كالعلم والفلسفة والأعمال الأدبية والفنية والنظم السياسية والتقاليد والقيم والأعراف ... محتوى هذا العالم هو محتوى الكتب والصحائف وأجهزة الكومبيوتر والمتاحف والمعارض.
والعلاقة بين العوالم الثلاثة متداخلة، لكن العالم 2 هو الوسيط الذي يربط بين العالم 1 والعالم 3 بفضل علاقاته بكليهما، فهو يدرك العالم 1 بالمفهوم الحرفي للإدراك، ويخلق العالم 3 ويظل يدرسه ويضيف إليه ويحذف منه، حتى القوة التكنولوجية في العالم 3 تمارس تأثيرها على العالم 1 بفضل العالم 2.
يقول بوبر: إن هذه النظرية في جوهرها موقف تعددي جديد ، يرفض الواحدية والثنائية، يرفض بوبر أيضا الواحدية المحايدة مع ماخ وجيمس ورسل وتعدديتها المفرطة، ويحل مشكلة العقل والمادة عن طريق طرف ثالث يربط بينهما، ويرجع أصولها إلى سائر النظريات الميتافيزيقية التعددية كالأفلاطونية والهيجلية ومونادات ليبنتز الروحية ... كلها في رأي بوبر نظريات تقول بوجود عالم غير عالمي العقل والمادة مثل العالم 3، لكن بوبر يتلافى تطرفاتها الميتافيزيقية فلا يجعل العالم 3 سرمديا مطلق الثبات كعالم المثل الأفلاطوني نتأمل فيه كما لو كان نجوما في السماء، العالم 3 من صنع الإنسان، ومكوناته واقعية، إنها المشاكل وحلولها، ويحوي دائما الخطأ بجانب الصواب، وهو دائم التقدم والتغير والنمو، وهذه المرونة تجعله ملائما للعلم الحديث.
العالم 3 يجسد موضوعية المعرفة بفضل استقلاله، فهو منتج مباشر لنشاطات الإنسان المختلفة، لكن مكوناته تستقل عن الإنسان بعد أن يخلقها الكتاب، كتاب وإن لم يقرأه أحد، وتستقل في خلق مشاكلها التي قد يعجز الإنسان عن حلها، وفي خلق خصائصها التي تظل في حدود المجهول وقد يعرفها الإنسان أو لا يعرفها . مثلا لا تزال كثير من مشاكل الأعداد الأولية والصماء واللامتناهية مثارة في علوم الرياضة، فالإنسان خلق سلسلة الأعداد، لكنه لم يخلق مشاكلها ولا خصائصها كالتمييز بين الأعداد الفردية والزوجية. مثل هذا نتيجة لخلقنا، غير مقصودة ولا يمكن تجنبها، نتيجة ثانوية أو جانبية
by-product .
على هذا يفرق بوبر في مكونات العالم 3 بين المنتجات المقصودة التي اجتمع أشخاص معينون وبذلوا جهدا موجها لخلقها مثل الأديان والمؤسسات والأعمال الفنية والعلمية والقوانين والدساتير ... وبين المنتجات الجانبية الثانوية التي لم يخلقها الإنسان بقصد، بل انبثقت من تلقاء ذاتها، والغريب أنها قد تكون أكثر أهمية من المنتجات المقصودة. فأهم كيانات العالم 3 طرا اللغة، وليس هناك جماعة اجتمعت لتخطيطها، بل تبدأ بنشاط أولي توجهه الحاجة، ثم يتسع ويتطور ويتحسن تدريجيا بغير خطة سابقة. إنها أشياء صنعها الناس بغير أن يصنعها واحد منهم، وحين تتبدى فائدتها تتطور وتتحسن، العالم 3 هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان. موضوع الإبستمولوجيا يقطن فيه ولا شأن لها البتة بالعالم 2. وأهم مكونات العالم 3 اللغة والنقد، وبفضل النقد يكون تطوره ونماؤه الدائم نحو الأفضل.
وما دام بوبر يولي كل هذه الأهمية للنقد يمكن أن نتفهم جيدا لماذا كانت البطاقة الفلسفية التي يتخذها عنوانا لفلسفته هي العقلانية النقدية
Critical Rationalism .
والعقلانية أساسا هي الاتجاه التنويري الذي يثق في الإنسان وقدراته فيرفع كل وصاية من عليه ويتركه يبحث عن الحقيقة بلا سلطة تفرضها. وترتبط العقلانية في الفلسفة الغربية بالثورة على خضوع العصور الوسطى الطويل للسلطة الدينية وأرسطو، واتخذت شكلين يمثلان العقلانية الكلاسيكية هما الاتجاه التجريبي مع بيكن وأشياعه الذين يرون التجربة هي الوسيلة التي تمكنا من قراءة الحقيقة فتثق في الطبيعة وفي حواس الإنسان ليعتمد عليها في الوصول بنفسه إلى الحقيقة. والاتجاه الثاني هو الاتجاه المثالي الذي افتتحه ديكارت مؤكدا الثقة في العقل كوسيلة امتلكها الإنسان للوصول إلى الحقيقة.
يرى بوبر أن كل منجزات الحضارة الغربية المعاصرة تدين في نشأتها إلى العقلانية الكلاسيكية التي كانت الملهم الأعظم للتقدم الحضاري والاجتماعي وبغير نظير ينافسها عبر التاريخ ... ومع هذا فهي نموذج للفكرة الخاطئة التي تلهم بأفكار رائعة،
13
فقد تردت في خطأ كبير هو الاعتقاد بأن الحقيقة بينة وأن المعرفة اليقينية سهلة المنال، وانغلقت العقلانية الكلاسيكية إلى تياريها في محاولتها لتبرير هذا اليقين وتحديد المصدر النهائي لمعرفة الحقيقة، أهو الحواس أم العقل؟ وهذا الطرح خاطئ أصلا، فلا يهم مصدر المعرفة، المهم هو المعرفة ذاتها، محتواها ومدى صدقها وقدرتها على حل المشكلة المطروحة للبحث. إنهم بالسؤال عن المصدر أهو العقل أم الحواس، يكررون الخطيئة الأرستقراطية التي تهتم بالحسب والنسب وتغفل عن تقييم الشخص ذاته،
14
وهذه الخطيئة تجسدت في الاستقرائية والوضعية، وهي تنشغل بتبرير المعرفة العلمية عن طريق التثبت من ردها إلى أصولها في الوقائع التجريبية.
إن السؤال الذي يحدد البحوث الإبستمولوجية ليس عن المصدر، بل هو: كيف نكتشف أخطاءنا ونستبعدها لكي تنمو المعرفة وتتطور ويكون دائما الكشف والإضافة والتقدم؟ وقد أجاب بوبر على هذا بالنقد، واتخذ موقف العقلانية النقدية.
وعلى الرغم من هذا الخلاف الحاد في الرؤية الإبستمولوجية بينه وبين العقلانية الكلاسيكية، فإنه يشترك معها في الموقف الذي يجعلها عقلانية، أي في رفض أية سلطة معرفية على الإنسان وضرورة استقلاله بنفسه في البحث عن الحقيقة رغم أنها ليست بينة، وفي اكتشاف المعرفة رغم أنها ليست يقينية. ليس هناك سلطة معرفية، وأيضا ليس هناك مصدر معين للحقيقة، المعرفة لا تتمتع بأية أسس غير قابلة للخطأ، لا في الحواس ولا في العقل، كل فرض وكل اقتراح وكل مصدر للمعرفة على الرحب والسعة، ما دام كل اقتراح وكل مصدر يمكن تعريضه للنقد، واكتشاف أخطائه وتصويبها، والانتقال إلى وضع أفضل في صيرورة نحو التقدم المستمر. من هنا كانت العقلانية نقدية، وكانت بدورها موقفا فلسفيا شاملا قادرا على تأطير منطق الكشف العلمي والتقدم الدائم.
وبهذه الرؤية الإبستمولوجية المحددة والموقف الفلسفي الشامل، يمكن أن يواجه بوبر النزعة الاستقرائية ومنطقها لتبرير المعرفة العلمية الذي واصلته الوضعية المنطقية، مواجهة هي بدورها شاملة.
يرى بوبر أن هذا التبرير يرتد إلى الحس المشترك
Common Sense
الموقف العادي للإنسان بشعبيته الفائقة. وبوبر يعتبر الحس المشترك خامة فلسفية بالغة الأهمية، لكنه في حد ذاته يفتقر إلى الموقف النقدي، ويا لها من جريمة في عرف بوبر! وبموقفه اللانقدي يتخذ الحس المشترك نظرية معرفية تشبه العقل بالدلو أو السلة، وتقوم الحواس - لا سيما البصر - بجمع المعلومات وتعبئتها في هذا الدلو. وإذا أردنا اكتساب معرفة بأي شيء، فما علينا إلا أن نفتح عيوننا وحواسنا، فيمتلئ الدلو بالمدركات الحسية ونعرف الشيء تماما. هكذا ببساطة وبإهدار القوى الخلاقة للعقل. وتفسر هذه النظرة توقعات العقل، توقع الاطراد في الطبيعة مثلا، بتأثير الملاحظات المتكررة التي حدثت في الماضي. نحن نعتقد أن الشمس ستشرق غدا؛ لأنها أشرقت في الماضي كل يوم. لدينا ملاحظات متكررة، وهي كفيلة بتفسير نشأة الاعتقاد وبتبريره. هكذا نجد الموقف الساذج للحس المشترك هو الأصل الذي صدر عنه منطق التبرير الاستقرائي، فنفس هذه النظرة التي يرسمها تشبيه الدلو، هي التي أخذتها التجريبية الكلاسيكية، وعبر عنها جون لوك قائلا إنه ليس في العقل شيء إلا ودخله عن طريق الحواس، وأخذها بقية التجريبيين، وحتى صاغتها النزعة الاستقرائية في شكل منهج قادر على تبرير العلم وتمييزه.
وفي كل هذا السياق العريض، لم يتوقف أحد لمناقشتها مناقشة نقدية حتى جاء ديفيد هيوم ليقوض أركان العلية فأثار مشكلة الاستقراء. وبوبر يتمسك بالدلالة الإخبارية للنظرية العلمية ومحتواها المعرفي ومعيار الصدق ... وفي هذا لا بد له أن يواجه مشكلة الاستقراء.
لم يتوان بوبر في هذا أبدا، بل يحلو له التأكيد على أن أهم إنجازاته في فلسفة العلم هو حل مشكلة الاستقراء. وقد عني عناية بالغة بفحص تفصيلي مستجد لأعمال يهوم. ويرى بوبر أنه أثار بشأن الاستقراء مشكلتين وليس مشكلة واحدة كما هو شائع. فثمة المشكلة المنطقية المتعلقة بتبرير صحة الاستقراء، فهل لدينا تبرير للانتقال من الحالات التي وقعت في خبرتنا إلى تلك التي لم تقع بعد؟ وأجاب هيوم على هذا بالنفي مثيرا مشكلة الاستقراء. ولكن ثمة أيضا مشكلة ثانية، هي المشكلة السيكولوجية المتعلقة بأثر التكرار على حياتنا النفسية، فلماذا نتوقع جميعا بثقة كبيرة أن الحالات التي لم تقع في خبرتنا سوف تطابق تلك التي وقعت؟ وكما رأينا، أجاب هيوم على هذا بالعادة أو الطبع، وبعد أن نسف التبرير الاستقرائي، أو طرده من الباب المنطقي، عاد ليسمح له بالدخول من الشباك السيكولوجي، فظل الاستقراء جاثما على الصدور.
وبطبيعة بوبر، يصب جام نقده على هيوم، فيجده قد انتهى إلى أن التكرار قد خلق فينا عادة الاعتقاد في قانون، غير أن بوبر يؤكد أن هذا خطأ والعكس تماما هو الصحيح، فالتكرار يحطم الوعي بالقانون ولا يخلق اعتقادا فيه. فمثلا في حالة عزف قطعة موسيقية صعبة على البيانو، يبدأ العازف مركزا وعيه وشعوره، وبعد قدر كاف من التكرار يتم العزف بلا انتباه لقانون. وحين البدء في قيادة الدراجة نتعلم أن ندير الدفة في الاتجاه الذي نخشى السقوط فيه، وتبدأ المحاولات الأولى للركوب وأذهاننا مركزة تماما على هذا القانون، وبعد قدر كاف من التكرار ننساه تماما. إذن فالتكرار يحطم الوعي بالقانون ولا يخلقه كما ذهب هيوم. فنحن لا نشعر بدقات الساعة المنزلية لكن نشعر أن الساعة توقفت. ومن ناحية أخرى نجد أن السلوك - كالأكل أو النوم في ساعة معينة - لكي يكون عادة، فإنه ينشأ أولا ثم يتكرر ثانيا. معنى هذا أن نشأة العادة لا ترجع إلى التكرار كما ذهب هيوم.
وكان التكرار الذي عناه هيوم قائما على التماثل بين الوقائع أو تشابهها، وفي هذا يحرص بوبر على تبيان أن العقل البشري هو الذي يحكم على الوقائع بأنها متشابهة أو متماثلة، وبالتالي بأنها تكرارات. ليس هناك تكرارات في صلب الطبيعة، بل هناك وقائع يحكم العقل عليها بأنها متماثلة، وبالتالي متكررة، وتبعا لمنظور معين في العقل سابق على إدراك الوقائع ذاتها. هكذا نجد بوبر يلف ويدور في نفس محور أسبقية الفرض على الملاحظة والعقل على الواقع.
وينتهي بوبر إلى أن هيوم غرق في متاهات النزعة الذاتية، وانشغل بالاعتقاد في مشابهة الماضي للمستقبل والخبرة والعادة والطبع، وكلها بحوث أليق بعلم النفس وليس بالإبستمولوجيا، أو بمصطلحات بوبر متصلة بالعالم 2، وليس العالم 3، ومع هذا لم تكن صائبة حتى من المنظور السيكولوجي ذاته. لكن في خضم هذه الغياهب السيكولوجية ثمة جوهرة ثمينة تظفر بها المعرفة الموضوعية، وهي ببساطة التفنيد المنطقي لأن يكون الاستقراء تبريرا كافيا للمعرفة العلمية، أو ما يعرف بمشكلة الاستقراء. وهذه المشكلة التي أخرجها هيوم في مصطلحات سيكولوجية ذاتية مثل الاعتقاد والعادة والخبرة سوف يصبها بوبر في قالب المنطق الموضوعي بحيث لا تكون مشكلة الاستقراء مشكلة لمعتقداتنا وتبريرها أو مشكلة العلاقة بين الحالات الماضية التي مرت بخبرتنا والحالات المستقبلة التي لم تمر بعد بخبرتنا، بل هي مشكلة العلاقة المنطقية بين الوقائع التجريبية «أو العبارات الجزئية التي تصفها» وبين النظريات العمومية التفسيرية «أو العبارات الكلية».
وعلى هذا الأساس الموضوعي يطرح بوبر السؤال: هل يمكن للوقائع التجريبية أن تبرر الدعوى بصدق النظرية العمومية التفسيرية؟ وأجاب بوبر على هذا نفس إجابة هيوم، أي بالنفي مهما كان عدد الوقائع كبيرا.
وهنا يصل إلى السؤال الثاني: هل يمكن للوقائع التجريبية أن تبرر الدعوى بأن النظرية العمومية كاذبة؟ وبوبر يرد على هذا بالإيجاب فالوقائع التجريبية لا تبرر الدعوى بصدق النظرية، لكنها تبرر الدعوى بكذبها.
وترتكز هذه الإجابة - والحق منطق الإبستمولوجيا البوبرية بأسره - على قاعدة منطقية صارمة، هي قاعدة اللاتماثل المنطقي
Logical Asymmetry
بين التحقيق، أي إثبات الصدق وبين التكذيب، عن طريق الوقائع التجريبية. المنطق يقضي باختلاف المنزلة المنطقية بين التحقيق والتكذيب، ألف حالة لا تثبت القضية؛ لذا برزت مشكلة الاستقراء، لكن حالة نفي واحدة تحسم القول في كذب القضية ويكون رفض الإثبات وقبول النفي صوابا منطقيا نقيم عليه منطق التجريب العلمي، كما سيفعل معيار التكذيب.
القضية: كل البجع أبيض «لن يثبت صدقها ملايين البجعات البيضاء، فمن أدرانا أنه توجد بجعة ليست بيضاء، لكن لم تصادفنا ولم نرها بعد، أما رؤية بجعة واحدة غير بيضاء فهي كافية لإثبات كذب القضية. وعلى هذا الأساس يمكن الانتقال إلى السؤال الثالث في صياغة بوبر لمشكلة الاستقراء، وهو: هل يمكن للوقائع التجريبية أن تبرر تفضيل بعض من النظريات العمومية المتنافسة مع الأخرى؟
بوبر يرد على هذا بالإيجاب بناء على ما سبق، فإذا توصلنا إلى إثبات كذب بعض من المفروض المتنافسة، أي تم تفنيدها، أصبح من الواضح منطقيا تفضيل الفروض التي لم يتم تفنيدها بعد. وهذه نتمسك بها مؤقتا بوصفها حد التقدم العلمي حتى اللحظة الراهنة، ثم نستأنف الجهود العلمية التالية المسير منها بأن نحاول تفنيدها هي الأخرى، ونحاول أن تضع بدلا منها فروضا أكثر اقترابا من الصدق، نأخذ أفضلها نسبيا ونتمسك بها مؤقتا فقط؛ لأنها أفضل ما لدينا حتى الوقت الراهن إلى أن يتم تفنيدها هي الأخرى والوصول إلى فروض أفضل، نسلم بها بصفة مؤقتة ... وهلم جرا.
هكذا لا يتوقف العلم أبدا، بل يسير سيرا متصلا في إطار منطق للتقدم المستمر. ولا توجد فجوة أو قفزة لا عقلانية كتلك التي تمثلت في التعميم الاستقرائي، فأين اللاعقلانية في معرفة تسير بمنهج نقدي، يبحث عن الخطأ في النظريات المتنافسة؟! إنه منهج التفضيل العقلاني تماما، الذي يتحول إلى لا عقلاني فقط حين نبحث عن التبرير، عن اليقين والنظرية الصادقة أبدا. وكما أوضح مفهوم الصدق والتناظر، التخلي عن مطلب اليقين لا يعني أبدا التخلي عن الصدق. والبحث العلمي محكوم دائما بفكرة الكشف عن نظرية أكثر اقترابا من الصدق، أكثر تقدما. وعلى هذا النحو تتسق تماما الأسس المنطقية للعلم التجريبي، بلا مشاكل استقرائية، ما دامت منطقا للكشف والتقدم وليس للتبرير.
وكانت مشكلة الاستقراء التي أثارها هيوم ذات شق سيكولوجي، وسوف يحيط بوبر به عن طريق مبدأ الطرح
، وخلاصته أن ما يصدق في المنطق يصدق أيضا في علم النفس، أو يطرح عليه، كأن نقول: إن ما يصدق في منهج العلم يصدق أيضا في تاريخ العلم، ويضع بوبر السؤال السيكولوجي هكذا: هل نشعر باليقين من النظريات العمومية حتى المختبرة جيدا كنظرية شروق الشمس كل يوم مثلا؟ بوبر يجيب بالنفي، فاليقين دائما مستحيل الشمس قد لا تشرق غدا، فقد تنفجر أو تقوم القيامة. ولكن إذا كان المبرر العقلاني للشعور باليقين مستحيلا، فهناك بالضرورة اعتقادات قوية نتصرف على أساسها في حياتنا العملية.
إن الحياة العملية لا بد أن تسير، وهي لن تسير إلا إذا اخترنا من بين البدائل أو الاحتمالات المطروحة بديلا نتصرف على أساسه، ومن هذه الزاوية العملية البرجماتية نهمل البدائل الضعيفة - كاحتمال عدم شروق الشمس غدا - ونتصرف على أساس اعتقاداتنا القوية الناجمة عن البدائل المختبرة جيدا، والتي صمدت أمام النقد ومحاولات التفنيد، أي نتصرف - مثلا - على أساس شروق الشمس غدا، بغير أن يعني هذا يقينا مبررا.
إذا في هذا المستوى المبدئي أيضا تتسق علاقة العقل الإنساني بالعالم التجريبي، كما اتسقت في المستوى الأعلى مستوى البحث العلمي، ولا توجد قفزات لا عقلانية غير مبررة، أي تتبخر تماما مشكلة الاستقراء؛ لأن الاستقراء ذاته قد تبخر. ولكي يحسم بوبر هذا يعاود التأكيد على أن اعتقاداتنا السيكولوجية القوية التي نتصرف على أساسها في حياتنا العملية ليست البتة نتيجة التكرار كما أوضح في نقده لهيوم، وأن العقل هو الذي يفرض مفهوم التكرار على الواقع بناء على توقعاته الفطرية السابقة على التجربة، هذه التوقعات كفيلة بأن تجتث الاستقراء من أعمق الجذور. يقول عالم النفس جيرولد كاتس
J. Katz : إن الحيوان الجائع يقسم البيئة إلى أشياء تؤكل وأشياء غير قابلة للأكل، وحينما يشعر بالخطر لا يرى أمامه إلا أماكن الاختباء وطرق الهروب، فالحالة الداخلية للكائن الحي واهتماماته العقلية هي التي تحدد ردود أفعاله إزاء البيئة وترسم له إطارها أو تصنف وقائعها التجريبية. وإذا كان الحيوان مهتما فقط بالطعام والأمان، فإن العالم مهتم بمشكلة علمية معينة، وعقله ليس مقصورا بالطبع على التوقعات الفطرية - كحالة الإنسان البدائي - فثمة أيضا علمه الذي جعله عالما، أي النظريات التي درسها ويقبلها كخلفية علمية، والافتراض الذي يتصوره لحل المشكلة ... ثم يهبط من كل هذا إلى وقائع التجريب، أما التصور الاستقرائي بأن هذه الوقائع هي نقطة البدء التي نصعد منها إلى الفرض، فقد اتضح أن هذا مستحيل سيكولوجيا ومنطقيا وميثودولوجيا «منهجيا» على السواء.
هكذا لم يعد أمامنا استقراء من أي نوع كان، لا في أية مرحلة من مراحل المعرفة ولا في أي مجال من مجالات العلاقة بين العقل والواقع التجريبي. وبهذا يرى بوبر أنه حل مشكلة الاستقراء وتخلص نهائيا من المعضلة التي أعيت العقول منذ هيوم وحتى برتراند رسل.
والسؤال الآن: هل حل بوبر مشكلة الاستقراء فعلا؟ لا شك أنه أخرج منطقا للمعرفة التجريبية بلا مشاكل أو قفزات تعميمية، لكنه لم يحل مشكلة الاستقراء ليصل إلى هذا، بل فقط اجتث جذوره تماما، زعم أنه سيعيد صياغة مشكلة هيوم كي تصبح مشكلة موضوعية، لكنه في واقع الأمر استغل براعته المنطقية لكي يصيغ المشكلة في صورة تساؤلات حول ما إذا كان هناك استقراء أم لا؛ وذلك لكي يجيب بلا فيتخلص من الاستقراء ومن مشكلته معا. إنه حل ينطبق عليه المثل الدارج «حل العقد بالمنشار»، بمعنى حل المشكلة بأسلوب لا يسمح لها بأن تقوم، ولا يسمح أيضا للنزعة الاستقرائية بأن تقوم لها قائمة بعد الآن.
لقد اجتث بوبر جذور الاستقراء تماما، ليس فقط كتبرير وتمييز للمعرفة العلمية، بل أيضا كمنهج، كمجرد آلية منهجية يمكن أن تتمثل في اكتساب أي شكل من أشكال المعرفة التجريبية. باختصار لا يوجد شيء اسمه المنهج الاستقرائي ، أي لا يوجد منهج يبدأ بالملاحظة التجريبية، أو بتعبير بوبر الأثير: الاستقراء خرافة.
وإذا قبلنا هذا، لا بد أن يجيب بوبر على السؤال: ما هو منهج العلم إذا؟
ثالثا: منهج العلم ... الإبستمولوجيا التطورية
بوبر لا يعتبر نظرية دارون نظرية علمية متكاملة ذات مضمون معرفي ومحتوى إخباري متكامل كنظرية نيوتن مثلا، بل هي أساسا برنامج بحث ممتاز، ومع هذا اشتهر بوبر دائما بأن فلسفته داروينية تطورية، وهذا هو ضلعها الأساسي المأخوذ من توجهات بيولوجية والذي استقطبه كثيرا في أيامه الأخيرة.
ولأن بوبر أولا وقبل كل شيء فيلسوف المنهج العلمي، فلا بد وأن تتمثل هذه الداروينية التطورية في نظريته في المنهج العلمي، التي تتلخص في كلمة واحدة هي آلية المحاولة والخطأ كما تتمثل في صياغته الشهيرة «م1 - ح ح - أ أ - م2» فترسم قصة العلم وقصة الحضارة، وقصة الحياة بأسرها على سطح الأرض كما تصور الداروينية نشوءها وارتقاءها أو تطورها.
ينظر بوبر إلى العلم والمعرفة نظرة واحدة، فليس العلم إلا مرحلة متقدمة من المعرفة، بل من علاقة الكائن الحي بالبيئة، حتى إننا لو كشفنا القصة كلها مرة واحدة، منذ الأميبا حتى آينشتين لوجدناها تعرض النمط نفسه.
فأنماط السلوك أيا كانت، سلوك العالم في معمله، أو سلوك الكائن الحي في صراعه مع البيئة من أجل البقاء، أو ما بين هذا وذاك، أي سلوك ليس إلا محاولة لحل مشكلة معينة، والمعرفة بدورها ليست إلا نشاطا لحل مشاكل معرفية.
لذلك يبدأ أي موقف بمشكلة محددة لتكن «م1»؛ لتأتي محاولة حلها «ح ح»، لكن لا بد من مناقشة أو اختبار الحل و«استبعاد الخطأ» «أ أ»، وإلا لن تستمر الحياة، بعد حذف الخطأ يبرز موقف جديد، وأي موقف يحتوي على مشاكل؛ لينتهي إلى مشكلة جديدة «م2» هكذا نجد الصورة المنهجية لأية محاولة: «م1 - ح ح - أ أ - م2».
وقد تقترح كثرة من الحلول تختبر جميعها من أجل الوصول إلى أفضل «م2» بالصورة:
أما حين يصعب حسم القول في أفضل الحلول المتنافسة، فإن الصياغة تتخذ الشكل:
إنها صورة تعدد الاتجاهات السياسية والمذاهب الفلسفية مثلا، وهي أيضا صورة تطور الحياة على وجه الأرض في أنواع بيولوجية عديدة.
هذه الصياغة من أخصب أفكار بوبر، وضع عليها سرجا جيدا، وامتطى صهوتها خلال الكثير المتباين من حقول التساؤل الإنساني، وحتى المجالات التي لم يطرقها هو طرقها أحد أتباعه، طبقها مؤرخ الفن إرنست جومبريش في تفسير تطور الفنون، كما دعا إمرى لاكاتوش إلى تطبيقها في مجال تفسير بناء الاستدلال الرياضي. أما النتائج الخصبة التي تنتج عنها فتفوق الحصر. لعل أهمها أن المعرفة تسير في حلقات متتالية، لكنها ليست دائرية، فهي لا تنتهي من حيث بدأت، بل تنتهي بموقف جديد ومشاكل جديدة، هذه الجدة هي التي تكفل التقدم المستمر. الخطأ داخل في صميم كل محاولة ويستحيل تجنبه، وهو ذاته طريق التقدم المستمر عن طريق استبعاده. معنى هذا أن الصياغة قادرة على تجسيد منطق التقدم، ومنطق الكشف العلمي.
وإذا سئل بوبر عن مسار المنهج العلمي، أصبحت الإجابة سهلة في صورة الخطوات أو بالأحرى المراحل التالية:
م1:
يبدأ العالم بحوثه من مشكلة، إما مشكلة عملية تجريبية، وإما مشكلة نظرية أي فرض وقع في صعوبات، العالم يجد في العلم دائما مواقف معينة لمشاكل، فيختار منها المشكلة التي يأمل في استطاعته حلها. البدء إذا ليس بالملاحظة، بل بالمشكلة. وهذه المشكلة بدورها ليست نتيجة للملاحظة أو حتى للتجريب، بل هي مأخوذة من البناء المعرفي السابق.
ح ح:
الفكرة عن المشكلة تكون غامضة، التعرف الكامل عليها لن يكون إلا بطرح حل ونقده فهم المشكلة يكون بفهم صعوباتها، بأن يعرف العالم لماذا لا يسهل حلها، لماذا لا تصلح الحلول الواضحة، بهذا يفهم المشكلة جيدا، يعرف تفرعاتها ومشاكلها الجانبية وعلاقاتها بالمشاكل الأخرى. إنه يحيط بموقف المشكلة فيتمكن من طرح الحل الملائم، الحل دائما اختباري، وهو فرضي، محاولة الحل قد تفضي إلى طرح عدة حلول، عدة نظريات تتنافس لحل نفس المشكلة، أو تتنافس بأن تمنح حلولا لبعض المشاكل المشتركة، على الرغم من أن كلا منها قد تمنح - بالإضافة إلى هذا - حلولا لمشاكل لا تشترك فيها مع النظريات الأخريات. كيف يمكن الاختيار بين مجموعة النظريات المتنافسات والاستقرار في هذه الخطوة على «ح ح» محددة؟ أولا على الباحث استبعاد ما يمكن تفنيده، أي اكتشاف الاختبار الفاصل، التجارب الحاسمة التي تستطيع تفنيد واستبعاد بعض منها، ثم يختار الباحث النظرية الأفضل من بين المجموعة المتبقية، والنظرية الأفضل هي الأكثر قابلية للتكذيب؛ لينتهي بتعيين «ح ح» أي محاولة حل.
أ أ:
ثم يحاول العالم نقد «ح ح»، أي فرضه الجديد. لا بد من إيجاد الخطأ في الحل المقترح، بل ومحاولة تفنيده. قد يصمد الفرض أمام اختبارات النقد، وقد ينهار سريعا، إذا كان ضعيفا. لكن القاعدة أن العالم سيجد افتراضه الحدسي قابلا للاختبار التجريبي، وإلا لما كان علميا، وقد يجد أنه لا يحل المشكلة، بل يحل جزءا منها فقط، وسيجد حتى أفضل الحلول، أي الذي يقاوم أعنف نقد لألمع العقول، من شأنه أن يثير صعوبات جديدة، فهو نظرية لم تفند حتى الآن. ولما كانت لا بد أن تفند يوما ما، فعلى الباحث محاولة هذا دائما، فيحاول إقامة مواقف اختبارية قاسية. لذلك فإن هذه الخطوة «أ أ» قد تفضي إلى بناء قانون مفند، قانون قد تكون درجة عموميته منخفضة، فقد لا يستطيع شرح مواطن نجاح النظرية، لكن يستطيع الأهم: اقتراح اختبار حاسم وتجربة تفند النظرية، وتبعا لنتيجتها إما يأخذ العالم بهذا القانون المفند، وإما بالنظرية موضع الاختبار.
15
ولإحكام منهجية هذه الخطوة، يمكن حصر أساليب إجرائها، أي أساليب اختبار النظرية واستبعاد الخطأ، في أربع طرق: (أ)
مقارنة النتائج الاستنباطية بعضها ببعض، والتثبت من اتساقها معا وخلوها من التناقض، أي اتساق النظرية مع نفسها. (ب)
فحص النظرية نفسها فحصا منطقيا، لنرى هل هي من نطاق العلم التجريبي، وهل هي إخبارية؛ فقد تكون تحصيل حاصل. (ج)
مقارنة النظرية بالنظريات الأخرى في البناء المعرفي لنرى هل تتسق معها، وهل تمثل تقدما علميا عليها. (د)
اختبار النظرية تجريبيا، أي عن طريق التطبيقات التجريبية للنتائج المستنبطة منها.
16
بالنظر إلى هذه الأساليب، نجد المنهج المتبع أساسا هو الاختبارات الاستنباطية، وليس البتة أدلة استقرائية، رغم أن الأهمية القصوى للملاحظة والتجريب تبرز في هذه الخطوة؛ فهي التي تفصل القول أولا وأخيرا في قبول أو رفض النظرية المتسقة منطقيا. إن اتفقت الملاحظات مع النتائج المستنبطة من النظرية، سلمنا بها مؤقتا، إن تناقضت استبعدناها، ولا أثر إطلاقا للاستقراء، فليس هناك أي انتقال من الوقائع إلى النظريات، ما لم يكن انتقالا تكذيبيا. حقا إن الاستدلال هنا من أدلة تجريبية، ولكنه استدلال استنباطي صرف.
وكلما كانت النتائج المستنبطة أبعد، كلما كانت أهم، ليس هناك عالم يبلغ من السذاجة حدا بحيث يضع نظرية يمكن اكتشاف الخطأ فيها هي ذاتها، في صميم منطوقها، أو في نتائجها القريبة، وكلما كانت النتائج المستنبطة أبعد، كلما كانت أهم، ليس هناك عالم يبلغ من السذاجة حدا بحيث يضع نظرية يمكن اكتشاف الخطأ فيها هي ذاتها، في صميم منطوقها، أو في نتائجها القريبة.
ومهما كانت نتيجة الاختبار، فلا بد وأن العالم قد تعلم منها شيئا، فإذا فشل الاختبار، واجتازته المحاولة، فقد عرف الباحث الكثير ، عرف أن حله هو الأكثر ملاءمة، وهو أفضل ما لدينا حتى الآن، وأنه هو الذي ينبغي الأخذ به. أما إذا نجح النقد وفند النظرية، فقد عرف الباحث الكثير أيضا، عرف لماذا أخطأ، فيلم بالمشكلة أكثر، وربما فشلت النظرية في حل المشكلة المطروحة للبحث، ولكنها قد تنجح في حل مشكلة بديلة، وقد تعطي شحنة تقدمية أكثر مما لو كانت المشكلة الأصلية قد حلت، وحتى وإن لم تحل، لا المشكلة الأصلية، ولا أية مشكلة بديلة، فإن العالم يجب أن يهتم أيضا بالتكذيب في حد ذاته؛ لأن اكتشاف كذب نظرية يعني اكتشاف صدق نقيضها، وإن كان نفي النظرية التفسيرية ليس بدوره نظرية تفسيرية.
م2:
وعلى أية حال، لا بد وأن ينتهي العالم إلى موقف جديد، يحمل بين طياته مشاكل جديدة ليأخذ العالم منها م2 ... يبدأ بها الحلقة الجديدة.
بالطبع ليس من اليسير إدخال فكرة المحاولة والخطأ البسيطة في ذات الهوية مع المنهج التجريبي المعقد، إنما هي الأصل والإطار العام الذي تفرعت شتى التعقيدات داخل خطواته، إن منهج المحاولة والخطأ، أي «م1 - ح ح - أ أ - م2» هو أسلوب التعلم، أسلوب تعرف الكائن الحي على بيئته، وقد تطور قليلا قليلا حتى بدأ في اتخاذ سمة المنهج العلمي التجريبي الحديث، الذي هو على وجه الدقة: منهج الحدوس الافتراضية الجريئة «المحاولة» والاختبارات العملية الحاذقة البارعة لتكذيبها وتصويب الخطأ فيها.
خلاصة المنهج هي أن يتعلم الباحث أن يفهم المشكلة فيحاول حلها، ويفشل في هذا الحل فيردفه بحل آخر أقوى يفشل فيه هو الآخر، العالم يسير من حلول سيئة إلى حلول أفضل، عارفا في كل حال أن لديه القدرة على طرح تخمينات جديدة، فطريق التقدم العلمي الوحيد هو طريق الكشف، هو طريق طرح فروض أفضل.
وبطبيعة الحال تحدد هذه النظرية المنهجية منطق العلم وطبيعته، من حيث إنه دائما غير يقيني، مؤقت نسلم به الآن لأنه الأفضل، وفي وقت لاحق لا بد من التوصل إلى ما هو أفضل، فالمسألة نسبية وهي متغيرة من حيث هي دائمة التطور والتقدم.
إن الصياغة «م1 - ح ح - أ أ - م2» تجعل نمو المعرفة العلمية يسير من المشاكل القديمة إلى المشاكل الجديدة، بواسطة الافتراضات الحدسية وتكذيباتها، بواسطة التعديلات والتكييفات المستمرة للموقف الراهن، والحلول المطروحة لمشاكله، مما يجعل تطور العلم زجزاجيا متعرجا وليس خطا مستقيما، إنه منهج التصحيح الذاتي، أي الذي يجعل العلم يصحح نفسه بنفسه تصحيحا مستمرا استمرارية البحث العلمي، طالما أن النظريات كلها مجرد حدوس افتراضية، تتفاوت في درجة اقترابها من الصدق، وأن العالم حتى لو توصل جدلا إلى نظرية صادقة، فلا هذا المنهج - ولا أي منهج آخر - يتمكن من تبرير صدق النظرية العلمية، وكيف نبحث عن تبرير الصدق ونحن عالمون أن النظرية قد تجتاز كافة اختبارات النقد والتكذيب، فقط لأن العلم لم يتوصل بعد إلى الاختبار الحاسم لها، أي القانون المفند، والباحث لا يفضل النظرية فقط لأنها الأقرب إلى الصدق، ولكن أيضا لأنها محتملة الكذب، إنها موضوع شيق لاختبارات أكثر، أي محاولات تكذيب، وتكذيب أي نظرية علمية يشكل مشكلة لكل نظرية جديدة؛ إذ إن عليها أن تنجح فيما نجحت فيه سابقتها، وفيما فشلت فيه أيضا، فهذا المنهج يعني الترابط المتسلسل بين النظريات، بحيث تكون كل نظرية أقرب إلى الصدق من سابقتها.
على ضوء ما سبق، يمكن أن تراعى التقاليد الميثودولوجية، فنستخلص من نظرية بوبر المنهجية، الخطوات الآتية للمنهج العلمي: (1)
المشكلة «وهي عادة تفنيد لنظرية موجودة». (2)
الحل المقترح «أي نظرية جديدة». (3)
استنباط القضايا القابلة للاختبار من النظرية الجديدة. (4)
الاختبار، أي محاولة التفنيد بواسطة الملاحظة والتجريب، من ضمن وسائط أخرى. (5)
الأخذ بأفضل الحلول، أي النظرية الأفضل من بين مجموعة النظريات المقترحة المتنافسة.
والعالم حينما يدرس موقف مشكلة، فهو بهذا يحاول مواصلة مسار طويل يستند على كل حصيلة البشر، البدء من الصفر استحالة، وإن أمكن فإن حياة العالم لن تسفر عن تقدم أكثر مما أحرزه آدم، أو بعبارة علمية: أكثر مما أحرزه إنسان نياندرتال. وهذه واقعة يرفض كثيرون من ذوي المنعطفات الجذرية والمستقلة في حياتهم أن يقبلوها. في العلم يجب أن نحرز تقدما وهذا يعني أننا نقف على أكتاف الأجيال السابقة . العالم معقد لدرجة كبيرة، ونحن لا نعرف من أين ولا كيف نبدأ تحليله، إننا نعرف فقط من أين وكيف بدأت المحاولات السابقة، وأنها محاولات إقامة بناء العالم خلال إطار معين، وهي أطر لم تكن محكمة كثيرا. نحن نحاول أن نجعلها أكثر إحكاما بأن نطورها، فنستبدل بها محاولات أقرب إلى الصدق، والمحاولات مستمرة على صورة تلك الصياغة في طريق التقدم المستمر.
المعرفة، في هذا المسار الطويل والبادئ منذ إنسان نياندرتال حتى اليوم، تمر بمرحلتين، هما مرحلة التفكير الدوجماطيقي القبل علمي ومرحلة التفكير النقدي «العلمي».
مرحلة التفكير الدوجماطيقي أي القطعي الجامد الجازم تتمثل في الحضارات البدائية «السابقة على حضارة الإغريق» بتعبير بوبر! فهو يجهل تماما الميراث المشرقي العظيم وكل ما هو خارج حدوده الغربية التي صنعت العلم الحديث! على العموم الحضارات مهما كانت بدائية لها موقف معرفي يتمثل في تفسير العالم بواسطة الأساطير والخرافات، والتمسك بها يكون قطعيا صارما حيث يعتبر الشك أو النقد جريمة، بعبارة أخرى لا تمارس الخطوة «أ أ» لا تستبعد الخطأ، وبالتالي لا تخرج بجديد «م2»، وطالما أنه لا تغيير للاعتقاد الخاطئ، فإن المخطئ يهلك بهلاك عقيدته الخاطئة، فكان التقدم - كما يقول بوبر - مأساويا وخطيرا إن أمكن أصلا. وهنا نتوقف هنيهة لنقول: لو كان بوبر قد اطلع مثلا على شكوك قدماء المصريين في الآلهة ونقدهم للديانات والأفكار المطروحة وعلى تقدمهم العلمي لما قال هذا، ولما جرؤ على ضم هذه الحضارات إلى المرحلة البدائية، ولما واصل طريقه ليعتبر الإغريق هم الذين بدءوا مرحلة التفكير العلمي النقدي، والنقد ذاته من اكتشاف المدرسة الآيونية، أول مدرسة فلسفية إغريقية حيث ينقد أنكسمندر أستاذه طاليس ويطرح فرضا أفضل.
المهم أن التفكير العلمي هو ذاته التفكير النقدي، ربما يصنع العلم أساطير، لكن الأساطير تظل ثابتة على حالها دائما بسبب التفكير الدوجماطيقي، أما الاتجاه النقدي للعلم فيغير الأساطير في اتجاه التقدم والاقتراب الأكثر من الصدق؛ لأن النقد يحذف الخطأ ويقلل دوما نطاقه، وكما يقول بوبر: ليس التعاقب بين المرحلتين زمانيا أو حادا قاطعا، فكل إنسان - حتى العالم نفسه - يعيش في إسار توقعاته وجهازه المعرفي بقدر من الدوجماطيقية ولا يخرج منها إلا حينما يحاول النقد واستبعاد الخطأ، كما أن العلاقة بين المرحلتين تبادلية، فإذا كانت المرحلة النقدية ضرورية للمرحلة الدوجماطيقية كي تقيها شر هلاك محتوم، فإن المرحلة النقدية أيضا في حاجة إلى قدر من الدوجماطيقية حتى في البحث العلمي ذاته. فالعالم - أثناء اختبار نظريته - لا بد أن يستمسك بها استمساكا دوجماطيقيا إلى حد ما، فلا يتخلى عنها بسهولة، كما أن الدفاع عنها في مواجهة النقد من شأنه أن يطورها ويحسنها في معركتها من أجل البقاء.
ولعلنا لاحظنا أن منهج تطور العلم ذاته يماثل إلى حد كبير ما أسماه دارون بالانتخاب الطبيعي، إنه الانتخاب الطبيعي بين الفروض. العلم يتكون دائما من تلك الفروض التي أوضحت ملاءمتها في حل المشاكل وصمودها أمام النقد، إنها الفروض التي ناضلت للبقاء حتى الوقت الراهن، كما أنها استبعدت تلك الفروض الأضعف منها، أو التي حاول واضعوها أن يعدلوها ويكيفوها، فلم يكن تكييفا مطابقا للمطلوب، وحكمت عليها الفروض الأقوى بالفناء، وبوبر في هذا تطوري داروني وليس لاماركيا.
ذلك أن ثمة نظريتين لتفسير التطور البيولوجي، الأولى هي نظرية العالم الفرنسي جان لامارك
J. Lamarck (1744-1829م) التي ترجع التغيرات البيولوجية إلى تأثيرات البيئة وتجعل دور الكائن الحي سلبيا، فقط يتلقى هذه المؤثرات وإلا حكمت عليه البيئة بالفناء والهلاك. والنظرية الثانية هي نظرية دارون التي ترجع التغيرات البيولوجية إلى فعالية الكائن الحي وقدرته على التكيف مع البيئة فيكون البقاء للأصلح في عملية الانتخاب الطبيعي التي تعني أن الأنواع الأقوى القادرة على الفتك بمنافسيها هي التي تبقى وتحكم بالفناء على الأنواع الأضعف، كما حكمت الفروض العلمية القوية على الفروض الضعيفة بالفناء.
وبوبر يفسر التقدم العلمي بكلمة واحدة هي النقد؛ لأن النقد يبرز ثورية التقدم العلمي، الكشف الجديد تكذيب للفرض المطروح، إنه يحطم ويبدل مجسدا الإيجابية الداروينية، ويلح بوبر على قسوة النقد للفروض والنظريات العلمية، على وعورة محاولات الاختبار التجريبي والتكذيب؛ لأنها تماثل وعورة الظروف البيئية التي تؤدي بالكائن الحي إلى مزيد من التكيف والتحدي، من التطور والارتقاء، أما الاستقرائية فهي اللاماركية، تفسر التقدم العلمي بتراكم النظريات والمعلومات، تراكم تأثيرات البيئة، كمخزن بضائع أو مكتبة نامية باستمرار.
هكذا كان بوبر داروينيا في تفسيره لتطور النظريات العلمية ومنطق تقدمها، وهو أيضا داروني في تفسيره لموقف العالم وطرحه لفروضه، بينما الاستقرائيون لاماركيون في هذا وذاك، إنهم يجعلون دور العالم سلبيا يتلقى وقائع التجريب التي تمليها الطبيعة، فيعممها في فرض علمي. أما بوبر فيجعل للعالم دورا إيجابيا في طرح الفرض وخلق قصة العلم، كما جعل دارون للكائن الحي دورا إيجابيا في خلق قصة الحياة وتطوراتها. إننا لا نعرف - كما يؤكد بوبر - من خلال معطيات البيئة، بل من خلال تحديها ومحاولة فرض تصوراتنا عليها، وكما قدر للداروينية الانتصار وانزوت نظرية لامارك في تاريخ العلم، قدر للبوبرية الانتصار، وفي نهايات القرن العشرين أصبحت النزعة الاستقرائية مرحلة منتهية من مراحل تطور فلسفة العلم، ولم يعد لها نصير.
لكن كان الاستقراء ذا خطوات تبدأ بالملاحظة وتنتهي إلى الفرض العلمي، بينما لم يفض بنا منهج بوبر إلى طريق محدد للكشف العلمي، إلى ذات اللحظة التي تخلق فيها النظرية خلقا. أجل الخطوة «أ أ» تعني طرح فرض جديد، لكنها لم توضح كيف ولا من أين نأتي به.
الواقع أن مثل هذا التوضيح مستحيل، وليس هناك منهج للوصول إلى الأفكار الجديدة، لا استقراء الوقائع ولا غيره، وبالنظر إلى المنهج العلمي من هذه الزاوية نكون في عرف بوبر نتحدث هراء يخلو من المعنى، يقول بوبر:
إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي يقوده إلى النجاح فلا بد أن يصاب بخيبة أمل، ليس هناك طريق ملكي للنجاح، وأيضا إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي كطريق لتبرير النظريات العلمية فسيصاب أيضا بخيبة أمل، النظريات العلمية لا يمكن أن تبرر، إنها فقط تنقد وتختبر.
17
لقد اتضح الآن كيف أطاح بوبر بمنطق التبرير وأحل محله منطق التقدم، وفي هذا ليس المنهج العلمي طريقا للكشف، بل هو منطق للعلم، ولا يرسم طريق الوصول إلى النظرية - كما حاول الاستقراء أن يفعل - بل يرسم أسلوب التعامل مع الفرض وكيفية اختباره والتحكم في نتائج الاختبار. نظرية المنهج تبدأ من الفرض، أما ما قبله وأفضى إليه فليس من اختصاص الإبستمولوجيا والميثودولوجيا، بل من اختصاص علم النفس التجريبي الذي يدرس ظاهرة الإبداع.
الكشف العلمي ليس عملية آلية، بل عملية خلق وإبداع، والعبقرية الخلاقة بمثابة العنصر الفاعل، فلا يمكن الوصول إلى الفرض عن طريق خطوات منهجية محددة، بل عن طريق الإلمام بالحصيلة المعرفية السابقة، ثم قدح ذهن العالم ليتوصل إلى حل للمشكلة المطروحة للبحث، وهذا الحل حدس لا تنبته إلا الموهبة العلمية والعبقرية الخلاقة في انشغالها العميق بالمشكلة. هكذا نجد كل كشف علمي يحوي عنصرا إبداعيا حدسيا قائما على الحب العقلاني لموضوع البحث. ليس هذا رأيا لبوبر أو غيره، بل هو الأمر الواقع، يقرر العلماء أنفسهم أنهم توصلوا إلى النظريات العلمية بالعديد من الطرق المختلفة وليس بأي منهج محدد، قد تظهر النظرية كومضة إلهام في حالات الحلم أو ما يشبه الحلم، قد تومض في الذهن فجأة، وقد تهبط رويدا كضياء الفجر، تشرق النظرية العلمية في الذهن كما يشرق أي إبداع إنساني آخر. قد لا يوافق البعض على هذا؛ لأن الإبداع العلمي يعتمد على كم هائل من المعارف التخصصية الدقيقة لا بد أن يكتسبها العالم، والبحث ذاته نشاط تركيبي عظيم بحيث أصبح لا يستغني عن الكومبيوتر، ويتطلب العمل الشاق والصبر العظيم والشجاعة النفسية التي تدفع إلى بذل العمر والاضطلاع لمشكلة بالغة الصعوبة، وإذا فشل الجهد وراح هباء ليس ثمة تعويض.
18
ولكن مع التسليم بكل هذا تظل العبقرية المبدعة الخلاقة هي العامل الحاسم.
من هنا يرى بوبر مماثلة بين روح العلم وروح الفن شاعت في فلسفة العلم في العقود الأخيرة من القرن العشرين. وعمل جاستون شلار بالذات على أن يفلسف العلم والفن معا من نفس المنطلقات القيمية. حقا الخلق العلمي ليس حرا كالخلق الفني؛ لأن العالم عليه الصمود أمام الاختبارات التجريبية والالتزام بشهادة الواقع والوقائع، إلا أن محاولة فهم العالم مهمة مفتوحة أمام عالم يتمتع بمواهب خلاقة، فيكون خلقه أو إبداعه العلمي إلهاما خطر برأسه، كما أن الخلق الفني وحي وإلهام خطر برأس الفنان الموهوب. عالم الفن من خلق الإنسان، جميع الأعمال الفنية صنعها الإنسان الفنان، وكذلك عالم العلم من خلق الإنسان، وجميع النظريات العلمية مخلوقات من صنع الإنسان العالم، يخلقها ثم يحاول فرضها على العالم لتفسره، فهي «شباك يحاول بها اصطياد الواقع التجريبي، والجهود مستمرة دائما لجعل ثقوبها أضيق وأضيق».
19
ليست النظريات العلمية حقائق نكتشفها في الواقع عن طريق الاستقراء، بل هي منجزات إنسانية كسائر مكونات العالم 3، وتماثل في نشأتها الأعمال الفنية. ولم يعد ممكنا وجود منطق ومنهج لعملية الخلق في العلوم أكثر من إمكانية وجوده في الفنون. «وكعبقرية خلاقة يقف جاليليو ونيوتن وآينشتين على قدم المساواة مع مايكل أنجلو وشكسبير وبيتهوفن».
20
دور المنهج فقط في اختبار الفرض ذاته وتحديد مصيره ومسيره في طريق التقدم المستمر.
وأخيرا ... سبق أن انتهى الفصل الثالث بإيضاح عام لمعالم التقدم الذي أحرزته فلسفة العلم ذاتها في القرن العشرين، حين استوعبت آفاق ثورة الفيزياء الكبرى وانتقلت نظريتها المنهجية من البدء بالملاحظة إلى البدء بالفرض، أي حين انتقلت إلى المنهج الفرضي الاستنباطي وتجاوزت الاستقرائية بكل قصوراتها التي فرضتها ظروف حضارية وحدود معرفية سابقة. والآن نرجو أن تكون معالم هذا التقدم المنهجي قد استبينت أكثر، واستبين أيضا الدور الكبير الذي قام به كارل بوبر في هذا الانتقال، الذي كان بمثابة انتقال من منطق التبرير إلى منطق التقدم.
رابعا: معيار القابلية للتكذيب
كان الاستقراء منهجيا لتبرير وأيضا تمييز المعرفة العلمية، وتم تجاوز النزعة الاستقرائية. حاول الوضعيون المنطقيون تداركها بمعاييرهم لتمييز العلم التي يصعب قبولها بسبب تطرفهم الحاد. وبوبر نفسه في طليعة الرافضين لمعيار التحقق، وأيضا لغة العلم. وإذا سلمنا بأن النظريات العلمية ليس مجرد أداة، بل ذات دلالة إخبارية، فلا بد وأن نسأل بوبر ما هو معيار العلم الذي يضمن أن العبارة علمية، أي ذات محتوى معرفي ومضمون إخباري عن العالم التجريبي، فيميز العلم عن سواه من ضروب الأنشطة العقلية ، خصوصا وأن المنهج - منهج المحاولة والخطأ - في جوهره ليس تقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل هو صورة متبلورة متطورة للشكل النمطي للتعامل الإيجابي الفعال مع العالم الواقعي، ولا يميز العلم.
معيار القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب هو الذي يميز العلم، وهو أول أطروحات بوبر الفلسفية، وظل دائما محور فلسفته للعلم ومركزها، ويمكن أن نلاحظ هذا في ثنايا العرض السابق لنظريته المنهجية. والواقع أن هذا المعيار إنجاز بوبر الحقيقي، ومن أخطر أطروحات فلسفة العلم في القرن العشرين وأقوى معابرها إلى منطق التقدم. لقد رأينا أن معيار تمييز العلم مهمة محورية لفلسفة العلم منذ نشأتها، وكان هكذا أيضا لفلسفة بوبر منذ نشأتها، فيقول:
بدأ عملي في فلسفة العلم منذ خريف 1919م، حينما كان أول صراع لي مع المشكلة: متى تصنف النظرية على أنها علمية؟ أو هل هناك معيار يحدد الطبيعة أو المنزلة العلمية لنظرية ما؟ لم تكن المسألة التي أقلقتني آنذاك متى تكون النظرية صادقة؟ ولا متى تكون مقبولة؟ كانت مشكلتي شيئا مخالفا، إذا أردت أن أميز بين العلم والعلم الزائف
، وأنا على تمام الإدراك أن العلم يخطئ كثيرا، والعلم الزائف قد يحدث أن تزل قدمه فوق الحقيقة.
21
يمعن بوبر في الانفلاق عن الاستقرائية والوضعية، ولا يريد معياره تطويرا أو تعديلا أو حتى بديلا لتلك المعايير، ويصر على منطلق منفصل ومستقل تماما عن ذلك المسار التبريري، فيقول إن أجواء فيينا في صدر شبابه هي التي جعلت مشكلة التمييز تلح على عقله، فقد كان جو يسيطر عليه سقوط الإمبراطورية النمساوية، وامتلأ بأفكار وشعارات ثورية ونظريات جديدة ثار حولها الكثير من الجدل والصخب. وبينما لم تكن المنزلة العلمية للنظرية النسبية قد ثبتت بعد، كان الإعجاب شائعا بعلمية النظرية الماركسية، وأيضا التحليل النفسي لفرويد وعلم النفس الفردي لآدلر وهما نمساويان، بدت هذه النظريات وكأنها قادرة على تفسير كل شيء يحدث في مجالاتها ولا بد أن تجد حالات ووقائع تؤكدها في كل مكان، وامتلأت الدنيا بإثباتات لها حتى بدا أن المنكرين قوم لا يريدون أن يروا صدقها الجلي، إما لأنه ضد مصالحهم الطبقية أو بسبب عقد مكبوتة لديهم. وفي ذلك الوقت - خريف 1919م - كان بوبر ضمن طلبة يدرسون نتائج بعثة إدنجتون التي رأيناها امتحانا عسيرا للنظرية النسبية وقامت بتصوير النجوم إبان كسوف الشمس، وتوقع الجميع نتائج مخالفة للنظرية النسبية التي كان من الممكن أن تبدو غير متوافقة مع نتائج معينة محتملة للملاحظة، أي إنها كانت قابلة للتكذيب، لكن النظرية النسبية اجتازت هذا الاختبار العسير، وثبتت منزلتها العلمية، واجتازت اختبارات تجريبية متوالية.
فتوصل بوبر إلى أن معيار القابلية للتكذيب
Falsifiability Criterion
هو ما يميز العلم دونا عن أي نشاط عقلي آخر. الخضوع المستمر للاختبار وإمكانية التفنيد بالأدلة التجريبية هي الخاصة المنطقية المميزة للقضية العلمية دونا عن أية قضية تركيبية أخرى، عبارات العلم التجريبي هي فقط التي يمكن إثبات كذبها؛ لأنها تتحدث عن الواقع الذي يمكن الرجوع إليه ومقارنتها به، لذلك فهي في موقف حرج حساس، فنجد نظرية بوبر في منهج العلم تؤكد على مطلب الجرأة، فالجرأة هي التي تمكن من اقتحام المجهول، واكتشاف الجديد. الحقيقة ليست ظاهرة، بل تكمن خلف ما يبدو لنا من العالم، وما يفعله العالم العظيم هو أن يخمن بجرأة ويحدس بإقدام كيف تكون هذه الحقائق الداخلية الخفية. ويمكن أن تقاس درجة الجرأة بقياس مدى البعد بين العالم البادي وبين الحقيقة المفترضة حدسا. أرسطارخوس وكوبرنيقوس عالمان عظيمان؛ لأنهما افترضا أن الشمس هي مركز الكون، في حين أن المظهر البادي يقول إنها قابعة في سماء الأرض.
غير أن ثمة نوعا آخر من الجرأة لا يتعمق، بل هو متعلق بالمظاهر البادية: إنه جرأة التنبؤ، جرأة المواجهة المسبقة المسئولة مع الواقع. هذا النوع من الجرأة هو الأهم وهو ما يميز الفرض العلمي بالذات. الفرض الميتافيزيقي يمكنه أن يحقق الجرأة بالمعنى الأول، يمكنه أن يحدس الحقيقة الكامنة التي لا تبدو للعيان، لكن لا يمكنه أن يحقق الجرأة بالمعنى الثاني. لا يمكن للفرض الميتافيزيقي الخروج بمشتقات أو التنبؤ بوقائع تجريبية تحدث أمامنا في العالم التجريبي وقابلة للملاحظة. إنه لو فعل هذا لتعرض لمخاطرة كبيرة، مخاطرة الاختبار والتفنيد، مخاطرة التصادم مع الخبرة. إنها مخاطرة لا يقوى عليها إلا العلم. لذلك نكتشف كل يوم أخطاء بعض من نظرياته، فنتركها ونصل إلى الأفضل.
بفضل إمكانية التكذيب كان العلم التجريبي هو البحث المطرد التقدم، فإمكانية تكذيب العبارات العلمية هي قابليتها الشديدة للنقد والمراجعة لأن تترك وتحل محلها عبارات أفضل ... من هنا كان رفض بوبر لنظرية التراكم في تفسير طبيعة التقدم العلمي والأخذ بالنظرة المضادة لها - أي الثورية - ومن هنا أيضا رأى بوبر أن تكون الجرأة من النوع الثاني، والبعد المنهجي الذي يطابقها، أي الاستعداد للبحث عن الاختبارات والتفنيدات هي ما يميز العلم التجريبي. البعد المنطقي والبعد المنهجي هما وجها عملة التكذيب الواحدة؛ حيث إن القابلية للتكذيب هي ذاتها القابلية للاختبار
Testability ، الاختبار التجريبي بالطبع.
والقابلية للاختبار قد ترتبط بالقابلية للتحقق، ولكن الخاصة المنطقية المميزة للعبارة العلمية هي إمكانية التكذيب، أي التفنيد والنفي، وليس مجرد التحقق ، مثلا العبارة «السماء ستمطر غدا» عبارة علمية؛ لأنها قابلة للاختبار التجريبي بمجيء الغد، وقد تمطر السماء، أي قد نتحقق منها، ولكن ليس هذا هو المناط في علميتها، بل المناط في إمكانية ألا تمطر السماء غدا، إمكانية تكذيبها. وبالبحث عن التكذيب وليس التحقق يمكن استبعاد عبارات مثل «غدا قد تمطر السماء أو لا تمطر»، وهي واجبة الاستبعاد؛ لأنها لا تعطينا محتوى إخباريا، فهي تحصيل حاصل، وحينما يأتي الغد فأيا كانت الخبرة الحسية، فسوف نتحقق منها، ولكن تكذيبها مستحيل، فنستطيع الحكم بأنها لا علمية. هكذا يمكننا معيار القابلية للتكذيب من استبعاد تحصيلات الحاصل المتنكرة في هيئة إخبارية، وهي واضحة متجلية في الفروض الميتافيزيقية الموغلة في غياهب العقل الخالص، وأيضا في الفكر الثيولوجي «الإلهيات»، وهما نمطان من التفكير غير قابلين للتكذيب، لا أصلا ولا فروعا، ولا مطلوب منهما هذا، فهما ليسا علما تجريبيا.
وبالطبع ثمة فارق بين القابلية للتكذيب
Falsifiability
وبين التكذيب
Falsification . وليس يعني المعيار التثبت بالفعل من كذب كل عبارة علمية وتفنيدها! كلا بالطبع، فهذه كارثة محققة، وإلا فما هو علمنا اليوم؟! إنه نسق العبارات القابلة للتكذيب والتي لم يتم تكذيبها بعد، فالمعيار هو القابلية للتكذيب من حيث المبدأ، من حيث القوة بمصطلحات أرسطو، أن نتثبت من أن إمكانية التكذيب قائمة في النظرية؛ لأن النظرية كاذبة بالفعل. إن القابلية للتكذيب مجرد معيار يحدد الخاصة العلمية للنظرية، أما التكذيب فهو حكم عليها، تقييم نهائي لها، رفض، وبالتالي تجاوزها، وإحراز خطوة تقدمية أبعد، قابلة بدورها للتكذيب، ويتم تكذيبها يوما ما بفرض أبعد قابل للتكذيب ... وهلم جرا في مسيرة العلم المطردة التقدم.
ولما كانت القابلية للتكذيب هي ذاتها القابلية للاختبار، كانت محاولة تكذيب النظرية هي ذاتها اختبار النظرية، وهذا الاختبار يفضي إما إلى التكذيب، وإما إلى التعزيز
Corroboration ، على النحو التالي:
التكذيب:
نحكم به على النظرية إذا لم تكن نتيجة الاختبار في صالحها، أي إذا تناقضت النتائج المستنبطة منها مع الوقائع التجريبية؛ لأن تكذيب النتائج تكذيب للنظرية ذاتها، فتستبعد من نسق العلم، رغم أنها علمية، لكننا وضعنا الإصبع على مواطن خطأ أو كذب، فيمكن تلافيه فيما سيحل محلها، فيكون أكثر اقترابا من الصدق، وأغزر في المحتوى المعرفي وفي القوة التفسيرية ... لذلك فكل تكذيب ظفر علمي جديد، وليس خسارة كما قد يبدو للنظرة العابرة.
التعزيز:
إذا تجاوزت النظرية الاختبار، والتعزيز هو جواز مرور الفرض إلى النسق العلمي، المرور من اختبارات منهج العلم القاسية، وكلما كانت الاختبارات أقسى كلما حازت النظرية التي تجتازها على درجة تعزيز أعلى، وكانت أعظم - أي أغزر في المحتوى المعرفي، وأجرأ في القوة التفسيرية ... لذلك يؤكد بوبر دائما على قسوة الاختبارات، حتى لا تستطيع النظرية أن تعزز وتعبر إلى نسق العلم بسهولة. إن التعزيز هو النتيجة الإيجابية لكل ممارسة منهجية ناجحة، فالنجاح يعني التوصل إلى فرض جديد يحل المشكلة بكفاءة أعلى من سابقه.
أما الذي يجعل القابلية للاختبار والتكذيب خاصة منطقية مميزة للقضية العلمية ومعيارا قادرا على تمييز العلم التجريبي؛ فذلك لأنها ترسو على أسس تجريبية هي العبارات الأساسية
basic statements ، وهي عبارات تجريبية مفردة لها الصورة المنطقية للعبارات الوجودية المحددة التي تقرر وجود أشياء معينة متصفة بصفة معينة في زمان معين ومكان معين، مثلا مؤشرات الأجهزة المعملية في وقت معين. إن العبارة الأساسية تشير علانية لموضوع مادي يمكن ملاحظته، ويمكن مباشرة إقرار العبارة أو إنكارها، على أنها صادقة أو كاذبة.
أما العبارات الوجودية غير المحددة مثل «هناك س في مكان ما من زمان ما» فهي تبعا لمعيار القابلية للتكذيب ليست علما؛ ذلك لأنها لا يمكن أن تخبر بشيء ما، ما لم ننسب إليها الشروط التي تحددها - أي التي تجعلها وجودية محددة. وهذه العبارات تمثل عمود التكذيب الفقري ودماءه، وهي التي خولت له إمكانياته في منطق العلم التجريبي.
فلنفترض أننا فتتنا العالم التجريبي على طريقة برتراند رسل إلى أقصى درجة ممكنة، أي إلى عدد لا نهائي من الأحداث
events ، كل حدث واقع في آن معين من الزمان ونقطة معينة من المكان، جماع هذه الأحداث هو العالم التجريبي، ولنضع لكل حدث جملة تنقله - بتعبير رسل جملة ذرية. هذه الجمل الذرية وارتباطاتها معا هي فئة «العبارات الأساسية»، إنها جميع العبارات الخصوصية الوجودية الممكن تصورها عن الواقع؛ لذلك ستحتوي الفئة على عبارات كثيرة ليس بينها توافق؛ إذ إنها تعبر عن كل الوقائع التجريبية الممكنة، أي التي قد تحدث وقد لا تحدث.
ونظريات العلم الطبيعي، أي محاولات الكشف عن القوانين التي تحكم العالم التجريبي هي محاولات رسم حدود وفواصل بين هذه العبارات الأساسية، حدود تحدد الممكن الذي سوف يحدث وسوف نلقاه في خبراتنا، وتمنع ما خارجها من الحدوث. لذلك يقول بوبر: «إن إمكانية التكذيب هي إمكانية الدخول في علاقات منطقية مع عبارات أساسية محتملة - أي من فئة كل العبارات الأساسية الممكنة. وإن هذا لهو المطلب الجوهري والمبدئي؛ لأنه متعلق بالصورة المنطقية للفرض.»
22
من حيث هو فرض علمي، ومن ثم يكون التعبير المنطقي للقابلية للتكذيب كالآتي: تكون النظرية قابلة للتكذيب - أي علمية - إذا كانت تقسم فئة كل العبارات الأساسية المحتملة تقسيما واضحا إلى الفئتين الفرعيتين اللافارغتين:
فئة كل العبارات الأساسية التي لا تتسق النظرية معها، أي التي تستبعدها وتمنعها، فإن حدثت أصبحت النظرية كاذبة، وهذه هي فئة المكذبات المحتملة
للنظرية.
فئة كل العبارات الأساسية التي تتسق النظريات معها ولا تناقضها، وهي العبارات التي تسمح بها النظرية.
الخطورة والتعويل في السمة العلمية على الفئة الأولى، بحيث ننتهي إلى الآتي: «تكون النظرية قابلة للتكذيب إذا كانت فئة مكذباتها المحتملة ليست فارغة»، هكذا تتم عملية الكشف عن القابلية للتكذيب - أي التحقق من السمة العلمية - وعملية التكذيب - أي إمكانية مواجهة - ومواجهة القضايا بالواقع التجريبي بناء على العبارات الأساسية.
بالنسبة للعبارات المفردة، فإن إثبات كذبها - إذا كانت كاذبة - يمكن في التو واللحظة. وعلى الرغم من أن هذه العبارات أساس عملية التكذيب، فإنها ليست موضع مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم، فهذه مشكلة القضايا الكلية، صورة القوانين والنظريات. والطبيعة الكلية العمومية لقوانين ونظريات العلم تعني استحالة مواجهتها بالواقع التجريبي؛ لأنها تتحدث عن أفق لا نهائي، يستحيل حصره في فئة عبارات أساسية، في زمان ومكان معينين يمكن إخضاع ما يضمانه لنطاق اختبار تجريبي. فكيف يمكن الكشف إذن عن كونها قابلة للتكذيب أو غير قابلة له؟ يمكن هذا عن طريق استنباط عبارات مفردة من النظرية، يسهل أن نواجهها بالواقع، فيكون الاستدلال التكذيبي استدلالا استنباطيا صرفا هابطا من الكليات إلى جزئيات. هكذا نلاحظ أن المعيار هو التمثيل المنطقي للمنهج الفرضي الاستنباطي الذي استقر الرأي على أنه المنهج العلمي التجريبي. وهنا نلاحظ أن مجرد استنباط عبارات مفردة من النظرية لا يعني أن النظرية علمية؛ إذ لكي نستنبط عبارات مفردة من النظرية التي هي كلية سنحتاج حتما إلى عبارات مفردة أخرى تمثلالشروط المبدئية
initial conditions
لما يجب أن تخضع له متغيرات النظرية. وفي اختبار التكذيب تكون النظرية إحدى مقدمات الاستنباط، وبقية المقدمات عبارات مفردة أخرى تخدم كشروط مبدئية لحدوث ما تخبر به النظرية، والذي سيكون نتيجة الاستنباط التي نقابلها بالوقائع التجريبية.
ولكن هل مجرد استنباط عبارات مفردة من النظرية بمساعدة عبارات مفردة أخرى، هي عينها القابلية أو إمكانية التكذيب التي تميز النظرية العلمية؟ بالطبع كلا! فأية عبارة لا تجريبية، مثلا ميتافيزيقية أو تحصيل حاصل، يمكن استنباط عبارات مفردة أخرى منها، مثلا: «إذا كانت أ هي أ، لكانت السماء ستمطر غدا، لكن أ هي أ، إذن السماء ستمطر غدا»، وهي نتيجة تمثل عبارة أساسية، فهل يمكن أن نبحث عن إمكانية استنباط عبارات مفردة تخبر بشيء جديد لم تخبر به العبارات المفردة التي خدمت كشروط مبدئية؟
هذه الإضافة سوف تستبعد تحصيلات الحاصل، لكن لن تستبعد العبارات الميتافيزيقية، مثلا «كل حادث لا بد له من علة غائية، وقد حدث اليوم زلزال في أثينا، إذن زلزال أثينا له علة غائية»، إنها أكثر من المقدمات، لكنها ليست عبارة تجريبية مفردة، ولكي نتجنب كل هذا، وتصبح القابلية للتكذيب معيارا يميز العلم بكفاءة، نضع مطلب القاعدة الآتية: «يجب أن تسمح النظرية بأن نستنبط منها عبارات تجريبية مفردة، أكثر من العبارات التي يمكن استنباطها من العبارات التجريبية التي تمثل الشروط الأولية فقط». فإذا سمحت النظرية بهذا أمكن مواجهة تلك العبارات المستنبطة بالوقائع التجريبية التي قد تكشف عن كذبها، أي كانت النظرية قابلة للتكذيب، فهي إذن علمية. هذه العبارات المستنبطة منها تمثل محتواها المعرفي الذي تخبرنا به عن العالم التجريبي.
وكما يقول بوبر: «إن النظرية التي تقبل مخاطرة التفنيد - أي القابلة للتكذيب - ستصف عالمنا المعين، عالم خبرتنا الوحيد، وستفرده عن فئة كل العوالم الممكنة منطقيا، وبمنتهى الدقة المستطاعة للعلم.»
23
وكلما ازدادت النظرية في محتواها المعرفي وفي عموميتها وفي دقتها، كلما عينت هذا العالم أكثر. إن إمكانية التصادم مع الواقع - أي القول بما قد لا يحدث في الواقع فيكذب النظرية - هي التي تميز النظرية العلمية، إنها قدرتها على الاستبعاد، على منع بعض الحوادث المحتملة من الحدوث.
وكلما منعت النظرية أكثر، كلما أخبرتنا أكثر، وعرضت نفسها لإمكانية انتهاكات أكثر، وبالتالي زادت قابليتها للتكذيب. فمثلا أبسط عبارات العلم «الماء يغلي في درجة 100°» طبعا يمكن مواجهتها بالواقع، ويمكن - منطقيا - ألا يغلي الماء في هذه الدرجة. هي إذن قابلة للتكذيب، لكن نلاحظ أن العبارة تمنع حدوث غليان الماء في أية درجة أخرى، في 60° أو 80° ... وإذا أضفنا إليها تحديدا آخر، وقلنا: إن «الماء يغلي في درجة 100° في مستوى سطح البحر» كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها منعت أكثر، فقد منعت كل ما منعته سابقتها، بالإضافة إلى أنها منعت غليان الماء في 100° فوق سفح جبل أو في هوة سحيقة، أو في أي مكان ضغطه الجوي مختلف عن الضغوط فوق سطح البحر. وإذا أضفنا إليها تحديدا آخر، وقلنا: «في مستوى سطح البحر يغلي الماء في درجة 100° في الأوعية المكشوفة» كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها تمنع غليان الماء في هذه الدرجة عند سطح البحر، في الأنابيب أو في المراجل المغلقة. إنها تمنع الأكثر؛ ولهذا قابليتها للتكذيب أكثر.
هذا المثال يوضح كيف ترتبط القابلية للتكذيب بالمحتوى المعرفي ارتباطا مباشرا، يجعل العلاقة بينهما تناسبا طرديا. فمثلا تزيد عمومية العبارة بزيادة المحتوى، النظرية الأكثر عمومية ذات محتوى معرفي يفوق محتوى النظرية أو النظريات الأقل منها عمومية؛ إذ إنها تمنع ما تمنعه، بالإضافة إلى منع ما جعلها أعم ؛ لذلك فهي أكثر قابلية للتكذيب، وهي أيضا أغزر في محتواها المعرفي؛ لأنها تضم محتوى العديد من العبارات التي تعممها. إن العبارة العلمية، هي العبارة ذات المحتوى المعرفي الإخباري عن العالم التجريبي، وهي لذلك العبارة القابلة للتكذيب، والفيزياء الأكثر قابلية للتكذيب؛ لأنها الأكثر عمومية.
وعلى أساس الأساليب الدقيقة للمنطق الرياضي - ولا داعي للخوض في تفصيلياتها الفنية المعقدة هنا
24 - يعالج بوبر المحتوى المعرفي للنظرية العلمية وتضمنه لمحتوى تجريبي ومحتوى منطقي، وارتباط مقاييسهما بالنسبة لنظريتين متنافستين، وعلاقة هذا بالاحتمالية، وأيضا فئة محتوى الصدق وفئة محتوى الكذب التي إن كانت غير فارغة كانت النظرية مكذبة. وميز بوبر بين المحتوى المنطقي المطلق وبين المحتوى المنطقي النسبي، أي في حالة التسليم بمحتوى منطقي لنظرية أخرى، والمحتوى النسبي له الأهمية الفعلية في منطق العلم؛ لأن العبارة العلمية موضع الاختبار عادة ما ترتبط بالخلفية العلمية المطروحة، أي بمحتويات منطقية أخرى.
ولما كان الصدق هو الهدف المروم والمبدأ التنظيمي في خضم هذا المعمعان التكذيبي، فقد تقدم بوبر بمفهوم يكفل السير قدما نحو الاقتراب من الصدق أكثر وأكثر، وهو رجحان الصدق
Verisimilitude
الذي يعني أن النظرية أصبحت أكثر مماثلة للصدق
more truthlikeness ، فالنظريات تتنافس في الاقتراب من الصدق، وكل إنجاز علمي هو توصل إلى نظرية جديدة تلافت مواطن كذب في سابقتها، فأصبحت أكثر منها اقترابا من الصدق؛ ولهذا قهرتها وتغلبت عليها وأزاحتها من نسق العلم وحلت محلها. ومفهوم «رجحان الصدق» مفهوم نسبي، يتعلق بالمناقشة العلمية المطروحة في الوقت المعين، والمنافسة بين الفروض وبعضها؛ لذلك فهو أساسا للحكم بتفوق فرض على آخر، أو نظرية على أخرى، حين تتميز عليها برجحان صدقها. وطبعا رجحان صدق النظرية «ن1» على النظرية «ن2» له شروط منطقية، وهي: أن تكون «ن1» متضمنة في «ن2» التي تفوقت عليها، وإلا لما أمكنت المقارنة بينهما، وأن تقول «ن2» كل ما قالته «ن1»، ثم تتجاوزها فتفسر جميع الوقائع التي تفسرها «ن1»، ثم تستطيع أيضا أن تفسر بعض الوقائع التي تفشل «ن1» في تفسيرها، وبالتالي ستكون أية معلومة تكذب «ن2» تكذب أيضا «ن1»، فيكون الحكم بتفضيل «ن2» لا غبار عليه. وأخيرا يجب أن تكون العبارات الصادقة التي يمكن اشتقاقها من «ن2» أكثر من التي يمكن اشتقاقها من «ن1» والعبارات الكاذبة أقل؛ وكل ذلك يعني أن «ن2» أجرأ وأغزر في المحتوى المعرفي، أي أكثر قابلية للتكذيب. هكذا يتضح لنا أن النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، هي الأقل كذبا.
وليس رجحان الصدق فقط، بل كل مفاهيم منطق التكذيب هي الأخرى نسبية. القابلية للتكذيب ذاتها مسألة نسبية، مسألة درجات، وتتفاوت درجات القابلية للتكذيب على أسس منطقية - حددها بوبر بدقة - تتصاعد جميعها في سلم التقدم العلمي المطرد.
هكذا كان معيار القابلية للتكذيب في معالجته الدقيقة لبنية النظرية العلمية بمثابة التمثيل العيني لمنطق التقدم العلمي، وما كان من الممكن طبعا تصور هذا المعيار في إطار العلم الكلاسيكي النيوتوني الحتمي. إنه أقوى وأنضج المحصلات الفلسفية لثورة الفيزياء الكبرى في القرن العشرين.
والمعيار في كل هذا كفؤ تماما في أداء مهمته، وهي تمييز المعرفة العلمية عن الميتافيزيقا واللاهوت وسواهما من مباحث ذات معنى وأهمية، لكنها ليست علما وليس مطلوبا منها أن تخبرنا عن وقائع العالم التجريبي. المهم فعلا أن المعيار قادر على استبعاد العلوم الزائفة التي تدعي الإخبار عن الواقع وتتذرع بما يبدو من تأكيد وتحقيق لها فتختلط بالعلم، وهذا هو الخطر المعرفي الداهم. مثلا علم التنجيم القائم على افتراض زائف؛ وهو أن حركة الكواكب لها تأثير على الأحداث الأرضية، يسهل العثور على الوقائع المؤيدة للتحقق منه، فلو قيل: إن مواليد برج الميزان سعداء، فإنه من السهل الإتيان بألف شخص من مواليد هذا البرج السعداء. وطالما انخدع المنجمون وخدعوا بما اعتقدوه من وقائع مؤيدة لنظرياتهم، ويتغاضون عن الوقائع المفندة لها. ودع عنك الاختبار ومحاولة التفنيد، إن البعد المنهجي للتكذيب غير قائم في أمثال هذه العلوم الزائفة. ومن الواضح الآن أن المعيار ومحاولات الاختبار التجريبي والتكذيب كفيلة باستبعادها.
وليس التحليل النفسي لفرويد وعلم النفس الفردي لآدلر علوما؛ لأنهما ببساطة نظريات غير قابلة للتكذيب إطلاقا، وليس لها أية فئة مكذبات محتملة، فليس ثمة أي سلوك إنساني يمكن أن يعارضهما، وليس ثمة أي سلوك إلا ويمكن تفسيره وفقا لمصطلحات هاتين النظريتين. والمثال الذي يضربه بوبر على هذا هو رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، ثم رجل آخر يضحي بحياته محاولا إنقاذ الطفل، كل من هذين السلوكين المتناقضين يمكن تفسيره بنفس السهولة بنفس المصطلحات في نظرية فرويد، وأيضا بنفس المصطلحات في نظرية آدلر. فتبعا لفرويد يمكن أن نفسر موقف الرجل الأول بأنه يعاني من الدوافع المكبوتة، مثلا إحدى مركبات عقدته الأوديبية. أما الرجل الثاني فنفسر سلوكه بنفس الدوافع المكبوتة، ولكنها في حالة إعلاء وتسام. وطبقا لنظرية أدلر نجد الرجل الأول يعاني من شعور بالنقص سبب له الرغبة في إثبات جرأته على ارتكاب جريمة ما، ونفس الشعور بالنقص سبب للرجل الثاني الرغبة في إثبات جرأته على إنقاذ الطفل! على هذا النحو نجد النظريات التحليلية دائما يمكن تطبيقها، دائما يمكن تأكيدها، تفسر كل شيء وتشرح كل شيء، ولو جاء رجل ليؤكد أنه لم يشعر إطلاقا بعقدة أوديب ولم يصدر عنه أي سلوك ينم عنها - وهذا ما لا بد أن يؤكده الأسوياء - فلن يعتبر التحليليون هذا تفنيدا لنظرياتهم، بل على الفور سيتملصون من هذا التكذيب بأن عقدة أوديب مكبوتة في اللاشعور، والنظرية بهذا غير قابلة للاختبار، وبالتالي غير قابلة للتكذيب. ويمكن على هذا النحو إدخال كل الأحداث الممكنة وكل الوقائع الممكنة وكل النماذج السيكولوجية الممكنة في نطاق هذه النظريات، بل وكتأكيدات لها، وهذه القدرة الظاهرية على تفسير كل شيء وأي شيء بدت في نظر العوام معلما على قوة النظرية الفائقة، لكنها من وجهة نظر معيار القابلية للتكذيب تبدو نفس سبب ضعفها الحقيقي وخوائها، فالنظرية تشرح كل شيء وتفسر كل شيء لذلك تعجز عن التنبؤ بأي شيء، ولا يترتب عليها - أو على الغالبية العظمى من أجزائها - نتائج تجريبية.
لا ينكر بوبر أن فرويد وآدلر رأيا أشياء معينة بطريقة صحيحة، وأن بعضا مما قالاه له أهميته ويمكن تطويره ليلعب دوره في علم نفس قابل للاختبار والتكذيب، لكن النظريتين بالصورة المطروحة من قبلهما تفتقران إلى السمة العلمية ولا تخبرانا بشيء.
أما النظرية الماركسية فوضعها مختلف، فهي كما طرحها ماركس نظرية علمية، ما دامت ترتبت عليها تنبؤات معينة تجعلها قابلة للاختبار التجريبي والتكذيب، غير أن وقائع التاريخ أتت لتنقض كل تنبؤات ماركس وتكذبها، لكن المأخوذين بها رفضوا الاعتراف بهذا التكذيب - كما يقضي منطق العلم - وأعادوا تأويل كل من النظرية والوقائع المكذبة ليجعلوهما متوافقين، ويعود كل شيء يؤكد النظرية ويحققها، فأصبحت الماركسية على أيدي أنصارها غير قابلة للتكذيب، غير علمية، بل باتت - بتعبير بوبر - عقيدة دوجماطيقية مقواه، وإذا شاء أنصارها يمكنهم الانصراف عن العلم والسمة العلمية، فلا يستطيع معيار التكذيب التطاول عليهم، ولكنهم مع كل هذا يصممون على الإبقاء عليها بوصفها نظرية علمية، بل والتفسير العلمي الوحيد للتاريخ. في أواسط القرن العشرين ناضل بوبر كثيرا من أجل هذه القضية، ثم أتت نهايات القرن بتعزيز لموقفه يعفيه من مواصلة النضال.
وظل بوبر حتى آخر لحظة يؤكد على القضية الأوسع، وهي أن علم التاريخ ذو طبيعة مختلفة ويتعامل مع وقائع منفردة ويستحيل أن نماثله بالعلوم الطبيعية لكي نصل فيه إلى نظريات تنبوئية، فلا يمكن التنبؤ بمسار التاريخ أبدا.
لكن العلوم الاجتماعية والإنسانية أمرها مختلف عن التاريخ، فيمكن دراسة ظواهرها دراسة علمية قابلة للاختبار التجريبي والتكذيب، أي قابلة للتقدم، والطريق الوحيد المفتوح أمامها هو أن تنسى تماما النزعات الكلية والنبوءات التاريخية الواسعة النطاق، وتحيط بالمشاكل المطروحة فعلا، كل مشكلة على حدة لتدرس النتائج غير المقصودة وغير المرغوبة، فتضع تنبؤات مشروطة قابلة للاختبار التجريبي بدلا من النبوءات التاريخية الحتمية الواسعة النطاق غير القابلة لهذا. وقد أوضح بوبر أن الطبيعة التكذيبية للنظرية العلمية تعني أنها تنفي وقوع حوادث ممكنة، وهذا يعني أن القانون العلمي يمكن وضعه في صورة نافية. والعلوم الاجتماعية بتلك الوظيفة ستستطيع التوصل إلى قوانين أو فروض علمية نافية، ويعطي بوبر أمثلة على هذا: «لا يمكن فرض الرسوم الجمركية على المنتجات الزراعية ونقلل في الوقت نفسه من تكاليف المعيشة»، أو «لا يمكن تحقيق العمالة الكاملة دون أن يتسبب ذلك في حدوث تضخم» ... وهكذا.
25
وهذا سعي مشكور من بوبر، لكن لا نستطيع الاكتفاء به؛ لأن مشكلة العلوم الإنسانية من أمهات مشاكل فلسفة العلم. والمدهش حقا أن معيار القابلية للتكذيب يفتح أمامها آفاقا مستقبلية لم يفطن إليها بوبر نفسه، وسنحاول أن نستكشفها، وربما نكون في هذا بوبريين أكثر من بوبر نفسه!
خامسا: مشكلة العلوم الإنسانية
تمثل العلوم الإنسانية بدورها ما يضاف حقا إلى الرصيد العلمي للقرن العشرين، فعلى مدار عقوده قطعت شوطا طويلا، وبذلت جهودا مضنية وناجحة إلى حد كبير في تحديد موضوعاتها وتعريف ظواهرها وصياغة مفاهيمها ومصطلحاتها، وقد أرست مناهجها وأساليبها الإجرائية، كالتحليلات الرياضية - مثلا الاقتصادية - والمناهج الإحصائية والقياسات العددية، والوسائل الأمبيريقية (أي التجريبية الخالصة) كالاختبارات والمقاييس السيكوميترية والسوسيوميترية، والتجربة المعملية والتجربة الميدانية، والعينة التجريبية والعينة الضابطة، والاستبار وقوائم الاستبيان وكشف الأسئلة واستمارة المقابلة والمشاهدة بالمشاركة، فضلا عن الأساليب الدقيقة لتحليل وتنظيم واستخلاص ما تفيد به المعطيات ... إلى آخر ما يدرب عليه الباحثون - تبعا لتخصصاتهم المختلفة - من منهجيات إجرائية دقيقة، أفضت بالعلوم الإنسانية إلى محصلات جليلة الشأن، ولا تزال تفضي، خصوصا بعد تطور الكومبيوتر الذي يسر السيطرة على جماع هائل من المعطيات الإمبيريقية.
ومنذ الربع الثاني من القرن العشرين، كان قد اتضح تماما أن الدراسات الإنسانية الإخبارية قد شقت لنفسها طريق «العلم» بالمعنى الدقيق، وقطعت منه شوطا كبيرا واستقام عودها. وهذا النضج اللافت جعلها في منزلة تؤهلها للمقارنة بالعلوم الطبيعية، ومن هنا تثار مشكلة العلوم الإنسانية والتي تتمثل في تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية، أحرزت العلوم الإنسانية - ولا شك - قدرا ملحوظا من التقدم والنجاح، لكنه أقل كثيرا مما حققته العلوم الطبيعية، ولم يتكون بعد نسق متكامل من القوانين التفسيرية في أي مجال من مجالات العلوم الإنسانية، يماثل من حيث القوة المنطقية أنساق القوانين التفسيرية في أقل فروع العلوم الطبيعية حظوة من التقدم.
وكما لاحظنا مما سبق، الهدف من أي علم تجريبي إخباري هو الإجابة على السؤال كيف ولماذا تحدث الظاهرة موضوعه؟ لينجز العلم أربع مهام بشأنها هي الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. المرحلة الأولى من العلم هي المرحلة الوصفية التي تجيب على السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ كيف تتبدى؟ ولكن هذا لا يكفي، فتمهيد الطريق لإحكام السيطرة على الظاهرة، فيما يعرف بالتقانة «التكنولوجيا» التي ارتهنت بنسق العلم التجريبي الحديث، دونا عن سواه من أنساق جمة أنشأها العقل البشري ... هذا يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها، إلى المرحلة التالية عليها، وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب على السؤال: لماذا تحدث الظاهرة؟ أما التنبؤ، وهو الغاية النهائية المرومة من العلوم الطبيعية، فليس يفترق عن التفسير، بل هو محك لنجاح التفسير. والواقع أن التفسير هو الإحاطة الحقيقية بالظاهرة، وإذا كان الوصف هو محك وجود العلم أو عدم وجوده، فإن التفسير هو محك التقدم العلمي. ويمكن أن تقاس درجة تقدم العلم بمدى توغله في المرحلة التفسيرية ونجاحه فيها، أو درجة دقة هذا النجاح. وتبلغ المرحلة التفسيرية اكتمالها المنطقي في النظرية العامة أو البحتة، التي تعني الدامغ المعتمد للنسقية العلمية.
وفي هذا نلاحظ أن حصاد العلوم الإنسانية قد تنامى تناميا ناجحا في المرحلة الوصفية، دونا عن المرحلة التفسيرية، فضلا عن البحتة، وإذا كنا بإزاء أية ظاهرة إنسانية، مثلا التفوق الدراسي أو الإرهاب أو تعاطي المخدرات، يمكن أن نتوقع من العلوم الإنسانية توصيفات علمية دقيقة للظاهرة، أي إجابة على السؤال كيف تحدث؟ أما عن التفسير، فمن الصعب أن يتفق باحثو الإنسانيات على إجابة للسؤال: لماذا يحدث التطرف الديني مثلا، ويمكن أن نتوقع إجابات متعددة وأيضا متناقضة.
ومن أوضح الأمثلة على تناقضات العلوم الإنسانية تحليلية فرويد وسلوكية واطسن اللتان تصدرتا علم النفس في أواسط القرن العشرين، وبينما نجد خطأ التفسير التحليلي في أنه يبالغ في تعميق وتعقيد الظاهرة النفسية وعلى حساب منهج العلم ومنطقه، نجد خطأ السلوكية في أنها تبالغ في تسطيح الظاهرة النفسية وتبسيطها، وإن كان تبسيطا لحساب منهج العلم فإنه في النهاية يقتصر على الوقوف على سطح الظاهرة والاستسلام الكامل للمعطى التجريبي، وتفتيت موضوع الدراسة إلى ذرات مغفلة الطبائع التكاملية للكيانات الإنسانية. وبتأكيد السلوكية على أن التجريب المعملي هو فقط الذي يؤدي إلى نتائج يعتمد عليها تراخى اهتمامها بعمليات التفكير والمعرفة في الذهن، وعجزت عن تفسير الظواهر النفسية شديدة التعقيد التي لا يمكن الإحاطة بها عن طريق تعميم تجريبي مباشر يفترض أن الإنسان مجرد متلق سلبي لعوامل البيئة والوراثة. وأدى هذا إلى تجاوز السلوكية منذ الستينيات بعلم النفس المعرفي المستفيد حقا من إبستمولوجيا القرن العشرين وتقاناته وطرح إمكانات مستقبلية تقدمية أمام علم النفس، لكن لا تزال مشكلة التفسير قائمة. ولا يزال هذا التناقض بين التفسيرات وعجزها عن التكامل ماثلا في فروع شتى من العلوم الإنسانية كأن تسرف مدارس الوضعية والوظيفية والبنيوية وقرائنها في التركيز على ثبوت المجتمع واستقراره، بينما تسرف مدارس أخرى في التركيز على حركية المجتمع وتغيره.
وليس يعني هذا إنكار قيمة ما أنجزته العلوم الإنسانية في محاولاتها المحدودة النجاح للتفسير، أو في محاولاتها الناجحة تماما للوصف. وليس الوصف أمرا يسيرا أو هينا أو مجرد مرحلة تمهيدية، بل إن الوصف بمثابة اكتشاف
Discovery
للظاهرة؛ لأنه عملية تعيين واختبار علاقات أكثر أو أقل عمومية بين خواص الظاهرة موضوع البحث، وهو اكتشاف؛ لأن هذه العلاقات لم تكن معروفة قبل الوصف العلمي الذي كشف عنها.
26
لكن التفسير يتجاوز الوصف فيستعين به ويضيف إليه القوانين أو النظريات كي يحقق هدفه فيمثل التقدم الحقيقي للعلم. وبينما تتكامل التفسيرات في العلوم الطبيعية أو يتجاوز بعضها البعض في متصل التقدم الصاعد أو على أقصى الفروض يميل تفسير إلى التأكيد على زاوية دون الأخرى؛ نجد التفسيرات في العلوم الإنسانية تتناقض وقد تبلغ حد العداء الصريح، وتعجز عن التكامل والإحاطة بالظاهرة، وبالتالي تحقيق نصيبها المأمول من التقدم العلمي.
والسؤال الآن: لماذا تتناقض التفسيرات؟ أو لماذا تعجز العلوم الإنسانية عن خوض المرحلة التفسيرية باقتدار ونجاح؟ لعل الإجابة على هذا هي نفسها تحديد حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية أو أسباب تخلفها النسبي.
وقد قيل الكثير في هذا الأمر الذي أصبح مألوفا بقدر ما هو عجيب؛ لأن مسائل العلوم الإنسانية كانت منذ الأزمنة البعيدة موضع الاهتمام الأكبر وتستقطب أعاظم العقول، فكان تناولها أكثر نضجا من تناول مسائل العلوم الطبيعية، وأبسط مقارنة بين دساتير أرسطو وبين فيزيائه أو بين تناول أفلاطون وفلاسفة الإسلام لمسائل الأخلاق والمجتمع والسياسة وبين تناولهم لمسائل الكواكب والمعادن تبين هذا. ولعل الفروق النوعية للظواهر الإنسانية وما تختص به من مثاليات غائية وإسقاطات حميمة هي التي جعلتها موضع الاهتمام الأكبر في الأزمنة القديمة، وهي نفسها التي جعلتها عصية إلى حد ما على مثاليات العلم الحديث، ومتعثرة في محاولات التفسير العلمي. تدور كثير من محاولات تحديد أسباب التخلف النسبي حول خصائص تتميز بها الظاهرة الإنسانية دونا عن الطبيعية، هذا من قبيل صعوبة التكميم واستخدام ألفاظ كيفية، وبالتالي صعوبة صياغة قوانين دقيقة، وأن الباحث جزء لا يتجزأ من الظاهرة التي يبحثها؛ فلا بد وأن يشعر تجاهها بميول وأهواء معينة تفرضها البيئة الثقافية والحضارية التي ينتمي إليها. نفس الظاهرة (تعدد الزوجات مثلا) تبحث في بيئة على أنها عرف محمود وفي بيئة أخرى كعرف مذموم، وفي بيئة ثالثة كجريمة يعاقب عليها القانون، فيؤدي هذا إلى إضفاء الأحكام الخلقية والإسقاطات التقييمية على موضوع البحث. ثمة قيم الباحث التي تؤثر على أحكامه، بل ومجرد رصده للوقائع وثمة القيم الموجهة لموضوع البحث ذاته، لن يتعامل الباحث مع العينة في حالة دراسته لظاهرة الدعارة نفس تعامله مع العينة حين دراسة الإبداع العلمي مثلا ...
هناك أيضا تعقد الظواهر الإنسانية وتعدد أبعادها بخلاف الظواهر الطبيعية، فثمة جانب جواني للحياة النفسية وآخر براني وهما غير متطابقين دائما، فضلا عن عامل الحرية الإنسانية الذي يمكن أن يمس من فكرة القانون العلمي ذاته ويجعله خاضعا للأهداف والأغراض البعيدة. ولعل أشهر الصعوبات هو ما يسمى بتفرد
uniqueness
الظاهرة الإنسانية، حتى إن محاولة التجريد والتعميم وإسقاط خصوصية الظاهرة قد ينطوي على تشويه لطبيعتها. ويتصل بهذا التغير السهل السريع للظواهر الإنسانية الذي يجعل الاطراد في مجالها أقل ظهورا، وصعوبة تكرارها
27 ... وكل هذا يجعل صياغتها في قانون تحتاج لعدد كبير من المتغيرات يبعد بها عن أن تكون دالة بسيطة كقوانين الطبيعة.
ويمكن أن نضيف إلى هذا معوقات البحوث الإنسانية لا سيما في البلاد المتخلفة، من قبيل ضعف التمويل نتيجة التشكيك في جدواها وحصائلها التطبيقية مقارنة بالعلوم الطبيعية، والانبهار بالآلة عنوان التقدم لحد اعتبار الدراسات الإنسانية ترفا يمكن بل يجب تأجيله! وانعدام التخطيط والتساوق بين هيئات البحث، وثمة نظام التعليم وإعداد كوادر الباحثين الذي يركز على باحثي العلوم الطبيعية ويخصهم بالقروض والمنح والبعثات والمراكز، دونا عن باحثي العلوم الإنسانية، فتستأثر الأولى بالطلبة النابهين؛ على أن تلك المعوقات تخرج عن مجال فلسفة العلم وتندرج تحت سوسيولوجية العلم أو عوامله الاجتماعية.
وبالعود إلى فلسفة العلم نجدها عن طريق الاختزال المنطقي تستطيع رد كل حيثيات أو أسباب مشكلة العلوم الإنسانية إلى عاملين أساسيين، هما: أولا: نوعية الظاهرة الإنسانية، وثانيا: طبيعة العلاقة بين الباحث وموضوع بحثه حين دراستها. وتفاعل هذين العاملين معا ينجم عنه افتقاد البحث العلمي للحدود المحكمة، أي افتقار العلوم الإنسانية إلى التقنين المنطقي الدقيق مما يجعل حدودها مستباحة، ومن هنا تأتي عوامل تعثر المرحلة التفسيرية.
إن المحتوى المعرفي للعلوم الطبيعية ينصب على ظواهر محايدة لخلوها من الوعي والإرادة، فيمكن للإطار الثقافي والسياق الحضاري أن يرفع يده تماما، وحين رفض هذا - كما حدث حين فرضية مركزية الشمس لكوبرنيقوس أو التطور لدارون - انهزم السياق الثقافي تحت القوة المنطقية للنظرية العلمية، حتى إن درجة التقدم التي أحرزتها العلوم الطبيعية الآن جلبت لها استقلالا معرفيا تاما، وأصبح السياق الثقافي لا يجرؤ على التدخل في صوغ فروضها أو عناصر نظرياتها، أي في محتواها المعرفي، ويقتصر فقط على التفاعل مع حصائلها التطبيقية وتكنولوجياتها. مثلا يتدخل السياق الحضاري لمناقشة استضافة الجنين في رحم آخر، أو نقل الأعضاء، أو الاستنساخ، أو التحكم في الصفات الوراثية للجنين، أو إنتاج القنبلة الهيدروجينية ... هل هذه التطبيقات مشروعة أم لا؟ مطلوبة أم غير مطلوبة؟ كيف يمكن توجيهها؟ ... إلخ. ولكن لا يتدخل في منطوق النظرية العلمية ذاتها أو يحاول استبدال فرض تفسيري بآخر مضمونه أقرب إلى ما يريد السياق الثقافي، أي إنه يتعامل مع العلوم الطبيعية من الخارج فقط، ولا يحدث خلطا منطقيا في محتواها المعرفي من الداخل.
وهكذا تجري العلوم الطبيعية في طرق حددت معالمها ممارسات عريقة وراسخة متفق عليها. فتسير عبر تخوم واضحة وتصاغ فروضها وقوانينها ونظرياتها في حدود منطقية مقننة بدقة، فقدر لها أن يتوالى تقدمها، واستقلت تماما عن الأوضاع والمؤثرات الخارجية.
أما بالنسبة للعلوم الإنسانية فالأمر يختلف، وافتقارها للإحكام المنطقي يجعل البدائل الأخرى تتدخل في مناقشة منطوق النظريات ذاتها، ويمكن للحس المشترك ببساطة أن يعارض مضمون نتيجة بحوث شاقة وطويلة أسفرت عن الأثر السيئ لضرب الأطفال مثلا أو تزويج الفتيات القاصرات، والمثل يحدث من قبل البدائل الحضارية الأخرى كالأعراف والتقاليد والفلسفات والمنحى السياسي وتوجهات الطبقة السائدة، وما تبثه وسائل الإعلام والإعلان والمصالح القومية وفي النهاية الأيديولوجيا ... كلها تنافس العلوم الإنسانية في صلب حلبتها وصميم مفاهيمها وتصوراتها ومنطوق نظرياتها وتتبرع بالتفسيرات التي تميل إليها للظواهر الإنسانية والاجتماعية؛ لتنافس التفسيرات العلمية أو تستوعبها أو توجهها وتؤثر عليها. وفي النهاية لا نظفر بتفسيرات علمية متكاملة للظواهر الإنسانية.
إن تكامل التفسيرات الطبيعية يتمخض فعليا وإجرائيا في التساوق والتآزر بين النظرية والتجربة، الأولى ترسم للثانية خطاها وتحدد أطرها، والثانية تحمل اختبارات الأولى ومحكاتها وشواهدها، وأيضا مواطن كذبها وضرورة تعديلها أو حتى رفضها، وسرعان ما يستجيب المنظرون، كما حدث مثلا حين أثبتت تجرية ميكلسون/مورلي كذب الأثير. وفي المقابل نجد تناقض التفسيرات الإنسانية يرتد في الانفلاق الذي تشهده العلوم الإنسانية بين اتجاهات التنظير واتجاهات التجريب، مما يساهم في تباطؤ معدلات التقدم. والجدير بالذكر أنه في الثلث الأول من القرن العشرين ساد علم الاجتماع، بتأثير من المدرسة الأمريكية - خصوصا مدرسة شيكاغو - انكباب محموم على التجريب وعزوف عن التنظير ربما على سبيل التمثل الأكثر لروح العلم. وسرعان ما أثبتت التجريبية المحضة عقمها وقصورها. ولعل سيادة البنيوية في المرحلة التالية من مسار علم الاجتماع في القرن العشرين بمثابة رد فعل عكسي لهذا. وتعتمد البنيوية التجريد غير الرياضي لأقصى حد ممكن في بحثها الدءوب عن الهيكل الثابت. والمحصلة أن تزايد فيما بعد إحساس الباحثين بالبون الذي أخذ يتسع بين التنظير والتجريب، بحيث كادت منهجيات علم الاجتماع أن تنفلق إلى شقين، أحدهما غارق في النظرية والآخر منغمس تماما في رصد الوقائع التجريبية، والحال يشبه هذا في علم الاقتصاد. أما في علم النفس فيبز السلوكيون جميع باحثي العلوم الإنسانية في انكبابهم على التجريب وعزوفهم عن التنظير، حتى عن مناقشة النظرية السلوكية ذاتها، ربما كرد فعل عكسي على ما كان من إفراط التحليليين المضجر بشأن الصروح النظرية الشاهقة والسحيقة التي ابتدعها خيال فرويد وأودعها في دياجير مفترضة للنفس الإنسانية. مرة أخرى وأخيرة نشير إلى علم النفس المعرفي كوسط ذهبي يحمل آفاقا تقدمية بتدارك هذا الانفلاق.
والخلاصة أن تناقض التفسيرات في العلوم الإنسانية ومعها قصور الممارسات سواء أغرقت في التنظير أو أفرطت في التجريب ترتد إلى تأثير العوامل الخارجية المذكورة التي تجعل المشروع العلمي يمتزج ويتشابك مع أمور ليست علمية ولا تهدف إلى أهداف العلم، فيتعرقل مساره نحو التفسير المتكامل وتتباطأ معدلات التقدم. وعلى هذا يبدو أن الطريق نحو حل مشكلة العلوم الإنسانية يتطلب التمييز بين ما هو علمي وما هو لا علمي يتعلق بأيديولوجيا أو فلسفة أو عرف أو رأي شائع بحيث تكون حدود العلم واضحة لا تسمح بتسلل كل ما هو لا علمي.
عدنا إذا إلى المشكلة الأم لفلسفة العلم، أي تمييز المعرفة العلمية، وأنضج حل لها وهو معيار القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب الخاصة المنطقية المميزة. ومن الواضح أن هذا المعيار يطرح أمام العلوم الإنسانية محكا حاسما لتحديد ما هو علمي إخباري ويحول دون تسرب الأيديولوجيات والإسقاطات التقويمية وأحكام الحس المشترك ... وكل ما هو لا علمي ينجم عن اقتحامه بنية العلم افتقاد الإحكام في المشروع العلمي وافتقاره للتقنين المنطقي. والواقع أن هذا المعيار لا يعدو أن يكون الصياغة المنطقية الصورية المقننة الدقيقة للسمة التجريبية التي هي العلاقة المسئولة مع الواقع والتآزر الحميم بين العقل والممارسة المعملية أو بين التنظير والتجريب. وكان نضج العلوم الإنسانية ونموها راجعا إلى أنها وجدت أساليبها التجريبية الإمبيريقية وأحكمتها، ويبقى أن مضاعفة درجة التقدم وتجاوز التخلف النسبي سوف يعتمد على التقنين المنطقي الأدق والأشمل لهذه التجريبية، خصوصا أن التكالب عليها أدى إلى تدفق سيل من التعميمات التجريبية بغير أن تؤسس حصيلة مثمرة. في ذلك الانفلاق الضار بين التنظير والتجريب، وتلك السمة التجريبية، أي القابلية للاختبار والتكذيب تطرح أمام العلوم الإنسانية محكا لضبط التجريب وتوجيهه نحو فروض محددة، مما يداني بين التنظير والتجريب.
والأخذ بهذا المعيار لا يشترط قبلا إلا إمكانية العلم بالظواهر الإنسانية والاجتماعية، وأنها ليست قائمة في ملكوت السموات ولا في عالم الغيب، بل هي قائمة في عالم الشهادة الذي نحيا فيه. وأثبت منطق العلم التجريبي أنه أصدق من يأتينا بخبر عنه، وأكفأ من يقوم بمحاولة وصفه وتفسيره في سلسلة متوالية كل حلقة أنجح من سابقتها وأكثر تقدما. ولا ينطوي هذا البتة على رد العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبيعية. فنحن بإزاء إبستمولوجيا العلم الراهنة وآفاقها المستقبلية، بينما كان المشروع الردي في إطار الإبستمولوجيا الكلاسيكية وتفسيرها الميكانيكي للكون الذي أضحى أثرا بعد عين. ثم كانت محاولة إحياء المشروع الردي في إطار العلم الموحد أو لغة العلم التي عكف الوضعيون المنطقيون على بنائها، وكلاهما انتهينا منه فيما سبق، وليس ثمة نموذج مفروض ولا وصاية على علم ولا وحدة حديدية للعلوم تردها جميعا إلى الفيزياء، بل فقط الاستفادة من الأسس الصورية لمنطق التقدم في العلوم التجريبية، كما هي متمثلة على أكمل وجه في الفيزياء، ويمكن أن تقترب منها سائر العلوم بدرجات متفاوتة، وحين تقترب منها العلوم الإنسانية لن تتسرب العناصر الأخرى للإطار الحضاري والسياق الثقافي إلى المشروع العلمي بسهولة؛ لأنها لا تستطيع اجتياز المواجهة مع الواقع التجريبي التي يتطلبها اختبار التكذيب، ولا من المطلوب منها أصلا أن تجتاز هذا الاختبار، طالما أنه ليس مطلوبا منها القيام بمهام العلم والإخبار عن الواقع التجريبي، بل المطلوب منها مهام حضارية أخرى هامة. فليس العلم كل شيء ولا حتى أهم شيء، لكنه بالتأكيد شيء هام جدا، ومن الأفضل أن يشق طريقه ويؤدي مهامه الدقيقة على الوجه المنشود، وتلتزم البنيات الثقافية الأخرى موقعها في السباق الحضاري.
ومن الناحية الأخرى ليس مطلوبا أيضا عزل العلوم الإنسانية عن واقعها الحضاري، ومتطلباته وأهدافه، ولا خضوع أو تكريس له بزعم الحياد العلمي، أو ثورة عليه لمجرد الشغب والفوضى والرفض تحت اسم العلم المجيد. على هذا يمكن التأكيد أنه ليس منشودا البتة - ولا حتى متصورا - اجتثاث الأصول والجذور الحضارية للمشروع العلمي في المباحث الإنسانية. إن السياق الحضاري والثقافي والقيمي رافد لها، إن لم يكن منبعا، وهو ذاته صلب موضوعها ومسرح ظواهرها، لكن إثراء السياق الحضاري وإثراء العلوم الإنسانية، وحل مشكلتها ومشاكل عديدة له يتطلب التفاعل المثمر السليم بينهما، ويشترط هذا أن يكون كل في موقعه لأداء دوره، ولا يقتحم حدودا مميزة للآخر وخاصة به.
وكما حرصنا على تحقيق هدف مؤداه ألا تقتحم البنيات الحضارية والأيديولوجيات المشروع العلمي، فإننا نحرص أيضا على ألا يقتحم منطق العلم البنى الحضارية والمشاريع الأيديولوجية. ومنطق العلم لا يملك حكما، لا قبولا ولا رفضا، لمشروع حضاري معين أو بنية أيديولوجية دون سواها. معنى هذا أنه لا خوف إطلاقا على عناصر هويتنا وقيمنا ومنطلقاتنا من صرامة منطق العلم ومعيار التكذيب، فإن المنابع الأيديولوجية في حد ذاتها محتمية بحدودها، حتى ولو كانت مصدرا لفرض علمي، فإن الفرض هو فقط وفي حد ذاته الذي يخضع للاختبار التجريبي، فيتم تكذيبه أو تعديله أو تعزيزه، أما المصادر الحضارية الكبرى، فلا علاقة لمنطق العلم ومعاييره بها.
وأخيرا، ليس في هذا إنشاء خطة عمل مستحدثة أو برنامج مستجد للعلوم الإنسانية، أو أمثال هذه التصورات الهوجاء. كل ما في الأمر محاولة للخروج من واقع العلم الراهن بالأسس المنطقية المتجهة صوب الإمكانيات المستقبلية، لكي تتلاقى شعاب التوجهات الواعدة في العلوم الإنسانية على محك موضوعي معتمد، توسلا إلى الأمل المفتقد إلى حد ما في العلوم الإنسانية، والمتحقق بأجلى صورة في العلوم الطبيعية، أي الاتفاق على معيار مشترك يصون أهداف العلم ويرسم نحوها حدودا واضحة، يتلاقى داخلها الرأي والرأي الآخر؛ لأن الاتفاق بين العلماء هو السبيل إلى الإحاطة بالظواهر الإنسانية، وصفا وتفسيرا، ومن ثم تنبؤا وتحكما وسيطرة.
والواقع أن تبرير كل هذا وتسويغه إنما هو في حقيقة تنامي اقتفاء العلوم الإنسانية لمنطق العلم، وتدفق أبحاثها وفق الفروض القادرة على الخضوع لإجراءات منهجية دقيقة، فيها يتردد كثيرا مصطلح الاختبار والقابلية للاختبار، ولولا هذا الواقع الواعد وحصائله المتنامية كما وكيفا لما كان ثمة جدوى لتوضيح سبل التقنين المنطقي الأدق. إن منطق العلم تجريد للقوالب الصورية المتضمنة لتدفقات واقعه المنهجي، فيزداد الطريق وضوحا ويزداد التقدم صعودا.
تلك هي مهمة منطق التقدم العلمي.
الفصل السابع
فلسفة العلم والوعي بتاريخ العلم
أولا: فلسفة للعلم لا تاريخية
كان انتقال فلسفة العلم في القرن العشرين من منطق التبرير إلى منطق التقدم ذا نتائج ومحصلات جمة، لا تقتصر على الإسهام في حل هذه المشكلة أو تلك، ولكي نستطيع استشراف الآفاق المستقبلية الواسعة لهذا الانتقال، يجمل بنا أن نبدأ بإلقاء نظرة شاملة على حصاد كل ما سبق في الفصول الستة المتتالية، فنضع النقاط على الحروف. والسير في هذا الاتجاه سيبين لنا أن تأثير كارل بوبر على فلسفة العلم في القرن العشرين لا يقتصر على خصوبة أفكار طرحها، بل تجسد تأثيره أكثر في أبواب معبرة عن مراحل انقضت من تطور العقل العلمي في القرن العشرين «الاستقرائية والوضعية» رأيناها قد أغلقت بفضل غير منكور لبوبر، والأهم في آفاق مستقبلية سوف تنفتح أمام فلسفة العلم، أيضا بفضل غير منكور لبوبر.
ومنذ البداية كان المستهل في الفصل الأول - بل الصفحة الأولى - بالإشارة إلى العلاقة الواهية بين العلم وتاريخه، والعلاقة التي كانت متوترة، بل شبه منقطعة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم. على مدار الفصول السابقة، نشأت فلسفة العلم وتنامت وهي تولي ظهرها لتاريخ العلم، ولا تعتد كثيرا بدوره في تفهم الظاهرة العلمية، واقتصرت على النظر إلى النسق العلمي من الداخل؛ لتتمثل فلسفة العلم في منهجه ومنطقه بغض النظر عن تاريخه. فكما اتضح، كانت فلسفة العلم معنية بتبرير المعرفة العلمية كمحصلة جاهزة ومعطاة، استند التبرير أساسا على إحكام العلاقة بين الوقائع التجريبية والقانون العلمي أو النظرية العلمية. وتصدرت النزعة الاستقرائية الميدان بوصفها أقوى صياغة لهذه العلاقة القادرة على تبرير المعرفة العلمية وتمييزها. وفي إطار منطق التبرير اللاتاريخي تنامت فلسفة العلم.
في القرن التاسع عشر علا نجم جون ستيوارت مل الاستقرائي الكبير، وطغى على جهود وليم هيوول فتوارت فلسفته الثاقبة للعلم الملتفتة إلى دور العقل الإنساني في خلق قصة العلم، والقائمة على الوعي بتاريخ العلم. وبفضل سيادة النزعة الاستقرائية توارت بالمثل الاتجاهات التي أدركت أهمية تاريخ العلم بالنسبة لفلسفته. وجاء القرن العشرون ليجد الاستقرائية بمثابة التعبير الرسمي عن فلسفة العلم لتغدو غير ذات صلة بتاريخه.
ولا يختلف هذا عما حدث في الردح الأول من القرن العشرين، حين كانت الوضعية المنطقية والأداتية هما القطبان الكبيران لفلسفة العلم. إن الإنسان يتميز بأنه الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخا، والنظرة الإنسانية التي تنطلق من دور الإنسان هي الأكثر إدراكا لأهمية البعد التاريخي. هكذا كانت الأداتية - خصوصا الاصطلاحية - على عكس الوضعية المنطقية؛ تؤكد فعالية العقل الإنساني بإزاء الطبيعة ودوره في خلق قصة العلم، وبالتالي لم تفتقد تماما الوعي بتاريخ العلم. لكن مرة أخرى، سادت النزعة اللاتاريخية، وها هنا بفضل سيادة الوضعية المنطقية، ولا غرو فهي امتداد للاستقرائية.
هذا على الرغم من أن الرائد إرنست ماخ كان مهتما بتاريخ العلم، وأراد من العروض التاريخية أن تضفي مزيدا من التأكيد والمصداقية على نظريته الفلسفية في منطق العلم. كتابه «علم الميكانيكا 1883م» مثلا هو محاولة لإعادة كتابة تاريخ الميكانيكا بطريقة تعرض المبادئ المنطقية والإجراءات التي تشيد على أساسها الميكانيكا، بحيث يؤكد هذا نظرية ماخ في أن المعرفة العلمية ترتد فقط إلى المعطيات الحسية لا سواها. فأوضح أن أصول علم الميكانيكا انطلقت من خبرات الحرف اليدوية والاحتياج للربط بين هذه الخبرات. وكما رأينا، كان ماخ رائدا عظيما من رواد التجريبية الحادة، استفادت منه الأداتية والوضعية المنطقية، كلتاهما. وفي هذا وذاك عد البعد التاريخي عنده مسألة ثانوية أو جانبية.
وكان بيير دوهيم، الرائد الفعلي للاصطلاحية والأداتية، أكثر اهتماما بتاريخ العلم، وله أبحاث مستفيضة فيه، خصوصا تاريخ الميكانيكا والفلك والفيزياء. اعتقد أن المعرفة بتاريخ المفهوم العلمي أو المشكلة العلمية تفضي إلى فهم أعمق، وأن كل عالم لا بد وأن يضطلع بتاريخ مبحثه ليس كهواية، وإنما كجزء جوهري من عمله، وأهم أعمال دوهيم في تاريخ العلم هي «تطور الميكانيكا 1903م»، و«أصول الإستاتيكا 1905م»، ثم كتابه «ليوناردو دافنشي 1913م» في ثلاثة أجزاء يحاول أن يؤكد فيها أن العلم الحديث تطور عادي ونتيجة طبيعية للعلم في عصر النهضة، فلا قطائع ولا انفصالات في تاريخ العلم. وكان عمل دوهيم الأكبر والواقع في اثني عشر جزءا هو «نظام العالم»، ويغطي تطور الفلك منذ ما قبل السقراطيين حتى جاليليو. وحين توفي دوهيم كان قد أنجز عشرة أجزاء فقط. ومن ناحية أخرى، فإن دوهيم كاثوليكي متدين جدا، إن لم نقل متعصب، على الرغم من الأجواء العلمانية الحادة المحيطة به، وأراد من تأريخاته للعلم أن يعيد الاعتبار للمرحلة الكاثوليكية من التاريخ الأوروبي، مرحلة العصور الوسطى. وبعد أن أفرط عصر التنوير بنزعته العلمانية في إدانتها، وسار التيار العقلاني في إثره على منوال النظر إليها كعقبة في سياق التقدم العلمي ومرحلة مظلمة في تاريخ العلم، أراد دوهيم مواجهة النظرة المعتمدة لتاريخ العلم في أوروبا بوصفه انتهى مع الإغريق وبدأ مع كوبرنيقوس؛ ليعاد تقدير مرحلة العصور الوسطى. وكانت وسيلته لهذا الاستمساك بأن تاريخ العلم استمرار ونماء متصل، وبالتالي لا ثورة في العلم الحديث، بل هو استمرار وتطور لعلم العصور الوسطى.
لم يرض هذا النعرة الأوروبية ولا أوساطها العلمية المشبعة بالعلمانية والتي تسلم بإدانة المرحلة الوسطى الكاثوليكية؛ لذلك لم يرحب المجتمع العلمي بتأريخات بيير دوهيم، ورحب أكثر بفلسفته الاصطلاحية للعلم التي قدمت تبريرا قويا للمعرفة العلمية بصرف النظر عن الأبعاد التاريخية. واندرج دوهيم في صفوف فلاسفة العلم بهذه البطاقة الاصطلاحية، ولم يبد زملاؤه من الاصطلاحيين وسائر الأداتيين - خصوصا الإجرائيين - مثل هذا الاهتمام بتاريخ العلم، فتوارى أكثر وأكثر عن مجال فلسفة العلم من بعد دوهيم.
كلا العالمين ماخ ودوهيم عند نقطة الالتقاء بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وتوفيا عام 1916م ، وما زالت النزعة الاستقرائية قوية باتجاهها التجريبي المتطرف المعني بتبرير المعرفة العلمية. وهذا التبرير يستقي - مرة أخرى وأخيرة - من العلاقة بين المعطيات أو الوقائع التجريبية وبين النظرية العلمية أو القانون العلمي. أما العلاقة بين الأفكار فلم يعترف جون ستيوارت مل وخلفاؤه الاستقرائيون بأية قيمة لها، فكان تعاقب الأفكار أو النظريات عبر تاريخ العلم غير ذي اعتبار.
ثم تكلفت الوضعية المنطقية بمد هذا التوجه وتكريسه وتسييده حتى أواسط القرن العشرين. ولئن دأبت فلسفة العلم الوضعية الاستقرائية، أي التجريبية المتطرفة، في القرن التاسع عشر على إهمال أو تهميش تاريخ العلم واعتباره مسألة ثانوية جانبية، فإن فلسفة الوضعية المنطقية في القرن العشرين لم تكتف بالإهمال أو التهميش، بل خطت خطوة أبعد وشنت حربا ضروس على أبعاد الوعي التاريخي، حربا ضد التاريخية.
ولا غرو، فالوضعية المنطقية فلسفة تكثفت فيها كل خطوط التجريبية المتطرفة، وكانت في واقع الأمر أمينة لميراث القرن التاسع عشر كما تمثل في النزعة الاستقرائية، وحاول الوضعيون المنطقيون استغلال قدراتهم المنطقية المكينة وتمكنهم من تطورات العلم لتأكيد هذا الميراث في بنية القرن العشرين، وفاقوا الجميع في الافتتان بالنسق العلمي في حد ذاته؛ فقصروا فلسفة العلم، بل الفلسفة بأسرها، على محض التحليل المنطقي للعبارات والمفاهيم العلمية في أقوى وأعنف تكريس لمنطق تبرير المعرفة العلمية، مصرين على أن هذا هو الثورة التقدمية، التي تقيل الفلسفة من تعثرها عبر تاريخها الطويل بين رحى مشكلات زائفة.
كانت نشأة الوضعية المنطقية متزامنة مع مبدأ هيزنبرج وثورة الكوانتم الثانية. عايش فلاسفتها إذن فورة للتقدم العلمي وإحدى انقلاباته العظمى وتسارع اكتشافاته بقوة، ولم ينل هذا من تكريسهم لمنطق التبرير السكوني، مؤكدين أنه لا منطق للكشف العلمي. والتقدم العلمي في منظورهم أحداث متعاقبة، يمكن فقط وصفه وتبريره. نمو المعرفة العلمية عملية تراكمية متصلة متدفقة بسلاسة، حيث الوقائع الإمبيريقية التي تكتشفها عمليات الملاحظة والتجريب تؤدي إلى الجديد وتلزم بتنقيح الفروض أو تعديلها، فتنضاف إلى معرفتنا بالعالم المتنامية دوما، والسياق النظري لهذا يتضمن عملية الرد، أي رد كل العلوم إلى الفيزياء مما يفضي في النهاية إلى وحدة العلم. وكما أشرنا يستند هذا على التسليم بالواقعية المحدثة، بمعنى أنه ليس هناك إلا عالم واحد ووحيد، نحاول الكشف عنه بواسطة العلم التجريبي لا سواه. ودور الفلسفة يقتصر على تحليل العبارات والمفاهيم العلمية لتوضيحها وكشف ما بها من لبس وغموض، وحين يبحث فيلسوف العلم النظرية العلمية، فإنه لا يعنى طبعا بمضمونها الذي هو عمل العلماء وحدهم، بل يهتم فيلسوف العلم بتحليل بنية النظرية العلمية، أي خصائصها الصورية العامة، وخصائص التفسيرات الممكنة لها وما قد يشتق منها مستقبلا.
وقد استغل الوضعيون المناطقة التمييز الذي وضعه المنطقي البولندي المتميز ألفرد تارسكي بين اللغتين الشيئية والبعدية، قائلين: إنه إذا كانت عبارات العلم لغة شيئية أو موضوعية
Object Language
منصبة على الشيء أو الموضوع نفسه، فإن عبارات فلسفة العلم لغة بعدية
Meta-Language
تأتي بعد عبارات العلم كتحليل منطقي لها. ومثلما نادوا بأن كل قضية تركيبية لا ترتد إلى معطيات الحواس ولا تقبل التحقق التجريبي تعد لغوا يخلو من المعنى وليس لها أية قيمة معرفية، نادوا أيضا بأن كل ما ليس لغة بعدية لا يعد من فلسفة العلم في شيء. وعن طريق شهر سلاح اللغة البعدية أزاحوا المنظورات التاريخية للعلم تماما، حتى إن الوضعي المنطقي هربرت فيجل
H. Feigl
أكد تأكيدا على أن المدارس التي تعنى بتاريخ العلم لا علاقة لها بفلسفة العلم. واهتمت ماري برودبك
M. Brodbeck
اهتماما خاصا بفصل فلسفة العلم عن دراسة العوامل الأخرى الاجتماعية أو النفسية أو سواها الضرورية ليتنامى البحث العلمي، واعتبرتها نوعا من البحث العلمي في العلم منفصلا تماما عن فلسفة العلم. واشترك فيجل وماري برودبك في تحرير كتاب هام يحمل هذه الدعاوى وساهم فيه كبار المتخصصين؛ وهو كتاب «قراءات في فلسفة العلم 1953م». وعلى هذا انتهوا إلى أن اعتبار العلم ظاهرة تاريخية والعناية بأبعادها الاجتماعية قد يكون انشغالا بالعلم، لكنه ليس البتة فلسفة للعلم، طالما أنه ليس لغة بعدية معنية بالتحليل المنطقي لهيكل القضايا العلمية دون مضمونها! هذه العناية بالقضايا العلمية فقط كمعطى منطقي هي ذاتها فلسفة العلم المنفصلة عن تاريخه، والتي تجعله غير ذي صلة بالموضوع.
هكذا حصرت الوضعية المنطقية فلسفة العلم في تقنيات المنطق الصوري وأساليبه وقطعت كل علاقة بالعلم في تعينه الواقعي المتدفق النابض بالحياة في مجرى التاريخ وسياق الحضارة الإنسانية.
إذن فمع اعتبار كل العوامل الأخرى والمقدمات السابقة، إلا أنه يمكننا الحكم بأن فلسفة الوضعية المنطقية بالذات هي المسئولة مسئولية مباشرة عن السمة اللاتاريخية، بل الضد تاريخية التي اتسمت بها فلسفة العلم حتى النصف الثاني من القرن العشرين.
وكما انتهينا آنفا، لا شك أن الوضعية المنطقية قامت بدور كبير في توطيد أسس النظرة العلمية، وتعبيد الطرق الاحترافية لفلسفة العلم بخلاف أفضالهم الجليلة في مجال المنطق الرياضي. والواقع أن عصر البرمجيات الراهن وعلم الذكاء الاصطناعي أسفر أخيرا عن أهمية وقيمة التحليلات المنطقية للقضايا والمفاهيم العلمية. ولا شك أيضا - وإطلاقا - في أن التحليلات المنطقية أداة فعالة من أدوات فلسفة العلم المتعددة، لكن الوضعية المنطقية كانت فلسفة علمية تجريبية متطرفة تطرفا يعمي البصر والبصيرة. وحين قصرت فلسفة العلم - بل الفلسفة بأسرها - على محض تحليلات منطقية للقضايا العلمية، جردوا الفلسفة من آفاقها الرحيبة وأبعادها المترامية التي تجعلها فلسفة، وشنوا حملتهم الشعواء على ربيبتها المدللة: الميتافيزيقا التي تحتل أبعد نقطة عن معطياتهم الإمبيريقية ومعيارهم للتحقق التجريبي .
لقد نزعوا إلى نسق علمي فوق هامات كل الأبنية الحضارية، بل وعلى أشلائها، لا سيما أشلاء الميتافيزيقا، نزوعا منهم إلى تجريبية مطلقة لا ترتبط بسواها، فأمعنوا في تنزيه فلسفة العلم من التوجهات الاجتماعية وفي إنكار الدور الذي يلعبه تاريخ العلم في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهما أعمق وأشمل، وأكدوا أن المعايير المنطقية وليست التاريخية هي التي تحدد وتحكم فلسفة العلم التي يجب أن تولي ظهرها لتاريخ العلم اكتفاء بالمعطى الراهن منه. ورأوا التجربة قادرة على تفسير كل شيء، ويجب أن يرتد إليها كل شيء، حتى إنها بمثابة المعطى النهائي والبديهي. وحين ترتفع التجربة إلى مستوى بديهيات المنطق، فإنها تكاد تلامس حدود المطلق الذي يعلو على الزمان والمكان، ودع عنك التاريخ! وكانت الوضعية المنطقية فلسفة متطرفة متعصبة، مارست نوعا من الإرهاب الفكري في أجواء فلسفة العلم، فمن لا يكتفي بتحليلاتهم المنطقية هو المتخلف الغارق في سدم الأوهام المعيارية، أو السادر في الشطحات الميتافيزيقية.
هكذا بدا سدنة الوضعية المنطقية في عكوفهم على تبرير المعرفة العلمية وكأنهم حراس الكهنوت العلمي، وتباروا في إقامة السدود المنيعة بين فلسفة العلم وتاريخه. ونظرا لسطوة الوضعية المنطقية وهيلمانها على أجواء فلسفة العلم، سادها هذا الموقف اللاتاريخي، المحاط بسياج مكينة، هي المواقف الحدية للوضعية المنطقية وتطرفها الذي بات مضرب الأمثال للموقف الفكري المستبد.
ولأن كل فعل له رد فعل مساو، فإن استبداد الوضعية المنطقية أثار روح التمرد والعصيان والثورة عليها، وتعرضت لموجات نقد كثيرة من داخل فلسفة العلم ومن خارجها. وكان نقد كارل بوبر بلا مراء هو الأقوى والأكثر حسما وفاعلية وتبيانا لتهافت الطرح الوضعي الذي يحل إلى الأبد وببساطة يحسد عليها كل القضايا الفلسفية والمنهجية المرتبطة بطبيعة المعرفة العلمية،
1
وبنفس البساطة والاستبداد أزاحوا الأبعاد الميتافيزيقية والمنظورات التاريخية على السواء من فلسفة العلم.
وعلى الرغم من أن مشكلة تمييز المعرفة العلمية - كما رأينا - كانت ملازمة لفلسفة العلم منذ بواكير إرهاصاتها مع فرنسيس بيكون، إلا أن فيلسوف العلم الروسي شفيريف يقول إن الرفض الحاد لهذا الطرح الوضعي هو الذي فرض بشدة أكثر من كل ما سبق مسائل معايير العلم وتمييز المعرفة العلمية عن الفلسفة وعن المعرفة الاعتيادية والدين، والصلة في العلم بين العناصر الفلسفية والأنطولوجية وبين النظرية والتجربة. وكل هذه القضايا يطرحها أولا وقبل كل شيء التطور الفعلي عبر التاريخ للثقافة والإنتاج المادي والروحي، والتعاظم المتزايد لدور العلم في المجتمع. ذلك أن شفيريف في عرضه البارع الذي لا يتوقف عند أشخاص، بل يتعقب صيرورة الفكر الفلسفي العلمي، قد أوضح أن نقد الوضعية المنطقية بصفة عامة هو الذي أثار إشكاليات استدعت التناول التاريخي للظاهرة العلمية، حين استلزمت تمييز المعرفة العلمية بشدة. وسمة المثالية التي تضفي على المعرفة العلمية قد تكون كافية لمنهج العلم، لكنها لا تكفي لتمييز العلم عن الأشكال الأخرى للوعي.
2
هذا التمييز يتطلب بالضرورة النظر إلى العلم في حركيته وتناميه، ما يستدعي النظر إليه في الواقع الاجتماعي المتطور عبر التاريخ، بعبارة موجزة، نقول: إن تمييز المعرفة العلمية من منطلق نقد الوضعية المنطقية هو الذي يضع فلسفة العلم على مشارف الوعي بتاريخ العلم.
ثانيا: ثورية التقدم ومشارف الوعي التاريخي
وهكذا، فلأن كارل بوبر انطلق من نقد الوضعية المنطقية حتى لقبوه بالمعارض الرسمي، كان محور فلسفته مشكلة تمييز العلم في حركيته وتقدمه، عن طريق معيار القابلية للتكذيب، وكان بوبر بهذا رائدا شق الطريق الجديد لفلسفة العلم الذي سيؤدي إلى استيعاب الوعي التاريخي. وهذا بدوره سوف يطرح أمام فلسفة العلم في القرن الحادي والعشرين آفاقا مستقبلية مستجدة تماما. وإذا كانت نهاية القرن العشرين تكشف عن كارل بوبر بوصفه أعظم فلاسفة العلم في النصف الثاني منه، خرجت من رحابه الاتجاهات الأساسية اللاحقة، فلنتذكر أنه كان منذ البداية رائدا عملاقا شق عصا الطاعة على الوضعية المنطقية التي كانت مهيمنة وسائدة، وقاد انقلابا، بل ثورة زلزلت عروشهم وعصفت بسلطانهم؛ لتصنع ملامح التطور التالية في فلسفة العلم. وكما رأينا، كانت خلايا الثورة البوبرية عديدة مديدة، وزوايا هجومه عليهم كثيرة مكينة. لكن نتوقف الآن مجددا عند المنطلق المحوري ألا وهو انتقال بوبر بفلسفة العلم من منطق التبرير إلى منطق الكشف ... منطق التقدم المستمر.
صوب بوبر الأنظار إلى أن التقدم المطرد خاصة أساسية من خصائص المعرفة العلمية، وصاغ هذا في معالجته البارعة لمنطق العلم المرتكزة على التكذيب، ومنذ كارل بوبر فصاعدا بات الكثيرون يرون أن فلسفة العلم في جوهرها هي فلسفة التقدم، وهذا اتجاه لا نملك إلا أن نشايعه؛ لأن التقدمية هي فعلا صلب طبيعة العلم.
أجل، التقدمية وليس العقلانية! فهذه الأخيرة - أي العقلانية العلمية - تعرضت لتغيرات عاصفة، وظل مفهومها يتبدل مع الانقلابات الثورية وأشكال القطع المعرفي التي شهدها العلم في القرن العشرين، حتى كادت تلك العقلانية العلمية أن تفقد مدلولها المألوف. وفي نهايات القرن أصبح مصطلح «النظرة العقلانية» في فلسفة العلم بشكل عام يرادف النظرة الإبستمولوجية الكلاسيكية، أي الداخلية التي تنظر إلى نمو المعرفة العلمية فقط في حد ذاتها في سياق النسق العلمي. وهذا لتتمايز عن النظرة إلى العلم ونموه من الخارج في إطار تفاعلاته الاجتماعية والحضارية والعوامل المختلفة عن العقل العلمي الخالص، وهي النظرة التي سوف نرى كيف أضيفت مؤخرا إلى فلسفة العلم.
وعلى أية حال، فإنه في العقود الأخيرة انصرف هم جمع من فلاسفة العلم - خصوصا بول فييرآبند - في محاولة تحديد المفهوم الجديد المعاصر للعقلانية العلمية. وعبر مناقشات مقنعة وتحليلات دقيقة ينتهي لاري لوضان إلى ضرورة أن نخطو خطوة ثورية انقلابية، ونجعل العقلانية متعلقة بإمكانية التقدم، بل ومتطفلة عليها، والاختيار العقلاني هو الاختيار التقدمي.
3
والجدير حقا بالذكر أن لاري لوضان يفلسف العلم على أساس تعريف محدد له، وهو أنه نشاط تقدمي لحل المشكلات. وبالتالي تغدو النظرية الجديدة أكثر تقدما؛ لأنها أكفأ في حل مشكلات، وليس لأنها أقرب إلى الصدق أو أكثر قابلية للتكذيب ... إلخ. وحتى إذا سلمنا بهذا، فما دمنا لا نأخذ بالاتجاه الأداتي، ونرى النظرية العلمية ملتزمة إزاء العالم التجريبي الواقعي الذي نحيا فيه، فإن مشكلة التقدم تزداد إلحاحا وتغدو مرتكز المعالجة المنطقية لبنية النظرية العلمية؛ فثمة محك ماثل هو العالم التجريبي، ولكي تثبت النظرية أنها أكثر تقدما، عليها إثبات أنها أكثر تمثلا وتمثيلا له، وفاعلية في التعامل معه ومواجهة وقائعه التجريبية. وفي كل حال، ومن أي منظور، نجد مشكلة التقدم العلمي تفرض نفسها على فلاسفة العلم؛ لأنها أيضا مشكلة العلاقة بين النظريات المتعاقبة في السياق العلمي.
وأول سؤال يفرض نفسه: ما هي طبيعة التقدم العلمي؟ بأي منوال يسير ويتواتر؟ وكيف يمكن تفسيره؟ في الإجابة على هذا يعطينا بوليكاروف أربعة آراء تجمل ردود فلاسفة العلم،
4
وهي: (أ)
تتعاقب الأحداث بغير اطراد عام، وبالتالي لا يمكن تفسير طبيعة التقدم العلمي، يمكن فقط رصده ووصفه. وهذا تصور نفر من الوضعيين المنطقيين المتطرفين، وهو تصور سلبي بمثابة امتناع عن التصويت وعن وضع فلسفة للتقدم العلمي. (ب)
تقدم العلم يتم كسلسلة من التحولات أو الثورات، التي تحدث أحيانا بغير رابطة داخلية ، وعبر انفصالات جذرية وقطائع في صيرورة التقدم العلمي. وهذه هي النظرة الثورية الأحدث التي توصف بأنها راديكالية. (ج)
وكنقيض للرأي السابق نجد الرأي «التراكمي» الذي يؤكد على استمرارية المعرفة العلمية، وأنها خط صاعد متصل يمثل تقدمها اتصالا متناميا. وهذا هو رأي الاستقرائيين جميعا ومؤرخي العلم الكلاسيكيين، أمثال جورج سارتون وكارل بيرسون، أخذ به أيضا إرنست ماخ وبيير دوهيم.
وجملة القول أننا إزاء نظرتين لطبيعة التقدم العلمي: الأولى هي النظرة التراكمية الاتصالية، وهي شديدة الاتساق مع العلم الكلاسيكي النيوتوني. والثانية هي النظرية الثورية الانفصالية المتسقة مع تقدم العلم في القرن العشرين - بعد ثورة النسبية والكوانتم. على أن ثمة نظرة رابعة آتية تحاول الجمع بينهما، وهي: (د)
التصور الجدلي «الديالكتيكي» لهيجل وماركس وإنجلز وأشياعهم. وتبعا له يؤدي التقدم الكمي التدريجي، أي «التراكمي» إلى قفزات كيفية أو «ثورية» تصبح بدورها نقطة البدء لتراكم كمي جديد، يؤدي عند نقطة معينة إلى قفزة كيفية ... وهكذا، وفقا لقانون «الكم والكيف» الجدلي، أي الذي ينتقل عبر مراحل الجدل الثلاث: (1) القضية، ثم (2) نقيضها، ثم (3) المركب الذي يجمع خير ما فيهما ويتجاوزهما إلى الأفضل، ويصبح المركب بدوره - في مرحلة أعلى من الجدل - قضية تنقلب إلى نقيضها ... وهلم جرا ... وعلى الرغم من النقد العنيف، بل الرفض الحاد الذي يلقاه الجدل من قبل نفر من فلاسفة العلم على رأسهم كارل بوبر، فإننا نرى في التصور الجدلي لطبيعة التقدم العلمي وسيلة ناجحة للربط بين التصورين التراكمي والثوري في مركب متسق لمن شاء الاستفادة من التصورات الثلاثة، التراكمية والثورية والجدلية معا في كل متآزر. ويمكن أن ننظر فيما بعد إلى فلسفة توماس كون بهذا المنظور؛ فهي جدلية تجمع بين التصورين، التراكمي والثوري.
بيد أن الغاية المرومة في النهاية من كل فلسفة للعلم هي أن تبلور روحه، فتضع الإصبع على شد ما يفجر الطاقة التقدمية للبحث العلمي والتفكير العلمي، ومن ثم للعقل الإنساني والحضارة الإنسانية والنظرية الثورية أقوى ما يدفع الطاقة التقدمية للعلم، أو ليست تجعله ثوريا؟!
ولا بد قبلا من الوقوف عند مصطلح «الثورة» وقفة فيلولوجية؛ لنميز بين جانبين للدراسة السيمانطيقية للمصطلحات هما الجانب الإشاري المباشر والجانب الدلالي الإيحائي. من الناحية المباشرة نجد «الثورة» تعني دائما نمطا من التغيير المفاجئ السريع، مغايرا لمجرد النمو أو حتى التطور الذي هو تغير تدريجي بطيء «يوازيه في تفسير التقدم العلمي النظرة التراكمية»؛ لذلك قيل: إن الثورة مقابلة للتطور: الثورة تحول مفاجئ سريع والتطور تدريجي بطيء.
وهذا المعنى الإشاري المباشر مقصود بعينه، ولكن فيما يختص بالجانب الدلالي الإيحائي، نلاحظ تفاوتا بين لفظة المصطلح الأوروبي
Revolution
وبين المقابل العربي «ثورة»؛ إذ تعود ثورة إلى: «ثار الغبار: سطع. وأثاره غيره، وتثويرا: هيجه. وثوارنا: هاج، ومنه قيل: فتنة ثارت وأثارها العدو. وثار الغضب: احتد. وثار إلى الشر: نهض، وثور الشر تثويرا»،
5
فنجدها في النهاية مردودة إلى «ثار» بمعنى يفيد هاج وماج، فيأتي الرفض والتغيير الجذري بفعل قوى انفعالية، وليس هذا مقصودا تماما. ولكن في الإنجليزية نجد المصطلح ثوري، جذري متطرف
Revolutionary ، وأيضا دوار؛ لأنه مأخوذ من
Revolution
التي تعني ثورة، وتعني أيضا إتمام دورة كاملة (مثلا دورة الجرم السماوي في مداره) ولنلاحظ أواصر القربى الفيلولوجية بين «ثورة»
Revolution ، «نماء أو تطور»
Evolution . فهل جزافا أن جعل بوبر فلسفته الإبستمولوجية تطورية. على هذا نجد المصطلح الإنجليزي لا يجعل الرفض هياجا مفاجئا ، بل هو تقدم مكثف شديد الفاعلية، انتقال جذري إلى مرحلة أعلى آن أوانها، لانتهاء المرحلة السابقة أو استنفاد مقتضياتها. وهذا هو المقصود على وجه الدقة من القول بالطابع الثوري للتقدم العلمي.
وتبقى ملاحظة أن مفهوم «الثورة» في أصله كان مفهوما فلكيا رياضيا بريئا، ولكن لأنه يشير إلى تغير ذي اعتبار فقد أصبح مثقلا بإسقاطات جمة نقلته إلى مجال الأوضاع المدنية،
6
ولئن أبدى مفهوم الثورة فعالية في تفسير تاريخ المدنية، فسوف يبدي فعالية أكثر في موطنه الأصيل، أي في تفسير تاريخ العلم.
والواقع أن التقدم المتسارع للعلم في القرن العشرين يجعل من النظرية الثورية لتقدم العلم، والتي هي الضد الصريح لنظرية التراكم الكمي، والتعديل الحق للقول بالتطور العادي، إنما هي النظرة التي يفرضها منطق العلم ذاته - منطق الكيان المطرد التقدم ذي الثورات الحقيقية في تاريخ البشر.
وفي العقود الأخيرة أصبح مفهوم «الثورة» شبه معتمد في فلسفة العلم وكثير الشيوع كأداة قوية لتفسير طبيعة التقدم العلمي والخطوات الجذرية التي يقطعها العلم.
وها هنا تبرز الريادة البوبرية مجددا؛ إذ إنه في طليعة الذين أكدوا تأكيدا لا يخلو من تطرف على «الثورة»، وعلى أن التقدم العلمي لا يعرف تراكما البتة، بل هو سلسلة متوالية من الثورات. وما دام كل تقدم يقوم على تكذيب الفرض السابق، فهو إذن ثورة عليه، وإنهاء لدورته وبدء دورة جديدة. وكما لاحظنا لا يعنى بوبر بالفروق النوعية بين الفرض والقانون والنظرية، الكل قضايا علمية تختلف فقط في درجة العمومية والقابلية للتكذيب، والكل سائر في طريق التقدم المطرد ... طريق الثورة/الدورة.
يرافق بوبر في هذا التصور الثوري المتطرف جاستون باشلار
G. Bechelard (1884-1962م) شيخ فلاسفة العلم في فرنسا وواحد من أهم فلاسفة القرن العشرين. في عام 1934م صدر كتاب بوبر الأول في طبعته الألمانية «منطق البحث العلمي»، وصدر أيضا كتاب جاستون باشلار «الفكر العلمي الجديد»، كلاهما حاول تثوير التقدم العلمي بطريقته. لم ينعكس مفهوم «الثورة» حقا على فلسفة العلم انعكاسا قويا إلا لاحقا في الثلث الأخير من القرن العشرين.
ولكن في تلك الآونة، في الثلاثينيات ، أخرج ألكسندر كواريه
A. Koyre
كتابه «دراسات عن جاليليو 1939م» الذي يحمل تطبيقا عينيا لمفهوم «الثورة» كأداة لتفسير نشأة العلم الحديث وطاقته التقدمية. وفي عام 1948م ألقى مؤرخ العلم هربرت بطرفيلد
H. Buterfield
سلسلة محاضرات، حملها بعد عام واحد كتابه «أصول العلم الحديث 1300-1800م» الذي يبشر فعلا بالتفسير الثوري لطبيعة التقدم العلمي. وخلاصة رؤية بطرفيلد لمفهوم الثورة العلمية يتمثل في أن العلماء في مرحلة ما يحدثون تغييرا في مخططات تفكيرهم، يرون الأشياء القديمة بطريقة جديدة، ويحاولون التوصل إلى فكرة تمثل مفتاحا (
Keyidea
وهو تعبير بطرفيلد المفضل) يفض مغاليق التعثر الطارئ. وحينما يتوصلون إلى فض هذه المغاليق تتدفق الاكتشافات بمنتهى السهولة. ويرفض بطرفيلد اعتبار تاريخ العلم تاريخا للأفراد العظام، أو سلسلة من قصص النجاح، أو تراكم الاكتشافات والمعرفة بالوقائع ... فذلك لا يعبر البتة عن التناول السليم لتاريخ العلم. هذا التاريخ المتقد لا تحيط به إلا الرؤية الباحثة عن ثوراته، عن هذا التغيير في مخططات التفكير. وعلم بطرفيلد فلاسفة العلم أن الثورة تعني تغيير مخططات التفكير.
وكما ذكرنا، يعد باشلار من أشد فلاسفة العلم حرصا على إبراز الطابع الثوري للتقدم العلمي؛ إذ يرى أن الخطأ أساسي وأولي، وهو الذي يظل مسيطرا على العقل البشري ما لم يعمل هذا العقل على إزاحته عن مواقعه واحدا بعد الآخر بجهد وكفاح وصراع لا يتوقف. فكل حقيقة لا بد وأن تكتسب بنوع من النضال والانتصار، وكل معرفة لا بد أن تحارب لكي تحتل مواقع الجهل. لذلك فالتقدم في العلم يتم من خلال صراع بين الجديد والقديم، ولا يتحقق إلا بنوع من التطهير الشاق لهذه الأخطاء. المعرفة لا تسير في طريق ميسر معبد مباشرة إلى الحقيقة، بل إن طريقها ملتو متعرج، تمتزج فيه الحقيقة بالبطلان، ويصارع فيه الصواب الخطأ صراعا مريرا كيما يخلص نفسه منه. وهكذا نلاحظ أن فعل المعرفة في كل حال ينطوي في حد ذاته على ثورة ما من حيث ينطوي على صراع، يتبلور هذا الصراع في السلب في «اللا» التي أصبحت مقولة لا يستغني عنها العلم في القرن العشرين «لا حتمية، لا تعين، ميكانيكا لا نيوتنية، وهندسات لا إقليدية ...» ذلك أن الجدة العلمية لم يعد من الممكن اكتسابها إلا عن طريق السلب المنظم، الذي يصارع القديم ويرفضه، ويعبر عن ما يطرأ على العلم من تحولات أساسية، عندما يعيد النظر في مفاهيمه الكبرى، ويراجعها من جديد. وبالتالي يصر باشلار إصرارا على رفض فكرة الاتصال في فلسفة العلم، فمراحل المعرفة العلمية تتصف أساسا بالانفصال في صورتها أو في مضمونها،
7
ولكي يتماسك الكيان العلمي على الرغم من الانفصالات المتوالية في حركيته، يلجأ باشلار إلى المنهج الجدلي، ويزعم أن الفيلسوف الذي يتتبع بالتفصيل حياة الفكر العلمي سيدرك التزويجات غير المألوفة بين اللزوم والجدلية. لذلك كان مصطلح الجدل «الديالكتيك» الذي يعبر عن عدم اتصال المعرفة والانتقال من القضية إلى سلبها، شديد الشيوع في أعمال باشلار، ويحتل عناوين فرعية جمة، وثمة كتابه «جدلية الزمان 1951م».
على أساس الصراع مع الخطأ، السلب والجدلية، الانفصال ... يتضح لنا عمومية التصور الثوري، ويغدو التقدم العلمي مرهونا بجدوسات جريئة تمثل بدورها قفزات ثورية، تعقبها أفكار تصحح أفكارا، فروح العلم هي تصحيح المعرفة وتوسيع نطاقها أو ما أسميناه منطق التصحيح الذاتي. وهذا الأفق من الأفكار المصححة هو ما يميز الفكر العلمي،
8
صاغه بوبر في التكذيب وتجاوزه، وصاغه باشلار في الخطأ وتصويبه. يقول باشلار: «العلم لا يخرج من الجهل كما يخرج النور من الظلام؛ لأن الجهل ليس له بنية، بل يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق، حتى إن بنية العلم هي إدراك أخطائه، والحقيقة العلمية هي تصحيح تاريخي لخطأ طويل، والاختبار هو تصحيح الوهم الأولي المشترك.»
9
فيؤكد باشلار - تماما كما أكد بوبر - على أهمية النقد، أو حسب تعبيره «هذا الشك المسبق المنقوش على عتبة كل بحث علمي، وهو سمة أساسية لا موقوتة في بنية التفكير العلمي.»
10
من هنا ينتهي باشلار إلى الانفصالات في حركية العلم اللاتراكمية، إلى أن العقل العلمي يتنكر دائما لما ينجزه من حيث دأبه على نقده وتصويبه. من هنا كان منطق العلم منطقا تكذيبيا ومنطق تصحيح ذاتي. إنه لهذا يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية، ومحض توالي البحوث المنهجية ... يكفل لها التقدم المستمر، ودائما يفتح أمامها آفاقا أوسع. هكذا كان منطق «الثورة» هو الأقدر على تجسيد التقدم العلمي.
يؤكد باشلار على عمومية الثورة فيقول: «تتضمن أزمات النمو الفكري إعادة نظر كلية في منظومة المعرفة.»
11
وأيضا على عمقها فيقول: «إن الإنسان يصبح بواسطة الثورات الروحية التي يستلزمها الإبداع العلمي جنسا مغايرا.»
12
فهي تؤثر تأثيرا عميقا على بنية العقل المتجددة دوما، وحتى الثورات المتصلة بمفهوم واحد - فيما يرى باشلار - تواكب في الزمان ثورات عامة ذات تأثير عميق في تاريخ الفكر العلمي. وكل شيء يمضي جنبا إلى جنب، المفاهيم وإنشاء المفاهيم. فليس الأمر مجرد كلمات يتبدل معناها بينما يظل الترابط ثابتا، كما أنه ليس أمر ترابط متحرك حر قد يفوز دائما بالكلمات ذاتها التي يترتب عليه أن ينظمها. إن العلاقات النظرية بين المفاهيم تبدل تعريفها، كما يبدل تغير المفاهيم علاقاتها المتبادلة. ويمكننا أن نعبر عن هذا تعبيرا منطقيا فنقول: إن الفكر لا بد حتما أن تتبدل صورته إذا ما تبدل مضمونه، فينفي باشلار أية سكونية تراكمية عن نمو المعرفة العلمية. والمعرفة التي تبدو ثابتة تجعلنا نؤمن باستمرارية الأشكال العقلية وثباتها واستحالة قيام أية طريقة جديدة للفكر.
هكذا يرى باشلار أن الفكر العلمي هو الإبداع الحقيقي وإنشاء الموضوعية، وأن مستنداته الحقيقية هي التصحيحات وتوسيعات الشمولية. وعلى هذا النحو تتم كتابة التاريخ الحركي للفكر. فالمفهوم يحظى بمعنى أكبر، في تلك اللحظة بالذات التي يغير فيها معناه، وإذ ذاك تصبح حدثا من أحداث إنشاء المفاهيم، انفصالا جديدا في تاريخ العلم وحركية تقدمه التي أسرف باشلار على إبراز ما فيها من انفصالات وقطائع، تبلغ الذروة في مفهوم القطيعة المعرفية.
ويمكننا الآن - وعلى ضوء ما سبق - التوقف عند هذه الفكرة الجوهرية التي أبدعها باشلار في إطار فلسفته الجدلية؛ لتلعب فيها دورا محوريا، بحيث تناظر تكذيب النظرية المقبولة عند كارل بوبر، وتكون من أقوى تجسيدات النظرية الثورية وأعتى رفض للنظرية التراكمية الاتصالية، ألا وهي فكرة «القطيعة المعرفية
La Rupture Epistemologique » التي تكاد تكون تلخيصا لما سبق من خطوط فلسفة باشلار، ولكنها خرجت من أعطاف فلسفته، بل ومن حدود فلسفة العلم بأسرها، وشاعت وذاعت وترددت في سائر جنبات الفكر في النصف الثاني من القرن العشرين، حتى كادت أن تصبح من معالمه، لا سيما وأنها أبدت خصوبة وفعالية في تفسير التحولات الحضارية.
والقطيعة المعرفية تعني أن التقدم العلمي مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، فهي شق طريق جديد لم يتراء للقدامى ولم يرد لهم بحال، بحكم حدودهم المعرفية الأسبق، وبالتالي الأضيق والأكثر قصورا. وليس هذا بمعنى نفي الماضي وإنكاره والتنكر له؛ فذلك غير وارد في التقدم العلمي الذي يمتاز عن أي تقدم آخر في حضارة البشر بأنه ليس أفقيا بل رأسيا، يرتفع طابقا فوق طابق، فلا يرى نيوتن - كما أكد هو نفسه - أبعد من سابقيه إلا لأنه يقف على أكتافهم ... القطيعة تعني أن التقدم لا يعود مجرد تواصل ميكانيكي أو استمرار تراكمي لمسار الماضي، أو تعديلا أو إضافة كمية له، بل هو شق طريق جديد كل الجدة، والمثال الأثير لباشلار «المصباح الكهربي»، فهو ليس استمرارا لأساليب الإضاءة الماضية التي تقوم على الاشتعال والاحتراق، بل قطيعة لكل هذه الأساليب لحد الشروع في مرحلة تعتمد الإضاءة فيها على الحيلولة دون أي اشتعال أو احتراق ... فهي خلق وإبداع جديد تماما. والجدة العلمية
Scientific Novelty
هي بؤرة التقدم والانفصال عن ماضي العلم والإضافة الحقيقية لحاضره.
رأى باشلار أن الجدلية تجعل القطيعة المعرفية مركبا من الانفصال والاتصال، إلا أنه جنح كثيرا ورفض فكرة الاتصال تماما، وركز على الانفصال في حركية العلم وتقدمه، وكان تركيزا يخل بجدلية باشلار التي تجمع بين الطرفين - الاتصال والانفصال - ما دام يجعل القطيعة انفصالات متوالية في تقدم العلم. والواقع أن عنصر الاتصال واستمرارية المعرفة العلمية له أهميته ولا بد أن يلعب دورا ما، وليس من السهل الإطاحة به تماما على طريقة باشلار.
على أية حال، القطيعة المعرفية هي التجاوز النشط المسئول للماضي، فالمبدع الخلاق للحاضر. فلا تعود اللحظة تكرارا كميا للتاريخ، بل هي عمل دءوب، وهي إنجاز - إنجاز للحداثة. وعن طريقها يؤكد الإبداع العلمي حدس اللحظة التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث هي الكائنة، وبين غير الكائنين: الماضي والمستقبل، وتغدو الشجاعة الذهنية - بتعبير باشلار - في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة حية، وأن تجعل منها منبعا لحدسنا، متدفقا دوما، وأن نرسم انطلاقا من التاريخ الذاتي لأخطائنا النموذج الموضوعي لمعرفة تكون أفضل وأوضح.
أبدت فكرة القطيعة المعرفية فعالية جمة في تجسيدها للتقدم كثورة تنفصل عن الماضي وتبدأ طريقا جديدا، وشهدت استغلالات وتطبيقات كثيرة في مجالات شتى عبر القرن العشرين، استخدمها ميشيل فوكوه
M. Foucault (1909-1984م) للفصل بين الحقب المعرفية واستخدمها الماركسي الفرنسي المجدد والبنيوي الثائر لوي ألتوسير بصورة موسعة في قراءاته البنيوية للاشتراكية العلمية، أو محاولة صياغة تخطيط لهيكل الماركسية الثابت ووضعها بين الأيديولوجيا والعلم؛ لتتخلص من الأولى وتبقى علما عن طريق القطيعة المعرفية. فتنامت القطيعة مع ألتوسير لتقوم بدور جوهري للخلاص من تشويهات الأيديولوجيا للعلم التي نوقشت في أواخر الفصل السابق. وكانت محاولة ألتوسير في هذا دءوبة، حتى إنه ذهب إلى ما وراء الماركسية وأيضا ما قبل وضعية كونت، وراح يوضح كيف أن مونتسكيو وروسو قد أعاقهما أنهما ظلا ضحية لأيديولوجية الطبقة والعصر، ولولاها لتمكنا من إحراز مشروع العلم السياسي بنجاح أكبر.
13
رأى ألتوسير أن المعرفة تبدأ من الأيديولوجيا، ثم يتعين التخلص منها وإحلال العلم محلها عن طريق القطيعة المعرفية، فكانت القطيعة معه لإفساح الطريق أمام الاشتراكية العلمية، وكان هذا الاستخدام إيذانا بنمو مفهوم «القطيعة» أو تمثيلا لخروجه من أعطاف فلسفة العلم ومن قلب صيرورة التقدم العلمي؛ ليعم المفهوم ويسود بعد ذلك، ويصبح بمثابة «موضة شائعة» في القرن العشرين في مجالات الفكر والفن وما إليه. وعبر عنها الأدب تعبيرا رديئا، بات قولا مأثورا هو «انظر وراءك في غضب». وهذا إسفاف ما كان يداني مفهوم القطيعة وهي في موطنها الأصيل فلسفة التقدم العلمي، حيث أنجبها جاستون باشلار.
وبالعود إلى فلسفة العلم، نجد باشلار - ولا شك - قد أبلى بلاء حسنا في فلسفته للتقدم العلمي التي استطاعت بلورة وتنقيح مفهوم «الثورة». بيد أن باشلار لا يعبأ إطلاقا بالمنطق ويطلق رؤاه النافذة المحيطة بأعماق ظاهرة العلم كشاعر ملهم، بينما القرن العشرون هو العصر الذهبي للمنطق، وفلسفة العلم فيه هي منطق العلم. من هنا كان كارل بوبر هو الأقدر على غرس مفهوم الثورة؛ لأن بوبر منطقي من الطراز الأول، وعالج ثورية التقدم العلمي في إطار معالجة دقيقة لمنطق العلم، فأمكن «للثورة» أن تنمو وتترعرع في فلسفة العلم بعد بوبر وبفضله.
التقدم العلمي ثوري؛ لأن كل نظرية علمية في عرف بوبر ثورة قامت على أكتاف تكذيب سابقتها وإتمام دورتها؛ لتبدأ دورة جديدة قابلة هي الأخرى للتكذيب؛ لتشهد الثورة التالية ... وهلم جرا، فيسير التقدم العلمي في سلسلة متصلة من الثورات. إنه معيار القابلية للتكذيب ذو الصياغات المنطقية الدقيقة التي تستقطب كل أبعاد فلسفة العلم البوبرية، فهو بمثابة حجر الزاوية ومحور الارتكاز فيها، يجسد الطبيعة التقدمية الثورية للعلم، طالما أن الخاصة المنطقية المميزة إياه هي القابلية للتكذيب ... لتعيين الخطأ، وبالتالي تصويبه وتجاوز الوضع إلى ما هو أفضل وأصوب، أي التقدم خطوة إلى الأمام، أو بالأحرى ثورة/دورة إلى أعلى.
بهذا الوضع القلق التواق والحركية الدءوبة نتعلم جيدا أن فلسفة العلم يستحيل أن تقتصر على محض التحليلات المنطقية، فهي فلسفة الفعالية الحية والهم المعرفي للإنسان. الميتافيزيقا أفقها الرحيب الذي يلهم بالفروض الخصيبة. إنها تمهد للعلم على اعتبار أن الجهود المعرفية حلقات في سلسلة تطورية تمثل خط نماء المعرفة الإنسانية، العلم بهذه الصورة التطورية أكثر حيوية وإنسانية من أي منشط آخر، قضاياه قابلة دوما للتكذيب والتعديل والتطوير، يلعب الخيال الخلاق والعبقرية المبدعة دورا أساسيا في رسم قصة العلم المثيرة، التي علمت الإنسان المعنى الحقيقي للتقدم، وأنه ثورة مستمرة.
هكذا أغلق بوبر أبواب النظرة السكونية الوضعية للعلم كمنجز راهن منته، فانتقل بفلسفة العلم - كما أبان الفصل السابق - من منطق التبرير إلى منطق التقدم الثوري ... منطق الكشف النابض الدافق، وجعل تغييرا في عنوان أول وأهم كتبه ينص على هذا، وأكد أن شغله الشاغل وهمه الأول تقدم المعرفة العلمية ونموها؛ لينظر إلى العلم كفاعلية ونماء وصيرورة، العلم في حيويته وديناميكيته، في حركيته وتقدميته، مما سيفتح الباب للوعي بصيرورته عبر التاريخ، فكان بوبر الرائد لتلك المرحلة الجديدة من فلسفة العلم، مرحلة ما بعد سلطان الوضعية المنطقية، التي سوف تتسع لتتسلح بالوعي بتاريخ العلم.
ولكن من منظور الوعي التاريخي في حد ذاته، كان كارل بوبر بكل هذا محض رائد مقدام، فتح الطريق ولم يسر فيه إلى غايته، بل حتى لم يقطع فيه شوطا كافيا.
فقد كان بوبر شديد العناية بإمكانيات التقدم، باستشراف مستقبل العلم ودفعه قدما، فظل اهتمامه محصورا في أطر منهج العلم كما هو جار وكما ينبغي أن يكون، بمعايير العلم أو خصائصه المنطقية الراهنة، والتي تهيئ لمستقبل واعد أكثر، مما يعني أنه ظل معنيا بالإشكالية المنهجية، حتى وإن أصبحت منطقا للكشف والتقدم وليس منطقا للتبرير. بل لعل بوبر أكثر الجميع استغراقا في المنهج؛ لأنه ميثودولوجي متطرف يرى علم مناهج البحث ليس مجرد أحد فروع الفلسفة، بل هو أخص خصائص الفلسفة وحصنها الحصين. كل المشاكل الفلسفية - فيما يرى بوبر - حتى الميتافيزيقية يمكن تأويلها بحيث تصبح مشاكل ميثودولوجية! ويضرب بوبر مثالا أثيرا على هذا بواحدة من أعقد المشاكل الميتافيزيقية، وهي مشكلة السببية التي تحل في إطار معالجة مشكلة منهجية بحتة هي مشكلة الاستقراء، أو مثلا مشكلة الموضوعية، يمكن أن تؤول هي الأخرى إلى القاعدة المنهجية الآتية: «العبارات التي تطرح في العلم هي - فقط لا غير - العبارات القابلة للاختبار بين الذوات».
14
وهاك مثال آخر يوضح أكثر مدى حيود النظرة البوبرية في اتجاه المنهج العلمي أو الميثودولوجيا، وهو مشكلة الكليات
Universalities
أو الألفاظ الكلية، فهل هي اسمية أي مجرد أسماء وبدلا من أن نطلقها على فرد واحد نطلقها على مجموعة أفراد، أم إنها واقعية لها كينونة ووجود حقيقي؟ طبعا «الواقعية» هنا ميتافيزيقية جدا، ونظرا لأن مصطلح الواقعية له دلالات كثيرة، ومدلوله الشائع في الفلسفة المعاصرة يختلف كثيرا عن ذلك الاستعمال، فإن بوبر يقترح وضع مصطلح آخر لهذا الاتجاه في النظر إلى طبيعة الألفاظ الكلية، هو مصطلح الماهوية
Essentialism . وكانت مشكلة الكليات واحدة من أعرق مشكلات الفلسفة التي تتوغل في أعماق الميتافيزيقا، ودارت حولها رحى معركة كبيرة في العصور الوسطى تعود أولها إلى فلسفتي أفلاطون وأرسطو، معركة بين ذينك الطرفين: الاسمية
Nominalism ، والواقعية
Realism
أو الماهوية بتعبير بوبر.
هذه المشكلة يراها بوبر مثل سائر المشاكل الميتافيزيقية الكبرى، يمكن إخراجها في صورة جديدة تجعلها مشكلة ميثودولوجية منتمية لعلم مناهج البحث. فالموقف الواقعي الماهوي من الألفاظ الكلية يؤكد أهميتها بالنسبة للعلم، على أساس أن الأشياء الجزئية تظهر فيها صفات عرضية لا تهم العلم، فمثلا يعنى علم الاقتصاد بدراسة النقد والائتمان، ولكنه لا يعنى بما يمكن أن تتخذه القطع النقدية من أشكال ولا بمظهر الأوراق النقدية والشيكات «فعلى العلم أن يجرد الأشياء من صفاتها العرضية وينفذ إلى ماهيتها، وماهية لا شيء على أية حال هي دائما كلية».
15
هكذا جعل بوبر الموقف الماهوي من الألفاظ الكلية يعني موقفا من طبيعة القانون العلمي يرى أن العلم ينفذ إلى ماهيات الموضوع، فيكون هدفه إعطاء تفسير نهائي للعالم. فالقانون العلمي هذا بمثابة اكتشاف لحقيقة مطلقة يقينية ضرورية، وهو طبعا اتجاه يرفضه بوبر تماما وينقده بالتفصيل، ويشاركه في هذا الرفض جمهرة فلاسفة العلم المعاصرين. فهو اتجاه انتهى تقريبا وأوهى من أن نخوض في نقده. والذي يهمنا من أمره أنه - في لي عنق مشكلة الكليات لكي تؤدي إليه - يوضح إلى أي حد اتسع مفهوم المنهج عند بوبر حتى استوعب جل المشكلات الفلسفية الكبرى. وكان هذا الاستطراد ليبين كيف استغرقت الإشكالية المنهجية فلسفة بوبر.
وفي المقابل فإن سؤال المنهج بلغ مع بوبر غايته. الغاية بمعنى قمة النضج والنماء فلا يرجى من ورائها مزيد، ولا تعود فلسفة العلم في حاجة إلى طرح سؤال المنهج مجددا، بل عليها استئناف المسير في الطريق الجديد، إلى حدود قد تسمح بدعاوى «هذا المنهج» مع فييرآبند وأقرانه، ما لم يتسع مفهوم المنهج ليصبح شاملا للنظرة الإبستمولوجية.
تعملق الوعي بمنهج العلم عند شيخ فلاسفة المنهج كارل بوبر لم يترك مجالا رحيبا للوعي بتاريخ العلم أو بماضيه. ولئن كان بوبر يصوب الأنظار شطر مستقبله فليس هذا مبررا. وبوبر أكثر الجميع إقرارا لكون «أية مشكلة من مشكلات الماضي إذا أعيد طرحها في الوقت الحاضر تغدو مشكلة حاضرة،
16
وكثيرا ما استعان بهوامش من تاريخ العلم لتعضيد هذه الفكرة أو تلك. وهو يؤكد أن كل النظريات العلمية تطورت عن الميتافيزيقا أو عن الأساطير البدائية، هذا فضلا عن ولع بوبر الخاص وباعه الطويل في تاريخ الفلسفة الذي يكتسب على يديه حيوية لا تضاهى، تثبت أن كل محاولة للتاريخ لنظرية فلسفية، ولو كانت المحاولة رقم ألف، تحمل إمكانيات لبعث حياة جديدة لهذه النظرية واستكشاف أبعاد ما كانت تخطر على بال.
17
وعلى الرغم من كل هذا ظلت الأبعاد التاريخية مجرد هوامش لفلسفة بوبر تخدم المتن الذي لم يخرج عن بحث منهج ومنطق العلم في آخر صوره وأعلى طوابقه، اللهم إلا في أن العلم عند بوبر ليس نسقا مشيدا بقدر ما هو فاعلية ونماء وصيرورة وثورة متواصلة.
وفي النهاية لم يمثل بوبر شخصيا وعيا حادا بتاريخ العلم، بل إن «منطق الكشف العلمي» في أصله الألماني اتسم إلى حد كبير بسمة لا تاريخية، خفت في أعمال بوبر المتأخرة، ولكن حسبه تماما الريادة وشق الطريق الجديد وتمهيده إياه بكل ذلك العزم والحسم.
ثالثا: حلول الوعي التاريخي: توماس كون
ويظل تأكيد بوبر على مفهوم «الثورة» من أثرى مواطن إسهامه، فسوف يلتقط توماس كون
T. Kuhn
أيقونة الثورة من كارل بوبر، ويقيم بنيانه لتاريخ العلم وفلسفته على أساس «الثورة» التي هي انتقال من نموذج قياس إرشادي
إلى آخر، فيما يمكن اعتباره بمثابة الإعلان الصريح لحلول الوعي التاريخي في صلب فلسفة العلم.
أجل، كان التحول الحاسم في اتجاه الوعي التاريخي مع توماس كون، إنه عالم فيزياء نظرية ثم مؤرخ علم متخصص ومقتدر، قام بتدريس تاريخ العلم في أعرق المعاهد الأمريكية: جامعة هارفارد (1952-1956م)، ثم جامعة باركلي بكاليفورنيا، ثم المعهد التكنولوجي في ماساشوتس. وبرصيد تاريخي وافر أقدم كون على رحاب فلسفة العلم كمؤرخ علم ينطلق إلى رحاب الفيلسوف وفيلسوف علم يستند على ركائز المؤرخ: فكان قادرا على إحداث التحول في اتجاه الوعي التاريخي.
والسيرة الذاتية لتوماس كون شخصيا تعكس بدورها مثل هذا التحول، فقد كان يستعد لنيل درجة الدكتوراه في الفيزياء النظرية - التي حصل عليها عام 1949م - فأتيحت له فرصة الاشتراك في مقرر دراسي بالجامعة يقدم علم الفيزياء لغير العلماء المتخصصين، فتعرف لأول مرة على تاريخ العلم، ثم جال في ميادينه حين ظفر بمنحة لمدة ثلاثة أعوام في جامعة هارفارد العريقة التي تهتم كثيرا بمباحث تاريخ العلم لا سيما بعد أن وطد أركانه فيها جورج سارتون. وفي هارفارد نعم توماس كون برعاية شخصية خاصة من رئيس الجامعة مؤرخ العلم البارز جيمس كونانت، وله كتاب مترجم إلى العربية هو «مواقف حاسمة في تاريخ العلم»، فتح تاريخ العلم أفقا واسعا أمام كون، فتغيرت تصوراته الراسخة عن طبيعة العلم وعوامل تقدمه، والتي كان قد استقاها من اهتمامه القديم بفلسفة العلم. هكذا كان تحول كون من دراسة العلم إلى تاريخه إلى فلسفته؛ ليهجر البحث العلمي ويحط به الرحال في مضمار فلسفة العلم المسلحة بتاريخه. ويحق لنا اعتبار توماس كون صاحب الفضل المباشر في استحضار الوعي بتاريخ العلم في صلب فلسفة العلم.
ولعل دراسته التمهيدية الرائدة «للتاريخ دور»
A Role For History ، التي جعلها مقدمة لكتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» بمثابة العلامة الفارقة في حدوث هذا؛ إذ يؤكد فيها أننا إذا أدركنا أن التاريخ ليس مجرد سرد أحداث متعاقبة، فسوف يحدث تاريخ العلم تغييرا جوهريا في تصور العلم الذي يسيطر على الأذهان.
18
ومن سجلات التاريخ سوف تخرج صورة مختلفة تماما لمفهوم العلم، شريطة ألا يكون هدفنا هو تقييم الماضي بمقاييس اليوم أو أن يجيب التاريخ عن أسئلة يطرحها ذلك التصور النمطي للعلم في وضعه الراهن.
عني كون في دراسته «للتاريخ دور» بتوضيح قصور وسلبيات المعالجة المقتصرة على الإنجاز العلمي في اكتماله الراهن. وهذه هي صورة العلم المطروحة في المراجع العلمية والكتب الدراسية
Textbooks ، ومهما استصوبتها النظرة المجردة واحتاجتها لأغراض تعليمية، فإنها لا تطابق بحال المغامرة العلمية كما تدفقت وتتدفق في الواقع، وإذا حاولنا أن نخرج منها بصورة عامة للنشاط العلمي أو المشروع الذي أنجز هذا النسق الراهن فإننا في هذه الحالة أشبه بمن يحاول الخروج بصورة عامة عن الثقافة القومية لقطر ما من خلال كتب دعاية سياحية أو من خلال نص لغوي وصفي. معنى هذا أن فلسفات العلم التي انفصلت عن تاريخه وتعاملت فقط مع المعطى الراهن لتدور في إطار الصياغة المثلى للمنهج العلمي ولبنية النظرية العلمية وخصائصها ومعاييرها ... هي أشبه بمنشورات سياحية عن أروع وأبرز المعالم، ما يستحق الرؤية ويمتع الناظرين والجوالة في دولة العلم الزاهرة، ربما يثري رحلتهم، ويجعلها ذات مردود مستحق للإنفاق، لكنه ليس البتة الصورة الحقيقية أو المتكاملة للواقع العملي المتعين والمتدفق حيث المغامرة العلمية التواقة العسيرة في صعودها وهبوطها ومنحنياتها. إن التخطيط الحقيقي للعلم كمشروع متنام ونشاط دافق وفعالية متقدة، أنتجت في النهاية ذلك النسق العلمي المنجز الراهن الذي نبحث عن فلسفته ... مثل هذا التخطيط لا يستقى إلا من سجلات تاريخ العلم، كما أكد توماس كون - قولا وفعلا.
لعل أبرز العوامل التي استحضرت الوعي المتقد بتاريخ العلم في فكر كون أن علمه الغزير بهذا التاريخ كشف له عن اختلافات حادة بين القواعد والمبادئ والمفاهيم والأوليات التي يعمل بها العلماء في مرحلة عن تلك التي يعملون بها في مرحلة أخرى، وما يبدو لجيل من العلماء بديهية أو مسلمة أولية قد يبدو لجيل آخر خرافة أو مسألة ثانوية. ونذكر في هذا الصدد قولا للفيلسوف الأمريكي المنتمي للواقعيين الجدد آرثر لفجوي
A. Lovejoy (1872-1962م) في كتابه «سلسلة الوجود الكبرى» إذ يقول:
وقد تجد قسما من تفكير امرئ أو مدرسة أو قل جيل ما، يهيمن عليه ويطبعه شكل من أشكال الاستدلال أو حيلة من حيل المنطق أو الافتراض المنهجي التي لو أفصح عنها لتبين أنها عبارة عن قضية منطقية أو ميتافيزيقية ضخمة وهامة، ربما كانت موضع جدل طويل.
19
ومن الملائم تماما الاستشهاد بلفجوي وكتابه «سلسلة الوجود الكبرى» الذي ما فتئ كون يؤكد في كل موضع أنه ترك التأثير الأعظم على تفكيره. ولفجوي في هذا الكتاب يعرض تاريخا للفكر الفلسفي لا بوصفه أشخاصا أو مذاهب متعاقبة، بل سلسلة من الوحدات الفكرية الكبرى أو المراحل، تأخذ برقاب بعض وتؤكد الدور الذي تلعبه المفاهيم الكبرى في تطور الفكر العام، وسيطرة بعض أنماط التفكير في شتى حقول الحياة العقلية والاجتماعية في حقبة ما، أو عند جماعة ما، وضرورة النفاذ إلى فحواها الأخير.
20
وليس يصعب إدراك كيف ألهم هذا توماس كون، بتصور تاريخ العلم كسلسلة من النماذج الإرشادية المتعاقبة، التي سنراها مركز فلسفته للعلم المعروضة في أبحاثه، وعلى رأسها بالطبع كتابه الذائع الصيت والواسع الانتشار «بنية الثورات العلمية».
كل صفحة من صفحات هذا الكتاب بمثابة البيان المبين عن إيجابيات تسلح فلسفة العلم بالوعي التاريخي، وعن خصوبة التناول التاريخي حين يتم في الأطر الفلسفية . وهذا هو ما تعكسه خطوط فلسفة كون للعلم، فهي لا تترسم أصلا إلا عبر مساحة زمنية معينة، مراحل تاريخية متعاقبة للمعرفة العلمية. ولئن كانت النظريات الأخرى لفلسفة العلم - بما فيها نظرية بوبر ذاته - تترسم مرة واحدة متكاملة متحاورة عن المعرفة العلمية بما هي كذلك، أي بما هي مواصلة لتاريخ التقدم، فإن فلسفة كون تقوم على أساس التمييز بين مراحل العلم العادي ومراحل الأزمة ومراحل الثورة.
وفي تبيان هذا نلاحظ قبلا أن توماس كون في طليعة السائرين في ركاب الثورة على الوضعية المنطقية و- طبعا - مفهومها الضد تاريخي لفلسفة العلم. ويسلم معنا بأن التقدم المستمر هو السمة المميزة للمعرفة العلمية، وأن دراسة تاريخ العلم تفصح عن زيف مفهوم «التراكم» إذا أخذنا به على خط مستقيم. ويؤكد مع بوبر على أن الثورة هي مفتاح هذا التقدم، لكنه يختلف عنه حين يرفض تطرف بوبر الثوري واعتبار كل تقدم علمي ثورة. وفي كل حال نجد أن إشكالية التقدم العلمي قد تمركزت الآن حول مصطلح الثورة/الدورة.
في البداية بحث كون نظرية كوبرنيقوس كمثال نموذجي للثورة العلمية.
21
وكان هذا موضوع محاضراته في جامعة هارفارد، ثم صدر كأول كتاب له عام 1957م. وبعد هذا بخمس سنوات صدر كتابه الأشهر «بنية الثورات العلمية» الذي يحمل فلسفته المتكاملة للعلم.
تقوم فلسفة كون على التمييز في مسار العلم أو تقدمه بين مراحل العلم العادي
Normal Science
الذي يسير في إطار النموذج القياسي الإرشادي
، وبين المراحل الثورية في هذا التقدم التي هي انتقال من نموذج إرشادي إلى آخر.
النموذج القياسي الإرشادي هو النظرية العامة التي يلتزم بها المجتمع العلمي في مرحلة ما، وبلوغ النظرية مرتبة النموذج الإرشادي يعني أنها أفضل من كل منافساتها، أي ثبتت ووجب التسليم بها وبكل مسلماتها ومناهجها ومفاهيمها العلمية وخلفياتها الميتافيزيقية، فتغدو النظرية بكل هذه الأبعاد بمثابة نموذج إرشادي يحدد مدلول الوقائع التجريبية، يطرح معايير الاختبار والتقويم والتنقيح، والتعديل إذا لزم الأمر. والأكثر فاعلية أنه يطرح المشاكل التي يجب دراستها وأنماط الحلول المطلوبة. المجتمع العلمي الناضج يسهل نسبيا تحديد نماذجه الإرشادية، وغني عن الذكر أن الرياضيات كانت أسبق العلوم طرا في اصطناع نموذج إرشادي واضح المعالم. ولا بد للنموذج الإرشادي أن يثير مشكلات للبحث، وإذا توقف عن هذا مع استمرار التسليم به لا يعود برنامج بحث علمي، بل هو مجرد تقنية خاصة بمهنة معينة.
إن مشكلات البحث العلمي مختلفة والنموذج الإرشادي لا يثير منها إلا الألغاز
التي تفسح المجال لإثبات قدرة الباحث الخلاقة ومهارته الخاصة في الوصول إلى حل لها. التسليم بنموذج إرشادي معين هو الذي يطرح ألغازا، بمعنى أنه يهيئ للباحثين اختيار مشكلات يمكن الوصول إلى حل لها طالما نسلم بهذا النموذج.
22
هكذا نلاحظ أن العلم العادي لا يقوم باختبار النموذج ذاته أو محاولة تكذيبه كما يرى بوبر في ثورته الدائمة. فالعلم ينمو ويتقدم في مراحله العادية من خلال حل الألغاز التي يثيرها النموذج الإرشادي المسلم به، والمعرفة هنا تزداد دقة واتساعا وتوالي إحراز أهدافها ليتمثل نجاح المشروع العلمي بصورة تدعو حقا للإعجاب، لكنها تخلو من الابتكارات الجوهرية والإبداع العظيم. وعلى هذا النحو تنمو المعرفة العلمية في إطار العلم العادي بصورة مطردة - صورة تراكمية.
ويظل الحال على هذا المنوال التراكمي حتى يظهر الشذوذ، أي ظاهرة لا يتوقعها النموذج الإرشادي المعمول به، لا يتنبأ بها ولا يهيأ الباحث للتعامل معها، فيبدأ الخروج عن أطر النموذج الإرشادي ومحاولات تعديله، وهذا عادة ما يلقى مقاومة ما في البداية. ولكن لنلاحظ مبدئيا كيف أن النموذج الإرشادي ذاته هو الذي يفتح الطريق للخروج منه والبحث عن نموذج جديد. وهذه هي صياغة توماس كون لخاصية التصحيح-الذاتي
Self-Correction
التي نتفق على أنها من خواص المعرفة العلمية.
ظهور الشذوذ تتلوه محاولة لاستكشاف مجاله، والمواءمة بينه وبين النموذج الإرشادي، ومحاولة تعديل أدوات النموذج. ولكن إذا بدا إسراف في هذا التعديل فها هنا أزمة. الأزمة تعني أنه قد آن الأوان للخروج من سياق العلم العادي وتعديل النموذج. المعرفة هنا ليست تراكمية بل ثورية، تماما كما تحدث الثورة السياسية حين يشعر أفراد المجتمع أن المؤسسات القائمة لم تعد كافية لحل المشكلات أو قادرة على هذا. الثورة العلمية تحدث نتيجة تغيرات لاستيعاب ظاهرة من نوع جديد من قبيل الأكسجين أو الأشعة السينية، ظاهرة خلقت أزمة. عن الأزمات تنبثق النظرية العلمية الجديدة التي تغير تقاليد البحث وأبعاد الرؤية الميتافيزيقية ومدلولات المفاهيم العلمية والوقائع التجريبية. فإن تغلبت النظرية الجديدة على منافساتها وأثبتت ذاتها يتم التسليم بها كنموذج إرشادي جديد، يطرح ألغازا تحتاج لمهارة الباحثين ... وهكذا دواليك.
وما ينتج عن الأزمة من انتقال إلى نموذج إرشادي جديد هو الثورة العلمية، التي تعني تغييرا في النظرة إلى العالم. وهذا التغيير يبلغ حد اللامقايسة
uncommensurability ، أي عدم قابلية النظريات العلمية للقياس المتكافئ، للحكم عليها بنفس المقاييس وتقييمها بنفس المعايير. لكل نظرية إطارها ومفاهيمها وعالمها، حتى إن الحوار بين نظريتين في مرحلتين مختلفتين، أي في نموذجين إرشاديين متعاقبين هو بمثابة حوار بين الصم، لن يسمع أحدهما الآخر.
23
مفهوم الكتلة أو مفهوم الجاذبية عند نيوتن مختلف تماما عن مفهوم الكتلة أو مفهوم الجاذبية عند آينشتين، فكيف يتحاوران؟! الحكم على النظرية العلمية وتقييمها لا يكون البتة بالقياس إلى نظرية سابقة عليها أو تالية لها في صيرورة التقدم العلمي، بل فقط في إطار عصرها وتحدياتها وظروفها العلمية، مما يجعل لكل نظرية مقاييسها الخاصة في ضوء نموذجها الإرشادي الذي تعمل به. هكذا نجد مفهوم اللامقايسة أو عدم قابلية النظريات العلمية للقياس المتكافئ بمثابة بلورة للوعي التاريخي في فلسفة العلم، واعتبار النظرية العلمية فقط في ضوء الموقع الذي احتلته من تاريخ العلم، فلا تضاهيها نظرية أخرى في موقع تاريخي آخر.
اللامقايسة تكاد توازي مفهوم القطيعة المعرفية عند جاستون باشلار. اللامقايسة أو القطيعة مفاهيم تعبر عن فواصل وانفصالات في التقدم العلمي تنقض الاستمرارية الآلية والاتصال التراكمي الذي كان سائدا في القرن التاسع عشر وسايرته الوضعية المنطقية. إنها تنكر الاتصال في العلم، بمعنى الطريق الممهد السائر قدما للبحث العلمي، وتؤكد الانفصالية من حيث تؤكد الوعي التاريخي، وتعيين المرحلة التاريخية للنظرية العلمية.
وبلغت حدة استشعار كون لأهمية الوعي التاريخي أن اهتم اهتماما كبيرا بشأن المراجع العلمية أو كتب تدريس العلوم
Textbooks ؛ لينحو باللائمة على افتقادها للبعد التاريخي، وكأنه أخذ على عاتقه أن يحل الوعي التاريخي في كل أرجاء المعمورة العلمية!
إن هذه الكتب - فيما يرى كون - ذات هدف إقناعي تربوي هو تعليم وتدريب دارسي العلوم على مزاولة حرفتهم في إطار العلم العادي، فتعرض بنية المعرفة العلمية التي اكتملت وتم إنجازها، أي تسجل الناتج الثابت المستمر لثورات الماضي وتمثل الأساس لتقاليد العلم العادي الناتج عنها، ولا تعرض للثورة نفسها فتبدأ بوأد إحساس طالب العلم وباحث المستقبل بالبعد التاريخي لمبحثه، أو تكتفي بلمحات منه كمقدمة ومدخل، ولا تذكر من التاريخ إلا ما يؤدي في خط مستقيم إلى النموذج الإرشادي المعمول به. وكأن الانتقاص من قيمة التاريخ يكاد يكون متأصلا في «أيديولوجيا الصنعة العلمية»، فما الحاجة «إلى بذل الجهد من أجل ما تم نبذه ورفضه وتجاوزه. والنتيجة هي عرض تاريخ للعلم يؤدي في خط مستقيم إلى النقطة التي أقف فيها - أي النموذج الإرشادي المعمول به - وهذا يفسد تصور طبيعة العلم».
24
هكذا يعرج كون على ما أسماه «أيديولوجيا المجتمع العلمي» ويهتم بها اهتماما بالغا. ولئن كان المجتمع يغدو مجتمعا وليس مجرد حاصل جمع آحاد من الأفراد عن طريق الأيديولوجيا، فإنه يمكن اعتبار النموذج الإرشادي بمثابة أيديولوجيا المجتمع العلمي التي تصنع تماسكه وتجانسه في الحقبة التاريخية المعنية. فقد صدر «بنية الثورات العلمية» عام 1962م، وبعد فترة اختمار ومراجعة واستجابة لردود الفعل، أعقبه توماس كون بدراسة صدرت عام 1971م هي «أفكار لاحقة بشأن النماذج الإرشادية
Second Thoughts on Paradigm » تدور حول مجموعتين من الأفكار التي نستكشفها بواسطة النماذج الإرشادية. فأولا هناك العناصر المشتركة التي تفسر خاصية التواصل المهني في المجتمع العلمي الذي يسري بسهولة نسبيا بغير مشاكل، وإجماع العلماء على الأحكام التي يصدرونها بشأن النظريات وسواها. وهذا ما أسماه كون القالب الانضباطي
Disciplinary Matrix . وثانيا مجموعة من الأفكار حول ما يجعل المجتمع العلمي يقبل حلولا عينية لمشكلة معينة قبولا سلسلا ومتآلفا، فيما أسماه كون قالب المثلية
Exemplar Matrix . وهاتان المجموعتان من الأفكار تبرزان إلى أي حد يحمل النموذج الإرشادي أيديولوجيا تقولب المجتمع العلمي.
ومثل هذا الجنوح نحو «الأيديولوجيا» والتعويل عليها دفع جون واتكينز إلى إخراج دراسة بعنوان «ضد العلم العادي» فحواها أن كون خرج من أعطاف كارل بوبر، وبقدر ما ابتعد عن بوبر بقدر ما ضل الطريق. وانتهى واتكينز إلى أن العلم العادي يماثل - من المنظور البوبري - أداء العقول المغلقة في قلب المجتمع المغلق.
25
وبصرف النظر عن تفاصيل ردود كون على واتكينز،
26
فإن كون بعامة يبدو أكثر استيعابا ومجاراة لتطور العلم في النصف الثاني أو الربع الأخير من القرن العشرين. فصحيح أن العلم الحديث منذ نشأته يتسم بطابع جمعي تعاوني، إلا أنه في الآونة الأخيرة تزايدت حدة هذا الطابع إلى درجة غير مسبوقة، بحكم تصاعد متوالية المعرفة ومدى الأبحاث العلمية واتساع نطاقها وارتفاع تكاليفها. وكما سنوضح حين نتوقف لاحقا عند سوسيولوجية العلم التي يتحمل كون الآن أعباءها ويرفع لواءها، فقد انتهت تقريبا صورة العالم الفرد المنعزل بأبحاثه وعبقريته العلمية، وأصبح الشكل العام للبحث العلمي الآن في صورة برنامج ضخم يعكف على إنجازه فريق من الفنيين والدارسين والباحثين والعلماء. قد يقودهم عالم أكثر عبقرية وقدرات عقلية تكون السبب المباشر في الإنجاز العلمي، لكن لا بد أن يعملوا جميعا في إطار مؤسسة كبرى - جامعة أو مركز أبحاث أو شركة عملاقة أو هيئة قومية - قادرة على تمويل برنامج البحث وتوفير متطلباته.
والحق أن العلماء أنفسهم بهيئاتهم وأجهزتهم ومجالات عملهم وموضوعاته وأهدافه، يمثلون أهم مؤسسات الحضارة المعاصرة بالمعنى الاعتباري أو الاجتماعي لمفهوم مؤسسة
Institution .
27
وكان توماس كون أشد فلاسفة العلم إدراكا لهذا الطابع الجمعي الذي لازم العلم الحديث منذ نشأته وتزايد في الوقت الراهن. لم يعن كون كثيرا - كما فعل كارل بوبر مثلا - بدور العبقرية الفردية في خلق قصة العلم، وانصب اهتمامه على المجتمع العلمي أو الجماعة العلمية أو بالأحرى المؤسسة العلمية، التي تعمل في إطار النموذج الإرشادي المطروح، حتى نعتت فلسفته للعلم بأنها «عقلانية مؤسساتية»
Institutionalized Rationality .
28
لا غرو إذن أن يمثل النموذج الإرشادي أيديولوجيا المجتمع العلمي أو المؤسسة العلمية، التي لا تقتصر على خلق نوع من الانسجام بين أفراد المجتمع أو الجماعة كما تفعل أية أيديولوجيا، بل يتسم المجتمع العلمي بدرجة فريدة من التآزر والتضافر والتكاتف إلى حد يكاد يميزه عن أي منشط إنساني آخر، فيهتف جاستون باشلار: «أي تفاهم ضمني يسود الحاضرة الطبيعانية.»
29
بمعنى مجتمع العلوم الطبيعية. إن هذا الإجماع على النتائج له تأثير كبير في المنزلة الفريدة التي يتمتع بها العلم، وهو الذي يجعل الناس يتصورون أن العلم هو الشكل الوحيد للمعرفة الحقيقية طالما أن هذا الإجماع لا يحدث في سواه، فتتواتر وقائع تاريخ العلم وكأنه - كما يقول بولكن هورن - سير القديسين، أو المصدر الشرعي الوحيد لأية معرفة بالحقائق. ومن يريد معتقدات قائمة على أساس صلب فعليه بالعلم الذي تجتمع كل الأطراف المعنية على نتائجه. هذا الإجماع على النتائج الذي ينفرد به العلم هو ما حاول توماس كون تفسيره بالقالب النظامي وقالب المثلية، مؤكدا أن إجماع المجتمع العلمي قيمة فائقة الأهمية تضمحل معها احتمالات الصراع الذي يبدد الوقت والجهد، وسرعان ما يعيد القالب النظامي تنظيم وتوحيد مسار الجهد حول مجموعة محددة من القواعد لحل الألغاز.
من هنا يرى كون أن تفسير التقدم العلمي لا بد وأن يرسو في نهاية المطاف على عوامل سوسيولوجية وسيكولوجية وعلى توصيف لنسق القيم أو الأيديولوجيا، بمعية تحليل وتوصيف المؤسسات التي يتقدم العلم من خلالها. وإذا عرفنا قيم العلماء يمكن أن نتفهم المشاكل التي يضطلعون بها والحلول التي يرسون عليها. وينكر كون إمكانية طرح هذه العوامل الأيديولوجية والسوسيولوجية والسيكولوجية من أية إجابة عن سؤال التقدم العلمي.
30
فكان كون شديد العناية بهذه النواحي مؤكدا تآخي العلم مع الظواهر الحضارية الأخرى. لقد قامت فلسفته للعلم - كما رأينا - على أساس التحقيب التاريخي للعلم عن طريق توالي النماذج الإرشادية، ويشير صراحة إلى أن مؤرخي المناشط الإنسانية كالآداب والموسيقى والفنون والتطور السياسي ... قد سبقوه، فكثيرا ما استعانوا بتحقيب تاريخ هذه الأنشطة عبر قطائع ثورية في الطرز والأذواق وبنية المؤسسات، وكان هذا التحقيب أداة أثيرة من أدواتهم المعيارية. وكل أصالة ينسبها كون إلى نفسه - كما يقول - فقط في أنه أول من طبق هذا على العلم الذي كان يظن أن تطوره في طريق مخالف تماما.
31
إذن لا يقنع كون بأي خلاف جوهري بين التطور في الفنون والآداب والنظم السياسية والإنسانيات والتطور في العلم. وله صراحة دراسة حول العلاقة أو التشابه والتماثل بين هذا وذاك.
32
هكذا كان توماس كون شديد العناية بالنواحي الأيديولوجية والسوسيولوجية والسيكولوجية والالتزامات الخلقية وأصول التنظيم والإدارة ... إلخ للظاهرة العلمية، من حيث هي - ببساطة - ظاهرة في عالم الإنسان. فتلك هي الأبعاد الحميمة للظواهر الإنسانية.
وقد لام كارل بوبر كون على كثرة انشغاله بهذه الأبعاد. وفي المقابل تماما ليم كون على أن نظرته السوسيولوجية لم تكن شاملة بما يكفي، فقد قصر اهتمامه على ما أسماه الجماعة العلمية أو المؤسسة العلمية، واقتطعها عن سائر المجتمع الذي تحيا في سياقه الثقافي، فعزل اكتشافات الوقائع والابتكارات النظرية عما يحفز إليها في الواقع المتغير للمجتمع والثقافة، فأوشكت الجماعة العلمية أو المؤسسة العلمية أن تكون صومعة رهبان أو تكية للصوفية يديرونها بأنفسهم، ولا تختلف عنها إلا في أن الانقلابات والثورات تقع فيها بين الحين والآخر.
33
وحتى ينطلق النقد من مرميين متقابلين هكذا، فإن هذا يوضح عظم البوابة التي فتحتها فلسفة كون للعلم حين تدججت بالوعي التاريخي، وكيف أنها ستأتي بالوابل الغزير من أبعاد الظاهرة الإنسانية. وهو وابل رآه البعض - منهم كارل بوبر والوضعيون المناطقة - طوفانا قد يطيح بركائز منزل فلسفة العلم، ورآه البعض الآخر فيضانا حين نتحكم في منسوبه يعد فلسفة العلم بخصب ونماء ممتد. والواقع أن الطبيعة التقدمية المفطورة في بنية العلم، وبالتالي في بنية التفكير العلمي، تجعلنا نرحب بكل تطور آت، وبالتالي تجعل الاحتمال الثاني هو الأرجح. وهذا ما ستكشف عنه الصفحات المقبلة بشيء من التفصيل.
بداية، أخرج كون دراسته المذكورة في الهوامش «منطق الكشف أم سيكولوجية البحث»؛ ليحاول تبيان أن بوبر أيضا يشاركه الانشغال بهذه الأبعاد، وأن فلسفته تستند عليها مثلما تستند فلسفة بوبر عليها. والجدير بالذكر أن هذه الدراسة في صلبها مناقشة نقدية لكارل بوبر ، توضح ما أراد كون أن يضيفه أو يبدله في الطريق البوبري، مما يعني أنه مواصل بشكل ما لهذا الطريق.
إن بوبر حين فتح باب الخروج من أطر الوضعية والاقتصار على تحليلاتها المنطقية، وأكد أن المشكلة العلمية والمشكلة الفلسفية على السواء هي المشكلة الكوزمولوجية الشاملة؛ كان يمهد الطريق لعناية فلسفة العلم بتاريخه وبهذه الأبعاد الخارجية اللاإبستمولوجية. وإن تطرف المسار أكثر مما أراد بوبر فلنذكره بنظريته الرائعة في العالم 3، المختلف عن العالم 1 عالم المادة والعالم 2، عالم الذات والخبرات الشخصية، ففي العالم 3 يستقل المنتج الذهني عن مبدعه ويخلق نواتجه ومشكلاته، ثم إن بوبر أنكر تماما البدء بالملاحظة وتعميمها، وأسرف في تأكيد أن منطلق البحث العلمي فكرة في ذهن العالم أو فرض ما يعمد إلى اختباره تجريبيا أو محاولة تكذيبه. وإذا سألنا بوبر: من أين يجيء الفرض، وهو اللبنة الأساسية للعلم وتقدمه؟ لعولت إجابته بصفة أساسية على عوامل سيكولوجية متعلقة بقدرات العالم المبدع ونصيبه من الذكاء وحسن استيعابه للحصيلة المعرفية السابقة، أما منهج العلم ومنطقه فيستحيل أن يرسم الطريق إلى الفرض العلمي. فهل يمكن بعد هذا الزعم بأن بوبر يستبعد تماما العوامل السيكولوجية والسوسيولوجية وسواها من أبعاد لا إبستمولوجية خارجية، لكن حميمة تؤكد ببساطة أن العلم ظاهرة إنسانية ونشاط إنساني. وهذه بديهية غابت تماما عن العلم النيوتوني الحتمي الميكانيكي، ولم تتبد إلا مع ثورة العلم في مطالع القرن العشرين، ثورة النسبية والكوانتم وما تلاهما. ولئن كان كارل بوبر رائدا عظيما فلأنه في طليعة المتمثلين لهذه الثورة العلمية ولانعكاساتها التي تؤكد فعالية العقل الإنساني في صنع قصة العلم.
لقد اكتسبت فلسفة العلم مع توماس كون - جهارا نهارا - كل أبعادها الإنسانية كمحصلة منطقية لتسلحها بالوعي التاريخي. أو ليس التاريخ مجال التغير والصيرورة والفعل، فكان أخص خصائص الإنسان، الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخا، وكان علم التاريخ بدوره أبا العلوم الإنسانية، فكان الوعي التاريخي يفضي بفلسفة العلم إلى أنسنة الظاهرة العلمية، في فلسفة توماس كون التي حق اعتبارها تمثيلا عينيا للوعي بتاريخ العلم.
وكما هو معروف، أثارت فلسفة كون جدلا عاصفا، وما زالت تثير المزيد حتى بعد رحيله، وعدت من العلامات الفارقة في تطور فلسفة العلم، وتباينت الآراء بشأن التأثير والتغير الذي أحدثته. والمنظور المطروح الآن أن استحضار الوعي بتاريخ العلم في صلب فلسفته مركز التأثيرات الموارة التي أحدثها كون.
رابعا: ذروة الوعي التاريخي: إمري لاكاتوش
رافق توماس كون وأعقبه رعيل من المستقطبين لتلك التطورات الموارة، السائرين في هذا الطريق البوبري - الكوني اللاوضعي، معرضين عن منطق تبرير المعرفة العلمية، ومعنيين بمنطق الكشف والتقدم العلمي تأكيدا وتوطيدا لتيار الوعي التاريخي، وفي طليعتهم وأشدهم تجريدا وتجسيدا للوعي التاريخي في فلسفة العلم الفيلسوف المجري إمري لاكاتوش
Imre Lakatos
صاحب القول النافذ والشهير: «فلسفة العلم بدون تاريخه خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفته عماء.»
وقد صاغه عن طريق تعديل قول إيمانويل كانط المتواتر: «إن المدركات الحسية بدون تصورات عقلية عماء والتصورات العقلية بدون مدركات حسية خواء.» وكأن وقائع تاريخ العلم محض مدركات عمياء، ونظريات فلسفة العلم محض تصورات عقلية فارغة، فلا معنى ولا جدوى ولا قيمة لأحدهما بدون الآخر. ذانك معا في فلسفة كانط يفضيان إلى إدراك الطبيعة أو عالم الظواهر، وهذان معا في فلسفة لاكاتوش يفضيان إلى إدراك ظاهرة العلم. وكما جاهر كانط في مقدمة الطبعة الثانية لعمله الأكبر «نقد العقل الخالص» العالم لا يعرف من الطبيعة إلا ما يفرضه عليها، وليس المقصود بما يفرضه مجرد الافتراض العلمي أو التفسير المؤقت، بل أيضا «إعادة بناء الظاهرة وإضفاء الصورة العقلية والصنعية عليها»
34
عن طريق مقولات العقل أو تصوراته القبلية. وبالمثل تماما سوف يجاهر لاكاتوش بأن المؤرخ لا يعرف من تاريخ العلم إلا ما يفرضه عليه، بمعنى إعادة بناء تاريخ العلم وإضفاء الصورة العقلية والصنعية عليه عن طريق فلسفة العلم أو نظرياتها الميثودولوجية.
رحل لاكاتوش فجأة إثر حادث سيارة مروع بعد أن استقر في إنجلترا في مدرسة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن، التي كان بوبر أستاذ المنطق ومناهج البحث بها، وكان لاكاتوش من أنجب تلاميذه وأخلصهم، وجيد الاستيعاب للدرس البوبري.
أخذ عن بوبر أن فلسفة العلم هي نظرية المنهج أو «الميثودولوجيا»، لكن بعد أن اكتسبت الميثودولوجيا مع لاكاتوش فعالية وحركية تاريخية، أما النظريات العلمية ذاتها فهي عند لاكاتوش برامج أبحاث تذكرنا بالنماذج الإرشادية عند توماس كون وأيضا الاستراتيجيات العقلية عند ستيفن تولمن. لذلك فإن فلسفة العلم هي «ميثودولوجيا برامج الأبحاث العلمية»، وهذا هو عنوان كتابه الرئيسي.
أخذ عن بوبر أيضا أن التكذيب هو الخاصية المميزة للعلم، من حيث إنه القوة المفسرة للتقدم العلمي المتوالي، مبقيا ومصدقا على جبهة افتراق الفلسفة التكذيبية عن الوضعية المنطقية التحققية الاستقرائية. وهذا الافتراق يتمثل فيما أسماه المنطقي المتميز ويلارد كوين بالمنحى النافي أو الطبيعة النافية للتكذيب، على أساس أن البينة التجريبية قد تفند الفرض، ولكن ملايين البينات التجريبية لا تثبته، أو تثبته فقط بمعنى سلبي ناف هو غياب التفنيد.
35
ولكن توقف لاكاتوش أمام نقطة مقلقة أثارت كثيرا من الجدل، فإذا افترضنا أن كل البجع أبيض، فإن بجعة واحدة سوداء سوف تكذب الفرض. هذا صحيح منطقيا، ولكن هل ينمو العلم بهذه الطريقة البسيطة؟! واقعة نافية أو بينة تجريبية معارضة تكذب نظرية على حدة بصورة مستقلة؛ ليتم رفضها هي فقط في حد ذاتها، ويستبدل بها أخرى تعرض بدورها على محكمة التكذيب؟! هذا ما يؤكده بوبر. بينما يرى بيير دوهيم ومن بعده كوين أن المعقبات أو النواتج
Consequences
التي تلزم الفرض العلمي الجديد ، والتي تكون محكا للاختبارات التجريبية والتكذيبية، لا تخص الفرض الجديد وحده، بل تخص النسق المعرفي بأسره الذي انتمى إليه الفرض، وهذا ما يعرف «بأطروحة دوهيم-كوين
Duhem-Quine Thesis »، وهي من المقولات الهامة في فلسفة العلم، وتنص على أن التجارب الفيزيائية هي ملاحظة للظواهر مصحوبة بتأويل لها في ضوء النسق المعمول به؛ لذلك فإن الفيزيائي لا يخضع فرضا منفردا لمحكمة التجريب، بل مجموعة فروض معا، وبالتالي لا يمكن أن يعد الدليل التجريبي في حد ذاته تكذيبا حاسما للفرض.
36
وليس هناك «تجربة حاسمة» بصورة قاطعة. والواقع أن أطروحة أو مقولة دوهيم-كوين تبلور الفارق بين فلسفات العلم الإخبارية، الاستقرائية والتكذيبية على السواء، وبين فلسفات العلم الأداتية . في الجانب الأول عولجت مشكلة العلاقة بين الفكر والواقع من حيث هي مشكلة العلاقة بين الفرض والملاحظة. أما مع الأداتية فقد اتخذت هذه المشكلة شكلا جديدا، وأصبحت مشكلة العلاقة بين النسق العلمي ككل وبين العالم التجريبي ككل الذي نفترض أن النسق ينطبق عليه ويحاول إقامة روابط بين ظواهره. وتبعا للأداتية ليس هناك فارق بين الفرض أو القانون أو أية عبارة علمية في حد ذاتها؛ لذلك تكون معالجتها في إطار معالجة النسق ككل، كما تنص مقولة دوهيم-كوين، يرفض بوبر الاتجاه الأداتي، ويرفض هذه المقولة تماما على أساس أن اختبار الفرض على حدة وبصورة منفصلة مسألة جوهرية لتقدم العلم وقياس ما يضاف إليه حقيقة. والتجربة الحاسمة واقع ماثل في هذا الصدد.
وأمام هذا الإصرار من بوبر أثير كثير من الجدل حول التعامل مع الفرض أو العبارة العلمية بصورة منفردة. بدا هذا وكأنه تبسيط للأمور يخل بواقع العلم وبأبعاده المنطقية على السواء، ولعله يعود في جانب منه إلى إغفال الدلالة الكاملة لتاريخية تنامي الأنساق العلمية. وهو على أية حال يمثل زاوية افتراق لاكاتوش عن رائده بوبر.
وعبر تحليلات مسهبة بين لاكاتوش قصور التعامل مع النظرية بصورة منفردة؛ لأن الوحدة الوصفية
Descriptive Unit
للإنجازات العظمى في العلم ليست النظرية على انفراد، بل هي برنامج متكامل للبحث، مما يعني أن لاكاتوش يعمل بأطروحة دوهيم -كوين، على الرغم من أنه بوبري وليس أداتيا، ويؤكد أن التقدم العلمي لا يتأتى من نظرية معينة أو حتى مجموعة نظريات، بل بالانتقال من برنامج بحث علمي أصبح متدهورا إلى برنامج بحث آخر يبدو تقدميا. ثم طرح لاكاتوش نظريته الجميلة حقا في برامج الأبحاث العلمية، أو نظريتها المنهجية.
في برنامج البحث العلمي ليست كل النظريات أو العبارات العلمية سواء، هنالك أولا النواة الصلبة
hard core
للبرنامج، لا تخضع في حد ذاتها للتكذيب ولا تقبل التفنيد، فهي فرضيات عامة جدا هي اللب أو الصلب الذي على أساسه ينمو برنامج البحث ويتطور. النواة الصلبة في الفيزياء الكلاسيكية مثلا هي فرض الجاذبية العام وقوانين نيوتن الثلاثة، كثيرون - منهم أخلص أتباع لاكاتوش وهو الآن موسجريف - رفضوا أن تكون النواة الصلبة غير قابلة للتفنيد بأي إجراء أو قرار منهجي داخل برنامج البحث ذاته، على أساس أن هذا غير مفيد من الناحية الميثودولوجية، فضلا عن أن تاريخ العلم لا يصدق عليه كثيرا.
37
ومع هذا أصبح «مصطلح نواة صلبة» واردا ودارجا في أدبيات فلسفة العلم المعاصرة، سواء اتفقت مع تفاصيل فلسفة لاكاتوش أم لا، فقد أظهر هذا المصطلح فعالية جمة في التناول الفلسفي للنظرية العلمية، إنه تعيين لها حين تصاغ بدقة كموضوع مثالي تتضح سماته الأساسية التي تحدد برنامج البحث العلمي.
38
وكان بوبر قد ناقش مشكلة التحصين ضد التكذيب، فمن الممكن دائما التملص من التكذيب بأن نضيف للنظرية فروضا جديدة تتلافى مواطن الكذب. وفي مواجهة هذا رأى بوبر أن نميز بين الفروض العينية المغرضة
Ad hoc Hypothesis ، وبين الفروض المساعدة
Auxiliary Hyp . الفرض العيني هو الذي يوضع بغرض تفسير ظاهرة معينة أو حدث بعينه وليس له ما يؤيده غير هذه الظاهرة أو ذاك الحدث الذي يكذب النظرية. إنه يحمي النظرية من التكذيب دون أن يضيف إلى مضمونها المعرفي وقواها التفسيرية فيؤدي إلى إضعافها. وفي مقابلة الفرض المساعد الذي يمكن اختباره في حد ذاته وتؤيده أمور أخرى غير التي وضع لتفسيرها فيزيد من مضمون النظرية وقوتها؛ لذا نرحب بالفروض المساعدة، بينما ينبغي رفض الفروض المغرضة حرصا على دفع الطاقة التقدمية للبحث العلمي.
ومثلما التقط توماس كون من الكنز البوبري أيقونة الثورة، التقط لاكاتوش منه أيقونة الفروض المساعدة التي تحصن ضد التكذيب، بعد تطويرها عن الصورة البوبرية لتصبح مرتبطة بالنسق ككل أو بالأحرى برنامج البحث ككل تبعا لقاعدة دوهيم-كوين. فذهب لاكاتوش إلى أن العبقرية العلمية تلحق بالنواة الصلبة فروضا مساعدة هي بمثابة الحزام الواقي لها
protective belt . الحزام الواقي هو الذي يصطلي بنار الاختبارات التجريبية التكذيبية، ويتحمل التفنيدات والتعديلات والتصويبات، بل حتى قد يستبدل به حزام واق آخر؛ ليحمي ويصون النواة الصلبة لبرنامج البحث الذي يزداد قوة وصلابة بفضل كل هذا. أما النواة ذاتها أو اللب الصلب فلا تتعدل ولا يعين فيها خطأ، فقط تهجر حين يستنفذ دورها، أو حين تنسحق تحت شروط معينة هي منطقية وتجريبية - كما رأى بوبر، وليست جمالية كما كان الحال مع بيير دوهيم.
39
وهنا ينتهي برنامج البحث العلمي بأسره، ويتم الانتقال إلى سواه. في هذا الإطار العام يتم الانتقال من نظرية علمية مفندة إلى أخرى؛ لذلك يقال: إن لاكاتوش أحرز تقدما ذا اعتبار بشأن طبيعة التكذيب في العلم وأعطى توصيفا أكثر تحديدا للنشاط العلمي، يفسر بقاء النظرية التي لا تتمتع بتوافق تام مع الملاحظة فثمة النواة الصلبة التي ترتكز عليها والحزام الواقي الذي يصونها.
وفضلا عن النواة الصلبة والحزام الواقي، يحتوي برنامج البحث أيضا على موجه مساعد على الكشف
heuristic ، يعين القواعد المنهجية ويرسم مسار عمل العلماء. وكان وليم هيوول العظيم قد استخدم مقولة الموجه المساعد على الكشف فيما أسماه فن الكشف
Art of Discovery
الذي يعني شيئا قريبا من الميثودولوجيا، لكن لاكاتوش جعله ينقسم إلى موجه إيجابي وموجه سلبي، الموجه الإيجابي هو التصميم العام لبرنامج البحث، يساعد العلماء على تحديد المشكلات التي ينبغي حلها، والموضوعات المطروحة للبحث والقواعد العامة والطرق المعتمدة ... ربما يبالغ لاكاتوش إلى حد ما في تقدير قيمة وفعالية الموجه الإيجابي، لكن هناك أيضا الموجه السلبي الذي يدافع عن النواة الصلبة، إنه يؤدي إلى تكون منظومة الفروض المساعدة التي تشكل الحزام الواقي، ويحول دون تسرب نظريات لا علمية أو ضعيفة أو متناقضة مع برنامج البحث المعمول به. ويضرب لاكاتوش مثلا على هذا بالميتافيزيقا الديكارتية، حيث افترض ديكارت أن العالم كساعة مهيبة ونسق من الدوامات، يرى لاكاتوش أنها كانت موجها سلبيا للكشف بالغ الفعالية في مراحل تأسيس العلم الحديث، أحبطت وناوأت نظريات ضد علمية كالنظرية الحيوية ونظرية التأثير عن بعد وسواها من نظريات لا تتسق مع برامج العلم الحديث. وبنفس القدر كانت الميتافيزيقا الديكارتية موجها إيجابيا بشأن نظرية نيوتن. وبعبارة موجزة، الموجه الإيجابي يرشد العلماء إلى ما ينبغي أن يحتذوه، والموجه السلبي يرشدهم إلى ما ينبغي أن يتجنبوه. وفي إطار هذا وذاك تبقى النواة الصلبة، بينما يتعدل ويتكيف الحزام الواقي أو يستبدل به. وبرنامج البحث ناجح ويظل تقدميا بقدر ما يكشف كل تعديل فيه - أو بالأحرى في حزامه الواقي - عن تنبؤات جديدة، ويسفر عن طرح مشاكل أخرى أبعد مراما. إذا كف برنامج البحث العلمي عن هذا، وزاد محيط الظواهر الشاذة التي يعجز عن تفسيرها مهما زودنا حزامه الواقي بفروض مساعدة، فإنه يصبح برنامج بحث تقهقريا متدهورا، وهنا تبرز الحاجة إلى تغيير النواة الصلبة ذاتها، أي ترك برنامج البحث بأسره والانتقال إلى آخر تقدمي، نشأ في محيط تلك الشذوذات، ولكنه استطاع أن يحولها إلى أمثلة معززة، فالموجه الإيجابي المساعد على الكشف فيه يفتح طرقا لاستيعاب تلك الظواهر الشاذة.
على هذا النحو يترسم تاريخ العلم مع إمري لاكاتوش عبر انتقالات متوالية من برنامج بحث أصبح تقهقريا متدهورا إلى آخر تقدمي واعد. تلك هي نظرته لتاريخ العلم الداخلي عبر حركية برامجه، أو هي محاولة لاكاتوش لإعادة بنائه من حيث هو معرفة عقلانية متنامية. فكل فلسفة للعلم - فيما يؤكد لاكاتوش - بمثابة إعادة بناء عقلانية لتاريخ العلم الداخلي.
بينما تركز اهتمام توماس كون على دور تاريخ العلم في فلسفته، تميز لاكاتوش بأنه اهتم بهذا، واهتم أيضا بدور فلسفة العلم في تاريخه، أو بالأحرى في تأريخه، أي أنه اهتم بالعلاقة التبادلية بين الطرفين.
تبين لاكاتوش جيدا أن فلسفة العلم - أو ميثودولوجيته بمصطلحاته - لم تعد قواعد وطرقا لحل المشاكل العلمية كما كان يأمل فلاسفة القرن التاسع عشر، ولم تعد مجرد تبرير للمعرفة العلمية، إنما هي نظريات في العقلانية العلمية ومعايير لتمييز العلم أو تعريفه، ومحكات لقبول ورفض النظريات العلمية
40
تحاول أن تعطي صياغة لنمو المعرفة العلمية الموضوعية، أي للتطور العقلي الخالص؛ لذلك كانت فلسفة العلم أو ميثودولوجياته صياغة لعقلانية التقدم العلمي، أي نموه الإبستمولوجي الذي هو تطور عقلاني خالص.
ولما كانت فلسفة العلم تزودنا بتفسير عقلاني لنمو المعرفة الموضوعية العلمية، فهي إذن تزودنا بنظريات منهجية أو ميثودولوجية معيارية تشكل إطارا نظريا، في حدوده يستطيع المؤرخ إعادة بناء التاريخ الداخلي للعلم الذي هو تاريخ العقلانية. كل فلسفة للعلم هي ميثودولوجيا، هي محاولة لإعادة بنائه عقلانيا، هي خطوط معيارية ترشد مؤرخ العلم وتوجه خطاه. وانكب لاكاتوش على تخطيط عام واستعراض للميثودولوجيات أو المذاهب الأربعة الكبرى في فلسفة العلم، أي الصياغات الرئيسية لعقلانية التقدم العلمي بوصفها برامج بحث في تاريخ العلم، تحدد للمؤرخ المنظور الذي يتخذه والمعالم التي يتوقف عندها وانتقاءه أحداثا معينة.
هناك أولا النزعة الاستقرائية، أي المذهب الاستقرائي
Inductivism
الذي يضوي تحت لوائه التجريبية المتطرفة والوضعية المنطقية، حيث يتحول التاريخ الداخلي للعلم إلى وقائع تجريبية صلبة تعقبها تعميمات استقرائية. وهناك - ثانيا - مذهب الاصطلاحيين
Conventionalism
والأداتيين ليتحول تاريخ العلم إلى تشييد لأنساق مفتوحة، حيث النظرية تحل محلها نظرية أخرى أبسط منها تبعا لولع الاصطلاحيين بمعيار البساطة. وخلاصته أن أبسط تفسير يتفق مع الملاحظات المتعلقة بالموضوع هو الصحيح على الأرجح، وهو المفضل عن سواه. كانت البساطة من مسلمات التفكير العلمي وفلسفة العلم بصفة عامة، إلا أنها تكتسب أهمية خاصة عند الاصطلاحيين والأداتيين كما رأينا، حيث تعني القدرة على تبسيط الظواهر التي هي معقدة. والتبسيط هنا لا يخلو من مغزى أستطيقي جمالي. وكما أشرنا إبان الحديث عن الأداتية، تحتكم المدرسة الاصطلاحية إلى معايير منطقية وجمالية، أما الوقائع التجريبية ذاتها فتقبل أو ترفض بقرار منهجي تبعا لتلك المعايير. ومن هنا نتفهم ولع الأداتيين بمعيار البساطة في المفاضلة بين النظريات، إنه يلبي المطلبين المنطقي والجمالي. لكل ذلك يذهب إمري لاكاتوش إلى أن تاريخ العلم معهم سوف يصبح تاريخ انتصارات معيار البساطة. أما عند الفريق الثالث، وهم التكذيبيون البوبريون، فإن التاريخ الداخلي العقلاني للعلم هو تاريخ الحدوس الجريئة وتصويبها لتكتسب محتوى متزايدا، والأهم اللحظات الدراماتيكية الكبرى لتكذيبها وتفنيدها، وظهور حدوس أجرأ وأغزر في المحتوى المعرفي ... إلخ، ثم يجعل لاكاتوش مذهبه الخاص به - أي ميثودولوجيا برامج الأبحاث العلمية - ممثلا للاتجاه الرابع والأخير، وهو اتجاه يؤكد على المنافسة طويلة المدى نظريا وتجريبيا بين برامج الأبحاث ومتغيرات المشاكل التدهورية والتقدمية، ثم النصر الذي يبزغ رويدا رويدا لبرنامج بحث تقدمي على آخر تدهوري.
كل واحدة من هذه الميثودولوجيات الأربع - وسواها - تعطينا نمطا معياريا للنمو العقلاني للمعرفة العلمية. إنه التاريخ الداخلي الإبستمولوجي الخالص، ويستحيل أن يكون كاملا شاملا. التاريخ الفعلي للعلم دائما أكثر ثراء وحيوية؛ لأن البشر ليسوا كائنات عقلانية خالصة، بل تتنازعهم عوامل أخرى لا عقلانية، لا إبستمولوجية، تجعل الأبحاث في نظرية مندل الوراثية - مثلا - تختفي تماما من روسيا السوفيتية في الخمسينيات، أو بعض الأبحاث ذات الأغراض العرقية العنصرية تزدهر في أماكن أخرى من العالم الغربي. ويمكن أن نبحر إلى مدى أبعد ونتوقف عند دور الكنيسة الكاثوليكية في تثبيط حركة العلم إبان العصور الوسطى.
41
والواقع أن دور العوامل الخارجية اللاعقلانية في ترسيم تاريخ العلم الفعلي أكبر مما نتصور. وتكفي الإشارة إلى أن علم الفلك نشأ عن التنجيم، مثلما نشأت الكيمياء عن السيمياء أو محاولات تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. لذلك فإن أية فلسفة للعلم - أي أية ميثودولوجيا لإعادة بنائه العقلاني - لا بد من تزويدها بالتاريخ الخارجي للعلم الذي هو التاريخ التجريبي المعني بالجوانب الاجتماعية والنفسية لظاهرة العلم، أو ما يسميه لاكاتوش بالتاريخ السوسيوسيكولوجي للعلم. نعم، التاريخ الداخلي الإبستمولوجي هو الأولى والمبدئي والأكثر حسما، والتاريخ الخارجي ثانوي وفي منزلة أدنى، لكنه ضروري لكي تتكامل النظرة إلى العلم - أو لبرامج أبحاثه بتعبير لاكاتوش.
إن التاريخ الداخلي العقلاني الإبستمولوجي المعياري يؤول أحداث التقدم العلمي، ثم يعطي التاريخ الخارجي التجريبي السوسيوسيكولوجي تفسيرا - ليس عقلانيا - لتسارعها أو تباطؤها أو حلولها في مكان معين أو حدوثها دون سواها ... إلخ. وأيضا حين تختلف بعض جوانب التاريخ الفعلي للعلم عن محاولة إعادة بنائه عقلانيا - أي عن فلسفته أو نظريته الميثودولوجية - يمكن للتاريخ الخارجي أن يفسر هذا الاختلاف.
وكما هو معروف، الحياد المطلق مستحيل في التأريخ. ولما كان المؤرخ - أي مؤرخ - ينزع إلى إعادة ترتيب الأحداث ... إلى إعادة بناء موضوعه، كان من العسير أن يشرع أحد في التأريخ للعلم بدون فلسفة للعلم ... بدون نظرية في إعادة بنائه العقلاني، سواء أكان المؤرخ على وعي بهذا أم لا. وكما أوضح لاري لوضان، ربما كان تاريخ العلم كوقائع حدثت مسألة محايدة، لكن المؤرخ يسجلها على أساس فلسفي، ولإحراز أهداف فلسفية.
42
ويلاحظ لوضان أن لاكاتوش يفترض إمكانية المقارنة بين التاريخ الواقعي الفعلي وبين إعادة بنائه عقلانيا، فيتساءل: هل من الضروري إذن تلفيق تاريخ العلم لكي نفهمه؟! ولكن ليست المسألة تلفيقا بل هي تعامل وتحاور مع وقائع غفل كمدركات كانط الحسية، مع مادة خام، من أجل تنميطها وتفسيرها والاستفادة منها واستخلاص دلالة التقدم، حتى اعتبر لاكاتوش الميثودولوجيا «نظرية فيما وراء التاريخ
Metah historical »، إنها كما أوضحنا برنامج بحث في تاريخ العلم وإطار لترسيمه، بمصطلح لاكاتوش الحرفي: محاولة لإعادة بنائه عقلانيا.
وما دامت فلسفة العلم «الميثودولوجيا» تضطلع بهذا الدور المحوري والعبء في تأريخ العلم، حق إذن قول لاكاتوش: إن تاريخ العلم بدون فلسفته أعمى أو عماء، إنهما وجهان لعملة واحدة كي تظل صالحة للتداول وأداء الوظائف المنوطة بها.
وإذا انتقلنا إلى الوجه الآخر للعملة، أي دور تأريخ العلم في فلسفته والذي بدونه تصبح هذه الفلسفة خواء، لوجدنا لاكاتوش يؤكد أن تاريخ العلم هو محك اختبار الميثودولوجيات؛ أي نظريات فلسفة العلم، إن تقويم الميثودولوجيتين المتنافستين والفصل بينهما يكون عن طريق تاريخ العلم الذي استطاعت الميثودولوجيا المعنية أن تخضعه لتأويلها العقلاني؛
43
وكلما نجحت في تأويل قطاع أكبر من تاريخ العلم الفعلي تأويلا عقلانيا؛ أي بوصفه تاريخا داخليا إبستمولوجيا، كلما كانت أفضل. الميثودولوجيا الضعيفة هي التي تلقي بكثير من الأحداث في إطار التاريخ الخارجي التجريبي أو السوسيوسيكولوجي. لذلك يرى لاكاتوش أن الخط الفاصل بين التاريخ الداخلي والتاريخ الخارجي يختلف من ميثودولوجيا لأخرى. الميثودولوجيا في حد ذاتها يصعب نقدها لأسباب عديدة، لكن يمكن نقدها على أساس هذا المحك التاريخي.
وبالفعل انكب لاكاتوش على تطبيق المحك التاريخي في نقد الميثودولوجيات الأربع الكبرى، أركان فلسفة العلم، ويخلص إلى أن نظريته - ميثودولوجيا برامج الأبحاث العلمية - هي الأفضل! لأنها تنجح في تفسير القطاع الأعظم من الوقائع والأحداث في إطار التاريخ الداخلي العقلاني. فإذا كانت البوبرية التكذيبية تفوق الاستقرائية في هذا، فإن ميثودولوجيا برامج الأبحاث العلمية تفوق البوبرية؛ لأن هذه الأخيرة، أي البوبرية ترى - مثلا - أن التشبث بنظرية ثم تفنيدها مسألة لا عقلانية، فتنأى به البوبرية عن الإبستمولوجيا، وتلقي به في التاريخ الخارجي للعلم، ولكن هذا يمكن أن يتحول في ميثودولوجيا برامج الأبحاث العلمية إلى تاريخ داخلي هو دفاع عقلاني عن برنامج بحث لا يزال واعدا. ولعل لاكاتوش يقصد بهذا المثال النظرية الماركسية بالذات، فموقفه منها ذو شئون وشجون.
44
وخلاصة القول: إن معيار قبول نظرية فلسفة العلم أو الميثودولوجيا إنما هو في قدرتها على إرشاد مؤرخ العلم، والنظرية الأفضل هي التي تتمخض عن إعادة بناء أشمل لعقلانية العلم، أي لتاريخه الداخلي.
وها هنا تجدر إشارة تفيد في إيضاح الصورة العامة لتفكير لاكاتوش وإطار فلسفته. إنه منذ البداية يطرح قضاياه ومعالجاته لفلسفة العلم في حدود أربع ميثودولوجيات تمثلها، هن أولا الاستقرائية التحقيقية، وثانيا الاصطلاحية والأداتية، وثالثا التكذيبية البوبرية. ورابعا وأخيرا المذهب الخاص به وهو ميثودولوجيا برامج الأبحاث العلمية. وفي هذا لا يمكن تجاهل دراسة رائده كارل بوبر الهامة «ثلاث وجهات للنظر بشأن المعرفة الإنسانية»،
45
وهذه الرؤى الثلاث كما حددها بوبر، هي أولا نظرية العلم - أو الميثودولوجيا بمصطلح لاكاتوش - الجاليلية التي سادت بفضل جاليليو منذ القرن السابع عشر وبلغت ذروتها في القرن التاسع عشر، وترى هدف العلم في الوصول إلى نظريات هي توصيفات صادقة ويقينية عن طريق تعميم الملاحظات التجريبية، أي إنها المذهب الاستقرائي، وإن كان بوبر ينحو به نحو ما أسماه الماهوية
Essentialism (راجع [الفصل الأول: العلم بين فلسفته وتاريخه - أولا: علاقة متوترة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم])، أي بلوغ ماهيات الأشياء وحقائقها الثابتة. والمذهب الثاني هو الأداتية الاصطلاحية، وبوبر يشبعهما مقارنات وتحليلات وتمحيصا ونقدا وتفنيدا. أما خصمه الخصيم، أي الوضعية المنطقية، فهي موزعة بين هذين الاتجاهين، فهي استقرائية لكن ليست ماهوية. وبعض الوضعيين المناطقة أخذوا بالاتجاه الأداتي. وبوبر بعد أن أشبع الاستقرائية والأداتية الاصطلاحية تمحيصا ونقدا، يعرض لوجهة النظر الثالثة بشأن المعرفة الإنسانية وهي النظرة الخاصة به، أي التكذيبية. فلا غرو من أن يسير لاكاتوش على نفس المسار ويضع بجوار هذه النظريات الثلاث نظرية رابعة هي الخاصة به - ميثودولوجيا برامج الأبحاث العلمية - ويحاول إثبات أن نظريته تضوي تحت لواء التاريخ الداخلي العقلاني مساحة من وقائع وأحداث تاريخ العلم، أوسع من المساحة التي تستطيعها التكذيبية البوبرية. فهكذا يتصور أنه صاحب أنجح فلسفة للعلم، حتى مثل تقدما عن رائده كارل بوبر.
وبطبيعة حال الفلسفة تعرض لاكاتوش للنقد والأخذ والرد. رفض كثيرون اعتبار الخط الفاصل بين التاريخ الداخلي والتاريخ الخارجي للعلم متحركا هكذا، ورفض آخرون أن تكون الميثودولوجيا إبستمولوجية ومنطقية معيارية، ثم تتخذ التاريخ محكا لها ومعيارا لتقويمها، لم يمهله رحيله المفاجئ للرد عليهم جميعا. ولكن يكفي تماما أنه مع لاكاتوش تمايزت ثلاثة مقومات جوهرية في اعتبار الظاهرة العلمية، وهي:
أولا:
المعايير المنطقية والميثودولوجية.
وثانيا:
التاريخ الداخلي أو نمو المعرفة الموضوعية العقلانية، أي التقدم الإبستمولوجي.
وثالثا:
العوامل الإمبيريقية السوسيوسيكولوجية الخارجية، التي ليست بعوامل عقلانية.
لقد نجح لاكاتوش في هدفه، كما حدده لنفسه، وهو إيضاح كيف يمكن لفيلسوف العلم أن يتعلم من تاريخه، مثلما يلزم على مؤرخ العلم أن يصغي بانتباه لفلسفته، ويعين النظرية الفلسفية التي سوف يرتكز عليها في تأريخه، مع ملاحظة أن كل ميثودولوجيا يجب أن تفصل بأساليبها الخاصة بها بين التاريخ الداخلي والتاريخ الخارجي للعلم. ومؤرخو العلم وفلاسفته على السواء عليهم أن يستفيدوا لأقصى درجة من التفاعل النقدي بين عوامل التاريخ الداخلي وعوامل التاريخ الخارجي للعلم. وفي النهاية يذكر لاكاتوش القارئ بدعابته المفضلة، وهي أن تاريخ العلم صورة كاريكاتورية من إعادة بنائه العقلانية التي هي بدورها صورة كاريكاتورية لتاريخه الفعلي،
46
وهذه الدعابة تجسد إلى أي حد لم تعد المسألة مجرد حلول الوعي التاريخي، بل هي توشج وتشابك تاريخ العلم مع فلسفته، حتى أصبحا وجهين لعملة واحدة يحيل كل منهما للآخر. فحق اعتبار فلسفة لاكاتوش ذروة الوعي التاريخي في فلسفة العلم.
خامسا: انطلاقة الوعي التاريخي: باول فييرآبند ... والطريق الجديد
انتشر في أوساط فلسفة العلم وعمر أرجاءها فلاسفة كثيرون، أجادوا استيعاب الدرس التاريخي الذي كثفه إمري لاكاتوش، واصلوا المسار البوبري - الكوني الضد وضعي؛ ليدعموا المرحلة التالية من فلسفة العلم، المتحررة من قصورات الوضعية المنطقية وتطرفاتها وحيوداتها التي ترتد إلى حد كبير لنزعة الوضعية اللاتاريخية، ومؤكدين لمنطق الكشف والنماء والتغير والتقدم والثورة، لا مكرسين لمنطق تبرير المعرفة وإثبات الصحة، وقد تأدى هذا إلى رفع لواء النسبية أو بالأحرى النسبوية
Relativism
التاريخية للمعرفة العلمية، لا مطلقيتها المنطقية، والنظرة التكاملية لفلسفتها لا المحض إبستمولوجية، تأكيدا لأنسنة الظاهرة العلمية.
وربما كان أهم هؤلاء وأكثرهم بروزا واستحقاقا للذكر، فيلسوف العلم الثائر المشاغب باول فيبرآبند
(1924-1994م) الذي يمثل ظاهرة فريدة حقا في فلسفة العلم والفلسفة بأسرها والحضارة الغربية ذاتها، يريد أن يحمي العلم من شوفونية الروح العلمية وطغيانها، والفلسفة من أساتذتها المحترفين إياها، والحضارة الغربية من توجهها الغربي! ومهما أثارت جنوحاته الشاردة من دهشة، ومهما تكشفت كتاباته المندفعة عن تفاصيل يصعب قبولها - بل يصعب التوفيق بينها! وتثير جدلا لا ينتهي، فإنه يظل من أهم شخوص فلسفة العلم في مرحلتها الراهنة، ويهمنا من أمره أنه وضع المسمار الأخير في نعش النظرة اللاتاريخية للعلم، وبلغ الوعي التاريخي بالعلم معه انطلاقة لا تحدها حدود.
بادئ ذي بدء، لا بد من محاولة لتوضيح المقصود من أن فييرآبند قد وضع المسمار الأخير في نعش النظرة اللاتاريخية للعلم.
في هذا نلاحظ مجددا ما بيناه سابقا من أن هذه النظرة اللاتاريخية هي ذاتها الانشغال بمنطق تبرير المعرفة العلمية كمنجز راهن، وهذا التبرير يكمن أصلا في العلاقة بين الملاحظة التجريبية والنظرية العلمية، وهي علاقة يمكن أن تحكمها خطوات المنهج العلمي. ومن ثم شاع التصور آنذاك أن فلسفة العلم هي ذاتها نظرية المنهج المعنية بخطواته. وكان هذا المنهج هو الاستقراء الذي يبدأ بالملاحظات أو الوقائع التجريبية ليعممها ويصل منها إلى القانون العلمي.
ثم كان تطور نظرية المنهج على يد كارل بوبر ليمثل المسمار الأول في نعش النظرة التبريرية اللاتاريخية، حين انتقل بالمنهج من منطق التبرير إلى منطق الكشف والتقدم. كثف بوبر جهوده تكثيفا لقلب النظرة الاستقرائية رأسا على عقب، وأسرف في التأكيد على أن البدء ليس بالملاحظة التجريبية وأصبح المنهج التجريبي هو المنهج الفرض الاستنباطي الذي يبدأ بالفرض ثم يختبره عن طريق التجريب، كما سبق أن بشر هيوول. وكان هذا انقلابا من النقيض إلى النقيض، فانحلت كثير من الإشكاليات المنهجية التي تجسدها مشكلة الاستقراء، أي استحالة تبرير القفزة التعميمية من ملاحظات محدودة إلى قانون كلي. ثم واصلت فلسفة العلم مسارها بتصورات من قبيل النموذج الإرشادي مع توماس كون وميثودولوجيا برامج البحث مع إمري لاكاتوش، والاستراتيجيات العقلية مع ستيفن تولمن ... وهي تصورات توضح كيف أن الوقائع التجريبية لا تتحدد إلا في ضوء النظرية العلمية، والنظرية بدورها لا تتعين بدون الوقائع، بمعنى أن قطبي الموقف العلمي - الوقائع التجريبية والنظرية العلمية - ليسا طرفين متقابلين، نضع كلا في واد ثم نبحث عن العلاقة بينهما وأيهما يؤدي إلى الآخر وأيهما الأسبق. إنهما كل واحد متعضون في إطار متكامل، قد يقبل هذا الإطار، أو يرفض ويتم الانتقال إلى إطار آخر أكثر تقدمية. والحق أن واقع البحث العلمي الآن يؤكد هذا. ويضرب بولكين هورن مثالا يوضحه وهو اكتشاف الجسيمين الذريين
Z
و
W
وهما وسيطان في القوى النووية الضعيفة. وكان ثمة اثنان من زملاء بولكين هورن الباحثين في فيزياء الجسيمات الأولية هما كارلو روبيا
C. Rubbia ، وسيمون فان دير مير
S. V. Der Meer ، عملا في إطار فريق بحثي كبير، استخدم مصفوفة واسعة ومترابطة من الكواشف الإلكترونية للنشاط الإشعاعي، وتحليلات الكومبيوتر هي التي يمكنها تقييم ما تشير إليه هذه الكواشف. إنها معطيات الملاحظة الحسية أو المادة التجريبية الخام، بيد أنها في حد ذاتها لا تعني شيئا البتة، ولا تدل على شيء محدد، وما كان يمكن الإعلان بأن هنا الجسيم
W
وهناك الجسيم
Z
إلا عن طريق تأويل لمعطيات الملاحظة التجريبية، تأويلا يستخدم أفكارا فيزيائية معينة، هي فرض وجود هذين الجسيمين الذي تقدم به العالمان المذكوران عام 1984م، ونالا عنه جائزة نوبل.
47
هكذا نجد أنه لا معنى لملاحظات في حد ذاتها، وأيضا لا معنى للفرض في حد ذاته، إنهما كل متكامل أو كيان واحد.
وبهذا يسفر تطور نظرية المنهج العلمي عن صيرورة جدلية، فقد كانت الاستقراء الذي يبدأ بالملاحظة، ثم انقلبت إلى النقيض الذي يبدأ بالفرض. وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين اتخذت نظرية المنهج العلمي صورة المركب الجدلي الذي يجمع خير ما في هذين النقيضين ويتجاوزها إلى الأفضل، إلى نظرة ترى الفرض والملاحظة كلا متكاملا.
وبهذا؛ فإن سؤال التجريبية التقليدي عن المنهج العلمي، وكيفية الانتقال من الملاحظة إلى النظرية أو العكس، قد بدا وكأنه وجد إجابته، وآتت أكلها، فاستنفد ذاته ولم يعد مطروحا.
لعل هذه هي الدلالة العميقة جدا، الكامنة في الأعماق والمطمورة، لكتاب فييرآبند البالغ الخطورة «ضد المنهج: مخطط تمهيدي لنظرية فوضوية في المعرفة»، صدرت طبعته الأولى عام 1975م ليحدث بلبلة شديدة، وتتوالى طبعاته وترجماته إلى لغات عديدة، وهي الدلالة التي تجعلنا نعتبره بمثابة المسمار الأخير في نعش تلك النظرة التبريرية اللاتاريخية للمعرفة العلمية وسؤالها المركزي.
الدعوى الأساسية لهذا الكتاب تأكيد لتلك المحصلة، وهي أن السؤال عن المنهج سؤال زائف، وأن العلم لم يكن أبدا أسير منهج واحد محدد، بل هو مشروع فوضوي
Anarchic Enterprise ، أي لا يعترف بأية سلطة، وكل المناهج يمكن أن تجدي فيه،
48
تبعا لشعار فييرآبند الشهير: كل شيء مقبول
Anything goes . وكانت أسانيد فييرآبند الأساسية في فحص تسلسل الأحداث الكبرى التي شكلت تاريخ العلم ليوضح أنها لم تأت عن طريق منهج واحد محدد، بل مناهج عديدة، وانكب فييرآبند على تأكيد التعددية المنهجية، كل منهج مقبول على الرحب والسعة طالما يلائم طبيعة المشكلة المطروحة للبحث، فيؤدي إلى حلها والإضافة إلى رصيد العلم. أما تكبيل البحث العلمي بمنهج واحد محدد، فهذا ضد الإبداع يخنق روحه الضرورية للإنجاز في العلم، والإجماع على رأي واحد - بشأن منهج واحد - يناقض طبيعة نشاط عقلاني على الأصالة كالعلم التجريبي.
من هنا كانت نظرية فييرآبند الميثودولوجية هي «التعددية المنهجية» التي هي ذاتها الفوضوية أو اللاسلطوية المعرفية، فإن شئنا عنوانا لفلسفته للعلم فهو «العقلانية الفوضوية» التي ترفض بشدة تنصيب السلطة المعرفية لمنهج محدد، وترفض أيضا تنصيب السلطة المعرفية للعلم بالذات! على أساس أن التقدم المعرفي يأتي عن طريق إطلاق طاقات الإبداع والخلق والابتكار، وليس البتة بالتشديد على اتباع منهج معين، أو اقتفاء خطى نظام معرفي محدد دون سواه.
وكما يؤكد فييرآبند - بجرأة يحسد عليها - ليس العلم نظاما معرفيا مقدسا يستلزم الكفر بكل ما عداه أو خالفه، إنه نظام عقلاني وجب أن ينمو ويزدهر وسط الأنظمة المعرفية الأخرى. وعلى الرغم من أن العلم ليس البتة دينا، فإننا نعامله من منطلق الإجلال الديني، من نظرة تقديسية تنظر إليه وكأنه كيان لا يدانيه إلا الحق المطلق والخير المطلق، بل أيضا - ولا ينبغي أن نندهش - الجمال المطلق! فتمثيل العلم للجمال المطلق دعوى مرفوعة منذ فيثاغورث وحتى أبرزتها المدرسة الاصطلاحية التي تعامل النظرية العلمية بالمعايير الأستطيقية الجمالية، لكنه الجمال الذي لا يتذوقه إلا الذكاء العلمي بتعبير هنري بوانكاريه.
هذه النظرية التقديسية للعلم ازدادت جمودا وتحجرا على يد فلسفات العلم الوضعية الضد تاريخية، التي ترفع العلم فوق التاريخ. ثم أوتي فييرآبند الجرأة على هتك الحجاب المقدس الذي طالما اتشح به العلم الحديث، وكأنه ليس نشاطا إنسانيا وليس واحدا من إنجازات حضارية عديدة. ولم يكن هذا الهتك من أجل نفي العلم، كما تفعل الفلسفات الضد علمية كالرومانتيكية مثلا، بل من أجل استبصار أعمق لمضامين العلم ووظائفه وحدوده وإطلاق الطاقات التقدمية فيه ... إلى آخر هذه المهام التي لا يضطلع بها إلا فلاسفة العلم المحترفون، المخلصون له أكثر من سواهم.
وفي هذا الإطار، كان فييرآبند شديد التحمس للنسبوية في العلم، وكان عمل فييرآبند البارز «ضد المنهج» ليقوض تصور المنهج العلمي الواحد الثابت دائما، وإذا كانت المناهج ذاتها نسبية أو نسبوية - أي بالنسبة لطبيعة المشكلة المطروحة للبحث - فلا غرو أن يؤكد فييرآبند على أن كل شيء في العلم نسبوي،
49
مثلما أكد توماس كون على أن الأحكام العلمية نسبوية، أي بالنسبة للنموذج الإرشادي المعمول في إطاره. وفييرآبند يقر صراحة أنه أخذ بهذه النسبوية حين تعلم من توماس كون - ومن آخرين - أن يتناول الموضوع تناولا تاريخيا وليس تناولا منطقيا. هكذا نلاحظ ربط فييرآبند بين النسبوية وبين الوعي التاريخي، وهو في هذا وذاك يحاول التوصل إلى بعض البنيات الثابتة
50
التي تذكرنا بنماذج كون الإرشادية.
وكان تتابع النماذج الإرشادية يفضي إلى اللا مقايسة
Uncommensurability
أي عدم قابلية النظريات العلمية للقياس المتكافئ للحكم عليها بنفس المعايير. واللامقايسة ترتبط هي الأخرى بالوعي التاريخي، وقد اعتبرناها من أقوى تجسيداته، وهي فكرة رفضها كارل بوبر تماما ولم يرحب بها إمري لاكاتوش، فقد أخذا بالنظرة البوبرية لموضوعية المعرفة المشتركة بين الذوات أجمعين في كل زمان ومكان، وطالما انفصلت المعرفة عن مبدعها، أي عن العالم 2، وانتمت إلى العالم 3، فهي واحدة أمام الجميع، ولو قدر لأي عالم من أي عصر أن يطلع على أي تراث علمي أسبق لأدرك أنه أقل تقدما، وأقل إحرازا لأهداف العلم، وبالمثل لو تمكن أي عالم من تفهم الحصيلة في عصر لاحق لأدرك أنه أكثر تقدما. وعلى أساس هذا الزعم يرفض بوبر ومعه لاكاتوش نسبوية المعرفة العلمية واللامقايسة.
أما فييرآبند - النسبوي حتى النخاع - فقد جن بمقولة اللامقايسة وانطلق معها إلى أقصى الحدود، وعايشها وامتزج بها حتى نجد مواضع في كتاباته توحي بأنها من وضعه، وإن كان يشير في مواضع أخرى، وأحيانا في نفس المواضع «!» إلى فضل توماس كون وآخرين. وليس غريبا أن يناقض فييرآبند الواقع أو يناقض نفسه، فهو يفعل هذا كثيرا، ولكنه في كتاباته المبكرة، الأكثر رصانة وموضوعية يؤكد أن اللامقايسة ليست أطروحة فلسفية، بل هي تلخيص لإجراء علمي واسع الانتشار كثيرا ما يثبت نجاحه، والهجوم عليها ليس هجوما على موقف فلسفي معين، بل هو هجوم على العلم ذاته.
51
واضح أن هذا على أساس النظرة إلى العلم المتسلحة بالوعي التاريخي؛ لأن اللامقايسة قرينة التناول التاريخي للعلم ونتيجة من نواتجه، ومن ثم يتقد دفاع فييرآبند عن كليهما معا.
وبعد هذا يزعم فييرآبند في عمل متأخر له أنه لا يروم من اللامقايسة إسهاما إيجابيا، بل هي أساسا لنقد وتبيان الخطأ في تصور شائع للتفسير العلمي ورد العلوم إلى الفيزياء؛ هذا لأن اللامقايسة تشير إلى جوانب في التغير العلمي والتقدم لا يمكن الإحاطة بها عن طريق تلك النظرة في الرد - وهو يقصد نظرة الوضعية المنطقية. ويؤكد فييرآبند أن اللامقايسة لا تمثل أية مشكلة للعلوم المختلفة ولا لسواها، إنها مشكلة فقط بالنسبة لبعض فلسفات العلم المفرطة السذاجة - وهو يقصد العقلانية الخالصة والعقلانية النقدية كفلسفة بوبر! ثم إن اللامقايسة - والحديث ما زال لفييرآبند - استشرت بصورة رهيبة وأصبحت ملمحا أصيلا من ملامح كل فكر مبدع خلاق، ومن ناحية أخرى سرعان، ما أصبحت تستخدم لتعليل افتقاد التفاهم بين الثقافة العامة وبين العلم. ويزعم فييرآبند أيضا أن هذا محض هراء. بيد أن مزاعم فييرآبند المتأخرة لا حد لها، ولا ينبغي أخذها جميعا مأخذ الجد، والحق الصراح أنه أكثر الجميع تأكيدا على اللامقايسة، وتطرفا فيها، فلم تعد معه فقط بين نموذجين متتاليين في تاريخ العلم، بل أصبحت بين أي نظريتين.
ومعنى هذا أن كل نظرية يجب أن تحتفظ بمكانها في تاريخ العلم وفي الوعي العلمي، والحكم عليها فقط بالنسبة لظروفها وتحدياتها التاريخية. ويؤكد فييرآبند على قدرة النظريات القابعة في تاريخ العلم على إخصاب الواقع العلمي الراهن وطرح مداخل ومنظورات مختلفة لحل المشاكل المطروحة للبحث، مما يعني دور تاريخ العلم في توسيع وإخصاب الأفق الإبداعي للعلم.
ثم يواصل فييرآبند المسير بمقولة اللامقايسة ليصبح من أقوى وأجرأ نقاد الحضارة الغربية العلمية العلمانية، حين يجعل اللامقايسة ليست بين النظريات فحسب، بل بين الأنماط المعرفية ذاتها. فلا يعود ثمة مبرر لادعاء الأفضلية المطلقة للعلم الغربي بالذات على أشكال المعرفة الإنسانية الأخرى، إنه مجرد تقليد معرفي ضمن تقاليد معرفية عدة، ويجاهر فييرآبند صراحة برفضه لفلول موقف الحضارة الغربية الاستعماري حين تجعل من العلم كلمة حق يراد بها باطل، أي ذريعة لفرض نموذجها الحضاري وقهر ووأد الثقافات الأخرى، لا سيما ثقافات العالم الثالث، فتحرم البشرية من خصوبة وثراء وتعدد جوانب، إن نعمت بها تنعم بالعلم أكثر. فهل العلم الغربي المجيد مبرر أو مطية للخواء والإجداب؟!
إن هذا الاحترام لكل الأشكال الثقافية نتيجة منطقية للنسبوية المستقاة من النظرة التاريخية، التي تجعلنا ننظر إلى البنية المعرفية بالنسبة لتاريخها وظروفها، وليس في إطار معايير مطلقة. وبفضل هذه النسبوية سبق أن تغيرت نظرة علماء الأنثربولوجيا للبدائية فلم يعودوا يعتبرونها وجودا متخلفا انتهى أمره أو يجب أن ينتهي ولا شأن لها بالحضارة والعلم، بل أصبحوا ينظرون إليها كمراحل أولية قامت بدورها التمهيدي في إطار ظروفها وعصرها فاحتلت موقعها في بدايات قصة الحضارة. هذا عن البدائية، فما بالنا بالمراحل الأسبق من الحضارة، والبنيات الأسبق للعلم، بالطبع لا بد وأن يحفظ لها دورها. إن الوعي التاريخي كفيل بإضفاء الخصوبة والثراء الباذخ من كل الجوانب.
لقد بدأ فييرآبند بوبريا يستن خطى بوبر في فلسفة العلم، وهو مثله نمساوي قضى صدر الشباب في جامعة فيينا - الحاضنة الرءوم لفلسفة العلم - ثم هاجر إلى أمريكا، بينما سبقه بوبر في الهجرة إلى إنجلترا. في أعمال فييرآبند المبكرة الرصينة، وهي «بحوث فلسفية 1981م» في مجلدين: الأول بعنوان «الواقعية والعقلانية والمنهج العلمي»، والثاني بعنوان «مشكلات التجريبية»، نجده يدور حول محاور أرساها بوبر، وينطلق من عناصر الفلسفة البوبرية بوصفها مبادئ الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، ولا ضير في أن يعمل على نقدها، فهذا في حد ذاته بوبرية أصيلة، ولكنه في أعماله المتأخرة، خصوصا «ثلاث محاورات في المعرفة 1992م» الذي اختلط بقدر غير يسير من خطوط العبث واللامعقولية نجده ينقلب ليتنصل من بوبر ويهاجمه بضراوة وتهور.
أما إمري لاكاتوش فهو صديق فييرآبند الفكري وزميله في الفوضوية والتعددية، وظل رفيقه الأثير حتى آخر العمر. كان لاكاتوش قد انتحى به جانبا في حفل عام 1972م، وقال له: «إنك - أي باول - لديك أفكار مدهشة، لماذا لا تسجلها وأكتب أنا ردا عليها، وننشر هذا وذاك في عمل واحد، وأعدك بأنه سيكون مبعث سرور لكلينا.» ففعل فييرآبند وأرسل المخطوطة إلى لاكاتوش في لندن، لكنها ضاعت لأسباب مجهولة، أعادها الإنتربول وراجعها فييرآبند، وفور انتهائه من صياغة جديدة لها عام 1974م اختطف حادث السيارة إمري لاكاتوش وأجهض التشارك المزمع بينهما
52
فصدرت هذه الأفكار في كتاب «ضد المنهج» بصورته المعروفة لفييرآبند الذي ظل دائما يرفع آيات الثناء الجميل لذكرى رفيقه. وقد رأينا هذا الرفيق - إمري لاكاتوش - تلميذا مخلصا لبوبر، قيل عنه: إنه في بعض الجوانب «أكثر بوبرية من بوبر نفسه»،
53
أما توماس كون فإن دراسته «منطق للكشف أم سيكولوجية البحث؟» مكرسة لتبيان أواصر القربى بينه وبين بوبر وتماثلهما في المنطلقات وتشاركهما المبدئي في رفض الموقف الوضعي، وأن اختلافات الطريق في بعض الشعاب لن تنفي هذا أبدا.
كان هذا الفاصل البيوجرافي عن سير الشخصيات ضروريا؛ ليلقي الضوء على خلفية من العلاقات المتشابكة تساهم في إبراز هذا الرباعي الإبستمولوجي العظيم: كارل بوبر وتوماس كون وإمري لاكاتوش وباول فييرآبند، كفريق عمل متكامل، على الرغم من خلافات جمة في تفاصيل فلسفاتهم - استبينت فيما سبق. إنهم الأربعة الكبار، ممثلو الصف الأول للإبستمولوجيا، للنظرة إلى العلم من الداخل كعقلانية تواصل تقدمها. وقد شكلوا بصفة أساسية معالم فلسفة العلم في المرحلة التالية لسيادة الوضعية المنطقية، لا سيما في الثلث الأخير من القرن العشرين، تحررت فيها فلسفة العلم من القصورات والحيودات الوضعية، وأصبحت أكثر تكاملا، فأصبح العلم ذاته ظاهرة إنسانية حين انفتحت البوابة أمام الوعي التاريخي ليحتل موقعه بعد طول غياب. والوعي التاريخي بدوره يعني الوعي بالظاهرة العلمية ليس كمحض نسق منجز ومنته بمنهج متعين وخصائص منطقية محددة، بل أيضا الوعي بالعلم كفاعلية متغيرة ومتنامية ومتقدمة عبر الزمان، مما يعني أن المتغيرات الزمانية السوسيوسيكولوجية - أي العوامل الخارجية للنسق العلمي - هي قوة فاعلة وناجزة لا بد أن تؤخذ في الاعتبار.
وانضم إلى هذا الرباعي العظيم آخرون، من رجالات الصف الثاني لفلسفة العلم في أواخر القرن العشرين وخواتيمه؛ ليأخذوا الوعي التاريخي مأخذا جادا، ويعالجوا الأبعاد الحضارية والسوسيولوجية والسيكولوجية للظاهرة العلمية وسواها من موضوعات ما كانت الوضعية تسمح بمعالجتها من قبل. ونذكر في هذا الصدد جون واتكينز
J. Watkins
وقد رأيناه نصيرا للبوبرية، وهانسون
N. R. Hanson
وخصوصا كتابه «أنماط من الكشف» وماري هيس
M. Hesse ، وسواهم من فلاسفة العلم المعاصرين ... لعل أبرزهم ستيفن تولمن وميشيل بولاني.
يجمع تولمن الخير من طرفيه، فهو أداتي بارز فيسهل عليه تأكيد أن صدق المعرفة العلمية في حد ذاته ليس موضع الاهتمام، ثم يلتقي مع بوبر بعد ذلك حين يؤكد أن الاهتمام فقط بنمو المعرفة وتطورها، ويلتقي معه أكثر وأكثر حين يرى المعرفة تنمو في ضوء النقد الموجه لها. ولكنه أكثر من بوبر وعيا بتاريخ العلم، فهو يصغر بوبر بعشرين عاما تمثل مزيدا من تقدم فلسفة العلم نحو الوعي بتاريخه. رأى تولمن - بحكم أداتيته - أن تاريخ تطور معالجات المشكلة المطروحة للبحث، أهم بالنسبة للعالم الباحث من الانشغال بقضايا المحتوى المعرفي وإشكالية الصدق.
وتولمن شديد العناية بنقد الوضعية المنطقية وتوضيح قصوراتها، استند في هذا على ضرورة النظرة التاريخية للعلم، وأن الوضعية المنطقية في تناولها لفلسفة العلم ابتعدت عن تغير التصورات الذي هو التقدم الحقيقي للعلم، وحذفوا من الممارسات الفلسفية كل ما يتعلق بهذا وبعوامله.
ويرفض تولمن تماما النظرة إلى العلم من الداخل، إذا كانت مقتصرة على علاقاته المنطقية وأسسه المنهجية، بحيث إن الجديد تنحصر جدته داخل الحدود والمصطلحات المطروحة. وفي مقابل هذا، ينبغي على العلماء أن يدركوا أفق تاريخ العلم، ولا يتجاهلون أن نظرياتهم أتت في سياق نظريات أخرى سابقة هي محاولات ناجحة، تمثل معالم بارزة في تاريخ العقل وتاريخ الحضارة وتاريخ الثقافة. إن العلم - كما ينتهي تولمن - هو أولا وأخيرا كيان تاريخي ونشاط اجتماعي.
54
ويعد ميشيل بولاني
M. Polanye
صاحب أقوى نزعة علمية ضد وضعية في بحثه عن الصفة الشخصية للمعرفة العلمية، كما يعبر عنوان كتابه في فلسفة العلم «المعرفة الشخصية 1958». ويستحق ميشيل بولاني اهتماما خاصا؛ لأن فلاسفة العلم لم يهتموا كثيرا بدعاويه الجادة، ربما لأنه كان منغمسا في عمله كعالم كيمياء فيزيائية ولم يثبت حضوره بما يكفي في أوساط فلاسفة العلم، هذا على الرغم من أنه سبق فييرآبند وسحب فلسفة العلم إلى موقف نقدي من الحضارة الغربية، مؤكدا أن تمجيد المجتمع العلماني العقلاني بمعية قيم عصر التنوير هي التي أدت بالحضارة الغربية إلى العدمية والنزعات الشمولية من قبيل الفاشية والنازية والشيوعية،
55
وبالنسبة لفلسفة العلم أتى بولاني بفكرة بالغة الأهمية حين أكد على الطابع الشخصي للمعرفة العلمية. فصحيح أن العلم يبحث في عالم فيزيقي لا شخصي، إلا أن العلم ذاته نشاط ذو سمة شخصية، فلا يمكن تتبع نمو المعرفة العلمية إلا كسلسلة من أفعال أشخاص وإنجازاتهم وأحكامهم وكشوفهم، جميعها تتطلب تعهدا والتزاما شخصيا بوجهة ما للنظر، وقابلية العلم المستمرة للاختبار والتكذيب والتصويب تعني أن هذه الوجهة من النظر قد تكون خاطئة، وثمة فرض ما يجب استبعاده. وفي هذا - كما يؤكد بولاني - لا توجد قواعد محددة يمكن برمجتها في حاسب آلي، لكنها أيضا ليست مسألة هوى شخصي، أو مزاج خاص، فهي لا تتم إلا في إطار مجتمع من العلماء قد تم إعدادهم إعدادا خاصا ولهم مقصد كلي عام. كل هذا لا يقرأ مباشرة من المعطيات التجريبية، بل يتضمن وثبة عقلية خلاقة. هكذا نجد أن تفسير بولاني لظاهرة العلم يتقدم بتوازن حصيف بين جانبين هما: البصيرة الفردية لخيال العالم من ناحية، ومن الناحية الأخرى تقبل المجتمع العلمي لهذه الرؤية ودوره النقدي بإزائها. ومن الأهمية بمكان تتبع حركية العلم في إطار التوازن بين هذين الجانبين - كما يؤكد الفيزيائي بولكين هورن.
ونلاحظ أن ذاك الرباعي العظيم فضلا عن هؤلاء التالين لهم من فلاسفة الصف الثاني ينطلق من قلب القارة الأوروبية إلى الجزر البريطانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أي إنهم ممثلون لمجمل فلسفة العلم في العالم الغربي. وعرضنا السابق استضاف معهم من روسيا فيلسوف العلم شفيريف الذي يتميز عرضه بالعمق والإحاطة.
وفي هذا، يظل الخط الفرنسي جديرا بالعناية، لم نغفله فيما سبق. فقد رأينا جاستون باشلار من أئمة الثورة/الدورة ، يتقدم بمفهوم القطيعة المعرفية التي تناقض التراكم واتصالية التقدم العلمي وتبرز أكثر من سواها المنظورات التاريخية للعلم. وينبغي الآن إيضاح كيف أن باشلار قد رأى المعرفة العلمية تسير دائما عبر عقبات وقهرها، حين يتحقق الانتصار على العقبة تكون القطيعة المعرفية والانتقال الكلي إلى عقبة جديدة، ثم انتصار جديد وإنجاز جديد وقطيعة أخرى، ثم عقبة ... وهكذا دواليك في متوالية التقدم العلمي التي لا تتوقف أبدا. وتكتسب العقبة دورا محوريا في خلق قصة التقدم العلمي بهذا التلاحم بينها وبين «القطيعة»، العقبة أو العائق أو أزمة النمو العلمي «تتضمن إعادة نظر كلية في منظومة المعرفة»
56
تذكرنا بمفهوم اللامقايسة ، حتى يعرض باشلار لتكوين العقل العلمي عبر سلسلة من العقبات، وجود العقبة أو العائق يؤذن دائما بتحول جديد في المعرفة يعني قطيعة بالنسبة للمعرفة السابقة.
هكذا تحدث التحولات الأساسية التي تطرأ على العلم عندما يعيد النظر في مفاهيمه الكبرى، مما يجعل البنية الإبستمولوجية لفرضية علمية مختلفة تماما عن بنية الفرضية التالية لها في تاريخ العلم في جدليات ناشطة حقا،
57
إن الفكر العلمي فكر قلق، يبحث عن فرص جدلية ليخرج من ذاته ويكسر أطره الخاصة، وقوام البنية العلمية ليس بالتراكم، ليس لكتلة المعارف تلك الأهمية الوظيفية المفترضة،
58
الأهمية الفعلية للقطيعة، للانتصار على العقبة الذي يتحقق - كما يؤكد باشلار - بالصراع مع القديم ورفضه، بتصحيح الأخطاء فيه ورفض مواطنها، بتعبير كارل بوبر بتكذيب النظرية التفسيرية المقبولة، بالصراع مع نموذج توماس كون الإرشادي حين يكشف عن شذوذات، بالانتقال مع لاكاتوش من برنامج بحث أصبح تدهوريا إلى آخر يبدو تقدميا. وتلتقي القطيعة المعرفية لباشلار مع التعددية المنهجية لفييرآبند أكثر وأكثر، فعن طريقها يؤكد باشلار أن العلم حين يغير مناهجه يصبح أكثر منهجية، فالروح العلمية تأمل دائما في استنفاد إمكانيات المنهج المعمول به لتعلن انتهاءه، فيظهر منهج جديد في سلسلة من القطائع المنهجية والاستحداثات المستمرة دوما.
ولكل هذا رفض باشلار تماما إهمال المتغيرات التاريخية أو اعتبار العقل العلمي ثابتا يتدفق عبر الزمان، وأكد أن الذات في العلم ذات تاريخية؛ لأن المعرفة العلمية ليست إلا قوة متطورة عبر التاريخ. رفض باشلار كل صور الوضعية وأولاها وضعية مواطنه أوجست كونت مؤكدا أننا لا نحيا في مرحلتها أبدا، بل ربما في مرحلة رابعة لمراحل كونت الثلاث، فهي مرحلة قطع فيها العلم صلته بالحس المشترك ومعرفة الخبرة العادية التي كانت متفقة مع وضعية كونت، وفي كل هذا كان باشلار صاحب فضل كبير في إنهاء النظرة إلى تاريخ العلم أو ماضيه كسجلات لإزاحة الجهل، وعلمنا كيف أن تاريخ العلم مقدمة لفهم الظاهرة العلمية، مقدمة ضرورية لفلسفته.
ويبقى جان بياجيه
J. Piaget (1896-1980م) من أهم الذين واصلوا المسير في مثل هذا الطريق، لم تتسع له المعالجة السابقة ولا نستطيع أن ننهيها مغفلين ذكره. وبياجيه بعقليته المتعددة الأبعاد، ينتمي بجدارة إلى فئة العالم/الفيلسوف، إنه رائد علم النفس الارتقائي وعلم نفس الطفل. بحث تطور إدراك الأطفال للمفاهيم والتصورات العلمية، أولا الرياضية، وثانيا الفيزيائية، وثالثا البيولوجية والسوسيولوجية والسيكولوجية. بحث تطور مفاهيم الرمز والعدد والهندسة وتمثيل الفراغ، الزمن والحركة والسرعة، العلية والصدفة والحكم والاستدلال، الصورة الذهنية والحكم الخلقي ... إلخ عبر مرحلتي الطفولة الباكرة والمتأخرة. ثم رأى أن نمو إدراك هذه المفاهيم بمثابة صورة مصغرة للتوجهات الأساسية في نماء المعرفة البشرية، فربط بينها وبين فلسفة العلم المسلحة بتاريخه، ونزع إلى أن تكون الإبستمولوجيا علما مستقلا، لكن مرتبطا ببقية العلوم، ودرس في كتابه «الإبستمولوجيا التكوينية 1950م» المعرفة العلمية في تاريخها ومسار تشكلها الاجتماعي، المستند بدوره إلى أصول سيكولوجية، ثم أسس المركز العالمي للإبستمولوجيا التكوينية في جامعة جنيف، حيث عمل معه متخصصون في علم النفس والبيولوجيا والرياضة والمنطق لبحث ارتقاء المفاهيم العلمية، وخرجت الأبحاث في «دراسات في الإبستمولوجيا التكوينية 1971م».
في كتابه «حكمة الفلسفة وأوهامها 1965م» يحاول تحديد العلاقة بين الفلسفة والعلم، ويقول إن أكبر المشاريع في تاريخ الفلسفة تكونت من التفكير في المشروع العلمي المطروح في عصرها، مما يعني أن فلسفة العلم هي أخصب فروع الفلسفة، وعليها النظر إلى العلم في نموه وارتقائه، فإذا كانت المعرفة العلمية تتشكل وتتكون، فكيف ننظر إلى المنجز الراهن كثابت منته ونغفل أصوله التاريخية؟! إن المنجز الراهن - كما يؤكد بياجيه - محض وضع تاريخي يختلف عن سابقه، وسوف يختلف عنه لاحقه؛ لذلك ينبغي العناية بارتقاء هذه العملية المتوالي، الذي يتضمن تحولا مستمرا وإعادة تنظيم مستمرة. لكل هذا تتدخل العوامل التاريخية والاجتماعية والسسيكولوجية ... كعوامل بالغة الأهمية، إذا رمنا تفهما حقيقيا لطبيعة المعرفة العلمية، ولم يفت بياجيه التأكيد على اختلاف هذه النظرة تماما عن النظرة التي تبحث عن تبرير المعرفة العلمية ومعايير صحتها، بيد أنه اختلاف في اتجاه التكامل والتطور. لقد دارت بينه وبين جورج مور مناقشات حادة يحاول فيها إثبات عقم التحليلات الخالصة وأهمية أنظمة العمليات . الذكاء نفسه مجرد نظام عمليات. والرياضيات بأسرها هكذا، ولا جدوى من النظرية التحليلية السكونية، والإبستمولوجيا دائما في حاجة إلى النظرة الحركية، التي تبلغ أقصى انطلاقتها عبر التطور التاريخي.
إذن فقد بلغ الوعي التاريخي مع فييرآبند أقصى انطلاقة، بعد أن عم وساد في أرجاء فلسفة العلم.
سادسا: هذا التطور في فلسفة العلم وآفاقه
هكذا قطعت فلسفة العلم في القرن العشرين طريقا شاقا وطويلا ذا مراحل متتالية، من وضع بلغ حالة ضد تاريخية إلى وضع يتسلح بالوعي التاريخي ويستقبل على الرحب والسعة المنظورات التاريخية للعلم، بكل ما سيحمله هذا من خصوبة ورحابة آفاق مستقبلية.
لقد ترددت - بفعل اندفاعات فييرآبند وسواه - أراجيف بشأن انتهاء سؤال المنهج أو بلوغه طريقا مسدودا، والواقع، كما يقول جوزيف ماجوليس بعبارته الرصينة والعميقة حقا، إن سؤال المنهج قد سقط من الاعتبار فقط بوصفه شفرة مدونة تعبيرا عن الولاء لفئة فرعية من المعتقدات انبثقت عن العقيدة العلمية المركزية - أي التجريبية - معتقدات تشكلت في مرحلة أسبق من العلم الحديث، واستنفدت الآن مبرراتها. إذا صح هذا ينبغي أن نعمد - والحديث ما زال لمارجوليس - إلى استغلال مميزات الموجة المساعد على الكشف الكامنة في استحضار المناقشات الأسبق، بغير أن نقع في شراكها الاصطلاحية،
59
وهذا ما فعلناه في تحليلاتنا السابقة التي خلصت إلى أن سؤال المنهج لم ينته، بل واصل سيره حتى أصبح نظرة إبستمولوجية، شاملة وليس مجرد خطوات سائدة - كشفرة رمزية. ومهما يكن الأمر فسوف نرى كيف أن انبثاقة الوعي التاريخي قد بعثت حياة دافقة في شرايين فلسفة العلم، أكسبتها حيوية ونضارة وشبابا متجددا، يطرح أمامها مستقبلا رحيبا حاملا دوائر يتوالى اتساعها لتساؤلات مستجدة لا تنتهي ... ومتى كانت النهاية تلحق بعنقاء الفلسفة؟!
بداية، إذا كان الوعي التاريخي يعني الوعي بالظاهرة العلمية، ليس كمحض نسق منجز ومنته، بمنهج متعين وخصائص منطقية محددة، بل أيضا الوعي بالعلم كفعالية إنسانية متنامية ومتغيرة عبر تيار الزمان، فلا شك أن هذا التطور في فلسفة العلم يرتد - في جانب منه - إلى ما تزامن معه من تسارع التقدم العلمي وتصاعد معدلاته تصاعدا غير مسبوق، بلغ الذروة بتسخير الكومبيوتر بإمكانياته الجبارة كأداة عملاقة في يد العبقرية العلمية المبدعة، التي بدا واضحا الآن أنه لا حد ولا نهاية لإمكانياتها المتوالية. فهذا هو الذي علم فلاسفة العلم اللاحقين أن العلم لم يعد البتة بناء مشيدا من المعرفة المنجزة المثبتة، تبحث الفلسفة في تبريرها وتبرير صحتها ومصداقيتها، بل العلم فعالية منطلقة وكشوف متوالية تصوب ذاتها وتتجاوزها بثورات/دورات مظفرة، لا تهدأ ولا تسكن أبدا.
وكما رأينا، كانت الوضعية المنطقية بنزعتها الضد تاريخية أقوى المدافعين وآخرهم عن منطق التبرير الذي يقتصر على بحث العلاقة بين النظرية والملاحظات التجريبية ورفضت بشدة منطق الكشف على أساس أنه متعلق بعوامل لا منطقية ولا تحليلية. وكان انتقال فلسفة العلم إلى موقف الوعي التاريخي مرتهنا بانتقالها من منطق التبرير إلى منطق الكشف والتقدم والثورة، فيما يعد تقويضا لأسس النظرة الوضعية السكونية التبريرية الضد تاريخية، تقويضا لعوامل نفي البعد التاريخي، ليتسع له المجال فيما بعد.
ولما كان كارل بوبر صاحب الفضل السابغ في الانتقال من منطق التبرير إلى منطق الكشف والتقدم، كان بدوره الرائد الجسور الذي أنجزت فلسفة العلم تحت رايته هذا العبور العظيم إلى الضفة الأخرى من القناة؛ ليواصل الزحف من بعد بوبر قواد آخرون لألوية في جيوش فلسفة العلم، تصل إلى العمق الاستراتيجي للوعي بتاريخ العلم، وتحصن مواقعها، فلا تقبل معاهدة ولا تطبيعا مع جيوش الضد تاريخية المدحورة .
لم تعد أوساط فلسفة العلم الآن ترحب بنظرية تفشل في الاشتباك مع الوعي بتاريخ العلم، وأصبحت كل فلسفة لا تاريخية للعلم هي فلسفة عاجزة عن أداء مهامها باقتدار، أو هي - بتعبير لاكاتوش - خواء. فمضامين النظريات العلمية ذاتها، فضلا عن مفاهيمها ومصطلحاتها - ومن قبل ومن بعد مناهجها - مرتبطة ومتكاملة مع تطورها التاريخي، ونحن في حاجة إلى فلسفة لتاريخ العلم، تنظر إليه بوصفه مستودعا زاخرا بالتصورات والرؤى التي تعين الفلسفة على تفهم حركية العلم، وتقوم بتوظيف تاريخ العلم كأداة تحليلية ونقدية للمفاهيم العلمية في نشأتها ونموها وتطورها عبر صيرورة التقدم العلمي. وصحيح أن العلم أولا وقبل كل شيء نشاط عقلاني نظري، لكن ليس هذا كل ما في الأمر، العلم نمط من الممارسة المعرفية للإنسان، ممارسة ككل ممارساته لا تتأتى في جزائر منعزلة، بل في سياق جمعي مؤسسي. فلم يعد مرغوبا النظر إلى العلم فقط بوصفه محض نشاط نظري عقلاني معرفي خالص، يحكمه أولا وأخيرا تعقب مزيد من الصدق. النظرية لا تنفصل عن إطارها، أو بتعبير توماس كون، نموذجها الإرشادي، وظروف وشروط نشأتها، بل وأهدافها وأغراض البحث الذي تمخض عنها حتى يمكن وصف العلم بأنه نشاط غائي يهدف إلى تحقيق غاية مسبقة.
60
والإبستمولوجيا التي استأثرت بالميدان طوال عهود غياب البعد التاريخي لم تعد كافية إذا رمنا تفسيرا شاملا للظاهرة العلمية وتقدمها المتوالي. المطلوب لتحقيق هذا فلسفة تاريخية تنظر إلى العلم كتنام إبستمولوجي، وبوصفه نشاطا إنسانيا اجتماعيا متغيرا ومتطورا. ويعني هذا ضرورة استيعاب الإبستمولوجيا وتجاوزها إلى أنطولوجيا للعلم - إن جاز التعبير - تستلزم فلسفة تاريخية وتاريخا فلسفيا للعلم.
61
ومن الناحية الأخرى أو الوجه الآخر للعملة، تغيرت النظرة إلى تاريخ العلم، فلم يعد مجرد سلسلة متوالية من الإجراءات الناجحة والكشوف المتعاقبة أو سير لشخصيات عظيمة وسجل زمني لتتابع مكتشفات العلماء، أو مجرد ترتيب زمني لوقائع متعلقة بكل هذا، بل هو رؤى تتخلق وتنمو وتتطور وتتبدل وتتعدل، وكأننا بإزاء أحداث الدراما الكبرى للفكر الإنساني، وقد تبوأ العلم دور البطولة المعرفية بلا منازع. وكان إنجاز توماس كون العظيم في تمثيل تاريخ العلم كتاريخ رؤى للعالم تفرضها النماذج القياسية الإرشادية المتوالية. لذا فكل تاريخ للعلم لا يتسلح بنظرة فلسفية هو تاريخ مصاب باعتوار قاتل، بل هو - كما أوضحت تحليلات إمري لاكاتوش - تاريخ أو تاريخ مستحيل أصلا.
يمكن اعتبار هذه الأطروحة وقد لاقت تطبيقها في دراسة جوزيف أجاسي
J. Agassi
نحو أصول لتأريخ العلم
Towards a Historiography of Science
الصادرة عام 1963م مع دراسة جرينباوم
A. Grünbaum
عن نظرية النسبية الخاصة كحالة أو مثال يوضح مدى أهمية فلسفة العلم بالنسبة لتاريخه. فقد انكبا على تبيان أن كل تأريخ للعلم مثقل بافتراضات فلسفية، في تطبيق أكثر عينية للخطوط العامة التي حملتها معالجة لاكاتوش للميثودولوجيات المختلفة. مثلا إذا تبنى المؤرخ التجريبية المتطرفة الاستقرائية ورأى الوقائع الملاحظة تفصل القول في النظرية، انصب تأريخه على التجارب الفاصلة في تاريخ العلم، بينما يهتم آخر بالإشكاليات النظرية وأوجه التناقض ومناقشات المجتمع العلمي، وكأننا بإزاء فيلسوف التاريخ الشهير بندتو كروتشة
B. Croce (1866-1952م) وهو يؤكد أن كل مؤرخ فيلسوف شاء أو أبى. وقد كان أجاسي أكثر توفيقا في إثبات أن أي تصنيف لوقائع التاريخ العلمي يفترض قبلا معايير فلسفية عن خصائص العلم التي تجعل الواقعة علمية، ومعيارا واضحا للتقدم العلمي يصنف على أساسه واقعة معينة بوضعها في سياق التطور العلمي. أما إذا انتقلنا من تأريخ التاريخ إلى تفسير تاريخه فبديهي أن دور المعايير الفلسفية سيصبح أشد وضوحا وأكثر فعالية، إن لم تستأثر بالميدان.
أجل! تاريخ العلم وفلسفته مبحثان مختلفان ومتمايزان، لكنهما بنفس القدر يتكاملان. ولئن كان «يظن فيما مضى أن تاريخ العلم يبحث في وقائع وأحداث التطور العلمي، أو كيف كان العلم، أما الفلسفة فهي تبحث في معيار تقويمي لهذا التطور وكيف ينبغي أن يكون العلم، فقد اتضح الآن أنه لا تعامل مع وقائع بدون معيار، ولا تقويم بدون أحداث.
62
إنه شعار لاكاتوش الشهير «فلسفة العلم بدون تاريخه خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفته عماء»، والذي ألقى ضوءا كاشفا على التمييز بين التاريخ الداخلي للعلم وتاريخه الخارجي.
هكذا أعادت الأوساط المعنية بالظاهرة العلمية ترتيب أوراقها، بحثا عن نسيج لحمته فلسفة العلم وسداه تاريخه، بعد أن تجلت العلاقة التكاملية التبادلية الوثيقة بينهما، هذا بغير أن تتماوه الحدود بين النظرة إلى العلم من الداخل والنظرة إليه من الخارج. وقد اهتم فيلسوف العلم الفرنسي جورج كانجيم
G. Canguilhem
بإبراز التقابل بينهما. النظرة الداخلية
internal
الإبستمولوجية معنية بالعلم كفاعلية تخصصية مستقلة، كعقلانية إبستمولوجية - أو ما أسماه لاكاتوش الميثودولوجيات، تنصب على الأدوات الداخلية للنسق العلمي كدور الرياضيات والملاحظة والتجربة والفرض، والتنبؤ والتفسير ... إلخ. وهي تحمل الشروط الضرورية لكنها ليست كل الشروط. هناك شروط أخرى، غير كافية بمفردها لكنها فعالة، نجدها في النظرة إلى العلم من الخارج، النظرة الخارجية
external
إلى العلم كنشاط إنساني يتأثر بأبعاد الحضارة الإنسانية ويؤثر فيها، ها هنا العوامل الاجتماعية والسيكولوجية والاقتصادية والسياسية والتقانية والبيئية ... إلخ لا تتدخل مباشرة في المحتوى المعرفي أو في صميم مساره، لكنها تؤثر تأثيرا فعالا في تسارع أو تباطؤ التقدم العلمي، وقد تكون عامل بعث أو عامل وأد، كما نتبين - خصوصا - من تحليل نشأة وانهيار الحضارات الكبرى في التاريخ.
إن العلم لا يتقدم، ولا ينفسح المجال أصلا للجهود الإبستمولوجية، ما لم ينشأ في بيئة ثقافية متساندة تملك بواعث هذا التقدم؛ «لأن العلم لا يعمل وحده في فراغ، بل هو يفلح أرضا مهدتها الثقافة السائدة من قبل أو تركتها صعيدا زلقا»،
63
إنه كما يقول جون ديوي يعمل في نطاق مؤسسة ثقافية تستوعب كافة الشئون الثقافية التي كانت قد استقرت حتى يمكن أن يتقدم العلم ذاته. والدور الأساسي للعبقرية الفردية في الكشف العلمي لا ينفي بحال أن العلم ليس البتة ظاهرة منعزلة تنمو بقدرتها الذاتية أو قوة دفعها الخاصة أو لا تخضع إلا لمنطقها الداخلي البحت، فتفاعل العلم مع المجتمع حقيقة لا سبيل لإنكارها،
64
ولا جدوى من هذا الإنكار.
إن العوامل الاجتماعية علة فاعلة وناجزة حتى في أبعد العلوم عن الواقع الاجتماعي وعن علم الاجتماع، ولعلها الرياضيات والفلك. الرياضيات هي ذاتها النظرة الصورية المجردة عن أي تشكل متعين، وناهيك عن التشكل الاجتماعي. وعلم الفلك يتعامل مع كيانات هي - بتعبير هنري بوانكاريه الطريف - بعيدة جدا عن الصراعات الانتخابية، ولا يحتمل أبدا أن تدلي بصوتها أو تشارك فيها بحال ولن ينفق الساسة الناجحون أموالا طائلة على الأبحاث الفلكية. فهل الرياضيات والفلك ينفصلان حقا عن الواقع الاجتماعي؟
أما الرياضيات - فمثلا - إنجاز العرب البارز فيها وعلى مفترق الطرق بين الحساب والهندسة وبين الحساب والجبر لا يمكن فصله عن احتياج الحضارة الإسلامية الملح للتقاويم وتحديد مواقيت الشعائر واتجاه القبلة، وطرق الحجيج والتجار، والتوفيق بين التقويم الهجري القمري الذي تعمل به الدولة الإسلامية والتقويم الميلادي الشمسي الذي يحدد مواسم الحصاد، وبالتالي أوقات جباية الزكاة والضرائب والجزية في الأمصار الزراعية التي دانت للدولة الإسلامية، وحساب نفقات كل هذا، ونفقات الجيوش الجرارة وتوزيع أنفالها ونفقات المشاريع العمرانية الضخمة ومشاكل المساحة تقسيم الأراضي ثم نظام المواريث المعقد والدقيق في الشريعة الإسلامية، وحساب أثمان الجواري والعبيد الذين هم القوة الإنتاجية التي يستثمر فيها المال، ولكن يتناقص الثمن تدريجيا كلما تقدم بهم العمر. وبالمثل، الإنجازات الفلكية التي شكلت العمود الفقري للعلم الحديث منذ الثورة الكوبرنيفية وقوانين كبلر وكشوف جاليليو حتى إنجاز نيوتن العظيم ... فهذا لا يمكن فصله عن اكتشاف العالم الجديد واتساع حركة الملاحة العالمية وانشغال العصر باكتشاف خطوط وطرق ملاحية جديدة.
لذا أكد كارل مانهايم
K. Manheim (1893-1947م) أن كل العلوم حتى المتخصصة جدا يمكن النظر إليها بوصفها قابلة للتشكل اجتماعيا، فضلا عن عبثية محاولة الوصول إلى أية حقيقة بصورة مستقلة عن المعاني الاجتماعية والتاريخية.
65
يعد كارل مانهايم مؤسس علم اجتماع المعرفة
Sociology of Knowledge ، والذي انبثق عنه علم اجتماع العلم أو سوسولوجية العلم، وقد لامسنا حدودها مع توماس كون.
تنقسم سوسولوجية العلم إلى سوسيولوجيا معرفية
Cognitive
وسوسيولوجيا لا معرفية
non-Cognitive
للعلم. هذه الأخيرة اللامعرفية تبحث أثر العوامل الاجتماعية في التشكلات الخارجية للظاهرة العلمية، أسباب ومبررات نشأة معامل ناجحة في مكان ما، ارتفاع نسبة العلماء في تخصص معين في زمان ما، نمو واضمحلال التخصصات العلمية، احتياج ومتطلبات العلم من حيث هو مؤسسة، نزاهة أساليب منح ومنع الجوائز والبراءات، المسارات المتغيرة لمستقبل العلماء ... وأمثال هذه الظواهر العلمية التي شكلت موضوعات مدرسة الدراسات الاجتماعية للعلوم في أمريكا، والتي ارتبطت على وجه الخصوص بأعمال روبرت مرتون
R. Merton .
أما سوسيولوجيا العلم المعرفية، فهي تبحث في أثر العوامل الاجتماعية في تشكيل تصورات العلماء ومفاهيمهم، جذورها وأصولها الاجتماعية، كيف تكونت ولماذا دعمها المجتمع، خصوصا المعتقدات التي لا تكفي العوامل الإبستمولوجية والقرارات الميثودولوجية - أي العقلانيات - لتبريرها. وتتفاعل سوسيولوجيا العلم مع فلسفة العلم وتتكامل معها إلى أقصى الحدود. في السوسيولوجيا اللامعرفية أكد روبرت مرتون على دور العالم الفرد، لكن في سياق عالمية العلم. العالمية تعني الحكم على الإنجازات العلمية بمعايير موحدة في أي مجتمع علمي في العالم أجمع. حاول مرتون تحديد هذه المعايير
66
في إشاعة النتائج بين الباحثين، والنزاهة والأصالة، بمعنى أن يكون الإنجاز العلمي إبداعا أصيلا للباحث وليس مسروقا أو منحولا أو ملفقا، وأيضا معيار الشك المنهجي الذي يذكرنا بالاختبارية ومحاولات التكذيب، على الإجمال تماثل هذه المعايير ما بحثه توماس كون تحت عنوان القيم التي هي محكات لتقويم الإنجازات العلمية والمفاضلة بينها، وتسهل ملاحظة كيف أن معايير مرتون وقيم كون على السواء تتشارك معا في شغل منطقة وسطى، لن تملأها القيم الاجتماعية بمفردها، ولا المعايير المنهجية الفلسفية بمفردها.
أما الفرع الآخر من سوسيولوجيا العلم، وهو السوسيولوجيا المعرفية، فأكثر اتصالا بفلسفة العلم ويشتبك معها مباشرة بحيث يمثل رافدا لها. مثلا صدرت عام 1961م في مجلة
Science
دراسة إمبيريقية رصينة لعالم الاجتماع برنارد باربر
B. Barber
ذي النزعة الوضعية التجريبية الحادة، موضوعها «مقاومة العلماء للكشف العلمي»، حاولت استكشاف العوامل التي تجعل عالما يميل لرفض مكتشفات وأفكار جديدة. وكشفت الدراسة عن عوامل تكاد تكون الصورة المعاصرة لأوثان فرنسيس بيكون. وقد وضع برنار النظرة المنهجية والنظرة اللاهوتية بوصفهما اثنين من أهم العوامل التي تدفع العالم إلى الوقوف في وجه الأفكار الجديدة. وليست تتكامل هذه الدراسة مع أوثان بيكون في القرن السابع عشر فحسب، بل من السهولة بمكان تصورها وهي تتكامل أكثر وأكثر مع المقولات الإبستمولوجية الحديثة، من قبيل التحصين ضد التكذيب وما تلقاه باكورة محاولات الخروج عن النموذج الإرشادي من مقاومة. وكد العلماء لطرح فروض مساعدة تشكل حزاما واقيا للنواة الصلبة في برنامج بحثهم وتدعيمها كي يواجه الشذوذات المستجدة ...
هذا المثال يوضح إلى أي حد تغذي سوسيولوجيا العلم في جانبها المعرفي فلسفة العلم، وتتكامل معها إلى حد أن يتداخلا في بعض المواقع، وفلسفة العلم؛ إذ تستفيد من هذا المبحث فإنها مدينة بقدر ما هي دائنة له، فكما قيل بحق: «ظهور البرنامج القوي في الدراسات الاجتماعية للعلوم لا يمكن أن يحسب له حساب دون الرجوع إلى التطورات التي صاحبت ذلك في مجال فلسفة العلوم - التي لم تعد تضع أية حواجز أمام التفسيرات المبنية على الدراسات الاجتماعية .»
67
وكان الوعي التاريخي لا سواه هو الذي أزال تلك الحواجز، فضلا عن أن أي تطبيق للتحليل الاجتماعي على تاريخ المعرفة العلمية يستلزم قبلا تطور التاريخ العقلاني للعلم الذي تنجزه فلسفته
68
وبخلاف الوعي بتاريخ وفلسفة العلم، يضيف توماس كون عوامل أخرى أدت إلى تنامي الاهتمام بسوسيولوجيا العلم مؤخرا، عوامل من قبيل دراسات التاريخ العام وعلم الاجتماع الألماني والفلسفة الماركسية ...
69
والحق أن توماس كون شخصيا من أقوى هذه العوامل، وإذا استعرنا المصطلحات السابقة، يمكن القول إن سوسيولوجيا العلم تبحث في العوامل الاجتماعية للعلم من الخارج، من حيث علاقاته بالبنية الاجتماعية ككل وبوصفه إحدى - أو حتى أهم مكوناتها. أما توماس كون، فقد وجه الانتباه إلى أهمية سوسيولوجيا العلم من الداخل، شبكة العلاقات والعوامل التي تحكم مجتمع العلماء من حيث هو مؤسسة، والتي حاول كون أن يؤطرها بالقالب المبحثي وقالب المثلية.
وأصبح البحث في سوسيولوجيا المؤسسة العلمية مطلبا ملحا بعد أن تعاظم شأنها في الواقع الراهن، حتى قيل إن عدد العلماء أو المشتغلين بالبحث العلمي الآن ثلاثة أرباع الذين اشتغلوا بالبحث العلمي طوال تاريخ البشرية! أما نسبتهم إلى إجمالي عدد السكان فلا تقارن بأي عصر مضى، فضلا عن تعقد لغتهم الرمزية وارتفاعها تماما عن مستوى الفهم العام بدون إعداد دراسي طويل يستغرق خير سني العمر، ومعداتهم وأجهزتهم بالغة التعقيد باهظة التكاليف، وصميم العمل الذي يؤدى في البحث العلمي، وهو عمل ذو كم وكيف، وبالتالي نتائج وآثار ومردودات لا تضاهى. فبات العالم المعاصر وبين ظهرانيه أمة من العلماء تفوق عددا وعدة وعتادا وإعدادا أمما أخرى كثيرة، لا بد أن لها هي الأخرى قوانينها ومنظوماتها الاجتماعية.
لقد تأخر ظهور البعد السوسيولوجي في فلسفة العلم كثيرا، ربما بسبب تأخر نمو علم الاجتماع ذاته، بينما كان هذا البعد يستلزمه منذ البداية الطابع الجمعي التعاوني الذي صاحب العلم الحديث منذ نشأته، بل منذ أن بشر فرنسيس بيكون بهذا في «أطلانطس الجديدة» عام 1627م المدينة العلمية الفاضلة، حتى تم اعتماده رسميا بنشأة الجمعيات العلمية إبان القرن السابع عشر وأولها «أكاديمية التجربة العلمية» التي أنشئت في فلورنسا بإيطاليا عام 1657م، وأهمها «الجمعية الملكية» في لندن عام 1662م، ثم الأكاديمية الفرنسية في باريس عام 1666م. وتلتهما أكاديميات أخرى كأكاديمية سان بطرسبرج الروسية عام 1629م وأكاديمية برلين عام 1744 ...
70
وكان أحد انعكاسات هذا في القرن الثامن عشر أن تكاتف علماء فرنسا أجمعين بريادة العلماء ذوي الاستبصارات الفلسفية لإنجاز الموسوعة التي تهدف إلى تجميع المعارف المتفرقة، فلم يعد العلم إنجازا شخصيا أو معرفة فردية. وبمرور الأيام وتواتر التقدم العلمي يزداد العلم إمعانا في طابعه الجمعي التعاوني، بحكم العوامل الراهنة من قبيل التطور المعرفي الذي تسارع بمعدلات رهيبة بفعل الكومبيوتر وسائر التجهيزات المعملية المتقدمة وارتفاع تكاليف البحث العلمي وتعقد آلياته وضخامة برامجه، حتى برز التخطيط كقيمة كبرى في البحث العلمي، ودخلنا عهد التنظيم والإدارة والبحوث المستمرة التي تمولها المؤسسات الكبرى أو الدول. وأمام هذا الوضع لم يعد ممكنا بحال أن تغفل فلسفة العلم أبعاده السوسيولوجية، فقد انزوت تماما صورة العالم يعكف وحيدا مترهبنا متصومعا في معمله، الذي قد يكون مشيدا بقبو منزله أو في أطراف حديقته، وهي صورة العالم منذ هيروفيلوس السكندري قبل الميلاد حتى جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي وابن الهيثم وابن النفيس وصولا إلى جاليليو ووليم جلبرت في القرن السادس عشر، وروبرت هوك في القرن السابع عشر، وبريستلي في القرن الثامن عشر وكلود برنار ولوي باستير في القرن التاسع عشر، وحتى بواكير القرن العشرين كانت ماري كوري لا تزال تحتفظ ببعض ملامح هذه الصورة التي اندثرت مع النماء والتطور المعاصر. والآن كما علمنا توماس كون الرائد ينبغي النظر إلى البحث العلمي من حيث هو برنامج ضخم يعكف على تنفيذه فريق من الباحثين في إطار مؤسسة كبرى.
فهل يمكن بعد كل هذا أن تظفر الفلسفة بتفهم حقيقي للظاهرة العلمية بصرف النظر عن أبعادها الاجتماعية؟ لقد فرضت الأبعاد السوسيولوجية نفسها على فلسفة العلم من حيث فرضت نفسها أيضا الأبعاد السيكولوجية والسياسية والاقتصادية والتخطيطية والإدارية والبيئية والقيمية. على الإجمال أبعاد الظاهرة الإنسانية، جميعها انفتحت لها البوابة حين خرجت فلسفة العلم مدججة بالوعي التاريخي.
وفي هذا نلاحظ إلى أي حد نجد الوعي التاريخي كفيلا بأنسنة النظرة العلمية والروح العلمية، كما لاح للمبشرين الرواد الذين آمنوا بقيمة الدراسة المنهجية الأكاديمية لتاريخ العلم، وعلى رأسهم وليم كليفورد
W. K. Clifford (1845-1879م)، وجورج سارتون
G. Sarton (1884-1956م) وهذا الأخير رأيناه في الفصل الأول رائدا عظيما يرسم خطوط نزعة إنسانية جديدة تشتجر مع البعد العلمي على أساس من تاريخ العلم الذي يصور العلم كفاعلية إنسانية أصيلة ونبيلة.
وفي النهاية تتجلى في الضوء الكاشف للوعي التاريخي أطروحة بالغة الأهمية تؤكد ببساطة أن العلم «ظاهرة إنسانية»، إنها حقيقة أشد وضوحا من شمس النهار، وتحت غيوم المطلق النيوتني، الزمان والمكان المطلقين، غابت هذه الحقيقة عن أنظار العلم الكلاسيكي وفلاسفته، الذين رأوا العلم نسقا مغلقا معقلنا مجردا يقينيا حتميا، هو محض صورة إبستمولوجية لواقع أنطولوجي يلاحظه الباحث بحياد مطلق وموضوعية موهومة؛ ليعمم الملاحظات التي استقرأها في قوانين ضرورية الصدق، تلغي دور الفاعلية الإنسانية والإبداع الإنساني في خلق قصة العلم المثيرة والرائعة. ثم تقوضت هذه الصورة بفعل انهيار المطلق النيوتوني الحتمي الآلي الميكانيكي، باقتحام عالم الذرة وما دون الذرة، وبزوغ ثورتي الكوانتم والنسبية مع مطالع القرن العشرين. وقد ارتدت في نظرية المنهج الفرضي الذي يبدأ بفرض يبدعه العالم ثم يهبط إلى وقائع التجريب، وفي نهاية القرن يتكامل الفرض والتجربة، وتجلت الحقيقة الساطعة وهي أن العلم صنيعة إنسانية وإبداع إنساني، ونشاط إنساني وفعالية إنسانية ومغامرة إنسانية. وكما يقول مارجوليس في عمله الجاد المحيط المذكور آنفا: «علم بغير وحدة: إصلاح ذات البين للعلوم الإنسانية والطبيعة» حيث يقول: «... إن مشاريع العلم هي بصورة حاسمة إنجازات إنسانية، الصفة الجذرية للعلم بعد كل شيء أنه نشاط إنساني. كل أنظمته الجديرة بالإعجاب نصونها نحن البشر، تحت الشروط والظروف التي تجعلها أكثر في الإعجاز والروعة؛ لذلك فكل العلوم هي علوم إنسانية من زاوية إنجازها الفعلي فلا يمكن تعيين خصائصها بمعزل عن ملامح الثقافة الإنسانية والتاريخ الإنساني واللغة الإنسانية، والخبرة الإنسانية والاحتياجات والاهتمامات الإنسانية.»
71
لذلك فحتى العلوم الفيزيائية ذاتها لا تعدو أن تكون مشاريع ومغامرات إنسانية، وإذا كانت تفترض وجود عالم فيزيقي مستقل فإنها أولا وأخيرا تقبع داخل تساؤلات باحثين من البشر المثقلين بالأبعاد الثقافية.
72
ويقول مارجوليس إنه في هذا يأخذ تماما برأي توماس كون بأننا يمكن أن نتساءل عن عالم مستقل، ولكننا لا يمكن أن نقيم طبيعته بوصفه مستقلا عن تساؤلاتنا.
وبالطبع ليست المسألة تصورا لتوماس كون أو مارجوليس أو سواهما، بل هو تصور لطبيعة العلم أدت كل العوامل إلى رجحان كفته، لا سيما بعد أن تغلغل فيها الوعي التاريخي، هذا التصور هو أنسنة الظاهرة العلمية، حتى انتقلت من وضع المطلق الثابت اليقيني الحتمي الضروري الأليق بأحكام الألوهية، إلى وضع النسبوية التي هي سمة كل موقف إنساني، والتي قد تبلغ حد اللامقايسة. إن النسبوية مهما تطرفت لا تقلل بحال من شأن المعرفة العلمية، ولا تمس من القيمة الموضوعية للتقدم؛ لأنها تصادر على أن التقدم العلمي مثل التطور البيولوجي، هو تسلسل لا يقبل الارتداد أو الانعكاس، أي إنه متصاعد دائما. ويتأكد وجود الإنسان ودوره المحوري في كل مرحلة وكل خطوة من خطوات العلم. وكما يقول عالم الفيزياء النووية الرائد الذي قاد ثورة الكوانتم الثانية بمبدئه الشهير في اللاتعين، ألا وهو فيرنر هيزنبرج: «إن بناء أو نظريات العلم في أية مرحلة ليست سوى حلقة من السلسلة اللامتناهية لحلقات الحوار بين الإنسان والطبيعة، ولم يعد من الممكن أن نتحدث ببساطة عن طبيعة بحد ذاتها. علوم الطبيعة إذن تفترض وجود الإنسان. وعلينا كما يقول نيلز بور
N. Bohr
أن نأخذ في الحسبان أننا لسنا المشاهدين، بل الممثلين في مسرح الحياة.»
73
وإذا كان عالم نيوتن، تلك الآلة الميكانيكية العظمى التي تسير وفقا لقوانينها الذاتية وبفعل عللها الداخلية في زمان ومكان مطلقين، إزاء أي مراقب في أي وضع كان وبأية سرعة كانت، وكل ما عليه فقط أن يراقبه من وراء ستار إذا كان هذا هو عالم نيوتن، فإن عالم النسبية ليس هكذا البتة ولا بد من خلق أو على الأقل تحديد منظور وسرعة المراقبة. ولا تتأتى الملاحظة أصلا في العالم الكمومي أو عالم الإلكترونات والجينات بغير فرض يفترض العقل ويستنبط منه وقائع الملاحظة. هكذا أصبحت فصول المسرحية العلمية تنبثق من قلب الواقع الإنساني بحدوده المعرفية ومتغيراته التاريخية، وأصبح العلماء كما أشار نيلز بور، ليسوا فقط مراقبين أو مشاهدين، بل هم أيضا الممثلون والمخرجون والمؤلفون. فكأن العمل العلمي كالعمل المسرحي محض صنيعة للإنسان، وإن تميزت الصنعة العلمية بخصائصها ومميزاتها وفعالياتها وإيجابياتها الخاصة جدا جدا، التي تجعل العلم بلا جدال أنبل صنائع الإنسان طرا، وتاريخه أروع فصول حضارة الإنسان.
وفي النهاية ترتد أنسنة الظاهرة العلمية في هيمنة الوعي التاريخي على أجواء فلسفة العلم في الثلث الأخير من القرن العشرين. والمحصلة أن انتقلت من محض تحليلات منطقية إلى نظرة منهجية شاملة إلى فلسفة إبستمولوجية هي فلسفة الفعالية المعرفية والهم العقلي للإنسان، فأصبحت فلسفة العلم في النهاية فلسفة إنسانية حية خفاقة، لا تستغني طبعا عن رصانة المنطق، وتظل دائما تنطلق من المحور المركزي الإبستمولوجي، لكن تستوعبه لتتجاوزه، فلم تعد قاصرة حتى على المشكلة الكوزمولوجية - التي رامها بوبر في تفجيره لطاقات الميثودولوجيا، بل أصبحت مشكلة فلسفة العلم أيضا أنطولوجية وأكسيولوجية وسيكولوجية وسوسيولوجية واقتصادية وسياسية وتقانية وتخطيطية وإدارية وبيئية ... بعبارة موجزة، أصبحت فلسفة العلم في القرن الحادي والعشرين تعني تكامل النظرة إلى العلم من الداخل مع النظرة إليه من الخارج. وبرز علم الذكاء الاصطناعي وتقنيات الحاسب الآلي لتؤكد أهمية النظرة المنطقية من الداخل، بينما تبرز العوامل الإنسانية الحضارية أهمية النظرة من الخارج. لذا يمكن القول: «إن النظرة المنطقية تفلسف علم الكومبيوتر أما النظرة التاريخية فتفلسف علم الإنسان».
74
ومن جراء تفاعل كل هذه العوامل تخلق الآن علم العلم
Scientology
75
ليضم كل فروع الدراسات التي تؤدي إلى الإحاطة بظاهرة العلم، أولها بالطبع تاريخ العلم لا سيما من حيث هو رافد قوي لفلسفته التي أصبحت الآن مستعينة بسوسيولوجية العلم وسيكولوجيا البحث والإبداع العلمي، قيم البحث وقيم المجتمع العلمي الكائنة وما ينبغي أن تكون، علاقة العلم بالأطر الأيديولوجية وبالأنظمة السياسية، اقتصاديات العلم والدراسة المقارنة للمؤسسات العلمية والأسس التخطيطية لنشأتها، وتحديد أهدافها والأساليب المثلى لإدارتها، والتوظيف الأمثل لنظم المعلومات وبرامج الحاسوب وشبكة الاتصالات العالمية «الإنترنت» والإعلام العلمي على إطلاقه، أي مقروءا أو مسموعا أو مرئيا، والأشكال الأخرى لعلاقة العلم بالمجتمع، وقضية الثقافة العلمية، والاهتمام الخاص بمناهج وأساليب تدريس العلوم وإعداد العالم، وسائر أبعاد تنمية المناخ المهيئ للعطاء العلمي.
ومهما ابتعدت أو استقلت بعض فروع هذه الدراسات من الفلسفة، فإن فلسفة العلم تظل حاجة ملحة، كبوتقة ضامة تتكثف فيها كل الجهود الرامية لتفسير وتفهم ظاهرة العلم من الداخل ومن الخارج.
والخلاصة التي ننتهي إليها أن الوعي التاريخي لم يكن مجرد عامل مستجد أو حدث طارئ في مسار فلسفة العلم، بل كان ضرورة لا بد وأن تستجيب لها لتواصل النماء والتقدم، فقد جعل الفلسفة تنظر إلى العلم في ضوء تطوره التاريخي، وبالتالي عبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية والثقافية بأبعادها الشتى، ومن هنا دفع الوعي التاريخي بفلسفة العلم إلى فتح قوقعة اللؤلؤة الإبستمولوجية، وإلى أن تكف عن حصر نفسها بين أصدافها الصلدة التي تصون كيانها الجوهر.
وأدرك الرواد اللاحقون أن قلائد فلسفة العلم إذا أرادت أن تحتل موقعها اللائق على الصدر الراهن، فلا بد وأن تعمل على التكامل والتناظم بين هذا اللؤلؤ الإبستمولوجي بأضوائه المنطقية والمنهجية الوهاجة وبين فرائد أخرى للنظرة العلمية.
أجل، لا مماراة البتة في قيمة اللؤلؤ المكنونة المصونة على الدوام، بيد أن نهايات القرن العشرين تجاوزت مرحلة الافتنان والانبهار بالعلم وسر عظمته إلى مرحلة حسن تشغيله وتوجيهه، وتطويعه وترويضه لمواجهة مشكلات مستجدة بفعله، من قبيل المشكلة الإيكولوجية - مشكلة البيئة - واستنفاد الموارد ومصادر الطاقة المخزونة وتراكم النفايات والتكنولوجيات الترفيه الفارغة ومشروع الجينوم البشري وأخلاقيات الاستنساخ والتحكم في الصفات الوراثية للإنسان التعاظم المتوالي لأسلحة الدمار الشامل التي لا تستخدم إلا في استنفاد موارد الدخل القومي ... إلخ.
إن القرن الحادي والعشرين هو عصر توظيف وتشغيل المعلومة والنظم المتكاملة والتخصصات المتداخلة والبرامج المركبة ... تتعاون جميعها لسد حاجات معرفية ملحة ومتزايدة ...
واللؤلؤ وحده لم يعد يكفي.
अज्ञात पृष्ठ