إذا سألني سائل وقال: لماذا يجب عليك أن تبتعد عن القذارة إذا كنت منفردا؟ فأول ما يتبادر إلي أن هذا السائل رجل قذر، وأنه من الصعب أن أدخل في ذهن مثل ذهنه الوسخ حقيقة النظافة، ومع ذلك إذا أغضيت عن هذه الصعوبة أمكنني أن أجيبه بأن السبب في ذلك أن لي أنفا يشم. فإذا تثاقل وقال: فإذا كنت مزكوما أو فاقدا حاسة الشم مثلا، فلماذا؟ أجبته بأني أبغض أن أرى نفسي قذرا كما أبغض أن يراني الناس كذلك. فإن ألح وقال: فإن كنت في حجرة مظلمة لا ترى شيئا، فلماذا؟ أجبته بأني حتى في هذه الحالة، وليس لي أنف يشم ولا عين تبصر، لا يزال إحساسي كما كان يألم من القذر، ونفسي الإنسانية تشمئز من الدنس، ولو لم أكن كذلك لانحططت عن درجة الإنسان ولأبغضت نفسي لأنها نفس حيوان، ولما أمكنني أن أحترم تلك النفس التي لا تعرف قيمتها ولا ما يليق بها. كذلك سمعت الناس يتساءلون: لماذا ينبغي أن يكون الإنسان شريف النفس، محبا للفضيلة في الخفاء؟ وهو سؤال لا أريد أن أصرح باعتقادي فيمن يسأله.
وإذن فمرد القول بالحاسة الأخلاقية إلى أن الإنسان مفطور بطبيعته على معرفة الخير ويحس بقوة تلزمه باتباعه.
ومن أجل ذلك كان هتشسون يعلم أنه لا حاجة في معرفة الخير والشر إلى فكر ونظر، فإنه بهذه الحاسة نعرفهما سريعا، هذه الحاسة التي لا يظفر باحترامها وتقديرها إلا الأعمال الخيرة ، وإذن فليكن مرجعنا في أعمالنا هذه العاطفة أو الحاسة الأخلاقية، وليكن هديها قاعدتنا، ومن رحمة الله أنها فطرية فينا، وأن كلا منا يشعر بها تهديه سواء السبيل، وتعطفه لعمل الخير له ولأمثاله، وتكسبه سرورا ولذة لا يقدر قدرها.
15
لكن هذا المذهب برغم ما له من ظاهر مقبول بادئ الأمر، لا يصبر على النقد الصحيح. حقيقة إن المرء يحس من نفسه بارتياح واطمئنان لبعض الأعمال، وبنفور واشمئزاز من بعضها الآخر، وإن هذا الإحساس فطري فيه لا يحتاج لتفكير وروية، لكن اعتبار الضمير حاسة كسائر الحواس الأخرى، تسير في عملها على ما عرفناه آنفا، مردود بأن جعل الضمير حاسة يجعل أحكامه غير صائبة دائما، مثله في ذلك مثل سائر الحواس التي تضل كثيرا، وإذن يكون الواجب التحقق فيما يأمر به الضمير وعدم الاندفاع وراء كل ما يريد.
وأيضا هذه القوة تختلف اختلافا كبيرا في الحكم على الأعمال عند الناس بشهادة الواقع، حتى إن الأمر الواحد يكون خيرا عند فريق من الناس وشرا عند آخرين، في الزمن الواحد بالنسبة لاختلاف البيئات أو في الأمة الواحدة باختلاف الأزمان، وهذا ينافي ما يزعمونه من أنه لا دخل للتجربة أو التربية فيها. وأخيرا كيف يفسرون لنا رضاء الضمير العربي في جاهليته عن وأد الأولاد وعده خيرا، ثم حسبانه بعد الإسلام من أقبح الجرائم وأشدها نكرا، أليس ذلك أثر التربية؟
الثاني:
مذهب «كانت»، وهو أن الضمير وإن كان قوة فطرية لا كسبية، إلا أن هذه القوة عقلية لا حاسية، فهو يراه قوة فطرية عقلية وجدت كاملة في الإنسان.
وتفصيل الأمر أن هذا الفيلسوف جعل العقل الإنساني قسمين: العقل النظري والعقل العملي، والأول خاص بإدراك العالم المحس، ويعتمد في معرفته على الحس والتجارب، وهو لذلك لا يصلح أن يكون أساسا للأخلاق لأن وسائل إدراكه وهي الحواس والتجارب كثيرا ما تضل وتكون خاطئة، وكذلك يعتمد في حكمه على مقدمات غير مأمونة الصحة دائما. أما العقل العملي، وهو ما نسميه الضمير، فلا يستند في معرفته لحقائق الأشياء إلى وسائل قد تخطئ كما قد تصيب، بل هو قوة باطنة فطر عليها المرء وإن كان من الممكن تعليل أوامرها نظريا، وقد وجدت كامنة منذ الأزل وإلى الأبد، بعيدة عن التجربة والكسب ولا تتصل بالمحسوسات المادية، إنما هي شعاع من نور هبط من القوة العليا المطلقة غير المحدودة إلى النفس الإنسانية، وهو هاديها سواء السبيل، ومبين لها طريقي الخير والشر، كما أنه القاضي المعصوم، والحكم الذي لا يعتور أحكامه الضلال.
16
अज्ञात पृष्ठ