18
ويذكرنا هذا الرأي بما يراه الغزالي الذي يذهب مذهب المنكرين للوراثة العقلية، حين يقول: «والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة تعيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه.»
19
هذا ما يقوله هذان العلامتان، فهل أصابا محجة الصواب؟ إن نظرة إلى بعض الغرائز ترينا كيف ننتقل بالوراثة من جيل إلى جيل. ها هي ذي غريزة المنافسة من الواضح أنها لم تخلق مع الإنسان الأول؛ إذ لم يكن ثمة من ينافسه، وبعد حين من الدهر تكاثر الناس وتسابقوا في نيل وسائل الحياة، فوجدت هذه الغريزة التي توارثها الأجيال، وغدت دعامة متينة في التربية والأخلاق، كذلك قد يشعر الكثير منا بالخوف إذا أجنه الظلام، مع أن له في سهر رجال الأمن وإحكام داره ما كان جديرا بدافع غائلة الخوف عنه لو أن الأمر يرجع لمؤثرات خارجة فحسب، ولكن الأمر فوق هذا، فذلك الخوف مرده الوراثة، فهي التي أورثته هذه الغريزة عن أجداده الأولين الذين لم يكن لهم من وسائل الأمن ما لنا الآن.
ونعود إلى رأي الغزالي فنقول: إنه في رأي بعض الباحثين يمثل الفلسفة القديمة التي تقول: إن الطفل يولد صحيفة بيضاء، للمربي أن ينقش فيها ما يشاء. على أننا لو اعتمدنا المذهب القائل بأن الصفات والأخلاق نفسها لا تورث وإنما الذي يورث هو الاستعدادات لها، وهو رأي محترم في أوروبا؛ لكان الرأي الذي ذهب إليه الغزالي لا غبار عليه ، وخاصة وحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» يعضده ويشهد له.
أما «سبنسر» فالأمر معه سهل، فهو وإن أنكر الوراثة العقلية فقد جعل للوراثة الجسمية التي لا ينكرها شأنا في العقل؛ إذ يرى أن الأطفال مختلفون في استعداداتهم المادية، وأن لذلك أثرا في الروح قل ذلك أو كثر، ولذلك يعترف بأنه كثيرا ما يعجز المربي - مهما بلغ من حذق وأنفق من جهد - عن الوصول إلى ما يريد من الغايات.
20
من هذا نرى أنه لا فرق في النتيجة بين «سبنسر» والمثبتين للوراثة العقلية ما دام الكل يعترف بأن الطفل يخرج للحياة وفيه بعض الاستعدادات أيا كان مصدرها التي تمد للمربي يد العون في تربيته وتهذيبه. (ز) سبيل توزيع الصفات الوراثية
ليس من شك الآن في أن الوراثة حق، فكأين من آية تدل عليها، وما أكثر الظواهر الطبيعية التي لا تفسر إلا بها! لكن الباحثين فيها راعهم ألا يجدوا اطرادا في وراثة الفرع لكل الصفات التي تورث عن أصله، فشرعوا يتعرفون السنن التي تتبعها الطبيعة في هذا السبيل، وأشهر من بحث في ذلك هو العلامة مندل
Mendel
अज्ञात पृष्ठ