أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون .
المبحث الثاني
الأخلاق والعلم1
(1) تمهيد
سبق أن قلنا إن العلم هو اليقين، وعرفناه بأنه المعرفة العامة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص، وهذا التعريف لا يختلف في المعنى عما عرفه به بعضهم من أنه معرفة عامة تتجه في جهودها نحو العموم للوصول إلى الحقيقة، وسبق أن ذكرنا أن الأخلاق تبحث في تحديد الخير والشر، والحق والواجب، والمثل الأعلى، وما شابه ذلك من المعاني الكلية والبحوث النظرية. من أجل هذا يكون من الطبعي أن يتساءل كل باحث في الأخلاق عما إذا كانت تصل إلى آراء وأحكام تبلغ من العموم وقبول الناس لها حدا يجيز وصفها بأنها حقائق علمية، فتوصف الأخلاق لذلك بأنها علم من العلوم التي تقرر حقائق وقوانين عامة، هل هي دراسة عقلية أي عمل من أعمال العقل، أو دراسة مرجعها التقاليد؟ (2) الصلة بين العلم والأخلاق
على أننا نتعجل القول بأنه يعرض بادئ الأمر لمن يتساءل هذا التساؤل حقيقة واقعية تفرض نفسها فرضا، هي أن العلم على اختلاف أنواعه، كعلم الطبيعة والمنطق والرياضة والنفس والاجتماع والتاريخ والحياة مثلا، لا يعارض الأخلاق ولا يحل محلها بل يتطلبها.
العلم لا يعارض الأخلاق؛ لأن العقل العلمي يدفعنا لمعرفة الحقائق على ما هي عليه وفهمها، دون أن تتدخل في هذا البحث أية فكرة أو نظرية لم تمحص بعد، لكنه لا يمنع مطلقا أن نقابل بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، وبعبارة أخرى: معرفة الواقع والحقائق العلمية لا تحول بيننا وبين أن يكون لنا مثل أعلى أخلاقي.
العلم لا يحل محل الأخلاق ولا يغني عنها؛ لأنه يعرفنا الواقع فحسب في مختلف مناحي الكون ومظاهره، غير معني ألبتة بما كان يجب أو بما يجب أن يكون، فهو يتحقق ولكن لا يحكم. كل العلوم التي أشرنا إليها وأمثالها، حتى علوم النفس والتاريخ والاجتماع، لا تمدنا بمبادئ للسير والسلوك، ولا بقاعدة نهتدي في أعمالنا بهديها، لكنها في الوقت نفسه لا تريدنا على أن نمتنع عن طلب هذه المبادئ خارجا عنها.
علم الحياة مثلا يرينا أن الأنواع الحيوانية في تقاتل مستمر، وتنازع دائم على الحياة، القوي يفترس الضعيف، والغلب للقادر على تعديل نفسه حسب البيئة التي يعيش فيها. إذن هل لنا أن نتخذ من ذلك مبدأ لنا في حياتنا، فنقرر أن الناس - كسائر الحيوان - يجب أن يصدروا في أعمالهم عن مبدأ تنازع البقاء وبقاء الأقوى، أو يمكن أن نحكم أنهم على الضد من هذا يجب أن يتساعدوا وأن يحترم الأقوياء حقوق الضعفاء؟
وهذا علم النفس يكشف لنا الميول والعواطف النفسية، ومنها عاطفة الأثرة وعاطفة الإيثار، أليس لنا بعد أن نتبين هذا أن نعطي لكل من هذه الميول قيمته الأخلاقية؟ كذلك علم الاجتماع أتاح لنا أن العالم كان مسرحا في كثير في العصور، القديم منها والحديث، لحروب طويلة طاحنة، فهل هذا التحقق العلمي يكفينا للبت في اختيار أي المبدأين: مبدأ الاحتفاظ بروح العداء بين الأمم والشعوب، ومبدأ اقتلاع جذور العداوة وبذر عواطف العدالة والمحبة العالمية التي تسمح يوما أن نصل إلى سلم عام نهائي وأخوة متبادلة؟
अज्ञात पृष्ठ