مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف (للطبعة الألمانية)
الباب الأول: المدارس الفكرية المتقدمة
1 - المدرسة الاسكتلندية
2 - المدرسة النفعية التجريبية
3 - المدرسة التطورية الطبيعية
تذييل للفصل الثالث
4 - الجماعات المهتمة بالفلسفة الدينية
الباب الثاني: المدارس الفكرية المتأخرة
1 - الحركة المثالية الجديدة
مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف (للطبعة الألمانية)
الباب الأول: المدارس الفكرية المتقدمة
1 - المدرسة الاسكتلندية
2 - المدرسة النفعية التجريبية
3 - المدرسة التطورية الطبيعية
تذييل للفصل الثالث
4 - الجماعات المهتمة بالفلسفة الدينية
الباب الثاني: المدارس الفكرية المتأخرة
1 - الحركة المثالية الجديدة
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
تأليف
رودلف متس
ترجمة
فؤاد زكريا
مراجعة
زكي نجيب محمود
مقدمة المترجم
قد يبدو أن كتابا عن الفلسفة الإنجليزية، من تأليف كاتب ألماني، ليس أفضل الكتب التي يمكن أن تترجم في هذا الموضوع، غير أن هذا الازدواج ذاته من أهم ميزات هذا الكتاب؛ ذلك لأن مجرد كون مؤلف الكتاب ينتمي إلى بلد غير ذلك الذي كتب عنه، يتيح له النظر إلى الأمور بطريقة نقدية موضوعية يصعب أن تتوافر فيمن يكتب عن فلسفة بلاده هو؛ وذلك لأسباب واضحة؛ فالمؤلف هنا محايد لا ينتمي إلى أي مذهب من المذاهب التي يعرض لها، أو إلى أية مدرسة يؤرخ لها، فضلا عن أن السمات العامة للتفكير الإنجليزي تظهر له بوضوح أكثر مما يمكن أن تظهر به لواحد من ممثلي هذا التفكير ذاته، هذا من الناحية العامة، أما من الناحية الخاصة فإن للمؤلف علما غزيرا بموضوع الفلسفة الإنجليزية على التخصيص، بل إنا نستطيع أن نقول إنه كرس حياته كلها للتأريخ لها، فله أيضا كتاب بالألمانية عن حياة باركلي وتعاليمه
G-Berkeley, Leben Und Lehre (شتوتجارت، مكتبة
Frommann
في سنة 1925) وآخر عن ديفد هيوم، حياته وفلسفته
D. Hume, Leben Und Philosophie (بنفس المكتبة، سنة 1925) وله قائمة بمراجع الفلسفة الإنجليزية بعنوان الفلسفة الإنجليزية الحالية
Englische Philosophy der Gegenwart
في سلسلة أبحاث في ميدان الفلسفة
Berichte aus dem Gebiele Der Philosophie
العدد 23، ومقال بالفرنسية بعنوان أصدقاء هيوم الفرنسيون وحركة الأفكار
Les amitiés françaises de Humeetle Mouvement des Idèes
في «مجلة الأدب المقارن
Revue de Littérature comparée
1929» ص644-713، ومقال بالإنجليزية عن الاتجاهات الأخيرة في التفكير الأخلاقي
Recent Trends in Ethical thought
في مجلة
1939، العدد 14، ص299-312، ومن هذا الإنتاج الهام، المتخصص، يتضح لنا أن المؤلف أصلح من يكتب في هذا الموضوع.
وفضلا عن ذلك فإن الكتاب - كما يقول المؤلف في مقدمته - يمثل محاولة للتفاهم بين الألمان والإنجليز في وقت كان البلدان فيه أحوج ما يكونان إليه، ومن المؤكد أن حدس المؤلف في هذا الصدد كان صادقا، ولكن المحاولة - شأنها شأن محاولات أضخم بكثير في مجالات أخرى أهم - قد أخفقت، ونشبت الحرب العالمية الثانية في العام التالي لنشر الترجمة الإنجليزية لكتابه، وضيعت جزءا كبيرا من مجهوده؛ إذ إن إعادة التفاهم الثقافي بين البلدين قد استغرق وقتا طويلا، وعندما بدأت مظاهر هذا التفاهم تعود ثانية إلى الأفق كان الجو الفلسفي في إنجلترا قد تغير إلى حد بعيد، بحيث لم يعد الكتاب يعبر عن آخر الاتجاهات المعاصرة في التفكير الإنجليزي تعبيرا كاملا.
على أن محاولة المؤلف أن يكون موضوعيا تماما في بحثه للفلسفة الإنجليزية لم تكن في رأينا ناجحة كل النجاح، وما أظن أن أي مؤلف غيره كان قادرا على أن يحرز في هذا المضمار نجاحا أكبر مما أحرز؛ فرغم حرصه الشديد على النزاهة والموضوعية، يستطيع القارئ المدقق أن يلمس مظهرين للتحيز، يعبران دون شك عن ميول شخصية لا يستطيع أي كاتب أن يخفيها تماما مهما بذل في ذلك من جهد؛ الأول هو حرصه على إظهار أهمية تأثير الفلسفة الألمانية في الفكر الإنجليزي، والثاني هو ميله إلى الطريقة التأملية الخالصة في التفكير الفلسفي، وإلى تشييد المذاهب الفكرية الشاملة، في مقابل الطريقة الجزئية الواقعية في التفكير، والتماس الحلول الجزئية المدققة مع تجنب الإفراط في التعميم.
أما المظهر الأول - وهو حرصه على إظهار أهمية المفكرين الألمان - فيظهر أوضح ما يكون - بطبيعة الحال - في الفصل الخاص بالتفكير المثالي، ففي هذا الفصل حرص على تفنيد قضية «مويرهيد» وغيره، القائلة: إن بذور المثالية كانت موجودة في التفكير الإنجليزي على الدوام، واتجه همه إلى إثبات أن الحركة المثالية الجديدة كانت مستوردة تماما من ألمانيا، مع تكييفها بما يلائم الظروف المحلية بالطبع (انظر بوجه خاص صفحتي 530 و531 من الطبعة الإنجليزية). وقد يكون لرأيه هذا ما يبرره من الوجهة التاريخية ، غير أن المرء عندما يلاحظ تمجيده لشخص مثل «سترلنج» وتسميته إياه «رائدا» في الوقت الذي قضى فيه سترلنج الجزء الأكبر من حياته يحاول فهم فيلسوف ألماني هو هيجل، فإنه لا يملك إلا أن يشعر بتأثير اعتزاز المؤلف بفلسفته القومية الألمانية من جهة، وبوجود نوع (قد يكون لا شعوريا) من الحط من شأن الفلسفة الإنجليزية، حين يصبح أحد «روادها» مجرد شارح غير كامل لهيجل!
وأما الموضوع الثاني - وهو تمجيد الفكر التأملي على حساب الفكر التحليلي - فهو واضح في كل أجزاء الكتاب؛ إذ إن تحمس المؤلف كله إنما ينصب على من تميزوا «بالجرأة» من المفكرين الإنجليز، فتعالت شطحاتهم على التجربة، وأصدروا على الكون كله أحكاما عامة قطعية، دون أن يعبئوا على الإطلاق بتحقيق هذه الأحكام، ولقد قدم لنا المؤلف وصفا رائعا لرأيه في الفلاسفة التحليليين، الذين يهتمون بمشاكل جزئية ويدققون النظر فيها حتى تغيب عنهم الأمور الكلية تماما، في كلامه عن الفيلسوف، «برود
G. D. Broad » الذي اتخذه ممثلا لهذا «النمط» التحليلي في التفكير؛ ففي ص663 و664 (من الأصل الإنجليزي) وصف بديع، حافل بالسخرية الخفية، من هذا النمط من المفكرين، الذي ينافس الآلات في موضوعيته ودقته و«بروده»، وهو وصف يستحيل أن يصدر عن مفكر إنجليزي، بل يعبر بوضوح عن رأي العقلية الألمانية الصوفية في النزعة التحليلية الأنجلوسكسونية المعاصرة.
وعلى أساس هذا الميل الطبيعي لدى المؤلف، اتخذت نبوءاته عن مستقبل الفلسفة الإنجليزية وجهة خاصة كانت في واقع الأمر تعبيرا عما يريده هو أن يكون، ولكنها جاءت مخالفة تماما للواقع، فبعد مضي ربع قرن على نشر الطبعة الإنجليزية لهذا الكتاب، نستطيع أن نقول إن نبوءته لم تتحقق على الإطلاق، فهو يأمل - في هامش ص536 (من الطبعة الإنجليزية) - أن يكون الاتجاه التحليلي الذي بدأ يظهر بقوة في ذلك الحين وعكة طارئة
a passing distemper ، ويرى في المذاهب التأملية عند «مورجان» وألكسندر دليلا على أن الفلسفة الإنجليزية بدأت تعود إلى مجال التحليق التأملي، وتتخلى عن اللاأدرية وعن النزعة التحليلية المفرطة التي كانت تبدو شائعة في ذلك الحين (انظر ص662 من الأصل الإنجليزي)، ومع ذلك فإن عكس هذه النبوءة هو الذي تحقق؛ إذ إن المفكرين التأمليين من أصحاب المذاهب، مثل ألكسندر وهويتهد، كانوا هم «الوعكة العارضة»، إذا تأملنا تاريخ الفلسفة الإنجليزية في مجموعه، واشتدت النزعة التحليلية قوة حتى أصبحت تسيطر على الدراسات الفلسفية في إنجلترا وأمريكا سيطرة شبه تامة، وأصبح كثير من الكتب الفلسفية يبدو - على حد التعبير الساخط للمؤلف - أشبه بكتب مدرسية في الرياضة، وهي كلها أمور كان المؤلف يتمنى في قرارة نفسه ألا تحدث.
وأخيرا، ينبغي أن ننبه القارئ إلى بعض العيوب التي يبدو أنه لم يكن من ظهورها في الكتاب بد، سواء في طبعته الإنجليزية وفي ترجمته العربية، فالكتاب يتوقف عند سنة 1928 على الأكثر، ومعنى ذلك أنه لا يقدم أي بيان عن اتجاهات هامة متعددة ظهرت بعد ذلك الحين، والأهم من ذلك أنه يتوقف بالفلاسفة أنفسهم عند سنة 1938، بحيث تجاهل الإنتاج اللاحق لأولئك الذين ظلوا منهم أحياء بعد ذلك، ولم يكن في وسعنا، ونحن نقوم بالترجمة العربية، أن نكمل هذا النقص إلا إذا تصرفنا في الكتاب على نحو يخل بطابعه الأصلي؛ لذلك تركنا كل شيء على ما هو عليه، فيما عدا بعض الملاحظات الهامشية البسيطة، ولا سيما ذكر تواريخ وفاة المؤلفين الذين توفوا فيما بين 1938 ووقتنا الحالي، حتى لا يظن القارئ أنهم ما زالوا أحياء، كذلك أضفنا بعض الشروح الموجزة لبعض المسائل التي افترض المؤلف في القارئ العلم بها مقدما، وقد لا تكون مألوفة لدى القارئ باللغة العربية، فضلا عن بعض الترجمات الموجزة لشخصيات ليست كبيرة حتى يعرفها كل قارئ في ميدان الفلسفة، ولم يرد لها شرح في النص أو في السياق، ولكن لا يفوتني هنا أن أوجه انتقادا عابرا إلى الناشرين الإنجليز الذين أعادوا طبع الكتاب سنة 1950؛ فصحيح أن من المستحسن في بعض الأحيان نشر الكتب الهامة دون إدخال تعديل عليها حتى رغم اقتضاء الظروف إدخال هذا التعديل، غير أن إضافة ملحق أو بعض الهوامش - وذلك على الأقل لإيضاح من بقي حيا أو من توفي من الفلاسفة الذين تناولهم الكتاب - لم يكن ليضيف الكثير إلى نفقات الطباعة، ولكنه كان على الأقل كفيلا بتجنيب القارئ صورة مشوهة لأحوال الفلسفة الإنجليزية سنة 1950، ومن المظاهر الغريبة أن هامش ص41 من الأصل الإنجليزي تضمن إشارة إلى كتاب «سيظهر قريبا» عن الفلسفة الاسكتلندية، ثم ظهر اسم الكتاب في ص779 على أنه صدر فعلا (سنة 1938)، ويزداد العجب إذا أدركنا أن هذا الكتاب الذي تحدث عنه الهامشان من تأليف أحد المترجمين الإنجليز الثلاثة للكتاب الأصلي، أي إن هذا المترجم كان يستطيع على الأقل التنبيه إلى هذا التضارب في الإشارة إلى كتابه، أو ينبه الناشر إلى تصحيحها في الطبعة التالية على الأقل.
ويشعر المرء بحاجة الكتاب إلى الاكتمال في حالة المفكرين المعاصرين، بوجه خاص (ومن هنا كان الأحكم دائما - في رأيي - ألا تؤلف كتب التواريخ الجامعة هذه إلا بعد وفاة الشخصيات التي تتحدث عنها، وبعدها بوقت كاف أيضا، حتى تكون كل المؤلفات المخلفة ذاتها قد نشرت)، ولنأخذ على سبيل المثال شخصية برتراند رسل. فمن المعروف أن كتابات رسل قد تضاعفت منذ سنة 1938، وصحيح أنه يكرر نفسه كثيرا، ولكن له أبحاثا هامة تظهر من حين لآخر، ولست أظن أن المرء يستطيع أن ينصف رسل إذا توقف في الحديث عنه عند سنة 1938، ويكفي أن يتصفح المرء قائمة مؤلفاته في سلسلة الفلاسفة الأحياء
Library of Living Philosophers
التي يشرف على نشرها «شيلب
A. Schilpp »، (وهى القائمة التي تجاوزها رسل بدورها) ليدرك مدى غزارة إنتاجه بعد هذا التاريخ. والأهم من ذلك أن وقائع حياته ذاتها قد طرأ عليها تغير حاسم، فموقف رسل الأخير من مشكلة نزع السلاح، وتكوينه «لجنة المائة»، وحرصه الدائم على محاربة أي نوع من الظلم يقع في أي طرف من أطراف الأرض، وسعيه الإيجابي في سبيل تحقيق هذا الهدف، كل هذا كفيل بأن يضيف إلى حياة رسل صفحة جديدة كل الجدة، تشرف الإنسانية بوجه عام، وتشرف الفلسفة على الأخص، وتحقق لها أملا كانت تحلم به منذ قرون عديدة؛ أمل الاشتراك إيجابيا في حل المشكلات السياسية والاجتماعية للإنسان، ففي رأيي أن كفاح رسل من أجل السلام ونزع السلاح، وكفاح «سارتر » من أجل نفس هذه الأهداف - فضلا عن قضية استقلال الجزائر - يمثل محاولة جدية لتحقيق حلم أعرب عنه أفلاطون منذ ما يقرب من خمسة وعشرين قرنا، وحاول أن يحققه حينئذ ولكن بطريقة ساذجة أدت إلى عكس النتائج المقصودة منه، وما هذا إلا مثل واحد - ولكنه مثل يستحق إشارة خاصة في هذه المقدمة - لحالة فيلسوف يستحيل إصدار حكم عليه من خلال ما أنجزه في أواسط حياته فقط.
وأخيرا، فقد بقيت كلمة موجزة عن المنهج الذي اتبعته في الترجمة العربية؛ ففي هذه الترجمة حاولت أن أوفق بقدر الإمكان بين مطلبين أساسيين: تسلسل لغة الترجمة، والاقتراب من النص (وتلك في الواقع هي المشكلة الكبرى في كل ترجمة!) وقد اقتضى الأمر إضافة ترجمات لمصطلحات متعددة ليست موجودة على صورة ثابتة في اللغة العربية، أو تغيير ترجمات شائعة أعتقد أنها غير سليمة، أو ترك بعض المصطلحات مع كتابتها بالحروف العربية في الحالات التي وجدت فيها ذلك أمرا لا مفر منه، وسيجد القارئ خلال النص ذاته ما يقدم لهذه التصرفات مبررات كافية.
فؤاد زكريا
القاهرة في سبتمبر 1963
مقدمة المؤلف (للطبعة الألمانية)
يهدف هذا الكتاب إلى تقديم عرض لتطور الفلسفة الإنجليزية منذ حوالي منتصف القرن الماضي حتى اليوم، ومع ذلك فقد كان لزاما علي - لكي أضع أساسا للعرض الذي قدمته للفلسفة البريطانية المعاصرة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة - أن أضمن كتابي أفكارا أقدم عهدا، وأن أبين جميع أوجه الارتباط التي تصل الحاضر بالماضي، لتكون منهما كلا متكاملا متماسكا إلى حد ما، وفي سبيل هذا الهدف الأخير كتبت الباب الأول من هذا الكتاب، وبذلك يكون هذا العرض للفلسفة الإنجليزية الحديثة قد جمعها في وحدة تاريخية كاملة الأطراف.
غير أن الموضوع الرئيسي الذي ينصب عليه الاهتمام في كتابي هذا يبدأ منذ الباب الثاني، ومن أجل هذا الموضوع بذل هذا الجهد الشاق؛ ذلك لأنه على حين أن المدارس الفكرية الأقدم عهدا قد حظيت بقسط كاف من الدراسة، وأصبحت سماتها الرئيسية معروفة للجميع، فإن الفترة المتأخرة لم تبحث قط بحثا شاملا، وكانت المؤلفات القليلة التي تناولتها إما مجرد جمع لمواد، أو بحوثا تقتصر على نواح جزئية منها، ولا تعدو أن تكون موجزات وتلخيصات غير دقيقة، وهكذا كان من الواجب - في هذا الميدان - بذل كل الجهد اللازم للإلمام الدقيق بالموضوع، وكانت مهمتي في هذا الصدد هي أن أستكشف أرضا جديدة في تاريخ الفلسفة، ولم تكن تقتصر على إبراز النسيج المعقد للفلسفة الإنجليزية في سياقها الخارجي، وإنما توخيت أيضا إيضاحها من باطنها، وتقديمها في صورة تتسم بالعمق مثلما تتسم بالاتساع؛ لذلك كان علي أن ألجأ مباشرة إلى المصادر الأصلية؛ فمنها وحدها كنت أستطيع استخلاص الملامح الصادقة للمفكرين ولموقعهم من المدارس الفكرية، ولهذه المدارس الفكرية ذاتها.
ومن الطبيعي أنني عندما أتحدث في هذا الكتاب عن «مدارس فكرية» فإني أعتمد على قدرتي في استبصار العلاقات بين الأفكار، غير أن الامتلاء الحي المتعدد الألوان، الذي يتبدى عليه التفكير الفلسفي لعصر من العصور وأمة من الأمم، لا يندرج بسهولة دائما في إطارات تاريخ الفلسفة، وكثيرا ما يتعارض مع هذا التقسيم الحاد إلى شيع ومذاهب محددة المعالم، وهو التقسيم الذي كان أثيرا لدى الباحثين وقتا ما، ولكنه أصبح اليوم مكروها إلى حد بعيد، ومع ذلك فإنه لا يسعنا - إذا شئنا ألا يضيع مؤلف كهذا الذي نقدمه وسط زحام الظواهر المتغيرة - أن نستغني تماما عن هذه التقسيمات؛ إذ إن اعتبارات النظام والاتساق تحتم وجودها، ولكن ينبغي ألا تكون هذه التقسيمات أكثر من علامات للإرشاد في أرض يبدو لأول وهلة أنها لا تنطوي على أي طريق محدد المعالم، ومحال أن تكون بديلا نستعيض به عن الوقائع الفعلية؛ فهي إشارات تحدد الاتجاه أمام السائح، وبهذه الصفة تكون معقولة وضرورية، ومن ثم فإني لا أعدها الموضوع الرئيسي الذي أهتم به في كتابي هذا، وإنما أراها مجرد عامل مساعد لا غناء عنه في البحث، ومن الجائز أن مفكرا أو آخر قد أدرج في فئة لا تنطبق عليه، بحيث يبدو ناشزا - جزئيا أو كليا - في المكان الذي وضع فيه، ولكن الواجب ألا يبالغ المرء في تقدير قيمة هذا النوع من الاعتراضات، إذا كنت قد نجحت في تقديم عرض صحيح للمفكر ومذهبه، وفي فهمه فهما سليما، ولهذا السبب كان اهتمامي بالمفكرين الأفراد أعظم من اهتمامي بالمدارس الفكرية، وكان اهتمامي بمشاكل الفكر أعظم من اهتمامي بالتقسيمات التي نعرف بها كنه هذه المشاكل، بل إن هدفي الأكبر كان تقديم عرض لمختلف الفلاسفة حسب الطابع الفردي الذي يتسم به كل منهم، وإبراز شخصياتهم، من حيث هم مفكرون، على أوضح نحو ممكن؛ ولهذا فسوف يعالج كل مفكر في موضع واحد فحسب، على حين أنني لو كنت قد استهدفت ترتيب بحثي على أساس الاتجاهات الفكرية لكان لزاما علي أن أتحدث عن المفكر الواحد في أكثر من موضع واحد، وقد يؤدي ذلك إلى تشويهات كثيرة، ولكن هذه نتيجة لا مفر منها إذا لم يفضل المذهب على الشخصية، والاتجاه الفكري على المفكر، والفئة على العرض الحي.
وربما بدا أن هناك شيئا من الخطورة في تتبع اتجاه الفكر الإنجليزي حتى يومنا هذا؛ إذ إن مثل هذا العمل لا يمارس من خلال ذلك المنظور البعيد الذي ينبغي توافره من أجل دراسة حركة لم تنته بعد أو مفكرين ما زالوا نشيطين في ميدان الإنتاج، ومن أجل تمييز الغث من السمين، والدائم من العابر، وأنا أدرك ذلك بكل وضوح، ولست أدعي لنفسي - حيثما كان علي أن أعالج مسائل معاصرة - تلك الدقة في الحكم التي نشترطها في المؤرخ عندما يكون بصدد مسائل طويت صفحتها، فهنا يظل الكثير في مرحلة التنظيم المؤقت والتقريب المحض لأمور سوف تبت فيها الأبحاث المقبلة بمزيد من الدقة، ولهذا السبب لم يكن في وسعي أن أضمن كتابي جميع الحركات التي نستطيع أن نلمح بوادرها الأولى في الفكر الإنجليزي، أو أي شيء لم يتخذ حتى الآن صورة محدودة المعالم، وفضلا عن ذلك فلم يكن هدفي هو الوصول إلى سجل جامع مانع؛ فهذا هدف يستحيل تنفيذه عمليا، بل إنه باطل نظريا؛ إذ تتمثل في عالم الأفكار عملية الانتقاء الطبيعي نفسها التي كشفت عبقرية دارون عن أهميتها الهائلة في عالم الطبيعة، فليس من واجب المؤرخ أن يحيي ما أخفق في الصمود في صراع الأفكار، فطواه الموت والنسيان، لمجرد كونه قد وجد ذات مرة، أما ما صمد في معركة البقاء، فلا يكاد المرء يجد فيه ما يستطيع الإغضاء عنه، وهنا أيضا طبق مبدأ الانتقاء، إذ عرضت الشخصيات الكبرى في الفلسفة بإسهاب يزيد كثيرا على ذلك الذي عرضت به الشخصيات الثانوية، وإلى هذا الحد يمكن أن يعد اتساع نطاق العرض أو ضيقه - بمعنى ما - علامة على القيمة الباطنة للمفكر، ولكن لا يجوز تفسيره على أنه يحدد بشكل مباشر مكانة المفكر في سلم القيم.
وقد يتساءل المرء: ما معنى وما جدوى الاضطلاع بمثل هذه المهمة في وقت يتزايد فيه على الدوام إصرار الأمم على إغلاق أبوابها على أنفسها في وجه الأخريات، ويتزايد فيه التفاهم المتبادل صعوبة على الدوام؟ وما قيمة الفلسفة الإنجليزية لنا معشر الألمان اليوم؟ وما الذي نستطيع تعلمه منها؟ ولأي الأغراض المفيدة ينبغي أن نهتم بها؟ إن من المحتم علينا اليوم أن نواجه هذا السؤال ذا الطابع العملي المفرط، الذي كان جيل آبائنا خليقا بأن يعده غير متسق مع معنى البحث الأصيل وهدفه، فهذا السؤال متعلق بالسياسة أو بالسياسة والثقافة، ومن ثم فليس في وسعنا في الحالة الحاضرة أن نطرحه جانبا على أساس أنه مقتصر على مجرد التمتع بصورة الفكر الإنجليزي كما تعرض ها هنا، أو بزيادة أو إكمال معرفتنا بالموضوعات التي يفكر فيها أولئك الذين يفصلهم عنا القنال الإنجليزي (بحر المانش)، فهناك أولا حقيقة هامة هي أن الأحوال الحاضرة لا يمكن أن تظل قائمة على الدوام، وفضلا عن ذلك «يبدو من الضروري» - نظرا إلى الأحوال السياسية الحاضرة - أن تقام بيننا من الناحية الروحية تلك الجسور التي تعذر علينا إقامتها من الناحية السياسية، فنحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إلى الاهتمام بكل ما يقرب بين الأمم ويساعدها على التفاهم المتبادل، ولا سيما إذا كان الأمر متعلقا بأمتين متقاربتين عرقيا كالإنجليز والألمان، فمن الواجب أن يكون هدفنا هو تقوية أواصر التفاهم وزيادته حيثما بدا ذلك ممكنا، وقد اضطلعت بمهمتي هذه وفي ذهني هدف صريح هو أن أقرب بين أذهان الأمتين وأشجع على تفاهمهما المتبادل؛ لذلك فإني أتوجه بندائي إلى الفلاسفة المحترفين، لا في ألمانيا فحسب، بل في إنجلترا وأمريكا أيضا، سائلا إياهم أن يتعاونوا من أجل تحقيق الأهداف الثقافية والسياسية التي ألف من أجلها هذا الكتاب، ورغم أن شعوري بأن ضيق نطاق دائرة قرائي - وهو أمر تحتمه طبيعة الموضوع - لا يمكنني إلا من المساهمة بنصيب محدود في سبيل تحقيق هذا الهدف، فإني مع ذلك أرى أن إمكان تحقيق هدفي هذا هو المشجع لي على الاضطلاع بهذه المهمة، والمبرر لقيامي بها.
وأخيرا، ينبغي أن أذكر أنه كان من حسن حظي أن أكون علاقات شخصية مع عدد كبير من الفلاسفة الإنجليز، ومنهم بوجه خاص كثير من الذين تناولهم هذا الكتاب، وقد أتيحت لي فرصة ذهبية لتحقيق هذا الهدف في مؤتمر الفلسفة الدولي السابع، الذي انعقد في أكسفورد في سبتمبر 1930، وخلال تلك الفترة الطويلة التي أقمتها في إنجلترا بمناسبة هذا المؤتمر، والواقع أن ما اكتسبته بالاتصال الشخصي والتبادل المباشر للأفكار كان أكبر قيمة في كثير من الأحيان من دراسة طويلة للكتب؛ فإلى جميع أولئك الذين عاونوني على هذا النحو، أود الآن أن أقدم آيات العرفان، وأخص منهم بالذكر صديقي ر. أ. آرون أستاذ الفلسفة في كلية ويلز الجامعية في آبريستويث والأستاذ «ت. أ. جيسوب» بكلية «هل» الجامعية، والمرحوم الدكتور «ف. ك. س. شيلر» بكلية «كوربوس كريستي» في أكسفورد؛ فقد ساهموا بالكثير في هذا الكتاب بما قدموه من معونة لم يكونوا يضنون بها علي في أي وقت، وبنصائحهم القيمة وتشجيعهم الدائم. وأخيرا - ولكن ليس آخرا - أود أن أشكر زوجتي على عطفها الحنون وتشجيعها الدائم وتعاونها الفعال خلال السنوات التي قضيتها في إعداد هذا الكتاب. وينبغي في الختام أن أذكر أن «جمعية مساعدة العلوم الألمانية» قد قدمت الأساس المادي لظهور هذا الكتاب بتبرع سخي من أجل سداد تكاليف الطباعة؛ فإليها يزجي المؤلف والناشر كل ما هي جديرة به من الشكر.
رودلف متس
هيدلبرج
نوفمبر 1934
الباب الأول
المدارس الفكرية المتقدمة
القرن التاسع عشر
الفصل الأول
المدرسة الاسكتلندية
سميت المدرسة الفكرية التي أسسها «توماس ريد
Thomas Reid » (1710-1796)، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، باسم المدرسة الاسكتلندية، تبعا للموقع الجغرافي للمنطقة التي ظهرت فيها، وموطن ممثليها البارزين، أما بالنسبة إلى محتوى تعاليمها، فيطلق عليها عادة اسم «فلسفة الموقف الطبيعي
»
1
وهي تكون اتجاها متفرعا عن المذهب التجريبي الإنجليزي، وإن كانت قد نشأت عن المعارضة الواعية لمدرسة الفكر التجريبي التي يمثلها باركلي وهيوم، وقد استمدت هذه الفلسفة مادتها الفكرية من الموضوعات الرئيسية والمشاكل التي عالجتها المدرسة التجريبية، وهي المدرسة التي أخذت على عاتقها محاربتها وتفنيدها، غير أنها لم تتمكن من القضاء على هذه الموضوعات الرئيسية والمشاكل من الداخل، ولا من إضافة مادة فكرية جديدة إليها من الخارج، وإنما اكتفت باستعراض وتشويه المشكلات التقليدية وحلولها، وإن لم تتجاوز قط نطاق النتائج التي بلغتها الفلسفة الإنجليزية في عصرها الكلاسيكي، فهذه المدرسة لم تتخل عن الاتجاه الفكري السابق، وإنما انحرفت عنه ودفعته إلى طريق جانبي، وتعد أهميتها المذهبية أقل كثيرا من الأعمال الكلاسيكية الكبرى في الفلسفة الإنجليزية، وهي الأعمال التي ترتبط بها ارتباطا وثيقا، ولا يمكن فهمها بدونها، وهي في عودتها إلى الفهم البشري السليم تنطوي على تراخ في الحماسة الفلسفية، وتدهور في تلك القوة التأملية النظرية التي نبعت منها تلك الصدمة الهائلة التي حفزت هيوم إلى التفكير، فلم تكن تلك المدرسة كفؤا لعظمة الموقف التاريخي الذي وجدت نفسها فيه، وإنما كانت عاجزة عن التصرف بكفاءة في التركة التي خلفها لها هيوم. وهكذا لم يسفر الصراع الباسل الذي قام به ريد ضد هيوم عن انتصار فعلي له على خصمه، ولم يكن الرد الذي أتى به على التحدي الشكاك من جانب هيوم معينا للتفكير الفلسفي، وإنما انتهى به إلى طريق مسدود؛ فقد استيقظ ريد - مثل كانت - من سباته القطعي بفضل هيوم، غير أن المفكر الألماني هو وحده الذي تمكن من أن يحول التأثير الهائل الذي أحس به الاثنان إلى نتيجة مثمرة، ويتجه به إلى حركة فكرية جديدة ضخمة، أما ريد وزملاؤه فلم يدخلوا على الفكر تجديدا خلاقا، وظلوا خلفاء مغمورين لمفكرين عظماء، ولم يسهموا في الفكر بنصيب ملحوظ.
ومع ذلك فإن التأثير التاريخي للمدرسة الاسكتلندية وانتشارها لم يكن بالأمر القليل الأهمية، فقد توطدت دعائم مذهب ريد في الجامعة الاسكتلندية، واستقر فيها كأنه نوع من المذهب المدرسي، وظل على الدوام يجتذب أتباعا جددا إلى دائرة نفوذه، كما عبر البحر إلى فرنسا، حيث كان هو القوة الملهمة لكثير من المفكرين الذين خلفوا «مين دي بيران
Maine de Biran » (مثل روايية كولار
Royer-Collard ، وكوزان
Cousin ، وجوفروا
Jouffroy ، وجارنييه
Garnier ، وداميرون
Damiron
ودي ريموزا
De Rémusat ، وغيرهم)،
2
وفي أمريكا استمر تراثها حيا بفضل ج. مكوش
J. M’ Coch (انظر فيما بعد [الباب الأول: المدارس الفكرية المتقدمة - الفصل الثاني: المدرسة النفعية التجريبية]) ونوح بورتر
Noah Porter
وغيرهما، فهذه المدرسة تمثل أول حالة تصادف فيها مدرسة حقيقية للتعليم الفلسفي في تاريخ الفكر الإنجليزي باستثناء المدرسة المسماة بمدرسة كيمبردج، والتي تبلور فيها بعث التعاليم الأفلاطونية في القرن الثامن عشر، ولأول مرة نرى مذهبا فكريا موحدا وقد أدمج في المناهج الأكاديمية، وظل طوال عشرات طويلة من السنين يمثل ويعلم ويوسع بفضل تعاون مجموعة غير قليلة من الأتباع، وكان للمدرسة التي أسسها ريد في اسكتلندا مقابلها في إنجلترا، حيث ظهرت مدرسة هامة تركزت حول بنتام
Bantham ، وظل الاثنان يتنافسان طويلا، وتركزت حولهما معظم الطاقات الفلسفية الموجودة في ذلك الحين.
ولا يدخل التاريخ المبكر للفلسفة الاسكتلندية في نطاق هذا الكتاب، ومن ثم فليس في وسعنا هنا إلا أن نقدم مجملا سريعا لمراحلها الرئيسية، فقد انتقلت زعامة المدرسة - حتى قبل وفاة ريد - إلى دوجالد ستيوارت
Dugald Stewart (1753-1828)، وهو أقدر تلاميذه الأولين، وكان ستيوارت معلما أكاديميا لامعا، كان لمحاضراته البليغة الأسلوب تأثير تعليمي عظيم في الجيل الاسكتلندي الناشئ عندئذ، وقد شغل منذ 1785 حتى 1810 كرسي الفلسفة الأخلاقية في جامعة إدنبرة، التي كانت هي المركز الروحي للفلسفة الاسكتلندية طوال أجيال عديدة، وتتلمذ على يديه شبان كثيرون قدر لهم فيما بعد أن يبلغوا أوج الشهرة في ميادين عظيمة التباين في الحياة السياسية والعقلية، فكان منهم شخصيات ضخمة مثل السير وولتر سكوت
Sir Walter Scott ، ورئيسا وزراء مقبلان هما بالمرستون
ورسل
Russell ، وقد اقتفى - في النقاط الرئيسية لمذهبه - أثر ريد، ولم يختلف معه إلا في بعض المسائل الجزئية، وانحصرت مساهمته الوحيدة في الميدان النظري في محاولته وضع تعاليم أستاذه في صورة مذهبية أدق، وتطبيقها على نطاق أوسع، وكان رجلا ذا ثقافة عقلية رفيعة، عرف كيف يضع أفكار ريد الجافة المصوغة بعبارات جامدة في قالب أدبي زاه مصقول، ولكن من الأمور الجديرة بالملاحظة أن ستيوارت - الذي كان في ذلك الحين أقوى شخصية قادرة على إذاعة الثقافة الفلسفية في بريطانيا - لم يكن متنبها على الإطلاق إلى التقدم العظيم الذي طرأ على الفلسفة الألمانية أثناء حياته، وعلى أية حال فقد كان ستيوارت من بعد ريد هو الممثل الأكاديمي الرئيسي للمذهب الاسكتلندي، وقد حمل لواء تراثه حتى القرن التاسع عشر، وكان ممثلا له من القوة والتأثير ما جعل هذا المذهب يظل صامدا حتى انعقد لبنتام لواء الزعامة في ميدان الفلسفة.
ويرتبط توماس براون
Thomas Brown (1778-1820) - تلميذ ستيوارت وخليفته في إدنبرة - بالمدرسة الاسكتلندية ارتباطا وثيقا، وإن لم يكن قد قبل جميع أفكارها، ويمثل موقفه الفلسفي نوعا من التوفيق بين الاتجاهات الترابطية في المذهب التجريبي الأقدم عهدا، وبين الآراء الحدسية عند ريد، وهو بذلك يمثل معبرا بين فلسفة الموقف الطبيعي (الإدراك المشترك) وبين المذهب التجريبي المتأخر، وبالتالي المذاهب النفسية لدى جون وجيمس مل، وبين
Bain
وسبنسر، وكانت أهم مساهماته في ميدان الفلسفة جهوده في مشكلتي الإدراك الحسي والعلية، وهي جهود أدت أحيانا إلى اتخاذه موقفا معارضا بعنف لموقف ريد؛ فعلى الرغم من أنه التزم الافتراض القائل بوجود مبادئ اعتقادية حدسية معينة، فإنه ازداد اقترابا من آراء المذهب الحسي فيما يتعلق بمشكلة الإدراك الحسي، ومن آراء هيوم فيما يتعلق بالعلية، مع رفضه النتائج الشكاكة التي انتهى إليها هيوم. وقد تناول المشكلة الأخيرة في مؤلف شامل خاض فيه مناقشة نقدية مع هيوم، وقد ظهرت الطبعة الأولى لهذا المؤلف عام 1805، وظهرت طبعته الثالثة، التي زيدت زيادة كبيرة في 1817، بعنوان: «بحث في العلاقة بين العلة والمعلول
An Inquiry Into the Relation of Cause and Effect .
وكان براون مفكرا أقوى بكثير من ستيوارت، وكانت لديه ملكات نقدية سليمة، وقد أبدى - منذ ذلك الوقت المبكر - اهتماما ب «كانت» وكتب عن فلسفته أول الأبحاث التي ظهرت بالإنجليزية (وقد نشر في المجلد الأول من «مجلة إدنبرة
Edinburgh Review »، في 1802، وكان - مثل ستيوارت - معلما فلسفيا مبجلا ناجحا، وإلى هذه الصفة يرجع - في المحل الأول - ذلك النجاح الأدبي غير العادي الذي أحرزته محاضراته في إدنبرة، وقد نشرت هذه المحاضرات بعد وقت قليل من وفاته السابقة للأوان بعنوان: محاضرات في فلسفة الذهن البشري
Lectures on the Phil of the Human Mind (1820)، وطبعت، في مدى ثلاثين عاما، ما لا يقل عن تسع عشرة طبعة.
أما السير جيمس ماكنتوش
Sir James Mackintosh (1765-1832) فكانت علاقته بأفكار المدرسة الاسكتلندية أقل وثوقا، ولقد أحرز - بوصفه سياسيا ومؤرخا - شهرة تفوق شهرته بوصفه فيلسوفا. والمؤلف الوحيد الذي يستحق من أجله أن يذكر هنا هو: «بحث في تقدم الفلسفة الأخلاقية، ولا سيما في القرنين 17، 18
Dissertation on the Progress of Ethical Philosophy Chiefly during the XVII and XVII Centuries
وقد نشر لأول مرة في 1830، بوصفه مقدمة للطبعة الرابعة من «دائرة المعارف البريطانية»، وسرعان ما انتشر على نطاق واسع (فطبعت منه عشر طبعات حتى 1870)، وقد اجتذب عند ظهوره اهتماما عظيما، وحفز جيمس مل
James Mill
على أن يقدم ردا قاسيا عليه «كلمة عن ماكنتوش
A Fragment on Mackintosh » (1835).
في هذا البحث، الذي قدم فيه ماكنتوش رأيا جامعا شاملا عن المذاهب الأخلاقية في القرنين السابقين، حاول القيام بنوع من التوفيق بين مذهب المنفعة والمذهب الحدسي في الأخلاق، ولم يرفض فيه مبدأ المنفعة، ولكنه أزاحه عن مركز الصدارة، وجعل السلوك الأخلاقي يرتكز على الضمير والتعاطف أكثر مما يرتكز على الطابع المفيد لهذا السلوك.
كل هؤلاء المفكرين ومجموعة أخرى غيرهم ممن استحقت أسماؤهم أن تطوى منذ وقت طويل في زوايا النسيان
3
قد طغت عليهم جميعا شخصية مفكر أهم وأعمق بكثير، هو السير وليام هاملتن
Sir William Hamilton (1788-1856)، فقد أكسب هاملتن الفلسفة الاسكتلندية قوة دافعة جديدة، وإليه يرجع الفضل الأول في عودة مكانها إلى العلو مرة ثانية، وتفوقها على جميع المدارس الفلسفية الأخرى، وقد دام لها هذا الامتياز من حوالي سنة 1830 إلى حوالي سنة 1860. وقد شغل هاملتن منذ 1836 حتى وفاته كرسي المنطق والميتافيزيقا بجامعة إدنبرة، وكان اسمه وشهرته قد ذاعا في الفلسفة، حتى قبل تعيينه، بفضل مساهماته العديدة في «مجلة إدنبرة»، وامتدت شهرته خارج حدود اسكتلندا، بل لقد وصلت إلى داخل القارة الأوروبية ذاتها، وهناك ثلاثة من مؤلفاته كانت لها أهمية خاصة؛ إذ إنها تحوي أهم أفكاره، واجتذبت أعظم الاهتمام من معاصريه، وهي: كتابات كوزان وفلسفته في المطلق اللامشروط
Cousin’s Writings & Philosophy of The Unconditional » (1829)، وكتابات براون وفلسفته في الإدراك الحسي
Brown’s Writings & Philosophy of Perception (1830). والمنطق
Logic (1833)، وقد عرض في البحث الأول المبادئ الرئيسية للميتافيزيقا، وفي الثاني المبادئ الرئيسية لنظرية المعرفة، وفي الثالث المنطق، ثم أعيد طبع هذه الأبحاث في كتابه: «مناقشات في الفلسفة والأدب والتعليم والإصلاح الجامعي
Discussions on Phil. and Literature, Eduction & University Reform » (1852). وكان من المعالم البارزة في تاريخ المدرسة الاسكتلندية، طبعته لمؤلفات ريد (التي بدأت في 1846، وتمت 1863)، مع شروح دقيقة واستطرادات وملاحظات عديدة تجلى فيها علم هاملتن الغزير، ثم ظهرت بعد ذلك طبعة لمؤلفات دوجالد ستيوارت (في أحد عشر مجلدا، 1854-1858)، وقد استنفد هذا الجهد الجزء الأكبر من نشاط هاملتن التأليفي، بالإضافة إلى كتابه: «محاضرات في الميتافيزيقا والمنطق
Lectures on Metaphysics & Logic » وهو كتاب لم يتمكن هو ذاته من إعداده للطبع، ونشره بعد وفاته تلميذاه مانسل
Mansel
وفيتش
Veitch (في أربعة مجلدات، 1858-1860).
وعلى يد هاملتن، دخلت الفلسفة الاسكتلندية المرحلة الأخيرة من تطورها؛ إذ بدأت معه عملية الانحلال الباطن والانتقال إلى وجهات فكرية أخرى، غير أن أينع ثمار هذه الفلسفة لم تقطف إلا قبل النهاية مباشرة، عندما بلغت شهرتها أقصى مداها، وعبرت عن نفسها أدق تعبير أكاديمي، وحققت أعظم أعمالها في ميدان النقد والتأمل النظري، ولكنها لم تبلغ هذا المدى بفضل مواردها الخاصة، وإنما عن طريق توسيع نطاق مشاكلها وإدخال أفكار جديدة. ويرجع الفضل في هذه الإضافة إلى علم هاملتن الغزير، فقد كانت قراءاته في الفلسفة وغيرها من الفروع تفوق بكثير قراءات جميع المفكرين الإنجليز السابقين عليه، وكانت مستمدة من مصادر متنوعة، أهمها الفلسفة الألمانية التي كان الإنجليز قد اكتشفوها حديثا في ذلك الحين. وسنوضح فيما بعد كيف تأثر هاملتن إيجابيا بفلسفة كانت، وسلبيا بالفلسفة التالية لكانت، وحسبنا الآن أن نقول: إن فتح آفاق جديدة - عن طريق الأخذ بأفكار كانتية في المحل الأول - كان يعني زعزعة الكيان الأصلي للمدرسة الاسكتلندية، أي إن قيام هاملتن بتوسيع نطاق المذهب الاسكتلندي وتعميقه، قد تحقق على حساب بقاء هذا المذهب نقيا.
ولنضرب مثلا يوضح ذلك بإيجاز، فقد ظهرت فلسفة ريد من خلال معارضته للنظرية الظاهرية
للمعرفة في المذهب التجريبي الأقدم عهدا، ولا سيما النتائج الشكاكة التي استخلصها هيوم منها، فعندما نعرف العالم الخارجي، يكشف لنا التحليل عن الفعل الذهني من جهة، وعن الموضوع الحقيقي من جهة أخرى، ويكون الموضوع - بما هو خارجي - حاضرا مباشرة في الإدراك الحسي، ولا يحتاج إلى صورة أو تمثلات معترضة تتوسط بيننا وبين حقيقة الأشياء الخارجية، وعلى ذلك فإن ريد يرفض ما يسمى بالنظرية التمثيلية
Representative
في الإدراك الحسي أو المعرفة، ويرفض جهاز التمثلات بأسره (من أفكار وانطباعات)؛ ذلك لأن معرفتنا للأشياء الخارجية على نحو مباشر في الإدراك الحسي، هي أحد المبادئ الأساسية للفهم البشري السليم، وهو مبدأ نوقن به حدسيا، ولا مجال لدينا للشك في حقيقته، وبالمثل يبدأ هاملتن بقبول «الواقعية الطبيعية
Natural realism » التي تضمنتها نظرية المعرفة عند ريد، غير أن مذهبه يتضمن منذ البداية تقدما هاما بالنسبة إلى ريد؛ إذ هو لا يحاول بلوغ هذه النتيجة بالإهابة بالفهم السليم لذهن الإنسان العادي فحسب، وإنما عن طريق التحليل النقدي لعملية المعرفة أيضا، وهو في رفضه الصريح لهذه الإهابة يعود ثانية إلى أرض البحث الفلسفي الحقيقي. وهكذا أحل النقدية الكانتية محل قطعية ريد، غير أن هذا ينطوي على تغيير في وضع المشكلة، فمشكلة المعرفة لا تحل بمجرد تأكيدنا أننا نشعر «مباشرة» بالواقع المادي على أنه شيء مختلف عنا أو عن أحوالنا الذهنية، والقول بأن الموضوع بما هو كذلك ماثل في الوعي، هذا القول إذا ما نظر إليه على أنه يعني أن وجود الموضوع ينبغي أن يكون في هوية مع الصفة أو الكيفية المجربة، لكان من الواضح أن هذا الشرط لا يتوافر في حالات كثيرة؛ ولذلك كنا في حاجة إلى اختبار نقدي دقيق لمفهوم الحضور المباشر
Immediacy ، ومثل هذا الاختبار كفيل بأن ينبئنا مثلا بأن كل معرفة عن طريق التذكر لا يمكن أن تكون مباشرة على نفس النحو الذي تكون عليه المعرفة الآتية من الإدراك الحسي مباشرة؛ إذ إن الموضوع الذي مضى لا يعود ماثلا، والذي يكون ماثلا مباشرة في هذه الحالة إنما هو صورة متذكرة نستخلص منها استدلالات عن الشيء الذي كان ماثلا من قبل، وعلى ذلك فالمعرفة المباشرة لا تكون ممكنة إلا في حالة الإدراك الحسي، ولكن حتى في هذه الحالة يكشف لنا تحليل هاملتن النقدي عن استحالة الإبقاء على فكرة «المباشرة» في صورتها الساذجة في كثير من الأحيان؛ لذلك رأى نفسه مضطرا إلى التحول عن نظرية الموقف الطبيعي
Common-Sense
الأصلية بمقدار لا يقل عن مقدار تحوله عن النظريات الظاهرية
التي وجهت ضدها نظرية الموقف الطبيعي، والنتيجة النهائية هي أن كل ما يمكننا أن نعرفه عن العالم الخارجي ليس إلا محتويات للوعي، وأن الوعي بالتالي هو الدليل الوحيد الموثوق به، على وجود الأشياء الخارجية، وبهذا لا يبقى من واقعية ريد الطبيعية سوى مجرد معرفتنا أن الوعي لا يكشف عن الأنا وأفعاله النفسية فحسب، بل يكشف أيضا عن اللاأنا وعلاقاته بالأنا، ولكن هذا يعني أن نظرية الموقف الطبيعي التي وضعها ريد لتكون حائلا دون النزعة الذاتية والنزعة الشكية، قد تغيرت على يد هاملتن إلى حد أنها عادت إلى الرأي القائل بأن معرفتنا الحقة لا يمكنها أن تمتد إلى ما وراء الظواهر العابرة للوعي، وهكذا عادت الواقعية الطبيعية القهقرى إلى نفس المذهب الظاهري الذي لم تظهر أصلا إلا لتفنيده.
ومن الواضح أن هذه الحجج قد استمدت من كانت أكثر مما استمدت من باركلي أو هيوم، ومن ثم فإنها لا تمثل مجرد رجوع إلى النظريات التي حاربها ريد، وإنما تمثل تقدما عليها، وانتقالا إلى النظرية النقدية للمعرفة كما قال بها ذلك المفكر الألماني، ويتضح ذلك إذا أدركنا أن مبدأ النسبية يرتبط عند هاملتن بنظرية الإدراك الحسي، وأن هذا المبدأ هو ذاته محور ارتكاز فلسفته بأسرها. ويتلخص موقفه العام في نظرية الإدراك الحسي في القول بأننا ندرك مباشرة في وعينا الكيفيات الأولى للأشياء على الأقل، وأن لنا الحق في القول إنها توجد على نحو ما ندركها حسيا، وإلى هذا الحد تكون معرفتنا للأشياء الخارجية مباشرة حاضرة، لا توسط فيها ولا إنابة، غير أن المبدأ الأساسي القائل بنسبية المعرفة ينطوي على القول بأننا لا نعرف شيئا كما هو في ذاته، وأننا بالتالي نقتصر على معرفة الظواهر، وأن الأشياء في ذاتها مختفية عنا، وواضح أن بين الاثنين تناقضا لا يرفع، ومع ذلك، فإن النظر في الأمر يبين أن نظرية الإدراك الحسي هي التي ينبغي أن تفسر في ضوء مبدأ النسبية، لا العكس؛ ذلك لأنه يتضح آخر الأمر أن الكيفيات الأولى التي نعرفها مباشرة، والتي تشهد بوجود عالم مستقل عن الوعي، لا تعدو أن تكون ظواهر، وهذا معناه أنها نسبية متوقفة على قدراتنا في المعرفة، وأن هذه تعدلها على نطاق واسع، وبالتالي فإن هذه الكيفيات عاجزة عن إظهار الواقع في ذاته. وهكذا ينتهي مذهب هاملتن آخر الأمر إلى الموقف القائل بأن العالم الخارجي، من حيث هو عالم قابل للمعرفة، لا يوجد مستقلا عن الذات العارفة.
ولهذه النظرية نتائج تؤدي إلى اللاأدرية، التي تقترب في نواح عديدة من المذهب الكانتي، أو على الأصح من التفسير السائد لتعاليم كانت، وهو التفسير الذي يهتم أكثر مما ينبغي بالعناصر الظاهرية
في نقد كانت للمعرفة، ويتجاهل النتائج الميتافيزيقية التي ينطوي عليها، كما تؤدي هذه النظرية إلى رفض كل ميتافيزيقا، وإلى التخلي عن أي نوع من المعرفة النظرية للمطلق، أو على حد تعبير هاملتن في بحثه المشهور الصادر في 1829، إلى رفض كل «فلسفة اللامشروط»، غير أن هذا لا يرتبط عند هاملتن بعدم المبالاة بالمعتقدات الدينية أو العداء لها، كما هي الحال عند سبنسر وهكسلي وغيرهما، بل إنه ينطوي لديه على تأكيد أقوى لهذه المعتقدات، وهكذا فإن العقائد التي تعجز أمامها معرفتنا ، والتي هي عند هاملتن نهاية كل فلسفة، هي أيضا بداية اللاهوت، وعندما يهيب هاملتن بالذهن أن يلتزم حدوده، فإنه يحاول إعطاء الإيمان حقوقه الصحيحة، وهو إيمان يعتقد أن موضوعه الصحيح هو ذلك الذي يكون بطبيعته غير قابل للفهم، وهكذا فطالما كانت الفلسفة تلتزم حدودها وترفض الادعاءات الغريرة للعقل بأن لديه معرفة مطلقة، فإنها تعد في رأيه المبرر الحقيقي للدين.
على أن مذهب هاملتن - الذي لا نستطيع هنا أن نمضي فيه أبعد من ذلك - يعاني من انعدام الاتساق الناجم عن محاولة إيجاد حل مشترك بين نظريتين بينهما من الاختلاف بقدر ما بين نظريتي ريد وكانت، ونتيجة ذلك أنه - من جهة - يزيف إلى حد بعيد النوايا الأصلية لريد، ويفسر معاني كانت - من جهة أخرى - تفسيرا متحيزا إلى أبعد حد. وهكذا كانت فلسفته في مجموعها محاولة للتوفيق لا تنصف أيا من الطرفين، وبالتالي فهي تكشف عن ضعفها الباطن، ومع ذلك فليس لهذا تأثير في الأهمية التاريخية لفلسفة هاملتن وفي الأثر الذي أحدثته؛ فقد كان له - مع كل هذا - الفضل الأكبر في أنه كان أول فيلسوف أكاديمي مرموق يفتح ذهنه لتأثير الأفكار الألمانية، وبالتالي يخطو خطوة حاسمة نحو إنهاء عزلة الفكر الإنجليزي. وتزداد أهمية هذه الخطوة إذا أدركنا أنها تمت على يد رجل كانت له خلال العقدين اللذين قضاهما في التدريس في إدنبرة مكانة في ميدان الفلسفة تفوق مكانة أي من معاصريه، فقد كان هاملتن - بوصفه زعيما للمدرسة الاسكتلندية - أشبه بديكتاتور فلسفي لا تقف سلطته عند حدود دائرته الخاصة، ويتبعه تلاميذه اتباعا أعمى، ويتمتع باحترام عظيم في أوساط تبعد كثيرا عن حدود مدرسته، وقد ظل طوال حياته محتفظا بشهرته على ما هي عليه تقريبا، ولم يظهر أي منافس حقيقي له على النفوذ والسيطرة، ولم يكن أحد يجرؤ على مهاجمته، إلى أن بدأ الهجوم على مذهبه من جهتين، بعد تسع سنوات من وفاته، وقد أتى أشهر هذين الهجومين من جانب جون ستيوارت مل، باسم المذهب التجريبي، ولقد أدى نقد مل لهاملتن، المتضمن في كتابه «اختبار لفلسفة السير وليام هاملتن
An Examination of William Hamilton’s Philosophy » (1865) وهو نقد كان شاملا، ولكنه كان من نواح عديدة جائرا ومبنيا على سوء فهم، أدى هذا النقد إلى النيل من مهابة الفلسفة الاسكتلندية، وإلى الإضرار بسمعتها إلى حد أن حيويتها قد ظلت هابطة منذ ذلك الحين، وأصبحت مهددة بالزوال. أما الهجوم الثاني، الذي أسهم في تحقيق هذه النتيجة، فقد حدث في نفس العام، ومن مصدر مختلف تماما؛ ذلك لأن السير جون هتشسون سترلنج
John Hutchison Stirling ، الذي يمكن أن يقال عنه إنه أتى بالهيجلية إلى إنجلترا، قد هاجم هاملتن، معلنا احتجاجه على موقفه السلبي من المذاهب الكبرى التالية لكانت، وذلك في كتاب له تأثير هائل، هو: «سر هيجل
the Secret of Hegel »، وفي كتاب مستقل هو: «السير وليام هاملتن، أو فلسفة الإدراك الحسي
Sir William Hamilton, Being the Philosophy of Perception » (ظهر الكتابان سنة 1865)، وهكذا فإن الحركة المثالية، التي سرعان ما أصبحت قوية، قد ناصبت هاملتن العداء منذ البداية، وأدت فيما بعد إلى تجاهل شبه تام لفلسفته، ولم يعد في الإمكان قبول تفسير هاملتن لمذهب كانت؛ إذ لم يكن من الممكن التوفيق بينه وبين اتجاهات هؤلاء المفكرين، التي كانت هيجلية في أساسها، بل إن هؤلاء المفكرين لم يعترفوا اعترافا كافيا بفضله التاريخي حين أدخل أفكار كانت وغيره من الألمان، وهكذا ففي عام 1865 كاد أن يتوقف الاتجاه الفكري الذي بدأه هاملتن والمدرسة الاسكتلندية، إن لم يكن قد انتهى بالفعل.
ولقد كان أعظم تلاميذ هاملتن شهرة هو المفكر اللاهوتي هنري ل مانسل
Henry L. Monsel (1820-1871)، وقد رسم مانسل كاهنا، ثم عين محاضرا في اللاهوت في كلية «مودلن» وبعد ذلك عين أستاذا للتاريخ الكنسي في أكسفورد، وأخيرا عين أسقفا لكاتدرائية «سانت بول» (القديس بولس). وقد عمل مانسل على إدخال فلسفة هاملتن في إنجلترا، ودرسها ونشرها بحماسة ونجاح في جامعة أكسفورد. وقد ألف في البداية كتابين في المنطق، ثم كتب في الميتافيزيقا، محاولا صياغة الأفكار الرئيسية في مذهب هاملتن في صورة أدق وأكثر تنظيما مما كانت عليه لدى أستاذه (وذلك في بحث عنوانه «الميتافيزيقا أو فلسفة الوعي
Metaphysics or the Phil. of Consciousness » وظهر أولا في عام 1857 في الطبعة الثامنة لدائرة المعارف البريطانية، ثم ظهر بعد ذلك في صورة كتاب عام 1860، ثم ألف بعد ذلك «فلسفة المشروط
» في 1866، وفيه حاول الدفاع عن هاملتن وعن نفسه ضد هجوم مل) غير أن أقوى كتاباته تأثيرا كان «حدود الفكر الديني
The Limits of Religious Thought » (1858)، وهو في الأصل محاضرات بامتون
Bampton
التي ألقاها مانسل، وقد استلفت الكتاب الأنظار بقوة، وأثار جدلا عنيفا، وأذاع شهرته على نطاق واسع. وترجع الأهمية الكبرى لهذه المحاضرات إلى أنها أوضحت بجلاء موقف المدرسة من المسائل الدينية التي تركها هاملتن غامضة رغم كثرة تلميحاته إليها، فاستخلص مانسل في هذه المحاضرات لأول مرة - وبوضوح تام - النتائج اللاهوتية التي كانت مختفية في مذهب هاملتن المرتكز على الظاهرية واللاأدرية، وحاول - مستندا إلى مبدأ نسبية المعرفة - أن يبين أن جميع الجهود التي نبذلها لنكتشف بواسطة الفكر أي شيء عن الطبيعة الإلهية المطلقة مآلها حتما إلى الفشل، فالمطلق واللامتناهي بعيدان تماما عن متناول الذهن البشري المتناهي، وكل محاولة للتفكير في المطلق أو فهمه بأية وسيلة عقلية تؤدي إلى حشد من التناقض والتضارب لا قبل للعقل بحله؛ فالفكر عاجز تماما في موضوعات الإيمان، وينبغي في النهاية أن يعترف بإفلاسه؛ لذلك يعلن مانسل أن جميع الحجج النظرية ضد عقائد الدين غير صحيحة، وبذلك يخلص نفسه بأسرع وأبسط طريقة من جميع أعداء الإيمان ومهاجميه؛ فليس من مهمة العقل أن يتدخل في الأمور المقدسة، وليس هناك ما يدعونا إلى الأسف على ذلك، بل إن من واجبنا لصالح الدين أن نرحب كل الترحيب بعزوف العقل هذا. وهكذا يبني مانسل كل معرفة لما فوق المحسوس على الوحي الإلهي، وتكون المهمة الوحيدة التي يتعين على العقل النقدي القيام بها عندما يقرر قبول التعاليم الدينية أو رفضها غير متعلقة بمحتوى هذه التعاليم، وإنما بالأدلة التي يمكن الإتيان بها للبرهنة على أن لها أصلا إلهيا فحسب. وهو في هذا الصدد يعزو إلى الحجة الأخلاقية أهمية ثانوية إلى حد ما، وعلى الرغم من أن هذه الحجة عاجزة عن البت في أمر حقيقة موحى بها، فإن في وسعنا أن نحصل، من معايير القيمة الأخلاقية لدينا ، على شواهد مفيدة نستعين بها في الحكم على الأفكار الدينية.
وهكذا كان الاتجاه الذي حول إليه مانسل نظرية المعرفة الكانتية، أوغل في باب اللاأدرية الشكاكة من الاتجاه الذي حولها إليه هاملتن، كما أن الأول أخضع هذه النظرية لأغراض الدين الموحى به، وتم على يديه أقوى انفصال - منذ أيام بيكن - بين الإيمان والمعرفة، وبين الدين والفلسفة، وعادت الفكرة القديمة القائلة: «أومن لأن موضوع إيماني ممتنع عقلا
Credo quis absurdum » إلى مكانتها الأولى، وقد اكتسب المذهب اللاأدري عند سبنسر تأييدا حاسما من هذه التعاليم، وظهر هذا المذهب على أنه مجرد صبغ لهذه التعاليم بصبغة دنيوية تامة، فالشقة كانت قريبة ما بين لاهوت الوحي عند مانسل، وبين عدم اكتراث سبنسر بالدين، على أن الطريقة التي استمد بها أشد المذاهب تمسكا بحرفية الدين أسلحة لنفسه من مدرسة هي من أشد مدارس الفكر تقدما، ثم عاد فحمل بها على الفكر ذاته حملة شعواء؛ هذه الطريقة كانت من الغرابة بحيث هوجمت بنقد قوي من جهات متباينة كل التباين. وقد أثار الجدل الذي احتدم نتيجة لمحاضرات مانسل المسماة بمحاضرات «بامتون
Bampton »، والذي اشترك فيه بنفس القوة فلاسفة ولاهوتيون؛
4
أثار عاصفة شديدة، وعلى الرغم من أن النتائج التي أسفر عنها لم تكن ذات أهمية كبيرة، فقد ازداد - إلى حد بعيد - اهتمام الجمهور بالمسائل التي كانت موضوع المناقشة، وأصبح الجو ممهدا لتلك النهضة الملحوظة التي بلغتها الدراسات الفلسفية بعد ذلك بوقت قصير.
وبعد هاملتن ومانسل، انحدرت الفلسفة الاسكتلندية انحدارا شديدا، ولا يوجد ضمن أولئك الذين خرجوا من المدرسة أو انتموا إليها سوى أسماء قليلة هامة تمثل المذهب في صورته الخالصة؛ إذ يظهر - حتى لدى جون د. مورل
John D. Morell (1816-1891) - ذلك الميل إلى التباعد عن التعاليم الأصلية للمدرسة، وهو الميل الذي ازداد قوة بالتدريج في المستقبل. صحيح أن «مورل» كانت له جذور عميقة في تراث المدرسة الاسكتلندية، التي تلقى فيها تعليمه الفلسفي الأول، غير أنه تعرض لمؤثرات عديدة من مدارس فكرية أخرى، وتأثر - بوجه خاص - بالمذاهب الألمانية التي عرفها لأول مرة خلال رحلة قام بها في ألمانيا وهو طالب. وقد كتب مورل - الذي كان مثل هاملتن قراءة ذا ذهن متفتح - بعض المؤلفات في تاريخ الفلسفة، منها كتابه: «نظرة تاريخية ونقدية إلى الفلسفة التأملية في أوروبا في القرن التاسع عشر
Historical and Critical View of the Speculative Phil. of Europe in the XIX Century » (1846) وقد اكتسب هذا الكتاب - عن حق - اهتماما كبيرا، وأسهم في توسيع أفق الإنجليز الفلسفي، كما ألف كتابا في الأخلاق عن فشته (1848)، غير أن مؤلفه الرئيسي هو «فلسفة الدين
» (1818) الذي نستطيع أن نلمح فيه تأثير شليرماخر
Schleiermacher
و. ر. روته
R. Rothe
وله كتاب آخر هو «مدخل إلى الفلسفة الذهنية باستخدام المنهج الاستقرائي
Introduction to Mental Phil. on the Inductive Method » نشر عام 1862.
وهناك مفكر آخر في مدرسة هاملتن، هو جيمس ماكوش
J. M’cosh (1811-1894) الذي كان غزير التأليف في الفلسفة، وسافر إلى أمريكا عام 1868، فنقل إليها فلسفة الموقف الطبيعي (الإدراك المشترك) ونجح في تحقيق شيء من الاعتراف بها. وقد ألف ماكوش كتبا منهجية، فضلا عن كتابته لتاريخ كامل للفلسفة الاسكتلندية الفلسفة الاسكتلندية من هتشسون إلى هاملتن
Scottish Phil. from Hutcheson to Hamilton (1875).
5
أما هنري كالدروود
Henry Calderwood (1830-1897) الذي كان في البداية قسيسا اسكتلنديا، ثم أصبح منذ عام 1868 أستاذا للفلسفة الأخلاقية في إدنبرة، فقد بدأ تلميذا لهاملتن، ولكنه حتى في كتابه الأول (فلسفة اللامتناهي
1854، والطبعة الثانية 1861) الذي نشره وهو ما زال طالبا، قد أظهر استقلالا يدعو إلى الدهشة عن أستاذه الذي كان لا يزال حيا، فقد قدم في هذا الكتاب نقدا عميقا لمذهب هاملتن، وكشف عن نقاط ضعفه بلا رحمة، وكان يرمي إلى إعادة مذهب الموقف الطبيعي إلى مكانته الأولى بفصله عن تلك العناصر اللاأدرية التي أقحمها فيه هاملتن ومانسل، وكان هدفه الأساسي هو تفنيد حجة هاملتن القائلة: إن الذهن البشري لما كان متناهيا، فإنه يعجز عن معرفة اللامتناهي، فقد بدا له أن الدين الذي يشيد مذابح لإله مجهول لا يمكن أن يعرف، ويستبعد التفكير العقلي من مجاله؛ لا يعدو أن يكون خرافة، ولا ينطوي على تبجيل حقيقي للطبيعة الإلهية. وفي مقابل النسبية اللاأدرية، التي كانت كامنة لدى هاملتن، ولكنها أصبحت مبدأ فلسفيا أساسيا لأول مرة على يد مانسل وسبنسر، عاد كالدروود إلى المذهب الحدسي الأصيل الذي قال به المذهب الاسكتلندي الأقدم عهدا؛ فلدينا بالله وعي مباشر بوصفه موجودا شامل الحكمة والقوة والخير، وهذه المعرفة مستقلة عن جميع الاعتبارات العقلية، وهي شفيفة مؤكدة، ومن ثم فهي حدسية، كذلك قال كالدروود بمذهب حدسي مماثل في الأخلاق، عرضه في كتاب ناجح هو «الموجز في الفلسفة الأخلاقية
Handbook of Moral Phil.
1872، الطبعة الرابعة عشرة في 1888)، ومع مهاجمته للنزعة الطبيعية ومذهب اللذة، فقد أكد الحاجة إلى قانون مطلق السلوك وهدف مطلق له، وهذا الهدف لم يكن في رأيه السعادة ولا اللذة، وإنما الاستخدام الكامل المنسجم لجميع القوى والمواهب حتى يمكن الوفاء بأغراضها الطبيعية.
وأخيرا ينبغي أن نلاحظ هذه الحقيقة، فالمذهب الاسكتلندي الذي كان مركز الحياة الفلسفية في إنجلترا في أواسط القرن التاسع عشر، قد وجد نفسه في العقود التالية في مركز متدهور بالتدريج، كما وقع تحت ضغط خصمين، هما الداروينية والمثالية، اللتان كان يتعين عليه الدفاع عن نفسه ضدهما، وعلى حين أن فيتش
Veitch (انظر أدناه) قد أخذ على عاتقه الدفاع عنه ضد المثالية، فقد تولى كالدروود مهمة الدفاع ضد الداروينية، ففي كتابه المنهجي الأخير «الداروينية ومركز الإنسان في الطبيعة
Darwinism and Man’s Place In Nature » 1893، وقد أعيدت كتابته بشكل كامل في 1896، دخل في الجدل الذي احتدم حول المذاهب الداروينية التطورية، ومع اعترافه بالقيمة الكبرى لنتائج الأبحاث البيولوجية الأخيرة، فقد أدرك نقطة الضعف في تطبيقها على المشاكل العامة للفلسفة، وانتهى إلى أن كون الإنسان منحدرا من الحيوان هو أمر لا يمكن أن يفسر العناصر العقلية والأخلاقية في طبيعته، فافترض وجود عقل عال هو العلة المشتركة للتطور الأخلاقي والكوني معا، وعلى هذا النحو حاول الدفاع عن الفلسفة الاسكتلندية التي قامت دائما على الدين ضد هجمات النزعات المعادية للدين داخل المذهب الدارويني.
ونستطيع أن نقول أخيرا: إن «جون فيتش
John Veitch » (1829-1894) كان آخر ممثل للمدرسة الاسكتلندية، بمعنى أنه كان آخر من التزم تعاليمها بإخلاص، وكان فيتش أستاذا للمنطق والبلاغة بجامعة جلاسجو، ومن المقربين كثيرا إلى هاملتن، وقد تتلمذ عليه بإخلاص، ثم أصبح مساعدا له، واشترك بعد وفاته في نشر محاضراته، وألف ثلاثة كتب على الأقل في تخليد ذكراه وشرح تعاليمه ونشرها «ذكريات عن هاملتن
Memoirs of H. »، و«هاملتن» في سلسلة بلاكوود للكلاسيكيات الفلسفية، 1879، وهاملتن، شخصيته وفلسفته
H. the Man and His
1884)، ويكفينا هنا أن نذكر من مؤلفاته المستقلة بحثه في «المعرفة والوجود
Knowledge & Being » (1889) وتوجد قائمة كاملة لمؤلفاته في كتاب نشر بعد وفاته، ونشره «ونلي
R. M. Wenley » وعنوانه «الثنائية والواحدية
Dualism & Monism »، 1895، انظر [مقدمة المترجم لهذا الكتاب وما يليها]، وقد عرض فيتش في هذا الكتاب مذهبه الخاص، واشتبك في خصومة دائمة مع النظريات المثالية لمدرسة كانت وهيجل، وحاول فيه الدفاع عن المواقع الأخيرة للتراث الاسكتلندي ضد هجوم الحركة الفكرية الجديدة، غير أن فيتش كان يحارب في جبهات خاسرة، وفي سبيل قضية خاسرة، ولا شيء يكشف الانهيار التام لهذه الجبهة التي كانت قوية وقتا ما، بمثل الوضوح الذي تكشفه به هذه المقاومة التي كانت تبديها قوات المؤخرة، كما تتبدى لدى هذا الممثل الأخير لتراث عظيم، فهنا يهيب المفكر ببساطة الموقف الطبيعي وسطحيته ضد الأفكار العميقة لكانت وهيجل، ويحاول فيتش بنظريته الواقعية الفجة في المعرفة أن ينال من أعمال نقد العقل الخالص والتأمل النظري المثالي. وتنطوي واقعيته الساذجة على عود إلى ريد، بل وإلى ما قبل ذلك. وعلى الرغم من أنه قد تتلمذ في مدرسة هاملتن، فإنه يفتقر تماما إلى حذر هاملتن النقدي، كما أنه يفتقر إلى الفهم المتعاطف للمعنى الحقيقي للمشاكل الجديدة ولمقتضيات حلها، وهو فهم نصادفه لدى هاملتن، على الرغم من مظاهر سوء الفهم العديدة لديه، وقد وجه فيتش انتقاداته - في المحل الأول - إلى نظرية العلاقات عند جرين، وإلى مذهبه في الوعي الذاتي الأزلي، فقال - ضد الأولى - بواقعيته البسيطة الخشنة النسيج (كقوله: إن الواقع الذي ندركه حسيا أو نعرفه يوجد خارج وعينا، وهو مستقل عنه، سواء عرفنا هذا الواقع أم لم نعرفه، وهذه حقيقة ينبغي قبولها على أنها معطاة فحسب)، وقال ضد المذهب الأخير بالأنا الفردي الواقعي وبالتحليل السيكولوجي لمحتواه، وقد ظل طوال ذلك يحارب بوسائل غير كافية، ويقيس بميزان معيب، وفي كل ذلك كان يكشف بمزيد من الوضوح عن الانهيار الكامل للفلسفة الاسكتلندية.
وعلى الرغم من أن آخر ممثلي المدرسة الاسكتلندية (وهم مورل
Morell
وماكوش
M’ coch ، وتوماس سبنسر بينز
T. S. Baynes ، وفيتش وكالدروود) كانوا لا يزالون أحياء في الأعوام العشرين الأخيرة من القرن الماضي، فلا يمكن القول: إن التراث الاسكتلندي قد ظل محفوظا بانتظام بعد السنوات الأولى من العقد الثامن من ذلك القرن؛ إذ إن الفكر الاسكتلندي قد انحل بعد ذلك أو اندمج في مدارس أقوى وأقرب إلى الطابع العصري، وهو ما زال يمارس تأثيره هنا وهناك، ولكنه لم يعد يستطيع الوقوف على قدميه مستقلا، وقد بدأ هذا الميل إلى التباعد عن الخط الأصلي للمدرسة حتى لدى مفكرين يمكن أن يعدوا أعضاء في المدرسة، وانفصل غيرهم عنها في وقت مبكر، وساروا إما في طريقهم الخاص، أو انضموا إلى معسكرات أخرى، وهكذا اعترف «فرييه
Ferrier » مثلا بأنه قد تعلم من هاملتن أكثر مما تعلم من كل الفلاسفة الآخرين مجتمعين، غير أن تفكيره التالي قد سار في اتجاه بعيد عنه، وغرق في خضم من التأملات النظرية العميقة، ضمنها صراع حاد ضد كانت وهيجل (انظر فيما بعد القسم الأول من الفصل الأول من الباب الثاني)، وسار لوري
Laurie
بعد ذلك بمدة طويلة في طريق مماثل؛ إذ تباعد بدوره كثيرا عن أصله الاسكتلندي، وكون لنفسه اتجاها ميتافيزيقيا لا يكاد يشترك في شيء مع نقطة بدايته الفلسفية [انظر فيما بعد القسم الثامن من الفصل الأول من الباب الثاني.] وعلى يد فريزر
Fraser ، تلميذ هاملتن وخليفته في إدنبرة، انحرف الاتجاه الاسكتلندي الأصلي في اتجاه فلسفة باركلي (انظر فيما بعد الصفحات الأخيرة من الباب الأول)، غير أن بعض مبادئ الفلسفة الاسكتلندية قد انتقل إلى مذاهب فكرية لم تكن في الأصل مرتبطة بها، مثال ذلك أن النزعة الحدسية تتمثل في الأخلاق والفلسفة الدينية عند مارتينو
Martineau
ولدى فلاسفة «حركة أكسفورد» ج. ه. نيومان
Newman
وو. ج. وورد
Ward »، على حين ظهرت اللاأدرية من جديد، كما هو معروف، في المذهب التطوري عند سبنسر، وإن كان هناك فارق بين الحالتين، وهناك أيضا ارتباطات بين مذهب «مانسل» وبين مذهب الألوهية
Theism
عند بلفور
Balfour ، وهكذا تسللت الأفكار الاسكتلندية - في هذه الحالات وغيرها - إلى الفلسفة البريطانية في القرن التاسع عشر، وكانت أقل المذاهب تأثرا بها هي الاتجاهات الأشد محافظة في المذهب التجريبي، نظرا إلى الفارق الشاسع بين الأفكار التي ينطوي عليها كل من الاتجاهين، ولكنا نستطيع أن نلمح - حتى في هذه الحالة - عناصر مشتركة تظهر من آن لآخر. ومن الجدير بالملاحظة أن جيمس مل قد تأثر في شبابه تأثرا قويا «بدوجالد ستيوارت»، واستمد من محاضراته أول معلوماته في ميدان الفلسفة وعلم النفس.
ولقد كان من نتيجة التوسع الذي أحدثه هاملتن في الفلسفة الاسكتلندية القومية - إن جاز استخدام هذا الاسم - أن فتح الطريق الذي كان مقدرا له أن يؤدي بها إلى عبور حدود بلادها الأصلية والانضمام إلى التيار الضخم للفكر الأوروبي، وفي الوقت الذي كانت الفلسفة الاسكتلندية تسير فيه نحو نهايتها، تمثل هذا التيار في بريطانيا في الحركة المثالية، ورغم أنه لم يحدث انتقال تاريخي فعلي من الأولى إلى الثانية، فمن الممكن القول: إن المثالية قد استوعبت وامتصت الفكر الاسكتلندي بعد أن أدى رسالته، وليس من قبيل المصادفة أن إحياء مذهبي كانت وهيجل في العقدين السابع والثامن قد لقي من التشجيع في اسكتلندا أولا ثم في الجامعات الاسكتلندية ما لم يلقه في أي مكان آخر ما عدا أكسفورد، وحسبنا أن نشير إلى المؤلفات الهيجلية للاسكتلندي سترلنج، وتدريس «كيرد
Caird »، وهو اسكتلندي بدوره، في جامعة جلاسجو. وإذا كان من قبيل المصادفة أن كتاب سترلنج الذي أحدث دويا هائلا (في 1865) وتدريس «كيرد» الدقيق الواسع الانتشار في جلاسجو (ابتداء من 1866) - وكلاهما كان من أجل خدمة هيجل والحركة الجديدة - قد حدثا في نفس الوقت الذي بدأ فيه نجم هاملتن في الأفول (إذ كان هجوم مل الحاسم عليه في عام 1865)، فإن لهذه المصادفة دلالة عميقة في تاريخ الفكر. وهكذا توطدت دعائم المذهب الهيجلي في أواسط العقد السابع في اسكتلندا، وتزايد ضغطهما على الدوام من جلاسجو، حيث اكتسبت مركزا منيعا، على التراث الفلسفي الأصلي في البلاد، ولم تستطع المدرسة القديمة أن تحتفظ بمواقعها مدة أطول كثيرا إلا في قلعة مذهب هاملتن، أي في جامعة إدنبرة، وهناك تأخر الانحلال حتى العقد الأخير من القرن الماضي، ولما لم يكن هناك خلفاء منتمون إلى المدرسة الاسكتلندية، فقد انتقل كرسي الأستاذية إلى أيدي الكنتيين المحدثين، فانتقل كرسي هاملتن - الذي ظل فريزر يشغله حتى عام 1891 - إلى «أندرو سث
Andrew Seth » «برنجل باستون
» في ذلك العام نفسه، كما انتقل كرسي دوجالد ستيوارت - الذي كان كالدروود آخر من شغله - إلى شقيق أندرو سث، وهو جيمس سث. وهكذا جلت الفلسفة الاسكتلندية عن آخر معاقلها الأكاديمية، متخلية عنها للمدرسة الجديدة، ومحيت آثارها تماما، أما الأفكار القليلة التي ساهمت بها في القرن الجديد فلا ترتبط بها على الدوام، وإنما هي عود غير منتظم تارة إلى هذا المبدأ من مبادئها وتارة إلى ذاك، مع إيثار ريد على هاملتن في هذه الحالة، فآثار تعاليم المدرسة الاسكتلندية ومؤسسها تظهر بوضوح حيثما يهاب بالذهن البشري السليم بما فيه من يقينيات واعتقادات حدسية، ويعترف بأنه المعيار الحاسم للحقيقة، وحيثما تسعى المعرفة إلى تحرير نفسها من تدقيقات الأذهان الشكاكة المفرطة في نقديتها، وتلجأ إلى الوسائل المباشرة للواقعية الطبيعية. ولما كانت هذه الآراء تتمثل لدى مفكرين من المدرسة الواقعية الجديدة أكثر مما تتمثل لدى أية مدرسة أخرى، وهي تتضح بأوضح صورها لدى ويلسون
J. C. Wilson
وستوت
G. F. Stout
ومور
G. E. Moore
وليرد
J. Laird
وجود
C. E. M. Jood
فإن معنى ذلك أن من واجبنا البحث عن الآثار القليلة الباقية من المدرسة الاسكتلندية في الواقعية الجديدة قبل كل شيء.
الفصل الثاني
المدرسة النفعية التجريبية
سار الخط الرئيسي للفلسفة الإنجليزية في طريق متصل منطو على ذاته نسبيا، منذ عصر النهضة حتى يومنا هذا، ويسمى هذا الخط الفكري الرئيسي عادة باسم المذهب التجريبي
empiricism
أو فلسفة التجربة
، ولهذا المذهب من الحق أكثر مما لأي مذهب آخر في إرجاع أصله إلى تراث طويل، وهو لم يتغلغل في أي بلد بنفس العمق والتأصل الذي تغلغل به في الجزر البريطانية، وعلى ذلك ففي وسعنا أن نسمي هذه المدرسة بالمدرسة الوطنية أو القومية، وعلى الرغم من أننا لو وحدنا بينها وبين الفكر الإنجليزي لكان في ذلك سوء تفسير واضح للحقائق، فهناك مبررات للقول بأنها أكثر المدارس تمثيلا لهذا الفكر. وعلى أية حال فنحن هنا لسنا إزاء مدرسة اخترعها مؤرخو الفلسفة، بل إن ما نحن إزاءه هنا هو الوجود الفعلي لفكرة رئيسية واحدة وموقف فكري واحد، تتمثل لنا رغم تنوع أطرافها الهائل، ورغم المشاكل الجانبية والاتجاهات الفرعية في كل له في أساسه طابع موحد، فالخط الفلسفي الذي يمتد من بيكن وهبز إلى لوك وباركلي وهيوم، ثم إلى بنتام ومل وسبنسر، هذا الخط يتضمن مجموعة كبيرة من المبادئ المتماسكة المنسجمة التي تتخذ مظهرا مختلفا تبعا لوجهة النظر التي نتأملها منها، ولكنها تقف دائما على علاقة بنفس المجموع الكلي، فإذا أردنا أن نهتدي إلى ألفاظ مناسبة لهذا المجموع في أوجهه الرئيسية، فينبغي أن نختار اسم المذهب التجريبي أو الوضعي لنبين اتجاهه الفلسفي الرئيسي، واسم المذهب الحسي أو الظاهري فيما يتعلق بنظريته في المعرفة، ومذهب التداعي للدلالة على اتجاهه في علم النفس، ومذهب اللذة
hedonism
أو السعادة
eudaemonism
أو المنفعة
utilitarianism
للتعبير عن اتجاهه الأخلاقي، ومذهب الشك أو اللاأدرية للدلالة على موقفه الميتافيزيقي، ومذهب الإلهية الطبيعية
deism
أو الحيادية
indifferentism (وأحيانا الإلحادية أيضا) في الدين، ومذهب الحريين «الليبرالية
Liberalism » في السياسة.
وقد بلغ المذهب التجريبي الكلاسيكي في القرنين السابع عشر والثامن عشر الذي نميزه من خليفته الطبيعي، المذهب التجريبي الحديث في القرن التاسع عشر، بلغ هذا المذهب أوجه في فلسفة هيوم، وتوقف مؤقتا عندها، وكان التوقف مؤقتا؛ لأن هيوم لم يخلف وراءه أي تراث من التعاليم الواضحة المنظمة التي كان تلاميذه وخلفاؤه يستطيعون الأخذ بها لتوسيعها، بل إن ما خلفه هو زعزعة كاملة للمبادئ الفلسفية وهدم تام لها، نجم عنه القضاء على كل إمكانية للتعليم المتقيد به، وحال دون أي استمرار مباشر لمذهبه أو أي تدريس فلسفي قريب منه، وهنا يكمن المعنى الحقيقي لما يسمى - من باب التركيز - باسم مذهب الشك عند هيوم، فخط المذهب التجريبي الإنجليزي يسير في عمومه في اتجاه مستقيم إلى الأمام وعلى نحو متصل، حتى يبلغ أعلى مستوى له عند هيوم، وعندئذ ينحرف وينقطع، ولا يتحرك إلى الأمام ثانية حتى يتلقى دفعة جديدة من الأفكار، ويحدث انقطاع الاتصال في نفس الموضع الذي ينفصل فيه المذهب التجريبي الكلاسيكي عن نظيره الحديث ويتجدد ولكن على صورة مختلفة، ويتحدد الانقطاع تاريخيا بالهجوم المضاد الذي شنه ريد والفلسفة الاسكتلندية على هيوم، أما الأفكار الواردة الجديدة فتتمثل في فلسفة بنتام.
ومن المهم أن يكشف المرء بوضوح عن هذه الارتباطات التاريخية، فالمدرسة المتأخرة لا ترتبط مباشرة بالمتقدمة، بل إن بينهما انفصالا وفراغا تملؤه المدرسة الاسكتلندية؛ ذلك لأن هجوم ريد، والحركة الاسكتلندية التي أسفر عنها، قد أدى إلى إصابة التجريبية التقليدية بضربة قاصمة، كان لا بد من مضي وقت طويل قبل أن تفيق منها، وقد انقضت العشرات الأولى من القرن التاسع عشر في صراع بين هذه المذاهب المتنافسة، ظل محتدما حتى أنهاه الهجوم المشهور الذي شنه جون ستيوارت مل على هاملتن عام 1865، وفي هذا النزال الحاسم خرج المذهب التجريبي منتصرا. وإن المعركة الفكرية بين مل وهاملتن لتناظر بكل دقة، من الوجهة التاريخية، المعركة بين ريد وهيوم، غير أن التفوق في الأسلحة كان في هذه المرة من نصيب المذهب التجريبي، الذي كان قد اكتسب قوة جديدة، وطرد خصمه الاسكتلندي نهائيا من الميدان هذه المرة، وقد أثبت المذهب التجريبي، بإعادته لتراثه إلى مكانته القديمة، ومساهمته بأفكار ومبادئ فكرية جديدة، أنه هو الاتجاه الفلسفي الأقوى والأقدر على البقاء، وهكذا كان التنافس بين المدرستين، وصراعهما على السيطرة، هو العنصر الهام المتصل في الفكر الإنجليزي منذ أواسط القرن الثامن عشر حتى أواسط القرن التاسع عشر. ومن الجدير بالملاحظة أن الفترة التي استغرقها هذا الصراع كانت قرنا بالضبط، منذ هجوم ريد الأول على هيوم في سنة 1764 حتى هجوم مل الأخير على هاملتن في 1865؛ فهاتان السنتان تمثلان إذن نقطتي الذروة في الصراع، على حين أن الفترة الواقعة بينهما تتميز بمنازلات ومناوشات أقل أهمية، وبفترات هدنة وإيقاف للقتال أيضا، وإن كان ذلك يقترن أيضا بتوتر ظاهر أو خفي.
وعلى قدر ما كان من أهمية تاريخية للمذهب التجريبي الحديث - كما يتمثل في المؤلفات الرئيسية التي كتبت منذ عهد بنتام حتى مل الأصغر - فقد أثبت أيضا أنه حركة عقلية لها مكانتها الرفيعة وتأثيرها الهائل؛ فهو لم يقتصر على أن يكون المحور الذي يدور حوله التقدم الخاص في الفلسفة، بل لقد امتد تأثيره - أكثر من أية حركة أخرى في ذلك العصر - إلى ميادين الأدب والثقافة والسياسة والقانون والإصلاح الاجتماعي والتعليم، وسيطر على هذه المجالات وشكلها بصورته وطبعها بطابعه الخاص، ولم يكن مصدر نموه هو مدرجات الطلاب أو قاعات الدرس بقدر ما كان هو ضرورات الحياة الملحة والصراع اليومي المتقلب في سبيل العيش، ولم يكن الاهتمام به مقتصرا على العلماء أو الإخصائيين، ولا كانت حدوده تنحصر في الدوائر الأكاديمية والعلمية، كما هي الحال في الفلسفة الاسكتلندية وغيرها من المدارس في ذلك القرن، ويتضح ذلك - خارجيا - إذا أدركنا أن ممثليه الرئيسيين لم يكونوا من أصحاب كراسي الأستاذية أو غيرها من المناصب الأكاديمية، بل كان معظمهم من أصحاب المهن العملية، فقد نما منذ البداية بين مختلف مهام الحياة وظروفها العملية، وكان هذا الطابع العملي الواضح الذي تميز به كفيلا بأن يضمن له تأثيرا أوسع وأعمق مما تكتسبه الأفكار والحركات الفلسفية عادة، وهكذا استوعب في داخله تراث أسلافه الكلاسيكيين، مع توسيع نطاقه والنهوض به والتعمق في أغوار أبعد في مختلف مجالات الحياة، فهو ليس فقط المرآة التي تجمع وتعكس أشعة الفكر والشعور القومي الإنجليزي، بل إنه - مع الأدب والشعر - القالب الرئيسي الذي تتشكل به الروح الإنجليزية. والأمر الذي لا نكاد نجد له نظيرا إلا في هذه الحالة هو أن يفتح للفلسفة طريقا تؤثر به في السياسة والقانون والبرلمان والتشريع والتعليم، وهو يسهم إسهاما إيجابيا في حل المشكلات الملحة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والجنائية وغيرها من الميادين العملية، وهو في كل ذلك خليفة مخلص لعصر التنوير، ينفر تماما من اتخاذ التأمل الخالص مثلا أعلى، ويضع نفسه تماما في خدمة الميدان العملي، حتى عندما يتخذ نشاطه طابعا نظريا، فهو برجماتي في كل شيء على الرغم من أنه لم يكتشف الصيغة الفلسفية المعبرة عن طابعه الأساسي.
ونستطيع أن نتأمل المذهب التجريبي في ضوء آخر إذا ما تساءلنا عن قيمته الفلسفية الكامنة، ونقارنه - على هذا الأساس - بالمذهب التجريبي الكلاسيكي السابق عليه، وهنا نجد أن المقارنة - كما هو متوقع - ليست في صالحه، على الرغم من أن الدراسة المنزهة عن التحامل كفيلة بأن تجعلنا نصدر عليه حكما أفضل مما يعزى إليه عادة؛ إذ ليس ثمت شك في أن الفلسفة التجريبية قد بلغت قمة نموها النظري لدى الثلاثي المؤلف من لوك وباركلي وهيوم، بحيث سار التطور التالي - في هذا الصدد - في اتجاه نزولي، ولم يقتصر المذهب التجريبي - في فترته الكلاسيكية - على إرساء دعائمه الأساسية، بل إنه قد استنفد إمكانياته التأملية في جميع المجالات الرئيسية، ولم يكن في استطاعة القرن التاسع عشر أن يحرز أي تقدم هام يغير به إطار المذهب التقليدي. وإلى هذا الحد يكون المذهب التجريبي المتأخر بالفعل من عمل مفكرين من مستوى أدنى بكثير من أسلافهم، ويفتقر إلى كل ما يتميز به الفكر الخلاق من قوة وأصالة حقيقية، غير أن رجال ذلك الجيل الفلسفي - وإن كانوا أقل مرتبة من أسلافهم - لم يكونوا مجرد شراح أو مقلدين، ولم يكونوا طفيليات تعيش على ثروة موروثة وتستهلكها، وإنما كرسوا أنفسهم لتدبير شئون ميراثهم بدقة ونجاح، واستطاعوا إضافة أرباح إلى رأسمالهم الموروث. وهكذا فعلى الرغم من أنه لم تتحقق نتائج نظرية هامة، فقد خلقت قيم إيجابية جديدة هامة، وتتمثل هذه - قبل كل شيء - في إحراز تقدم في تمييز المشكلات وتفريعها، وفي تحسين مناهج البحث، وأخيرا، في إحداث توسيع وإثراء ضخم في المادة التجريبية، وفتح ميادين جديدة للبحث، وقد أصبحت هذه المرحلة المتأخرة للحركة التجريبية - للمرة الأولى - متعطشة إلى التجربة بالمعنى الصحيح للكلمة؛ فجمعت بحماسة مجموعات ضخمة من المواد الجديدة، ورتبتها وصنفتها وبوبتها ونظمتها، أي إنها حاولت بالاختصار أن تفهمها وتعالجها فلسفيا، ولكن الفلسفة عندما تسلم قيادها للتجربة إلى هذا الحد، تتعرض لخطر الخضوع لسيطرة التجربة بدلا من إخضاعها لسيطرتها، وهكذا تزداد ابتعادا عن المشكلات المركزية، وينحرف اهتمامها الرئيسي إلى مسائل هامشية، ويتمثل ذلك في فتور الدافع الصحيح إلى التأمل، وفي التخلي عن فكرة المذهب البناء، وفي اتخاذ موقف سلبي من مشكلات الميتافيزيقا، وتحويل نظرية المعرفة إلى علم النفس، والمنطق إلى مناهج البحث، وفي إعطاء الأولوية للفعل. وهكذا تعد التجريبية المحدثة حركة تهتم بالكم أكثر من الكيف، وبالاتساع أكثر من العمق، وعلى الرغم من أن هذه في مجموعها عيوب، فإنها ميزة بمعنى من المعاني؛ إذ إنها أدت خدمة ضخمة في استيعاب المعلومات الجديدة والسيطرة على مجالات البحث الجديدة، كما أننا ندين للقرن التاسع عشر بظهور نظام محكم للمنطق التجريبي، على حين أن الفترة الكلاسيكية لم تنتج إلا اقتراحات قليلة، تقترن بنظرية عامة في العلم ومبحث منهجي في المعرفة كاد أن يتجاهل تماما حتى ذلك الحين، كذلك تحقق في الأخلاق بدورها - لأول مرة في ذلك الحين - تنظيم دقيق للمادة التي كان المذهب الأخلاقي الأسبق قد توصل إليها من قبل، ولكنه لم يضعها قط في قالب ثابت متماسك، وهذا يصدق أيضا - بدرجة أقل - على علم النفس، بينما يدل النشاط الذي بذل في ميدان نظرية المعرفة على تأخر مؤكد بالنسبة إلى ما كانت عليه الحال من قبل، ومن جهة أخرى اكتشفت أرض جديدة في مجالات القانون والسياسة والحياة الاجتماعية والتعليم وغيرها من المجالات المنتمية إلى الميدان العملي.
وإذا طرحنا جانبا المدرسة التطورية - التي سنتحدث عنها في الفصل المقبل - فإن الشخصيات الرئيسية في المذهب التجريبي الحديث هي بنتام وجيمس مل وجون ستيوارت مل، وقد حمل هؤلاء المفكرون الثلاثة العبء الرئيسي في الحركة، وفيهم يتمثل المظهر الحديث للتراث التجريبي الإنجليزي في أفضل وأعمق صوره، وعلى الرغم من أن جريمي بنتام
Jeremy Bentham (1748-1832) مرتبط ارتباطا وثيقا بالقرن الثامن عشر، سواء من حيث تعليمه العقلي ونشاطه الإنتاجي، فإنه - فيما يتعلق بتأثيره الفلسفي - ينتمي إلى القرن التاسع عشر، ويمكننا أن نرى فيه الممثل الأول لما نسميه بالمذهب التجريبي المحدث، وينحصر نشاطه - في المحل الأول - في ميدان الفلسفة العملية، وذلك أولا في الأخلاق، ثم في جميع مجالات الدراسة المبنية على الأخلاق، كالسياسة والإصلاح الاجتماعي والتشريع والفقه القانوني (ولا سيما القانون الجنائي) والقانون الدولي والتعليم، وفي جميع هذه المجالات كان مجددا ثوريا، وقد اكتسب منه الفكر الإنجليزي في القرن التاسع عشر من الخصوبة والعمق أكثر مما اكتسب من أي مفكر آخر، وتأثر به بقوة تفوق تأثره بأي شخص غيره، وهو هنا يواصل ويحيي تلك الآراء الديمقراطية المتحررة والنفعية التي بدأها لوك، والتي سيطرت على ذلك القرن، ولم يكن لمذهب أي فيلسوف آخر مثل ما كان لمذهبه من اتساع نطاق التأثير، أو من النتائج العملية الهامة، وكان بلا شك أشد الأرواح في عصره وبلده تحررا، ولم يلن أمام أية سلطة أو أي تراث؛ فحرر نفسه من جميع قيود الدولة والكنيسة والدستور والقانون التقليدي، ومن الأخطاء المتأصلة والعادات الراسخة، وكان أعظم متشكك في ثبات النظام السائد للأشياء، سواء في المذاهب والنظم الاجتماعية، وأجرأ ثائر على القيم التقليدية، وأقسى ناقد للتقاليد السائدة، وبالاختصار، فقد كان هو الفيلسوف المجدد
Radical ، أو المجدد الفلسفي كما أسماه معاصروه، وهو مؤسس مذهبية (أيديولوجية) سياسية واجتماعية جديدة، تقترب في نواح عدة من تلك التي ابتدعها كارل ماركس فيما بعد، ويمكن أن يقال إنها استبقتها، وإن كانت قد بنيت على افتراضات منطقية مختلفة تماما، كما أنها تفوقها كثيرا في اتساع نطاق الروح الشعبية التي ارتكزت عليها. وعلى الرغم من أن أفكاره قد نظمت في مذهب محدد دقيق، فإنها لم تكن ترمي أبدا إلى مجرد التعليم، وإنما إلى هدف عملي هو تغيير النظام القائم للأشياء وتحسينه، وإذ وجدت هذه الأفكار لها أرضا خصبة واسعة، فقد تعلق بها معاصروه بترحيب وحماسة، والواقع أن تعاليم بنتام كانت أشبه بالمغناطيس القوي في جذبها لكل ما هو شائع بين المفكرين الأحرار التقدميين في إنجلترا في ذلك الوقت، وهكذا ظهرت لأول مرة على الأرض البريطانية مدرسة طموحة للتعليم الفلسفي، كان الفضل في إنشائها يرجع إلى اجتهاد التلاميذ أكثر مما يرجع إلى أي اهتمام خاص للأستاذ، وكانت الحالتان الوحيدتان اللتان تشبهانها هما: تلك الجهود الأضعف كثيرا، التي بذلها في اتجاه مماثل مفكرو القرن السابع عشر الذين كونوا «مدرسة كيمبردج»، ثم تلك الجهود التي بذلها المفكرون الذين التفوا حول ريد فيما بعد، ففي مدرسة بنتام اقتبس عدد من التلاميذ المجتهدين المخلصين آراء الأستاذ وعلقوا عليها وأذاعوها في اتجاهات عديدة مختلفة، وأخيرا وضع من هذه الآراء برنامج سياسي، وأنشئ حزب سياسي (عرف باسم حزب «المجددين الفلسفيين»)، لتنفيذ هذه الآراء، مع إنشاء صحيفة أدبية لنشر هذه الآراء، وبذلك تحول المذهب إلى دعوة، بل لقد دخل البرلمان - وهو المكان الملائم لتحويل الأفكار - إلى حقائق واقعة، أما بنتام ذاته فلم يظهر أمام الجمهور، وإنما عاش في عزلة هادئة عاكفا على تحسين مذهبه، وترك لتلاميذه كل ما عدا ذلك من الأمور، وليس من السهل أن نحدد بدقة كم من أفكاره تحقق على هذا النحو بفضل الإصلاحات التشريعية الضخمة التي تمت في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، غير أن من الأمور التي يشيع الاعتراف بها اليوم أن روح أفكاره قد تغلغلت فيها، وأسهمت في تحقيقها بنصيب كبير.
ويظهر بنتام في تاريخ الفلسفة على أنه واضع ومؤسس مذهب المنفعة في الأخلاق، غير أنه قطعا ليس أول القائلين بالمنفعة بوصفها مبدأ أخلاقيا؛ فهذا المبدأ متغلغل في التعاليم الأخلاقية الإنجليزية والفرنسية في عصر التنوير، وهو يتخذ فيها أحيانا صبغة واضحة ويطبق من آن لآخر، أما بنتام فقد تلقى فجأة ما يشبه الوحي الجديد الذي أضاء تفكيره كبرق خاطف عندما قرأ المجلد الثالث من كتاب هيوم «بحث في الطبيعة البشرية
Treatise of Human Nature »، وكما يقول بنتام ذاته، فقد ارتفعت الغشاوة عن عينيه عندما تكشفت له لأول مرة الأهمية الكبرى لفكرة المنفعة في السلوك البشري، وفي هذه اللحظة الخلاقة تم تشييد الجسر الذي يصل بين التراث الكلاسيكي وبين فترة إحيائه الحديثة، ولقد كانت أعظم خدمة تاريخية أداها بنتام هي أنه آمن بهذه الفكرة إيمانا راسخا، واتخذ منها مبدأ أساسيا لتفكيره ودعامة رئيسية لمذهبه، وشيد هذا المذهب بجد ومثابرة هائلين، وأمده بثروة ضخمة من المادة التجريبية، ولا يكاد المرء يجد مثلا لأي مذهب فكري آخر قام واضعه بتنظيم مبدأ واحد فيه ودعمه بهذا الحشد الهائل من التجارب كما يجد لدى بنتام؛ ذلك لأن الكمية الضخمة من المادة التجريبية، التي أدرجها تحت مبدئه النظري الرئيسي، لم تكن هي وحدها التي اكتسبت من التجربة، بل لقد كان المبدأ ذاته مكتسبا من التجربة، وهنا نستطيع أن ندرك التضاد الواضح بين هذا المذهب وبين آراء المدرسة الاسكتلندية التي كانت خصما تاريخيا لها، فهناك من جهة مبادئ أولية فطرية في الطبيعة البشرية، وهي مبادئ تؤكد المعرفة الحدسية وضوحها المباشر، وعليها ترتكز أحكامنا في القيم، وهناك من جهة أخرى تلك الفكرة البسيطة التي تؤكدها تجارب لا حصر لها، ويمكن تحقيقها في أية لحظة، وهي القائلة بأن كل سلوك بشري يحدده ويملؤه السعي إلى اكتساب اللذة وتجنب الألم، وليس في وسعنا في هذا المجال أن نتحدث بالتفصيل عن الطريقة التي انتقل بها بنتام من هذا المبدأ البسيط حتى وصل إلى التطبيق الشامل لمبدأ المنفعة، ومنه إلى صيغته الأخلاقية المشهورة القائلة: «بأكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس» وكيف انتقل إلى وصف الحياة الأخلاقية بأسرها، ومنه إلى إقامة توازن بين اللذة والألم في السلوك البشري، أو إلى ما يسمى بحساب اللذات
Hedonistic Calculus ، وكيف طبق هذه الأفكار على أشد مجالات الحياة العملية تباينا، ولا سيما السياسة والإصلاح الاجتماعي، وحسبنا أن نذكر أنه حاول رد مجال السلوك البشري بأسره (الفردي منه والاجتماعي) إلى مبدأ سائد واحد شامل لكل شيء، يطبق باتساق صارم وتجاهل قاس للحجج المضادة، وعلى هذا النحو حاول جمع الكثرة المحيرة للظواهر الأخلاقية في نظرة عقلية واحدة، وإخضاعها لمذهب محكم البناء، وهكذا ارتفعت الأخلاق عنده لأول مرة (ومعها المجالات العملية الأخرى للدراسة) إلى مرتبة العلم الدقيق، وأضيفت كالعلم الطبيعي إلى مجال البحث الدقيق. وتتوقف عظمة هذه النظرة، والقدرة على تنفيذها عمليا على العزل الجريء لوجه محدود منفصل، مع تجاهل مترفع لكل الأوجه الباقية. وهكذا اقتطع بنتام - من مجال معقد عديد الأبعاد - سطحا واحدا، وقدمه إلينا بكل مظاهر البحث العلمي الدقيق، وتحقق ذلك بجعل مبدأ المنفعة أهم العوامل وإخضاع الحياة الأخلاقية بأسرها لعنصر الكم تماما، وهكذا أزيلت عن الأخلاق كل العناصر الكيفية، وكذلك جميع الشروط الميتافيزيقية والدينية وغيرها، بل لقد سعى بنتام إلى الاستغناء عن الأساس النفسي الذي كان باحثو الأخلاق الإنجليز من قبله ومن بعده يرونه ضرورة لا غناء عنها.
ولقد تأثر التطور التالي للفكر الإنجليزي - سواء خلال حياة بنتام أو بعدها - تأثرا تاما بمذهب المنفعة في قوته وإحكامه وبنائه المنطقي السليم، ولكن كان من المحتم أن ينحدر هذا المذهب - الذي ادعى أنه نهائي - إلى مرتبة القطعية الجازمة، وأن يكبل كل الأذهان التي تقع تحت تأثيره بدلا من أن يحررها، وإذا استثنينا أتباع المدرسة الاسكتلندية وعددا قليلا من المفكرين الثانويين وأصحاب الآراء الشاذة، فقد ظل مذهب المنفعة وقتا طويلا يفخر بولاء إجماعي له من الفلاسفة والمشتغلين بالفلسفة من الإنجليز، وبدا هنا أن المشكلات الكبرى في الحياة والفكر قد حلت أخيرا، ولم يعد هناك مجال للتطور الحر للقدرات الفلسفية، إلا إذا كان ذلك من أجل التوسع في المبدأ الأساسي بمزيد من الدقة والتفصيل، وتطبيقه على مجالات أوسع، وفي مجال الفلسفة الأخلاقية بدا أن بنتام قد قال الكلمة الأخيرة، ولما كان قد تخلى نهائيا عن المشاكل الميتافيزيقية والدينية، فقد بدا أن أجنحة التأمل النظري قد أصبحت مهيضة، وهكذا أصبح التمسك الصارم بالمبدأ، وهو التمسك السائد في مدرسة بنتام، هو أقوى العقبات في وجه التقدم الفلسفي.
وينبغي أن نذكر - من بين معاصري بنتام الذين أسهموا بأدوار مستقلة، وساروا في طريق الفكر النفعي دون أن يلتزموا مباشرة باقتفاء أثره - أسماء جودون
Godwin
ومالتوس
Malthus
وريكاردو
Ricardo ، وهؤلاء الثلاثة معا لا ينتمون إلى الحركة الفلسفية بالمعنى الصحيح بقدر ما ينتمون إلى البيئة الروحية التي تستمد غذاءها من الفلسفة؛ وبالتالي تزيد الفلسفة ثراء، أما وليام جودون (1756-1836)، الذي سنذكر هنا كتابا رئيسيا من كتبه كانت له شهرة وأهمية فائقة، هو «بحث في العدالة السياسية
An Enquiry Concerning
» (1793)، فقد كان أعنف وأقوى هجوما على النظام الاجتماعي القائم من بنتام ذاته، وقد تأثر مباشرة بموجة الثورة الفرنسية، وهو أول مفكر إنجليزي ذي مذهب ثوري، وهو بدوره يرى في اللذة والسعادة دوافع السلوك البشري، ويدعو مثل بنتام إلى تحصيل أكبر قدر منها للوصول إلى الحالة المثلى التي ينشدها للمجتمع، وهو يرى أن العقل - الذي يضفي عليه أسمى الحقوق - هو المرشد الوحيد للإنسان ومحرره من الاضطهاد السياسي والاستعباد الديني، ولقد استمد من التراث الروحي لعصر التنوير والثورة الفرنسية عناصر كثيرة، منها إيمانه المتعصب بالتقدم وفوضويته وحماسته ضد الكهنوت وكل من يموهون على الناس، وحلمه الإنساني العالمي بالسعادة البشرية، وتأليهه للعقل، وهجومه على النظم الاجتماعية والأفكار الأخلاقية الشائعة، وقد استطاع التوفيق بين مبادئ عصر التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية في مذهب فكري واحد، ولما كان قد عرض هذه الأفكار بحماسة دافقة، فقد هز عقول الناس بقوة هائلة، ولا سيما عقول الشعراء الرومانتيكيين، وهكذا وقع في حبائل إغراء مذهب جودون شعراء مثل كولردج ووردزورث وسذي
Southey
وشلي وكثير غيرهم، ووجدوا لزاما عليهم أن يحددوا موقفهم منه، فانتهى بعضهم إلى التحرر منه، وانتهى البعض الآخر إلى الإغراق فيه.
ولقد أخذ توماس ر. مالتوس
Thomas R. Malthus (1766-1834) على عاتقه مهمة مهاجمة آراء جودون بما فيها من أمنيات مبالغ فيها عن مستقبل البشرية، وذلك في كتاب مالتوس المشهور والمفرط في غرابته: «بحث في نظرية السكان
Essay on the Principle of Populations » (وقد نشر لأول مرة عام 1798)، فأعاد الأمور في هذا الكتاب إلى نطاق الواقع المرير، فقد كانت نظريته في السكان، التي أثارت بمجرد ظهورها عاصفة من الاستنكار وسيلا من الردود، موجهة أولا ضد وهم التقدم والاعتقاد بازدياد كمال الإنسان والمجتمع على الدوام، وهو الاعتقاد المميز لعصر التنوير، وكانت ترمي إلى إثبات أن مشكلة السكان تكشف لنا عن قانون صارم يهدم أحلام السعادة هذه، هو القانون القائل: إن السكان يتزايدون بمعدل يفوق كثيرا معدل نمو وسائل العيش، وعلى ذلك فليس لنا أن نتوقع زيادة مطردة للسعادة، بل ينبغي على العكس من ذلك أن نتوقع زيادة في البؤس الفردي والاجتماعي نتيجة لهذه الظروف، وسرعان ما أصبحت تعاليم مالتوس - التي تتمشى نتائجها مع اتجاه بنتام الفكري - جزءا أساسيا من مذهب المنفعة، وكان لها في التفكير الاقتصادي الإنجليزي تأثير قوي، وإن يكن مثبطا، تجلت آثاره في التشريع العملي، وظل هذا المذهب قوة حية حتى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر على الأقل، وقد كان تأثر مالتوس ببنتام - من الوجهة التاريخية - أقل من تأثره بمفكرين مثل أ. تكر
A. Tucker ،
1
وبالي
W. Paley ،
2
ناهيك بتأثره بهيوم، الذي اعترف مالتوس ذاته بأنه كان يدين بالكثير لآرائه في السكان، وفيما بعد استعار دارون من مذهب مالتوس تلك الفكرة الحافلة بالنتائج؛ فكرة الصراع من أجل الوجود (والتعبير ذاته موجود لدى مالتوس) وبذلك اكتسب وجهة النظر التي سادت أبحاثه البيولوجية.
أما ديفد ريكاردو
D. Ricardo (1772-1822) فقد وضع مذهبا نفعيا في الاقتصاد في كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي والسياسة الضريبية
» 1817، التزم فيه مبادئ مذهب المنفعة بدقة، مع تطبيقه على نطاق أوسع من تطبيق مالتوس له، ولا شك أن أمر تقدير الأهمية الفائقة لهذا الكتاب، الذي يعد فتحا في تاريخ الاقتصاد السياسي الإنجليزي، أو اختبار الآراء التي يتضمنها، إنما يقع خارج نطاق كتابنا هذا، والواقع أن هذا الكتاب لم يفقه أهمية إلا كتاب آدم سمث الكلاسيكي، الذي يرتبط به ارتباطا وثيقا؛ إذ نقل رسالته الفكرية إلى القرن التاسع عشر في صورة مستقلة. ولقد ظل ريكاردو أقرب من مالتوس إلى آراء بنتام، وذلك بتوسط جيمس مل في المحل الأول، وإن يكن قد اتفق مع مالتوس في آرائه الاجتماعية والسياسية الأساسية. وإن التفكير الاقتصادي للقرن التاسع عشر - ولا سيما تفكير ماركس - ليدين لريكاردو بأفكاره الأساسية، وقد احتلت آراؤه فيما بعد بالتدريج مركز البديهيات في الدراسة النظرية للقوانين والوقائع الاقتصادية.
ويستمر التيار الرئيسي للتفكير النفعي - بعد بنتام - عند جيمس مل (1773-1836) مباشرة، وكان جيمس مل تلميذا شابا وصديقا وحليفا لبنتام، اقتبس تعاليمه وواصلها كأنها عقيدة موروثة، وهو يمثل معبرا بين بنتام - الذي أعاد بناء المذهب التجريبي من جديد - وبين ابنه جون ستيوارت مل، الذي بلغ بهذا المذهب تمامه، وهكذا كان يحتل أساسا موقع الوسيط، وكانت مهمته هي حفظ التراث حتى يسلمه نقيا صافيا إلى ابنه وخليفته العظيم. ولقد كان جيمس مل أشد المتحمسين للدعوة إلى أفكار بنتام، وأجهر الناس بالإعجاب به، وقد التفت حوله تلك الفئة المسماة «بالمجددين الفلسفيين» الذين عملوا على تجديد الحياة السياسية الإنجليزية مستوحين روح بنتام. وكان نشاطه التأليفي موجها في المحل الأول إلى الفلسفة الأخلاقية والدراسات العملية المرتبطة بها، وكذلك إلى التاريخ والفقه ونظرية الدولة والسياسة والاقتصاد السياسي، وفي هذه الدراسة الأخيرة اعترف بأنه تابع لريكاردو مباشرة. وقد ارتكز في كل هذه المجالات على أفكار المدرسة التي تغلغلت في دمائه، ولم يجد ما يدعو إلى مناقشتها، والتزم بحماسة التلميذ المكتمل وإخلاصه، تلك الصيغة المشهورة في مذهب المنفعة، تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس.
ومع ذلك، فقد أدى في ناحية معينة خدمة هامة ضرورية لمدرسته؛ ذلك لأن بنتام لم يكد يعبأ بإيجاد أساس نظري لتعاليمه، وهكذا كانت هناك ثغرة في مذهبه تحتاج إلى أن تملأ، لا سيما وقد أنتجت المدرسة الاسكتلندية المضادة له مؤلفات قيمة، لم يكن من الممكن التصدي لها وإبطال أثرها إلا بمؤلفات متساوية القيمة من الجانب الآخر، وقد أخذ مل على عاتقه هذه المهمة في أهم كتبه، وعنوانه: «تحليل ظواهر الذهن البشري
Analysis of the Phenomena of the Human Mind » (1829 طبعة جديدة بإشراف جون ستيوارت مل، 1869)، وفي هذا الكتاب وضع الأساس النفسي لمذهب المنفعة. ولقد كانت لآراء مل في علم النفس أهمية تاريخية خاصة، بالإضافة إلى وظيفتها بوصفها أساسا؛ فقد كان لزاما عليه، لكي يضع هذا الأساس، أن يلجأ إلى الأفكار التجريبية القديمة، وعلى ذلك كان على مل أن يلتقط خيط التطور، أو يصل بين طرفيه، عند النقطة التي قطعه فيها المفكرون الاسكتلنديون قبل ذلك بنصف قرن من الزمان، أي عند علم النفس الترابطي كما قالت به المدرسة الكلاسيكية الأقدم عهدا، وهكذا اكتسب علم النفس عند مل قوامه عن طريق العودة إلى تعاليم هيوم وهارتلي
Hartley ،
3
ومن ثم فقد كانت معارضته صريحة للمذهب الحدسي في المدرسة الاسكتلندية، ولقد عاد ثانية إلى تأكيد أهمية الفاعلية الآلية للذهن، وأدخل مرة أخرى منهج التشريح النفسي، ومعه الكيمياء النفسية، وتشبث بفكرة تحليل الظواهر الذهنية إلى أبسط أجزائها (الذرات النفسية )، وأحيا من جديد قانون التداعي أو الترابط بوصفه القانون الأساسي للحياة النفسية، وكذلك النظرة الظاهرية
في نظرية المعرفة، وهكذا أعاد من جديد إلى الحياة كل مجموعة الأفكار المنتمية إلى النظرية الفلسفية الكلاسيكية، ولقد اقتربت آراؤه من هارتلي أكثر مما اقتربت من لوك وهيوم، ولكنه امتنع عن جميع التفسيرات الفسيولوجية، واقتصر على مجرد استطلاع مجال الشعور أو الوعي النفسي، وكانت لديه قدرة فائقة على التحليل، كما تشبث بإصرار بمبدئه الأساسي في التداعي، وحسن منهجه، ودعم مذهبه، وأتى بمواد تجريبية جديدة، ولكنه لم يتخل أبدا، في أية نقطة هامة، عن الأسس التي حفظها وأكدها التراث، وهنا أيضا لعب مل دوره المميز، أعني دور الوسيط؛ وذلك بأن أدى في مجال الدراسات النظرية نفس الخدمة التي أداها مل في المجال العملي، أعني تجديد الفكر بروح الفلسفة الإنجليزية الكلاسيكية، وأن أهميته التاريخية لترجع إلى أنه دفع علم النفس ونظرية المعرفة دفعة قوية إلى الأمام، ولدت سلسلة طويلة من النتائج الأخرى، وظلت على قوتها حتى قرب نهاية القرن الماضي على الأقل.
ولقد كانت فلسفة جون ستيوارت مل، وهو أعظم مفكر تجريبي في القرن التاسع عشر، تمثل نموا عضويا من الوضع الفلسفي الذي أوجده بنتام وجيمس مل، وقبل أن ننتقل إلى الحديث عنه، ينبغي أن نذكر أسماء بعض الشخصيات التي يقع مولدها بين مل الأكبر ومل الأصغر، والتي ترتبط بهما ارتباطا وثيقا. ولقد كان المشرع جون أوستن
J. Austin (1790-1859)، والمؤرخ جورج جروت
G. Grote ، شقيق الفيلسوف جون جروت، الذي سيأتي ذكره فيما بعد؛ كان هذان من بين الأصدقاء المقربين إلى مل الأب ومل الابن، وكانا في البداية صديقين حميمين للأب، ثم نمت بينهما وبين الابن صداقة أبوية متينة. ولقد قام أوستن، الذي ظل بضع سنوات أستاذا للقانون في جامعة لندن، بدراسة منظمة دقيقة لمجال القانون من وجهة نظر مذهب المنفعة، ووضع في كتابه المشهور، تحديد مجال الدراسة التشريعية
The Province of Jurisprudence Determined (1832)، أسس فلسفة للقانون،
4
ولكن علاقته بأوساط مذهب المنفعة قد تعقدت بفعل مؤثرات أتت إليه من المدرسة التاريخية في القانون ومن الرومانتيكيين الألمان؛ إذ إنه عاش خلال النصف الثاني من العقد الثالث من عمره فترة طويلة طالبا في هيدلبرج وبون، حيث تعرف إلى شخصيات مثل سافيني
Savigny ،
5
و«أ. ف. شليجل
Schlegel »
6
وبراندس
Brandis ،
7
وغيرهم، وعلى هذا النحو اكتسب تفسيره أفقا أوسع من حدود التقيد الصارم بمذهب بنتام، وتبدي ذلك على أنحاء عدة، من أهمها أنه لم يبن أخلاق المنفعة على فكرة المنفعة ذاتها، وإنما حاول أن يدعمها بالجزاءات الدينية. أما «جروت»، الذي اشتهر بوصفه مؤرخ اليونان القديمة، فقد كان منذ البداية أميل من أوستن إلى مل الأب، وقد انضم بحماسة إلى مل في جهوده لإصلاح المذهب التجديدي الفلسفي
philosophic radicalism ، الذي كان يمثله في البرلمان، غير أن مذهبه الفكري قد تلقى مؤثرات من مصادر أخرى، أهمها الفلسفة اليونانية، التي كان له بها إلمام واسع (كما تشهد بذلك مؤلفاته عن أفلاطون وأرسطو) وقد حاول في كتابه الذي نشر بعد موته «شذرات في الموضوعات الأخلاقية
Fragments on Ethical Subjects » (1876)، وهو مؤلفه المنهجي الوحيد، أن يثبت الطابع الاجتماعي للأخلاق على نحو أفضل مما فعله أصحاب مذهب المنفعة بموقفهم الذي تسوده النظرة الفردية، مؤكدا أولوية المجتمع على الفرد، وواجب الفرد في الخضوع للإرادة الجماعية للمجتمع.
ونستطيع أن نذكر هنا، إلى جانب أوستن وجروت، اسم السير جون هرشل
J. Hershel (1792-1871) ووليام هيوول
W. Whewell (1794-1866)، وعلى الرغم من ابتعاد هذين عن دائرة بنتام، فقد قاما بنصيب هام في الإعداد للأبحاث المنطقية التي أجراها مل الابن؛ ذلك لأن مل قد وجد في كتاب الفلكي العظيم هرشل، وعنوانه «بحث منظم حول دراسة الفلسفة الطبيعية
Discourse on the Study of Natural Philosophy » (1830)، مادة زاخرة مستمدة من العلوم الطبيعية استعان بها في وصف عمليات الاستقراء، بل لقد وجد في هذا الكتاب أيضا منهجه التجريبي الخاص مطبقا عمليا، وإن لم يعبر عنه بصورة صريحة. ولقد وجد مل قيمة أعظم في الأبحاث الشاملة التي أجراها هيوول، والمبنية على معرفة دقيقة بنظرية العلوم الاستقرائية وتاريخها، وهي الأبحاث التي عرضها هيوول في كتابيه العظيمين: تاريخ العلوم الاستقرائية
History of the Inductive Sciences (1837، الترجمة الألمانية 1839-1842) و«فلسفة العلوم الاستقرائية
» (1840). ولقد كان هيوول يمتاز بمعرفة هائلة للماضي، وفاق في نطاق معلوماته الموسوعية ودقتها هاملتن ذاته، الذي اشتهر بأنه كان أوسع رجال عصره علما، ولقد استعان مل في إعداد الباب الثالث من كتاب المنطق (وهو الباب الخاص بالاستقراء) بالمواد التي جمعها هيوول استعانة كاملة، وأقر شاكرا بأنه لولا هذا العمل التمهيدي لما تمكن من إنجاز مهمته، ولكنه في الوقت ذاته أحس بغريزة صائبة بالتضاد المنهجي القاطع بينه وبين هيوول؛ فقد رأى فيه ممثلا لما يسميه بالنظرة الألمانية أو «الأولية
a priori » إلى المعرفة البشرية وقدراتها. والواقع أن هيوول قد تأثر بكانت تأثرا قويا، ورفض المنطق ونظرية المعرفة التجريبيين، ولقد اعترف مثل مل بالأهمية الأساسية للاستقراء، بوصفه عملية استخلاص الحقائق والمبادئ العامة من الوقائع الجزئية في كل بحث وكشف علمي؛ ولذا أطلق اسم «العلوم الاستقرائية» على تلك العلوم التي تسمى عادة باسم «الطبيعة»، ولكنه لم يجعل الأهمية الأولى فيها لملاحظة الوقائع، وإنما رأى أن الأفكار التي يلعب الذهن الدور الرئيسي فيها هي عامل لا يقل عن الملاحظة أهمية، وأنه لما يتفق تماما مع رأي كانت القائل بأن الإدراكات الحسية فارغة، أن يقول هيوول في مقدمة كتاب «تاريخ العلوم الاستقرائية» المذكور من قبل، أن الشرط الأساسي لكل تقدم علمي هو اتحاد الأفكار الواضحة بالوقائع المحددة. ويطلق هيوول اسم التضاد الأساسي في الفلسفة، على رأيه القائل: إن الفكرة ينبغي ألا تستقل أبدا عن الواقعة الملاحظة، ومع ذلك ينبغي أن تجذب الواقعة دائما نحو الفكرة، وقد عبر عن ذلك تعبيرا موجزا بليغا في قوله: «إن التقابل بين الحس والأفكار هو أساس فلسفة العلم، فلا قيام لمعرفة دون توحيد هذين العنصرين، ولا قيام لفلسفة دون الفصل بينهما» («فلسفة العلوم الاستقرائية»، طبعة جديدة، 1847، المجلد الثاني، ص443). ولقد كان هدف هيوول في كتابيه العظيمين هو إحياء «الأورجانون الجديد
Novum Organun » لبيكن، ورفع هذا الكتاب إلى المستوى المتقدم الذي بلغه العلم الحديث. وهكذا فقد بدأت دراسة الأسس المنهجية للعلم على يد هيوول، وواصلها مباشرة مل في كتابه «المنطق»، وثبت أن للخلاف الذي نشأ بينهما فيما بعد فائدته الجمة ؛ إذ أثار الاهتمام بهذه المسائل في الأوساط الفلسفية والعلمية معا .
والآن نصل إلى جون ستيوارت مل
John Stuart Mill (1806-1873)، الذي بلغ عنده المذهب التجريبي الحديث منتهاه، مثلما بلغت التجريبية الكلاسيكية منتهاها عند هيوم قبل ذلك بقرن من الزمان. ويعتقد كثيرون أن مل هو أعظم مفكر إنجليزي في القرن التاسع عشر، ولكن أيا كان الأمر، فمن المؤكد أنه كان أعظم الكتاب الفلسفيين في عصره، ومن الملاحظ أنه، مثل بيكن وهبز وشافنسبري وباركلي
8
وهيوم وبنتام وجيمس مل، ثم سبنسر فيما بعد، لم يشغل أي منصب تعليمي رسمي، ومارس الفلسفة، لا على أنها مجرد بحث علمي أو ثقافي، أو لصالح حلقة صغيرة من التلاميذ والمتخصصين، بل بوصفها رسالة روحية ينبغي أداؤها استجابة لنداء باطن، والجهر بها على الملأ أجمعين، ولقد كان أعظم ناطق بلسان الفلسفة في عصره، كما أصبح واحدا في سلسلة القوى الأدبية الخلاقة الهائلة التي مارست تأثيرها مثله على الوجه الروحي للحياة في إنجلترا في القرن التاسع عشر، وإلى مل يرجع الفضل، أكثر مما يرجع إلى أي من السابقين عليه مباشرة، في تجاوز الفلسفة لنطاقها الضيق السابق، واتساع نطاقها بحيث أصبحت تنتمي إلى مجال الأدب العام؛ وبذلك أصبح قراؤها هم كل الصفوة المثقفة في الأمة، وبفضله أصبح للفلسفة منبر واسع عريض تعلن به عن نفسها، وتبعث فيه قواها، كما اكتسبت بدورها قوة بفضل تأثيرات الحياة الثقافية التي أصبحت الفلسفة محاطة بها.
ويمثل مل - في تطور الفلسفة الإنجليزية - آخر مركب ضخم عرض به المذهب التجريبي؛ فجميع الأفكار الرئيسية في المذهب التجريبي تتجمع لديه في وحدة متسقة إلى أبعد حد، ويحدث ذلك، لا على شكل مذهب متناسق منظم بدقة، كما هي الحال عند سبنسر فيما بعد، وإنما بذلك الأسلوب المتحرر الذي يحتل أكبر عدد من مجالات التجربة، لكي يتغلغل فيها بالتفكير الفلسفي، لا لكي يدرجها في وحدة شاملة أو ليحشرها قسرا في مذهب مشيد هندسيا. والواقع أن الطريقة الأولى لا الثانية هي الأسلوب الصحيح للتفلسف التجريبي، الذي لا يمكنه - بحكم إخلاصه للتجربة في كل إمكانياتها المتعددة - أن يستسلم مباشرة لفكرة بسيطة، أو يقنع بالتنظيم الصارم في مذهب؛ فالتفكير المذهبي - من ذلك النوع الذي احتل فيما بعد مكانة كبيرة لدى سبنسر - عنصر غريب يصعب التوفيق بينه وبين مبادئ المذهب التجريبي، ولما كان مل قد اعتنق هذه المبادئ خالصة، ففي وسعنا أن ننظر إليه، لا إلى سبنسر، على أنه آخر ممثل أصيل للتراث الإنجليزي العظيم.
ولقد تغلغل هذا التراث في دمائه منذ نعومة أظفاره؛ فقد خضع تعليمه لأفكار أبيه ولإشراف هذا الأب وحده، دون مدرسة أو جامعة، وذلك وفقا لروح فلسفة بنتام وطبقا لمبادئه تماما، وقد وصف هو ذاته هذه التجربة غير العادية وصفا حيا في ترجمته الذاتية لحياته
Autobiography (1873)، ويكاد يكون في حكم المعجزات أن هذه التجربة لم تدمره، وهكذا قبل عن طيب خاطر وبإيمان كامل تلك التعاليم التي لقن إياها بإكراه خارجي. وعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، كان قد أصبح مؤمنا بمذهب المنفعة إيمانا كاملا مصقولا، كما كان متشربا تماما بجميع تعاليم المدرسة، وملما بكل ما يمكن تصوره من أنواع المعارف، ولقد بلغ من استحواذ المذهب عليه أنه أنشأ مع مجموعة من أصحاب الاتجاه نفسه - وهو لم يزل في السادسة عشرة من عمره - جمعية فلسفية أسماها «جمعية مذهب المنفعة»، وكان هذا التعبير - وليس تطبيقاته القديمة المتفرقة - هو الذي أشاع هذا اللفظ على الألسن بالتدريج، وهكذا أصبحت كلمة صاحب المذهب المنفعي أو «النفعي» التي نقشها مل بطريقة صبيانية على رايته، تعني بالنسبة إليه رمزا لكل ما اكتسبه من الفلسفة عن أبيه، أي أفكار بنتام ومدرسته.
وعندما بلغ مل العشرين من عمره، انتابته أزمة روحية عنيفة، ينبغي أن نلم بها هاهنا؛ إذ إنها قد تحكمت في حياته التالية بأسرها، وأطلقت لأول مرة ما كان حتى ذلك الحين حبيسا بفعل تعليمه المصطنع، أعني طبيعته الباطنة ذاتها، فلم تكن هذه الأزمة - ولا سيما فيما جلبته بعد ذلك من نتائج مثمرة - إلا رد فعل على ضيق الأفق والجمود الذي كانت تتسم به الآراء التي حبسه تعليمه بين جدرانها، ولقد سبق له أن أظهر نوعا من الثورة على نظرية السعادة في الأخلاق ، وعلى الأخلاق الحتمية وطغيان العقل، فأصبح يدرك - لأول مرة - الأهمية القصوى للفن والشعر بوصفهما مؤثرين ثقافيين، واعترف لأول مرة بالحاجة إلى تنمية العواطف والخيال في التعليم، بالإضافة إلى ملكة الفهم النظرية الخالصة، وبقيمة التهذيب الباطن للنفس الفردية إلى جانب التنظيم المجرد للظروف الخارجية، ولقد تكشف له العالم الجديد، الذي أصبح الآن محيطا به من كل جانب، والذي مكنه من اجتياز صدمته الروحية العميقة؛ تكشف له هذا العالم لأول مرة بفضل استغراقه في شعر وردزورث
Wordsworth .
ثم أتته فيما بعد معونات عديدة من مصادر أخرى، أولها اهتمامه الكبير بعبقرية جوته
Goethe ، ثم تعرفه إلى الشاعر والمفكر الرومانتيكي العظيم كولريدج
Coleridge ، الذي اتصل به عن طريق قراءاته الخاصة من جهة، ومن جهة أخرى عن طريق صداقته الشخصية لأصدقاء شبان لكولريدج، مثل فردريك د. موريس
Frederick D. Maurice
وجون سترلنج
John Sterling ، صديق كارليل
Carlyle
الذي مات صغيرا، وأخيرا من كارليل ذاته، الذي بدأ في ذلك الحين يكشف عن العالم الروحي الألماني لمواطنيه. ولقد كان كارليل في نظر مل شخصية جذابة من ناحية ومنفرة من ناحية أخرى، وعلى الرغم من مقاومته لتأثيره، فإنه لم يستطع أن ينأى بنفسه تماما عن هذا التأثير، الذي لا يعزى إليه الاتجاه الذي أصبح تفكيره يتخذه في ذلك الحين فحسب، بل تعزى إليه أيضا تلك الحدود التي ظل ذلك التفكير محصورا فيها. وعلى أية حال فإن الأمر الذي كان مل على ثقة منه عندئذ، هو أنه قد انشق إلى غير رجعة على طريقة أبيه في التفكير.
كل هذا ظهر بوضوح في بحثين نشرهما مل في عامي 1838 و1840 في «مجلة وستمنستر
Westminster Review »، أولهما كان عن بنتام، والثاني عن كولردج (وقد أعيد نشرهما فيما بعد في المجلد الأول من كتابه: «أبحاث ومناقشات
Dissertations and Discussions » (1859)، ويستحق هذان البحثان اهتماما خاصا؛ إذ إن مل كان فيهما من أوائل من عرضوا التقابل الحاسم الذي انقسمت به الحياة الروحية لعصره إلى معسكرين بينهما خصومة عنيفة والشخصية التي يتجسد فيها أحد طرفي هذا التضاد، والتي ترمز له بوضوح، هي شخصية بنتام، الذي واصل تراث القرن السابع عشر، أما الشخصية التي تمثل الطرف الآخر، فهي شخصية كولردج، الذي تركزت فيه تلك القوى الروحية الجديدة التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وعبرت عن نفسها من خلاله. ولقد أحس مل، الذي كان بحكم الأصل والبيئة والتعليم ملتزما بالانضمام إلى معسكر بنتام، ثم تأثر فيما بعد تأثرا عميقا بعالم كولردج؛ أحس بالتوتر الذي جعل من هاتين الشخصيتين، ومن القوى الديالكتيكية التي عبرت عن نفسها من خلالهما، قطبين يتنافر كل منها مع الآخر بشدة، وقد أدرك بنظره الثاقب التقابل المطلق بين أفكارهما وآرائهما في الحياة «إن كل إنجليزي اليوم هو ضمنيا إما مشايع لبنتام أو لكولردج.» وقدم لهما وصفا كان في عمومه صحيحا، فقال: إن مذهب كولردج أنتولوجي، محافظ، ديني، عيني، تاريخي، شعري، أما مذهب بنتام فتجريبي، تجديدي، غير مؤمن، مجرد، واقعي، وعملي في أساسه. ولقد نظر إلى هذا التقابل - بمعنى أوسع - على أنه يمثل التقابل بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أو بين عصر التنوير والعصر الرومانتيكي، أو بين الروح الإنجليزية والروح الألمانية، وفي الوقت ذاته أحس بضرورة التوفيق بين هذين الضدين وتخفيف توتراتهما، وبنداء باطن يدعوه إلى إيجاد مركب بينهما، واثقا من أن «كل من تسنى له استيعاب مقدماتهما والجمع بين منجيهما ملك ناصية الفلسفة الإنجليزية في هذا العصر بأسرها.»
ولقد أدت الصدمة التي تلقاها من كولردج - ذلك المفكر الذي عده مل بحق ناطقا إنجليزيا بلسان المثالية الألمانية - إلى إبعاده مؤقتا على الأقل عن التقيد الحرفي بمدرسة بنتام، وقد ناقش في مقاله عن بنتام مذهب هذا الأخير، وأوضح الأخطاء والنواقص في تعاليمه، ثم تبرأ كما قال فيما بعد «على نحو قاطع من المذهب البنتامي الضيق الأفق الذي تبدى في كتاباته الأولى.» وقد رأى بوضوح أن فلسفة بنتام لم تمس إلا السطح الخارجي للأمور، وأن الأوجه الأعمق والأدق للحياة قد خفيت عليها، أما كولردج فقد ألقى الضوء على هذه الأوجه؛ ولذا فإن مل قد التمس لديه المشورة في تلك المسائل الحاسمة التي تخلى فيها - كما كان يعتقد - عن الطريقة التقليدية في التفكير ، فإذا ما تأملنا الآن تفكير مل كما يتمثل في مؤلفاته الرئيسية، التي تنتمي كلها إلى فترة تالية لهذين المقالين، كان لنا أن نتساءل عن مدى الفائدة التي عاد بها عليه تأثير كولردج، ومقدار تغير وجهة نظره نتيجة لهذا التأثير، وإن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال لكفيلة أيضا بأن تحدد بدقة موقع مل التاريخي.
وينبغي أن يقال أولا: إن تأثره بكولردج، وهو اللفظ المختصر الذي نستخدمه للدلالة على تفتح ذهن مل لتيارات الفكر المنبثقة عن المثالية والرومانتيكية، قد بلغ أوجه بتأليف هذين المقالين، وأن هذا التأثر لم يزد قوة في تفكيره المتأخر، وإنما طرأ عليه الضعف، وقد أدرك مل نفسه ذلك عندما عاد بذاكرته في أواخر حياته إلى تلك المرحلة من تطوره في ترجمته الذاتية لحياته، ولاحظ أنه قد أكد أكثر مما ينبغي، في تلك الفترة، الجانب الملائم لأحد تيارين فكريين (كولردج) والجانب غير الملائم للتيار الآخر، وكثيرا ما أكد فيما بعد مناصرته لأفكار القرن الثامن عشر التي كان يعارضها إلى حد ما في تلك الفترة، وإن لم يكن قد تخلى عنها أبدا. ومن الظواهر الغريبة أن مل، وإن كان قد اطلع على معالم الفكر الألماني بفضل كولردج وكارليل وغيرهما، فإنه لم يرهق نفسه أبدا من أجل استيعاب المذاهب الفلسفية الألمانية بدقة، وقد كان مستواه في هذه الناحية أدنى كثيرا من مستوى هاملتن، معاصره الأكبر سنا، صحيح أنه قد تعرف سطحيا إلى شعر جيته، وإلى النظريات التربوية لبستولاتسي
،
9
ثم اتصل فيما بعد بفلهلم فون همبولت
Wilhelm Von Humboldt ،
10
غير أن ما كان يعرفه عن الحركة الفلسفية الألمانية من كانت إلى هيجل كان كله تقريبا مستمدا من السماع، ولم يتجاوز بعض الأفكار الغامضة المختلطة، فهنا ظل مل محتفظا بتلك العزلة التي تميز كثيرا من المفكرين الإنجليز، مع أن روحه المتحررة كانت في نواح أخرى متفتحة كل التفتح للمؤثرات الخارجية، وحيثما كان يشتم من بعد وجود مؤثرات ألمانية، كان يقف ضدها ويقلل من قدرها، مفضلا عليها تراثه القومي، فالفلسفة الألمانية كانت في نظره كتابا ذا أختام سبعة، لم يشعر بأدنى رغبة في استجلاء أسراره.
ومع ذلك فإن القوة المستمدة من كولردج لم تتركه دون أن تخلف فيه أثرا، فهو لم يتخل أبدا على نحو نهائي عن ارتباطاته القديمة، ولم يصل إلى توفيق صحيح بين الأفكار القديمة والجديدة، وبفضله أصبحت حركة مذهب المنفعة مرنة سيالة مرة أخرى، ففاضت جوانبها من حدودها الضيقة، وكسرت قيدها القطعي، وعلى الرغم من أنها لم تكسب أرضا جديدة واسعة، فقد أصبحت واعية بحدودها الخاصة، وظهر فيها استباق لأفكار جديدة وحياة فلسفية متجددة، ولا يستطيع المرء أن يقول إن التعاليم التقليدية قد حدث فيها تجديد أساسي، ولكن حدث فيها تغير هام، وهو تغيير لم ترفض فيه التعاليم القديمة في أية نقطة هامة، وإنما هز أركانها في نقاط عديدة، وأدخل عليها من آن لآخر تعديلات بلغت حدا لم تعد معه قابلة للدخول في الإطار القديم، وكما قال بول هنسل
(انظر «كتابات وأحاديث قصيرة
Kleine Schriften and Vorträge » 1930، ص139 والصفحات التالية) فإن مل قد استخلص من داخل القوالب الثابتة للمذهب التقليدي أفكارا عديدة قام بإحيائها حتى تجاوزت إلى حد بعيد ما يمكن أن تستوعبه تلك القوالب، «فحياته بأسرها كانت صراعا باسلا من أجل طبع شخصيته الفردية الزاخرة على تلك القشرة الجامدة التي غلف بها مذهب محدود الأفق»، (نفس المرجع والموضع).
وقد أثبت مل امتيازه على جميع معاصريه بإبدائه استعداده للتعلم من أي شخص لديه أي شيء يقوله له (باستثناء الفلاسفة الألمان)، ويكاد تفكيره يشف دائما عن تلك الروح التوفيقية التي هي دائما على استعداد للتوسط بين المدارس الفكرية المتعارضة، ولترك الحجج المتناقضة تتفاعل بعضها مع بعض.
ولقد انبثقت فلسفة مل، كما رأينا من قبل، من تربة التراث الإنجليزي، ومن ثم فقد بدأ باستغلال ما آل إليه من ذلك التراث بحكم الأمر الواقع، فاتبع مذهب المنفعة في الأخلاق، وتعاليم أبيه في علم النفس ونظرية المعرفة، ونظريات مالتوس وريكاردو في الاقتصاد السياسي، كما اقتبس، في الميتافيزيقا والدين، تلك اللاأدرية التي كانت حظا مشتركا بينهم جميعا، ثم أتاه من الخارج مذهب الأفكار الجديد الذي تجسد في كولردج وكارليل، ولكن على الرغم من أن هذا المذهب قد هز فلسفته من أعماقها، فإن مل لم يستطع أبدا أن يستوعبه استيعابا كاملا. وهناك مدرسة اتصلت بها فلسفة مل في عهد متأخر نسبيا (حوالي 1840)، هي الوضعية الفرنسية عند سان سيمون وتلميذه العظيم كونت، ولما كانت هذه المدرسة أقرب من السابقة عليها إلى طريقة تفكير مل، فإنه سرعان ما تفهمها واستوعبها، وأدت علاقاته بكونت، التي اتخذت شكلا شخصيا عن طريق تبادل الرسائل، إلى وحدة وثيقة للمذهبين، ومن هذه الوحدة نشأ ارتباط فلسفي مبني على تشابه الهدف والتقارب الباطن بين الآراء، وهكذا انسابت التجريبية الإنجليزية والوضعية الفرنسية، عند مل، في مجرى متسع واحد، ومع ذلك فإن مل قد انصرف مستاء عن المرحلة الأخيرة لتفكير كونت؛ إذ شعر بأن حرية البحث الفلسفي مهددة بالخطر من جمودها شبه الديني، ورأى لزاما عليه أن يرفضها، أما المدرستان الألمانية والاسكتلندية فقد ظل يعارضهما طوال حياته الفكرية.
ولم ينتبه مل إلا قليلا للاختلافات العميقة بين هاتين المدرستين، وكل ما رآه منهما هو معارضتهما المشتركة لمناهجه الخاصة، وهكذا ظهرت كل فلسفة عصره أمام عينيه في صورة واحدة، هي صورة التوتر بين الطرف الألماني - الاسكتلندي وبين الطرف الإنجليزي، أو بين الفلسفة الترتسندنتالية عند كانت، ونظرية الموقف الطبيعي (أو الإدراك المشترك
Common-Sense ) عند ريد، ومذهب هاملتن الذي انبثق عن الجمع بينهما، كل هذا من جهة، وبين المذهب التجريبي من جهة أخرى، وهكذا وجد نفسه في شقاق دائم مع كل ما لا ينبثق عن التجربة، أو ما لا يمكن أن يحقق بالتجربة، ومع الأفكار الفطرية والحقائق الأولية
a priori
واليقينيات الحدسية، سواء في المعرفة وفي الأخلاق وفي أي ميدان آخر، وهو يدرج ضمن هذه الفئة كل ما يفترض أنه ملك مضمون للذهن البشري السليم، وبالتالي كل هذه العناصر الأساسية ومبادئ الطبيعة البشرية التي ألقى تحليل ريد الضوء عليها، فالأولية
apriorism
بجميع مظاهرها ليست في نظره إلا ملاذا للجهل، يحمله مل مسئولية فساد كل علم صحيح وكل بحث فلسفي أمين. ولقد كان مذهب هاملتن في عصره، هو الذي يمثل أقوى قلعة لهذه الفلسفة الحدسية؛ ولذا أعد نفسه لصراع نهائي معه ومع مؤثراته القوية، ومن هنا كان كتاب مل الخلافي ضد هاملتن (1865) هو المرحلة الأخيرة في هذا الصراع الطويل بين مدارس متعارضة في إنجلترا، وبعده دفن هذا الخلاف، الذي انتهى إلى التغلب تماما على الخصم وتأكيد التجريبية الظافرة.
وليس في وسعنا أن نتناول هنا مساهمة مل في مختلف مجالات الفلسفة إلا بإيجاز شديد، وأول ما ينبغي أن نتحدث عنه هو مساهمته في مجال المنطق، لا لأنها هي الأولى بالترتيب الزمني فحسب، بل لأن لها الأهمية الأولى، فإليه - لا إلى أي شخص غيره - يدين المذهب التجريبي بقيام نظريته المنطقية ونموها، أما السابقون عليه فلا تكاد تكون لهم في هذا الميدان جهود تذكر،
11
صحيح أن هبز ولوك وهيوم هم الذين وضعوا الأسس، ولكن مل كان أول من رفع البناء، فأخضع هذا المجال بجميع أطرافه لتنظيم دقيق، وكان - باستثناء بيكن - أول من جعل من الأسس المنطقية للعلوم الدقيقة موضوعا للبحث، ولقد أحدث فتحا جديدا في تاريخ المنطق، ليس فقط بفضل الأساس المنهجي الجديد لهذه الدراسة، بل أيضا بفضل الاتساع الهائل الذي أدخله على مجالها؛ ومن هنا كانت كل الاتجاهات المنطقية التالية، بالقدر الذي تخلت به عن تراث أرسطو أو لم تسر به في الطريق المثالي الميتافيزيقي أو الطريق الرياضي، مدينة له بفضل ما، بل إنه قد دفع بالمذاهب التقليدية والمثالية إلى التفكير من جديد في أساس منهجها، وبفضل مل أصبحت للاتجاه النفساني في المنطق المكانة العليا طوال سنوات عديدة، ولم تنته سيطرته إلا بعد أبحاث هوسرل الحاسمة قرب نهاية القرن التاسع عشر. فكل الأبحاث في الأوجه النظرية والمنهجية للعلم تتخذ نقطة بدايتها من مل قبل غيره، ومهما افترقت عنه فيما بعد، فإنها مدينة له ببدايتها الأولى، فقد كشف مل أرضا جديدة أضافها بأكملها إلى إطار العلم المنطقي، وذلك في فكرته الخاصة بمنهج تكوين التصورات العلمية ومنهج البحث الدقيق عامة، ولقد كان بحثه في منطق العلوم الطبيعية، الذي عرضه في الفصول الأساسية المتعلقة بالاستقراء، هو أفضل بحث منهجي في هذا الميدان، إذا ما قورن بجميع المحاولات السابقة من نوعه، هذا فضلا عن تلك المحاولة الأولى لتكوين منطق للعلوم الذهنية، وهي المحاولة التي أضافها إلى ما سبق، صحيح أنه لم يتمكن - حتى ذلك الحين - من إدراك الفروق الرئيسية بين منهجي العلوم الطبيعية والعلوم الذهنية، وأنه أيد بحماسة زائدة ادعاء العلوم الطبيعية أنها هي التي تحتل المكانة العليا، غير أنه أدرك أن ثمة مشكلة منطقية هامة ها هنا، وكان من أوائل من أدرجوا في مجال المنطق مجموعة من العلوم التي كاد المناطقة الآخرون يتجاهلونها تماما. هذه حقائق ينبغي ألا ينساها المناطقة المتأخرون والكتاب في مناهج العلوم الذهنية؛ إذ إن الكثيرين منهم لا يعترفون اليوم إلا نادرا بقيمة جهود مل، وقد حاول مل أن يحل هذه المشكلة بالنظر إلى طريقة العلم الذهني على أنها موازية بدقة لطريقة العلم الطبيعي، وبهذه الموازاة وحدها أعتقد أن من الممكن جعل الدراسات الذهنية علمية بالمعنى الدقيق، ويمكن القول بوجه عام: إن كتاب مل في «المنطق» (الذي ظهر أولا في مجلدين، في سنة 1843، بعنوان «مذهب في المنطق، النظري والاستقرائي»
A system of Logic, Ratiocinative and Inductive
هو أدق وأشمل تطبيق لمبادئ المذهب التجريبي في بريطانيا، وفيه طرد مل «الأولية
apriorism » من آخر وأقوى معاقلها، ولم يتوان عن استخلاص أجرأ النتائج. وهكذا سار شوطا أبعد بكثير من كل السابقين عليه، حتى في هيوم ذاته، إذ لم يجرؤ هؤلاء على مهاجمة المنطق في هذا الموضع أو ذاك، وكانوا يخشون التدخل في مجالات معينة ثبت أركانها تراث دام قرونا عديدة، أما مل فقد اكتسح كل شيء، وأوضح أن البديهيات المنطقية والقضايا الرياضية ذاتها ليست إلا استقراءات من التجربة، «فنحن لا نرى ما يدعو إلى الاعتقاد بإمكان وجود أي موضوع لمعرفتنا، سواء أكان تجربتنا أو ما يمكن أن يستخلص من تجربتنا بالتمثيل، أو بوجود أية فكرة أو شعور أو قوة في الذهن البشري، تحتاج لتبريرها ولظهورها إلى أن ترد إلى أي شيء عدا تجربتنا.» هذه النغمة الرئيسية تتردد وكأنها إيقاع أساسي من بداية كتاب «المنطق» إلى نهايته.
كذلك يحاول مل - في ميدان نظرية المعرفة - أن يعرض وجهة النظر التجريبية النفسية في طابعها المنطقي الخالص، وأهم مؤلفاته التي قدم فيها هذا العرض بطريقة شاملة هو كتابه الفلسفي الثاني «اختبار لفلسفة السير وليام هاملتن
Examination of Sir William Hamilton’s Philosophy » (1865). ويعد هذا الكتاب المؤلف الرئيسي للتجريبية الحديثة في نظرية المعرفة، مثلما كان كتاب «التحليل» لجيمس مل مؤلفها الرئيسي في علم النفس، وهنا تصل قدرة مل على العرض الواضح الطليق، والمجادلة العملية النقدية إلى أقصى درجات تطورها، غير أن مذهبه في المعرفة أقل في أهميته الفلسفية بكثير من مذهبه في المنطق؛ فهو لم يكتشف هنا أرضا جديدة، وإنما حقلا زرعه من جديد، وسبق أن استغله استغلالا كاملا ممثلو التجريبية الكلاسيكيون، الذين انتفع مل نفسه من أبحاثهم، وهكذا فإن الطابع الغالب عليه في هذا الميدان هو العودة إلى الأفكار القديمة لباركلي وهيوم، وعلى الرغم من أنه توصل إلى بعض الصيغ الجديدة، فإنه لم يضف إلى المعرفة إضافة حقيقية، وتتلخص وجهة نظره في القول بصيغة محددة بدقة للمذهب الظاهري
، الذي كانت أهم تعاليمه هي تلك المتعلقة بطبيعة المادة والذهن، وهو يتوصل إلى حل لمشكلة العالم الخارجي (أو المادة) خلال محاولته تجنب المذهب الحسي الساذج
crude sensationalism ، وذلك في صيغته المشهورة: «الإمكانات الدائمة للإحساس»، فمفتاح المشكلة لا يبدو لديه في الإحساسات التي هي ماثلة مباشرة للوعي، والتي هي في تغير دائم وتفتقر إلى كل دوام وثبات، وإنما في توقعنا، في ظروف معينة، إمكان ظهور إحساسات معينة، وفي كون هذه الإحساسات الممكنة تتصف بالثبات والدوام، غير أنه لم يدرك أن تصوري «الإمكان» و«الدوام» يفترضان مقدما تنظيما موضوعيا للأشياء، وأنه بذلك يتخلى عن المذهب الحسي بمعناه الدقيق؛ إذ إن هذا المذهب الأخير يرد كل وجود حقيقي إلى الأحاسيس وارتباطاتها، وهو يعالج مشكلة الذهن أو الأنا على نفس النحو، فهو يتفق تماما مع نظرية «الحزمة»
bundle-theory
عند هيوم؛ إذ يعرف الذهن بأنه سلسلة أحاسيسنا كما تتبدى فعلا في الوعي، والزيادة الوحيدة التي يدخلها على هذه النظرية هي إضافته إلى الأحاسيس الماثلة مباشرة تلك الإمكانات اللامتناهية للإحساس والانفعال، التي يكفي توافر شروط معينة لكي تظهر مباشرة، وهذه الشروط قائمة دائما بوصفها إمكانات، سواء أحدثت بالفعل أم لم تحدث، ومع ذلك فإنه يدرك تلك الحقيقة الفريدة، وهي أن حزمة الأحاسيس هذه واعية بذاتها من حيث هي ماض أو مستقبل، بحيث يكون علينا إما أن ننظر إلى الأنا على أنه شيء يختلف من حيث المبدأ عن سلسلة الأحاسيس أو إمكانات الإحساس، أو أن نقبل الموقف الغريب الذي يوجد فيه شيء هو، حسب تعريفه، مجرد سلسلة من الأحاسيس، ويكون في الوقت ذاته واعيا بذاته بوصفه سلسلة. ولم يستطع مل أن يتخلص من هذا المأزق، ولا أن يقرر مراجعة «نظرية الحزمة» بحيث يجعلها أقرب إلى أن تكون مذهبا للأنا بوصفه مبدأ روحيا للوحدة، فهو يكتفي بملاحظة هذه الحقيقة الغامضة، ويرفض القيام بأية محاولة لتفسيرها. وعلى أية حال فإن توقفه الفجائي إزاء هذه المشكلة وغيرها يدل على أنه قد اضطر في أحوال كثيرة إلى أن يغمض عينيه بقسوة عن الضوء الوضاح لبصيرته النفاذة؛ حتى يظل مخلصا للمذهب التقليدي لمدرسته. وعلى الرغم من أن ثقته بهذا المذهب قد قلت بالتدريج، فإنه لم يجهر صراحة بخروجه على هذا التراث لا في هذه المسألة ولا في غيرها من المسائل.
فهو لم يفعل ذلك في ميدان «الأخلاق» التي عرضها بوجه خاص في كتابه: «مذهب المنفعة
Utilitarianism »، سنة 1863، والتي يتعين علينا أن نعرض لها هنا بإيجاز، فهنا يبدأ مل من المذهب النفعي الصريح عند بنتام وأبيه جيمس مل، ولكنه، على الرغم من عدم تخليه نهائيا عن مبدأ المنفعة، قد وصل خلال تطوره إلى نظرية أخلاقية تفوق النظرية التقليدية صقلا وجاذبية بكثير، حتى ليجوز للمرء أن يقول: إن مل قد حول الأنغام الخشنة المزعجة إلى سلم موسيقي أرق وأعذب، فحساسيته الأخلاقية الرفيعة المصحوبة بشعور مرهف في تقديره للقيم، لم تستطع أن تقنعه بمذهب يرد كل فعل بشرى إلى السعي إلى اللذة والسعادة، ويعبر عن جميع مشاعر اللذة والسعادة بطريقة كمية محضة. وصحيح أن مل يفاضل بين مشاعر اللذة وعدم اللذة، وأنه كان في ذلك نفعيا بحق، غير أنه يدرج في حسابه فروقا كيفية أيضا؛ إذ لا يقتصر في تقديره لمشاعر اللذة على كميتها، بل يقدرها أيضا تبعا لمدى علو قيمتها. وهكذا فإن القيمة الأرفع مرتبة يمكن أن ترجح كفتها على قيمة من مرتبة أدنى، ويمكن أن يعد المرء شخصية أخلاقية أرفع إذا كانت الأنواع العليا من القيم أوضح ظهورا لديه من الأنواع الدنيا. وهكذا فإن مل حين يؤثر الحديث عن صالح البشر على تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، وحين يتحدث في فلسفته الأخلاقية عن الواجب والشخصية أكثر مما يتحدث عن السعادة والمنفعة، وحين يجعل القيمة الأخلاقية للإنسان مرتبة أعلى من مجرد السعي إلى تحصيل اللذة، وحين يجعل المثل الأعلى للأخلاق مرتكزا، آخر الأمر، على النمو المتكامل المتناسق الشخصية، في كل ذلك كان مل يستحضر نتائج ذلك التصويب الهام الذي أدخله على الصيغة الأساسية لمذهب المنفعة. وبالمثل خفف مل من حدة النزعة الفردية للمدرسة بالتوفيق بينها وبين نوع معتدل من الاشتراكية، ومن السهل أن يرى المرء في ذلك مجرد نبيذ جديد يصب في زجاجات قديمة، والواقع أن الأسس المنهجية عند مل تماثل نظائرها لدى أسلافه، غير أن المحتوى قد طرأ عليه تغير غير قليل، فمل يقف على مشارف نظرة جديدة إلى الحياة، كان لديه عنها إحساس تنبئي واضح، وإن لم يكن التزامه قيود التراث قد حال دون تمكنه من إدراكها على نحو قاطع.
وسوف أضع اللمسات الأخيرة في الصورة التي أحاول رسمها لتفكير مل بلمحة عن موقفه من المسائل الميتافيزيقية والدينية، ففي ترجمته الذاتية لحياته نجد الفقرة المعبرة الآتية: «إنني في هذه البلاد واحد من الحالات القليلة جدا التي تمثل شخصا لم يتخل عن إيمانه الديني، وإنما لم يكن لديه مثل هذا الإيمان قط، فقد نشأت في حالة سلبية بالنسبة إليه.» وبعد مرور وقت كبير كتب مل «ثلاثة أبحاث في الدين
Three Essays on Religion » وهي أبحاث أثارت دهشة عامة عندما نشرت بعد وفاته، ففيها لم يعد يتمسك بموقف الشك غير المكترث من المسائل النهائية، وإنما يناقشها بطريقة تحفل بالنظر الفلسفي الدقيق، وإن يكن يتحسس طريقه بحذر نحو آراء إيجابية عن النظام الكوني، وعن معنى الألم في العالم، وطبيعة الله، ومسائل ميتافيزيقية أخرى. وهو يبدي في اختباره الدقيق للطريق الذي ينبغي أن يؤدي به من الأسس التجريبية لتفكيره إلى محاولة الإجابة عن المشكلات المتعالية؛ يبدي ميلا واضحا إلى فكرة وجود مبدأ إلهي للعالم، وهو يرى في هذا المبدأ كائنا له أعلى درجات الكمال الأخلاقي، ولكن ليست له قدرة لا متناهية، وهكذا يرى أن فكرة الإله المتناهي، الذي يسير بالكون، في صراعه الدائم ضد المبادئ السلبية للعالم، نحو تطور يزداد على الدوام ارتقاء، والذي يحتاج لذلك إلى التعاون الإيجابي من جانب الإنسان، يرى أن هذه الفكرة تنسجم على أفضل نحو مع التجربة الأخلاقية والدينية، وهي فكرة ثبت في كثير من الأحيان أن لها فائدتها في العصور التالية، وعلى الرغم من استحالة التوفيق بين هذه المرحلة الأخيرة في تفكير مل، وبين الآراء التي ورثها حول هذه المسائل، فإن هذه المرحلة لا تتناقض مع تطوره الفلسفي الخاص، وهي تكشف بوضوح عن أفكار كانت كامنة خلال المجرى العام لتفكيره، ولم تتكشف تماما لسبب واحد، هو أن المذنب الذي ورثه قد أدى إلى كبتها.
ولقد كان «ألكسندر بين
Alexander Bain » (1818-1903) أنبغ تلاميذ مل، كما كان من أصدقائه المقربين، وكان يدين له بالفضل فيما أحرزه من تقدم، وكان ينحدر - مثل مل وأبيه - من أصل اسكتلندي، كما شغل فيما بين عامي 1860 و1880 كرسي الأستاذية في المنطق بجامعة أبردين. ويرجع الفضل إليه وإلى نجاحه بوصفه أستاذا في احتلال المدرسة التجريبية الجديدة لأول مرة المكانة التي تستحقها في الأوساط الأكاديمية، وفي امتدادها إلى شمال المملكة؛ حيث كانت المدرسة الاسكتلندية تسيطر على الميدان حتى ذلك الحين، وحيث توطدت أيضا - منذ عهد قريب - دعائم المثالية، وهكذا فإن «بين» وفريزر الذي يمكننا أن نعده الحارس الذي كان يحمي مؤخرة المدرسة الاسكتلندية في تقهقرها، وكذلك أ. كيرد
Caird ، هؤلاء الثلاثة ظلوا في وقت واحد، وطوال سنوات عديدة، يمثلون في الجامعات الاسكتلندية المدارس الفلسفية الرئيسية الثلاث للفلسفة الإنجليزية في القرن التاسع عشر، وفي ذلك الوقت كانت المدرسة الاسكتلندية في تدهور، والتجريبية في أعلى قممها، والمثالية في طريقها إلى الصعود.
ولقد كان «بين» يتميز إلى جانب عمله في التدريس، بالنشاط وغزارة التأليف في ميدان علم النفس والمنطق والأخلاق والتربية والنحو والبلاغة، ولكن أهم ما اشتهر به هو إنتاجه في علم النفس، وأهم مؤلفاته كتابان عظيمان كان لهما تأثير واسع، هما «الحواس والعقل
The Senses and the Intellect » (1855) و«الانفعالات والإرادة
The Emotions & the Will » (1859)، وفيهما عالج ميدان الحياة الذهنية بأسره بصورة أدق وأشمل من أية محاولة سابقة، واستمر سائرا في الطريق المباشر لعلم النفس الإنجليزي عن طريق ربط آرائه بمل الأب أكثر من الابن، الذي لم يتعهد هذا الميدان من ميادين الدراسة بنظام، وإن لم يكن قد تجاهله تماما، ولقد استعان مل ذاته بتلميذه «بين» في إعداد كتابه «المنطق»، وتعاون معه هذا الأخير فيما بعد تعاونا مثمرا وتلقى منه مساعدة هامة؛ ولذلك نظر إليه على أنه خليفته الصحيح في عمله.
وعلى الرغم من أن علم النفس عند «بين» قد نشأ من تراث المدرسة الإنجليزية، التي التزمها التزاما تاما، سواء في مناهجها في البحث وفي مسلماتها الفلسفية، فإنه ينكشف في نواح عديدة عن تقدم يتجاوز الوضع القديم، وتظهر فيه دلائل تبشر بالفترة المقبلة للمذهبين التطوري والإرادي (evolutionism & voluntarism)
ويتمثل تعلقه الشديد بالتراث في تقديره الواضح للوقائع، واحترامه للعلوم الدقيقة وجمعه واستغلاله لكميات هائلة من مواد البحث، كما يتمثل أيضا في منهجه الوصفي التحليلي، واحتفاظه بمبدأ الترابط (أو التداعي)، ويتمثل أخيرا في رفضه للميتافيزيقا النظرية الخاصة حول جوهر النفس، وقد تميز عن مل وأبيه، اللذين اقتصرا على علم النفس المتعلق بالوعي، بأنه وسع آفاق علم النفس في اتجاه علم وظائف الأعضاء، مثلما فعل «هارتلي» من قبله، وإن لم يكن قد اتبع في ذلك أسلوب هارتلي الغامض، الذي جمع بين الصيغة الدقيقة والصيغة الميتافيزيقية، وإنما انتفع إلى أقصى حد بالنتائج الفسيولوجية التي كانت متوافرة في ذلك العصر، ولا سيما تلك التي قدمها «يوهانس مولر
Johannes Muller »،
12
وبذلك وضع علم وظائف الأعضاء بكل عتاده في خدمة علم النفس، وقد بحث في العلاقات بين الظواهر النفسانية وبين نظائرها في المخ والجهاز العصبي، ورد العمليات النفسانية العليا إلى أسسها الغريزية وشروطها العضوية، كل ذلك دون وجود أي دافع من النظر الفلسفي المحض، بل مع التزام حدود العلم الدقيق. ولكن على الرغم من أن «بين» لا يستخلص أية نتائج مادية، بل إنه يرفضها صراحة، فإنه يذهب في رده الحياة الذهنية بأسرها ومجال الوعي كله إلى عمليات مادية إلى حد يصبح معه مهددا على الدوام بالوقوع في هوة المادية، ولا يعصمه عنها إلا تحويله علم النفس إلى علم طبيعي دقيق، وتجنبه كل قرار فلسفي نهائي. وكما أن محاولة هارتلي الأولى لبناء الحياة الذهنية على عمليات علم وظائف الأعضاء لم تفلت من الوقوع في المادية إلا بفضل إيمانه الديني القوي، فإن هذه المحاولة الثانية التي قام بها «بين» لم تفلت من مصير مماثل إلا بفضل اهتمامه بالمنهج العلمي الدقيق.
وقد عمل «بين» على توسيع نطاق علم النفس المبني على الترابط (التداعي) وتحسينه في نواح هامة، وأدخل أفكارا جديدة متعددة في إطاره الجامد، ولم يقتصر - كما اقتصرت هذه المدرسة في علم النفس - على الاهتمام بالعقل وحده، وإنما اعترف اعترافا كاملا بالعوامل العاطفية والدوافع الأولية والغرائز والانفعالات ... إلخ، كما اعترف بالأهمية الحاسمة لمجال الإرادة بأسره في تكوين العمليات النفسانية وتوجيهها. وهكذا كان هو أول عضو في مدرسته يحاول الخروج على آلية الترابط السلبية، والاعتراف بإيجابية الحياة الذهنية وتلقائيتها، كذلك حاول التخلص من فكرة تفتيت النفس بالنظر إليها على أنها عملية سيالة أو متصلة، أكثر منها مجموعة من العناصر المترابطة، وكان في ذلك كله يعمل حسابا لعنصر الإرادة وما يناظره في المجال الفسيولوجي. وعلى الرغم من أنه كان بعيدا عن الآراء التطورية (إذ إن أول كتابيه الهامين قد ظهر في نفس الوقت الذي ظهر فيه كتاب «مبادئ علم النفس» لسبنسر، وثانيهما قد ظهر في نفس العام الذي ظهر فيه «أصل الأنواع» لدارون)، فإنه استشهد في تفسيراته على عوامل فسيولوجية وبيولوجية، واستعان أكثر ممن كانوا قبله بالمنهج التكويني
genetic ، ومن الجوانب الأخرى الهامة في أعماله، فنظريته في الانتباه، التي أكد فيها أهمية عنصر الإيجابية، وإحياء نظرية هيوم في الاعتقاد
belief ، ومناقشته لمشكلة العالم الخارجي في صدد نظرية المعرفة، فالشيء الخارجي ليس في رأي «بين» مجرد ناتج لسلاسل من الحاضرات الذهنية المرتبطة ارتباطا وثيقا، والتي تتلقاها سلبيا، وإنما هو عامل مفترض ضمنا في سلوكنا العملي، يطلق فينا طاقات توترية، ويضع نفسه، من ناحيته الخاصة، في مقابلنا. ويرى «بين» أن أصل اعتقادنا بحقيقة خارجية أو منفصلة إنما يكمن في الشعور الذاتي بمثل هذا التقابل، وهنا أيضا تحل وجهة النظر العاطفية والإرادية
voluntarist
محل الحسية
sensationalism
والعقلية.
وتوجد في كتابات «بين» تفصيلات عديدة كهذه توحي بالتطور التالي لعلم النفس كما تمثل لدى سبنسر «وفنت
Wundt »
13
و«وورد
Ward » و«ستوت
Stout » وغيرهم، ومع ذلك فإن مذهب «بين» يظل على إجماله ترابطيا، أو هو على الأقل يعود دائما إلى النظرية الترابطية، وفي كتاباته يتضح، كما اتضح في كتابات مل، أن أغلال المدرسة أقوى من الكشف الجديد. صحيح أنه قد هز هذه الأغلال، ولكنه لم يستطع تحطيمها؛ إذ على الرغم من أنه جعل لتلقائية الحياة الذهنية مكانة أبرز كثيرا مما جعله لها أي مفكر سابق عليه، فإنه يتضح آخر الأمر أن مصدر هذه التلقائية لا ينبغي أن يلتمس في النفس ذاتها بقدر ما يلتمس في عوامل فسيولوجية وعضوية كالإحساسات العضلية والحركات المنعكسة وتخفيف التوتر إلخ، وهي عناصر يبني عليها كل الظواهر النفسانية، وهو لا يعترف أبدا اعترافا صريحا بالطابع الإيجابي للعمليات النفسانية بما هي كذلك، أو للطاقة الذهنية على التخصيص.
وإذن ففضل «بين» إنما ينحصر أساسا في توجيهه علم النفس التجريبي وجهة أقرب إلى الطابع التقدمي الحديث، أما لو قارنا بقية أعماله بهذا العمل، لوجدنا أهميتها التاريخية أقل كثيرا، مهما بدت في أيامه مفيدة. ويعد «بين» آخر ممثل هام لمدرسة مل تظهر لدية آثار من روحه ، وإليه يرجع الفضل، أكثر مما يرجع إلى أي شخص آخر، في حفظ تراث مل طوال جيل كامل بعد وفاته؛ ذلك لأن نشاطه التأليفي الجم قد امتد حتى نهاية القرن التاسع عشر، بينما طالت حياته حتى القرن العشرين.
ونستطيع أن نذكر من بين معاصري «بين» الأحدث عهدا الذين واصلوا حفظ تراث المدرسة: أسماء «فولر» و«كروم روبرتسن» و«سلي»، وقد دار الجزء الأكبر من النشاط الفلسفي لهؤلاء المفكرين الذين أتوا في أعقاب فلاسفة عظام، في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وتناول مجالات المنطق ونظرية المعرفة والأخلاق، والأهم من ذلك كله علم النفس. ف «توماس فولر
Thomas Fowler »، (1832-1904) الذي كان عميدا لكلية «كوربس كريستي
Corpus Christi » وأستاذا للمنطق في أكسفورد من 1873 إلى 1889، قد حول «منطق» مل إلى مؤلف مدرسي ميسر وشائع الاستعمال (هو «أركان المنطق، الاستنباطي والاستقرائي
The Elements of Logic, Deductive & Inductive » في مجلدين، عام 1869)، وكتب عن المذهب التجريبي الكلاسيكي (فألف كتبا عن بيكن ولوك وشافنسبري وهتشسون) وعالج المشاكل الأخلاقية في كتاب شائع (الأخلاق التقدمية
، 1884) وفي كتاب آخر أقرب إلى الطابع العلمي الدقيق «مبادئ الأخلاق
»، الجزء الأول في 1886، والجزء الثاني في 1887، وقد عاد في الكتاب الأخير إلى أفكار الفلاسفة الأخلاقيين الإنجليز في القرن الثامن عشر، محاولا التمييز بوضوح بين الجزء الذي يفرضه الشعور الأخلاقي وبين ذلك الذي يفرضه القانون والمجتمع والدين، وبذلك أراد أن يثبت الاستقلال الذاتي للمجال الأخلاقي، معرفا ذلك الجزء بأنه شعور الرضا أو السخط الذي نحس به عندما نكتفي بالتفكير في أفعالنا الخاصة، دون أي رجوع إلى سلطة خارجية. وقد أكد الطابع التقدمي للأخلاق، وعزاه إلى الزيادة التدريجية في دقة الحساسية الأخلاقية وتهذيبها، كما عزاه إلى العناصر العقلية في الفعل الأخلاقي أكثر مما عزاه إلى العناصر العاطفية فيه، وكان - مثل مل - يمثل مذهبا نفعيا معتدلا، واعترف بالفروق الكيفية بين مشاعر اللذة وانعدامها، وأدرك عدم تطابق الدوافع الأخلاقية العليا والدنيا، وقد استبدل بمبدأ المنفعة في صورته الخشنة الساذجة فكرة الرفاه
Welfare or well-being
التي فهمها تماما بمعنى «السعادة
eudaimonia » عند أرسطو.
أما المفكر الاسكتلندي جورج كروم روبرتسون
G. Croom Robertson (1842-1892) فكان أقوى من السابق كثيرا وأقل خضوعا للتراث، وكان تلميذا وزميلا «لبين»، ودرس في برلين (على ترندلنبرج
Trendelenburg
14
وديبوا ريمون
Du Bois-Reymond
15
وفي جيتنجن «على لوتسه
Lotze »،
16
كما درس في باريس، وشغل منذ عام 1867 حتى وفاته أستاذية الفلسفة في الكلية الجامعية (يونيفرستي كوليدج) بلندن، وكان هو أول من شغل هذا المنصب، وقد قام روبرتسون بدور مفيد في دعم الدراسات الفلسفية وتشجيعها في الجامعات، وكان من أقوى الشخصيات الفلسفية في أيامه، وهي صفة اكتسبها بتأسيسه لمجلة «مايند
Mind » الفلسفية التي ظل عدة سنوات رئيسا لتحريرها، وهذه المجلة تعد أهم نشرة فلسفية في البلاد الناطقة بالإنجليزية، وكانت فكرة تأسيسها، في عام 1876 ترجع إلى «بين» ويمكن القول أنها لا زالت حتى اليوم متأثرة بروح رئيس تحريرها الأول، ولقد كانت المجلة عندئذ ملتقى لأكثر المدارس الفكرية تنوعا، وقد كرس روبرتسون، بعد أن تتلمذ على «بين»، معظم جهوده لعلم النفس، ولم يكن يميل إلى تأليف الكتب،
17
ولكن جهوده انصرفت إلى التوسع في دراسة مشكلات منفصلة من علم النفس، بدلا من أن تتجه إلى معالجة ميدان الظواهر النفسانية كله بالتفصيل (كما فعل «بين»)، وكان مما أعانه على ذلك ذهنه التحليلي المدقق، وقدرته النقدية الفائقة؛ مما أتاح له القيام بأبحاث رائعة في التحليل النفسي، كأبحاثه في الإدراك الحسي والذاكرة والعمليات الفكرية والنزوع الإرادي، وهي أبحاث كان منها ما فاق مستوى أستاذه بكثير. وعلى الرغم من أنه كان، على وجه العموم، من أنصار المذهب التجريبي، فإنه لم يسمح لنفسه بالتقيد بأغلال التعاليم الصارمة للمدرسة، وإنما كان الدوام تواقا إلى توسيع أفقه الذهني وتعميق معلوماته الفلسفية، وكانت لديه معرفة شاملة دقيقة بمجال تاريخ الفلسفة بأسره، كما كان ملما إلماما واسعا بمؤلفات كبار الفلاسفة الألمان ولا سيما كانت، وكان مقتنعا اقتناعا عميقا بحاجة الفلسفة التجريبية الإنجليزية إلى أن تكتسب قوة جديدة بعد أن تضاف إليها الأفكار العميقة التي ينطوي عليها كتاب «نقد العقل الخالص» لكانت.
وكان هذا هو الاتجاه الغالب على مؤلفاته، ولا سيما في ميدان نظرية المعرفة، ولم يكن ينفر من الميتافيزيقا، وقد بذل قرب نهاية حياته محاولة طريفة ، اتخذ فيها نقطة بدايته على أساس المذهب التجريبي، محاولا الوصول إلى مذهب في الكونيات قريب من مذهب الذرات الروحية عند ليبنتس، وإن يكن قد اختلف عنه في نواح كثيرة.
على أن الخليفة الحقيقي لمل و«بين» في ميدان علم النفس لم يكن روبرتسن، وإنما «جيمس سلي
James Sully » (1842-1923) خليفة روبرتسون في الكلية الجامعية (يونيفرستي كوليدج) بلندن (من 1892 إلى 1903). ولم يكن سلي فيلسوفا بقدر ما كان باحثا وملاحظا تجريبيا علميا مثابرا، وكان مثل «بين» - الذي كان يشبهه كثيرا - منغمسا بكل قواه في مجال التجربة، وكان يجمع كميات ضخمة جديدة من المواد أو يعيد اختبار المواد القديمة في ضوء آخر، وبذلك كان يوسع الأساس القديم ويمده دون أن يتجاوزه أو يزوده بأساس فلسفي أفضل. ولقد كان دائما يتخذ موقف عالم النفس التجريبي، مهما كانت المجالات أو الموضوعات التي يعالجها؛ وهكذا فإنه ناقش مثلا مشكلة الضحك التي كرس لها كتابا كبيرا (هو: «بحث في الضحك
An Essay on Laughter » 1902) لا بأسلوب فلسفي أو ميتافيزيقي كما فعل برجسون، بل تناول الموضوع من خلال جميع مظاهر تطوره، من نفسية وفسيولوجية وأنثروبولوجية وإثنولوجية وبيولوجية واجتماعية، ولكنه لم يتمكن من الإتيان «بالنظرية الفلسفية الحقيقية» التي رأى أنها هي القمة التي ينبغي أن تنتهي إليها جميع هذه النواحي المنفصلة، وكان قد بحث قبل ذلك بوقت طويل في مشكلة الوهم
Illusion
بأسلوب مماثل وفي تلك الحالة أيضا اكتفى «بدراسة نفسية»، تاركا مجال معالجة الموضوع بمزيد من التوسع للفلاسفة، الذين هم القادرون على الإتيان بالحل الصحيح للمشكلة «الأوهام، دراسة نفسية
Illusions, a Psychological Study » 1891، الطبعة الألمانية سنة 1884)، وقد عالج علم النفس وفقا لمبادئ «بين»، أي بطريقة فسيولوجية ووفقا لمنهج الترابط، فتناول هذا العلم أولا بصورة مجملة (في كتاب «المجمل في علم النفس
Outlines of Psychology »، سنة 1884)، ثم عرضه عرضا شاملا جامعا بوصفه علم الذهن البشري «الذهن البشري
The Human Mind » في مجلدين، 1892)، وقد عده أساس كل المعرفة التي ترمي إلى توجيه وتحديد مجرى الفكر والشعور والعمل. وهكذا قلد «بين» في مد علم النفس إلى مجال نظرية التربية، (وذلك في «المجمل» الذي كتبه مع إشارة خاصة إلى مجال نظرية التربية، ثم بعد ذلك بوقت قصير في: «الموجز في علم النفس للمعلمين
Teachers Hand-Book of Psychology »، 1886، الذي ظهرت له ترجمة ألمانية في 1898)، كذلك عالج ميدان علم نفس الطفل (في كتابه «دراسات في الطفولة
Studies of Childhood »، 1895) ومضى في هذا الصدد أبعد من «بين» بكثير، كما اقتدى بالاتجاه السائد في عصره إذ عالج أيضا علم النفس التجريبي، الذي كان مقتنعا بفائدته، ولا سيما في التعليم. وأخيرا، فإن شغفه بالتجربة قد جعله يوجه اهتمامه إلى علم الجمال؛ وبذلك فتح للمذهب التجريبي مجالا كان جديدا، أو على الأقل مجالا طال تجاهله منذ القرن الثامن عشر، ولكنه أيضا اقتصر على بحث سيكولوجية الظواهر الجمالية، واكتفى بالتصنيف والتحليل والوصف، بحيث أخفق في المضي بالدراسة إلى مجال جديد أو في السير بها في طريق فلسفي، وإنما اقتصر على تطبيق المنهج القديم على مادة من نوع جديد (وذلك في مقاله عن «علم الجمال» الذي كتبه ل «دائرة المعارف البريطانية» في طبعتها التاسعة، عام 1875، وفي بعض الأبحاث التي نشرها في مجلات دورية).
ولقد كان الأصل الذي ظهرت من خلاله الحركة التجريبية لدى الكتاب الذين ذكرناهم منذ قليل هو الأبحاث النفسية قبل كل شيء، غير أن اتجاها آخر قد تفرع منها، وكرس أبحاثه لفلسفة التاريخ، ولا بأس من أن نلم هنا بشيء عنه بإيجاز، فقد أثار مل، ومعه كونت في نفس الوقت، الاهتمام بالعلوم الذهنية وبمناهجها وطابعها المنطقي، وقد اعتقد هذان المفكران أنهما إذا نقلا منهجي القانون الطبيعي والعلية الدقيقين إلى عالم التاريخ السياسي والاجتماعي الذي تمثله هذه العلوم، ففي إمكانهما أن يفسرا معناها وغايتها، وحاولا أن يختبرا هذه الفكرة، ويبرراها بقدر الإمكان، من خلال البحث في التاريخ المعاصر لهما، وكان من نتيجة ذلك أن أدخل عنصر فلسفي في فهم التاريخ، وبالتالي حدث تقارب مع الأبحاث التاريخية لعصر التنوير، وهي الأبحاث التي كانت زاخرة بالأفكار الفلسفية، ولا سيما لدى فولتير وهيوم. وهكذا ألف جورج جروت
G. Grote
تلميذ بنتام وصديق مل (انظر من قبل [الباب الأول: المدارس الفكرية المتقدمة - الفصل الثاني: المدرسة النفعية التجريبية]) كتابه «تاريخ اليونان » (في ستة مجلدات 1845-1856) بروح فلسفية، وإن لم يبلغ في ذلك حد الإفراط، وكانت أروع وأهم المحاولات التي بذلت في إنجلترا في هذا الصدد، هي محاولة «توماس هنري بكل
T. H. Buckle » (1821-1862) مؤلف الكتاب المشهور «تاريخ المدنية في إنجلترا
History of Civilization in England » (وكان المفروض أن يشتمل المؤلف بأكمله على أربعة عشر مجلدا، ولكن لم يظهر منه إلا الاثنان الأولان بوصفهما مقدمة، في عام 1857 و1861، وقد طبعهما
Ritter
طبعة ألمانية غير محددة التاريخ)، وعلى الرغم من أن بكل لم يكن تلميذا لأي أستاذ معين، فقد تأثر بقوة بالأفكار الوضعية، وكان الأساس الفلسفي لتفسيره للتاريخ مكونا من أفكار مل وكونت على السواء، فضلا عن مفكري عصر التنوير الإنجليز والفرنسيين من قبلهم، ولهذا الأساس الفلسفي صلة وثيقة جدا بالنظرة المادية؛ إذ إن الفكرة الرئيسية فيه هي أن الحياة الروحية وكل التقدم الحضاري تتوقف على الأحوال المادية للبيئة، أي على عوامل المناخ والتربة والتغذية، وهذا يستتبع بطبيعة الحال نقل مناهج العلم الطبيعي إلى علوم التاريخ والحضارة. وقد استخلص بكل النتائج الجريئة التي تتلو من هذا الرأي، فعالم التاريخ يخضع لنفس القوانين العلية الدقيقة التي يخضع لها عالم الطبيعة، وفي الطبيعة البشرية اطراد يناظر الاطراد في مجرى الطبيعة المادية، بحيث لا يحدث أي شيء في أحد المجالين إلا وفقا لتعاقب ضروري، ويحتل الإحصاء في التاريخ نفس المكانة التي تحتلها الرياضة في العلوم الطبيعية، فهذان العلمان يقومان بحساب دقيق لجميع العوامل التي تنتج وتحدد حادثا تاريخيا أو وضعا اجتماعيا معينا، ولقد كان «بكل» مؤمنا إلى حد التعصب بمقدرة الإحصاء، واستخلص بالاستناد إليه نتائج جريئة معروفة، ولم يكن اهتمامه موجها إلى الشخصيات الفردية وأفعالها الإرادية الحرة الظاهرة، بقدر ما كان موجها إلى العوامل المطردة العامة التي تعبر عنها الحركات الجماهيرية الكبيرة، فالأخيرة، لا الأولى، هي التي تشكل تلك الحياة التي تتجسد في التاريخ والحضارة، ولسنا نستطيع أن نتخيل تقابلا أوضح من ذلك الذي قام بين طريقة «بكل» الجماعية الواقعية في كتابة التاريخ ، وبين طريقة معاصره كارليل الفردية المثالية البطولية. ولقد كانت أفكار «بكل» مستمدة، بوجه عام ، من القرن الثامن عشر، ومن هنا لم يكن خصومه على خطأ حين سخروا منه قائلين: إنه ابن لعصر التنوير تأخر ظهوره قرنا من الزمان. ولقد حارب الدين والكنيسة بوصفها قوى تمثل الجهالة في التاريخ، وكان لديه إيمان متعصب بالتقدم، لم يكن مبنيا لديه على أي أمل في التقدم الأخلاقي للجنس البشري، وإنما بني على التوسع المتزايد في المعرفة والتنوير بفضل العقل. وعلى الرغم من أنه ربط الروح بالطبيعة، فقد كان يؤمن بقدرة الروح على إخضاع الطبيعة والسيطرة عليها، وذلك بين الشعوب التي تتحقق فيها شروط النمو والتقدم عن طريق تزايد انطباع حياتها بالطابع العقلي بفضل العلوم الدقيقة والنقد الفلسفي (الذي عزا إليه وظيفة حضارية ذات أهمية خاصة).
ولقد أثار تفسير «بكل» للحضارة، بما اتصف به من طموح وتحيز وروح نقدية دقيقة، عاصفة كبرى في الحياة العقلية بإنجلترا بعد منتصف القرن التاسع عشر، وكان من أقوى العناصر التي دخلت في تكوين الحركة التطورية، وهي الحركة التي بدأ ظهورها حوالي ذلك الوقت، وإن كان تأثر «بكل» نفسه بها لا يكاد يذكر، ولقد ظهرت بعده محاولات أخرى لإيجاد تفسير فلسفي للعصور الماضية، مثل محاولة «لكي
W. E. H. Lecky » (1838-1903) في كتابه «تاريخ ظهور روح المذهب العقلي في أوروبا وتأثيرها
History of the Rise and Influence of the Spirit of Rationalism in Europe » (ظهر في مجلدين، عام 1865، ونشره «سولوفيتش» بالألمانية، وظهرت الطبعة الثانية لهذه النشرة في 1873) وفي كتاب «تاريخ الأخلاق الأوروبية من أوغسطس إلى شارلمان
History of European Morals From Augustus To Charlemagne » (في مجلدين، 1869) وكتاب «تاريخ إنجلترا في القرن الثامن عشر
History of England in the 18th Century » (في ثمانية مجلدات، 1878-1890) وهي كتب استوحى مؤلفها فيها كلها روح «بكل»، كما ظهر أيضا كتاب «تاريخ التطور العقلي لأوروبا
History of the Intellectual Development of Europe » (1862) للعالم جون و. دريبر
John W. Draper ، الذي هاجر إلى أمريكا، وكذلك الكتاب الرائع «تاريخ الفكر الإنجليزي في القرن الثامن عشر
History of English Thought in the 18th Century » (في مجلدين، 1876-1881) من تأليف لزلي ستيفن
Leslie Stephen (1832-1904)، وهو كتاب تسوده أفكار «بكل»، وإن يكن قد تأثر أيضا بفكرة التطور.
ونستطيع أن نشير أيضا إلى مفكرين آخرين تربطهما بمدرسة مل صلة غير وثيقة، وينتمي الجزء الأكبر من تعاليمهما إلى المدرسة النفعية أو التجريبية، وإن يكونا قد تأثرا أيضا بأفكار أخرى، وهما المفكر الأخلاقي هنري سدجويك
Henry Sidgwick
والمفكر المنطقي والميتافيزيقي كارفث ريد
Carveth Read .
أما هنري سدجويك (1838-1900)
18
فقد ذاع صيته بظهور كتابه «مناهج الأخلاق
Methods of Ethics »، وهو أول مؤلفاته (باستثناء كتيب صغير) وأبعدها تأثيرا، وقد ظهر الكتاب عام 1874، بعد وفاة مل بعام واحد، وكان ذلك العام هو الذي شهد أول إنتاج للحركة المثالية في أكسفورد، وهو «مقدمات» جرين لهيوم، وكتاب «منطق هيجل
Logic of Hegel » لولاس، وقد أدى كتاب سدجويك، الذي اكتسب شهرة غير قليلة، بالإضافة إلى شخصيته الخاصة وتدريسه، إلى إنهاض وتقوية الاهتمام بالفلسفة في كيمبردج على نحو يناظر النهضة التي أحدثها تلاميذ كانت وهيجل في أكسفورد، وأصبح سدجويك على رأس حركة لم تكن حقا جديدة تماما، ولكنها كانت تمثل تجمعا جديدا لقوى تؤيد تنمية التراث القومي في الفلسفة، وصحيح أن القوة الدافعة التي بعثها، والتي دعمها «وورد
Ward » من بعده، لم تؤد إلى ظهور مذهب قوي متحدد المعالم نسبيا، كما حدث في أكسفورد، غير أنها قطعا مهدت الطريق للانطلاق الفكري الذي حدث في أوائل القرن العشرين، والذي يرتبط بفلاسفة كيمبردج قبل غيرهم. ومن الممكن القول إنه قام في الأخلاق بنفس الدور الذي قام به وورد في علم النفس، مع فارق واحد هو أن وورد قد فتح صفحة جديدة، على حين أن سدجويك قد اختتم وطوى صفحة قديمة.
ولقد كانت الشهرة الهائلة التي أحرزها سدجويك في الفلسفة طوال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بل وبعد ذلك أيضا، ترجع كلها إلى كتابه الأول، الذي لا يمكن أن تقارن به في الأهمية جميع مؤلفاته الأخرى مأخوذة معا.
19
ويحتل هذا الكتاب مكانة عليا ضمن أشهر المؤلفات الأخلاقية التي ظهرت في إنجلترا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل لقد أصبح بالفعل كتابا كلاسيكيا، ومع ذلك فإن أهميته قد بولغ فيها، فالقول إنه كتاب غير مجرى البحث في علم الأخلاق إنما ينطوي على استخدام لتعبير بال عتيق، وإذا سمح بهذا الوصف فينبغي أن يكون ذلك للدلالة على معنى أقل بكثير من ذلك الذي يقصد عندما يطبق - في الفترة ذاتها - على مل وسبنسر من جهة، وعلى جرين وبرادلي من جهة أخرى؛ ذلك لأن سدجويك لم يضع منهجا جديدا ولم ينشئ مذهبا جديدا، وإنما ينحصر فضله في أنه صنف ورتب وراجع وقوم مجموعة موجودة من قبل من الأفكار، وحاول أن يربط على نحو مثمر بينها وبين أفكار أخرى جديدة.
وعلى الرغم من أن بعض كتاباته تتناول أعم المسائل الفلسفية، فقد كاد اهتمامه يكون منحصرا كله في المشاكل الأقرب إلى الطابع العملي، وفي وقائع الحياة الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي المناهج والمقولات التي يمكن دراستها بواسطتها، وكان هدفه الأساسي هو أن يجعل من الأخلاق مبحثا فلسفيا مكتفيا بذاته، متحررا من كل تحزب ميتافيزيقي ونفساني وديني، ومتحررا من البلاغة ومن الاتجاه إلى الوعظ والإرشاد؛ ذلك لأن الأخلاق عنده ليست قواعد للسلوك وإنما هي نظرية، ومن الواجب ألا يعد نصيرا لقيم قديمة أو داعية لقيم جديدة، بقدر ما يجب أن يعد مشاهدا هادئا يتأمل الوقائع بروح تبلغ من الموضوعية بقدر ما تسمح طبيعة هذه الوقائع وطبيعته هو الخاصة. ولقد كانت عبقريته الفلسفية نقدية وتحليلية قبل كل شيء، ولا يكاد يكون لسدجويك، بين معاصريه، نظير في تلك المقدرة والمثابرة اللازمة للنظر إلى المشكلة الواحدة من أكثر الزوايا تباينا، وتتبعها بالقيام بتحليلات أدق وتعقب الاعتراضات والردود على الاعتراضات حتى آخر تفرعاتها. على أن هذا الميل إلى النظر إلى الأشياء بطريقة ميكروسكوبية قد حال بينه وبين تأمل المشكلة الواحدة أو مجموعة المشاكل في كليتها، فطالما كان يضل طريقه في متاهة من التفاصيل، ويعجز عن إدراك معالم الطريق الموصل إلى أية نتيجة واضحة، وقد أدى به حرصه على تجنب الانحياز إلى إعطاء شيء من الحق لجميع الأطراف، بحيث كانت النتائج التي وصل إليها بالفعل أقرب إلى الحلول الوسطى منها إلى الحلول الأصيلة للمشكلات، وترتب على ذلك أن اصطبغت كتاباته كلها، ولا سيما كتابه الرئيسي، بطابع رتيب ممل، فهي في ترددها أعجز من أن توصل القارئ إلى تكوين فكرة محددة تسيطر على ذهنه، وكان منهجه مقاربا لمنهج العلوم الخاصة، وهو عكس الطريقة التركيبية التأملية التي كان يتبعها مفكرو أكسفورد، وليس في وسع أحد أن ينكر أن منهجه هذا قد أثر في فلاسفة كيمبردج اللاحقين؛ فالتقارب بينه وبين منهج مفكرين مثل «مور
Moore » و«ماكتجرت
Mctaggart » و«برود
Broad » أوثق من أن يسمح لنا بافتراض أن هذا التقارب، في بيئة واحدة، لم يحدث إلا مصادفة، وعلى ذلك فمن الواجب تقدير منهجه على أساس تأثيره في المستقبل، على عكس محتوى مذهبه الذي كان، كما لاحظنا، يمثل نهاية فترة أكثر مما يمثل بداية فترة أخرى.
وهو يعرف الأخلاق بأنها تحديد الفرد بطريقة عقلية الفعل الصحيح، فهي علم معياري، وليست مجرد علم وضعي، ومجالها هو مجال ما ينبغي أن يكون، متميزا عما هو كائن، وهو يشمل الغايات أو الأوامر التي يحددها لنا العقل العملي، ويرى سدجويك أن هناك محاولتين فقط من المحاولات التي بذلت للوصول إلى صيغة للمثل الأخلاقي الأعلى، هما وحدهما اللتان يمكن أن تعدا معقولتين، إحداهما هي تلك التي ترى ذلك المثل الأعلى في السعادة، والأخرى تلك التي تجده في الكمال، وللأولى صورتان متميزتان، إحداهما ترى أن السعادة التي ينبغي أن تطلب هي سعادة الشخص ذاته، والأخرى ترى أنها هي سعادة الآخرين، وعلى ذلك فمن الممكن تقسيم المذاهب الأخلاقية إلى ثلاثة أنماط رئيسية (كان لكل منها ممثلوه في التاريخ)، هي الأنانية أو مذهب اللذة الأناني
egoistic hedonism ، والمنفعة أو مذهب اللذة الشاملة
universalistic hedonism ، والمذهب الحدسي
intuitionism .
أما المذهب الحدسي فهو مبني على الاعتقاد بوجود بديهيات أخلاقية، أي مبادئ لها صحة واضحة بذاتها، ومن أمثلتها أنه لا ينبغي لي أن أفضل خيرا حاضرا على خير أعظم منه في المستقبل، أو خيرا لذاتي على خير أعظم منه لغيري. أما القضايا المماثلة للقضية القائلة إن من واجبي قول الصدق والوفاء بالوعد، فليست بداهتها مباشرة كالسابقة، غير أن المبادئ المعترف بها اعترافا عاما، كالحيطة والعدالة والإحسان، تشمل على أية حال عناصر يدركها الذهن مباشرة، ويرى سدجويك أن المذهب الحدسي يتمثل على أوضح نحو لدى «كلارك» و«كانت»، ونستطيع أن نضيف إليهما «مارتينو
Martineau »، الذي لم تكن نظريته قد نشرت في صورتها الناضجة عندما ظهر كتاب سدجويك لأول مرة. أما بالنسبة إلى مذهب اللذة
hedonism ، فإن سدجويك قد أسدى خدمة هامة إذ ميز تمييزا قاطعا بين نوعين منه، فمذهب اللذة الأناني، الذي يمثله أبيقور، يتخذ من لذة المرء نفسه وألمه معيارا للسلوك، ويدعم هذا الرأي بالنظرية النفسية القائلة إن هدف كل فعل لنا إنما هو تحصيل اللذة أو تجنب الألم، ويضيف إلى ذلك الرأي القائل إن اللذة والألم قابلان للقياس وللمقارنة فيما بينهما، بحيث يكون من الممكن مواجهتهما الواحد بالآخر والبحث عن توازن ملائم بينهما. وأما مذهب المنفعة، كما يتمثل لدى بنتام وجون ستيوارت مل، فيتخذ معيارا للسلوك، لا من سعادة كل فرد، بل من سعادة الجميع، ففي كل فعل لي يتعين علي مراعاة مصالح جميع الأشخاص الآخرين الذين قد يتأثرون به، وهكذا كانت الصيغة التي تلخص رأي بنتام هي «أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس.» ولم يكن في وسع سدجويك أن يهتدي في أي من هذه المذاهب إلى ذلك الذي يمكنه أن يقول إنه يمثل مذهبه الخاص، ولقد كان الذي يسعى إليه هو مركب يجمع أكبر قدر ممكن مما يبدو له صحيحا في كل من هذه المذاهب، على الرغم من أن ما توصل إليه لم يكن إلا حلا وسطا غير مرض. ولقد كان أبغض المذاهب إليه هو الأنانية، في صورتيها الأخلاقية والنفسانية، وقد رفضها في النهاية رفضا قاطعا، بوصفها منافية للتجربة والعقل معا. أما مذهب اللذة الشاملة، فقد سار معه سدجويك شوطا بعيدا، ولكنه عدله تعديلا أساسيا، متجاوزا مل بتنكره لمذهب اللذة النفسي الذي ارتكز عليه المذهب كله عند مل، وملتمسا له أساسا مخالفا تماما. وكان مطلبه يسير في اتجاه المذهب الحدسي، الذي وجد أن الغاية الأخلاقية لا تكون في الاستقراء التجريبي، وإنما تكون في التبصر العقلي المباشر، وقد اختلفت الآراء كثيرا حول المصدر الذي تأثر به في هذا الصدد، وهل هو الأخلاقيون الإنجليز القدامى مثل كلارك وبطلر، أم هو كانت و«لوتسه
Lotze »؟ والأرجح أنه تأثر بالجميع، ولكن من الواجب استبعاد أي اقتباس عميق منه للأخلاق المثالية الألمانية؛ إذ إنه كان متمسكا بأركان أساسية في المذهب النفعي، واكتفى بتصحيحه وتعديله وتوسيعه، ولم يحاول أبدا أن ينشق عنه. أما العناصر التي اقتبسها فعلا فلم تكن مرتبطة بتفكيره إلا ارتباطا خارجيا، لا متمثلة فيه عضويا، ونستطيع أن نشير - للدلالة على ذلك - إلى الموقف العدائي الذي سرعان ما اتخذه نحو سدجويك الأخلاقيون الإنجليز الأحدث عهدا، الذين تأثروا بالمثالية الألمانية، وهو موقف نجد تعبيرا واضحا عنه في كتاب برادلي «دراسات أخلاقية
Etbical Studies » (1876) وفي كتيبه الخاص «مذهب اللذة عند سدجويك
Mr. Sidgwick’s Hedonism » (1877)، فضلا عن كتاب جرين «مدخل إلى الأخلاق
» (1883) الذي اتخذ من سدجويك هدفا مستمرا للهجوم، ولقد كان سدجويك ذاته شاعرا بهذه العداوة، ويتضح عجزه عن إنصاف مدرسة أكسفورد كما تتمثل في «جرين» بجلاء في كتابه الذي صدر بعد وفاته بعنوان «محاضرات في المذهب الأخلاقي عند جرين وسبنسر ومارتينو
Lectures on the Ethics of Green, Spencer and Martineau ».
وعلى ذلك فإن موقف سدجويك الخاص، بقدر ما يمكن القول إن له موقفا خاصا، هو أقرب إلى الجمع بين عناصر مستمدة من المذهب الحدسي والمذهب النفعي، والتوفيق بين الأخلاق العقلية والأخلاق التجريبية، وهما التياران الرئيسيان في الفلسفة الأخلاقية الإنجليزية، اللذان كانا من قبله في صراع، أو على الأقل كان كل منهما متباعدا عن الآخر. ولقد أطلق هو ذاته على مذهبه اسم مذهب المنفعة، وأحيانا كان يطلق عليه اسما أوضح، هو مذهب المنفعة المبني على أساس حدسي، وبذلك لفت الأنظار إلى الوجه الذي أراد أن يؤكده أكثر من غيره، ولا تكاد تظهر في مذهبه أية علامات للمذهب التطوري عند سبنسر وهكسلي وستيفن وألكسندر، وغيرهم، وهم الذين عملوا جميعا على تطبيق مبادئ دارون على الأخلاق بعد ظهور كتاب سدجويك، وعلى الرغم من أنه حاول في الطبعات التالية لكتابه أن يعرض لهذا المذهب، فمن الواجب أن يوصف موقفه، حتى في النهاية، بأنه سابق على مذهب التطور، وربما مضاد له، كما أنه رفض في الطبعات التالية المذهب الحدسي الخالص عند مارتينو، ومعه مثالية جرين، وأصبح هذان المفكران، ومعهما سبنسر ، هدفا لهجوم خاص وجهه إليهم في المحاضرات التي نشرت بعد وفاته، والتي أشرنا إليها من قبل.
ولقد أدى إبعاد سدجويك لمذهب المنفعة عن مذهب اللذة الفردي الذي كان يرتبط به، إلى ترك الطريق مفتوحا لوضع أساس عقلي حدسي لهذا المذهب، فقد رأى أن من الخطأ في ملاحظة ما يحدث في الواقع أن يقال إن الغاية الوحيدة للنزوع الإرادي هي تحصيل اللذة وتجنب الألم، وذهب إلى أنه حتى لو صح هذا لكان من المستحيل الانتقال - بنوع من الاستقراء - من هذه الأنانية إلى المبدأ النفعي القائل بالسعادة الشاملة؛ ذلك لأن من المستحيل جعل الوقائع الذهنية محددة للمعايير الأخلاقية، أي جعل ما هو كائن محددا لما ينبغي أن يكون، فليس لأصل أفكارنا الأخلاقية أي شأن بصحة هذه الأفكار، وبهذا التأكيد لفكرة الوجوب خطا سدجويك خطوة حاسمة تجاوز بها كل أخلاق تجريبية، وإن يكن قد ظل كعادته في موقف وسط، بالقول إن موضوع الالتزام - أي المثل الأخلاقي الأعلى - هو السعادة لا الواجب، فهناك مثل أعلى يدركه الحدس ويضمنه، وله من الوضوح واليقين بقدر ما لأية بديهية رياضية، هو المثل الأعلى القائل: إن من واجبي، بوصفي كائنا عاقلا، أن أعامل الآخرين كما أود أن أعامل في الظروف المماثلة، وهذا هو مبدأ العدالة، أما مبدأ الحيطة
prudence
القائل: إن من واجبي أن أفضل خيرا مقبلا على خير حاضر أقل منه، وكذلك مبدأ الإحسان
benevolence
القائل: إن علي ألا أسعى إلى ما هو خير لي إلا في إطار الخير العام؛ فهما بدورهما بديهيتان أخلاقيتان، وليسا موضوعين للاستقراء، وإنما للحدس العقلي. ومن الواضح أن الأمر المميز لمذهب المنفعة، وهو السعي وراء تحقيق السعادة للجميع، لا للذات فحسب، إنما يرتكز على أول هذه المبادئ الثلاثة وآخرها، أي إن مذهب المنفعة يرتكز على المذهب الحدسي، وبالعكس يؤدي المذهب الحدسي إلى مذهب المنفعة؛ فالاثنان يرتبطان سويا ارتباطا وثيقا.
غير أن لمذهب المنفعة دعامة أخرى يستمدها من الموقف الطبيعي (الإدراك المشترك)، أي من المشاعر الأخلاقية الساذجة للإنسان العادي، ومن الصفات المميزة لسدجويك أنه - على الرغم من رفضه لأي تحديد تجريبي للمثل الأخلاقي الأعلى - قد حرص كل الحرص على التوفيق بين آرائه النظرية وبين التجربة العملية، وعلى تجنب أي تصادم مع النظام المقرر للعرف الأخلاقي السائد، فمع اعتقاده بأن من واجب الفلسفة أن تعلو في نواح معينة على الرأي الشائع، بل وتختلف عنه، كان مقتنعا بأن عليها ألا تقف بمعزل تماما عنه، أو أن تناقضه؛ لذلك حاول أن يبين أن مذهب المنفعة والموقف الطبيعي (أي الإدراك المشترك) يتمشى كل منهما مع الآخر، بل أن يبين أن الأول لا يعدو أن يكون صياغة منهجية دقيقة للثاني، وهو المثل الأعلى الذي ظلت الحياة الأخلاقية للبشر تسير نحو تحقيقه طوال تاريخها؛ فنحن، من الوجهة العملية، مؤمنون دون أن نشعر بمبدأ المنفعة، وهكذا ترتكز الأخلاق الفلسفية على جذور في الواقع التجريبي للنظام الأخلاقي السائد، ولا تكون بها حاجة إلى الخروج عن هذا الواقع سعيا وراء معاييرها ومثلها العليا؛ ومن ثم فقد أطلق سدجويك على القوانين الأخلاقية المعمول بها اسم «النتاج الرائع للطبيعة» الذي هو «ثمرة نمو دام قرونا طويلة»، ولم يكن أبغض إليه من «تلك الروح الثورية» التي تنشق على أخلاق العرف والنظم السائدة في المجتمع، وتحاول هدمها. وهكذا كان سدجويك محافظا بطبيعته، وكان أبعد الناس عن تحقيق مطلب نيتشه في «إعادة تقويم جميع القيم»، ولقد كان سدجويك في تعلقه بالنواتج الطبيعية لنمونا التاريخي، وفي اعتماده عليها بوصفها عناصر هامة في تحديد أي موقف أخلاقي معقول، يعكس الطابع العام وطريقة التفكير العامة المميزة لأمته، ويحتل مكانة في ذلك الصف الطويل من الفلاسفة الأخلاقيين الإنجليز الذين تبلورت طريقة التفكير هذه في مذاهبهم مرارا وتكرارا.
أما كارفث ريد
Carveth Read (1848-1931)
20
فهو مفكر آخر ظل تفكيره يدور في الأغلب في إطار المذهب التجريبي التقليدي، وإن يكن قد تجاوزه ليكون لنفسه ميتافيزيقا خاصة به، نظرا إلى كونه - على غير المألوف بين الفلاسفة التجريبيين - صاحب ذهن ينزع إلى النظر والتأمل، ولقد اعترف هو ذاته بأنه كان في كتابيه الأولين، اللذين عالجا سويا مجال المنطق؛ متفقا إلى حد بعيد مع النظريات التجريبية عند مل وبين وسبنسر و«فن
Venn ». فموضوع المنطق ليس في رأيه مجرد التصورات أو الألفاظ، وإنما هو دائما الوقائع وما بينها من علاقات، فهو العلم العام للوقائع، أو هو - كما يعرفه ثاني هذين الكتابين - علم الشروط التي ينبغي توافرها إذا شئنا البرهنة على أي حكم قابل للبرهنة، ويطلق ريد على عملية بناء المبدأ المنطقي على الواقع هذه اسم المنطق المادي، تمييزا له من النزعة الاسمية عند «ويتلي
Whately » والنزعة التصورية
Conceptualism
عند فيلسوف مثل هاملتن.
ولقد كان موقف ريد تجريبيا في علم النفس بدوره، وذلك على الأقل بمعنى أنه يبدأ من التجربة ويعود إليها، وهو موقف «ظاهري
» على طريقة هيوم ومل؛ وذلك لأنه عد عالم التجربة مؤلفا بأسره من معطيات الوعي، بحيث يشتمل الوعي عليه ويوحده في الآن نفسه، والوعي هو الحقيقة الواقعة بالمعنى الصحيح، ولما كان شرطا للوجود المادي، فإنه لا يمكن أن يستمد من هذا الوجود أو يفسر من خلاله، وهو يقدم تفسيرا لطريقة وجود الأشياء قبل أن يكون هناك ذهن عارف يدركها، على نحو ما توجد الظواهر لو لم يكن هناك كائن عضوي واع يدركها، وفي هذا التفسير يقتفي أثر مل في تصوره الكيانات التي لا تدرك على أنها إمكانات دائمة للإحساس، وعند هذه النقطة تبدأ ميتافيزيقاه،
21
ويطلق ريد على حالة العالم عندما لم تكن هناك ظواهر، إذ لم تكن هناك بعد أية كائنات عضوية لديها وعي اسم «الوجود
Being » أو الواقع المطلق، ولكن على الرغم من أن هذه الحالة ليست داخلة في نطاق الوعي، فلا يمكن التفكير فيها بدون وعي، أي إن الواقع بوجه عام - وليس مجرد الواقع التجريبي غير العضوي والعضوي - هو واقع واع، وبعبارة أدق فالوعي مصاحب للوجود، والوقائع المدركة هي مظاهر للموجود الأصلي. وهكذا يؤدي المذهب الظاهري في المعرفة إلى ظهور نوع من مذهب شمول النفس
panpsychism
الميتافيزيقي.
ولا يمكن القول: إن المكونات المختلفة لهذه النظرية إلى العالم ، وعلاقاتها بعضها ببعض، تفي بمقتضيات النظرية الفلسفية؛ فالواقع هنا ينظر إليه على أنه مؤلف من ثلاثة عناصر: الوجود الظاهري
والواعي والعالي أو الخالص، أول هذه العناصر هو عالم الأشياء في الزمان والمكان، عالم التجربة اليومية والعلوم، ومع ذلك فإن شرط أي شيء ظاهري - أي الوعي - يوصف بأنه شيء يبدأ وجوده في وقت متأخر نسبيا، أعني شيئا مرتبطا ارتباطا لا ينفصم بالعنصر الظاهري، أي المادة. والنتيجة ثنائية قاطعة للنفس والجسم، فالأخير جوهر تجريبي، والأول نشاط «للوجود المطلق»، ولا يمكن أن يكون بينهما أي تأثير متبادل. فلا يمكن أن تكون الإرادة هي علة الحركة؛ إذ إن هذين الاثنين قد جعلا بحيث ينتميان إلى مجالات مختلفة للوجود. والأمر الذي تسببه الإرادة هو تغير في الوجود، ولدينا بهذا التغير وعي مباشر، كما أن نفس التغير يتضح لنا، بطريق غير مباشر، في الحركة التجريبية التي ندركها، وعلى ذلك فإن الوعي يصبح مرتبطا، لا بالجسم الذي يحل فيه بالضبط، وإنما بالوجود العالي بقدر ما يتبدى في الجسم. أما الطبيعة الجوهرية لهذا الوجود الضروري ولمظاهر فاعليته فأمر يدق علينا فهمه. ولو حاولنا أن نحدده بطريقة أدق لما كان ذلك إلا بأن ننسب إليه بعض خصائص الوعي، الذي هو المتضايف معه. وينسب ريد إليه، على سبيل الترجيح، الزمان (أو التعاقب على الأقل) والتغير والتواجد
Co-Existence (وربما لم يكن ذلك بوصفه علاقة مكانية)، والترتيب أو اطراد التغير. وهكذا يقدم إلينا أخيرا نظرة تجريبية إلى الكون، تخيم عليها ميتافيزيقا نظرية تأملية، وهي نظرة لها عيوب واضحة، منها مثلا: غموض ذلك الوعي الذي هو من جهة إدراك واع أصيل، ومن جهة أخرى شيء غير محدد، يرتبط بكل وجود أيا كان، ومن عيوبه أيضا رد العالم المادي إلى وجود ظاهري في الوعي العارف، وما يقابل ذلك من توسيع لنطاق هذا العالم نفسه إلى ما وراء الوعي في عالم من الوجود المطلق. وأخيرا تلك العلاقة الغامضة التي يتركها قائمة بين العالم الظاهري والعالم الحقيقي، وهي علاقة توجد - إن جاز هذا التعبير - من وراء ظهر الوعي.
وهو ينقل هذه الأفكار الميتافيزيقية في كتابه الأخلاق الطبيعية والاجتماعية
Natural & Social Morals (1909) إلى مجال الأخلاق ، فمبدأ الوحدة في هذا المجال هو الوحدة الأصيلة بين الناس عن طريق الإخاء والتعاون، والإشباع الكامل لكل رغباتهم، والاعتراف بغاية عليا لكل مساعيهم، وهذا الخير الأسمى هو الفلسفة بمعنى متسع، أي الثقافة
Culture ، فالفلسفة هي التحقيق الصحيح للطبيعة البشرية، وعن طريقها يصل العالم إلى معرفة بذاته، وبفضل معرفة الإنسان لذاته وحدها، يستطيع هذا الإنسان - بوصفه أعلى مظاهر الحياة الواعية والوجود التجريبي بوجه عام - أن يسمو إلى مراتب أعلى من الحرية والسمو والسعادة والحكمة. وهكذا فإن ريد كان أشبه بداعية متعصب لعصر التنوير حين توقع أن يتحرر الإنسان باطنيا، ويصل إلى سعادته الحقة وخلاصه، بفضل تلك الاستنارة المتزايدة التي يبعثها فيه العلم والفلسفة، وبفضل التعاون الفعال، وتطبيق مبادئ علم تحسين السلالات
eugenics . ولقد كان ريد واحدا من البريطانيين القلائل الذين آمنوا بحماسة بقدرة تدابير علم تحسين السلالات على القضاء على الانحلال المعنوي والمادي للأمم، وتحويله إلى عكسه، ويتضح هذا الاهتمام بالبيولوجيا في آخر كتاباته «أصل الإنسان وخرافاته
The Origin of Man and of his Superstitions » (1920، الطبعة الثانية، في مجلدين، 1925) وهو كتاب يلتزم حدود علم الأنثروبولوجيا.
ويمكن القول إن ريد هو آخر أتباع التراث التجريبي القديم؛ إذ إن صلته به - وإن كانت واهية في بعض النواحي - كانت صلة حيوية أصيلة، ولكن الواقع أن هذا التراث الذي استعرضناه حتى الآن كان في تدهور حتى في بداية العصر الذي بدأ فيه نشاطه الفلسفي؛ ذلك لأن جميع قوى الحركة التجريبية وطاقاتها المتعددة كانت قد تجمعت في جون ستيوارت مل، وعلى ذلك فقد كان موته نقطة تحول هامة وبداية انحلال بطيء ولكنه مستمر لتلك النظرة إلى الحياة والعالم، التي كان هو آخر ممثل ضخم لها، وبدأت قوى جديدة تطرق باب الفلسفة الإنجليزية، ففي أثناء حياة مل كان سترلنج قد جهر بصوته مدافعا عن كانت وهيجل، ولم تكد عينا مل تغمضان حتى أصدرت الحركة المثالية في أكسفورد أول كتاباتها الجديدة العظيمة. وهكذا افتتح عصر جديد للفكر، لنشق بطريقة واعية على الصور القديمة المتأصلة في الأرض البريطانية، وكان مصرا على طلب الحقيقة بطريقته الخاصة، وبدأ مذهب مثالي، من أصل ألماني، يتخذ مواقعه ضد التراث الإنجليزي، وأخذ ينتزع منه، ولا سيما في الأوساط الأكاديمية، الموقع تلو الآخر، ولكن حتى قبل استهلال هذه القوة الفلسفية الجديدة، وحين كان نجم مل ما يزال لامعا ظهرت قوى أخرى بدأت تمارس تأثيرها في صف المذهب التجريبي؛ فغيرت مظهره، وأعطته قوة دافعة جديدة، وحركته في اتجاه جديد، وقد أتت هذه القوى من علم خاص هو علم الحياة، وتكونت منها الحركة الهائلة التي أطلقها سبنسر ودارون في العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر، وهي حركة كانت على الرغم من تجريبيتها تختلف اختلافا بينا عن المذهب التجريبي كما يمثله بنتام ومل؛ ومن ثم فقد وجب بحثها على حدة.
الفصل الثالث
المدرسة التطورية الطبيعية
رأينا من قبل أن الطابع السائد في الفلسفة الإنجليزية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وخلال بعض الوقت بعد ذلك، كان هو التعارض بين الفلسفة الاسكتلندية والتجريبيين التقليديين، وأن الأخيرين أخذوا يكسبون المواقع باطراد، ولكن حتى قبل أن ينتهي هذا الصراع، الذي كان هاملتن ومل آخر من خاضوه لصالح المذهب الأخير، ظهرت قوة جديدة كان ينتظر لها مستقبل باهر، وأعني بها مذهبي سبنسر ودارون. فقد بدأت فكرة التطور تظهر في الفلسفة، وكذلك في العلوم الخاصة، في العقد السادس، وهو العقد الذي شهد وفاة هاملتن وبلوغ مل أوج شهرته، وكانت الحركة التي بدأها سبنسر ودارون ترتبط ارتباطا وثيقا بالاتجاه التقليدي للفكر الإنجليزي كما حددنا معالمه. وعلى الرغم من أنها كانت نبتة جديدة رائعة، فإنها ظهرت من نفس فصيلة التجريبية القديمة وامتدت جذورها في نفس تربتها، فليس من الممكن رسم خط فاصل قاطع بينها وبين الحركة التي قادها بنتام ومل، وإنما تلتقي طريقتا التفكير في نواح تبلغ من الكثرة حدا لا تعود معه نسبة أي مفكر إلى المدرسة التطورية راجعة إلا إلى سيطرة الميل الدافع الجديد على فلسفته. غير أن هذا الميل الدافع الجديد سرعان ما أصبح من القوة بحيث إن قليلا جدا من المفكرين هم الذين استطاعوا، ابتداء من العقد السابع، أن يتجنبوا تأثيره عليهم.
ولقد كان وجود فكرة التطور في الجو في أواسط القرن التاسع عشر هو الذي جعلها تظهر في آن واحد من عدة مصادر مستقلة، وتهب كالعاصفة على الحياة العقلية المعاصرة لها بأكملها، مكتسحة معها كل شيء، ففي ميدان الفلسفة أتى بها سبنسر، وفي ميدان العلوم الخاصة أتى بها دارون ووالاس، وكان سبنسر هو الأسبق في ترتيب النشر. غير أن ظهور المبدأ الجديد من جهات متباعدة إلى حد كبير في وقت واحد - وهو علة ما أحرزه من نجاح سريع لا نظير له - يجعل مشكلة الأسبقية غير هامة نسبيا. والأمر الذي له أهميته العامة هو أن التحالف الذي دخلته الفلسفة في ذلك الحين مع علم الحياة قد أثبت أن له من الفائدة ما كان للتحالف بين الفلسفة وبين الرياضيات والفيزياء أيام ديكارت ونيوتن. وهكذا أصبح الفلاسفة يستوعبون ويستغلون نتائج العلوم الخاصة، وأصبح العلماء يتجاوزون نطاق أبحاثهم الخاصة إلى نتائجها الفلسفية العامة؛ وبهذا كانت قوى التطور تزحف في جبهتين، إن جاز هذا التعبير، وكانت الجبهتان متفرقتين أولا، ثم اتحدتا فيما بعد.
وعلى الرغم من أن سبنسر كان أول من عرض فكرة التطور علنا، فقد كان تشارلس دارون
Charles Darwin (1809-1882) هو الذي جعل لها تأثيرها الهائل، عن طريق كتابه «أصل الأنواع
The Origin of Species » (1859)، ولقد كان هذا الكتاب، الذي كان نقطة تحول في ميدانه بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، من إنتاج عبقرية علمية ضخمة، تتميز بقدرتها على الجمع، على نحو فريد، بين دقة الملاحظة والصبر فيها، وبين الولاء المطلق للواقع والقدرة على التركيب الذهني الإبداعي. ولقد فاق هذا الكتاب أي كشف علمي آخر في القرن التاسع عشر في مدى الضجة التي أحدثها، وفي مقدار ثوريته، ومدى تداخله في الصراع بين الفئات والفرق المختلفة؛ ومن هنا فإن تقدير مدى تأثيره مستحيل.
ولقد تجاوز العلم بعض تفاصيله، وما زال بعضها الآخر موضوعا للنزاع، غير أنه في عمومه قد اندمج في تراث العلم الطبيعي وأصبح جزءا لا يتجزأ منه، بل لقد طغى وفاض في مسارات عديدة تغلغل بها في حياتنا العقلية العامة، حتى أبعد أطرافها، بحيث أصبح يكون، بصورة مختلفة مشوهة، ما يشبه الرأي الفلسفي عن الحياة والعالم للكتل الجماهيرية في جميع البلدان. أما دارون ذاته فلم يتخذ أبدا رداء الفيلسوف، وإنما كان شاعرا بالأثر الانقلابي الذي كان لا بد أن تحدثه نظريته في مناقشة المسائل الفلسفية، وكان هو ذاته يقوم من آن لآخر في كتاباته المتأخرة (ولا سيما في «الأصل السلالي للإنسان
The Descent of Man » 1871) باستخلاص بعض النتائج الفلسفية لأفكاره، عن طريق تطبيقها على مشكلات نفسية وأخلاقية، ولكن ذلك لم يكن إلا بطريقة عارضة. أما الاستغلال الفلسفي الدقيق لنظرية التطور فلم يكن يعبأ به أبدا. فدارون لم يكن دارونيا، وإنما ظل إلى النهاية كما كان دائما، باحثا متواضعا لظواهر الحياة النباتية والحيوانية، محبا للعزلة، مخلصا أمينا. وإنه لمن المناظر المؤثرة بحق أن نراه يترك الأمواج العاتية للمذهب الدارويني تتكسر على صخرة عمله، بينما هو لا يعبأ بشيء، ويواصل السير في طريق دراساته المرسوم دون أن يحيد عنه قيد شعرة.
وطالما حدث من قبله أن استبقت الأبحاث العلمية والتأملات النظرية عناصر مذهبه الرئيسية، وهي قابلية الأنواع للتغير، والانتقاء الطبيعي، والصراع من أجل الوجود، وبقاء الأصلح، والتكيف مع البيئة، ووراثة الصفات الملائمة، والأصل الحيواني للإنسان ... إلخ. غير أن جمع هذه العناصر سويا في صورة رائعة واحدة عن أصل الكائنات الحية وتطورها كان عملا انفرد به دارون، وإليه وحده يرجع الفضل فيه. ومن المهم بالنسبة إلى أغراضنا أن نلاحظ أن هذه الصورة لم تبن على أسس بيولوجية خالصة، بل ساهمت فيها نظرية مالتوس في السكان بدور حاسم،
1
فقد كانت هذه النظرية هي التي ألهمت دارون فكرته المشهورة في الصراع من أجل الوجود، وكانت هذه الفكرة هي التي أتاحت له جمع ملاحظاته واستدلالاته البيولوجية في نسق موحد. ونستطيع أن نعبر عن الخدمة التي أسداها دارون إلى العلم بقولنا: إنه تكهن بالدلالة البيولوجية لقانون مالتوس القائل إن هناك علاقة عكسية في المجتمعات البشرية بين عدد السكان وكمية الطعام المتوافرة (بحيث يزيد الأول بمعدل أسرع من الثاني)، وأتى بأدلة تجريبية متعددة تثبت أن هذا القانون يسري على الحياة في المستويات دون البشرية؛ وبذلك أخضع مجال الحياة بأسره لمبدأ مشترك. غير أن دارون لم يهتم إلا قليلا بالأثر العام لنظريته في النواحي غير البيولوجية للإنسان، ولم يمس هذا الموضوع إلا لماما، مثلما فعل، مثلا، بالنسبة إلى الأفكار الأخلاقية التي أرجع أصلها (كما فعل نيتشه فيما بعد بتأثير دارون) إلى الغرضية الواضحة الغريزة الحيوانية، غير أن مذهب دارون البيولوجي قد مهد الطريق دون شك لعملية تطبيق المبدأ الذي سبق إثباته بالتفصيل بالنسبة إلى عالم الحياة فيما دون الإنسان، على الإنسان ذاته، وتطويره بحيث تتكون منه نظرية عامة عن حياة الإنسان الاجتماعية وتاريخه، وقد تولى هذه المهمة سبنسر و«كيد
Kidd » وغيرهما، ونفذوها في الإطار العام لأفكار دارون، وبفضل هذين المفكرين طبق المذهب الدارويني تطبيقا مثمرا في مجالات الأخلاق، والتاريخ، (ولا سيما تاريخ الشعوب البدائية) وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد، أي في العلوم المعنية بالإنسان على وجه التخصيص.
وما إن ثبتت الداروينية أقدامها في المجال البيولوجي وأصبحت مثارا للجدل في جميع أرجاء العالم، حتى لم يعد من الممكن الحيلولة دون ذيوع النظرة العامة المتضمنة فيها بشأن الحياة والكون، وأصبح زحفها الظافر أمرا مؤكدا؛ فهي - من حيث هي فلسفة - قد جعلت ما هو دون الإنساني مقياسا أو معيارا للإنساني، ولم تعد تنظر إلى الإنسان على أن له قيمة في ذاته، وإنما نظرت إليه على أنه لا يعدو أن يكون الفرع الأخير في شجرة نسب ترجع في أصلها إلى العالم الحيواني والنباتي، وبتعبير أعم، فهي قد فسرت كل شيء لا بالصور العليا للطبيعة، وإنما بصورها الدنيا، وكانت تمثل «مذهبا طبيعيا
naturalism » من حيث إنها جعلت العوامل دون الإنسانية أهم من العوامل الحضارية، ومذهبا بيولوجيا
Biologism
من حيث إنها عبرت عن المسائل الفلسفية من خلال المقولات والنظريات البيولوجية، وكانت مذهبا تطوريا
evolutionism
من حيث إنها نظرت إلى الأشياء كلها على أنها جزء من عملية من التطور الصاعد، ومذهبا آليا
Mechanism
لأنها فسرت الظواهر الغائبة من خلال العلل الآلية وقوانينها. وهكذا فإن هذه النظرة إلى الكون، التي احتفظت بخطوطها العريضة على الرغم من الاختلاف في النقاط التفصيلية، قد انقضت كالسيل الجارف، في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، على جميع مجالات الحياة العقلية، وأصبحت هي الفلسفة الشعبية للمثقفين وأنصاف المثقفين وغير المثقفين على السواء، وقد أثارت الاهتمام بالمشكلات الفلسفية، وانتقلت بالمناقشات الخاصة بها بعيدا عن الأوساط الاحترافية المحضة، وأثارت الصراع بين الفرق المتباينة، واستفزت بوجه خاص أولئك الذين لم يروا فيها إلا قوة معادية للدين والأخلاق وكل القيم التي كان معترفا بها من قبل. وإذا كانت لم تتحول في إنجلترا إلى مذهب مادي ساذج إلا نادرا، وكان تأثيرها العام فيها أقل خطورة مما كان في بقية البلاد، فإن ذلك لم يكن راجعا فقط إلى الطابع المحافظ للإنجليز، بل كان راجعا أيضا، وقبل كل شيء، إلى أن قوة التراث الديني وعمقه ربما كان هناك أعظم مما كان في أي بلد آخر. ولقد اعترضت الكنيسة بقوة على المذهب الجديد، ودام صراعها معه عشرات عدة من السنين، كما أن الأوساط الأكاديمية في الفلسفة لم ترحب به إلا قليلا، وعاملته على أنه مذهب دخيل، وإن يكن مذهبا يستحق التحدي عن جدارة، غير أن أقوى سد ضد طوفان الداروينية هو ذلك الذي شيدته المدرسة المثالية الجديدة، التي ظهرت في نفس الوقت الذي أتى فيه ذلك الطوفان، وأخذت بالتدريج تحتل مكان الصدارة في الجامعات. وقد كانت الحركة المثالية في مرحلتها الأولى ترى أن مهمتها الأساسية هي قهر الداروينية، بل إنه ليبدو في كثير من الأحيان أنها لم تكن تهيب بكانت وهيجل إلا ليؤيدا وجهة نظر الدين في صراعه ضد هذه الزندقة الجديدة.
ولقد تمثل المذهب التطوري الطبيعي
Naturalistic evolutionism
في المجال الفلسفي على التخصيص، في مذهب هربرت سبنسر
Herbert Spencer (1820-1903)، وهو المذهب الذي وصلت به تلك الفلسفة التي ظلت على ولائها للتراث القومي الإنجليزي إلى القمة، وبلغ بها القرن التاسع عشر خاتمة مطافه ونقطة اكتماله . ولقد سيطر سبنسر على الميدان الفلسفي في إنجلترا في الأعوام الثلاثين الأخيرة من القرن التاسع عشر، على نفس النحو الذي سيطر به مل وهاملتن وبنتام وريد وهيوم على هذا الميدان في أيامهم، وهو واحد من الفلاسفة الإنجليز القلائل الذين ذاعت شهرتهم خارج إنجلترا أثناء حياتهم، بل لقد اكتسب شهرة عالمية؛ فذاع اسمه في روسيا والصين واليابان مثلا، فضلا عن أوروبا وأمريكا، وترجمت مؤلفاته إلى كل لغات الشعوب المتمدينة تقريبا. ولم يكن السبب في هذا النجاح الفريد هو القيمة الكامنة لكتاباته، بقدر ما كان تمكنه من الجمع بين خيوط فكرية متعددة بعثتها النظرية الداروينية، ومن نسج هذه الخيوط كلها في مذهب فلسفي متماسك، ففلسفته كانت تعبيرا ظهر في أوانه عن الأفكار السائدة في أيامه.
ولم يكن التعليم الذي تلقاه يقل لفتا للنظر عن الشهرة التي واتته قرب نهاية حياته، فبعد تعليم بسيط رفض على أثره منحة للتعليم الجامعي، أصبح لمدة قصيرة معلما بمدرسة ابتدائية، ثم مهندسا بالسكك الحديدية بضع سنوات ثم صحفيا، وبعد ذلك انتقل إلى احتراف الكتابة. ولما كانت كل جهوده السابقة للحصول على منصب ثابت قد ذهبت هباء، فقد ظل كاتبا مستقلا حتى نهاية حياته، واستنفد في تأليف كتبه تلك الطاقة الضئيلة التي خلفتها له صحته المعتلة، فحياته كلها قد استنفدت في صراع بطولي من أجل صياغة أفكاره الفلسفية، ولم يتمكن من التغلب على كل الصعاب والوصول بعمله إلى تمامه إلا بفضل قوة تحمله الهائلة وإيمانه الراسخ برسالته، وتشمل كتاباته مجموعة رائعة من المجلدات الضخمة، وعددا من الرسائل الأصغر حجما، ومجموعة كبيرة من الأبحاث والمقالات، ومؤلفه الرئيسي هو «مذهب في الفلسفة
System of Philosophy » وهو عمل ضخم يبلغ حجمه عشرة مجلدات، وقد أعلن عن اعتزامه تأليفه في سنة 1860، وتم بعد ستة وثلاثين عاما بعد جهد لا يكل. ويمثل هذا العمل جهدا لا يكاد يكون له مثيل في تاريخ الفلسفة في شموله، واتساق خطته، وضخامة العقبات التي كان يتعين عليه مواجهتها.
2
ولقد كان سبنسر رجلا علم نفسه بنفسه بأدق معاني هذه الكلمة، ولما لم يكن له أستاذ، فإنه لم يكن في حاجة إلى أن يقدس تعاليم أي أستاذ، ولما لم يكن هناك، من بين المفكرين البارزين، من كان أقل منه احتفالا بأفكار الفلاسفة السابقين عليه والمعاصرين له، فبلغ به الاستغراق في أفكاره الخاصة حدا جعله منعزلا، في ترفع، عن البيئة الفلسفية التي كان يعيش فيها، ومما ساعد على هذا الانعزال ذلك التقطع الذي كان يتسم به تعليمه، وعلى الأخص ضآلة معرفته باللغات الأجنبية، وهو نقص لم يحاول تلافيه قط. ولقد ظل حتى النهاية رجلا ثقف نفسه بنفسه، غير محمل بأثقال التاريخ السابق عليه، مفتقرا إلى الثقافة ذات الطابع الأعمق، ومنحصرا في نطاق مشاكله وأفكاره الخاصة. ولم يكن يعرف عن فلسفة اليونان والألمان أكثر مما استطاع أن يلتقطه من الأصدقاء ومن الكتب المدرسية الهزيلة الشائعة في ذلك الحين. وإنه لغريب حقا أن ذلك الرجل الذي عده الكثيرون أهم مفكر فلسفي في القرن التاسع عشر، لم يكد يتأثر على الإطلاق بإيمانول كانت أعظم مفكري العصر الحديث. وقد روي عنه أن محاولته الوحيدة لاستجلاء غوامض نقد العقل الخالص، قد توقفت ولما يقرأ في الكتاب إلا الصفحات القلائل الأولى. ومن جهة أخرى فقد كان لديه إحساس مرهف، يتلاءم مع عصره، ونظرا إلى أنه أدمج في مذهبه أفكارا كثيرة كانت هي الأفكار الرائدة في عصره، وإن لم تزل عندئذ مخيمة في الجو - إن جاز هذا التعبير - فقد أصبح المتحدث الرسمي باسم الفلسفة في عصره؛ ولهذا السبب فإن مذهب هذا الفيلسوف الذي كان أكثر تحررا من القيود التاريخية من كل من عداه، قد اندمج في السياق التاريخي للفلسفة على نحو أكمل من أي مذهب فلسفي آخر، وذلك بفضل ما قد يبدو لأول وهلة خدعة من التاريخ. وتحولت عزلته الذاتية إلى عكسها، أي إلى اندماج طبيعي آلي حتمي في المجرى الموضوعي للتاريخ الفلسفي. وفي ضوء هذه الاعتبارات نستطيع أن ندرك بوضوح لماذا كان مذهب سبنسر صالحا بالنسبة إلى وقته فحسب، ولماذا كان نصيبه من الأصالة قليلا، فهو لم يتوسع في التجريبية والوضعية اللتين ورثهما من الماضي ولم يعمقهما. أما المحتوى الباقي لذلك المذهب، وهو المحتوى المستمد من الأبحاث العلمية السائدة عندئذ، فقد جعل ذلك المذهب تعبيرا عن موقف تاريخي فريد محدد المعالم، بحيث إنه عندما تغير ذلك الموقف فقد المذهب بالضرورة الجزء الأكبر من قيمته. ولما كان التغير قد بدأ أثناء حياة سبنسر، واتخذ صورة رجحان لكفة العلوم الرياضية الفيزيائية على العلوم البيولوجية والاجتماعية، فإن مذهب سبنسر لم يكد يبقى فيه الآن رمق من الحياة، بعد جيل واحد على اكتماله. وهكذا فإن هذه الحلقة الأخيرة في سلسلة فكرية يرجع امتدادها إلى بيكن، قد أصبح يتراكم عليها الآن من التراب ما يزيد على ما يعلو أية حلقة من الحلقات الأخرى الكبرى في هذه السلسلة.
وعلى الرغم من ذلك فإن سبنسر قد أعاد إلى الفلسفة الإنجليزية الاتجاه إلى تكوين مذهب متكامل، وليس ثمة تناقض واضح بين مثل هذا الاتجاه وبين النزعة التجريبية في الفكر، غير أن الذي حدث في واقع الأمر هو أن هذه النزعة الأخيرة لم تكن تقر الاتجاه الأول. ومن المؤكد أن ما تتصف به الفلسفة الإنجليزية من افتقار غريب إلى المذاهب، لا بمعنى الافتقار إلى التأمل النظري فحسب، بل إلى البناء المتكامل المتناسق أيضا، يبدو بالفعل راجعا آخر الأمر إلى التعلق التام المطلق بالتجربة، التي يكون الانتقال منها إلى ما هو مركب أصعب من الانتقال إليه من الفكر المحض. ولقد كان الفيلسوفان الكبيران الوحيدان اللذان شيدا مذاهب في الفترة المتقدمة هما بيكن وهبز، ثم حدث انقطاع طويل الأمد، وكان سبنسر أول فيلسوف بعد هبز يخوض مغامرة تشييد مذهب، وكان المذهب الذي توصل إليه أوسع نطاقا وأشد إحكاما من مذهب أي من السابقين عليه؛ فهو يحتل، على طريقته الخاصة، موقعا فريدا في الفكر الإنجليزي. ومن المشكوك فيه أن يكون قد تأثر بهيجل وكونت، وهما الفيلسوفان الآخران الوحيدان القريبان منه زمنيا، واللذان خاضا غمار مهمة مشابهة. ومن المرجح أن كونت هو الذي كان خليقا بأن يؤثر فيه، ولكن الأرجح من ذلك بكثير أن فكرة تنظيم المعرفة التجريبية في مذهب دقيق قد نشأت من تصور سبنسر الخاص لما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة؛ ذلك لأنه ميز بين ثلاث درجات للمعرفة؛ المعرفة اليومية، والعلمية، والفلسفية، وذلك في ترتيب تصاعدي في العمومية والوحدة، بحيث تكون مهمة الفلسفة هي السعي إلى إيجاد مركب أعلى يتألف من المركبات الجزئية التي تصطنعها العلوم الخاصة، ومن المعارف الأخرى التي لم تنظم على الإطلاق، ومثل هذه النظرة تشبه نظرة كونت، ومن بعده «فنت
Wundt » «وريل
Riehl »
3
في أنها وضعية، تتصور غاية الفلسفة ومنهجها على مثال غايات العلوم الطبيعية ومناهجها، وهي تعبر عن عقلية عصر وضع ثقته في العلم واستقر عزمه على تحقيق التقدم العلمي بكل حماسة، ولقد نشأت هذه النظرة عن الحاجة إلى بعث النظام والوحدة في تلك المعرفة المتراكمة التي كانت تنمو بسرعة، وكاد أن يفلت زمامها، ولم تحاول هذه النظرة قط أن تدير ظهرها لهذه المعرفة، وإنما أرادت أن ترتقي بها إلى أعلى مستويات التجريد الفلسفي، وكانت تؤمن بفلسفة تجريبية متقدمة حتى أعلى درجاتها. وقد حقق سبنسر هذا المثل الأعلى؛ فكان تجريبيا أصيلا في تعطشه الدائم إلى الوقائع وإلى تنظيمها، غير أن رغبته في تشييد مذهب وقدرته العجيبة على ذلك، كانت هي المسيطرة على كل شيء؛ فقد كان يبذل جهدا لا ينقطع في التجريد والتصنيف والتعميم والاستنباط، ويتحرك إلى الأمام نحو توحيد أكثر تجريدا لها، حتى وصل إلى النقطة التي استطاع فيها أن يلخص الكون كله في صيغة واحدة، وكانت النتيجة مذهبا كان فيه مكان لكل شيء؛ مذهبا بلغ تخطيطه من الجرأة، وتنظيمه من البراعة والدقة، حدا لا يملك المرء معه إلا أن يشعر نحوه بالإعجاب، مهما كان موقفه النهائي منه. وهكذا ينبغي أن يعد سبنسر واحدا من أعظم منظمي الفكر الفلسفي الذين عرفهم التاريخ.
ولقد كانت الفكرة الرئيسية في جميع أطراف مذهبه هي فكرة التطور، فسبنسر هو أول من طبق هذه الفكرة تطبيقا شاملا بالمعنى الصحيح، وشكلها في القالب الذي اكتسحت به العالم، ولم يوقف تقدمها الظافر إلا كارثة الحرب العالمية الأولى، ولقد سبقه آخرون، أولهم هرقليطس، في بناء فلسفتهم على فكرة التطور. ومن الأمثلة الواضحة لذلك هيجل، الذي كانت فلسفته مقابلا مثاليا لمذهب سبنسر الطبيعي، مثلما كان ماركس مقابلا ماديا لهيجل، ولكن من العقيم أن يحاول المرء تعقب هذه التطورات السابقة؛ إذ إن فكرة التطور قد اتخذت عند سبنسر صورة جديدة كل الجدة، لم تصبح ممكنة إلا بفضل حالة العلم في عصره. وليس معنى ذلك أنه كان معتمدا على دارون؛ إذ إنه، قبل ظهور كتاب «أصل الأنواع» بسنوات عدة، كان قد توصل إلى مجموعة من أهم عناصر مذهبه التالي، وقلب فكرة التطور من زوايا متعددة، كما يتضح من المقالات التي بعث بها إلى مجلات دورية في العقد السادس من القرن التاسع عشر، وأن هذه المقالات، وكذلك كون الخطة الأولى لمذهبه (وهي الخطة التي كان قد عمم فيها التطور بالفعل ليصبح مبدأ كونيا) قد رسمت في يناير سنة 1858. كل هذا يثبت بوضوح خطأ الزعم الشائع، القائل إنه لولا دارون لما ظهرت «فلسفة سبنسر التركيبة» على الإطلاق، ولكن عندما ظهر كتاب دارون، رأى سبنسر فيه تأييدا لأفكاره التي كانت عندئذ ما تزال تتسم بطابع المحاولة المترددة (على الرغم من أنه كان قد توسع فيها إلى حد بعيد حتى في ذلك الحين)، كما رأى فيها تأكيدا للقيمة الهائلة لما استخلصه من نتائج، وذلك في ميدان البحث لم تكن تربطه به إلا صلة طفيفة حتى ذلك الحين، وعلى الرغم من أنه هو ذاته قد استبق بطريقة تقريبية نظرية دارون في أصل الأنواع وتغيرها عن طريق الانتقاء الطبيعي، (وذلك في مقالين ظهر أحدهما سنة 1852 والآخر سنة 1857)، فإن نظرية دارون قد أتاحت ملء ثغرات معينة في تفكيره الخاص، وخلقت لديه ذلك الاهتمام بعلم الحياة، الذي ظهر بكل بوضوح في كتابه «مبادئ علم الحياة» (1864-1867). كما ينبغي التسليم بأن مذهب سبنسر لم يكن ليلقى ما لقيه من نجاح هائل لو لم تكن موجة الداروينية قد دفعته إلى الأمام.
وليس في هذا الكتاب مجال لإجراء مناقشة كاملة لأصل النظرية التطورية، ولكنا نستطيع أن نشير إلى رابطة طريفة تجمع بينها وبين الفلسفة الطبيعية في المذهب المثالي الألماني. فعندما بدأ سبنسر يتجه بفكره إلى المسائل الفلسفية، لفت نظره رأي لشلنج، اطلع عليه عن طريق كولريدج، يقول فيه: إن مسار مملكة الحياة العضوية قوامه حركة متزايدة من التنويع والتنظيم والفردانية، وتأيد هذا الرأي النظري عمليا فيما بعد بفضل أبحاث علم الأجنة التي قام بها فون بير
K. E. Von Baer ، وهو عالم تأثر بالفلسفة الطبيعية عند شلنج وأوكن
Oken ، وسرعان ما وصل هذا التأييد إلى علم سبنسر، فقد رأى سبنسر أن هناك دلالة تمتد إلى ما وراء علم الحياة بكثير في قانون «بير» القائل إن التغيرات التركيبية التي تطرأ خلال نمو جنين ما، تكشف عن تقدم تدريجي من صور غير متحددة إلى صور متحددة، ومن صور متجانسة إلى صور لا متجانسة. ولم تكن صياغته لفكرة التطور، في كتاب «المبادئ الأولى» (1862) على أنها هي المبدأ الأساسي للأشياء، سوى تعميم متطرف لهذا القانون. غير أن اهتمام سبنسر بالفلسفة الطبيعية عند شلنج قد توقف عند حد قانون «بير»، ولم تأت كل العناصر الباقية في بناء نظريته التطورية من الفلسفة، وإنما جاءت من العلوم الطبيعية بمعناها الدقيق، أي من الفرض السديمي عند كانت ولابلاس،
4
ومبدأ بقاء الطاقة، وأبحاث «ليل
Lyell » الجيولوجية،
5
وأبحاث لا مارك ودارون في علم الحياة.
غير أن هذا الوصف لكل عملية في الكون بأنها تنويع تدريجي ينتقل به ما هو بسيط نسبيا إلى ما هو مركب نسبيا، كان في نظر سبنسر ناقصا، معبرا عن وجه واحد من أوجه المشكلة، فقد رأى لزاما عليه أن ينظر إلى هذه الحركة التي تسير في اتجاه واحد على أنها تعوض بميل مساو لها يسير في الاتجاه المضاد. فالتنويع (أو التفاضل) يعوضه التكامل، والتفرق تعوضه الوحدة، والتقدم يعوضه التأخر أو الانحلال، بحيث تكون مهمة الاتجاه الثاني هي إفساد عمل الاتجاه الأول، ويكون فعلهما معا متبادلا، بحيث يكمل كل منهما الآخر ويعمقه. وليست العملية الأولى، والأهم، هي عملية التخصص، وإنما هي عملية التكامل ورفع الفوارق إلى وحدات أو كلات أعلى، ومع ذلك فلكل اتجاه في التقدم حد أعلى، وحالة توازن، هي نقطة بداية القوى المضادة التي تؤدي إلى حدوث الانحلال، وعلى ذلك فإن أعم قانون للتطور، في صورته الكاملة، إنما هو هذا الإيقاع الأزلي للتقدم والانحلال، وهو عملية توحيدية متصلة ذات وجهين متعارضين ومتقابلين.
ولقد كانت الصيغة الكونية عند سبنسر، كما عرضناها حتى الآن، متحررة من أية مسلمات ميتافيزيقية، ولا تبدأ هذه المسلمات في الظهور إلا في التعميم النهائي القائل إن إيقاع الكون والفساد إنما ينحصر هو ذاته في توزيع المادة والحركة وإعادة توزيعهما، وهنا يكون التطور - من وجهة النظر النهائية هذه - تكاملا للمادة مصحوبا بتنوع وانتشار للحركة من جهة، وامتصاصا أو استهلاكا للحركة مصحوبا بتحلل للمادة من جهة أخرى. ولما كان المجموع الكلي للمادة والحركة ثابتا، فإن كل هذا التغير، وكل تغير على الإطلاق، لا يمكن أن يكون سوى تجميع وتقسيم، وإعادة تجميع وإعادة تقسيم، بدرجات متفاوتة، للمادة والحركة في المكان، يحدث وفقا لقوانين آلية بحتة. وعلى ذلك فإن الكون عند سبنسر، سواء بوصفه كلا ومن حيث أجزائه، إنما هو آلة هائلة يتحكم قانون العلية في كل عملياتها، وتسري قوانين المادة والقوة والحركة على كل الظواهر، أي إنها تسري على الحياة الاجتماعية والعقلية للإنسان مثلما تسري على العالم غير العضوي، ولم تكن مهمة سبنسر في «فلسفته التركيبية» سوى إثبات ذلك.
وقد خلص سبنسر هذا المذهب الآلي من المادية الصريحة بإدخال فكرته المشهورة، فكرة «اللامعروف
Unknowable »
6
التي تتيح منفذا، وصماما - إن جاز هذا التعبير - في مذهبه الذي لولاهما لكان مقفلا تماما. ونظرا إلى أنه قد عرضها في بداية مذهبه، أي في كتاب «المبادئ الأولى»، فقد عدت في كثير من الأحيان أساسا لمذهبه، ولكنها ليست في الواقع إلا تزيينا للواجهة، قصد منه إعطاء البناء مظهرا يقلل من نفور العقول المتدينة منه. وفضلا عن ذلك فقد كانت تلك الفكرة مقتبسة، ولم تكن أصيلة لديه، وهي ترتكز على الحجج الإبستمولوجية المشهورة المتعلقة بحدود قدراتنا في المعرفة ، فنحن لا نستطيع أن نعرف إلا النسبي والمشروط والظاهري، ولكن نفس معرفتنا بذلك تلزمنا - بحكم ضرورة عقلية - بأن نفترض «مطلقا» متضايفا، وحتى لو كنا نعجز عن التغلغل فيه أبعد من ذلك، فلسنا نملك أن نتجنب افتراض وجوده. ويضع سبنسر هذه ال «س» الهائلة في اعتباره فيسميها باللامعروف، ولكنه ينتقل، على نحو يفتقر إلى الاتساق، إلى طريقة في التفكير أقرب إلى الميتافيزيقيا منها إلى نظرية المعرفة، يجعل فيها الكم المجهول وصفا محددا إلى حد بعيد، فيذهب إلى أن علينا أن ننظر إلى العالم الذي تصل إليه تجربتنا وكل ما يحدث فيه من تغيرات على أنه تكشف لقوة تظل ثابتة وسط التغيرات، وتكون لا متناهية في المكان والزمان. وبهذه الحجة، التي هي قطعا أكثر اتساقا مع أسس مذهب سبنسر من الحجة الإبستمولوجية السابقة، يفقد «اللامعروف» - دون شك - قدرا كبيرا من عدم قابليته لأن يعرف. وهكذا فإن الفكرة التي اعتقد الكثيرون أنها هي الفكرة الرئيسية في فلسفة سبنسر تنطوي في ذاتها على تناقض داخلي، وهي فكرة يفتقر بناؤها تماما إلى الإحكام.
ومن الواضح أن مصدر فكرة اللامعروف هو كانت، غير أن سبنسر لم يقتبسها منه مباشرة، وإنما بتوسط هاملتن ومانسل، اللذين أدخلا عليها تعديلا عميقا، وكان كل ما فعله هو أنه ترجمها إلى لغته وطريقته الخاصة في التعبير. غير أن النزعة الظاهرية
التي كانت كامنة من وراء مذهبه، والتي لم يقل بها سبنسر صراحة وإنما افترضها ضمنا، كانت عنصرا مشتركا في طريقة التفكير التجريبية من باركلي إلى مل، أي إنها كانت جزءا لا يتجزأ من ذلك التراث الذي نمت فيه حياته العقلية. وأخيرا فإن من الواضح أن وصفه للمطلق بأنه قوة ثابتة من خلال جميع تغيرات الحوادث الظاهرية هو نقل لقانون بقاء الطاقة إلى مجال الميتافيزيقا.
ولقد ذكرنا من قبل أن اللاأدرية عند سبنسر - وهي ليست لا أدرية مطلقة بل لسببية؛ إذ إنه «يؤكد» وجود عالم من وراء التجربة - لم تظهر نتيجة لمقتضيات مذهبه، وإنما نتيجة لنظرة جانبية إلى الدين، وقد أتاحت له أن يحدد العلاقة بين الدين من جهة وبين العلم أو الفلسفة (وهما في أساسهما شيء واحد عند سبنسر) من جهة أخرى، وكان من رأيه أن فكرة عدم قابلية المطلق لأن يعرف لها قيمة إيجابية، هي أنها تبين الطريقة التي يمكن بها وضع حد للخلاف القديم العهد بين قوى العلم أو الفلسفة والدين. فذلك الذي يعترف به العلم أو الفلسفة، ويحترمه، بوصفه لا معروفا، هو نفسه الذي يتجه نحوه الوعي الديني، فهو في الحالتين موضوع واحد ينظر إليه من وجهات نظر مختلفة، فمجال الفلسفة هو مجال ما يمكن أن يعرف، ومجال الدين هو اللامعروف، ولا محل للخلاف بينهما طالما أن كلا منهما يلتزم حدوده الخاصة.
وليس هنا مجال الدخول في تفصيلات مذهب سبنسر، والانتقال من طابق إلى طابق، ومن حجرة إلى حجرة، خلال هذا البناء الهائل، وحسبنا أن نشير إليه بضع إشارات موجزة، وقد أرسى سبنسر أسس هذا المذهب في كتابه «المبادئ الأولى»، فوضع خطا فاصلا بين ما يمكن أن يعرف وما لا يمكن أن يعرف، وعرف الوظيفة العامة للفلسفة، وصاغ المبدأ العام للتطور وهو لا يمضي أبعد من ذلك في مناقشة المسائل المنطقية والمنهجية والمعرفية، وإنما ينتقل مباشرة إلى اختبار المبدأ الأساسي في المجالات الواسعة للتجربة؛ ذلك لأنه لم يكن يعبأ كثيرا بمشكلات الفكر الخالص. حقا لقد كانت لديه موهبة فذة على التفكير المجرد، غير أنه لم يكن يمارسها إلا عندما يكون لديه حشد ضخم من المواد التجريبية التي يريد بحثها، وهو لم يفكر قط في كتابة بحث خاص في المنطق؛ إذ إن دراسة هذا الفرع من وجهة النظر التطورية كانت كفيلة بأن توصف منذ البداية بأنها عقيمة لا جدوى منها، غير أنه حدد موقفه من الحرب التي كانت ناشبة في أيامه بين هاملتن ومل حول تغليب الأولية
apriorism
أو التجريبية، وحول مسألة ما إذا كانت كل معرفة لنا ترتكز على التجربة الفردية، أم أن هناك أية مبادئ أساسية تتكشف بالضرورة العقلية أو بالوضوح الذاتي على أنها مستقلة عن كل تجربة فردية. فسبنسر يمضي مع أنصار الأولية إلى حد التسليم بوجود مثل هذه المبادئ التي هي ضرورية بمعنى أنه من المحال تصور ما يناقضها، وأنه من الواجب بالتالي أن ينظر إليها على سمات فطرية للذهن الفردي، غير أنه يستحيل عليها أن تكون مستقلة عن كل تجربة بوجه عام، فالذهن الفردي يرث منذ البداية تلك التجربة (أو الخبرة) المتراكمة من الخط الطويل من أسلافه، ويحاول سبنسر أن يثبت على أسس منتمية إلى مجال علم الأعصاب
Neurological
أن هذه التجربة العنصرية تكون المعرفة الأصلية لذلك الذهن. فما يسمى بالحقائق الأولية قد تطور خلال تجربة الجنس البشري، ولم يعد بذلك «أوليا» إلا بالنسبة إلى الفرد. ومن الواضح أن سبنسر يزيف في هذا العدد المعنى الصحيح للأولية؛ فهو لم يوفق بين العقلية والتجريبية، وإنما اكتفى بتصحيح الصورة المتطرفة التجريبية كما تتمثل لدى مل على الأرجح. غير أن الميل إلى التوفيق ظل مميزا له، ولقد لاحظنا هذا الميل من قبل في محاولته التوفيق بين الدين والعلم، كما أنه يتمثل في سياقات أخرى غير هذه، ومع ذلك فهذا الميل لا يسفر في معظم الأحوال عن حلول حاسمة، وإنما يسفر عن حلول وسطى. وكان سلوكه هذا السبيل هو الذي أدى إلى تلك التجريدات الغامضة الهزيلة، وتلك التعميمات الجافة الجامدة، وتلك الإطارات العقيمة، التي نصادفها في كل خطوة من كتاباته، والتي تشعرنا مرارا وتكرارا بأن فلسفة سبنسر ليست من عمل إنسان حي وإنما من عمل آلة مفكرة.
ولما كان اهتمامه الأساسي قد انصب على الميادين العملية للمعرفة، فقد اختار مجالات علم الحياة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأخلاق لكي ينظمها في مذهب واحد بواسطة مبدأ التطور، وحذف العالم غير العضوي (وإن تكن خطته العامة بطبيعة الحال تتضمن إدراجه ضمن موضوعات بحثه)، ولم يتعرض لمشاكله إلا لماما، كما فعل مثلا في رسالة كتبها عام 1858 عن الفرض السديمي. وهكذا فإن مذهبه، على ضخامته، يظل بدون مبادئ الفيزياء والكيمياء أشبه بجسد بلا رأس، وقد وضعت أسسه على نطاق أوسع من أن يقدر على الاضطلاع به رجل واحد.
ولقد كرس سبنسر أعظم اهتمامه وأقصى جهوده لعلم الاجتماع، ويشمل المؤلف الذي عالجه فيه ثلاثة مجلدات كبيرة، ومع ذلك فهو عمل لم يتم، إذا حكمنا عليه في ضوء البرنامج الذي وضعه لنفسه، وكان هدفه هو إثبات أن النمو الاجتماعي ليس إلا مرحلة للعملية التطورية الكونية، وهي مرحلة تشبه المرحلة العضوية إلى أقصى حد، فالمجتمع، مثله مثل الفرد، هو ناتج عن نمو عضوي، وإن يكن سبنسر يسمى هذا النمو «فوق العضوي» لأنه من مرتبة أعلى. ويتوقف تقدم الحياة الاجتماعية، مثلما يتوقف تقدم الحياة العضوية، على تزايد قدرة المجتمع على التكيف مع الظروف الطبيعية والبيئة الاجتماعية، ويتم هذا التكيف إيجابيا عن طريق التقاليد والوراثة، وسلبيا عن طريق زوال المجتمعات التي لم تتكيف كما ينبغي، وهنا يؤكد سبنسر أهمية مبدأ الانتقاء الدارويني، كما فعل في المواضع الأخرى من مذهبه. وبهذه المناسبة، فقد كان سبنسر هو الذي قابل الشعار المعروف: «الصراع من أجل البقاء»، بشعار آخر لا يقل عنه شهرة، وهو «البقاء للأصلح». وهكذا أعاد سبنسر قانون دارون المتعلق بالحياة الحيوانية إلى مجال الحياة البشرية، وهو المجال الذي كان قد أوحى لمالتوس بهذا القانون في البداية، وقد تأيد في هذا المجال عامل التوزع أو التفاضل
differentiation ، فقد رأى فيه المعيار الصحيح لقياس درجة النمو أو التحضر التي يبلغها أي كائن اجتماعي معين، فكلما كان التنوع أقوى في مجتمع ما، كان ذلك المجتمع أرقى في سلم التطور، أي كان أقوى مركزا من المجتمعات المنافسة له في الصراع من أجل البقاء. ويسير التخطيط الذي رسمه سبنسر لمجرى التطور التاريخي في نفس الطريق، فهو يضع، مثل كونت، قانونا ذا مراحل ثلاث؛ حالة بدائية تختلط فيها عدة أنماط اجتماعية دون تمييز، ثم نمط عسكري من المجتمع يرتكز على القوة، وأخيرا يظهر ببطء من هذا المجتمع، عن طريق عدة مراحل وسطى (أو «تفرعات
Varieties » بالمعنى البيولوجي)، النمط الأكثر تحررا من المجتمع، وهو الذي يتمثل في الدولة الصناعية والتجارية الحديثة. وهكذا فإن عصر سبنسر الخاص - عصر مذهب المسلك الحر (الحريين) والصناعة، والتكنولوجيا، والعلم والتجارة العالمية، والتنافس السلمي بين الدول - كان بالنسبة إليه قمة تقدم البشرية، وقد كان يدافع في كل مجال عن ترك القوى تتبارى بحرية، وعن مبدأ «دعه يعمل
Laissez-Faire » في السياسة والتجارة والتعليم، وينفر من كل استخدام للقوة في الدولة، ومن كل طغيان ونزعة عسكرية، ومن كل سيطرة في الأذهان وقمع للرأي الحر، ومن التعصب الكنسي، وكل ما يماثل ذلك. ولقد كان في ذلك كله يعكس بدقة المثل العليا للقرن الماضي، بنزعته التحررية والفردية، وتقدمه المذهل، وحريته الوهمية، وإيمانه الذي لا يقدر بالعلم، وعدم اكتراثه بالدين؛ وهي كلها صفات تحمل بوضوح طابع عصر التنوير الذي يرجع أصلها إليه.
وقد وجه سبنسر مذهبه بفلسفة أخلاقية استهدف فيها جمع كل الخيوط الفكرية السابقة سويا، وكان على مبادئه أن تكشف عن حقيقتها في معالجة سلوك الإنسان والأفكار الأخلاقية لمختلف الشعوب والأزمنة، وقبل ذلك كله، في تحديد ما ينبغي أن تكون عليه غايات الفعل الأخلاقي وقوانينه، كما كان ينبغي على المجال الأخلاقي أن يثبت أنه يكشف عن انتظام قانون التطور.
ولقد كان هذا هو الأساس الذي بنيت عليه كل النظريات الأخلاقية التطورية المتعددة التي ظهرت بعد نظرية سبنسر. ولكن على الرغم من مبدئه الجديد هذا، فلا يمكن القول إنه أحدث أي تغير حقيقي في مجال النظريات الأخلاقية؛ فقد كان من الطبيعي أن يتمشى مذهبه الأخلاقي الخاص مع المذاهب التجريبية الإنجليزية السابقة عليه. وقد قبل المبادئ الأساسية لمذهب اللذة النفعي، ونسج داخل إطارها نظريته التطورية الخاصة، مثال ذلك قوله إن السلوك المؤدي إلى أعظم قدر من السعادة هو ذلك الذي ينطوي على أعظم قدر من التقدم والنهوض بالحياة، وهو الأصلح لتحقيق غايتها، والذي يؤدي على مستوى تطوري أعلى. ولقد أوحت فكرة وجود مستويات متعددة للنمو إلى سبنسر بالتمييز بين الأخلاق النسبية والأخلاق المطلقة، فلا يمكن أن تحقق المثل الأخلاقية العليا تحققا كاملا إلا في أعلى المستويات، وهو يتصور هذا المستوى الأعلى على أنه حالة لا تحدث إلا في مدينة فاضلة خيالية، يختفي فيها كل تعارض بين المصالح الفردية، ويحل محله انسجام يبلغ من الكمال حدا لا يوجد معه مجال حتى للاختيار بين الخير والشر، ففيها يرفع التضاد بين الأنانية والغيرية.
ولا يمكن أن تحدث هذه الحالة إلا بتكيف الفرد تكيفا كاملا مع بيئته، ولنلاحظ أخيرا أن سبنسر قد لعب في الأخلاق، كما لعب في نظرية المعرفة، دوره التقليدي في التوفيق بين أطراف النزاع، فحاول أن يزيل الخلاف بين الأخلاق الحدسية والأخلاق التجريبية بأن قال بوجود قوانين أخلاقية تعد أولية بالنسبة إلى الفرد، ولكنها اكتسبت خلال النضال الطويل الأمد، الجنس البشري، وهو هنا يزيف - كما فعل من قبل - المعنى الباطن «للأولية»، ويظل ملتزما حدود الموقف التجريبي.
ولكن على الرغم من أن مذهب سبنسر الأخلاقي قد قصد منه أن يقدم الدليل النهائي على صحة مبدأ التطور، فقد ختم سبنسر هذا الجزء من مذهبه باعتراف قال فيه إنه لم يجد مبدأه العام مثمرا إلى الحد الذي كان يتوقعه من قبل. وكان ذلك هو الموضع الوحيد الذي لمح فيه إلى الشك في قابلية هذا المبدأ للتطبيق الشامل، وباستثناء هذه الحالة الوحيدة، لم يطرأ على مذهبه أبدا «ذلك الوهن الذي يبعث قناعا شاحبا» من الشك فقد كتب وهو مقتنع - عن ثقة تامة - بأنه يحمل معه مفتاح جميع المشاكل الفلسفية، وكل ألغاز الكون. ولكن الواقع أنه كان في حاجة إلى كل ذرة من هذا اليقين المتعصب لكي يقرر أن يأخذ على عاتقه وينفذ مثل هذه المهمة الضخمة، أعني فلسفته التركيبية، التي لا يملك من يشكون فيها، أو حتى من يرونها باطلة من أساسها، إلا أن يبدوا الإعجاب بها.
وليس من مهمتنا في هذا المجال تتبع مجرى المذهب التطوري بعد دارون وسبنسر في جميع مراحله وتنوعاته، بل إن كل ما نستطيع القيام به هو إيضاح لقوته ومجاله، كما يظهران لدى بعض من أشهر ممثليه، فقد كان معظم من ناصروا الفكرة الجديدة وتوسعوا فيها من العلماء، أما الفلاسفة المحترفون - ولا سيما أصحاب الكراسي الجامعية - فقد ظل معظمهم بمعزل عنها، وساروا في طرق أخرى، وربما كانت أهم شخصية في الفئة الأولى، وأشد أنصار النظرة الجديدة إلى الكون تحمسا، هو توماس هنري هكسلي
T. H. Huxley (1825-1895) كان هكسلي عالما بارزا في علم الحيوان، كما كان من أبرز الشخصيات في الحياة العقلية بالعصر الفكتوري. وبفضل التقدير الذي اكتسبه بقوة شخصيته، وشدة إصراره، وقوة أسلوبه وتحمسه، وطريقته الموفقة في صياغة التعبيرات والصيغ، نجح هكسلي في تحويل أفكار دارون إلى عملة جارية تتداول في كل ركن من أركان المجتمع. ولكن ذهنه كان أكثر استقلالا من أن يقتفي أثر دارون أو سبنسر أو أي شخص غيرهما دون تمييز؛ إذ كان يطبع شخصيته الخاصة على كل ما يقتبسه، فهو حقا قد أقر رأي دارون في الصراع من أجل البقاء، غير أنه كان متشككا في قانون التكيف مع البيئة، وبالتالي في فكرة الانتقاء الطبيعي. أما في ميدان الفلسفة - الذي كان كثيرا ما يطرقه،
7
فقد ربط ربطا وثيقا بين المذهب التطوري والتراث القديم بالرجوع إلى هيوم «أمير اللاأدريين» كما أسماه، وهو الفيلسوف الذي كان يتفق معه في موقفه العام، وفي بعض التفاصيل، ولا سيما في فكرة هيوم الرئيسية القائلة إن كل معرفة حقيقية تقتصر على عالم التجربة، ومن هنا كان عداؤه للميتافيزيقا وكانت «لا أدريته
agnosticism »، وهو لفظ نحته هكسلي وسرعان ما انتشر انتشارا واسعا. كذلك كان مثل هيوم، يتصف بقدر غير قليل من التشكك بطبيعته وهي صفة ترتبط بمثل هذا الذهن المرن الذي ارتفع فوق النزعة القطعية الصارمة عند سبنسر.
ومع ذلك فقد افترق هكسلي في نواح متعددة عن هيوم؛ ذلك لأنه حين حمل تفكير هذا الأخير من الدقة أكثر مما يحتمل، قد ارتد إلى النزعة القطعية أو اقترب منها إلى حد الخطورة، وكانت إثارته لذلك السؤال الذي يتعارض مع تفكير هيوم تعارضا أساسيا، وأعني به السؤال عن أصل الانطباعات الحسية، مؤدية إلى إعطاء المذهب الظاهري أساسا فسيولوجيا، وبالتالي ماديا، فأعلن أن كل الحالات أو الحوادث الذهنية إنما هي نتائج لعلل بدنية، بحيث يمكننا أن نفهم أصلها وطريقة عملها بدراسة تغيرات الجهاز العصبي، ولم يكن يجد غضاضة في استخدام تعبيرات مادية صريحة، حتى كان يتحدث أحيانا بلغة «كابانس
Cabanis » وغيره من الفلاسفة الماديين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان هو أول من وصف الذهن بأنه «ظاهرة ثانوية
epiphenomenon »، أي ناتجا ظاهريا للمخ.
ونتيجة لمثل هذه التعبيرات وغيرها من التعبيرات الصريحة، وصف تفكير هكسلي بالفعل بأنه مادي، غير أنه هو ذاته كان يحتج على أية تسمية كهذه، وحاول أن يبين وجهة النظر التي تشير إليها مثل هذه التعبيرات ليست نهائية، وينبغي ألا تعد ملزمة من الوجهة الميتافيزيقية، بل يجب أن ينظر إليها على أنها نقطة انطلاق البحث العلمي في الطبيعة، التي تكون وجهة النظر هذه أساسية لها، بوصفها فرضا عمليا. وقد ذهب إلى أن وجهة النظر هذه لا تحوي ما يتناقض مع أكثر المذاهب المثالية تطرفا، بل رأى أنه كلما زاد استعدادنا لقبول الموقف المادي، كان من الأسهل الدفاع عن ضرورة المثالية. وهكذا دفع هكسلي بنفسه إلى مأزق لم يكن في وسع طريقته في التفكير أن تخلصه منه؛ فحاول نتيجة لذلك أن يجد لنفسه ملاذا في اللاأدرية، وقال إن المادية لا تقبل البرهنة عليها، وكذلك الحال في المثالية لنفس الأسباب. والمذهبان معا إنما هما القطبان المتضادان للموقف الممتنع الذي يفترض فيه إمكان معرفة شيء عن الطبيعة الأساسية لشيء ما، سواء أكان هذا الشيء مادة أم ذهنا، فلا مفر للعلم الطبيعي من التسليم بوجود العالم المادي، وما يتبع ذلك من تأكيد الأولوية الواقع المحسوس، أما في الفلسفة فينبغي أن يكون ذلك العالم احتماليا دائما؛ إذ إن الحقيقة الأولى فيها هي الوعي، بحيث لا يمكنها أن تتصور المادة لا ظاهريا، بوصفها شيئا معطى للوعي في الوعي ذاته. ولقد كان هكسلي في هذا الصدد في شقاق مع نفسه، فعندما كانت تغلب عليه صفة الفيلسوف، كان يتحدث كما لو كان باركلي هو الذي يتحدث، وعندما كانت صفة العالم هي التي ترجح كفتها، كان يتحدث كأنه مادي. ولكي يتخلص من هذا المأزق، اتخذ لنفسه رداء الشك، وكان يستمتع بهذه الصفة أو الحالة الذهنية أكثر مما يستمتع بغيرها، بحيث أخضع لاختباره كل الفلسفات دون أن يلتزم بواحدة منها، مستخدما إحداها تارة والأخرى تارة أخرى، حسبما يلائم موقفه. وكانت اللاأدرية عنده، على خلاف ما كانت عند سبنسر، قريبة بالفعل من نزعة الشك، ولم تكن تعني حكما سلبيا، بل كانت تعني الامتناع عن الحكم أصلا في الأمور النهائية. وعلى الرغم من كل هذا، فقد كان في هكسلي أكثر من هذه اللاأدرية؛ إذ إن طبيعته التي كانت إيجابية في أساسها، كانت تثور، إن عاجلا أو آجلا، على هذا الانطلاق الفكري بين المواقف المختلفة، وتدفعه إلى إصدار تأكيدات فلسفية محددة.
ولقد أسهم هكسلي بإضافة قيمة إلى النظرية الأخلاقية التطورية، وذلك في محاضرة «رومانس
Romanes » المشهورة التي ألقاها عام 1893 بعنوان «التطور والأخلاق»، وهنا أيضا سار في طريقه الخاص، وافترق في بضع نواح عن الآراء التطورية الشائعة، فعلى حين أنه وافق على أن قانون التطور يسري على مجال الفعل الأخلاقي كما يسري على كل المجالات الأخرى، فقد ذهب إلى أنه يتحقق في المجال الأخلاقي على نحو مختلف تماما، فعالم الطبيعة يحكمه صراع رهيب من أجل البقاء، يحارب فيه الكل ضد الكل ويغلب فيه حب الذات على التعاون، وينتصر القمع القاسي على التعاطف والشفقة. أما الحياة الاجتماعية للإنسان فيظهر فيها - على الرغم من كونها ذات أصل طبيعي، ورغم ضغط القوى الطبيعية - عالم فريد في نوعه، عالم فيه قوانينه المطردة ومعاييره الخاصة. وهكذا فإن حياة الإنسان الأخلاقية إنما هي تفنيد صريح للمبدأ الطبيعي؛ مبدأ الصراع الذي لا يرحم في سبيل المنافسة، وهي أبعد الأمور عن أن تكون تعبيرا آخر عنه. وبهذا التأكيد للاستقلال الذاتي الفريد للنظام الأخلاقي الذي يظهر مع المجتمع، حرر هكسلي الأخلاق التطورية من قيود المذهب الطبيعي، ومهد الطريق لمثالية أخلاقية، وهي مثالية وجدت أجمل تعبير عنها في دفاع هكسلي نفسه عن كرامة الإنسان الأخلاقية، وفي اللغة الرفيعة التي تحدث وكتب بها عنها، وفي الطابع النبيل الذي ساد نظرته إلى الحياة البشرية.
أما «جون تندول
John Tyndall » (1820-1893) فكانت تجمعه بهكسلي صلة الصداقة الشخصية، فضلا عن الأهداف العلمية المشتركة، وكان اهتمامه بالفلسفة أقل وضوحا من اهتمام هكسلي بها، ولكنه بدوره كرس جزءا كبيرا من محاضراته وكتاباته لينشر ويذيع الأفكار العلمية الجديدة، ولا سيما فكرة التطور، وله محاضرة مشهورة
8
اعترف فيها بأنه مادي، وأثارت ضجة كبرى، وجعلته فترة ما مركزا للاهتمام الفلسفي، غير أن رأيه في طبيعة المادة يختلف تماما عن الرأي الشائع، بل يختلف عن الرأي العلمي الأدق من هذا الأخير. صحيح أنه اعترف بأن المادة كما تعرفها الفيزياء لا يمكن أن تكون قد ولدت الكون كما نعرفه، غير أنه كان يؤمن بأن كل تركيب ونشاط في العالم، سواء أكان ذهنيا أم ماديا، حتى نشاطنا في الأخلاق والفن والعلم، هو في الحقيقة كامن، وكأنه في بذرة في النار الأولية للشمس.
أما بالنسبة إلى العلوم غير العضوية، التي كانت هي مجال تخصص «تندول»، فإن فكرة التطور لم تكن تنفع كثيرا؛ فعلينا أن نعود إلى المجال البشري إذا شئنا أن نقدر قيمة الاتجاه الفكري الجديد تقديرا صحيحا، ولقد أجرى السير فرانسس جولتن
Sir Francis Galton
9 (1822-1911) أبحاثه الهامة وهو متأثر مباشرة بدارون، الذي كانت تربطه به صلة قرابة وثيقة، وأهم ما اشتهر به جولتن هو أنه مؤسس علم تحسين السلالات
Eugenics
وهو العلم الذي يرى أن ذلك الانتقاء الصالح والقضاء على غير الصالح، وهو الانتقاء الذي يحدث آليا في الطبيعة، ينبغي أن يتم بطريقة متعمدة منظمة في المجتمع البشري. ولقد كانت أعمال جولتن المتنوعة، وهي تشمل أبحاثا في الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا، ودراسات في الوراثة البشرية، وفي عمى الألوان، وفي الصور العامة وبصمات الأصابع، وتطبيقه للمناهج الإحصائية على دراسة الإنسان؛ كل هذه كانت تستهدف معالجة المشكلات العملية المتعلقة بتحسين الجنس عن طريق التحكم الواعي في المعاشرة والتناسل، وأن حركة تحسين النسل، التي ثبتت أقدامها في بلدان متعددة، إنما تدين له بمثلها العليا وبكثير من مناهجها، ولقد كان تلميذه الأكبر في إنجلترا، والمكمل لرسالته (ومؤرخ حياته أيضا)، هو كارل بيرسن
Karl Pearson
الذي ينبغي أن نتحدث عنه بمزيد من التفصيل، نظرا إلى أنه قد انتقل من العلم إلى الفلسفة.
فقد كان كارل بيرسن (1857-1936)
10
هو أكثر الناس تحمسا للتوسع في النظرة العلمية بحيث تمتد إلى المسائل الفلسفية، وأشد ممثلي هذا الاتجاه تعصبا، ولقد كان عالما مرموقا في ميادين متعددة متصلة، فقدم مساهمات رائدة في تطبيق الرياضيات على علم الحياة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع. وترجع أهميته الكبرى من وجهة نظرنا إلى كتابه المشهور ذي التأثير البالغ وهو كتاب «قواعد العلم
The Grammar of Science » (1892، الطبعة الثالثة 1911، طبعة جديدة رخيصة 1937) الذي صاغ فيه المثل العلمي الأعلى للمعرفة، كما كان سائدا في أيامه، صياغة كلاسيكية، ومجد الروح الكامنة من ورائه، والأعمال التي جعلته ممكنا، وأعرب بوضوح عن اقتناعه بأن العلم قد كتب له أن يخدم ثقافة المستقبل ويشكلها.
والهدف من هذا الكتاب هو دراسة المفاهيم الأساسية للعلم الحديث. وهكذا يتخذ بيرسن من المباحث الرياضية الفيزيائية أنموذجا للعلم، وأكد بناء على ذلك أن الطبيعة الأساسية للعلم لا تكون في التفسير وإنما في الوصف، ولا تكون في الإجابة عن السؤال «لماذا تكون الأشياء؟» وإنما في الإجابة عن السؤال «كيف تكون الأشياء؟» وفضلا عن ذلك فإن غاية العلم هي القيام بهذا العمل بالنسبة إلى كل شيء، فلا شيء يقع خارج نطاقه، ولكن لما كان من المستحيل فهم الأشياء في كليتها الشاملة، فإن العلم يضطر إلى الالتجاء إلى نوع من الاختزال التصوري
Conceptual ، ويصطنع رموزا وصيغا وقوانين، ويتمكن بفضل هذه من فهم الواقع ووصفه بطريقة مختصرة. وبعبارة أخرى فالإلكترون مثلا ينبغي ألا يعد حقيقيا من الوجهة التجريبية وإنما هو مجرد رمز أو تعبير اختزالي يبتدعه خيال العالم، ويمكن بالتالي طرحه جانبا كلما ثبت عدم كفايته لوصف الوقائع المتعلقة به. وفضلا عن ذلك فالعلم لا يضع النظريات حبا في النظريات، وإنما هو عملي في أساسه، وهو من أهم ما في متناول أيدينا من الوسائل لتكييف أنفسنا مع بيئتنا والنجاح في صراعنا من أجل البقاء. واستهدافه هذه الغاية العملية هو ذاته الذي يجعله يسعى إلى تحصيل أكبر قدر من المعرفة بأبسط الوسائل، طبقا لقانون الحد الأدنى من المقاومة . ولهذا السبب بعينه يرفض العلم كل المسلمات الباطلة المتعصبة، بحيث إن من مهامه الرئيسية تحرير الفكر من الأوهام التي كدستها عليه الخرافة والجهالة على مر القرون. وهكذا فإنه يحمل على اللاهوت والميتافيزيقا من أساسهما وبكل ما فيهما. أما الفلسفة، فبقدر ما يكون لها أي حق في المطالبة بمجرد الوجود، فإنها تنحل إلى العلم حسب تعريفه المذكور من قبل، ولا يمكن أن يصبح لها مجال خاص بها إلا بقدر ما ينظر إليها تاريخيا على أنها مرحلة من مراحل النمو العقلي للإنسان.
غير أن على العلم بدوره أن يقوم - في مجاله الخاص - بعملية تطهير فعليه أن يستبعد من مجاله كل ما لا يتمشى مع طبيعته من حيث هو وصف وتنظيم وتصنيف، وهذا يعني أن عليه أن يتخلص من أفكار العلية والقوة المادية، التي لا تعدو أن تكون أصناما مختبئة في زوايا العلم حتى في أحدث صورة. فمقولة العلية ليست لها صورة فكرية، ولا تدعمها التجربة، وإنما هي مجرد حد تصوري ابتدع لإرضاء حاجتنا إلى الاقتصاد في التعبير. والقوة هي نوع من الحركة، وليست تفسيرا لها. أما المادة فليست شيئا، أو ليست على أية حال شيئا معروفا، بحيث لا تحتاج الفيزياء إلى فكرتها. ولقد شغل مكان كل هذه التصورات بفكرة الحركة، التي يضعها العلم ولكنه لا يستطيع تفسيرها. وحسب العلم أن تعطيه الحركة والدقائق الجسمية والمكان، وهي كلها أمور يمكن قياسها بدقة، لكي يستطيع أن يقدم وصفا لكل ما يقع في نطاق التجربة.
وهكذا كان موقف بيرسن تمجيدا متطرفا لقدرة العلم الشاملة، وهو يسير في نفس الطريق الموروث مباشرة عن تجريبية هيوم ووضعية كونت، وله مقابل دقيق في الجانب الفلسفي من تفكير «أرلست ماخ». ومما يدل على إدراك ماخ لهذه القرابة الوثيقة بينهما، أنه أهدى كتابه «تحليل الانطباعات الحسية
Analyse der Empfindugen » إلى بيرسن، تعبيرا عن شعور الزمالة والتقدير. كذلك كانا يتفقان في الأساس المعرفي (الإبستمولوجي) لنظريتهما في العلم. وهذا الأساس كغيره يرتد إلى هيوم، فالوقائع التي يعالجها العلم ليست أشياء في ذاتها ذات طبيعة غامضة ، بل هي مجرد ظواهر الوعي، أي هي الإحساسات ومشتقاتها، التي لا توجد سواها أية حقيقة أخرى. صحيح أننا نسقط جزءا من محتوى الوعي على مكان خارجي، ونتحدث عنه بوصفه وقائع مادية، غير أن هذا الإسقاط لا ينقلنا في الواقع إلى ما وراء الوعي، فما يسمى بالشيء الخارجي ليس إلا تركيبا ذهنيا نتج عن ربط الانطباعات الحاضرة بالماضية. صحيح أنه يجوز العلم أن يتجاوز الإحساسات الحاضرة، وأنه يفعل ذلك حقا عن طريق تكوين فروض ووضع قوانين واستخلاص استدلالات وما إلى ذلك، غير أن الإحساسات هي التي تتحكم في كل هذه التركيبات التصورية الاصطناعية، وهي التي تضفي عليها أي معنى ممكن لها. فالذهن عند بيرسن، كما هو عند ماخ، يشبه المحطة المركزية للهاتف (التليفون)؛ إذ يتلقى الانطباعات الخارجية ويرتبها ويعيد توجيهها. ولكن ينبغي علينا ألا نتطلع في الاستيطان، كما في الإدراك الحسي، إلى ما وراء الإحساسات والصور والمفاهيم المستمدة منها؛ فليس ثمة نفس أو أي شيء يشبهها متميز عن المحتويات التي يكون لدينا بها وعي، وما الذهن إلا مجموع انطباعاته وأفكاره. وهكذا يظهر بوضوح أن نظرية المعرفة عند بيرسن مماثلة تماما لنظرية هيوم ومل وماخ.
ولقد مضى بيرسن في امتداحه للروح العلمية إلى حد التمجيد المفرط، فرسالة العلم الحديث ذاتها هي احترام ذلك الإله الذي لدينا به وحده يقين مؤكد، أعني الروح البشرية، وما الدين إلا خدمة قضية العلم، وما التقديس إلا تأمل ما أنجزه العقل البشري، وأن مكتشفي الحقيقة لهم القديسون والصالحون بحق، ولن يقول أحد في المستقبل إنني مؤمن لأن موضوع إيماني ممتنع، بل سيقال «أومن لأنني أفهم.» وهكذا فإن بيرسن، مثل كونت، يؤله العلم، وموقفه هو موقف عصر التنوير، وكل ما في الأمر أنه ظهر في غير الأوان، أي متأخرا عن وقته بمائة عام.
ومثل هذا يمكن أن يقال عن تفكيره الأخلاقي
11
الذي يجعل من التقدم في المعرفة العلمية سمة رئيسية لكل محاولة للاقتراب من المثل الأخلاقي الأعلى. وكما أنه حمل على الدين (كما يشيع فهمه) بوصفه ناتجا عن الخرافة، فهو كذلك قد وصم الأخلاق المسيحية هنا بأنها نتيجة لشعور أعمى، فالأخلاق الحقة لا صلة لها في نظره بالشعور، وإنما بالمعرفة وطلبها فحسب، وهو يؤيد رأي سقراط القائل إن العارف وحده هو الذي يمكن أن يكون فاضلا. وهو يضيف الاشتراكية إلى «أخلاق الفكر الحر» بوصفها تكملة سياسية لها، وهو لا يعني بالاشتراكية ذلك النوع الثوري المرتبط بماركس، بل لا يعني بها أساسا أي تغيير للنظام السياسي القائم على الإطلاق، وإنما يعني بها ذلك التقدم المطرد البطيء للشخصية الأخلاقية، على النحو الكفيل بأن يؤدي بكل فرد إلى إخضاع سلوكه لصالح المجتمع من حيث هو كل. مثل هذه الاشتراكية تقتضي تحسين الجنس عن طريق أساليب علم تحسين السلالات، وتحرير المرأة، وإلغاء المحرمات الجنسية (أي «إباحة الحب»)، وحرية اختيار العمل، وحرية الفكر. ولقد كان في هذه الأفكار يستبق، على نحو يدعو إلى الإعجاب، وهو لم يزل في العقد التاسع من القرن الماضي؛ أفكارا ظهرت من بعده، وكان لا بد للقيام بذلك من شخصية مثل بيرسن، تتصف بالقوة والجرأة، وتمتلئ ثقة بقدرة العلم على كل شيء، وتؤمن إيمانا راسخا بحرية البحث، وتزدري الحلول الوسطى، وتستخلص النتائج بجرأة حتى لو كان من شأنها أن تغضب معاصريه.
12
ولقد حدث تطبيق وتأييد آخر واسع المدى لمبدأ التطور في ميدان خارج عن الفلسفة، ولكنه قريب من مجالها إلى الحد الذي يبرر ذكره في هذا المجال، فمثلا قام السير هنري مين
Sir H. Maine (1822-1888)، الذي يمكن أن يعد خليفة أوستن،
13
بإعطاء أساس جديد كل الجدة للتشريع التاريخي والمقارن، وذلك في عدة مؤلفات كان لها تأثيرها الهائل، رتب فيها وقائع التنظيم البدائي الاجتماعي والسياسي بوساطة هذا المبدأ،
14
وفي ميدان الاقتصاد والتاريخ الدستوري والعلوم السياسية، وقام ولتر بادجت
Walter Bagehot (1826-1877)
15
بمجهود مماثل، ولما لم يكن دارسا منعزلا، بل كان من رجال الأعمال والبنوك، فإن أفكاره كانت ذات وجهة علمية، وكان لها بعض التأثير في هذا المجال. وهو يصف دينه لدارون ويعترف به في العنوان الفرعي لكتابه «الفيزياء والسياسة»، وهو «أفكار عن تطبيق مبدأي الانتقاء الطبيعي والوراثة على المجتمع السياسي»، وقد أثارت مؤلفاته اهتمام دارون ذاته.
ولكن الميدان الذي اكتسبت فيه نظرية التطور أكبر قوة لها، خارج نطاق علم الحياة والفلسفة، كان ميدان الأنثروبولوجيا، مثال ذلك أن السير جون لبوك
Sir John Lubbeck (اللورد أيفبري
Avebury ، 1834-1913) كان داروينيا متحمسا، ورأى أن الإنسان البدائي لم يكن يعرف الآلهة، وأن الدين تطور من أشكال الوثنية المختلفة، كعبادة المسحورات، «الفتيش
fetishism » ومنها إلى عبادة أصنام الجدود «الطوطمية
Totemism » ثم عبادة الأوثان بوجه عام
idolatry ، وغيرها من صور تعدد الآلهة، ومن هذه كلها إلى مرحلته التوحيدية الراهنة. وحاول السير إدوارد بيرنت تيلور
Sir Edward Burnett Tylor (1832-1917) وهو أول أستاذ للأنثروبولوجيا في أكسفورد، وأعظم حجة إنجليزي في هذا الفرع من العلم خلال القرن التاسع عشر، أن يثبت أن الصور العليا للدين، وكذلك الفلسفة، قد ظهرت من مذهب حيوية الطبيعة
Animism ، وكان خليفة تيلور هو السير جيمس فريزر
Sir James G. Frazer (ولد سنة 1854)، وهو عميد علماء الأنثروبولوجيا الإنجليز الأحياء،
16
وقد ذاعت شهرته دوليا منذ وقت بعيد، وهو يرى أن حياة الإنسان البدائي كان يحكمها السحر أكثر مما تحكمها المعتقدات الخاصة بحيوية الطبيعة، ولما كان السحر يرمي إلى السيطرة على القوة الطبيعية، فإنه أقرب إلى العلم منه إلى الدين، أما هذا الأخير فلم يظهر إلا بعد وقت متأخر جدا، حين أهاب الناس بقوى أعلى بعد أن بلغت قوى مداها، وحين حل الخوف والأمل والتفاؤل والتشاؤم محل الرغبة في السيطرة. ويظهر استمرار تأثير سبنسر ودارون بوجه خاص في عمل عالم أنثروبولوجي حي آخر،
17
وهو إدوارد وسترمارك
Edward Westermarck (ولد سنة 1862)، وهو فنلندي استقر منذ وقت طويل في إنجلترا وأصبح أستاذا لعلم الاجتماع بجامعة لندن من سنة 1907 إلى سنة 1930، ومن كتبه المشهورة، «تاريخ الزواج البشري
Hist. of Human Marriage » (1891، الطبعة الخامسة في ثلاثة مجلدات سنة 1921) وقد عالج مشكلات الأخلاق في كتابين، «أصل الأفكار الأخلاقية وتطورها
The Origin and Development of the Moral Ideas » (في مجلدين، 1906-1908، الطبعة الثانية 1912-1917) و«النسبية الأخلاقية
Ethical Relativity » (1932)، وتظهر في الكتابين نزعته التطورية بكل وضوح؛ إذ إن معالجته للظواهر الأخلاقية من حيث نشأتها وتطورها تؤدي حتما إلى النسبية الأخلاقية. وهو يرى أن كل المحاولات التي ترمي إلى الاهتداء إلى أساس لصحة موضوعية مزعومة للأحكام الأخلاقية، كمحاولتي المذهب العقلي والحدسي، تتعارض حتما مع حقائق التطور الأخلاقي. وهو يرى مثل هيوم أن الانفعال، لا العقل، هو أصل الحكم الأخلاقي والمتحكم فيه، والانفعال ذاتي قطعا. وقد حاول أن يتعقب أصل الظروف الانفعالية لأحكامنا الأخلاقية التلقائية، بل والنظريات الأخلاقية الأولية ذاتها كنظرية كانت. فالانفعالات الأخلاقية - التي تتميز عن غير الأخلاقية بتنزهها وشمولها - تستمد كلها من الاستحسان والاستهجان، بحيث يكون الأول هو أصل الانفعالات الإيجابية، والثاني أصل الانفعالات السلبية (التي يدرج ضمنها الشعور بالإلزام الخلقي). فالانفعالات دائما أسباب الأحكام الأخلاقية لا نتائجها، وما المبادئ الأخلاقية إلا تعميمات لمثل هذه الأحكام المشتقة، وفضلا عن ذلك فالانفعالات الأخلاقية ليست آخر الأمر فردية، وإنما هي اجتماعية في طابعها وأصلها، وقد كان وستر مارك يؤكد دائما ارتباط الأخلاق بعلم الاجتماع.
ولنعد من هذه التفرعات للمذهب التطوري، وهي تفرعات خارجية إلى حد ما، إلى مظاهره ذات الطابع الفلسفي الأوضح، فننتقل إلى جورج هنري لويس
George H. Lewes (1817-1878)، الذي كان أهم ممثلي المذهب التطوري في المجال الفلسفي بعد سبنسر، وكان ينتمي، بفضل ذهنه الرحب، إلى مجال الأدب بقدر ما ينتمي إلى مجال الفلسفة، وهو معروف لدى جمهرة القراء بصلته الرومانتيكية بجورج إليوت، وترجمته لحياة جيته (وهي ترجمة انتشرت في ألمانيا على نطاق واسع) أكثر مما هو معروف بمؤلفاته الفلسفية،
18
ولقد كان في الفترة الأولى من حياته على الأخص واحدا من أشد تلاميذ كونت الإنجليز تحمسا، ووجد في هذه الناحية، كما وجد في غيرها من النواحي، تآلفا روحيا كاملا مع جورج إليوت، ولقد كانت وجهة النظر الوضعية هي السائدة تماما في كتابه «تاريخ الفلسفة»، وهو كتاب ليست له قيمة كبيرة بمعاييرنا الحالية، ولكن إتقان كتابته أدى إلى ذيوع انتشاره إلى حد غير مألوف، بحيث كان هو الذي أمد كثيرا من القراء الإنجليز بمعلوماتهم الوحيدة عن تاريخ الفلسفة. وبهذه المناسبة، فقد كان هذا الكتاب من أوائل الكتب العامة في تاريخ الفكر النظري باللغة الإنجليزية، وكان الهدف منه كشف غرور كل تأمل ميتافيزيقي، فهو قد فرض حظرا على الجزء الأكبر من المحاولات الفلسفية، وانتهى من ذلك إلى تحبيذ مذهب كونت بوصفه قمة التفكير البشري، وقد تزايد تباعده فيما بعد عن مذهب كونت، تأثر وقتا ما بسبنسر، ثم سار آخر الأمر في طريقه الخاص، ولكنه لم يترك معسكر الوضعية فقط بصفة نهائية.
ولقد كانت فلسفة لويس - كما عرض الجزء الأكبر منها في كتابه الأخير - تعبيرا أمينا عن ذهنه المرن المتفتح، ومعارفه التي كانت واسعة إلى حد غير عادي، والتي اشتملت على مسائل بيولوجية ونفسانية، فضلا عن المسائل الفلسفية، وهي تزخر بالأفكار، التي يعد الكثير منها هاما، ولكنها في عمومها تفتقر إلى الاتساق والإحكام، فمن الصعب أن يهتدي المرء إلى مبدأ جامع أو إطار مسيطر عليها، وإنما يحس المرء بعد قراءته بأن لديه تفكيرا حيا خصيبا، ولكنه يفتقر إلى الوضوح والنضج. ويؤكد لويس، كأي وضعي مخلص، أن الفلسفة ينبغي أن تكون علمية، ولا يعني بذلك فقط أن عليها اتباع مناهج العلوم الطبيعية، بل يعني أيضا أن عليها أن تقتصر على ما هو تجريبي بوصفه هو وحده القابل لأن يعرف. ولقد كان هو الذي نحت لفظ «ما بعد التجريبي
metempirical » ليدل به على ما هو موجود، أو يفترض أنه موجود، من وراء التجربة، وكما بين شادورث هدجسن
Shadworth Hodgson ،
19
فإن لويس لا يوضح إن كان ينكر وجود ما بعد التجربة، أم ينكر فقط قابليته للمعرفة أم كليهما معا، ويبدو على وجه الإجمال أنه يعترف بوجوده فحسب. ومهما انكشف للحدس وللإيمان من هذا المجال، فإنه لا يمكن أن يكون - بالنسبة إلى المعرفة في معناها الوضعي - إلا تصورا سلبيا حديا. وقد ترك لويس آخر الأمر مجالا للمشكلات الميتافيزيقية في الفلسفة، ولكنه اشترط أن تعالج وتحل بروح علمية دقيقة؛ فالفلسفة في نظره، كما هي في نظر سبنسر، هي العلم الذي ينتقل إلى أعلى التجريدات وأوسع التعميمات.
وفيما عدا ذلك، فقد كانت معظم أبحاث لويس ذات طابع فسيولوجي ونفساني، وهذه بدورها حافلة بالأفكار المثيرة، التي ترتفع في أحيان غير قليلة إلى مستوى التبصر العبقري، ولكنها ظلت كلها عقيمة لأنها اختبأت وسط حشد من الأفكار المختلطة التي تفتقر إلى الاتزان والوضوح. ومن أفكاره الجديدة ، التمييز بين نوع الظاهرة الذي يتبدى بوصفه تجديدا خالصا بالنسبة إلى سوابقه، وبين النوع الذي لا يمكن فهمه تماما من خلال خصائص أجزائه المكونة، وكان لويس أول من أطلق على الفئة الأولى اسم الظواهر الطافرة
emergent ، بينما أسمى الفئة الثانية ب«الناتجة
resultant »، وهو هنا قد استبق «فلسفة الطفرة
emergent Phil. » عند لويد مورجان وألكسندر، وإن لم يكن من المؤكد إن كانت ثمة أي استمرار منه إليها، أي تأثير مباشر أو غير مباشر له فيهما.
ولقد كان تفكير لويس ينتمي في أساسه إلى عصر كونت ومل، ولم يتأثر بأفكار دارون وسبنسر إلا قليلا. أما الجيل التالي من المفكرين الذين ولدوا في العقدين الرابع والخامس من القرن التاسع عشر، فقد طغت عليهم موجة المذهب الجديد، في السن التي كانوا فيها أشد تعرضا للتأثر بآراء الغير، ولكنه لم يؤثر إلا في القليلين بمثل العمق الذي أثر به في وليام كنجدن كليفورد
William Kingdon Cilfford (1845-1879)، الذي شغل منذ عام 1871 حتى موته المبكر منصب أستاذ الرياضيات في الكلية الجامعية (يونيفرستي كوليدج) بلندن.
كان كليفورد شخصية فريدة ذات موهبة عقلية لامعة، وكان سابقا لسنه ضليعا في ميادين عديدة، تشع العبقرية منه، وكانت له القدرة على التحمس وإثارته لدى الغير، كما كان له على الناس سحر غريب، ولكن ذلك اقترن لديه بجرأة لا ضابط لها، وبنوع من الإفراط والإغراب؛ فإذا بالنتيجة شخصية حافلة بالمتناقضات كانت تسير نحو استهلاك ذاتها، ولقد كان فيه عرق بروميتي، وكان يتصف بالكثير مما يذكرنا بمعاصره الألماني نيتشه. والحق أنه ما من شيء يؤكد مدى خروج شخصية كليفورد عن المألوف في الفكر الإنجليزي بقدر قرابته العقلية مع هذا المفكر الألماني الذي كان دائما وما يزال غريبا كل الغرابة بالنسبة إلى الإنجليز، غير أن حياة كليفورد كانت أقصر بعشرة أعوام كاملة من حياة نيتشه العقلية، ولم يتسن له أن يتم إلا أقل مما أتمه نيتشه بكثير. ولربما خطر ببال المرء أن يتساءل: أهناك شيء كان سيعجز عن تحقيقه لو كان قد وهب حياة أطول؟ غير أن هذا سؤال عقيم؛ إذ ربما كان القدر قد شاء له أن يقدم في سيل جارف كل ما كان لديه خلال العمر القصير الذي أتيح له، بحيث إنه كان قد استنفد موارده العقلية بالفعل عندما خانته قواه الجسمية. وهكذا كان عمل كليفورد الذي وزعه بطريقته الموهوبة بين ميادين علمية متعددة، قد ظل تمثالا رائعا لجذع بغير أطراف، وكان هو ذاته باحثا أكثر منه كاشفا، وحافزا للغير أكثر منه موجها لهم، ومرشدا إلى أهداف لم يعش هو ذاته لتحقيقها.
ولقد شملت الأعمال التي أنجزها كليفورد، إلى جانب جهوده الهامة في الرياضيات ومعرفته الدقيقة بالعلم الطبيعي، أبحاثا في نظرية المعرفة، ونظرية العلم، وكذلك في الميتافيزيقا والأخلاق وفلسفة الدين،
20
وهو يتخذ نقطة بدايته في نظرية المعرفة من فكرة قريبة من المذهب الظاهري الحسي عند باركلي وهيوم، فموضوعات العالم الخارجي تعطى لي بوصفها انطباعات، وهي تمثل سلسلة من التغيرات في وعيي، وليس لها عدا ذلك وجود، غير أن انطباعات الذوات الأخرى لا تعطى على نفس النحو؛ إذ إنها لا يمكن أن تكون موضوعا لوعيي، وإنما يمكن الاستدلال عليها من وعيي، عن طريق إسقاط ذاتي خارج وعيي على الذات «الأخرى». ويطلق كليفورد على هذه الانطباعات التي أسقطها خارج ذاتي على هذا النحو وأدركها على أنها توجد خارج «ذاتي» اسم «الانبثاقات
ejects »، وهكذا فبينما تكون الموضوعات
objects
هي المعطيات التي تبدو بوصفها ظواهر في وعيي الخاص وتنتمي إلي وحدي، فإن «الانبثاقات» هي محتويات عمليات المعرفة، منقولة من وعيي الذاتي ومحولة إلى الوعي الخارجي الذي تنتمي إليه. ومما يزيد هذا التفسير لعملية المعرفة تعقيدا أن كليفورد يضيف إليه أفكارا منتمية إلى المجال التاريخي التطوري، فالإيمان بوجود وعي غير وعيي مضمون بالفعل، على نحو مستقل عن كل حجة نظرية؛ نظرا إلى أن الإنسان لم يكن منذ البداية فردا منعزلا، وإنما تربطه بأقرانه علاقات اجتماعية. وهكذا يتضح، من وجهة نظر التطور التاريخي، أن الإيمان (بالمنبثق (خارج الذات)
The eject ) هو نوع من إعادة كشف وعي مشابه لوعي في وجود أقراني من الناس، أو من التعرف على هذا الوعي الآخر، غير أن «الموضوع» المعطى لوعيي قد يتمثل أيضا منذ البداية، حتى لو كان ذلك بطريقة غريزية فحسب، بوصفه موضوعا يمكن أن يحس به وعي آخر بالإضافة إلى وعيي. ويطلق كليفورد على الموضوع الذي يقترن به هذا الاعتقاد اسم «الموضوع الاجتماعي»، ولا يعني الإحساس بالخارجية، الذي تثيره مثل هذه الموضوعات، أي شيء سوى هذه العلاقة الفعلية أو الممكنة مع وعي «آخر». ومن الواضح أن مثل هذه الطريقة في البرهنة على هذه المسألة تنطوي على جمع عشوائي بين أفكار شديدة التنوع، ومن الممكن أن يطلق عليها اسم البرهان الاجتماعي على حقيقة العالم الخارجي.
ولا تمتزج في هذه النظرية اتجاهات فكرية تجمع بين المذهبين الحسي والتطوري فحسب، بل تمتزج فيها أيضا اتجاهات فكرية إبستمولوجية وميتافيزيقية، وليس في وسعنا أن نعرض هنا الارتباطات الباطنة بين هذه الاتجاهات المتباينة، وهي الارتباطات التي لا تظهر بوضوح كامل في طريقة كليفورد المتقلبة في التفكير، غير أن كل حجة تؤدي في النهاية إلى عنصر واحد في فلسفته أصبحت له شهرة واسعة، هو نظرية «المادة الذهنية
mind-stuff ». وفي هذه النظرية يشير أولا إلى أن الانطباع أو الإحساس لا يلزم أن يكون في وعي يحويه، وإنما يكون أيضا أن يوجد بطريقة مستقلة «خارج» الوعي، أي إنه «شيء في ذاته»، ومطلق يكون وجوده «لذاته»، لا منسوبا إلى أي شيء آخر، وكل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه يحس
sentiur ، فالعناصر التي يتألف منها كل إحساس هي التي أسماها كليفورد «بالمادة الذهنية»، ولقد كان من السذاجة بحيث اعتقد أنه توصل بذلك أخيرا إلى حل المشكلة «الشيء في ذاته» عند كانت، وهو يصل إلى هذا الهدف ذاته عن طريق سلسلة أخرى من الحجج، فيحاول أن يبين أن مشكلة العلاقة بين المجال المادي والمجال النفسي ينبغي ألا تحل برد أحدهما إلى الآخر بوصفه مصدرا له، وإنما يسود المجالين تبادل وتناظر تام، يماثل في اكتماله ذلك التبادل والتناظر الموجود من جهة بين حروف الجملة عندما تقرأ أو تنطق، وبينها من جهة أخرى عندما تكتب أو تطبع. وذلك يعني في نظره أننا لسنا هنا إزاء شيئين مختلفين أساسا ومن حيث المبدأ، وإنما إزاء نفس الجوهر، الذي يبدو ماديا من وجهة معينة ونفسيا من الوجهة الأخرى. وهو يستخدم تعبير «المادة الذهنية» ليدل به أيضا على ذلك الجوهر الموحد الكامن وراء كل الوجود. وهنا أيضا يكون من الواضح أن المادة الذهنية ينبغي ألا تعد مستقلة عن كل وعي فحسب، بل يجب أن تعد سابقة عليه في الزمان أيضا؛ إذ ينبغي أولا أن تركز المادة الأولى المنتشرة في الكون في أثناء حالته المختلطة، وتدمج في تركيبات متكاملة، ومن المحال أن يصبح الوعي ممكنا قبل ذلك بحيث يتوقف المستوى الذي يبلغه الوعي على المستوى الذي يصل إليه تطور العناصر المادية. وينبغي أن ينظر إلى ما يبدو لنا «مادة» على أنه مؤلف بالمثل من مادة ذهنية، فكل ذرة وجسيمة فيها، بالإضافة إلى ماديتها، عنصر نفساني. ومن الواضح أن مذهب سبنسر في الكونيات يلعب دورا في تأملات كليفورد هذه، كما أن من الواضح أن فكرة «شمول النفس
panpsychism » هذه ليست إلا مذهبا ماديا لا يحجبه إلا قناع دقيق؛ إذ إن «المادة الذهنية» التي قال بها كليفورد، على الرغم من كونها تبدو فكرة جريئة إلى حد بعيد، هي بالفعل فكرة ميتافيزيقية معقدة التركيب، يتضح من الفحص الدقيق أنها لا تختلف اختلافا أساسيا عن «المادة» المألوفة.
ولدى كليفورد آراء في المنطق ومناهج العلوم الدقيقة لها قيمة فلسفية أعظم، وإن تكن شهرتها أقل كثيرا، وتتفق هذه الآراء في الأساس مع آراء ماخ، كما تتفق بوجه خاص مع آراء بيرسن، الذي كان يقف عن كثب منها، وشيد عليها مذهبا، والمبدأ الأساسي هو مبدأ «الاقتصاد في التفكير» الذي يؤدي هنا، كما يؤدي لدى المفكرين الآخرين، إلى استباق أفكار ظهرت فيما بعد في النظرية البرجماتية في المعرفة.
ويظهر التأثير المقلق لأفكار دارون وسبنسر أوضح ما يكون في آراء كليفورد الأخلاقية، التي اهتم بها اهتماما خاصا . ولقد كان كليفورد يعتقد، كما رأينا من قبل، أن إيماننا بالعالم الخارجي يرتكز على نوع من الغريزة الاجتماعية، ولا يمكن أن يضمنه التفكير النظري البحت، ومثل هذا يقال في الأخلاق، فهنا أيضا تكون الحقيقة الرئيسية هي أن الفرد ليس شيئا في ذاته ولذاته، بل إن وجوده كله إنما ينحصر في كونه عضوا في كل اجتماعي يدعم الفرد ويحيط به، وهنا يدخل كليفورد فكرة رئيسية هي فكرة «الذات القبلية
Tribal Self » وهي فكرة استحدثها هو، وأصبحت بفضله مشهورة. والمقصود عنده بهذا اللفظ ذلك الإحساس الذي هو موروث ومكتسب في آن واحد، والذي يؤدي إلى إدراك ما يخدم مصالح القبيلة أو الجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد. والذي يحدث أولا هو أن الذوات المنفصلة التي تنشأ منها «الذات القبلية» بالتدريج، تكون في البداية مدفوعة بالسعي وراء اللذة، والميل إلى إشباع حاجاتها الفردية. غير أن الذات الفردية تمتد إلى الذات القبلية بقدر ما تترك جانبا مصالحها الأنانية وتدافع عن مصالح القبيلة وكأنها مصالحها الخاصة، ويكون نمو الفرد هذا عملية تطور اجتماعي في نفس الوقت. غير أن الذات الخاصة والذات الاجتماعية تكونان في الحياة البشرية في صراع دائم، وحيث تكون الذات الاجتماعية نامية، فإنها تعارض الدوافع الأنانية للذات الخاصة، وهي الدوافع التي تتعارض مع مصالح المجتمع، وتجعل المرء يستاء من مسلكه الخاص. وفي هذه الإدانة للذات الفردية بوساطة الذات الجماعية يرى كليفورد أن ظاهرة الضمير تعبر عن نفسها، بوصفها صوت «الذات القبلية» وقد نما وتهذب عن طريق الانتقاء الطبيعي؛ وعلى ذلك فالخير (أو الشر) الأخلاقي، بالنسبة إلى أخلاق كليفورد القبلية أو الاجتماعية، هو ما ينفع القبيلة (أو يضرها)، أو بتعبير أقرب إلى الروح الداروينية، هو ما يزيد (أو ينقص) من كفاءتها أو قدرتها على البقاء. وهدف الأخلاق هو تدريب الفرد على أن يصبح أكمل عضو ممكن في المجتمع، أي أن يصبح شخصا يسكت صوت مصالحه الخاصة ولا يعترف إلا بمصالح القبيلة، أو أن يكون - حسب تعبير كليفورد - مواطنا صالحا. فإذا ما جردنا هذه الأفكار من ردائها التطوري، كان من الواضح أنها تنطوي على مساهمة قيمة في الأخلاق الاجتماعية المثالية، فكليفورد ينبذ صراحة الأخلاق المبنية على مذهب اللذة، ومبدأ «أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس»، وعلى الرغم من أنه هو ذاته لم يتحرر تماما من نوع من مذهب المنفعة المتسامي، وظل أسير القيود الداروينية، فإن مذهبه، كما هو واضح، يمثل حلا للمشكلة الأخلاقية أفضل بكثير من ذلك الذي استطاعت الفلسفة الأخلاقية الإنجليزية أن تقدمه. ومما زاد في نجاح أفكاره في هذا الميدان، وأكسبه احترام المفكرين، حتى من لم يكن منهم يستطيع الموافقة على آرائه في الميادين الأخرى، أنه لم ينشرها على أنها مذهب جاف، وإنما بث فيها قوة شخصيتها وحماستها الدافقة.
كذلك اتسم موقف كليفورد من الدين بنفس هذه الغرابة المتحمسة؛ فهو هنا كان يعارض كل حل وسط، وينفر من أي نوع من الإذعان للسلطات الكنسية، على النحو الذي كان من الشائع أن يدعو إليه في إنجلترا حتى أولئك المفكرون الذين لا يكترثون بالدين. وهكذا وقف يدافع بتعصب حقيقي عن عدم الإيمان، ولم يجد غضاضة، في إنكاره لله، أن يعامل الديانات الوضعية بقسوة شديدة، ويصب جام غضبه على الكنيسة والعقيدة والكهنوت وكأنه واحد من رسل عصر التنوير ينفس عن كراهيته المكبوتة، فهو قد أسمى المسيحية «وباء فظيعا دمر حضارتين». وأعرب عن سخطه الأخلاقي الشديد على التأثير الضار للقساوسة، الذي رأى أنهم الأعداء الحقيقيون للإنسانية، وأنهم خطر دائم على الدولة والمجتمع والأخلاق الحقة. ولكن حتى هذا العدو المرير لكل ما هو ديني لم يستغن عن نوع من البديل للإيمان الديني، فقد وجد ملجأ في عبادة الكون، ووقف في خشوع وتقديس أمام نظامه واطراده الرائع، وأطلق على الشعور الذي كان ينتابه في هذا الصدد «العاطفة الكونية
cosmic emotion »، وأقر بأنها توجد - كما قال كانت في كلمته المشهورة - كلما تأمل المرء السماء المرصعة بالنجوم فوقه والقانون الأخلاقي في داخله. غير أنه وضع الإنسان موضع الله، وكان كل إيمان حي موجها في نظره إلى تمجيد للإنسان والإشادة به. وقد دافع مثل كونت عن «عقيدة الإنسانية» وكتب بشيء من المبالغة عن الإنسان الأب الذي ينظر إلينا من فجر التاريخ ومن الأعماق الخفية لكل روح بنار الشباب الأزلي ويقول: «قبل أن توجد الآلهة كنت هناك.» كما كتب في موجة حماسة، عند ختام بحثه في «العاطفة الكونية» يقول «إن من يستطيعون قراءة علامات الزمان سيقرءون فيها أنه قد آن أوان مملكة الإنسان.» غير أن معبد هذه العقيدة كان بالنسبة إلى كليفورد بناء العلم الشامخ، وكان أمله معقودا على العلم في تحقيق أي تقدم مقبل لروح الإنسان.
على أن الإجابة عن السؤال عن إمكان التوفيق بين الداروينية والدين لم تكن دائما النفي القاطع، كما في حالة كليفورد، وإنما ظلت المشكلة بالنسبة إلى تلميذ آخر لدارون، هو جورج جون رومانس
Geroge J. Romanes (1848-1894) مشكلة مفتوحة حيرته طوال حياته. ولقد كان رومانس، الذي تتلمذ على دارون وأصبح صديقا مقربا إليه، عالما بيولوجيا في المحل الأول، واكتسب بفضل أبحاثه المستقلة شهرة ضخمة، بوصفه واحدا من أنبغ المساهمين في «نظرية الأصل السلالي
Theory of descent »، ولكنه لما كان ميالا بطبيعته إلى الدين، وتربى في بيئة متمسكة بالدين، فقد كان يندفع دائما إلى ما وراء حدود البحث التجريبي الخالص، لكي يخوض المسائل الفلسفية المتعلقة بالتفسير العام للتجربة، وهي المسائل التي كانت تنتظر قرار المذاهب العلمية الجديدة بشأنها بإلحاح شديد. ولقد كان الصراع بين إيمانه وعلمه خفيا أحيانا، وصريحا أحيانا أخرى، وبفضل هذا الصراع تحول إلى فيلسوف.
وإنه لمن الطريف أن نتتبع المراحل المتعددة التي مر بها هذا الصراع حتى انتهى إلى صورته الأخيرة، ففي أول مؤلفاته، («اختبار صريح لمذهب الألوهية
A Candid Examination of Theism » 1878) نجده متمسكا بالطرق المادية في التفكير إلى حد أن الأساس المتين لعقيدته في الشباب سرعان ما أصبح سرابا، ولكن لم يكن معنى ذلك رفضا صريحا للدين - كما في حالة كليفورد - وإنما كانت تلك فترة اختبار باطن عميق، يقف فيه موقف الحكم على نفسه، لكي يقدر قيمة القوى المتصارعة فيه. ورغم أن العلم هو الذي يثبت أنه الأقوى، ويقضي على كل الحجج المؤيدة لمذهب الألوهية، فإنا نشعر بأن الإيمان، رغم كونه مضطرا إلى التواري في الصفوف الخلفية لم يلغ تماما بأية حال؛ إذ يصبح من الواضح أنه حتى إذا لم يتسن إنقاذ شيء من الحطام، من وجهة نظر العلم، فإن هناك طريقا آخر لمعالجة المسألة بترك الباب مفتوحا لإمكان وجود الله، هذا الطريق يؤدي إلى نوع من الميتافيزيقا الغائية، التي يبدو أن من الممكن أن ينفذ المرء منها إلى مجال يتجاوز مجال العلم، ولكن من الضروري هنا افتراض وجود روح عليا، تكون هي العلة النهائية لكل الأشياء. غير أن رومانس لا يتابع هذه الحجة بأي اقتناع جدي، بل إنها في الواقع تؤدي به دائما إلى صراع مع ضميره العلمي، الذي لا يمكن تبرير أية تأملات نظرية كهذه أمام محكمته. وهكذا يقع في تأرجح غريب بين نظرة إلى العالم فيها مكان للألوهية، ونظرة أخرى لا مكان فيها للألوهية. ولم يكن من الممكن أن ينقذه من هذا التأرجح إلا اتباع الطريق النقدي بصراحة وجرأة، ولكنه يلجأ بدلا من ذلك إلى موقف اللاأدرية لكي يخفف من صراع الضمير المحتدم داخله، دون أن يحل هذا الصراع نهائيا.
على أن وجهة نظره قد تغيرت قبل مضي سنوات قلائل، ففي محاضرة ألقاها سنة 1885، وإن لم تكن قد نشرت إلا بعد وفاته سنة (1895)، بعنوان «الذهن والحركة والمذهب الواحدي
Mind, Motion and Monism » يبدي رومانس ميلا إلى مذهب وحدة الوجود على طريقة «جوردانو برونو»، كما يبدي وجهة نظر واحدية مماثلة في مقال قصير ظهر بعد ذلك بوقت قليل في مجلة
Contemporary Review (1886) بعنوان «العالم بوصفه انبثاقا
The World as Eject » (وقد نشر المقال أيضا في كتابه، «الذهن والحركة والمذهب الواحدي»). ورغم أن هدفه من هذه الواحدية كان عبور الهوة بين المادية والروحية، فإن ميله إلى الروحية كان واضحا. وقد وصل إلى هذا الموقف بأن وفق بين نظرية «الانبثاقات» عند كليفورد وبين آرائه الخاصة، فضلا عن قيامه باختبار نقدي لفكرة كليفورد في «المادة الذهنية» التي أكسبها طابعا مضادا تماما لطابعها الأصلي، وذلك إذا أرجع كل شيء إلى المجال النفسي بدلا من المجال المادي، وهو في كل هذه الآراء لا يمس المسألة الدينية الخاصة على التحديد بعد، وإنما يتخذ موقفا محايدا إزاءها، وهو على الأخص لا يزال ينظر هنا إلى «المنبثق الشامل
World-Eject » (وهو الاسم الذي يطلقه رومانس على «المطلق») على أنه مبدأ لا شخصي مجرد ميتافيزيقي محض، ولكن نظرته تغيرت مرة أخرى في السنوات الأخيرة من حياته، فقد خلف ملاحظات عن كتاب كان يزمع تأليفه ولكنه لم يقم بذلك فعلا، كان المفروض أنه سيختبر فيه مشكلة الدين من جديد،
21
وفي هذه الملاحظات يظهر رومانس على أنه قد تقبل الإيمان الديني نهائيا، وقد ظهرت وصيته الأخيرة هذه في الكتاب الذي أشرف على نشره تشارلس جور
Charles Gore
بعنوان «أفكار عن الدين
Thoughts on Religion »، (1896) فقد اهتدى رومانس إلى طريق العودة إلى الديانة الوضعية، وأصبح يمثل الآن مذهبا ألوهيا شخصيا بالمعنى الموجود في المسيحية، وعرف كيف ينظم في اعتقاداته العلمية على النحو الملائم للدين. وقد احتفظت الداروينية ومذهب التطور لديه بصحتها كاملة، ولكن في اتفاق، لا اختلاف، مع النظرة إلى العالم في ظل الألوهية، وبهذا تغلب على الثنائية القائمة بين المعرفة العلمية والإيمان، وحقق تلاؤما منسجما بينهما.
ومع ذلك فإن هذا التلاؤم، إذا شئنا الدقة، لا يمكن تحقيقه، فالداروينية - إن شاءت أن تكون أمينة - لا يمكن أن تتفق مع الدين فوق الطبيعي، ومن ثم فقد كانت هذه الفكرة هي السائدة، وهي التي يعبر عنها معظم الفلاسفة الذين ساروا في طريق سبنسر ودارون وهكسلي في بحثهم للمشكلة الدينية، ونستطيع أن نذكر من بين ممثليهم المعبرين عنهم اسمي: شارلس جرانت ألن
Charles Grant Allen (1848-1899) ووليام ونوود ريد
William Winwood Read (1838-1875)، فقد قطع ريد، الذي كان كاتبا غزير الإنتاج في العلم والآداب معا، كل صلة له بالدين، ودعا إلى رأي في الحياة يكون مبنيا تماما على المذهب الطبيعي الفردي القائم على فكرة اللذة دون أي لبس أو غموض. ولقد كان واحدا من القلائل الذين اهتموا بالمشكلات الجمالية، وحاولوا إيجاد تفسير تطوري لها،
22
وقد اشتهر ريد بكتابه «استشهاد الإنسان
The Martyrdom of Man » (1872، وظهرت له عدة طبعات تالية) وهو عمل مؤثر يحرك المشاعر، كان له نجاح أدبي ضخم ، وقد كانت القوة الدافعة إليه، كما يدل على ذلك عنوانه، هي نظرة مكتئبة متشائمة إلى الحياة، تنطوي على رفض تام لكل القيم العالية على الطبيعة ولكل إيمان ديني، وتستبدل به الإيمان بقدرة العلم على كل شيء، والاعتقاد الصارم بأن العلم - والعلم وحده - هو الذي قدر له أن يخلص الإنسان من بؤسه الماضي والحاضر إلى مستقبل أفضل. وهكذا يتسامى ريد بالإنسان، مثل كليفورد، ليجعل منه كائنا من نوع أعلى، وهو بالطبع لا يعني بذلك الإنسان من حيث هو فرد، بل يعني الإنسانية جمعاء، لكي يستخلص من قابلية الإنسان للكمال تلك العقيدة الجديدة التي يهيب بها لتحل محل القديمة.
ولقد خاض المعركة مع المذهب الجديد مفكرون أقرب إلى الروح الدينية، كل بطريقته الخاصة، ونتجت عن ذلك تفرعات عديدة جدا، وبغض النظر عن رومانس، نستطيع أن نختار للبحث - من بين هؤلاء الكثيرين - الأسماء الآتية: جيمس ألنسن بكتن
James Allanson Picton (1832-1910) وجيمس كرول
J. Croll (1821-1890)، وهنري درموند
H. Drummond ، والسير جون روبرت سيلي
Sir J. R. Seeley (1834-1895).
كان بكتن شديد التعلق بسبنسر، وكان يؤمن بكل التعاليم الميتافيزيقية التي يتضمنها كتاب «المبادئ الأولى»، ولكنه مضى خطوة أبعد من ذلك؛ إذ وحد بين «اللامعروف» والإلهي، وبذلك سعى إلى تحويل القمة الميتافيزيقية التي بلغها مذهب سبنسر في اتجاه الفلسفة الدينية، وقد تعمد أن يبين أن المذهب التطوري لا يفضي حتما إلى اللاأدرية أو النزعة الطبيعية
Naturalism
ناهيك بالمادية، بل إن من الممكن جدا الجمع بينه وبين العاطفة الدينية الصادقة. رغم أن هذه قد تكون بعيدة تماما عن أي إيمان وضعي من النوع العقيدي؛ لذلك عكف بكتن على إقامة دين على أساس تطوري، ومن الواضح أن مثل هذا الدين ينبغي أن يؤدي إلى مذهب شمول الألوهية
،
23
وهكذا يدافع هنا عن توحيد اسبينوزا بين الله والطبيعة، ويعلن بحماسة عاطفية أنه هو حل جميع المسائل المختلف عليها في الفلسفة، ولكن رغم أن بكتن يرفض صراحة فكرة إله خالق، ويؤكد أن الكون قد نشأ من ذاته ويكتفي بذاته، فإنه يعلق مع ذلك أهمية كبرى على محاولته إثبات أن عقيدته العالمية تتفق مع الجوهر الحقيقي للديانات التاريخية وضمنها المسيحية، وهكذا يسمى مذهبه «بالمذهب المسيحي في شمول الألوهية
Christian
»، ولا يشعر بأي حرج من التناقض الملموس الذي ينطوي عليه الجمع بين مذهبين على هذا القدر من التنافر.
24
وعلى حين أن التركيب الديني العلوي عند بكتن كان أقرب إلى أن يكون إضافة قصد بها تنميق المذهب وتزويقه أكثر مما كان تعبيرا عن التخلي الفعلي عن المذهب الطبيعي، فإن «كرول» وهو عالم جيولوجي اسكتلندي، يغامر بالمعنى خطوة حاسمة بعد هذه الحدود، فهو بدوره يترك المذهب التطوري في مجموعه دون نقاش، ويأخذ بأهم العناصر في نظريته، ولكنه في الوقت ذاته يحاول أن يهزه من أعماقه ويزعزع نفس الأساس الذي بني عليه. فقانون التطور نفسه ينص على أن المادة والقوة والحركة هي العوامل التي تحدد وتفسر كل عملية كونية وكل تغير يحدث فيها، ومع ذلك فإن أحدا لا يتساءل عما وراء هذه العوامل، وإنما تظل قائمة بوصفها العناصر النهائية لكل وجود وكل صيرورة، ولا تكون هي ذاتها في حاجة إلى تفسير. أما بالنسبة إلى كرول فإن هذا البحث عن مصدر تلك العناصر وأصلها يبدو أمرا له أهمية عظمى، فكون القوة والمادة موجودتين، هو أمر أقل أهمية من مسألة تحديدهما. والمشكلة الأساسية في الفلسفة هي مشكلة تحديد العوامل الأصلية للوجود وتفسيرها، فإذا كانت كل حالة حاضرة للكون تتحدد مقدما بالحالة السابقة عليها، وهذه بدورها تتحدد بما يسبقها، فإنا نواجه عندئذ تسلسلا ممتنعا إلى ما لا نهاية، ولا بد أن تكون هذه السلسلة قد بدأت في وقت ما، ولا بد أن يكون هناك تحديد أول، ومن الواضح في الوقت ذاته أن القوة لا يمكن أن ترد آخر الأمر إلى القوة بوصفها العلة المحددة لها، ولا الحركة إلى الحركة. وهكذا فلا بد أن نستنتج من كون شيء موجودا في اللحظة الحالية أن «شيئا» لا بد قد وجد منذ الأزل. غير أن الاعتقاد بأن «الكون» هو الأزلي محال؛ إذ إنه ينطوي على القول الممتنع بوجود تعاقب لا نهائي للأحداث، وبذلك لا يتبقى إلا افتراض إله أزلي لا متناه، بوصفه المحدد الأول للسلسلة الكونية، أو الروح الخالقة التي هي العلة النهائية لكل الوجود، وبالتالي حافظ العملية التطورية بأسرها. وهكذا فإن التطورية - مع احتفاظها بصحتها الكاملة - لا تعود نظرية مكتفية بنفسها أو قائمة بذاتها، وإنما هي تنتقل في النهاية إلى مذهب للألوهية، وهذا دليل آخر على أنها قد سئمت سفينة المذهب الطبيعي التي تهيم فيها، وأخذت تبحث عن شاطئ تستقر فيه.
25
أما «درموند» فقد قام بمحاولة مستقلة لإيجاد مكان للدين داخل مذهب العلم الطبيعي، وقد أحرز درموند، الذي كان قسيسا ولاهوتيا وباحثا علميا، شهرة مفاجئة بعد النجاح الهائل غير المتوقع، لكتابه «القانون الطبيعي في العالم الروحي
Natural Law in The Spiritual World » وهو الكتاب الذي نشر في 1883، وبيعت منه قبل نهاية القرن 125000 نسخة، وكانت أهم أسباب هذا النجاح، بالإضافة إلى الأسلوب الشعبي في الكتابة، وسهولة فهم محتوياته، هي أنه تضمن بحثا في العلم الجديد قام به شخص لا يشك أحد في تدينه، ولكنه لم يحمل على هذا العلم - كما يفعل غيره من المتدينين عادة - على أنه معاد للدين، وإنما يعرضه على أنه متفق تماما مع تعاليم العقيدة المسيحية. وبفضل هذا الكتاب تم التوفيق، لأول مرة، بين مذهب التطور الجديد وبين الجمهرة الكبيرة من الناس، الذين كانوا يهتمون بالمذهب، ولكن عقيدتهم الدينية تباعد بينهم وبينه. وقد كانت فكرة درموند الأساسية - وهي فكرة غاية في البساطة، ولكنها في بساطتها بناءة إلى حد بعيد - هي أن يمد إلى العالم الروحي تلك القوانين التي تسري على العالم الطبيعي، مثلما مدها سبنسر إلى العالم التاريخي الاجتماعي. وهو يعني بعبارة «العالم الروحي» عالم الدين قبل كل شيء؛ فهذا العالم، في رأيه، يخضع بدقة لنفس مبدأ القانون الذي يخضع له العالم الطبيعي، والمبدآن معا متماثلان من جميع النواحي. وهكذا فإن القانون الأساسي للوجود كله هو قانون الاتصال، وكل درجة وكل مستوى للوجود يخضع لنفس القوانين التي تربط الجميع في وحدة شاملة، ومهمة العلم هي أن يثبت طبيعة ما هو عال على الطبيعة، كما أن مهمة الدين هي أن يثبت أن ما هو طبيعي عال على الطبيعة، ويصبح الروحي طبيعيا بنفس المقدار الذي تصبح به الطبيعة روحية. وعيب هذه الفلسفة هو ذلك الخطأ الأساسي، وأعني به تجاهل الفارق الحاسم بين هذين العالمين، ففيها خلط لا يكاد يحتمل بين مجالي الوجود اللامتجانسين، وإزالة كاملة لكل الحدود بين الطبيعة والروح، فالدين إذ يتنكر في زي العلم يسيء استغلال العلم لأغراضه الخاصة. ويمضي درموند في هذا الخلط إلى حد يكون للمرء معه أن يشك فيما إذا كنا هنا نواجه انحطاطا للعقل إلى مرتبة الطبيعة، أم ارتقاء للطبيعة إلى مرتبة الروح. غير أن الدوافع الباطنة للمذهب تظهر واضحة عندما نجد أن نتيجته النهائية هي القول إن للروح الأولوية على الطبيعة، وإنه ليس للمادة حقيقة في ذاتها، وإنما هي مجرد تجسد للروح، وإن الروح وحدها هي التي تكشف عن ماهية العالم الحقيقي.
وقد أثمرت فلسفة درموند الشعبية كتابا آخر هو «ارتقاء الإنسان
The Ascent of Man »،
26
وفيه تحل فكرة الصراع من أجل وجود الآخر محل فكرة صراع الكائن من أجل وجوده هو ذاته، بحيث يحاول أن يبين أن الظواهر الأخلاقية لا تظهر في المجال البشري وحده، بل في مجال أدنى منه بكثير في المملكة الحيوانية، وأنها ترتبط أيضا بالعمليات البسيطة للحياة، فالسلوك الغيري يسود الطبيعة بأسرها، وله من القوة ما للأنانية، كما أن قانون الحب أو الصراع من أجل وجود الآخر - وهو القانون الذي يضعه درموند مقابل المبدأ الدارويني - يسري خلال الحياة الكونية بأسرها. وهنا أيضا يظهر نفس الميل الذي اتضح في الكتاب السابق، وهو الميل إلى وضع مختلف مجالات الوجود على قدم المساواة، والجمع بينها في ظل مبدأ القانون الواحد الذي يربط بينها ويكمن من ورائها جميعا.
أما «سبلي» المؤرخ المعروف، فقد عالج المشكلة الدينية في مؤلفين نشرا غفلا من اسمه، هما: «هذا هو الرجل
Ecce Homo » (1865، وهو عرض لتعاليم المسيح، أثار ظهوره ضجة عنيفة) و«الدين الطبيعي
Natural Religion » (1882)، غير أن موقفه يقل عن موقف درموند وضوحا، فافتقار أفكاره إلى التحديد القاطع، والطريقة المختلطة التي تعرض بها، كل ذلك يترك القارئ متشككا فيما إذا كان يمثل عقيدة طبيعية مبنية على فكرة «شمول الألوهية» وحدها، أم أنه قد أبقى مكانا في نظريته للحجج المؤيدة لمذهب الألوهية والإيمان بما فوق الطبيعة. وعلى أية حال فتفكيره يميل في الأغلب إلى الاتجاه الأول، فقد كان بدوره، مثل درموند، حريصا على التوفيق بين نظرته إلى الدين وبين العلم الحديث، وعلى إظهار قوانين الطبيعة على أنها قوانين الله في الوقت ذاته، وكان مقتنعا بأن التوحيد بين الله والطبيعة، وتقديس حقيقة أعلى «في» الطبيعة، يكفل لصاحب الذهن العلمي منفذا لعاطفة دينية مشابهة لتلك التي يبعثها في ذهن الشخص النقي الإيمان بألوهية علوية مشخصة. غير أن سيلي كان أقل من درموند بكثير في درجة التزامه بالإيمان الديني، وفضلا عن ذلك فإن العوامل الجمالية تلعب دورا هاما في تفسيره للدين، فقد كان يرى أن الظواهر المميزة للمجال الديني تتمثل في كل ما يثير الحماسة ويبعث العجب، وفي كل ما يستحق التبجيل، وكل ما يبعث في الإنسان الدهشة أو يكتسب إعجابه. وعلى ذلك فقد رأى أن الحياة الدينية لا تتجسد وعبادة كائن علوي لا يدرك، بقدر ما تتمثل في التفاني المخلص في سبيل الحقيقة والمعرفة العلمية، وفي حب الجمال، وفي نقاء الضمير وحيويته، أي إنها بالاختصار تكون في كل سعي وراء الحق والخير والجمال. وهكذا فإن تعاليم سيلي، التي يضفي فيها على القيم الثقافية للإنسان نوعا من السمو الديني، ترتد في النهاية إلى عبادة الثقافة أكثر مما ترتد إلى عبادة الطبيعة، فهي تعبر عن شخصية واسعة الثقافة تستجيب لحياة الذهن في جميع أوجه نشاطها، أكثر مما هي بديل هزيل لعقيدة العالم أو إيمان روح يعد الدين بالنسبة إليها تجربة هامة بحق.
فإذا انتقلنا إلى الأخلاق التطورية، وجدناها تسير عموما في مسار أضيق وأوضح معالم من مسار الفلسفة الدينية التطورية، وإن يكن يوجد هنا أيضا عدد من الاختلافات والفوارق التي ينبغي ملاحظتها. ولقد أشرنا من قبل إلى سماتها الرئيسية، وإلى بعض صورها المميزة عند بحثنا لسبنسر وهكسلي ووستر مارك وكليفورد. وما زال أمامنا عدد من المفكرين الذين يحسن جمعهم سويا؛ لأنهم قد أولوا مشكلة الأخلاق أهمية كبرى، وأهم هؤلاء جميعا هو السير لزلي ستيفن
Sir Leslie Stephen (1832-1904)، الذي تضمن كتابه المنهجي الرئيسي «علم الأخلاق
The Science of Ethics » (1882) ما يمكن أن يعد أنضج وأكمل محاولة لبناء الأخلاق على أساس فلسفة تطورية. ولقد كان ستيفن كاتبا موهوبا متعدد الجوانب إلى حد بعيد، امتزجت كتاباته بالحياة العقلية للعصر الفكتوري على أنحاء شتى، وكانت لها ثمرات في ميدان الصحافة، وفي ميدان كتابة السير، وفي التاريخ الفلسفي والأدبي، وفي الفلسفة المنهجية إلخ، ومنذ سنة 1882 حتى 1891 كان على رأس مشروع من أهم المشروعات الأدبية الإنجليزية، وهو القاموس الهائل المعروف باسم «قاموس السير القومية
Dictionary of National Biography » والذي أسهم فيه ستيفن نفسه بكتابات متعددة. وأهم أعماله الأخرى «تاريخ الفكر الإنجليزي في القرن الثامن عشر
Hist. of English thought in The XVIII century » (في مجلدين، 1876، انظر من قبل ص [83]) وهو وصف رائع لعصر التنوير في إنجلترا، أعقبه بعد ذلك كتاب أشبه بتكملة الكتاب السابق، يتعلق بالقرن التاسع عشر، (هو «أصحاب مذهب المنفعة من الإنجليز
The English Utilitarians » في ثلاثة مجلدات، 1900) وتشمل كتاباته الأخرى التي يغلب على محتواها الطابع الفلسفي «مقالات في التفكير الحر والحديث الصريح
Essays on Free Thinking and Plain Speaking » (1873) و«دفاع عن اللاأدرية
An Agnostics Apology » (1893) و«الحقوق والواجبات الاجتماعية
Social Rights and Duties » (في مجلدين، 1896).
ولقد كان ستيفن ينتمي أصلا إلى أوساط متمسكة بالدين، حتى إنه رسم قسيسا في شبابه، ثم عكف فيما بعد على الفلسفة، وأدى به تأثره المتزايد بمل أولا، ثم بدارون، وأخيرا بسبنسر؛ إلى الانسحاب تدريجيا من الكنيسة، حتى تخلى أخيرا عن مركزه الديني في عام 1875، ومنذ ذلك الحين أصبح يصف نظرته إلى العالم بأنها نظرة مفكر حر يقول باللاأدرية. وكان في الشئون الدينية ممثلا كاملا، ولكنه متأخر، لعصر «التنوير» تقترب آراؤه كثيرا من آراء هيوم فيلسوفه المفضل، كذلك كان يدين بموقفه الفلسفي من المسائل الأخرى التجريبية الإنجليزية الكلاسيكية ولعصر التنوير بقدر ما يدين للمفكرين المحدثين، واقترب من لوك وهيوم وأخلاقيي القرن الثامن بقدر ما اقترب في البداية من مذهب المنفعة عند بنتام ومل الأب والابن، وبقدر ما اقترب فيما بعد من تطورية سبنسر ودارون.
وهكذا استوعب ذهنه وتشرب كل أفكار التراث الإنجليزي، الذي كانت لديه به معرفة تاريخية أعمق من معرفة معاصريه به، ففي تفكيره تظهر دواما تلك الخصائص المشتركة لهذا التراث، أعني العداء للميتافيزيقا، واللامبالاة إزاء الدين (وهي تزيد في حالته بحيث تبلغ حد الازدراء، والإنكار الصريح، إن لم يكن الإلحاد المعترف به علنا)، والإهابة المتكررة بالتجربة بوصفها المصدر الوحيد لمعرفتنا (وهو يرى أن الحقيقة الأساسية للاأدرية إنما تكمن في هذه الإهابة، لا في مذهب ميتافيزيقي كما ذهب سبنسر وغيره)، وتمجيد العلم الدقيق، الذي يرى أنه الأنموذج الوحيد السليم للفلسفة بدورها، والذي يبنى عليه كل تقدم بشري، ورفض كل الحقائق الأولية، وكل استنباط وتركيب من العقل الخالص، وخصائص كثيرة غيرها. غير أن أهميته الفلسفية لا تنحصر فيما هو مشترك بينه وبين السابقين عليه ومعاصريه، بل في محاولته الوصول إلى صيغة وحل خاص به للمشكلات التي ورثها، على أنه لم يصل في هذه المحاولة إلى أية نتيجة إلا في ميدان الأخلاق.
فإذا كان سبنسر هو الذي وضع أسس الأخلاق التطورية، فإن ستيفن هو الذي ارتفع بالبناء إلى أعلى نقطة بلغها. وهكذا فإن كتاب ستيفن «علم الأخلاق» ليس مجرد تكملة لرسالة كتاب سبنسر «معطيات الأخلاق»، وإنما هو يمثل تقدما حقيقيا عليه، وفيه يعمق المحتوى الفلسفي لكتاب سبنسر ويعلي من قيمته. وفي وسعنا أن ندرك بوضوح نوايا المؤلف من عنوان الكتاب ذاته، فالأخلاق يمكن أن تبحث علميا، وينبغي أن تطبق عليها المناهج العلمية، ومن ثم فمن الواجب أن تتحرر الأخلاق من كل تأمل ميتافيزيقي وجزاء ديني، وتقتصر على التزام حدود التجربة. وفضلا عن ذلك فلا شأن لعلم الأخلاق بالميادين الأخلاقية التي يفترض أن لها يقينا حدسيا أو أنها مستمدة من اعتبارات منطقية بحتة، بل إن وظيفتها هي وصف الوقائع الأخلاقية وتحليلها كما تعطى في التجربة وتعرض للملاحظة، حتى تستمد منها السمات العامة للسلوك الإنساني والطبيعة البشرية، وعليها أن تبحث في منشأ هذه الوقائع والدور الذي تلعبه في العملية التطورية الكونية الشاملة. وإذن فالبحث في الأخلاق يتشابك في معظم الأحيان مع الأبحاث في علم البيولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومن هذه العلوم تستمد الأخلاق كل تبصر أصيل تكشف عنه.
ولهذا الاندماج بين الحياة الأخلاقية وبين الوقائع الاجتماعية أهمية خاصة؛ ذلك لأن ستيفن يحاول - متجاوزا في ذلك المذهب النفعي وسبنسر بمراحل - أن يحرر الأخلاق من كل الحدود والشروط أو الظروف الفردية، وأن يدمجها في النسيج الاجتماعي تماما. وإذن فأول ما ينبغي عمله هو تحديد علاقة الفرد بالجماعة، والنتيجة هي ألا نتصور الفرد على أنه وحدة لا تتجزأ، قائمة بذاتها، أو المجتمع على أنه مجرد مجموع لمثل هذه الوحدات، وإنما تكون المحصلة النهائية علاقة عضوية يكون فيها المجتمع، بوصفه كائنا اجتماعيا، مشتملا على الكائن المنفرد المنعزل بوصف هذا الأخير جزءا من كيانه، ولكن يستحيل تصور هذا الأخير بمعزل عن هذه العلاقة على الإطلاق، وفي هذا الصدد يستخدم ستيفن تعبيرا حيا موفقا ليدل على الفرد، هو «النسيج الاجتماعي
Social tissue » ويستخدم هذا اللفظ أيضا للدلالة على الكل الاجتماعي، بحيث يتمثل الفرد الواحد كما كان مغزولا في هذا النسيج الكامل بكل خيط في وجوده، ونتيجة لذلك بالنسبة إلى سلوك الإنسان هي أنه مهما بدا للإنسان أن يستهدف غايات وأغراضا خاصة به، فإنه مع ذلك واقع تحت ضغط المجتمع إلى درجة واضحة، وهو يعبر عن مصالح المجتمع حتى لو بدا أن الدوافع الأنانية هي مصدر سلوكه، فحتى تلك الأفعال التي تستهدف صالح الفاعل وحده، أي إشباع رغبة فردية في اللذة أو النفع الشخصي، ترجع في أصلها إلى شخصية الفرد التي هي أساسها، وهذه الشخصية من نتاج النسيج الاجتماعي إلى حد بعيد جدا، وتكاد كلها تتحدد وتشكل بعوامل حياة الجماعة.
أما المعيار الأخلاقي الذي يستتبعه هذا الموقف فليس سعي الفرد الشخصي إلى السعادة، ولا هو البحث عن أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس؛ إذ إن كل النظريات المبنية على فكرة اللذة والسعادة تنطوي آخر الأمر على افتراض أن الفرد ذرة منعزلة مستقلة داخل الجماعة، وإنما المعيار الصحيح هو صحة الكائن العضوي الاجتماعي وكفاءته. فالفعل يكون خيرا من الوجهة الأخلاقية إذا كان يؤدي إلى تقدم ونهوض حقيقي في حياة الجماعة ، والجماعة تكون أقدر على حفظ ذاتها في الصراع من أجل البقاء إذا كانت المعايير الأخلاقية المتحكمة في أفرادها تقوم على استهداف سلامة المجتمع من حيث هو كل، والهدف الأخير لكل أخلاق إنما هو سلامة النسيج الاجتماعي وقوته وكفاءته وحيويته، ولا يكون السلوك متمشيا مع القانون الأخلاقي إلا بقدر ما يتجه إلى تحقيق هذه الغاية، وتزداد حيوية النظام الاجتماعي بقدر ما يصل إلى حالة توازن ويحتفظ بها. وعلى ذلك فإن للأخلاق هدفا آخر هو الوصول إلى حالة التوازن الاجتماعي والاحتفاظ بها، فإذا ما شئنا أن نعبر عن هذه الفكرة من وجهة نظر التطور الاجتماعي، لقلنا إن المبادئ الأخلاقية تقبل بعد عملية انتقاء طبيعي، وإن النمط الأخلاقي الذي يغلب على الباقين هو الأكثر فعالية، وهو الأقدر على الحياة، وهو الذي يكشف عن أكبر قدر من التوازن.
وعلى حين أن ستيفن يرفض النظريات السابقة عليه، والمبنية على فكرتي اللذة والسعادة، فإنه يسعى مع ذلك إلى إنصاف مبدأ المنفعة وإيجاد مكان له في مذهبه الأخلاقي، وبذا يبدو مذهبه هذا على أنه مركب من مبادئ نفعية ومبادئ تطورية، مع رجحان كفة الأخيرة بالطبع. وهكذا فإن من الممكن التوفيق بين العرض الذي قدمناه من قبل لمذهبه وبين قاعدة المنفعة، إذا فسرنا الأخيرة بأنها ليست مجرد مبدأ إيجاد اللذة والسعادة، وإنما هي أيضا مبدأ النهوض بالصحة وحفظ الحياة، فاللذة والصحة، وإن لم تكونا متفقتين على الإطلاق، تتبديان في أفعال تسير على الأقل في اتجاه متقارب؛ إذ إن حدوث تعارض بينهما يؤدي إلى إخلال التوازن الاجتماعي، وعلى ذلك فإن تقاربهما - إن لم يكن هويتهما - هو أمر يضمنه التطور حتما، غير أن المنفعة، بمعنى حفظ الحياة، تثبت في كل حالة أنها أهم بكثير من المنفعة بمعنى مجرد تحصيل اللذة وطلب السعادة.
وأخيرا فالتطور ينطوي على نتيجة أخرى، فإذا كانت بعض طرق السلوك تكتسب قيمة أخلاقية أعظم من غيرها بفعل الانتقاء الطبيعي، وتصبح بذلك مفضلة، أي تقرها الجماعة البشرية، فمن الواضح أن المهم في الأمر ليس الفعل الوحيد المنفرد، وإنما الشخصية التي ينبثق عنها هذا الفعل. وإذن فالتطور لا يولد ولا يرعى طرقا معينة للسلوك فحسب، وإنما يولد ويرعى أنماطا محددة من الشخصية أيضا، فتكوين شخصية متينة يمثل مستوى أعلى في التقدم الأخلاقي من التدريب على طريقة السلوك هذه أو تلك، وهذا هو التقدم الذي يتحقق في الانتقال من أخلاقية السلوك الخارجي إلى أخلاقية التعود الباطن، وكلما ازداد الشخص الأخلاقي النموذجي تنظيما، أصبح لشخصيته طابع أكثر ثباتا وتحددا، وعلى ذلك فإن أعلى قانون أخلاقي ليس هو ذلك الذي يعبر عنه بالأمر «افعل هذا»، وإنما بالأمر «كن هكذا».
وينبغي أن يلاحظ أخيرا أن مذهب ستيفن الأخلاقي قد وجد امتدادا له، بعد سنوات قلائل، في أول كتب صمويل ألكسندر
Samuel Alexander
وهو، «النظام الأخلاقي والتقدم
Moral Order and Progress » (1889)، وهو كتاب سنتحدث عنه في موضع آخر [انظر الفصل الرابع من الباب الثاني.] فهذا الكتاب قد تشبع تماما بروح مذهب ستيفن الأخلاقي، وهو يشبهه في نواح متعددة، وإن يكن قد كشف عن سمات مستقلة.
أما المذهب الأخلاقي عند «إيدث سمككس
Edith Simcox » (1844-1901)، الذي سبق مذهب ستيفن بسنوات قلائل، والذي عرضته في كتابها «القانون الطبيعي، بحث في الأخلاق
Natural Law, an Essay in Ethics » (1877)، فهو فرع آخر للمذهب التطوري الطبيعي، ومن الممكن تسميته «بمذهب الكمال
»؛ إذ إنه يرى أن الهدف المثالي للحياة الأخلاقية والسلوك الأخلاقي هو في الممارسة الكاملة لجميع الملكات البشرية، ويتسم هذا المذهب بأن الطابع التربوي والجمالي يغلب فيه على طابع العمل العلمي - وربما كان ذلك تعبيرا عن طبيعة نسائية مألوفة، فالآنسة سمككس تربط بين المجال الأخلاقي والسياسي وكل مظاهر الحياة الرفيعة للروح، وبين القوى الطبيعية التي تنمى في الإنسان، وهي ترد المبدأ القانوني المتحكم في هذه الحياة إلى مبدأ القانون الطبيعي. فالمعيار الأخلاقي الذي يستخلص من التطور الطبيعي ويتأيد به، هو ذلك الذي يتمشى أكثر من غيره مع الطبيعة المميزة للإنسان، أي هو الأكثر تلاؤما مع الإنسانية، على حين أن أي انحراف عنه ينظر إليه على أنه نقص وإقلال للقيم الأخلاقية . وإذن فالخير في السلوك إنما يكون في رعاية وتنشئة نمط إنساني مثالي، عن طريق المضي في كل قدرة طبيعية إلى أعلى وأكمل ما يمكن أن تصل إليه من درجات التحقق، وما الكمال الأخلاقي إلا تحقيق القانون الطبيعي الذي يخضع له الوجود البشري بدوره. وهكذا يطلب إلى الفرد، بوصفه فاعلا، أن يتعاون تعاونا فعالا مع القوى السائدة في الكون، على حين أنه، من حيث هو كائن مفكر، ينحني أمامها في خشوع لأوامرها بروح من الاستسلام الديني.
أما ألفرد بارات
Alfred Barrett (1844-1881)، فقد كان شغوفا بالفلسفة رغم كونه قد احترف مهنة المحاماة، ونشر وهو لم يزل في الرابعة والعشرين من عمره كتابا أخلاقيا (هو «الأخلاق الفيزيائية
»، 1869)، يتفق مع الأخلاق التطورية في النظر إلى الوجود الأخلاقي للإنسان على أنه ناتج عن تنمية وجوده الطبيعي، وبذلك يكون حصيلة للعوامل والظروف الفيزيائية والبيولوجية والفسيولوجية التي تجعله على ما هو عليه. وتتمثل لدى بارات بدوره بوضوح نزعة المذهب التطوري إلى الخلط بين حدود مختلف مستويات الوجود، وهذا يؤدي به إلى أن يجعل لمستوى «الطبيعة» مكانا بارزا مميزا عن كل ما عداها، ويناظر ذلك في مجال المعرفة تمييز ورفع لمكانة العلوم الطبيعية فوق كل العلوم الأخرى، وعند هذه النقطة يدعو - باسم وحدة المعرفة كلها - إلى ضرورة إدراج الأخلاق بدورها تحت التفكير العلمي، في ظل المثل الأعلى للمعرفة، وهذا هو ما تعبر عنه عبارة «الأخلاق الفيزيائية
»، أي إن أساس العلم هو الطاعة العاقلة لقوانين الطبيعة. وفي هذا الكتاب المبكر تظهر علامات واضحة على مواهب بارات العقلية الفائقة، وهو ينطوي على سمات أصيلة عديدة، رغم أنه لا يزيد في عمومه عن أن يكون مجرد إنتاج متوسط. وقد استمد الكتاب قوة دافعة كبيرة من سبنسر، الذي يسميه بارات أعظم فلاسفة عصره، غير أنه يمضي قدما بهذه القوة الدافعة بحيث تكتسب شكلا مستقلا، غير أن موت بارات المبكر لم يتح له جني ثمار حماسته الفكرية في مؤلف أعظم. ولقد كانت تلح عليه قرب نهاية حياته مشروعات شاملة لمذهب ميتافيزيقي كوني شامل، ونشر ما تم حتى وفاته في كتاب بعنوان «التفسير الفيزيائي لما بعد التجربة
» (1883). وتشهد الأفكار التي يعرضها في هذا الكتاب، بالمثل، على قوة تفكير بارات، الذي كان يسير في اتجاه فلسفة للذرات الروحية، يتردد فيها صدى ليبنتس؛ وبذلك كان يتباعد عن مذهبه الطبيعي الذي قال به في البداية.
ولقد كان آخر تعبير عن الأخلاق التطورية في القرن التاسع عشر هو «أصل الغريزة الأخلاقية ونموها
The Origin and Growth of the Moral Instinct » (1898)، من تأليف ألكسندر سذرلاند
Alexander Sutherland (1852-1902)، وهو صحفي وكاتب كان يعيش في أستراليا، ولم يخض ميدان الفلسفة إلا هذه المرة وحدها، وهو يهتم في كتابه هذا - كما فعل وستر مارك في كتابه - بالبرهنة تجريبيا على وجود حاسة أخلاقية من أدنى مستوى حتى أعلى أنماط الحضارة البشرية، كما يهتم بمسألة مرتبطة بها، هي التقدم الأخلاقي للبشرية. ويرى «سذر لاند» أن الغريزة الأخلاقية الأولى والأصلية هي التعاطف، الذي يرجع جذوره إلى حب الأم، ويلعب التعاطف، حتى في حياة الشعوب البدائية، دورا ضابطا حاسما، ويتمثل موضوعيا في معايير وقواعد متعددة، ومنه تنشأ فكرة الواجب في مرحلة تطورية أعلى، وهذه بدورها تصطبغ بصبغة باطنة، وتتحول إلى الشعور بالاحترام الذاتي. وبعبارة أخرى فأداء الواجب هو نتيجة الاحترام الذاتي الباطن، وليس مجرد فعل يقصد منه المنفعة الخارجية، ويرتد الواجب إلى ضمير باطن، وبذلك تصل الحياة الأخلاقية إلى أنبل تجسد وأعلى تحقق لها.
ولقد كان أهم مذهب للأخلاق التطورية ظهر عند مطلع القرن العشرين هو مذهب ل. ت. هبهوس
L. T. Hobhouse ، وذلك في كتابه «الأخلاق في تطورها
Morals in Evolution » (في مجلدين، 1906) وسوف نتحدث فيما بعد عن هذا الكتاب، الذي كان آخر أمثلة المدرسة التي نحن بصددها عندما نناقش آراء هذا المفكر في مجموعها [انظر الجزء الأخير من هذا الفصل].
بقي علينا أن نبحث ميدانا قريبا من الأخلاق، اكتسب بفضل العلم الجديد والفلسفة الجديدة إمكانيات خصبة للتطبيق، وأعني به علم الاجتماع، وهنا أيضا حدد سبنسر معالم الطريق الذين تعين على الباحثين الآخرين المضي فيه أبعد منه، ولكن لما كانت معظم أعمالهم تنتمي إلى مجال العلم المتخصص، ففي وسعي أن أحذفهم من هذه الدراسة. ومع ذلك، فإلى جانب تلك الأعمال ذات الأهمية العامة، والتي ذكرت من قبل أو ستذكر فيما بعد في سياق آخر، ينبغي أن نلفت النظر إلى عمل لقي في أيامه تقديرا كبيرا، وحاول أن يستخلص ما في الداروينية من قيمة لعلم الاجتماع، ويجعلها بحثا مثمرا، ذلك هو كتاب «بنجامين كيد
Benjamin Kidd » (1858-1916) «التطور الاجتماعي
Social Evolution » (1894). ولقد صادف هذا الكتاب من النجاح بقدر ما صادف كتاب دراموند، «القانون الطبيعي في العالم الروحي»
27
وكانت عوامل النجاح متشابهة في الحالتين إلى حد بعيد، فقد ساهم في هذا النجاح شعبية الأسلوب وتأثيره في النفس، والوضوح الشفاف لتفكيره، غير أن السبب الرئيسي لهذا النجاح هو أن الدين قد تلقى نجدة من مذهب من ألد أعداء الدين، وهو الداروينية، وكان هذا كافيا لجعل الجمهور يستقبل الكتاب بحماسة شديدة، بينما وقفت الأوساط العلمية منه موقفا أشد تحفظا بكثير.
ويمكن القول: إن علم الاجتماع عند «كيد» قد اقتبس الأفكار الرئيسية في نظرية الأصل السلالي
theory of descent
بحذافيرها؛ أعني فكرة الصراع من أجل البقاء، والانتقاء الطبيعي، وبقاء الأصلح، ووراثة الصفات إلخ. وقد اقتبس هذه الفكرة الأخيرة بالمعنى الذي أضفاه عليها فيزمان
Weismann
28 (الذي تأثر به كيد كثيرا) أكثر مما اقتبسها بالمعنى الدارويني. فالقانون الحيوي للحياة البشرية، الفردية والاجتماعية، وكذلك للعلاقات المتبادلة بين الفرد والمجتمع، هو نفس القانون الذي يسري على الحياة الحيوانية، أي الصراع والنضال الذي لا ينقطع ولا يرحم، والانتقاء والرفض، والتقدم والنمو، ولا يحدث التعارض بين مصالح الأفراد فحسب، بل بين مصالح الكائنات الاجتماعية أيضا، وأخيرا بين مصالح مجتمعات بأكملها في علاقاتها المتبادلة. ويرجع ظهور جميع أشكال المجتمع إلى الصراع من أجل الوجود عن طريق عمليات طبيعية كانتقاء السلالات، كما أن هذه الأشكال تظل خاضعة لقوانين هذه العمليات. وهنا نستطيع أن نقول إن النظرية حتى الآن هي نظرية بيولوجية خالصة في المجتمع، بالغت في حد التطرف في تأكيد المبدأ الدارويني حتى تطبقه على الحياة الاجتماعية، غير أن «كيد» يخلط عند هذه النقطة بهذا النسيج الاجتماعي سلسلة من الأفكار الرئيسية التي تضفي على نظريته طابعها المميز، والتي يرجع إليها قبل غيرها، الطابع الجذاب في هذه النظرية. فهو أولا يبالغ دون تحفظ في تقدير أهمية العوامل العاطفية في الإنسان، وفيما يستتبعه ذلك من إقلال من أهمية العوامل العقلية والذهنية، وذلك لصالح رأي في علم الاجتماع يغدو، لهذا السبب، مبنيا على أساس عاطفي قبل كل شيء. وهكذا يرى «كيد» أن الصفات العاطفية لا العقلية هي أول الصفات التي تولدها وترعاها عملية الانتقاء الطبيعي، وهي التي تشجع على النهوض البشري.
وهو يعزو إلى الصفات الأولى فعالية اجتماعية أقوى بكثير مما يعزوه إلى الثانية، بل إنه يذهب إلى حد القول: إن كل ما يرتبط بالعقل والفهم والتعقل والعلم - أي بالاختصار بمعقولية الإنسان - هو عامل معاد صراحة للتطور، وعقبة في وجه التقدم، ومن ثم فلا يوجد في نظره ارتباط علي بين ارتفاع مستوى النمو الاجتماعي والذهني، وهو يرى أن الاختلاف الذي يميز تلاميذ المدارس في المستويات الحضارية العليا عنهم في المستويات الدنيا، ليس اختلافا في التقدم العقلي، بل في مدى نمو القوى العاطفية. وهكذا أدخل عاملا جديدا على المذهب التطوري، لم يسبق لأحد التنبيه إليه، أو على الأقل لم ينبه إليه بمثل هذه الصراحة وهذا التحمس؛ إذ إن التطورية، كما عرضها كل ممثليها البارزين، كانت تشيد بالمعرفة والعلم (وبالتالي بالإنسان من حيث هو عاقل) بوصفها مثلا عليا، وجعلت كل نهوض فردي واجتماعي متوقفا عليها. أما عند «كيد» فإن الإحساس يقوم بالدور الذي كان يقوم به العلم، فيصبح العامل الأول في التطور الاجتماعي، أي العامل الذي يكون المجتمع بحق، فهو نقيض العقل، وهو على عكسه يبدي فعالية اجتماعية كبيرة، ويتضح أنه هو القوة الدافعة بالتطور إلى أعلى.
غير أن عرضه ينطوي على نقطة أخرى، تماثل السابقة في أنها بدورها لم تقترن من قبل أبدا بمبدأ التطور، فكيد يوحد، بطريقة عامة خشنة سريعة مميزة له، بين عالم الشعور ومجال الدين (وكذلك بينه وبين مجال الأخلاق، ولكن بمعنى ثانوي). ويستتبع هذا الرأي بضعة نتائج غريبة جدا بالنسبة إلى التطور والتاريخ. وينبغي أن يلاحظ أولا أن المفهوم الذي يربطه كيد بالدين يشابه كل مفاهيمه وصيغه الأخرى في افتقاره إلى التحدد والوضوح. وعلى أية حال فإنه يعني بالدين ظاهرة اجتماعية في المحل الأول، ولا يمل من تأكيد طابعه العاطفي فضلا عما فيه من جزاء خارج عن العقل. وهو يستبعد عنه كل العناصر المعقولة بوصفها متناقضة معه تناقضا أساسيا، ويعلي من قيمة طابعه الأخلاقي فوق طابعه الديني الصرف. وهكذا يصل بنا، عندما يتأمل الأمر من وجهة نظر التطور الاجتماعية، إلى النتيجة القائلة إن الدين يمثل مبدأ الانتقاء الحقيقي في الصراع من أجل البقاء. فالعملية التطورية تعلي أولا وقبل كل شيء الطابع الأخلاقي الديني؛ إذ ترى أن هذا العامل هو الذي يثبت فعالية اجتماعية تفوق فعالية كل عامل آخر، ولا سيما النظري، فليس ثمة قوى تشجع على التقدم الاجتماعي بقدر القوى الأخلاقية والدينية، وكل الشعوب المتدينة لا بد أن تتغلب في الصراع من أجل الحياة على الشعوب غير المتدينة وتثبت أنها أصلح للبقاء. والدين هو أعظم قوة اجتماعية موجودة، وقيمته تتضح في أنه يثبت أنه أقوى سلاح في صراع الأجناس والشعوب المتنافسة. وأهم الأسباب المؤدية به إلى اكتساب هذه الأهمية البارزة أنه يثير المشاعر الغيرية في الإنسان ويرعاها، ويعلمه إنكار الذات في سبيل الجماعة، وكل هذه أمور يعجز عنها العقل، الذي هو وظيفة هدامة أكثر منها بناءة. وأعلى صور التركيب الاجتماعي هي تلك التي تبنى على أكبر قدر من الإيمان الديني والإرادة الأخلاقية، وأعلى صور الإيمان الديني هي المسيحية، التي يرى «كيد» أنها هي عصب الحضارة الغربية بأسرها، والدعامة الأساسية التي يرتكز عليها البناء بأكمله. ويقترن بهذه الفكرة تفاؤل واضح التعصب في التقدم، يضلله الإعجاب الأعمى بالتقدم الرائع الذي تحقق في عصره، حتى لينسى ما يحمله هذا العصر ذاته في ثناياه من عيوب وأخطاء.
وتقترن بهذا أيضا مناقشات متعلقة بفلسفة التاريخ، ومعنى المدنية الغربية ودلالتها، كما يعرضها كيد في مؤلف تال هو، «مبادئ المدنية الغربية
The Principles of Western Civilization » (1902)، غير أن هذا لا يعدو أن يكون تكرارا مطولا لحججه السابقة ، ولا يكاد يحوي أية أفكار جديدة. ومثل هذا يصح على كتابه الأخير، «علم القوة
The Science of Power » (الذي نشر بعد وفاته سنة 1918)، وهو بدوره كتاب أحرز نجاحا عظيما، وكتب تحت تأثير الحرب العالمية الأولى. ويتضح مقدار عناد «كيد» في تشبثه بمبادئه إذا أدركنا أن كارثة مدمرة كالحرب العالمية الأولى قد عجزت هي ذاتها عن شفائه من وهم التقدم المسيطر عليه.
وينبغي أن يتسع المقام هنا للكلام عن كاتب آخر احتل مركزا مستقلا، بل مركزا منعزلا في نواح عدة، داخل الحركة التطورية، إذ إنه قد خرج عن إطار النظرية التطورية أكثر مما التزم حدود هذا الإطار؛ ذلك هو صمويل بطلر
Samuel Butler (1835-1902). وهو من أطرف شخصيات العصر الفكتوري؛ إذ كان رساما موسيقيا وفيلسوفا وأديبا كاتبا وناقدا ومترجما ومتبحرا في شعر هوميروس وشكسبير، ومؤرخ سير وروائيا ومربي أغنام. وقد تمكن، رغم تعدد أوجه نشاطه، من أن يضيف عناصر أصيلة خلاقة إلى كل الميادين التي اهتم بها على وجه التقريب، ولكنه لم يكن متخصصا أو خبيرا محترفا في واحد من هذه الميادين، وإنما كان فيها كلها هاويا عبقريا، وموقظا ومثيرا للاهتمام لدى الآخرين، بعثر أفكاره وخيالاته الرائعة بسخاء كاد يصل إلى حد الإسراف المفرط. ولقد كان يتخذ موقف المعارضة من كل الآراء والقوى السائدة في عصره تقريبا، وكان على خلاف مع المعايير والقيم السائدة في كل المجالات تقريبا، ووقف يعارض كل ما كان مقدسا وصحيحا، في أعين معاصريه، في مجالات الأخلاق والدين والكنيسة والعلم والفلسفة والتعليم. وهكذا كان يسبح ضد تيار عصره، ويهز العالم من سباته، وكانت شخصيته منعزلة غير محددة المعالم، ولكنها كانت رغم ما تعرضت له من نقد وإنكار، خلاقة زاخرة بالمعاني بالنسبة إلى المستقبل.
ومن الصعب أن يحدد المرء الموضوع الأساسي لاهتمام شخصية لها تلك الأوجه والنواحي المتعددة التي كانت لبطلر، ولكنا نستطيع أن نفترض أنه كان ينتمي إلى مجال الفكر؛ فقد كان له على أية حال ذهن فلسفي من الطراز الأول، وإن يكن قد افتقر إلى التعليم والمنهج الذي يتميز به المتخصص والدارس المتبحر . وكان تفكيره يشع في معظم أوجه نشاطه الأخرى، ومن السهل التعرف عليه فيها (ولا سيما في الروايات) مثلما يمكن التعرف عليه في مناقشاته الأقرب إلى الروح المنهجية. ولقد كان تحرر ذهن بطلر - الذي كان له عقل من أذكى وأرق وأجرأ العقول في عصره - أقرب إلى طابع التحرر من الأوهام ومن قيود التراث وأغلاله، منه إلى طابع «المفكر الحر
freethinker » بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، ورغم أنه كان هداما إلى حد غير قليل في نقده الشكي وتهكمه، فإن تفكيره كان إيجابيا بناء، ومعبرا عن قوة خلاقة متأصلة فيه.
والفكرة الرئيسية في فلسفة بطلر هي فكرة التطور أو النمو، ورغم أنه أدخل على هذه الفكرة تعديلات كبيرة، ووسعها إلى حد بعيد، فقد ظلت إلى النهاية مستحوذة عليه. ولقد كان واحدا من تلاميذ دارون، ورحب بأفكار أستاذه بحماسة بمجرد ظهورها، وكانت تعني بالنسبة إليه تجربة تحكمت في توجيه تفكيره التالي. ولكنه لم يكن الرجل الذي يكتفي بقبول أفكار تنقل إليه، أو يدين بها لمجرد كونها هي المسيطرة على الأذهان في عصره، بل إنه - على العكس من ذلك - سرعان ما وجد نفسه معارضا لها في النقاط الرئيسية، ونظرا إلى أنه كان في الأصل واحدا من أوائل أنصارها، فقد أصبح الآن واحدا من أوائل نقادها. ومن المؤكد أن اختبار بطلر النقدي لنظرية الأصل السلالي
theory of descent
هو أرق وأعمق نقد ظهر في إنجلترا حتى نهاية القرن السابق. وهذا يرجع أساسا إلى أن هذا النقد لم يتعرض للمبدأ الجديد من الخارج، أو تطبيق معيار معد مقدما يحكم به عليه، وإنما تعرض له بمعيار يرجع في أصله إلى باطن النظرية ذاتها؛ ومن ثم فقد هدمها وقلبها رأسا على عقب في عقر دارها. ويمكن القول إن بطلر قد استبق بطريقة ضمنية على الأقل - إن لم يكن بطريقة صحيحة - تلك التعديلات والتجديدات التي لم تدخل على الداروينية إلا بعد وقت طويل، وذلك في كتابات نيتشه وبرجسون، والمذهب الحيوي الجديد
Neo Vitalism
والبرجماتزم وفلسفة الطفرة
Emergence ، فهنا كان بطلر، كما كان في نواح أخرى سابقا عصره بمراحل ، ورغم أن حياته تنتمي إلى القرن التاسع عشر، فإن ذهنه ينتمي إلى القرن العشرين .
وليس في وسعنا أن نشير إلى تلك الأفكار النيرة الأصيلة التي ندين بها لبطلر، والتي كانت في عصره جديدة غير مألوفة وأصبحت في وقتنا الحالي شائعة، إلا بطريقة موجزة وبعبارات عامة. ولنبدأ بأبرز النقاط أولا، فقد أدرك بطلر منذ وقت مبكر ببصيرة نفاذة أن مذهب التطور معرض لخطر التيه في بيداء فلسفة مادية آلية قاحلة؛ ومن ثم فقد اتجهت كل جهوده إلى إعادة المذهب إلى طريق التفسير المثالي والغائي للحياة. ولقد اهتدى إلى حليف في شخص الفيلسوف الألماني إدوارد فون هارتمن
E. Von Hartmann ، الذي اتفق معه في أساسيات نقده للداروينية، وإن يكن قد رفض أنظاره الميتافيزيقية فوضع فكرة وجود طاقة خلاقة للحياة مقابل آلية الانتقاء والوراثة، وافترض وجود نوع من القوة الأولية أو الإرادة الأولية التي تسود كل جزء من الكون، وتجمع الكل سويا في كائن عضوي كوني واحد. وهكذا أصبحت الفكرة التي تحتل مكانة الصدارة لديه هي فكرة الحياة بوصفها مبدأ خلاقا، لا تلك الحياة البيولوجية البحتة غير المكترثة بالقيم، وإنما الحياة التي كان لها من القيمة والجدارة المؤكدة ما نسبته النظريات الحيوية المتأخرة إليها. وتتضح أهمية تفسير بطلر للحياة بوجه خاص في بحثه في الذاكرة، وهو الذي كان يشبه بحثا آخر سبق أن قام به أ. هيرنج
E. Hering ،
29
وإن لم يكن بطلر قد عرفه، وازداد شيوعا فيما بعد بفضل مذهب «سيمون
R. Semon »
30
في «التذكر
mneme ». وتبعا لهذا المذهب ينبغي أن ينظر إلى «الحياة» على أنها صفة في المادة العضوية تتمكن بفضلها تلك المادة من التذكر، وتكون المادة «حية
animate » بقدر ما تكون لها هذه القدرة، وتتمثل هذه الصفة حتى في أصغر خلية، وإن تكن فيها غير واعية، وإليها يعزو بطلر العمليات النفسانية الغرضية الواعية، بل يعزو أيضا كل نوع من التحقق اللاشعوري، من تكرار وتعود ووراثة، وأخيرا عملية التطور ذاتها. ويكفي هذا لإيضاح أن الذاكرة ليست مجرد ظاهرة فردية، وإنما هي صفة يمتلكها الجنس بأكمله، وأن هناك نوعا من «الذاكرة القبلية
tribal memory » تبدأ عملها عند مولد الفرد، ولا تنقطع بموته، الذي لا يعدو أن يكون تغييرا للذاكرات. وهكذا يمكن توريث الذاكرة من حيث هي وظيفة، وبقدر ما هي موروثة فإنها تسمى بالغريزة، وتصبح العادة غريزة عندما تمارسها الأجيال المتعاقبة بدرجة كافية من التكرار والانتظام. ولا اختلاف بين الغريزة والعقل
intellect
من حيث المبدأ، وإنما يختلفان في الدرجة؛ إذ إن الأفعال التي يكون أصلها عقليا قد تنحدر إلى مرتبة الغرائز إذا ما تكررت بقدر كاف. وهذا يصدق أيضا على الفرق بين العضوي واللاعضوي، فبطلر يرى أنه لا توجد أية هوة فاصلة بينهما، وإنما تعبر الحدود على الدوام في كلا الاتجاهين. فحتى المادة غير الحية ذاتها قادرة على «التذكر»، وبقدر ما هي كذلك يمكن أن تعد حية، وكل الكائنات الحية مكونة أساسا من نفس المادة، وكان يمكن أن تكون متماثلة من جميع الأوجه لولا تباين «ذاكراتها»، واختلاف قدرتها على التذكر، والذكريات الفعلية المختزنة فيها.
ومع ذلك فمن الواجب ألا تفهم فكرة بطلر عن الذاكرة بمعنى آلي؛ فهي فكرة غائية تماما، مثلها مثل الحياة التي يكون قوامها الفعلي هو هذه الذاكرة، فالحياة غرض ومقصد وإرادة وتطلع إلى الأمام بكل معاني هذه الكلمات، أي هي بالاختصار غاية خلاقة، وليست مجرد عملية آلية أو تفاعل متخبط بين قوى طبيعية. وينساب مجرى الحياة في جميع مراحل التطور العضوي (بل في جميع مراحل التطور غير العضوي أيضا، وذلك بمعنى أوسع في الكم وأضيق في الكيف)، فيوحد بين كل كائن حي وبين السلسلة اللامتناهية لأسلافه، ويكتسب كل كائن طابعه الفردي المستقل بفضل تلك الفعالية الدائمة المستمدة من تلك السلسلة، والتي تؤدي وظيفتها دون وعي كما تختزن في الذاكرة. غير أن القوة الدافعة الأولى التي تتحرك في كل حياة عضوية وتنشطها هي الإرادة، ويرتبط بها الإيمان الذي يعطي الإرادة القدرة على أن تصبح ما تختاره. وفي رأي بطلر أن قدرة الإرادة هائلة إلى حد أنه لو أرادت الحمامة بعزم وتصميم أن تصبح طاووسا، لما حال بينها وبين ذلك أي انتقاء طبيعي .
وإن المرء ليلمس هنا مقدار التحول الذي طرأ على مقولات دارون، ومدى الطابع الجديد المختلف تماما الذي انطبعت به النظرية التطورية، فالطريق الذي سلكه بطلر هو بالتأكيد ذلك الذي يؤدي من الآلية إلى الغائية، ومن الحتمية إلى حرية الإرادة، ومن «النزعة البيولوجية» إلى النزعة الحيوية، ومن الطبيعية إلى المثالية، ومن الانتقاء الطبيعي كما قال به دارون إلى «الدفعة الحيوية
élanvital » الخلاقة كما قال بها برجسون، وفكرة «الطفرة
emergence » عند ألكسندر، بل وإلى التحليل النفسي كما قال به فرويد آخر الأمر، ولم يكن ذلك كله إلا تعبيرا عن شخصيته المتألقة حيوية وذكاء.
31
ولقد كانت فلسفة بطلر إشارة إلى نقطة التحول في المذهب التطوري الطبيعي، وعلامة على حلول ساعة تقرير مصيره، ومع ذلك فإن أفكاره الرائعة، التي توصل إليها بلمحات حدسية أكثر مما استخلصها علميا، لم تثر الاستجابة التي كانت جديرة بها خلال حياته، ولم يكن لها إلا دور ضئيل في العملية الطويلة التي أعيدت بها صياغة فلسفة التطور ووضعت في قالب جديد ابتداء من مطلع القرن العشرين، وقد تضافرت في تحقيق هذه النتيجة قوى متعددة ومتنوعة، تنتمي إلى مدارس وجماعات متباينة، ولكن أقواها وأنجحها وأبعدها أثرا كانت تلك التي ترجع في أصلها إلى فلسفة برجسون، فقد كان كتابه «التطور الخلاق
L’Evolution Créatrice » هو الذي أحدث التحول الحاسم في اتجاه التفكير التطوري؛ إذ إنه رغم بقاء شكل فكرة التطور على ما هو عليه في ذلك الكتاب، فإن مضمونها ومحتواها قد تغير تماما. وأوضح مظهر للهوة الشاسعة التي تفصل بين النظرية القديمة والنظرية الجديدة هو اختبار برجسون النقدي الموجز لسبنسر، وهو الاختبار الذي ختم به كتابه الرئيسي (انظر التطور الخلاق، ص292-299، الترجمة الإنجليزية ص384-391)، فهو هنا يشرح كيف أن المعنى الحقيقي للتطور، بوصفه نموا متقدما
development
قد فات سبنسر تماما. ولقد كان من نتيجة عمل برجسون أن أصبح من المستحيل بعد ذلك قيام فلسفة تطورية بالأسلوب القديم، صحيح أن الأشكال القديمة ما زالت موجودة، ولكنها أشكال لا حياة فيها، ورغم أننا ما زلنا نصادف حتى يومنا هذا متعصبين للمذهب القديم، فإن كل مفكر لديه أي شيء حقيقي يقوله في هذه المشكلات أصبح منذ ذلك الحين يقف - وينبغي أن يقف - في دائرة نفوذ تفكير برجسون.
وهذا يصدق أولا وقبل كل شيء على فلسفة «الطفرة
Emergence » التي أصبحت اليوم جزءا من تراث المذهب التطوري، وهي تكون تيارا ضخما في الفكر الأنجلوسكسوني المعاصر، وترتبط على أنحاء شتى بالمذهب القديم، غير أن ما تتميز به هو أن البرجسونية متغلغلة فيها تماما، ولا يمكن تصورها بدونها. وعلى ذلك فلن نتحدث في هذا المقام عن هذه المرحلة القريبة العهد في النظرية التطورية، وإنما سنعود إلى ممثليها المتعددين في سياقات أخرى، وإذا استثنينا الفكرة الواحدة التي ساهم بها ليويس (انظر: [الباب الأول: المدارس الفكرية المتقدمة - الفصل الثالث: المدرسة التطورية الطبيعية])، فإن أهم ممثليها - أعني مؤسس النظرية - هما ألكسندر ولويد مورجان
Lloyd Morgan ، ومن الممكن تتبع تأثيرها، بدرجات تتباين عمقا، في كتابات هبهوس، وشيلر
Schiller
ومكدوجال
McDougall
وولدن كار
Wildon Carr
وسمطس
Smuts ، ومن الأمريكيين ديوي
Dewey
وسيلرز
Sellars
وبريتمان
Brightman
وسبولدنج
Spaulding ، أي لدى مفكرين ينتمون إلى مدارس فكرية متباينة كل التباين، وما قيل على نظرية «الطفرة» يصدق أيضا على البرجماتية؛ إذ إن هذه، وإن لم تكن تعد منتمية إلى التطورية بحق، فإن لها صلات ببعض فروعها في أفكار رئيسية عديدة لها.
ولكن من المهم أن نلاحظ أن أهم ممثلي البرجماتية من الإنجليزية، وهو «شيلر
F. C. S. Schiller »، قد ظهر تفكيره من الداروينية مباشرة، وأن مذهبه الناضج لا ينطوي بدوره على أي شيء يتعارض مع هذا الأصل، فأول مرحلة سابقة على البرجماتية في تفكيره، وهي التي تتمثل كتابة «ألغاز أبو الهول
The Riddles of the Sphinx » (1891)، مبنية كلها على أساس تطوري. بل إن هذا الكتاب قد عبر بطريقة مستقلة عن نظريات دارون وسبنسر ذاتها، وإن يكن يدين لها بالكثير بطبيعة الحال (انظر فيما بعد الفصل الثاني من الباب الثاني)، ولكن البرجماتية بدورها لم تكن بمنأى عن التأثر بذلك التحول الذي أدخل على مبدأ التطور، إنما استوعبته ضمن تعاليمها.
على أن الاتجاه الفكري البرجسوني لم يقتصر في تأثيره على هذا، وإنما تغلغل - وما زال بالفعل يتغلغل - في الفلسفة الحديثة في أنحاء شتى، غير أنه قد انقسم إلى عدد من التيارات والنزعات بلغ في ضخامته حدا يجعل من المستحيل الآن النظر إليه على أنه تركيب موحد، والدليل على ذلك أنه منذ بداية تأثير البرجسونية أصبح كل مفكر إنجليزي ينتمي، في نواح معينة، إلى المعسكر التطوري، أو يشيد بالتطورية في هذه النقطة أو تلك على الأقل.
وسوف نختتم هذا القسم ببحث أكثر تفصيلا لفلسفة هبهوس،
32
الذي يمكن بالفعل أن تعد تعاليمه أكمل مظهر للفكر التطوري الحديث، على أن عرضنا له سيبين أن هذا الفكر الخصب الغزير الإنتاج لا يمكن أن يحصر في الإطار الضيق لمبدأ واحد بعينه، أو ينسب إلى مدرسة خاصة أو اتجاه فكري معين، وإنما هو يتجاوزه هذه الحدود بمراحل، ويحتاج إلى أن يقدر بمعايير خاصة به؛ لذلك ينبغي أن نؤكد بكل وضوح أننا لا نعني ببحثنا لمؤلفاته في هذا السياق، أن نصدر مقدما أي حكم حول طابعها أو اتجاهها.
ولا تتميز أعمال هبهوس في مجال الفلسفة بعمقها وأصالتها بقدر ما تتميز برحابة نظرتها وشمول نطاقها وتشعب مجالات اهتمامها. فقد كان ذهن هبهوس، بعد ذهن سبنسر، هو أكبر ذهن موسوعي بين الفلاسفة الإنجليز. كما كان باحثا ذا مركز رفيع مستقل في مجالات مختلفة للعلم، بل لقد تحدى روح التخصص الشائعة اليوم، عن طريق التحكم في ذخيرة تدعو إلى الدهشة من المعارف العامة والخاصة، والجمع بينها سويا في إطار تفسير فلسفي موحد، وفضلا عن ذلك، فلكي يكون المرء مجرد فكرة عن نشاطه الذي لا ينفد، ومدى تشعب مجهوداته، ينبغي أن يذكر أن نشاطه بوصفه عالما وفيلسوفا لا يمثل إلا شطرا واحدا من مجموع أعماله، وأن حياته قد استغرقت إلى جانب ذلك، في عمل متواصل في الصحافة والسياسة والخدمة الاجتماعية والتنظيم والتدريس وما شابه ذلك.
ويتضح الطابع العام للإطار الفلسفي الذهني لهبهوس في نفوره العميق من كل تأمل مجرد يتم في فراغ، فقد كان تفكيره مبنيا على الدوام على أساس متين من البحث الدقيق في مجال معين من الحقائق التجريبية، وكان ينهل على الدوام من معين التجربة ليجدد بها هذا التفكير، ولكنه مع ذلك لم يتوقف أبدا عند حدود الوقائع المجردة، وإنما رأى نفسه مضطرا على الدوام إلى إحراز المزيد من التقدم نحو تكوين مركب ومنظور فلسفي عام. وإذا شئنا أن نعبر عن الأمر تعبيرا مجازيا، لقلنا إنه كان يحرث الحقل التجريبي ويبذر فيه البذور الفلسفية، لكي يجني ثمارا فلسفية. وتتمشى مع ذلك تلك القرابة الوثيقة التي قال بها بين الفلسفة والعلم، فليس بين الاثنين في نظره فارق أساسي. وعلى حين أن العلوم تسعى إلى إخضاع جزء من عالم الواقع في وجه محدد من أوجهه، للتفسير العقلي، فإن الفلسفة تسعى إلى الوصول إلى معرفة لعالم الواقع بأسره وإخضاعه لنظرية شاملة؛ لذلك ينبغي على الفلسفة أن تطأ طريق العلوم الخاصة. ولما كان هذا طريق تقدم مستمر لا نهاية له، فإن الفلسفة - التي هي بدورها سعي دائم - ينبغي أن تتجنب كل استنتاجات نهائية، وإن تتبع المشكلات لذاتها أو من أجل محتواها الواقعي لأهم من إتمام بناء الفكر الفلسفي المتعدد الحجرات في مذهب متناسق الخطوط، وليس ثمة مبرر للمجهود الذي يبذل في بناء المذهب، وهو المجهود الذي يعترف به هبهوس صراحة، والذي كان واضحا كل الوضوح في تفكيره، إلا إذا حدث ذلك في مذهب مفتوح يحتفظ بالمشكلات المتعددة في صورتها الخاصة ويستبقيها، ويكون من الممكن فيه دائما تدفق مادة واقعية جديدة مستمدة من مجهودات العلوم الخاصة. وهكذا فإن الهدف الأول للفلسفة هو صنع مركب من العلوم، أو بعبارة أدق: مركب يكون منسجما مع نتائج البحث المتخصص، ويتخذ منها أساسا يبنى عليه، ومع ذلك فهي لا تبلغ من ضيق الأفق حدا يجعلها تقف عند حد إضفاء صحة مطلقة على الوجه العلمي للأشياء، وإنما تشمل كل مجال للتجربة يقبل البحث النظري، وضمنه عالم القيم الذي تنتمي إليه المجالات الدينية والجمالية والأخلاقية. وهكذا فإنها - بأشمل معنى للكلمة - مركب، ليس فقط للوجود كما يعرف عليها، وإنما للوجود في كل مجالاته وتدرجاته.
ولقد أدى الأساس التجريبي الواسع الذي بني عليه كل ما توصل إليه هبهوس من نتائج فلسفية، واستعداده الدائم لاستخلاص نتائج تفيد الفلسفة من كل إضافة جديدة تنتمي إلى مجال الواقع المجرب، أدى ذلك إلى إضفاء طابع مرن ذي نسيج رخو على تفكيره، كان هو المميز له حتى بالنسبة إلى أقوى المذاهب الفلسفية تأثيرا فيه. وكما أنه استعان بكل ما كان يبدو له ذا دلالة في العلم والحياة لكي يزيد تفكيره خصوبة، فكذلك كان ذهنه على الدوام متفتحا بالنسبة إلى المذاهب الفلسفية للسابقين عليه ولمعاصريه. وهو لم يكن يبالي، عند استيعابه وتمثله لتفكير شخص غيره، باسم المدرسة التي ينتمي إليها أو الاتجاه الذي يتبعه، وإنما كان يهتم فقط بالقيمة الحقيقية لذلك التفكير ومدى إمكان انطباعه على مذهبه في إطاره الخاص. وهكذا كان معاديا لكل تحيز فلسفي، ولم يكن يدين بالولاء المطلق لأي أستاذ بعينه، وإنما أصبح، بفضل إصغائه لأصوات الكثيرين، وسيطا ومعبرا بين حركات مختلفة يدب الخلاف فيما بينها. ويتمثل هذا الاتجاه إلى التوفيق حتى في أول كتبه، الذي يهدف خاصة إلى التوفيق بين المعسكرين المتضاربين في التجريبية التقليدية، وبين المثالية العائدة إلى الظهور. وهكذا مهد الطريق، منذ أواخر القرن الماضي، لذلك التلاقي بين الأضداد، الذي لم تظهر أوسع وأكمل آثاره إلا بعد مضي وقت طويل. غير أن هذه الصفة في عمل هبهوس قد تعلل لنا عدم بلوغ هذا العمل ما يستحقه من النجاح، رغم كل ما اتصف به من امتلاء وثراء، فلقد كان الاعتراف الذي لقيه من الفلاسفة المحترفين أقل كثيرا مما أنجزه بالفعل؛ إذ لم تستطع واحدة من المدارس والجماعات المتعددة أن تحسبه ضمن من ينتمون إليها، أو أن تدرج عمله، بكل مداه ونطاقه، في مجالها الخاص.
وهكذا فليس من الصحيح أن يسمى هبهوس أفضل ممثل للمدرسة الإنجليزية التقليدية،
33
ولا من الصحيح مقارنة وجهة نظره بوجهة نظر بوزانكيت،
34
وإنما الأصح أنه يعلو عليهما معا، عن طريق اتخاذ أو رفض عناصر مكونة لكل منهما، وبذلك يصل إلى مركب يحمل بأكمله طابعه الذهني الخاص. وإنا لنجد في هذا الصدد كلمة لها دلالتها في تصدير هبهوس لأول كتاب فلسفي ألفه، وهو «نظرية المعرفة»، وهي كلمة تلقي ضوءا واضحا على الموقف، وتظل منطبقة على مؤلفاته التالية مثلما تنطبق على مؤلفاته الأولى، فهو يقول: «وهكذا يبدو أن الوقت قد حان للقيام بمحاولة نزيهة لمزج ما هو صحيح وقيم في التراث الإنجليزي مع المذاهب الجديدة التي توطنت الآن بيننا، ومن واجبنا حين نقتبس من لوتسه
Lotze
وهيجل، ألا ننسى أننا قد تعلمنا أيضا من مل وسبنسر.» ويبدو أنه كان يقصد بهذه الكلمات «جرين
Green » على التخصيص؛ إذ إن هذا الأخير قد حاول قبل حوالي عشرين عاما أن يصرف أنظار الجيل الجديد عن مذاهب مل وسبنسر المتأخرة، ويشجعها على دراسة كانت وهيجل (انظر طبعة جرين لكتاب هيوم «بحث في الفهم البشري،
Treatise » المجلد الثاني، ص71).
ولقد كان مذهب سبنسر التطوري هو الذي تحكم أولا في الطابع الذي اتخذته أفكار هبهوس، فقد كان في شبابه يرى أن مذهب سبنسر هو الكلمة الأخيرة في العلم، ولكنه سرعان ما أخضع هذا المذهب بعد ذلك لتعديل شامل، وازداد تباعدا عنه بتقدم حياته. ولقد أخذ عن سبنسر الطابع الموسوعي الشامل للتفكير الفلسفي، وتفسير النزعة الفلسفية إلى بناء المذاهب بأنها جمع تركيبي لنتائج البحث العلمي، وكانت تجمعه بمل نزعته التجريبية في مجال نظرية المعرفة والمنطق من جهة، واتجاهه الليبرالي في السياسة، ونظريته الفردية في الدولة من جهة أخرى، ولكن هبهوس كان يدين للتجريبين القدامى بأكثر مما يدين به للتجريبيين المتأخرين، وإنه ليذكرنا ببيكن، لا في موقفه الذهني العام فحسب، بل في منهجه العلمي الدقيق ونظرته إلى الفلسفة على أنها «علم العلوم
scientia scientiarum »، كما يذكرنا بلوك في نظرته الواقعية إلى المعرفة وفي طريقته العامة في معالجة مشكلة المعرفة، أما النقاط التي اتفق فيها مع هيوم فهي كثيرة إلى حد أنها تتغلغل في نظريات هبهوس من بداياتها إلى نهايتها، كذلك لم يخل الأمر من تأثر لتفكيره بوضعية كونت؛ فقد استمد من كونت اتجاهه نحو علم الاجتماع بوصفه العلم الذي يبحث في المجتمع ، كما استمد منه (أو من تلميذه وداعيته الإنجليزي «بريدجز
Bridges ») فكرة الإنسانية، وإن لم يكن قد اتخذ لنفسه الموقف الوضعي المضاد للميتافيزيقا. ومن جهة أخرى فإن الأواصر التي تربط بينه وبين الحركة المثالية قوية جدا، فآراء جرين في الفلسفة الاجتماعية والسياسية تتفق جزئيا مع آراء هبهوس، كما أن الأخير يدين، في مجال المنطق، لبرادلي وبوزانكيت بقدر ما يدين لمل، بل إن بوزانكيت بوجه خاص قد أصبح، كما اعترف هو ذاته، مرشده العقلي في نواح عديدة، على الرغم من عدائه المطلق لنظرية بوزانكيت الهيجلية في الدولة، وأخيرا فقد تأثر خلال تكوينه لنظريته في المعرفة بمفكرين مثل ت. كيس
T. Case
وج. كوك ولسن
J. Cook Wilson
وهم من المفكرين الأوائل الذين استبقوا الحركة الواقعية، وقد استمتع بتبادل الأفكار معهم في أكسفورد.
ويستدل من مجرى تطور فلسفة هبهوس على أنه بينما كان ذهنه في شبابه عاجزا، شأنه شأن معظم معاصريه، عن التخلص من تأثير الهجوم القوي الذي شنته مذاهب دارون وسبنسر وهكسلي، فسرعان ما تكون لديه رد فعل قوي على نظرياتهم التطورية ذات النزعة الطبيعية، وهو رد فعل ساعد على دعمه الجو العقلي في أكسفورد التي كانت في ذلك الحين معقل المثالية. فهناك شعر شعورا كاملا بما أحدثته الحركة الجديدة من ضغط ومن تأثير في النفوس، فانساق في تيارها وقتا ما، ولكنه من جهة أخرى قد أحس بنفور من تأملات الهيجليين المفرطة في الخيال والتجريد، ولم يجد تعطشه إلى الوقائع وإلى القبض بشدة على ناصية العالم الفعلي ما يرضيه في فلسفة عقلية خالصة لا تصل إلى الاكتمال إلا بالتحليق في الفراغ. وهكذا وجد نفسه مضطرا على الدوام إلى العودة إلى الاستطلاع التجريبي والأبحاث الدقيقة في الميادين العلمية الخاصة، أو إلى أوجه نشاط ذات طابع عملي واضح. ولقد كان أول كتبه، الذي ينتمي إلى سنوات إقامته في أكسفورد، والذي يتعلق بالحركة العمالية (1893)، شاهدا على اهتمامه، منذ هذا الوقت المبكر، بالمسائل الاجتماعية والسياسية، بل إنه كان قبل ذلك، في عام 1888، يقضي عدة ساعات يوميا في معمل عالم البيولوجيا ج. س . هولدين
J. S. Holdane ، منهمكا في تجارب في علم وظائف الأعضاء والكيمياء الحيوية على الحيوانات، وكانت هذه التجارب إعدادا لأبحاثه الرائدة في ميدان علم النفس الحيواني، وقد عاد فيما بعد إلى المجال النظري البحت في دراسته للمسائل المنطقية والمعرفية والميتافيزيقية. وكانت أولى ثمرات جهوده الفلسفية كتاب «نظرية المعرفة» (1896)، الذي قدم فيه عرضا شاملا لمجال الفلسفة النظرية بأسرها، يكشف عن نضوج غريب وسعة إطلاع عجيبة، ويكون أساس جميع مؤلفاته التالية. وبعد هذه المحاولة الأولى، التي لم تلق بالتأكيد إلا اهتماما أقل بكثير مما يجب، وإن كانت قد أعلنت ظهور مفكر له ذهن قوي متين رحب، ولم يكن لها إلا نظائر قليلة بين الكتب الأولى للفلاسفة، قطع هبهوس فجأة مجرى أعماله العلمية، وبدأ يخوض حياة صحفي عامل، ولم يعد إلى العمل الجامعي إلا فيما بعد، عندما أصبح إنتاجه يشمل مجلدين كبيرين في التطور التاريخي للذهن والأخلاق، مبنيين على أبحاث متخصصة دقيقة. وقد كونت هذه الكتب أساس الدراسة المترابطة لجميع المسائل الفلسفية المتشابكة، وقد أودع هبهوس خلاصة أبحاثه ودراساته في كتاب رائع هو «النمو والغرض
Development and Purpose » وهو عرض منهجي نشر لأول مرة سنة 1913، ولكن أعيد طبعه قرب نهاية حياته (1927) بعد مراجعة دقيقة. وفي هذا الكتاب تخلى هبهوس عن طريقة الاستطلاع الحذر التي كان يعالج بها المسائل الميتافيزيقية من قبل، واتخذ من المشكلات النهائية موقفا يؤدي إلى استخلاص نظرية تضفي على فلسفته اكتمالا ووحدة متسقة. وقد شغل في العقد الأخير من حياته ببحث شامل في علم الاجتماع، عرضه في أربعة كتب، وجمع هذه الكتب (بطريقة خارجية أكثر منها داخلية) تحت عنوان «مبادئ علم الاجتماع»، وفي هذا المؤلف أيضا ظل هبهوس مخلصا لمبدئه الرئيسي في الارتقاء من الوقائع إلى النظرية، وفي اختبار نتائج النظرية وتبريرها مرارا وتكرارا بالرجوع إلى الوقائع.
ومن الطبيعي أننا لا نستطيع أن نبحث هنا مختلف أوجه النشاط المتشعبة التي قام بها هبهوس بوصفه باحثا، وهي أوجه تمتد إلى ميادين متباينة إلى حد بعيد، كعلم النفس الحيواني، وعلم النفس المقارن والاجتماعي والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع بوصفه علما خاصا، والمنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، والأخلاق، وعلم الاجتماع الفلسفي، ونظرية الدولة. وعلينا أن نكتفي بتقديم موجز مختصر للسمات الأساسية لأفكاره الفلسفية بأضيق معاني هذه الكلمة، فنظرية المعرفة عند هبهوس، وهي النظرية التي سنطلق عليها اسم الواقعية النقدية
Critical realism ، تبدأ بالوعي أو الإدراك المباشر
apprehension - ومعنى هذا اللفظ عنده يقترب كثيرا من معنى «الإحساس»
sensation
عند لوك، أو «الإدراك الحسي
perception » عند باركلي أو «الانطباع
impression » عند هيوم - أي إنها تبدأ بمعرفة ما هو حاضر أو موجود مباشرة في الوعي - فكل معرفة تبدأ بالإدراك المباشر وتعود إليه في النهاية. وكون الشيء مدركا يعني بالضبط كون الشيء ضمن محتوى الوعي، والإدراك هو الفعل المعرفي الذي يوجه إلى ذلك المحتوى الحاضر مباشرة على الدوام، وهو يشترك مع جميع الأفعال المعرفية الأخرى في صفة التأكيد
assertion ، أي تأكيد أن الحاضر «موجود». وإمكانية الخطأ مستبعدة تماما فيما يتعلق بهذا المعطى الأول للمعرفة، فما نكون على وعي مباشر به، أي الواقعة الحاضرة المعطاة، تظل واقعة حقيقية حتى لو اتضح عندما ينظر إليها من مستوى معرفي أعلى أنها وهم. فالإدراك لا يبت بشيء فيما يتعلق بمركز الواقعة الموجودة، وإنما يؤكد أنها حاضرة في الوعي فحسب. غير أن هذا المعطى الأولي، الذي هو من حيث المبدأ بمنأى عن الخطأ، لديه منذ البداية قيمة معرفية خاصة، من حيث إنه هو الأساس الذي تفترضه مقدما جميع المعطيات الأخرى، والمعيار الذي تقاس عليه، فالإدراك هو محكمة النقض والإبرام في المسائل المتعلقة بصحة حقيقة جميع الأنواع الأخرى للمعرفة.
ومن الواضح أن الإدراك، من حيث صفة كونه مغيارا للحقيقة، يناظر تماما «الانطباع» عند هيوم، الذي تنحصر وظيفته في تبرير وإثبات صحة الأفكار بوصفها محتويات للوعي ليست هي ذاتها «حاضرة». وهكذا فإن مبدأ هيوم الأساسي، القائل إن الأفكار تثبت صحتها انطباعات مناظرة لها هو نفسه الكامن من وراء نظرية المعرفة عند هبهوس، بل ومن وراء فلسفته بأكملها بمعنى آخر، بقدر ما يكون من سماتها الأساسية اشتراط تحقيق كل حدس فلسفي بواسطة الوقائع التجريبية الكامنة من ورائها، وتلك هي الصفة المميزة لتجريبية هبهوس، وهي تجريبية تفترق أساسا عن المذاهب التجريبية الإنجليزية الكلاسيكية، في أن لها أساسا أوسع بكثير في التجربة، يتمشى مع التقدم الذي حققته العلوم ومع تراكم المواد المعرفية.
وسرعان ما تتحول التجريبية عند هبهوس، كما تحولت عند لوك، إلى اتجاه واقعي، وبذلك وجدت نفسها معارضة لكانت وجميع النظريات المثالية، فمحتويات المعرفة تعطى على أنها منتمية إلى العالم الواقعي، وكل ما يتعين على الفكر أن يفعله هو أن يعترف بهذه المحتويات، أي أن يكشفها أو يميط اللثام عنها، لا أن يبنيها، ومعنى ذلك أنه ليس ثمة معرفة «أولية
apriori » وإنما المعرفة «بعدية
aposteriori » فحسب؛ ولذلك لا يمكن أن تكون مادة المعرفة هي تلك الكثرة المختلطة التي قال بها كانت، والتي يتعين تطبيق المقولات الذهنية وصور التركيب عليها، ولا هي الفكرة البسيطة عند لوك، التي هي محتوى كيفي صرف، بل إن كل معطى - حتى ما يبدو منه بسيطا - مركب من البداية، أي إنه يضم، إلى جانب الكيف، مجموعة من العلاقات والترتيبات، كالامتداد والمقدار والشكل والوضع بل والاتجاه. وفي هذه النقطة يفترق هبهوس عن أساتذته التجريبيين، فالأفكار البسيطة عند لوك أو الانطباعات غير المترابطة عند هيوم لا يمكن أن تكون في رأيه محتويات للمعرفة، وإنما هذه الإحساسات المفككة لا تعدو أن تكون تجريدات فكرية، لا يناظرها شيء حقيقي، ففي أبسط إدراك مباشر، يدرك الذهن كلا معقدا أو واقعة عينية، تنطوي على ترتيب زماني ومكاني، وعلى علاقات أخرى متعددة بالإضافة إلى الكيف وحده. ولا شك أن تخلي هبهوس على هذا النحو عن مذهب الانطباعات المفككة عند هيوم، عن طريق القول بأن المعطى كل مركب، يربط بينه وبين مفكرين مختلفين عنه، ومختلفين فيما بينهم كل الاختلاف مثل «جرين» وهدجسون
Hodgson ، ويخلي الطريق لتدفق عناصر مثالية معينة في نسق التفكير التجريبي والواقعي.
ويستطيع الذهن إلى جانب تلقيه للمحتوى الحالي للمعرفة عن طريق الإدراك المباشر، أن يمارس عددا من الوظائف الأخرى على المعطيات، كالحفظ
Retention (بواسطة الذاكرة) والتحليل والتأليف والاستدلال والتعميم إلخ. وهناك أهمية خاصة لعملية الحكم، التي يحللها هبهوس تحليلا دقيقا، فما الفارق بينها وبين الإدراك المباشر الخالص؟ إن الحكم «هذا أزرق.» يتألف من ثلاثة عناصر : المعطى الحاضر («هذا»)، ومضمون كلي («أزرق»)، والرابطة
35
التي تحدث علاقة بين الاثنين الآخرين. وهكذا يندرج الموضوع في الحكم تحت مضمون كلي أو فكري، وهذا الاندراج أو التضمن يعني تشابه المعطى مع كل حالة أخرى يمكن أن يتحقق فيها المضمون الفكري. وإذن فهذا المضمون الفكري هو الذي يتميز به الحكم، وهو حاضر دائما في قلب عالم الوقائع، ويؤدي إلى إقامة علاقات ذات طابع عام بين مختلف معطيات الوعي. وهكذا يعطى أحد عناصر المضمون الكلي للحكم لا بطريقة واقعية وإنما بطريقة فكرية أو مثالية، ويكون الحكم متعلقا بواقع يوجد خارج فعل الحكم أو مشيرا إلى هذا الواقع. بل إن تعريف هبهوس للحكم يتفق لفظيا مع تعريف برادلي وبوزانكيت له، فهو الفعل الذي يربط بين مضمون فكري أو مثالي وبين واقع خارج عن فعل الحكم. وهذه العلاقة القائمة بين عناصر الحكم تتخذ شكل قبول أو تصديق في الحكم الموجب، وشكل رفض أو استبعاد في الحكم السالب. وإذن فعملية الحكم تتوقف على مركب بين عناصر فكرية أو مثالية وعناصر واقعية. ولسنا في حاجة إلى أن نشير بالتفصيل إلى مدى تأثر هذه النظرية في الحكم بالمنطق الهيجلي المحدث عند برادلي وبوزانكيت، أو أن نوضح بعد ذلك مقدار ما تدين به للمناطقة الألمان من أمثال زيجفرت
Sigwart
وبرنتانو
Brentano .
ويعالج هبهوس موضوع الحكم، مثلما تناول موضوع الإدراك المباشر، ضمن معطيات المعرفة، ما دام لا ينتج مضمونات جديدة، بل يقتصر على ربط العناصر المعطاة بعضها ببعض، ويؤكد هذه العلاقة أو ينفيها. أما القسم الثاني في المنطق فيبدأ عند النقطة التي يأتي فيها الذهن بشيء جديد يتجاوز المعطى، ولا يكون من الأصل متضمنا في الوقائع، وهو يطلق على هذا المجال في المنطق اسما عاما هو الاستدلال، ويتم الانتقال من الحكم إلى الاستدلال عن طريق الخيال، الذي يظهر بفضله مضمون جديد لم يكن حاضرا من قبل، ويشيد بناء جديدا، وإن يكن من الواجب ملاحظة أن أحجار البناء مستمدة من مادة المعطى، أو كما يقول هبهوس: إن الخيال يبنى بأحجار تشكلت من قبل، كذلك تنحصر ماهية الاستدلال في الحصول على واقعة جديدة، بوصفها نتيجة، من محتوى معطى بوصفه أساسا (هو المقدمات) أي على حقيقة ليست متضمنة في المقدمات. ولكن على حين أن العنصر الجديد يوحى به فحسب في حالة نواتج الخيال، فإنه في حالة الاستدلال يقترن بإحساس قوي بالاعتقاد أو التصديق، نؤكد على أساسه أن المستوى الجديد صحيح ومطابق، وإذن فمن الواجب تمييز الاستدلال من الخيال مثلما يتميز التقرير الموثوق به من مجرد الإيحاء. ويستطيع المرء أن يلمح في عامل الاعتقاد أو التصديق الذي أدخل هنا، والذي يلعب أيضا دورا في نظرية الحكم وفي الاستقراء والاحتمال، ذلك العامل الذاتي المتضمن في نظرية هيوم، والذي هو في نظرية هبهوس من الأسس الهامة لهذه الأشكال المنطقية، وإن لم يكن له دور حاسم في تأكيد صحتها الموضوعية، فمهمة الفكر في الاستدلال هي الربط بين المعطى على النحو الكفيل بمد معرفتنا به إلى حقيقة أخرى غير معطاة. والمصادر الوحيدة التي ينبغي أن يسلم بها الفكر هنا هي أن الواقع هو بالفعل نسق ترتبط أجزاؤه فيما بينها بالضرورة، وهكذا فإن نشاط العقل إنما يكون في الجمع والتنظيم. ولقد كانت مناقشة هبهوس حتى الآن تفترض صحة الفكر، وهكذا فإنه يتناول في القسم الأخير من بحثه المنطقي مسألة تبرير ادعاء الصحة هذا في الفكر.
وفي هذا القسم يصل ابتعاد هبهوس عن الأساس التجريبي لمذهبه إلى أقصى مداه، ويغترف بكلتا يديه من نبع الفكر المثالي، الذي نقله أتباع كانت وهيجل إلى إنجلترا، وإن هذه الحقيقة لتشهد على قوة الحركة المثالية وخصبها شهادة أقوى مما يشهد بها ذلك العدد من مريديها وتلاميذها الطيعين الذين اتخذوا وجهة النظر المثالية لأنهم وجدوها مهدئة لنفوسهم، أو حافزة على استخدام عبارات فخمة رنانة، أو دعامة لإيمانهم المزعزع، أكثر مما اتخذوها لأنها قوة دافعة خلاقة لإحياء الفلسفة.
فهنا يتضح لهبهوس أن المذهب الحسي القائل بالانفصال المطلق ينتهي إلى اللاواقع والوهم، ويتخلى على نحو قاطع عن كل نزعة شكاكة يائسة وكل لاأدرية مستسلمة، وهما النزعتان اللتان طالما افتخر بهما المفكرون الذين تخرجوا في معسكر العلم الطبيعي. ويرسم أخيرا حدا فاصلا يستبعد منه المذهب الحدسي، الذي يكون الوضوح الذاتي لقضية واحدة كافيا في نظره لضمان حقيقتها بل إنه - على العكس من ذلك - يرى أن صحة الحكم لا يمكن أن تنحصر في كونه معطى بوصفه واضحا بذاته مباشرة، فلا يمكن أن يدعي الحكم المنعزل، المنفصل عن مضمون الفكر، لنفسه أية صحة نهائية، وإنما تكون هذه الصحة مؤقتة، يثبتها السياق فحسب. وكما أن الواقعة المنعزلة لا تكون لها قيمة معرفية، فكذلك يقف الحكم المنعزل في الجانب الآخر من الحدود التي تقع من ورائها الحقيقة واللاحقيقة معا، وعليه أن ينتظر تأكيد الأحكام الأخرى له، ولا يجد حقيقته الكاملة إلا في نسق المعرفة الكاملة. والحد الأدنى اللازم لإثبات الصحة هو ذلك الذي يؤلفه حكمان يؤيد كل منهما الآخر ويؤكده، غير أن الإثبات النهائي لصحة الحكم إنما يكون في الارتباط المنهجي المتبادل بين جميع أجزاء الكل فيما بينها، ومع الكل الذي تشير هذه الأجزاء إليه، والذي تجد دعامتها فيه، فحقيقة الحكم هي الكل، وهي تشبه ديمقراطية لا فضل فيها لأحد على غيره، وإنما ترتبط قيمة كل فرد واحد وحقيقته ارتباطا لا ينفصم بصالح المجموع، الذي يتوقف بدوره على مدى صلاحية كل فرد على حدة. ويستخدم هبهوس لفظ «التلاؤم
Consilience » ليدل به على الاعتماد والارتباط والتأييد المتبادل للأجزاء الفردية في الكل المعرفي، وعلاقتها الضرورية بالنسق الكلي، وهذا في نظره هو المعيار الحقيقي لكل حقيقة وصحة. وهدف المعرفة الذي يتحكم في غاية العلوم والفلسفة معا، والذي تقترب منه هذه دون أن تبلغه أبدا على نحو كامل، هو بلوغ ذلك الطابع الكلي الذي يكتمل بفضل التلاؤم التام لجميع أجزائها وأفرادها، والنسق التام التنظيم لجميع الأحكام التي يؤيد بعضها بعضا ويؤكده ويحققه. ولكن إذا لم يتحقق هذا، فمن الواجب دائما أن تكون فكرة «التلاؤم» معيارا لضبط كل معرفة منفصلة، وكل بحث في ميدان خاص. فمن الواجب أن يضع المرء دائما نصب عينيه أن يرفع كل عنصر فردي مستقل إلى مستويات من التعميم أعلى دواما عن طريق إقامة علاقات متبادلة بين هذه العناصر بحيث تزداد جذورها تأصلا في الكل المنظم للمعرفة. وإن ماهية كل تفكير وبحث بشري - سواء في العلوم الخاصة وفي النظرة الفلسفية الجامعة - لا تكون في الانعزال والاكتمال، وإنما هي دائما نمو عن طريق المزيد من التلاؤم والترابط. ومهمة العقل - أو على حد تعبير هبهوس الدافع العقلي في الإنسان - إنما تكون في ربط المعارف المفردة والتجارب المنعزلة في تركيب فكري منظم شامل، بحيث يكون الهدف هو ذلك الانسجام العقلي الذي يجد فيه سعي الذهن البشري غايته وطمأنينته. كذلك لا يستطيع الخطأ أن يرغم هذا الدافع العقلي على الانحراف عن طريقه؛ إذ إن الخطأ بدوره ليس، من حيث المبدأ، بمنأى عن عالم العقل، وإنما هو حقيقة جزئية، أي مرحلة ضرورية في التنظيم المنهجي للمعرفة، وإن نفس هذا النقص والقصور الذي يشوبه، إنما هو الذي يحفز الإنسان على تجديد أبحاثه على الدوام، وإعادة النظر فيما سبق أن قبله من النتائج. ولا شك أن فلسفة هبهوس - باتخاذها هذه المواقف - قد وسعت الهوة الفاصلة بينها وبين نقطة بدايتها التجريبية إلى أقصى حد ممكن، وبدا أنها تزداد بالتدريج اقترابا من نظرية الحقيقة عند الفلاسفة الهيجليين الإنجليز، كما قال بها على الأخص برادلي وتلميذه جويكم.
ومع ذلك فهناك في الوقت ذاته فارق مميز واضح بين هبهوس والهيجليين، فقد كان في غنى عن «المطلق» عند برادلي، الذي هو مبدأ معتزل متوج بسمو وقور فوق الكثرة المتنوعة للعالم الظاهري بما فيه من أوهام ومتناقضات. وهكذا قضى على صرامة مبدأ برادلي وثباته، وأذابه في الحركة الحية لعملية رأى أنها تقدم أصيل نحو تأليف وتركيب منظم يزداد علوا على الدوام (وإن لم يكن ذلك على نسق الديالكتيك الهيجلي)، هدفها هو بلوغ الحقيقة الكلية، بحيث كان هبهوس التجريبي في هذه المسألة أقرب إلى مقصد هيجل الحقيقي من برادلي الهيجلي. ولقد توصل إلى هذه النتيجة بإدماج فكرة التطور مع فكرة التلاؤم - وهنا نصل إلى ملتقى طرق هام في فلسفته - وبذلك وحد بين المبدأين الأساسيين لتفكيره، فصحة معرفتنا تزداد كلما ازدادت تكشفا داخل العلم الكامل، وهي تقترب من الحقيقة المنهجية الكاملة بالقدر الذي تزداد فيه - أثناء تقدمها - علوا بفضل التلاؤم. وبهذا تصبح الحقيقة حاضرة في المعرفة المتقدمة خلال التطور، الذي هو الواسطة في نموها حتى الاكتمال. وهكذا تتخذ فلسفة هبهوس مظهر اندماج مطبق بطريقة واقعية، بين عناصر من المذهب المطلق وعناصر من مذهب التطور، مع اتخاذ التجريبية نقطة بداية لها.
فإذا انتقلنا من نظرية المعرفة إلى الميتافيزيقا عند هبهوس، للاحظنا هنا أيضا كيف تحكمت المثالية في الأساس التجريبي والواقعي وعدلته في نقاط أساسية، ويتضح ذلك بوجه خاص في تخفيف المثالية لحدة النزعة الطبيعية المادية في تفكير هبهوس، مما جعل له أساسا يختلف تماما عن أسس مذاهب القرن التاسع عشر ذات الطابع العلمي وهي المذاهب التي ظهر مذهب هبهوس في ظلها في البداية؛ ذلك لأن دراسات هبهوس الواسعة في النمو التاريخي للذهن، كما عرضها في كتابه «الذهن في تطوره»، قد أقنعته عند وقت مبكر، بناء على أبحاث تجريبية دقيقة، بأن الذهن ليس مجرد ظاهرة ثانوية أو مصاحبة لحوادث مادية، وإنما هو عنصر له أكبر قدر من الدلالة والأهمية في مجموع العالم الواقعي. وبعد أن دعمت أسس دراساته الخاصة بفضل تعاليم المثاليين، أصبح يعترف بالمبدأ الروحي في العالم، بوصفه عالما مستقلا قائما بذاته، لا مجرد عامل مستمد من المادة، كما اعترف من جهة أخرى بأن «الحقيقة
Reality » بما هي كذلك ليست «روحية»، وإنما هناك في مقابل عنصر «الروح أو الذهنية
Mentality »، عنصر غير روحي يسميه بالمبدأ الآلي. وهكذا فالذهن ليس سيد الأشياء جميعا، كما أنه ليس من جهة أخرى ناتجا عرضيا لقوى آلية، وليس مطلقا ولا ثانويا، وإنما هو قوة دافعة عضوية تضفي النظام على العناصر المختلطة المتنافرة، وتبعث في العملية الكونية وحدة وانسجاما. والمعيار الرئيسي لكل نشاط روحي أو ذهني إنما يكون في الغرضية العاقلة، فالمبدأ الغائي يأخذ مكانه إلى جانب المبدأ الآلي، بحيث يشمل كل منهما الآخر ويفترضه مقدما، ويكشف كل منهما عن الحقيقة في وجه خاص من أوجهها. وهكذا فإن الفكرة الرئيسية في ميتافيزيقا هبهوس إنما تكون في هذا التفسير للحقيقة على أنها ليست آلية فحسب ولا غائية فقط، وإنما هي الاثنان معا، أي على أنها عملية نمو تقوم فيها بين المبدأين علاقة تبادلية وثيقة، ويكونان متداخلين
interwoven ، إن جاز هذا التعبير.
36
على أن التجربة تدلنا على أنه يوجد - إلى جانب المبدأين الآلي والغائي - مبدأ ثالث يساهم في تفسير الظواهر، هو المبدأ العضوي، والمقصود بالكائن العضوي وحدة تتحكم أجزاؤها أو أعضاؤها بعضها في البعض، ويكون الكل والأجزاء فيها متضايفين بدقة. وقد تبين لنا من قبل أن نسق المعرفة إنما هو تركيب عضوي كهذا، كما تكشف لنا الميتافيزيقا الآن أن نسق الواقع هو أيضا كذلك، فتكون النتيجة انسجاما أو تطابقا تاما بين النسقين. فالواقع إذا ما تأملته في مجموعه كان نسقا عضويا لا يقضى فيه على استقلال العناصر ووظيفتها المحدودة داخل الكل، على الرغم من الاعتماد المتبادل لأجزائه بعضها على البعض، والعلاقة المتبادلة بين الأجزاء وبين الكل، وإنما يحفظ هذا الاستقلال بفضل الوحدة التي تتجاوز هذه العناصر وتشتمل عليها، فلا يمكن أن يكون في الواقع جزء منفصل تماما عن بقية الأجزاء؛ وهذا يعني بتعبير آخر أنه لا يمكن أن يوجد عنصر غير معقول تماما. ومن الواضح أن مذهب هبهوس يتبدى - من وجهة النظر هذه - مثلما يتبدى في نواح أخرى عديدة، على أنه مذهب متمسك بالمعقولية، بل هو واحد من أورع مظاهر هذا الأسلوب في التفكير في الفترة الأخيرة؛ فهو في كل خطوة يوطد مكانة المبدأ العاقل في التفكير وفي الوجود، في مقابل الميول اللامعقولة المتعددة في عصره، ويدافع عن نفسه ضد الأمراض الفلسفية التي شاعت عندئذ، والتي تطعن في العقل وتضع محله بديلا لا عقليا كالغريزة أو الحدس.
ولنلاحظ أن المقولتين الآلية والغائية، وهما المقولتان الأوليان من بين المقولات الأساسية الثلاث التي تفسر بواسطتها الحقيقة، هما قوتان ميتافيزيقتان تتقابلان وتتعارضان بشدة، فالآلية، التي هي المسيطرة في الأصل، هي القوة التي لا تعرف تنوعا ، والتي تكون مختلطة ومضطربة، تتداخل فيها الطاقات ويقضي بعضها على البعض؛ لأن عدم وجود صلة بينها يجعل من المستحيل أن يقدم بعضها إلى البعض الآخر معونة متبادلة. غير أن هناك منذ البداية عنصرا ذهنيا تنطوي عليه كل ذرة من المادة، يزداد تأثيره كلما ازداد النظام والارتباط والانسجام في القوى الآلية، وعندما يبلغ النمو مرحلة أعلى، يزداد توحد هذه القوى في ترتيبات وتجمعات تبعا لقوانين وغايات عقلية، ويتم التطور بتقهقر العوامل الآلية دواما إلى الوراء، كلما امتد باستمرار زحف العناصر الغرضية المؤدية إلى إقرار النظام، وهدفه هو ذلك النسق المنسجم الذي تكون المهمة الغائية للذهن إيجاده بمضي الزمن. وهكذا فالذهن (أو الروح) المنتشر في الكون يعمل دواما على بعث الانسجام في العناصر المتعارضة، مهما كان بطء وتدرج المراحل التي يعمل بها.
أما المقولة الأساسية الثالثة، أي العضوية، فقد عرفها هبهوس على نحو أقل دقة بكثير من المقولتين الأخريين، وهو يرى على أية حال أنها أقرب إلى مقولة الغرضية منها إلى مقولة الآلية، وإن كانت تقبل الانطباق على كليهما معا، غير أنها لا تنطبق على الكون في مجموعه؛ إذ إن الكون لا يمكن أن يفسر إلا غائيا. وتبلغ ميتافيزيقا هبهوس قمتها في نظرته إلى الكون على أنه غائية مشروطة، من حيث إن مبدأ الغرضية لا يمكن أن يبلغ غايته أبدا، وإنما يقف دائما في تضاد مع العناصر المتنافرة للمادة الآلية، ولم يستطع هبهوس أبدا أن يصل إلى إيضاح نهائي للعلاقة بين العضوي والغائي. ولنلاحظ مدى تحول التجريبية إلى الإفراط في النظر العقلي الخالص في فلسفة هبهوس، ومدى ابتعاد هذه التأملات الرفيعة التحليق عن الأساس التجريبي الواسع الذي هو أصلها، وهذا مثل آخر للتأثير الهام الذي مارسته المثالية ذات الطابع الهيجلي، التي أضفت على الفكر الإنجليزي طابعا يتسم باتساع النطاق وعمومية النظرة على نحو ازداد جرأة وسموا عما كان موجودا من قبل بكثير.
أما الأخلاق عند هبهوس، التي عرض وجهها الأقرب إلى الطابع التجريبي في كتابه «الأخلاق في تطورها» ووجهها الأقرب إلى الطابع الفلسفي في «الخير المعقول»، فتتفق في جميع النقاط الأساسية مع المبدأ الأساسي لفلسفته، فهو هنا أيضا يبدأ بتقديم بيان عن التطور التاريخي لوقائع الأخلاق مبني على استقصاء تجريبي واسع النطاق، أعني نوعا من تعقب «نسب الأخلاق»، ثم ينتقل إلى تفسيره الفلسفي الخاص لهذه المادة التجريبية، وهنا أيضا تكون النتيجة النهائية أخلاقا عقلية لا تجريبية، مهمتها إيضاح وظيفة العقل في مجال السلوك العلمي، وهو هنا أيضا يرد على الحملة على المعقولية، ويقف في وجه تيارات اللامعقولية التي ترى أن الدوافع الوحيدة لسلوكنا إنما تكون في الاندفاع الغريزي وفي الشعور وفي العاطفة. وهو يبين أن العناصر العقلية - كالغرض والتفكير المتدبر - تلعب دورا لا يقل عن دور الشعور الغريزي الأعمى، إن لم يفقه بالفعل، فالتفكير الواضح لا يقل ضرورة في السلوك عن الشعور الصحيح، «وأقل البشر حساسية لا يتجه إلى الفعل بحكم الاندفاع الغريزي وحده فحسب.» وفضلا عن ذلك فإنه لا يميل إلى وضع تضاد شديد بين عالم الشعور وعالم الفكر، فأصل الاثنين واحد، وهو الطبيعة البشرية، ومن المحال فصلهما إلا بتجريد مصطنع. وهو يرى بوادر المعقولية الأخلاقية حتى في ذلك السلوك الواعي الهادف الذي يتمثل في أدنى مراحل الحياة الأخلاقية مثلما يتمثل في أعلاها، ووظيفة العقل العملي تسير في طريق مواز تماما لطريق العقل النظري؛ إذ إنه على حين يهتم الأخير بربط الوقائع والإدراكات المنفصلة عن طريق التلاؤم الكامل لنسق منسجم، فإن مهمة الأول هي توحيد دوافع ونوازع واتجاهات منفردة في الكل المنسجم للشعور. وهنا أيضا يستحيل أن يظل العنصر الواحد - أي النزوع الواحد في هذه الحالة - منعزلا، وإنما يشير إلى خارج ذاتها متجها إلى إدماج ذاته في الكل الأعلى الذي هو جزء منه، وهكذا تكون مهمة الإرادة هي القيام بتأليف بين الاتجاهات الإرادية المنفردة، مثلما تكون مهمة هذه الاتجاهات هي توحيد النوازع المنفردة، وفي كل هذه المراحل يوجد عنصر عقلي يلعب دوره، ويتمثل آخر الأمر بوصفه «الخير». وكما أن الإيمان بانتصار الحقيقة وسيادة العقل قد أدى إلى النزعة العقلية في المجال النظري، فكذلك يؤدي الاعتقاد بالقدرة الشاملة للخير إلى التفاؤل في المجال العملي، وفي كلا المجالين تمدنا فكرة الخير بالقوة الدافعة التي تحقق بها المعقولية ذاتها على مستويات تتزايد علوا، وتساعد على انتصار الحقيقة في ميدان المعرفة والخير في ميدان السلوك. أما التحقق الكامل للخير فليس أكثر إمكانا من التحقق الكامل للحق، غير أن السعي وراءه يظل مستمرا على الدوام، شأنه شأن التقدم الموازي الذي لا ينقطع للمعرفة، وهكذا فإن مبدأ المعقولية يطبق في الأخلاق، مثلما يطبق في العلم، بوصفه النزوع الدائم التجدد نحو انسجام مكتمل، لا بوصفه البلوغ النهائي لهذا الهدف.
وقد أمد هبهوس أخلاق الانسجام هذه بعناصر من النظريتين التجريبية والمثالية، مثلما فعل في نظرية المعرفة والميتافيزيقا. وقد أشار هو ذاته إلى أن موقفه هذا مرتبط ارتباطا وثيقا بمبادئ مذهب المنفعة عند مل من جهة، وبالمثالية الأخلاقية عند جرين من جهة أخرى؛ ففكرة الانسجام تتفق مع مذهب المنفعة بقدر ما تكون السعادة العامة عنصرا أساسيا متضمنا فيها. ومن جهة أخرى يقر هبهوس نقد جرين لمذهب اللذة في تحليله النفساني لمنابع السلوك، وينزع عن مذهب المنفعة طابع التركز حول اللذة، ويتحول مبدأ تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس إلى مصادرة الكل الاجتماعي المنسجم. وليس من واجبنا أن نخوض هنا تفاصيل نقط التقاء هبهوس بالأخلاق المثالية، غير أن النقطة التي انحرفت فيها الأخلاق عند هبهوس انحرافا واضحا عن الأخلاق عند جرين أو كانت، هي القول بأنه ليس من الواجب النظر إلى العقل العملي على أنه يحلق بعيدا فوق حياة الشعور والنزوع، ولا من الواجب النظر إلى هذين الأخيرين على أنهما كم مهمل، بل ينبغي إدراجهما أو ضمهما على نحو ما في مركب الخير العقلي.
أما النظرية السياسية عند هبهوس فهي خارجة عن مذهبه إلى حد ما، بقدر ما كان في هذا الميدان يحصن نفسه عن وعي وقصد من هجوم الأفكار المثالية ، بحيث إنه يلتزم هنا حدود التراث القومي تماما، أي إنه يمثل بكل وضوح الفكرة الليبرالية الديمقراطية الفردية عن الدولة كما نجدها في المذهب الذي يمتد في تيار واحد متصل من لوك إلى مل، ولكن من رأيي أن أفكاره في هذا الموضوع ينبغي ألا تعزى إليها نفس المكانة التي تعزى إلى الأجزاء الأخرى من تعاليمه؛ إذ إن نظرية هبهوس السياسية كما عرضها في كتابه الذي كان جدليا في أساسه «النظرية الميتافيزيقية للدولة» لا تنبع من الدراسة العلمية الموضوعية التي تميز بقية أعماله، وإنما من جو الحرب العالمية المسموم المفعم بالكراهية، وهو الجو الذي فرض تأثيره حتى على مفكر له من الحكم المتزن الموضوعي ما كان لهبهوس، فهو لم ير في نظرية الدولة عند هيجل، وفي النظرية التي أحياها جرين في أعماله على التربة الإنجليزية، ولكن بحماسة فاترة، وأحياها بوزانكيت على نحو أدق وأشد تحمسا؛ سوى أنها أدت إلى تكوين تلك العقلية الرجعية التي أدت (في رأيه)، من خلال سياسة القوة التي اتبعها بسمارك، إلى النزعة العسكرية الألمانية وإلى الحرب العالمية. فالدولة المطلقة عند هيجل لا تعني، في نظر هبهوس، خرق حرية الفرد واستقلاله فحسب، وإنما تعني إخضاع الأخلاق للسياسة؛ مما يؤدي إلى إلغاء الروابط الأخلاقية بين الشعوب وإحلال القوة السافرة محل الحق، وعلى العكس من ذلك يقول هبهوس بأن الفردية قيمة مطلقة عليا، لا ينبغي أن تستنفدها الدولة دون باق، فلا يمكن أن يكون تنظيم الدولة غاية في ذاته، وإنما ينبغي أن يكون دائما وسيلة، أي صورة واحدة من بين الصور العديدة الممكنة التي يتجمع بها البشر بحرية لكي يتمكنوا من تنمية إمكانياتهم وتحقيق التزاماتهم الأخلاقية، والفرد وحده هو الذي ينبغي أن يعد غاية في ذاته، أما جميع صور المجتمع - ولا سيما الدولة - فيجب أن تستهدف رخاء الأفراد ومصالحهم، والدولة مسئولة أخلاقيا أمام الدول الأخرى، مثلما يكون الفرد مسئولا إزاء الآخرين. وليس في وسع أية نظرية أن تعفيها من هذه المسئولية، وهنا نرى نوعا واضحا من الليبرالية البورجوازية، التي تدافع عن نفسها ضد اكتمال سلطة الدولة؛ لأنها تشعر بأن الأخيرة تهدد حريتها، وهو يتخلى في هجومه على الهيجلية عن كل إنصاف وموضوعية. وهكذا فإنه بدلا من أن يتعمق مفهوم الدولة عند هيجل، يزركش صفحاته بعبارات وحجج مقتطعة من سياقها، ومتولدة عن حرارة اللحظة وانفعالها فحسب، والأكثر من ذلك مدعاة للأسف أنه اتخذ مثل هذه الحجج وسيلة لإثبات نظريته الخاصة في الدولة، مع أن جزءا غير قليل من مصادر قوته إنما يرجع إلى نفس تلك المثالية التي ناصبها هذا العداء المرير.
وهناك أخيرا ميدان علم الاجتماع، الذي كانت دراسات هبهوس الشاملة فيه أخصب وأكثر إيجابية في نتيجتها، وهو هنا أيضا يجمع بين دقة المتخصص وبصيرة الفيلسوف، ويستمد وجهات النظر التي يصوغ منها مبادئه العامة من دراسة واسعة للوقائع. ولقد كان حريصا على أن يجعل فكرة التطور، وهي الفكرة التي تنساب كمجرى في جوف الأرض في جميع أجزاء فلسفته، تأتي ثمارها في ميدان علم الاجتماع أيضا، ولكن لم تكن المسألة بالنسبة إلى هبهوس مجرد اقتباس أفكار كتلك التي تستمد من نظرية دارون البيولوجية في الصراع من أجل البقاء، وإنما أدرك قبل كثير غيره أن المناهج ووجهات النظر البيولوجية لا يمكن أن تنقل بنجاح إلى مجال العلاقات الاجتماعية دون اختبار نقدي لها، وإنما لا بد أن تدخل على مبدأ التطور تعديلات عديدة دقيقة، تبعا للميدان الذي يطبق فيه، فما يصح على حياة النباتات والحيوانات لا يصح دون تحفظ على المجتمع البشري، فما الذي يعنيه التطور في الحياة الاجتماعية؟ إنه قطعا لا يعني مجرد الصراع من أجل البقاء، ولا يعني بقاء الأقوى اجتماعيا على حساب الأضعف اجتماعيا، وإنما تحل الغرضية العاقلة، على مستوى الكائنات التي وهبت عقلا، محل الاتفاق اللامعقول الذي يسود الطبيعة. وهذا يبين لنا أن التطور الأعلى للبشرية لا يتحقق بصراع الكل ضد الكل، وإنما - على العكس من ذلك - يتحقق بتنظيم المساعدة المتبادلة، وبالتحالف الفعال بين الأفراد. وأعلى أنواع المجتمع هي تلك التي يحل فيها محل حرب الكل ضد الكل، تعاون إيجابي بين الجميع في الحرب ضد القوى المعادية، والمعنى الرئيسي للتقدم هو التحقق المتزايد لمثل هذا التعاون. ويستطيع المرء أن يلمح في فكرة التعاون هذه، التي تصبح «لحنا مميزا» لعلم الاجتماع عند هبهوس، ذلك التلاؤم الذي يجعل أفراد أي كل - سواء أكان ذلك الكل فرعا علميا أم مذهبا فلسفيا أم طائفة اجتماعية - يعملون على مساعدة بعضهم البعض والرجوع إلى بعضهم البعض، ولا يحققون وجودهم الصحيح إلا في مثل هذا الارتباط المتبادل. وهكذا فإن الفروع المنفردة في مذهب هبهوس ترتبط فيما بينها، تبعا لمفهومها الأساسي الموحد، في مذهب فلسفي مكتمل، ولا أقول مكتملا بمعنى أنه يوصد أبوابه في وجه الوقائع، وإنما هو متفتح للضغط الدائم للمواد التجريبية التي تنتظر العمل الفلسفي ليضعها في مكانها اللائق في نسق المعرفة. وترتبط فكرة التلاؤم ارتباطا وثيقا بفكرة التطور، بوصفها اللحن الأساسي الثاني في مذهب هبهوس. ورغم أن المرء لا يستطيع أن يفرط في إزجاء المديح له نظرا إلى ما اتصف به الفلاسفة ذوو الاتجاه الدارويني من انحرافات وأخطاء في ميدان البيولوجيا (وكان سبنسر أبرزهم في ذلك بالتأكيد) فلا بد أن نعترف له هنا بفضل إضفاء معنى مستقل على فكرة التطور، يختلف تبعا للمجال الذي تطبق فيه، وبذلك خلصها من عقم وعشوائية التفكير من خلال إطارات خاوية ويدعى أنها تقدم منهجا لتفسير كل ما في العالم، ورفعها إلى مرتبة مبدأ منهجي أصيل للبحث.
تذييل للفصل الثالث
عن الوضعية الإنجليزية التواريخ والكتابات الرئيسية
1843:
كتاب جون ستيوارت مل، «مذهب في المنطق
System of Logic ».
1845-6:
كتاب ج. ه. ليويس، تاريخ الفلسفة من خلال سير الفلاسفة
Biographical Hist of Philosophy .
1849:
زيارة كونجريف
Congreve
الأولى لكونت في باريس.
1853:
كتاب ليويس، «فلسفة العلوم الوضعية عند كونت».
1853:
هاريت مارتينو، «الفلسفة الوضعية عند أوجست كونت، ترجمة فيها تصرف وتركيز» (الطبعة الثالثة، في ثلاثة مجلدات، 1896).
1854:
زيارة كونجريف الثانية لكونت.
1855:
زيارة هاريسون لكونت.
1858:
كتاب كونجريف، «ترجمة صلوات الديانة الوضعية وأدعيتها».
1864:
مقال سبنسر، «أسباب الخلاف مع فلسفة أ. كونت
Reasons for dissenting from the Phil. of A. Comte »، (في كتاب مقالات علمية وسياسية وتأملية نظرية، المجلد الثاني).
Essays, Scientific, Political and Speculative .
1865:
كتاب بريدجز، «نظرة كونت العامة إلى الوضعية
Comte’s General View of Positivism ».
1865:
كتاب جون استورات مل، أوجست كونت والوضعية
A. Comte & Positivism .
1866:
كتاب بريدجز، «وحدة حياة كونت ومذهبه، رد على جون استورات مل
The Unity of Comte’s Life and Doctrine, a Reply To J. S. Mill ».
1867:
قيام كونجريف بإنشاء الجمعية الوضعية بلندن (مكان الانعقاد ابتداء من 1870 هو «شارع تشابل
Chapel St ».).
1869:
مقال توماس هكسلي، «الأوجه العلمية للمذهب الوضعي في مجلة
The Scientific Aspects of Positivism Fortnightly Review ».
1870-1900:
كونجريف، «مقالات سياسية واجتماعية ودينية
Essays, Political, Social & Religions » (في ثلاثة مجلدات).
1875-1879: «مذهب الفلسفة الوضعية لأوجست كونت» ترجمة بريدجز وهاريسون وبيسلي وكونجريف.
1878:
انشقاق الحركة إلى جماعتي كونجريف (شارع «تشابل») وهاريسون (قاعة نيوتن فيما بعد).
1881:
افتتاح لافيت
Laffite
لقاعة نيوتن
Newton Hall .
1882:
كتاب بريدجز «خمسة مقالات في الدين الوضعي
Five Discourses on Positive Religion ».
1885:
كتاب أ. كيرد
Caird ، «فلسفة كونت الاجتماعية وعقيدته
The Social Phil. & Religion of Comte ».
1887:
ج. كوتر موريسون
J. Cotter Morison ، «صلاة الإنسان
The Service of Man ».
1892: «التقويم الجديد للعظماء
The New Calendar of Great Men ». نشرة هاريسون.
1893 و1925: «المجلة الوضعية
The Positivist Review »، رئيس التحرير بيسلي
Besely ، ثم س. ه. سويني
Swinny ، وأخيرا ف. ج. جولد
F. J. Gold .
1899:
وفاة كونجريف.
1906:
وفاة بريدجز.
1907:
كتاب بريدجز، «مقالات وخطب
Essays and Addresses ».
1915:
وفاة بيسلي.
1916:
عودة اتحاد الجماعتين (المكان: شارع تشابل).
1923:
وفاة هاريسون.
إذا ما تركنا جانبا ذلك المؤثر الأجنبي الذي كانت له أكبر النتائج على الفكر الإنجليزي في القرن التاسع عشر، وهو المثالية الألمانية، فمن المؤكد أنه ليس ثمة مذهب آخر كان له ذلك التأثير الباقي الذي كان للمذهب الوضعي عند أوجست كونت، ولكن هناك مع ذلك فارقا هاما بين مجالي تأثير هاتين الحركتين الأجنبيتين؛ فمجال تأثير المثالية كان هو الأوساط الأكاديمية؛ إذ كان أول الناس وأقواهم تأثرا بها هم الفلاسفة المحترفون، الذين اتخذ تفكيرهم بفضلها اتجاهات جديدة، أما الوضعية فقد انتشرت بوجه خاص في الأوساط الثقافية العامة في ذلك العصر، ولم يكن الفلاسفة المحترفون يحملون لها احتراما كبيرا. وفضلا عن ذلك فإن الوضعية تدين بالاتساع النسبي لنطاق تأثيرها إلى وجود تنظيمات دقيقة لها، تمشيا مع روح كونت، وبذلت مراكزها التنظيمية جهدا كبيرا في نشرها. ورغم ذلك فإن الحركة الوضعية الإنجليزية لا تنتمي إلى مجال الفلسفة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فمذهب كونت لم يعط التفكير الإنجليزي من القوة الدافعة ما أعطاه إياه مذهبا كانت وهيجل، على النحو الذي كان كفيلا بإدخال تطور هذا التفكير في مرحلة جديدة، وإنما ظلت الوضعية - حيثما وجدت قبولا - مقيدة بنفس الصورة التوكيدية الصارمة التي خلفها عليها مؤسسها. وقد أدى تحجرها في عقيدة مدونة على يد تلاميذ هذا الأستاذ - أو على الأصح مريديه - إلى ابتعادها كل البعد عما يقتضيه المذهب الفلسفي الأصيل من حيوية وقوة متدفقة. ومن هنا لم يكن من المستغرب ألا يكون هناك، ضمن صفوف دعاة كونت في إنجلترا، أي ذهن فلسفي من الطراز الأول، وإنما كان هؤلاء قبل كل شيء متخصصين في العلوم، ورجال أدب، وأشخاصا من ذوى النوايا الطيبة الذين رأوا في فلسفة كونت عقيدة جديدة أحسوا أن من واجبهم نشرها في زمنهم. وهكذا فإن الحركة الفلسفية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (وهي الفترة التي بلغ فيها نمو الوضعية وازدهارها مداه)، لم تستفد إلا قليلا، إن كانت قد استفادت شيئا على الإطلاق، على الرغم من الحماسة الحقيقية والدعوة الصادقة لأنصارها (وربما بسبب هذه الحماسة وتلك الدعوة ذاتها)، فقد اقتبست تعاليم كونت على أنها عقيدة ثابتة، وحفظت على هذا الأساس، ولم يتجاوز الوضعيون أبدا نطاق التسبيح بحمد أستاذهم وترديد كلماته المقدسة.
وإذن فالوضعية الإنجليزية ليست مذهبا جديدا، بل وليست تفريعا أو تكملة أو توسيعا جديدا لمذهب قديم، وإنما هي مجرد نقل لجذور فلسفة كونت، أو على الأصح عقيدته، وإعادة زرعها في تربة غريبة. ومن هنا فسوف نكتفي فيما يلي بافتراض أن محتوى المذهب معروف؛ لأنه هو بعينه مذهب كونت، ونقتصر على إيراد أهم تواريخ هذه الحركة ومراحلها. فمنذ العقد الخامس من القرن الماضي، عندما بلغت مكانة كونت قمتها، ارتفعت بعض الأصوات الكبيرة تشير إلى الدلالة الفائقة الأهمية لهذا الفيلسوف، وطبيعي أن هذه الأصوات قد صدرت عن تلك المدرسة الفكرية التي كانت أقرب إلى مذهب كونت بفضل اشتراكها معه في الأصل، أعني المدرسة التجريبية؛ فالوضعية والتجريبية معا يرجعان في أصلهما إلى هيوم، بوصفه الأب الروحي لهما، وقد قال كونت نفسه عن المفكر الاسكتلندي الكبير إنه الممهد الحقيقي لفلسفته. وهكذا فإن جون ستيوارت مل، الذي كانت له مراسلات أدبية متصلة بكونت منذ عام 1841،
1
قد تحدث في كتابه «المنطق» (1843) عن الفيلسوف الفرنسي بوصفه واحدا من أول المفكرين الأوروبيين، كذلك أشار ج. ه. ليويس
G. H. Lewes
إلى مكانة كونت في حركة الفلسفة الحديثة، عندما أطلق عليه، في كتابه «تاريخ الفلسفة من خلال سير الفلاسفة
Biographical Hist. of Philosophy » (وهو كتاب كان واسع الانتشار، ونشر لأول مرة في 1845-1846) لقب أعظم المفكرين المحدثين، وأسمى مذهبه تاج كل التطور الفلسفي الذي سبقه. وبعد بضع سنوات ألف ليويس، الذي كان معجبا متحمسا بكونت، كتابا خاصا عن «فلسفة العلوم الوضعية عند كونت»، ودافع عن وجهة نظر كونت بوسائل أخرى، وعن طريقه اطلعت (جورج إليوت)، التي أصبحت زوجته فيما بعد، على تعاليم كونت، وقد كشفت رواياتها بوضوح عن تأثير كونت، كما لاحظ الكثيرون. وفي نفس العام الذي ظهر فيه كتاب ليويس عن كونت، نشرت «هاريت مارتينو
Harriet Martineau » (1802-1871)، شقيقه جيمس مارتينو، الفيلسوف الديني، ترجمة، أو على الأصح سردا وتلخيصا، لكتاب «دروس في الفلسفة الوضعية
Cours de Phil. Positive »، وهو تلخيص يعطي عن هذا الكتاب فكرة عامة لا بأس بها، بفضل حسن اختياره للأجزاء التي عرضها، وقد قدم هذا الكتاب مؤلف كونت الأكبر إلى جمهرة القراء الإنجليز في صورة موجزة شاملة، بعد تنقيته من كل المبالغات الزائفة. وكانت الجهود المخلصة التي بذلتها الآنسة مارتينو هي التي قدمت كونت فعلا إلى الإنجليز، ولفتت إليه أنظار جمهور أوسع. وقد سر كونت ذاته كثيرا بهذا العرض المحكم لمذهبه. وقد أعيدت ترجمة الكتاب إلى الفرنسية، وكان له دوي كبير في فرنسا ذاتها، حتى إنه ظل وقتا ما ينافس الكتاب الأصلي في شعبيته.
على أن هناك عاملا آخر كان له تأثير أهم في نشر أفكار كونت في إنجلترا، هو الإعجاب الصادق الذي كان مل يشعر به نحو هذه الأفكار. ولم يكن من قبيل المصادفة أن دعا ستيرلنج إلى فلسفة هيجل بين الإنجليز وكأنه يدعو إلى إنجيل جديد، ونبه مل في نفس العام، بنفس القدر من التمجيد، إلى شخصية كونت. كما حدث في هذا العام نفسه (أي 1865) أن نشر مل بين الجمهور نتيجة خلافه النقدي الكبير مع هاملتن الذي كان أكبر ممثلي المدرسة الاسكتلندية، فقد كان مل يتابع منذ البداية التطور الفكري للفيلسوف الفرنسي باهتمام عظيم، وقد اتصل به مباشرة في مراسلات مستفيضة، بل لقد قدم إليه معونة مالية سخية في ظروف كان يمر فيها بضائقة مالية شديدة، وقد عرض موقفه من كونت بجميع تفاصيله في كتابه «أوجست كونت والوضعية» (1865)، الذي أعلن فيه اتفاقه مع فلسفة كونت في سماتها الرئيسية، وقبوله لمبدأ «الإنسانية» في عقيدة كونت، ولكنه اتخذ موقف الرفض النقدي من الشعائر الغريبة في العقيدة الدينية الجديدة التي صيغ فيها هذا المبدأ في نوع من الإيمان الوضعي، وكذلك من الاستسلام الساذج للسلطة والمبالغة في تأكيد الغيرية، مما كان يهدد بالقضاء على وحدانية الفرد وحرية الفكر؛ لذلك رأى الوضعيون المتمسكون في كتاب مل هجوما على المعنى الحقيقي لتعاليم كونت، ودخل «بريدجز
Bridges » المعركة بكتاب ألفه ردا على مل، حاول فيه الدفاع عن وحدة مذهب كونت وحياته.
وبعد أن اكتسب اسم كونت قدرا معينا من الشهرة في إنجلترا ازداد ظهور الانتقادات الموجهة إلى مذهبه، مثال ذلك أن مفكرا مثل سبنسر - الذي كان باعترافه هو ذاته يدين بالكثير لكونت - قد اتخذ في سلسلة من المقالات موقف الرفض تجاه أجزاء هامة من تعاليمه (انظر بوجه خاص «أسباب الخلاف مع فلسفة كونت
Reasons for dissenting from the Phil. of Comte » (1864)، وقد ورد هذا المقال في المجلد الثاني من كتاب «مقالات علمية وسياسية وتأملية»)، كذلك أصدر «هكسلي» بعض التصريحات التي كانت ذات لهجة نقدية أشد، فأعلن أن الفلسفة النقدية عند كونت ليست خلوا من المعنى بالنسبة إلى العلم فحسب، بل هي معادية للعلم، ووضعها في هذا الصدد مع الكنيسة الكاثوليكية على مستوى واحد، وقد وصف مذهب كونت في عبارة موفقة ذاعت شهرتها إلى حد بعيد، فقال إنها «كاثوليكية مطروحا منها المسيحية.» وكان في ذلك يرد على صيغة «كونجريف»، التي وصف فيها الوضعية بأنها ليست إلا «كاثوليكية مضافا إليها العلم.»
وقد اشترك في الخلاف الناشب حول كونت مفكر آخر هو «جون رسكين
John Ruskin »
2
فقد أعلن على صفحات كتابه «
Fors Clavigera » (الرسالة رقم 67، 14 مايو، 1876)، معارضته لهاريسون، واحتج باسم الفن والجمال على عقيدة الآلات البخارية والمصانع، وعلى الاتجاه إلى التصنيع والإيمان المتعصب بالتقدم، وغير ذلك من الأفكار التي كان الوضعيون في رأيه هم دعاتها. وقد دافع هاريسون عن نفسه دفاعا رائعا ضد مثل هذا الفهم السيئ، الناشئ عن الجهل بكتابات كونت، وذلك في مجلة «
Fortnightly Review » عام 1876، وكذلك على صفحات «
Fors Clavigera »، التي وضعها رسكين نفسه تحت تصرف ناقده (انظر «ماكجي
McGee » حملة صليبية من أجل الإنسانية
A Crusade for Humanity ، 1931، ص96 وما يليها). كذلك ظهر اختباران نقديان آخران لكونت، من جانب آخر، ظهرا معا سنة 1885، كان أحدهما من تأليف «جيمس مارتينو» الفيلسوف الديني، الذي كرس فصلا لبحث نقدي مفصل لكونت في المجلد الأول من كتاب «أنماط للنظرية الأخلاقية
Types of Ethical Theory »، وفي هذا الفصل اعترف بإعجابه بالفيلسوف الفرنسي في الأمور التفصيلية، ولكنه رفض الوضعية منظورا إليها في جملتها، إذ لم يستطع التوفيق بينها وبين وجهة نظره المؤمنة بالألوهية. أما الاختبار الثاني فقام به «إدوارد كيرد
E. Caird » المفكر الهيجلي الذي نقد كونت من وجهة النظر المثالية في كتابه العميق «الفلسفة الاجتماعية والدين عند كونت
The Social Phil. & Religion of Comte » وبعد ذلك في كتاب «تطور الدين
The Evolution of Religion »، (المجلد الأول، الفصل 12، 1893). ورغم أن هذه الأصوات قد تبدو سلبية، فإنها تشهد مع ذلك بالاهتمام الجدي الذي قوبلت به فلسفة كونت في إنجلترا في العقد السابع والثامن والتاسع من القرن الماضي.
ولقد كان مؤسس الحركة الوضعية في إنجلترا، والقوة الدافعة لها، هو ريتشارد كونجريف
Richard Gongreve (1818-1899)، ففي أثناء عمله زميلا في كلية وادم
Wadham
بأكسفورد، سافر إلى باريس عام 1849، وتعرف إلى كونت شخصيا، ثم زاره مرة ثانية عام 1854. ولقد بلغ من تأثر كونجريف بهذا التعارف أنه قرر التخلي عن عمله في التدريس في أكسفورد؛ لكي يكرس حياته بأسرها «لعقيدة الإنسانية» التي قال بها كونت، وفي عام 1855 نزح إلى لندن، وافتتح بهذه الخطوة الهامة الحركة الجديدة، وفي سنة 1858 نشر ترجمة لكتاب: «شعائر العقيدة الوضعية
Catéchism Positiviste »، وهو العمل الذي حول فيه كونت تعاليمه الفلسفية إلى عقيدة وضعية، وكان كونجريف قد جمع من حوله في بداية عام 1850 - وهو لا يزال زميلا ومدرسا بكلية وادم - مجموعة من الشبان الموهوبين في هذه الكلية، وأذاع بينهم روح فلسفة كونت. وشملت جماعة وادم هذه فردريك هاريسون، وجون هنري بريدجز، وإدورد سبنسر بيسلي، وأصبحت هذه الجماعة، ومعها معلمها كونجريف، نواة الحركة التالية. وبعد أن ترك الشبان الجامعة تشعبت طرقهم وقتا ما في البداية، ولكنهم وجدوا أنفسهم بعد عدة سنوات منهمكين سويا في الدفاع عن قضية واحدة.
ولقد كان فريدريك هاريسون
Frederic Harrison (1831-1923) من أروع شخصيات العصر الفكتوري، فقد كان شخصا له اهتمامات وقدرات متعددة إلى حد غريب، وكان خبيرا في ميادين عديدة، ترتبط على أنحاء شتى متفرقة بحياة عصره الأدبية والاجتماعية والسياسية، وكانت له علاقات شخصية بجميع العقول الكبيرة في عصره تقريبا، وقد عمل في كل هذه المجالات على الإقلال من الخلافات وتخفيف حدة كل ما هو مفرط في الشدة أو التدقيق. وكان له ذهن صاف، تمرس في النقد، لماحا يلتقط الأفكار الجديدة بسرعة. كما كانت له مقدرة غريبة على التعبير الأدبي، تمكن بفضلها من المساهمة فورا في كل المسائل الهامة في عصره، بحيث كان إدلاؤه بحكمه الصائب وخوضه المعمعة بشخصيته المتينة الصادقة، كلما عرضت مسألة لها خطرها؛ كفيلا بإحداث تأثير كبير في المشكلة موضوع الخلاف. أما إنتاجه التأليفي فلا يكاد يكون له حدود، وهو يشمل موضوعات واسعة النطاق إلى حد هائل. وكان كل نوع من التعلم والتفقه المتخصص غريبا عنه، بحيث كان إنتاجه الأدبي والعلمي كله برجماتيا بأدق معاني الكلمة؛ إذ إنه ظل دائما متفتح الذهن للمشاكل والمسائل موضوع البحث بكل ما فيها من ثراء وامتلاء. وكان هدفه دائما هو العمل على نصرة القضية الجديرة بالانتصار، وتقويم ما هو معوج، وإيضاح ما هو غامض، وتخفيف حدة الخلافات، فهو الكاتب «العالمي» بالمعنى الصحيح، والمثقف الأصيل (
Homme de Letters ) بالمعنى الذي حدده فولتير لهذه الكلمة. والحق أن تركيب ذهنه يبدو مشابها لتركيب ذهن فولتير في نواح عدة، ولكن على مقياس أصغر بطبيعة الحال، وعلى مستوى أقل، وإن يكن يكشف في هذا المستوى المنخفض عن شمول في ثقافته يشبه شمول الثقافة عند فولتير، وبراعة في التعبير اللفظي، واتساع نطاق نشاطه الفعال وشدته. وربما كانت الناحية الوحيدة التي أظهر فيها هذا الرجل، رغم مواهبه الرفيعة التي كانت تؤهله للزعامة العقلية، نوعا من ضيق الأفق، هي إيمانه المتحمس بمذهب كونت الذي أصبح بالنسبة إليه معيارا ومرشدا في الفكر والسلوك معا. ولكن حتى في هذه الناحية ينبغي التمييز بينه وبين بقية الوضعيين؛ إذ إن ذهنه كان من الامتلاء والاتساع بحيث رفض أن يقبل قضايا كونت على أنها تركيب عقيدي جامد متحجر، بل نظر إليها على أنها أداة قياس واختبار، فيها حركة وحياة. وهكذا فإنه أقل تلاميذ كونت من الإنجليز تعصبا، وهو الوحيد الذي تمكن، من بينهم، من جعل مذهب كونت يشع حياة كاملة الامتلاء دون تعصب أو تحديد، ولم يبتعد حكمه عن السداد أحيانا إلا في المسائل السياسية، نتيجة لشدة تعلقه بأستاذه الفرنسي وإعجابه بكل ما هو فرنسي، بحيث أدى به ذلك إلى إجحاف مصالح شعوب أخرى. وكما أنه دأب على رفع صوته محذرا من سياسة القوة والتوسع الاستعماري التي اتبعها الإنجليز، فكذلك احتج على انتهاك بروسيا الواضح لحرمة فرنسا في حرب 1870-1871 مطالبا كما فعل غيره من الوضعيين، بتدخل إنجلترا إيجابيا لصالح فرنسا، وكذلك رأى، بالنسبة إلى الحرب العالمية الأولى، أن قضية الحق والإنسانية كلها ممثلة في جانب الحلفاء، ووافق على القضاء على الشعب الألماني واستعباده، مع أن هذا الشعب كان يحارب من أجل بقائه بشجاعة فائقة، وبالقدر الذي يحتمه جشع الفرنسيين وكراهيتهم العمياء.
أما جون هنري بريدجز
John H. Bridges (1832-1906)، الذي ظهرت حماسته لتفكير كونت منذ كان طالبا في «وادم» تحت تأثير كونجريف الطاغي، فقد درس الطب بعد ذلك في لندن، ثم هاجر إلى أستراليا، حيث مارس مهنة الطب زمنا، وواصل ممارسة هذه المهنة أيضا بعد عودته إلى بلاده. ورغم ما كان يبذله من مجهود مخلص دائب في ميدان الصحة العامة، فقد كانت مؤلفاته تمتد على نطاق عظيم الاتساع، فشملت موضوعات تاريخية وفلسفية وأدبية، (مثال ذلك أنه كرس سنوات عدة لنشر كتاب روجر بيكن «المؤلف الأعظم
Opus Majus » في ثلاثة مجلدات)، ولكن الأهم من ذلك كله أنه تحمس للدفاع، بالكلمة المقروءة والمكتوبة معا، عن الوضعية، ولنشر تعاليم كونت، فمنذ عام 1865 أعد طبعة لجزء كبير من المجلد الأول من «مذهب في السياسة الوضعية
Système de Politique Positive »، وهو الكتاب الرئيسي الثاني لكونت في ترجمة إنجليزية
3
تمت في الأعوام 1875-1879 بفضل الجهود المتعاونة التي بذلها هو نفسه كما بذلها هاريسون وبيسلي وكونجريف، وكان قبل ذلك قد دافع عن «وحدة حياة كونت ومذهبه» (1866) ضد هجوم مل، ثم نشر بعد ذلك «خمس مقالات في الدين الوضعي» (1882)، وساهم بنصيب كبير في «التقويم الجديد لعظماء الرجال
New Calendar of Great Man » الذي نشره هاريسون في 1892، ففي هذا المؤلف الأخير وحده، الذي كان نظيرا إنجليزيا لكتاب كونت «التقويم الوضعي
Calenderier Positiviste »، أسهم بكتابة 164 سيرة، وبعد وفاته جمعت له «مقالات وخطب» ونشرت في عام 1907. وكانت مواهب بريدجز، من حيث هو مفكر، تفوق مواهب هاريسون، غير أنه كان ميالا إلى الدرس التأملي المتعمق، مع سعة اطلاع كبيرة، وكان يفتقر إلى الحماسة الإصلاحية والنشاط العملي الذي كان لدى هاريسون منه نصيب كبير.
أما إدوارد سبنسر بيسلي
E. S. Beesly (1831-1915) وهو العضو الثالث في الحلف، فقد عمل، بعد تخرجه في الجامعة، في التدريس فترة ما، وعين عام 1860 أستاذا للتاريخ في الكلية الجامعية «يونيفرستي كوليدج
University College » بلندن، وقد وجه نشاطه الأكبر لمكافحة الظلم الواقع على الطبقات الاجتماعية الضعيفة، فقد كان يمثل لصالحهم قضية الحق العام والعدالة الاجتماعية بحماسة المصلح الصادق، وذلك في محاضراته وكتيباته ومقالاته في المجلات، كذلك نشر بعض الأعمال الأدبية، وقام بنصيب في نشر الطبعة الإنجليزية لكتابي «السياسة الوضعية» و«التقويم الوضعي».
وهكذا فإن الحركة الوضعية نمت في إنجلترا من البذرة التي بذرت في «وادم كوليدج»، وكان مركز هذه الحركة هو «الجمعية الوضعية بلندن» التي أسست عام 1767، على نمط الجمعية الوضعية التي أسسها كونت عام 1848، وفي عام 1870 حصلت الجمعية على مبنى في شارع «تشابل» (وهو شارع «كوندويت
Condwit » عند «لام
Lamb »)، وما زال هذا المبنى منتميا إليها، وسرعان ما تحول إلى معبد وضعي على الطريقة التي حددها كونت، فوضعت فيه تماثيل نصفية لعظماء الشخصيات وقديسي الإنسانية، تمثل الشهور الثلاثة عشر، ووضعت أمام المبنى لوحة نقشت عليها الصيغة المقدسة للوضعية:
باسم الإنسانية،
الحب هو المبدأ،
والنظام هو الأساس،
والتقدم هو الغاية،
عش من أجل الغير، عش متفتحا.
وكانت تعقد هناك صلوات منتظمة لها صيغ محددة، كما كانت تلقى أناشيد وخطب وضعية، وكانت تقام حفلات رسمية خاصة في أيام أعياد الوضعية، أي في ذكرى مولد كونت ووفاته، لا تختلف كثيرا عن الاحتفالات الفرنسية الأصلية التي كانت هذه تقام على نمطها.
على أن تنظيم العبادة الدينية لم يكن يكون إلا جانبا واحدا من أوجه النشاط المتنوعة التي كان يقوم بها الوضعيون، فإلى جانب نشاطهم الأدبي الذي أشرنا إليه من قبل، كان لهم أيضا تأثير في الحركات التعليمية والاجتماعية والسياسية، فتكونت جماعات للشبيبة، ونظمت دروس مسائية، وكانت تبذل أحيانا محاولات لإنشاء نوع وضعي من التعليم المدرسي. وفي الميدان السياسي حاولوا اكتساب تأثير دائم بالاحتجاجات العلنية والخطابات المفتوحة إلى الحكومة والكتيبات إلخ، وكانوا ينشرون هذه الكتابات عندما كان الأمر يستدعي اتخاذ قرارات حاسمة في الداخل وفي الشئون الخارجية على الأخص. وقد ارتبط نشاطهم بوجه خاص، في الناحية السياسية، بقضية الحركة النقابية، التي ساعدوا على إقرار الاعتراف القانوني بها. ومن الحركات الاجتماعية والسياسية الأخرى التي لعبوا فيها أدوارا كان لها نصيب متفاوت النجاح، حركة تحرير المرأة، والكفاح من أجل حرية أيرلندا، ومعارضة سياسة القوة الاستعمارية، وإلزامية التعليم، والإصلاح النيابي.
ولقد اندمجت الجمعية الوضعية بلندن، التي أنشئت في شارع «تشابل»، اندمجت منذ البداية في الكيان الكامل للتنظيم الوضعي العالمي، وهو التنظيم الذي بدأ عمله بعد وفاة كونت بوقت قصير، متخذا من فرنسا مركزا له. وكان أول «كاهن أعظم للإنسانية» هو الفرنسي «بيير لافيت
»، صديق كونت الحميم، الذي تولى رئاسة الحركة بأسرها بعد وفاة مؤسسها، والذي أصبح كونجريف وزملاؤه، بالتالي، مرءوسين له، على أن الارتباط بالكنيسة الأم لم يكن ارتباطا وثيقا، بل كان قوامه دفع الاشتراكات للصندوق المركزي، والتشابه في اللوائح وأوجه النشاط. وقد بدأت بعض الاختلافات في وجهات النظر تظهر داخل الجماعة الإنجليزية، لا سيما في مسألة إيجاد تنظيم مركز من نوع كنسي دقيق؛ ذلك لأن فكرة تحويل الحركة كلها إلى كنيسة كانت متسلطة على ذهن مؤسس الحركة الإنجليزية وهو كونجريف، الذي كان شخصية ذات طاقة هائلة وقوة فردية عظيمة، أما أنصار الحركة من الشبان فقد أرادوا الاكتفاء بصيغ وطقوس أقل دقة، ولهذا السبب ذاته نشب خلاف بين «لافيت» وكونجريف، أدى في النهاية إلى شقاق علني، وبالتالي إلى انفصال الجماعة الإنجليزية عن المركز العام في فرنسا. ولكن هذه الخطوة كانت لها نتيجة لا مفر منها، هي حدوث انقسام في صفوف الحركة الإنجليزية؛ إذ رفض الأعضاء الأصغر سنا مسايرة القائد؛ نظرا إلى انشقاقه عن لافيت، واحتفظوا باتصالهم مع المنظمة الفرنسية ودعموه، ومن ثم فقد أنشأوا جماعة مستقلة تحت قيادة «لافيت». ورغم ذلك كله، فقد تمسك كونجريف بموقفه، واستطاع أن يكسب تأييد جزء من الطائفة الوضعية، وواصل إقامة الصلوات والمراسيم الدينية في شارع «تشابل»، أما جماعة «لافيت» فقد انضم إليها بريدجز وهاريسون وبيسلي، وأصبح بريدجز أول رئيس لل «هيئة الوضعية بلندن
London Positivist Committee » التي أنشئت حديثا، وحدث ذلك الانقسام عام 1878. وفي عام 1880، اعتزل بريدجز الرئاسة، وحل محله هاريسون بشخصيته الذكية، وظل يقود الجماعة حتى سنة 1904، وسرعان ما اتخذت الجماعة لنفسها دارا خاصة بها في لندن، أطلق عليها اسم «قاعة نيوتن
Newten Hall » وافتتحها «لافيت» بنفسه في أول مايو سنة 1881.
وهكذا فمنذ سنة 1878 كانت هناك جماعتان وضعيتان مستقلتان في إنجلترا، تستهدفان أساسا نفس الغايات وتقومان بنفس أنواع النشاط، أصبحت إحداهما مكتفية بذاتها تماما، بينما احتفظت الأخرى بعلاقات رسمية مع مركز الحركة في باريس، وقدمت إليه معونات مالية. وسنطلق على أولى هاتين الجماعتين اسم جماعة كونجريف، وعلى الثانية جماعة هاريسون، وذلك تبعا لاسم رئيس كل منها. وتشترك الجماعتان في أنهما أظهرتا أعظم قوة وأكبر قدر من النمو في العقدين التاسع والأخير من القرن الماضي، وبحلول القرن الجديد طرأت عليهما عملية انحلال سريع لم يكن من الممكن إيقافها، وأصاب الحركة كلها هزال، وأخذت تضمحل رويدا رويدا. وأحرزت كلتا الجماعتين بعض النجاح في الأقاليم، وإن يكن في معظم الأحيان نجاحا عابرا، فقد تكونت «خلايا» للوضعيين في ليفربول ومانشستر ونيو كاسل وبعض المدن الأخرى، غير أن الحركة ظلت أساسا مقتصرة على العاصمة. وقد فقدت جماعة كونجريف، قوتها الدافعة بوفاة كونجريف عام 1899، وأدى فقدان زعيمها إلى انحلالها، فخلفه هنري كرومتون
Henry Crompton ، ومن بعده الفرد هاجارد
Alferd Haggard ، وهنري دوسانز
Henri Dussanze
وفيليب توماس
، ولكن لم يكن لواحد من هؤلاء تلك الصفات الممتازة التي كان يتصف بها المؤسس الإنجليزي الأول للوضعية. وأما جماعة هاريسون فقد أظهرت مزيدا من الحيوية، وكان الفضل يرجع إليها في جمع ونشر «التقويم الجديد للعظماء» الذي أشرنا إليه من قبل، وفضلا عن ذلك فقد أسست الجماعة مجلة خاصة بها، هي «المجلة الوضعية
The Positivist Review » التي أنشئت سنة 1893، وكان يشرف على نشرها أولا بيتسلي، ثم س. ه. سويني
S. H. Swinay ، وأخيرا ف. ج. جولد
F. J. Gould . وقد تخلى هاريسون عن رئاسة الجماعة عام 1904، ولكنه ظل بعد ذلك يقدم تأييده إلى الجماعة بالمشورة والفعل وبالكلمة المكتوبة والمنطوقة، ولقد ظل حتى بعد تجاوزه الثمانين، بل حتى بلغ التسعين من عمره، يحارب في سبيل أفكاره بحرارة وحماسة تكاد تعادل ما كان يبديه في شبابه، وكان دائما يتقدم الصفوف كلما اعتقد أن حقا قد هضم، أو أن انحرافا يحتاج إلى تقويم. وقد توفي المحارب المتحمس وهو في الحادية والتسعين، وبوفاته راح آخر ممثل لحركة كرس لها أفضل ما في حياته، وستظل دائما مرتبطة باسمه قبل غيره. وقد جمع ذلك العدد الهائل من المقالات والخطب والمناقشات والمحاضرات التي ألقاها هاريسون أو كتبها في المجلدات الآتية، التي هي، بالإضافة إلى «المجلة الوضعية» أفضل مرجع لدراسة الحركة، «عقيدة رجل غير متخصص في الدين (علماني)
Creed of a Layman » (1907)، و«فلسفة الموقف الطبيعي (أو فلسفة الإدراك المشترك)
The Phil. of Common Sense » (1907)، و«المشاكل القومية والاجتماعية
National and Social Problems » (1908)، و«الحقائق والمثل العليا
Realities and Ideals » (1908)، و«التطور الوضعي للدين
The Positive Evolution of Religion » (1913)، وينبغي أن نضيف إلى هذه كتابه، «مذكرات من حياتي الشخصية
Autobiographic Memoirs » (1911) وقد صدر في مجلدين، ويروي فيه قصة حياته الزاخرة المليئة بأسلوبه الحي المشوق، وقد قدم ماكجي
J. E. McGee
عرضا دقيقا شاملا لكتاباته في كتابه «حملة صليبية من أجل الإنسانية
A Crusade For Humanity » (1913، ص241-245)، وفيه عرض تاريخ المذهب الوضعي الإنجليزي المنظم لأول مرة في صورة جامعة، وإلى هذا الكتاب المفيد غاية الفائدة ندين بالجزء الأكبر من الحقائق الواردة في هذا القسم.
وكان رئيس الجمعية الوضعية الذي عين خلفا لهاريسون هو «س. ه. سويني
S. H. Swinny » (1905) الذي ظل وقتا طويلا يشرف على تحرير صحيفة الجمعية، وبعد عام واحد من تعيينه، توفي بريدجز، وأعقبه بيسلي بعد تسع سنوات، وأخيرا تم الصلح بين المعسكرين المتعارضين، وأعيد توحيدهما وسط الحرب العالمية الأولى (1916)، بعد إخفاق عدة محاولات سابقة. غير أن هذه التقوية الخارجية لجسم الوضعية العليل قد أتت بعد فوات الأوان، فلم تستطع الحيلولة دون الانحلال التام للحركة التي غدت ضعيفة بحكم السن، فمنذ ذلك الحين عادت اجتماعاتهم تعقد في شارع تشابل؛ إذ كانت الحركة قد فقدت «قاعة نيوتن» قبل ذلك بوقت طويل (1902)، وكان أتباع هاريسون قد اضطروا إلى البحث عن أمكنة أخرى لعقد اجتماعاتهم، وتم انهيار الحركة في السنوات التي أعقبت الحرب، ففي 1920، تولى «لاسبل
T. S. Lascelles » الرئاسة بعد اعتزال ب. توماس، وفي 1923 توفي هاريسون وسويني، وفي 1925 توقفت المجلة الدورية التي كان يرأس تحريرها منذ سنتين جولد بعنوان «الإنسانية
Humanity » عن الظهور، وهكذا يمكن القول إن الحركة قد انتهت من الوجهة العلمية، حتى رغم أنه ما زالت هناك، حتى وقت ظهور هذا الكتاب (أي عام 1937) «هيئة وضعية بلندن»، تملك غرفة في شارع «تشابل».
4
الفصل الرابع
الجماعات المهتمة بالفلسفة الدينية
سوف يقتصر العرض الذي سنقدمه في هذا الفصل للفلسفة الدينية في الجزء الأول من الفترة التي هي موضوع بحثنا، على المفكرين الذين كانت لهم أهمية مستقلة خارج التيارات الفلسفية التي عالجناها حتى الآن، فليست مهمتنا هنا، كما كانت في الفصول السابقة، هي تتبع تطور حركة فكرة منفردة موحدة مكتفية بذاتها نسبيا، وإنما هي ضم وجمع كل ما يبدو هاما في ميدان النظريات الفلسفة الدينية، أي في التفكير المتجه إلى المسائل الدينية أينما وجد في سياق واحد شامل. ولكن أبعد الأمور عن غرضنا هو أن نقدم ما يمكن أن يعد عرضا شاملا للحياة الدينية في إنجلترا في القرن التاسع عشر، حتى ما يتخذ منها صبغة نظرية؛ ذلك لأن دور الجهود التي تبذل في ميدان اللاهوت كان بطبيعته أكبر من دور الجهود الفلسفية في تكوين مثل هذه النظرية، ورغم أن الحدود بين هذين الميدانين تتداخل على الدوام، فمن واجبنا مع ذلك أن نقصر حديثنا على الميدان الأخير بقدر الإمكان، وهكذا فإن عرضنا الموجز سيقتصر على ما له صلة حقيقية بالفلسفة، وحتى في هذه الحالة لا نستطيع أن نقدم من ذلك إلا حالات مختارة.
وما دامت هذه هي وجهة نظرنا، فلزام علينا أن نتناول أولا تلك الحركة التي كان تأثيرها في الحياة الدينية بإنجلترا في القرن التاسع عشر يفوق تأثير أية حركة أخرى. وأعني بها «حركة أكسفورد» التي ظهرت في العقدين الرابع والخامس من ذلك القرن، والتي أدت إلى إعادة تشكيل وتحويل قدر كبير من الديانة المعاصرة لها. وقد كان معنى هذه الحركة، بالنسبة إلى الفلسفة وإلى الحياة العقلية العامة لذلك العصر، رد فعل على معظم الاتجاهات التي كانت سائدة عندئذ: أي على المذهب العقلي بمختلف صوره، وعلى الثقة بالمعرفة والزهو بالعقل، وعلى أخلاق السعادة ووهم التقدم، والفكر الحر والليبرالية، ورد الوجود إلى الوقائع الخارجية، والقيم الدنيوية، وصبغ الدين بصبغة سطحية ضحلة، وجعل حياة الكنيسة راكدة، أي بالاختصار على روح التنوير كما خلصت من الانهيار الذي طرأ عليها في القرن الثامن عشر، وتركزت على عرشها المتين في القرن التاسع عشر. ولقد بدأت هذه الحركة في جامعة أكسفورد، شأنها شأن الحركة المثالية الجديدة التي ظهرت في الجيل التالي لها، وقام بها رجال مثل «ج. ه. نيومان» و«ج. وكيبل» و«أ.ب. بوس» و«و. ج. وورد» و«ر. ه. فرود»، وكان هدفها المؤكد، قبل كل شيء، هو تجديد الحياة الدينية وتعميقها، ولكنها اشتملت في ذاتها أيضا على قوى فلسفية هامة كانت هي التي أطلقتها من عقالها، وكان الرجل الذي أضفى عليها روحها بوصفها حركة دينية، هو ذاته الذي كان أكبر ذهن فلسفي فيها، وهو تلك الشخصية الفذة الرفيعة الكردينال نيومان.
ومن المؤكد أن جون هنري نيومان
J. H. Newman (1801-1890) ينتمي إلى طليعة القادة والرواد العقليين الإنجليز في القرن التاسع عشر، ولا ترجع مكانته السامية إلى قوة شخصيته وطبيعته الفريدة وسمو ذهنه فحسب، بل ترجع أيضا إلى رحابة أفقه العقلي، واتساع نطاق علمه، وعمق تفكيره، والأهم من ذلك، إلى إيمانه القوي العميق التأصل الذي أسهم فيه، بنصيب متكافئ، شعوره الإنساني الرفيع ومواهبه العقلية الضخمة. ولقد تركزت فيه الطاقات الروحية للحركة الإنجليزية الكاثوليكية، التي أصبح هو ذاته، بمضي الوقت، أقوى داعية لها، وإن لم يكن هو الذي أسسها. غير أن نطاق تأثيره قد امتد أبعد من هذه الحركة كثيرا، بحيث شمل مجالات في الفكر وفي الحياة الدينية لا تشترك مع هذه الحركة في شيء، فنيومان هو أكبر داعية لمذهب الروم الكاثوليك عرفته إنجلترا منذ الانقسام بين الكنائس، ولقد بذل جهدا يفوق ما بذله أي شخص قبله في الكشف للعالم الإنجليزي عن أمجاد هذه الكنيسة وعظمتها، وعن إيمانها وتراثها، وعقائدها ونظمها، وحياتها الباطنة فضلا عن الظاهرة؛ بحيث استطاع أن يشعر الناس بروحها وهي تنبض بالحياة. كل ذلك راجع إلى أن إيمانه لم يكن مجرد تعاليم تلقن، وإنما كان حياة تحيا، ولأنه هو ذاته كان تجسدا منظورا، يراه القاصي والداني، لتلك الرسالة التي دفعه إحساسه الباطن بالواجب الملقى على عاتقه إلى أن ينقلها إلى عصره. ولقد كانت الشخصية الوحيدة التي تناظره، والتي ظهرت في عصر متأخر، هي شخصية ف. فون هوجل
F. Von Hügel ، الذي كانت له رسالة مماثلة يؤديها في إنجلترا في القرن الماضي، وإن لم تكن له سلطة سلفه العظيم واتساع نطاق نفوذه.
ورغم أن فلسفة نيومان - بقدر ما يمكن استخلاصها من بقية أعماله - هي قبل كل شيء تلخيص لإيمانه الديني وتبرير له، فإنها لا تقتصر على ذلك، وإنما هي أيضا مظهر نزوع أصيل إلى المعرفة، وحضور ذهن رائع، كانا من المميزات الأساسية لطبيعته. فهو لم يكتف بإعلان الإيمان الذي كان يتملكه من البداية إلى النهاية، وإنما كان يهمه بنفس القدر أن يثبت هذا الإيمان ويدعمه نظريا. وهو لم يعمل، من أجل تحقيق هذه الغاية، على الرجوع إلى الفلسفة المدرسية وتجديدها كما قد يتوقع المرء، بل لقد كان تركيبه الذهني بأسره بعيدا كل البعد عن المدرسية، التي كانت نقط التقائه معها تقل بكثير عن نقط اختلافه معها، بحيث إن من الخطأ تماما الربط بين مذهبه وبين الحركة المدرسية الجديدة، أو الإشارة إليه - كما فعل الكثيرون - وكأنه سلف لهذه الحركة؛ فمذهبه إنما هو تركيب لا يحمل أي طابع نيومان نفسه، وهو طابع ترجع جذور محتواه الديني إلى تعاليم آباء الكنيسة أكثر مما ترجع إلى مذهب توما الأكويني، كما ترجع جذور نظريته إلى التراث الإنجليزي (الذي هو أيضا التراث التقليدي).
ولا تؤلف كتابات نيومان الفلسفية إلا جزءا صغيرا نسبيا من إنتاجه الأدبي الضخم،
1
وأهم هذه الكتابات هي، «بحث في تطور المذهب المسيحي
An Essay on The Development of Christian Doctriue » (1845) و«بحث للوصول إلى قواعد التصديق
An Essay in Aid of a grammar of Assent » (1870)، ويمكننا أن نضيف إلى هذين كتاب «فكرة الجامعة
The Idea of a University » (1852)، وإن لم يكن لهذا الكتاب، الذي يعرض فيه نيومان برنامجه في التعليم الجامعي، غرض فلسفي على التخصيص، ولنضف إلى ذلك بعض مواعظه الدينية في الجامعة، ومؤلفه المشهور «دفاع عن حياتي الذاتية
Apologia pro Vita Sua » (1864).
والفكرة الرئيسية في فلسفة نيومان النظرية تتمثل في فعل «التصديق
Assent » العقلي، وفعل «الإدراك الواعي
Apprehension » السابق عليه، ويظهر مبدؤها الموجه في التمييز الأساسي بين الإدراك الواعي الحقيقي (أو الشيء)
real
والإدراك التصوري
Conceptual (وبين التصديق الحقيقي والتصوري)، وهو الذي يكون أساس كل مساهمة أصيلة لنيومان، سواء في ميدان نظرية المعرفة، أو في فلسفة الدين واللاهوت فيما بعد. ونستطيع أن نسمي هذه أيضا الحقيقة المجربة الأولى في فلسفته؛ إذ إن كل أفكاره تقريبا تنبع منها.
فما الذي يمكننا أن نفهمه من التقابل بين الإدراك «الحقيقي» والإدراك «التصوري»؟ إن الإدراك، بمعنى الموقف النفساني من أية واقعة معينة أو الاستجابة النفسانية لها، يحدث بدرجات مختلفة من القوة والشدة، تبعا لطبيعة المعطى الذي ندركه أو يدركنا، وتتوقف قوة الإدراك على القوة الكامنة في الموضوع والمنبثقة منه إلينا، على أن من الحقائق المقررة بالنسبة إلى الطبيعة البشرية أن الأشياء العينية تؤثر فينا بقوة تزيد كثيرا على تأثير الأفكار المجردة فينا، وأن ما هو موجود بالمعنى الأصيل، أي بمعنى أن له وجودا عينيا حقيقيا، ينطبع على ذهننا بعمق يزيد على عمق انطباع ما هو مستمد من الواقع، أعني كل ما هو مجرد أو تصوري. وهكذا فإن الإدراك الحقيقي أكثر فعالية من الإدراك التصوري، من حيث إن موضوعاته تنطبع علينا وتؤثر فينا بقوة تزيد كثرا على تأثير الصور التي هي موضوع الإدراك التصوري، وهناك تمييز مناظر لهذا بين «التصديق» الذي نقوم به بالنسبة إلى ما هو عيني حقيقي من جهة، وبالنسبة إلى ما هو تصوري من جهة أخرى.
وهناك تقابل آخر يدعم التقابل بين الإدراك الحقيقي والإدراك التصوري، هو التقابل بين المعرفة المباشرة والمعرفة غير المباشرة، فالأولى تحدث حدسيا في الخيال، وهو ملكة هامة للمعرفة يعزو نيومان إليها دورا في إدراك الحقائق لا يقل عن أهمية الدور الذي يعزوه إليها هيوم، وهي تحدث بصورة أكمل في الإدراك الحسي، سواء أكان خارجيا أم داخليا.
ففي الإدراك الحسي يعطى لنا الشيء ذاته، أو جزء أو وجه منه على الأقل، بصورة جسمية ملموسة، ويصبح الشيء مواجها لنا مباشرة بوصفه فردا عينيا، ويدعونا إلى أن نكمل تحققنا منه في تجربة حية، ولا يمكن أن يكون الإدراك الحسي والخيالي منفصلين تماما عن الواقع، ورغم ما بينهما من بون شاسع، فلا يمكن أن يكون الواقع بمنأى عنهما، وإنما يدخل الواقع مجال الإدراك الحسي بتوسط الصورة، فوظيفة الإدراك الحسي تخيلية
imaginative
مثلما هي تمثلية
representative (أو محاكية
imitative )، وهي ليست تخيلية بمعنى الإغراق في الخيال والبعد عن الواقع، وإنما بمعنى تكوين صورة في المخيلة تكون جزءا لا يتجزأ من الواقع، فالإدراك الحقيقي هو إدراك عن طريق صورة عينية. ومهما كانت كثرة صور الموضوع أو أوجهه في الوظيفة الإدراكية، فإنها تقوم بدور الوسيط في نقر الموضوع التي هي صورة له، بما يتصف به من واقعية (وبالتالي من حقيقة أساسية). ففي الصورة، سواء أكانت كافية أم غير كافية، وسواء أكانت تعبيرا أمينا أم غير أمين عن الموضوع، ينقل الواقع دائما، مهما كان الأمر، ويمكن أن يصل فيها إلى حد الاكتمال. وحتى في الحالات التي يبدو فيها الإدراك بعيدا كل البعد عن الواقع، بل ومنفصلا تماما عنه (كما في تخيل الشاعر أو ابتداع القصاص) نستطيع أن نلمح مع ذلك بوضوح طابع الواقع، ويكون هناك دائما شيء واقعي (وذلك دائما بمعنى أنه شيء فردي عيني يمكن إدراكه حدسيا إلخ) هو الأساس الكامن من وراء الخيال، ولكن المعرفة لا تقبض على ناصية الواقع، لكي تصل منه إلى الحقيقة، إلا عن طريق الصور دائما. وبفضل وجهة النظر هذه ينكشف المعنى العميق للكلمات المنقوشة على مقبرة نيومان في «ردنال
Rednal »، بالقرب من مدينة برمنجهام، وهي «من الظلال والصور إلى الحقيقة
Ex Umbris of Imaginibus in Veritatem ».
وأخيرا ينبغي أن نضيف إلى الإدراك الحسي والخيال أداة ثالثة للإدراك الحقيقي هي الذاكرة، فهنا أيضا تكون إزاء نوع من المعرفة العينية الشبيهة بالتصويرية، نتصل عن طريقها بالوجود الواقعي، بحيث يكون الحادث المتذكر مشابها تماما للموضوع المدرك حسيا والمتخير، مع فارق واحد هو أنه يحدث في صيغة الفعل الماضي.
أما الإدراك التصوري فيختلف اختلافا تاما عن كل إدراك حقيقي، فهو لا يتخذ من «الصورة» وسيطا لفاعليته، بل إن وسيطه الرمز والعلامة، وهو لا يتصل بالطبيعة الحقيقية، وإنما يشيد فوقها عالما خاصا به هو عالم العقل الذي يتكون من تصورات وتحديدات، ومن استدلالات واستنباطات منطقية، أي بالاختصار من رموز غير واقعية. هذا النوع من الإدراك هو الأداة المستخدمة في كل معرفة علمية، وهو مشروع تماما، بل لا بد منه في مجال العلم، ولا يمكن أن ترفض ادعاءاته إلا عندما تتعدى على المجالات الأخرى، كما يحدث في تلك العصور التي تتجه نحو النزعة العقلية
intellecetualism . ومن الواضح أن نيومان يقصر قدرة العقل على حدود ضيقة، ويبخس التصور حقه، وهو يكشف دائما عن تفضيل لما هو عيني وفردي، وما هو موضوع لإدراك حسي واضح، وللواقع غير العقلي المجرب مباشرة، وهو يبالغ في تفضيله على حساب المعقول والكلي والمجرد، أي ما يتم يتوسط العمليات المنطقية أو بالاستدلال منها.
وإن ما يصح على فعل الإدراك ليصح بنفس القدر على فعل التصديق
assent ، فهنا أيضا نجد نفس التقابل بين التصديق الحقيقي والتصديق التصوري، أو بين التصديق المطلق والاستدلال، ولسنا في حاجة إلى تتبع تفاصيل هذا الموضوع؛ إذ إن مناقشته كلها تسير في خط مواز لمناقشة الموضوع السابق. ويعني نيومان بالتصديق فعلا ذهنيا لا يمارس فيه العنصر العقلي من طبيعتنا فحسب، وإنما تتضمن فيه شخصيتنا الكاملة، بما فيها من عوامل عاطفية وإرادية، على نحو أقوى بكثير مما يحدث في العنصر العقلي. فالتصديق نوع من الاستجابة الكاملة لموقف فعلي معين أو ظرف خاص، وقد تلعب العلميات المنطقية دورا فيه، غير أن هذا يكون دائما دورا ثانويا، فالتصديق فعل عيني مباشر، وهو فعل شخصي تماما، وليس قابلا للتحليل أبعد من ذلك، وهو في أساسه واحد غير منقسم، ولا يقبل درجات أو فروقا في القوة. وهو مطلق في كل لحظة، وحتى حيث يكون مشكوكا فيه، يكون عنصر الشك متضمنا في القضية أو الواقعة التي يوجه إليها فعل التصديق، لا في فعل التصديق ذاته. والأمر على خلاف ذلك تماما في الاستدلال، الذي هو دائما مشروط وغير مباشر، والذي يمر بدرجات مختلفة من التأكيد، ولكنه لا يتجاوز أبدا اليقين النسبي للاحتمال ليصل إلى اليقين المطلق للتصديق. غير أن هذا الانتقال من الاحتمال إلى التصديق ينبغي أن يتم إذا أردنا أن يكون لنا من الحقيقة نصيب، ولن تساعدنا على تحقيقه أية تجريدات تصورية أو سلاسل منطقية من البرهان والاستدلال. وإنما الذي يلزمنا نوع من الشعور العيني أو النزوع إلى الحقيقة، الذي ينبغي بالتالي أن يرد بأكمله إلى اليقين الذاتي الباطن للروح الفردية، وإلى القرار الشخصي للذهن الذي يدرك ويحكم. مثل هذا القرار ليس ناتجا عن عمليات منطقية مطولة معقدة، وإنما هو يقوم على نوع من الإدراك الحدسي الذي يرتكز، لا على ملكة التفكير في الإنسان فحسب أو على فهمه، وإنما على شخصيته الكاملة؛ ذلك لأن «ما هو برهان بالنسبة إلى ذهن ما، ليس كذلك بالنسبة إلى ذهن آخر، وإن يقين قضية ما ليرتد في الواقع إلى يقين الذهن الذي ينظر فيها.»
ويطلق نيومان على هذه القدرة الذاتية على إدراك الحقيقة، وهي القدرة التي تنطوي على ما يزيد كثيرا على ملكاتنا العقلية بأسرها، اسم «الحس الاستدلالي
illative sense »، وهو يعني بهذا اللفظ المنهج الأصيل للاستدلال، الذي لا يقتصر على استخدام التجريدات المنطقية والعمليات التصورية، والذي نستطيع بفضله، رغم ذلك، أن ندرك الحقيقة ذاتها في كل تراثها وحيويتها، وفي طابعها العيني الفردي. ولكنا هنا إزاء موهبة شخصية، تقتضي تدخل الإنسان بأكمله، لا مجرد ملكة منفصلة بطريقة سطحية، لا تكون بنفسها قادرة أبدا على التعرف على الواقع أو بلوغ الحقيقة، «فليس ثمة معيار نهائي للحقيقة، بمعزل عن الشاهد الذي يواجه به الذهن ذاته الحقيقة.» ولما كان المعيار الوحيد للحقيقة هو اليقين الذاتي للذهن الفردي، كانت موضوعية الحقيقة مبنية على هذه الذاتية، أي على الصواب المطلق لهذا الحس الاستدلالي الذي تفهم به الحقيقة.
هذا العرض السريع للأفكار الرئيسية في نظرية المعرفة عند نيومان يكشف بوضوح عن مدى خطأ أية محاولة تبذل لإيجاد أي ارتباط بين مذهبه وبين النظرية المدرسية، والأصح من ذلك أن يقال: إن جذور مذهبه إنما تكون في المذاهب الكلاسيكية للتجريبية الإنجليزية، وإنه على حين يستمد كثيرا من لوك وباركلي وبطلر، يعمل في الوقت ذاته على إعادة صياغة ما أخذه من هذه المصادر بطريقة حرة، ولا يتخذ موقف الاعتماد الكامل لتنفيذ مخلص (وهذه نقطة لا يتعين علينا مناقشتها بالتفصيل). فكل شيء في مذهبه يتخذ طابعه الذهني الخاص ويمتلئ به، وهو لا يستمد من التراث الذي يتصل به غذاء يتمثله، وإنما يستمد منه جوا ذهنيا يستنشقه. وإلى هذا الحد يمكن القول: إن التراث التجريبي قد طرأ عليه هنا تجديد، ولكن على يد مفكر ليس وثيق الارتباط به، وإنما كان في قرارة نفسه مبتعدا عنه ابتعادا أساسيا.
كذلك يمكن تحديد نقط التقاء بينه وبين أنواع النظريات التالية له، فضلا عن السابقة عليه، مع تحفظات معينة في كل حالة. ومن أمثلة هذه النظريات، «فلسفة الحياة» عند برجسون، والبرجماتزم عند جيمس، غير أن تعاليم نيومان لم تجد في هذه النظريات إلا صدى غير دائم، وفضلا عن ذلك فإن تحليلات نيومان الوصفية الدقيقة والعميقة لظواهر الإدراك والتصديق والاحتمال واليقين تشير مقدما - كما لاحظ «تيودور هيكر
Theodor Hacker »
2 - إلى أوصاف هوسرل الفينومينولوجية، وإن لم يكن من الممكن إثبات أي ارتباط تاريخي بين هذين المفكرين. ومن هذا كله نستنتج أن فلسفة نيومان النظرية كانت تنطوي في ذاتها على عدد غير قليل من الأفكار ذات الدلالة البالغة بالنسبة إلى المستقبل، وهي أفكار لم تظهر بالفعل إلا بعده بوقت طويل، كما نستنتج أنه رغم كل الامتداد العميق لجذورها في الماضي، فقد قامت بدور ملحوظ في التمهيد للتطور التالي للفكر.
ولكنا لو نظرنا إلى نقد نيومان للمعرفة على أن له غرضا نظريا بحتا لكنا بذلك نسيء فهمه؛ فهدفه منذ البداية عملي، أعني إثبات الإيمان الديني، ومن ثم فهو يحتل مكانته في سياق أوسع لا يكتسب معناه الكامل إلا فيه. «فنظرية المعرفة» هي الأساس والمرحلة الأولى بالنسبة إلى «نظرية الدين» التي تنتقل إليها آخر الأمر، ولكن حتى في هذه الحالة بدورها، أي في هذه المشكلة الجديدة التي تواجه نيومان الآن، ينصب اهتمامه الأول والأكبر على الجانب الذاتي للدين، أي على إدراك العنصر الإلهي في الوعي البشري. ومع ذلك ينبغي أن نؤكد أن هذا لا يعني صبغ الدين بالصبغة الذاتية أو نزع الصفة الموضوعية عنه، وإنما يعني فقط أن الاهتمام الأكبر لهذا المفكر ينصب على الجانب الذاتي، فهو في كل الأحوال يسلم بالدين من حيث هو حقيقة موضوعية، ولما كان يؤلف الأساس الثابت لكل إيمان، فإنه لا يقتضي أي دعم نظري مستقل. وإذن فالمشكلة الفلسفية التي تواجه نيومان تؤدي إلى السؤال التالي: على أي نحو يشارك الذهن البشري في الحقيقة الإلهية؟ وبأي الوسائل المعرفية يتمكن من إدراك هذه الحقيقة؟
وعندما يلاحظ نيومان في أحد المواضع أن هناك بالنسبة إلى كل منا حقيقتين نهائيتين فحسب، هما ذاتنا والله، فإنه يقول بالحقيقتين الأوليين اللتين يهتم بهما التفكير الديني، أعني نفس الإنسان والوجود الإلهي. هاتان الحقيقتان ينبغي أن تتميزا عن أي كيان آخر فيما يتعلق بالطابع الخاص لحقيقتهما؛ إذ لا يتصف أي شيء آخر بهذا القدر الرفيع من الشخصية والعينية والفردية والحيوية؛ ذلك لأن نيومان لا يعني بلفظ «الحقيقي» أي موجود بما هو كذلك، وإنما هو يستخدم اللفظ دائما بالمعنى القطعي الذي تدل عليه تلك الصفات الأربع التي عددناها الآن. ومن الواضح، من وجهة النظر هذه، أن حقيقة الله هي أرفع ما يتسنى لتجربتنا الوصول إليه؛ إذ إنها هي العينية وقد رفعت إلى أعلى درجات القوة.
وهكذا نستدل بكل وضوح، من وجهة النظر التي اتخذها نيومان في نظريته هذه، على أنه يرى أن إدراكنا لهذه الحقيقة (وتصديقنا عليها) إنما يتم على نفس النحو الذي يتم عليه إدراكنا للحقيقة العينية بوجه عام، أعني إدراكنا لذاتنا وللذوات الأخرى وللعالم الخارجي. ولكن هذا يعني أن العقل والوظائف العقلية المرتبطة به، لا تقوم وحدها في هذا الصدد بأي دور، أو لا تقوم بأي دور ضئيل، وإننا نحتاج ثانية إلى تدخل الشخصية الكاملة، والجانب العملي فيها على التخصيص، إذا ما شاءت النفس الوصول إلى الحقيقة الإلهية. وفي هذا الصدد يكتب نيومان قائلا: «من المحال أن يكون للبرهان المنطقي دور في الموقف العيني الذي يتعين علي مواجهته.»
فوجود الله لا يمكن الاستيقان منه بعملية استدلال، ولا يمكن أن يتكشف بوصفه الحلقة الأخيرة في سلسلة قياسات منطقية، وإنما هو يقتضي ذلك النوع من «الإدراك الحقيقي» المباشر تماما، وذلك «الحس الاستدلالي» الحدسي، الذي تتفاعل فيه كل قوانا وتطلق فيه كل مقدراتنا الذهنية. ولسنا هنا إزاء ملكة ذهنية على التخصيص، بل ولا أي نوع من الملكة «الخاصة» التي تكون لها حرية العمل مستقلة عن الشخصية في مجموعها، وإنما هذا نشاط يتم فيه تنسيق الأجزاء المتعددة في هذا الكل على نحو يصل فيه وجود الإنسان بأكمله إلى أعلى قدرة ممكنة على الإدراك، ولا شك أن العوامل العقلية تشارك في هذا النشاط، وإن تكن القيمة التي تعزى إليها ضئيلة، كما يشارك فيه الشعور، وإن يكن نيومان ينظر بعين الارتياب الشديد إلى الشعور، عندما يتخذ أساسا للإيمان الديني «فالدين، من حيث هو مجرد شعور، هو بالنسبة إلي وهم ومهزلة .»
وهكذا فإن نيومان لا يعطي المكانة الأولى في مذهبه للذهن ولا الشعور وإنما للضمير، وعلى ذلك فمن الواضح أن البواعث الأخلاقية هي الأقوى تحكما في نظريته الدينية، ولقد كان يحرص بقوة على استقلال الحياة الأخلاقية، ولم يسمح بحاجته العميقة إلى الإيمان الديني بتعريض هذا الاستقلال للخطر، بل إنه - رغم نجاحه في التوفيق بين الأخلاق والدين - كان يركز جهده في ربط الأخير بالأولى لا العكس، وهذه هي أفضل وسيلة لتفسير الاتجاه التشاؤمي في طبيعة نيومان، فقد عانى، على نحو أعمق من معظم المفكرين الدينيين في عصره، من التقابل المستقطب الذي يميز الحقائق الأساسية للحياة الأخلاقية، والتعارض الصارخ بين الخير والشر والصواب والخطأ، وهو لم يشأ أن يعبر الهوة الفاصلة بين طرفي هذا التقابل بطريقة سطحية، وذلك بالالتجاء إلى الحب الإلهي والخيرية الإلهية، وإنما أحس بسطوة الشر والألم كاملة في العالم، وعانى من أجل ذلك كل ما يمكن أن تستشعره نفس شديدة الحساسية من ألم، ولقد كان يؤثر دائما رسم صورته للعالم بألوان قاتمة. غير أن تشاؤمه لم يكن منبعثا عن احتقار العالم بقدر ما كان مصدره العزوف عنه، وكان هروبه الزاهد من العالم تعبيرا عن التعاطف والاستسلام المعذب، أكثر مما كان تعبيرا عن التحقير والازدراء.
وهكذا فإن الأولوية المنسوبة إلى الضمير هي التي تكشف عن الاتجاه الأخلاقي في تعاليم نيومان الدينية، فالضمير هو - أولا وقبل وكل شيء - تلك الأداة التي تصل بها النفس الفردية إلى معرفة الطبيعة الإلهية وإدراكها، وهو المدخل الذي يوصل ما هو إلهي إلى الطبيعة البشرية، فذلك «الإله الذي هو في الضمير» هو بالنسبة إلى نيومان حقيقة لا تقل أهمية عن إله الوحي وإله الكنيسة. وللتجربة الدينية أهمية تعادل أهمية الدين الموضوعي، بل تزيد عليه، وعلينا أن نبحث عن الله في ذلك الطريق الذي يبدأ صعودا من النفس البشرية، وهنا أيضا تكون نقطة بداية نيومان - كما هي دائما - هي الفردي والشخصي والعيني. وهذا الطريق واحد من وجهة نظر الأخلاق، فالإلزام الخلقي لا يكون حقيقيا لأن هناك إلها، بل إن الأمر على العكس من ذلك، فنحن نعترف بوجود الله لأننا نشعر بوجود الإلزام الخلقي، فالضمير هو وسيط المبدأ الإلهي وجزاؤه؛ ولذا فإن نيومان يبدي اهتماما خاصا بتحليل وقائع الضمير بأكبر قدر من الدقة الفلسفية حتى يبرز طابعه الحقيقي المقابل لأوجه النشاط الأخرى للنفس البشرية. والضمير أداة موثوق منها تماما للمعرفة، ولها من الأهمية في الكشف عن الألوهية العالية ما للإدراك الحسي في معرفة العالم الخارجي، وهو إدراك يعادل الإدراك الحسي في حقيقته، غير أنه إدراك لموضوع آخر، أي لأعلى الحقائق وأكثرها عينية، وهي الحياة الإلهية؛ ولذا كانت جذوره متأصلة، لا في ظلام الشعور الدامس، أو في الأحوال الانفعالية المتقلبة، وإنما في ضوء الفكر الناصع. وكل ما في الأمر أن هذا التفكير ليس هو التفكير المجرد غير المباشر الذي هو غريب عن «الحقيقة العليا»، وإنما هو تفكير عيني حدسي وثيق الارتباط بالحياة، ويبلغ تحققه في «الحقيقة العليا».
وهكذا ينبغي أن نؤكد على الدوام هذه الحقيقة، وهي أن الإيمان الديني هو في نظر نيومان أمر شخصي وذاتي محض قبل كل شيء، تختص به كل نفس على حدة، وتتمكن بفضله من الوصول إلى الله بذاتها مباشرة، ومن أن يكون لها نصيب في نوع من المعرفة الطبيعية للألوهية. ولقد كان من الواجب أن تؤدي نقطة البداية هذه إلى البروتستانية المتطرفة، أو حتى إلى الصوفية، ولكنه في الواقع قد سار في الاتجاه المضاد الذي أدى به إلى الإيمان الكامل بالكنيسة الكاثوليكية. وربما بدا هذا غريبا للوهلة الأولى، وقد يؤدي بنا إلى الشك في وجود انفصام أساسي في تعاليم نيومان. غير أن ذلك التنافر المنطقي الذي يمكن كشفه في تفكير نيومان، وأعني به اقتران أشد أنواع الإيمان الديني شخصية بأقوى تمسك بالسلطة الخارجية، لا تكاد تكون له أهمية من وجهة نظره الخاصة. فالواقع هو أن نيومان قد تمكن من تحقيق الانتقال من الداخل إلى الخارج ، ومن الاستقلال الذاتي الفردي إلى السلطة الخارجية، ومن التجربة الشخصية إلى الكنيسة والعقيدة، دون أن يرتكب أية تضحية بالعقل أو يبخس أيا من الجانبين المتعارضين حقوقه. وهكذا اعترف بضرورة وجود مصدرين للإيمان الديني: إله الوحي فضلا عن «الإله الذي في الضمير»، وسلطة الكنيسة وتنظيمها فضلا عن تجربة النفس، والتمسك الموضوعي الملزم بالعقيدة فضلا عن الاقتناع الذاتي. وهكذا فإن الصفة الخاصة التي تتميز بها فلسفة نيومان الدينية هي أنها تعطي حقا متساويا لكلا العاملين، وتجمع بين الاثنين في مركب متآلف.
ففي كتاب «قواعد التصديق» يقتصر اهتمام نيومان على الجانب الذاتي للدين، بينما انصب هذا الاهتمام، في كتابه الأسبق من هذا بكثير، الخاص بتطور التعاليم المسيحية، على الجانب الموضوعي في المحل الأول، والفكرة الأساسية التي تبرز إلى الأمام ها هنا هي أن حقيقة الدين لا يمكن أن تفصل عن تاريخه. وهكذا تغدو فكرة التطور
development (
evolution ) هي اللحن المميز لهذه المناقشة لماهية الدين منظورا إليها من الوجهة الموضوعية، وهنا ينبغي أن نؤكد منذ البداية أن مفهوم التطور
development
عند نيومان ينتمي من الوجهة الزمنية إلى عصر سابق على نظرية التطور الداروينية، بل إن نقط التلاقي بينه وبين مبدأ التطور عند دارون وسبنسر تبلغ من القلة حدا يجعله يصل إلى التناقض مع هذا الأخير في المسألة ذات الأهمية الحاسمة. ومن واجبنا، إذا شئنا أن نربط مفهوم التطور (dev.)
عند نيومان بمفاهيم موازية له تاريخيا، أن نتأمل الصورة التي اتخذها هذا المفهوم في مذاهب أرسطو وليبنتسر وهيجل. غير أننا سنصرف النظر هنا عن العلاقات التاريخية للفكرة، وأطرفها في هذا الصدد هو البحث في مسألة التأثير الممكن (والذي ليس مع ذلك أمرا قريب الاحتمال) لنظرية هيجل؛ ذلك لأن أفكار نيومان هي كشوف أصيلة تنتمي إليه قبل غيره، ولا يحتاج إلى راع يتحدث مؤيدا لها.
وهو يعرض الأساس الفلسفي لتطور التعاليم المسيحية في حجة تتعلق قبل كل شيء بتطور الأفكار بوجه عام. وبهذا تنقل المشكلة منذ البداية إلى الميدان الذهني، وفي هذه الواقعة نفسها نجد فارقا أساسيا بين نظرة نيومان وبين نظرات المذاهب الطبيعية (naturalistic)
التالية، فالأمر في حالة التركيبات الذهنية أو الأفكار مماثل له في حالة الأشياء الجسمية المدركة حسيا ، فالشيء لا يكشف في البداية إلا عن هذا الوجه أو ذاك من جوهره، تبعا للاتجاه الذي ينظر إليه منه، ويتمثل لنا في هياكل وتخطيطات متعددة تتزايد تجمعا لتكون «وجها كليا» للشيء، تبعا لمقدار دقة الملاحظة وطولها. وكذلك الحال في الفكرة، فهي تقاس تبعا للكل الذي تكونه أوجهها الممكنة، وهي الأوجه التي قد تتباين كثيرا تبعا للأفراد الذين يدركونها، وترتبط قوة الفكرة وعمقها ارتباطا محددا بكثرة الأوجه التي تتمثل عليها وتنوعها، وليس ثمة وجه يبلغ من العمق حدا يجعله يستوعب كل محتوى فكرة عينية، كما لا يوجد أي تعبير لغوي قادر على تعريفها بأكمل معانيها. غير أن كل هذه الأوجه المتباينة يمكن أن ترتبط بالفكرة بوصفها نقطة تلاقيها المشتركة، وأن تندمج فيها، ومهما بدا من تباينها وتنوعها في الوهلة الأولى، فإننا كلما أمعنا النظر فيها وأطلنا تأملها، وجدناها تزيد من تأكيد حقيقة الفكرة التي تنتمي إليها، ومن تكاملها وأصالتها وقوتها. ويطلق نيومان اسم التطور الذهني للفكرة على هذه العملية التي يحدث خلالها - سواء طالت أم قصرت - تبلور داخلي للخطوط العامة للفكرة، بحيث تقترب من معناها الأساسي، ولكنا نستطيع أن نشبه هذه العملية بالمجرى الذي يكون أصفى ما يكون قرب منبعه. ولكن الفكرة، على العكس من ذلك، تزداد نقاء وخصبا كلما ازداد حوض المجرى الذي استمدت منه امتلاء وعمقا. وهذه الاستعارة توحي بأن البدايات التاريخية لأية فكرة لا يمكن أن تتخذ مقياسا لقيمتها وأهميتها، بل إنها تزداد اكتمالا كلما حققت نفسها خلال الزمان بمزيد من العمق، ورغم أنها تظل بمعنى معين نفس الفكرة خلال تحولاتها، فإنها في دورتها النهائية تكون أقرب إلى الاكتمال مما هي في مظهرها الأول أو في أية مرحلة وسطى.
وهكذا فإن مركز الثقل في هذا العرض للتطور التاريخي يقع، على النقيض تماما من وجهة النظر الطبيعية
naturalistic ، في المراحل المتأخرة للعملية لا في مراحلها الأولى، وفي نهايتها لا في بدايتها، فمعنى أية فكرة (وهو ما يقصد به دائما تركيب عيني أو قوة حية للذهن تكون لها رسالة تاريخية تحققها ) لا يعبر عنه - عند بداية ظهور الفكرة على المسرح - بنفس القوة والفعالية التي يعبر بها عنه في عصور الحضارة الأرقى والأكثر نضوجا. ولا يرجع ذلك إلى الفكرة ذاتها بقدر ما يرجع إلى طبيعة إدراك الذهن البشري لها - وهو إدراك يكون دائما ناقصا غير مطابق للحقيقة الكاملة للفكرة - ولا يمكن الكشف عن جميع الأوجه المتضمنة فيها، بكل ما فيها من ثراء إلا بعملية نمو وتقدم تدريجية؛ ولذا فإن الزمان عامل ضروري في نمو الفكرة، أو لتمكن من يتلقونها من فهمها والتيقن منها، والأمران سيان. ولا تتحقق عملية الاستيضاح هذه إلا خلال تاريخها، وهي تتحقق بدرجات متزايدة بقدر ما يزداد نضوج وعمق الطريقة التي يفهمها بها أولئك الذين تمر بهم هذه الفكرة. وعلى ذلك فمن الواجب التمييز بين فهم الذهن العارف للفكرة أو تحقيقه لها، وبين الفكرة ذاتها، فالأول يمر بعدة تحولات ويخضع للتطور، أما الثاني فيكون على ما هو عليه من البداية، وطوال هذه المراحل كلها. وإذا كانت حقيقتها تزداد بالتدريج تكشفا خلال تاريخها، فما ذلك إلا لأنها كانت منذ البداية متضمنة في داخلها، فتاريخها وماهيتها ينتميان أساسا كل منهما إلى الآخر، وما الأوجه المختلفة التي تتكشف فيها، والتي يؤلف مركبها صورتها النهائية، ما هي إلا مجرد «لحظات» أو انبثاقات لما هو منتم إليها في الأساس، وهي لا تضاف إليها من الخارج، وإنما تنمو من داخلها نموا عضويا. وبعبارة أخرى، فالفكرة تظل محتفظة بطبيعتها الأساسية مع تغير أوجهها المختلفة، ومهما تغير تمثلها الخارجي أو تطور، فإنها هي ذاتها تظل دون تغير، وهكذا يتضح أن التطور
development
بالمعنى الذي استخدمه نيومان يختلف من حيث المبدأ عن المعنى «التطوري
evolutionary » الذي تنطوي عليه الكلمة في المذهب الطبيعي
Naturalism ، فلا شأن له بعمليات التغير الآلية العلية في عالم المادة، ولا بالنمو البيولوجي وتكوين الكائنات العضوية عن طريق سلسلة دائما الارتفاع من المستويات التي تزداد على الدوام تفاضلا (differentiation) ، وإنما هو يعني بالفعل شيئا ذهنيا أو روحيا خالصا، ويعني تحقيق ماهية الأفكار خلال مجرى تاريخها، وتكشف هذه الماهية في الفهم المتزايد للذهن المدرك، كلما برز تارة هذا الوجه، وتارة أخرى ذاك الوجه من أوجه المعنى الكامن الواحد.
ومن السهل الآن أن نقوم بتطبيق هذه الأفكار على تاريخ الديانة المسيحية والكنيسة المسيحية، وهو الأمر الذي كان الموضوع الأول لاهتمام نيومان؛ فالمذهب المسيحي إنما هو فكرة كهذه، مرت عبر القرون بتعديلات متعددة، كانت فيها تكشف عن ماهيتها على نحو يزداد على الدوام ثراء وعمقا وامتلاء، وهذه التعديلات ليست مجرد تغييرات عشوائية مفككة متعاقبة طرأت على المذهب كما أوحي به في الأصل، بل إن تاريخ العقيدة يدل، على العكس من ذلك، على أن كل شيء قد سار ها هنا بأكبر قدر من الانتظام، وفي اتجاه واحد تحدده الفكرة ذاتها مقدما. فالفكرة المسيحية قد نمت عضويا، وهي قد مرت بعملية أصيلة من التطور (
dev. )، من بدايتها حتى يومنا هذا، دون أن يتأثر بذلك معناها الأساسي. وقد ظلت على الدوام تكشف عن صور وجوانب جديدة من وجودها لفهم البشرية النامي والمتزايد عمقا، بحيث لم يزدها ذلك هزالا وضعفا، وإنما زادها نضوجا واكتمالا وفعالية. ولقد استطاعت أن تجاري التقدم العام للمدنية حتى أعلى مستويات العقل والثقافة، واكتسبت مزيدا من الرسوخ والامتلاء ومن القوة والوضوح على قدر ما كانت تصل إليه المدنية من سمو؛ ذلك لأن من أوضح مظاهر ثراء المسيحية الذي لا ينفد، أن محتوى فكرتها لا يمكن أن يدرك كله دفعة واحدة أو على نحو نهائي، وإنما ينبغي أن يكون الزمان (بمعنى «المدة
durée » عند برجسون) خلاقا فيها؛ ليتيح لكل ما تنطوي عليه أن ينمو فيها عضويا، وأن يكشف عن ذاته بالتدريج. وكلما كانت الفكرة التاريخية أعقد وأكثر عينية، كانت أقدر على الامتداد خلال فترة زمنية أطول. ولا يشك نيومان، من جانبه، في أن الفكرة المسيحية تفوق بكثير كل الأفكار الأخرى تعقدا وعينية، وبالتالي خصبا في تطورها التاريخي، وقد أثبت هذا الموقف الأساسي فعاليته بوجه خاص في موضوع تاريخ العقيدة، الذي طبقه نيومان عليه بطريقة مثمرة إلى أقصى حد، وإليه قبل غيره يرجع الفضل في تحول مفهوم «العقيدة
Dogma » الجامد إلى وجهة نظر عضوية أكثر حيوية، لم تجرؤ حقا على زعزعة سلطة العقيدة وطابعها الإلزامي، وادعائها امتلاك حقيقة تسمو على الزمان، ولكنها لقيت قبولا واسعا نظرا إلى نسبتها التاريخية، وبالتالي ارتباطها الحيوي بتطور الذهن.
ولقد اكتملت نظرية نيومان في تطور الأفكار عامة، وتطور المذهب المسيحي خاصة، على نحو يحفظها من جمود التعصب ومن النزعة المذهبية الفارغة، والعنصر الآخر في نظريته هو التمييز الهام الذي يقول به بين التطور (
dev. ) الأصيل أو السليم، والتطور الزائف أو الباطل، ويطلق نيومان على النوع الأخير اسم: فساد الفكرة، وهو يخصص الباب الثاني والأكبر من كتابه لمناقشة مفصلة زاخرة بالأسانيد للعلاقة بين التطورات الأصيلة لأي مذهب، والتطورات المفسدة له. وهو هنا يهتم بمسألة المعايير التي يمكننا أن نميز بها التطور الأصيل من الزائف، وظاهرة التقدم الحقيقي من ظاهرة التأخر، وهو يضع نظرية لهذه المعايير بشيء من التفصيل، فهناك بوجه خاص سبع صفات تدل على أن الفكرة تنمو عضويا، ولم يدب فيها الفساد بعد. فالفكرة تكون كذلك إذا كانت: (1) تحتفظ بشكل نموذجي واحد، (2) وتكشف عن مبادئ محفوظة على الدوام، (3) وتظل لها القدرة على الاستيعاب أو التمثل
assimilation ، (4) وتستبق بداياتها الأولى مراحلها التالية، (5) وتكون أوجهها المتأخرة قادرة على تبرير أوجهها المتقدمة ودعمها، (6) وعندما تتمكن من الاحتفاظ بمضمونها الأصلي، وبالتالي بعث حياة جديدة فيه على الدوام، (7) وأخيرا، عندما تكون لها حيوية باقية طوال مراحلها. وإن توافر هذه الشروط في المسيحية (ولا سيما تلك الفكرة التي تدعو إليها كنيسة الروم الكاثوليك عن المسيحية) بدرجة أعلى مما تتوافر في أية حركة أخرى في التاريخ، وكونها قد استطاعت حتى الآن أن تتغلب على جميع الاتجاهات التي هدفت إلى القضاء عليها، وتغلبت ظافرة على كل المؤثرات المفسدة؛ لهو في نظر نيومان الدليل الكافي على أن المسيحية ستحتفظ في المستقبل أيضا بقدرتها على الحياة، بل وسوف تتمثل أيضا على أنها قوة حية في الذهن، تشهد رسالتها التاريخية في الماضي بعظمتها أبلغ شهادة وأعمقها. •••
وإذا استثنينا نيومان، الذي كان المفكر الوحيد المنتمي إلى الصف الأول من بين رجال «حركة أكسفورد» فلن نجد إلا شخصية واحدة في هذه الحركة كانت لها ميول فلسفية قوية وقدرة على التفلسف، تلك هي شخصية «وليام جورج وورد
William George Ward »، (1812-1882)، ولقد ساهم وورد، الذي كان ينتمي إلى الجناح الأكثر تطرفا في الحركة، بدور كبير في فصل الحركة عن الكنيسة الإنجليكانية، وتم تحوله نهائيا إلى الكاثوليكية حتى قبل نيومان ذاته (في سبتمبر 1845)، وقد حاول وورد أن يعبر تعبيرا رسميا دقيقا ومنهجيا عن تلك العناصر التي كانت بالنسبة إلى نيومان كشفا فلسفيا ارتفع من أعماق روحه إلى مستوى التفكير الواضح. ولم يكن وورد أكثر ميلا من نيومان إلى العودة إلى المدرسية لاستمداد الوحي منها، ولكنه كان أوثق ارتباطا بالاتجاهات الفكرية المعاصرة له، والتي كانت صلته بها متينة، سواء عندما كان يعارض أفكارا سائدة في عصره أو عندما كان ينتفع بمعونتها. وقد عرض برنامجه الديني في كتابه: «المثل الأعلى لكنيسة مسيحية
The Ideal of a Christian Church » (1884)، وهو مؤلف يوازي «تطور المذهب المسيحي» عند نيومان. وقد تضمن هذا الكتاب أقوى، وربما أول، تعبير عن اتجاهات الكثلكة في حركة أكسفورد؛ ومن ثم فقد كان يمثل نقطة تحول في تاريخها. وقد مهد بطريقة قاطعة للانفصال الذي حدث بعده بعام واحد. ولقد كان العامل الذي دفع وورد، وكل من جاروه في معارضته المتزايدة للبروتستانتية، هو المثل الأعلى للتقوى الزاهدة، وفكرة الحياة المسيحية وقد تحولت إلى الباطن وأصبحت لها قداسة، وهي فكرة استحوذت عليهم تماما. فكان من الطبيعي أن تؤدي بهم هذه المعارضة آخر الأمر إلى تحولهم الصريح إلى هذا النوع من الإيمان، وإلى الكنيسة التي رأوا مثلهم العليا هذه تتحقق فيها على أفضل نحو، وأهم المؤلفات التي عرضت فيها آراء وورد الفلسفية، مؤلفان تاليان: أحدهما هو رسالته «في الطبيعة واللطف الإلهي
On Nature and Grace » (1860)، والآخر سلسلة طويلة من الأبحاث ظهرت في مجلة «دبلن ريفيو
Dublin Review » (التي كان هو ذاته مشرفا على تحريرها)، فيما بين عامي 1867 و1893، ونشرت بعد وفاته في مجلدين عنوانهما «بحوث في فلسفة مذهب الألوهية
Essays on the
» (1884)، وأشرف على طبعهما ابنه «ولفرد وورد». وتعرض هذه البحوث لذلك الخلاف الضخم الذي نشب بين حركة أكسفورد والمذهب التجريبي عند جون ستيوارت مل وأفراد مدرسته، بوصفهم أقوى مفكري ذلك العصر تمثيلا للفلسفة الدنيوية، وهذه البحوث أشبه بطرف مقابل لكتاب مل: «اختبار لهاملتن»، وهي تؤلف في الوقت ذاته ردا على هجوم مل، بقدر ما كان تفكير وورد قريب الشبه، في نقاط معينة، من تعاليم المفكر الاسكتلندي هاملتن.
وقد وجه نقد وورد إلى القضية الرئيسية في الفلسفة التجريبية، القائلة إن كل معرفة لنا مستمدة من التجربة، وإن هذه هي المصدر الوحيد المشروع لليقين والحقيقة. فما علينا، في رأيه، إلا أن نخطو خطوة واحدة نتجاوز بها المعطيات المباشرة للوعي، أعني أن نتأمل مثلا، بدلا من هذه المعطيات، الأفكار المستعادة التي تمدنا بها التجربة بطريق غير مباشر؛ لندرك مدى استحالة وجهة النظر المقتصرة على التجربة، أو وجهة النظر «الظاهرية» الخالصة (
) كما يسميها وورد في معظم الأحيان كلما كان بصدد الكلام عن موقف مل. ذلك لأننا في حالة التذكر لا نهتم بالانطباع الحاضر الذي يكون لدينا بحادث ماض، وإنما نهتم بالوجود الفعلي لهذا الحادث في الماضي. وإن مجرد كوننا نتذكر، لدليل كاف على أن المعارف (Cognitions)
التي توصلها إلينا الذاكرة ليس لها ضمان في التجربة المباشرة، بل إن علينا - لكي نفسر الذاكرة - أن نفترض معارف (
cognitions ) لا يتم اكتسابها بالطريقة التي يقول بها المذهب التجريبي. ومثل هذه النتيجة تصدق على كل معرفة يود المذهب التجريبي أن يردها إلى التجربة الخالصة والاستقراء، فعملية المعرفة
Cognition
لا تبنى فقط على ما يجري بالفعل، وإنما تبنى أيضا - وبصفة دائمة - على نوع من المعرفة
Knowledge
لا صلة له بالتجربة، لا بطريق مباشر ولا بطريق غير مباشر، بل هو بالفعل مختلف عنها اختلافا أساسيا. ذلك هو «الحدس»، وليست الموضوعات التي تعرف بواسطته هي المعطيات الظاهرية (Phenomenal)
للوعي أو مشتقاتها، وإنما هي حقائق أولية ضرورية ذات صحة شاملة، تكون لنا بها بصيرة مباشرة تضفي على هذه الموضوعات وضوحا ذاتيا. وهكذا تؤدي فكرة وورد الأساسية هذه إلى تأكيده أن كل معرفة بشرية لا تبدأ بالتجربة، وإنما تبدأ بحقائق معينة واضحة بذاتها. ومن ثم فهي حقائق موثوق فيها على نحو مطلق، يمكن إدراكها مباشرة، ويكون يقينها كامنا فيها هي ذاتها، وليس مستمدا من أي شيء غيرها. فكل ما تعلن ملكات المعرفة البشرية أنه يقيني على نحو لا يتطرق إليه الشك، يعرف لذلك منذ البداية على أنه ذو صحة مطلقة، واليقين الذاتي هو المعيار الذي نقيس به الحقيقة الموضوعية. ومهما كانت الطرق الأخرى التي نتمكن بها من بلوغ المعرفة، سواء أكانت هذه الطرق تجربة أم ملاحظة أم استنباطات منطقية أم أية طريقة غيرها، فإن المعرفة الحدسية تكون على الدوام مفترضة مقدما، وهي تمثل تمهيدا لا غناء عنه. وبهذه الحقائق التي تعرف على هذا القدر من الوضوح كان وورد يشيد حصنا ضد هجمات التجريبية السائدة عندئذ، لا يختلف كثيرا عن ذلك الذي شيده فلاسفة المدرسة الاسكتلندية، بل إن مذهبه قد احتل بالفعل مكانته في التيار الفكري الحدسي القوي الذي أخذت تتجمع وتتلاقى فيه القوى المعارضة للمذهب التجريبي، دون أن تكون مع ذلك جبهة واحدة مشتركة، وذلك قبل ظهور الحركة المثالية (بل وبعد ظهورها في بعض الحالات). وعلى أية حال فإنا نجد، في هذا الصدد، تقاربا باطنا بين مفكرين من المدرسة الاسكتلندية (مثل هاملتن ومانسل وماكوش) وبين مفكري حركة أكسفورد (مثل نيومان وورد)، وتلك الجماعات الأخرى التي كانت أهمها جماعة مارتينو.
على أن المعارض بين المذهبين التجريبي والحدسي أكثر من مجرد نزاع على نظرية المعرفة. فلو تأملناه من منظور أوسع؛ لوجدناه قائما على التقابل الفلسفي البعيد الأثر بين مذهب الألوهية
Theism
والاتجاه المضاد لمذهب الألوهية
Anti-Theism ؛ ذلك لأن إقامة مذهب الألوهية، الذي كان هو موضوع الاهتمام الرئيسي لوورد، والذي لم يكن يقصد من نظريته الحدسية في المعرفة إلا أن تكون تمهيدا له، كان يعني بالمثل خصومة عنيفة ضد الاتجاه إلى عدم الاكتراث بالدين لدى الشكاك واللاأدريين، الذين كان معظمهم يرجعون في الأصل إلى المعسكر التجريبي. وهكذا وقف يناضل ضد صبغ الفلسفة بصبغة دنيوية، وهو الاتجاه الذي رأى أن المذهب التجريبي مسئول عنه أساسا، ورأى في مقابل ذلك أن المهمة الحقيقية والأهم الملقاة على عاتق الفلسفة، هي إثبات الدين وإقراره. وهكذا فلم يكن لجميع الجهود التي بذلها في الميدان النظري من هدف في رأيه إلا تبرير إيمانه الديني آخر الأمر. وأهم ركن في هذا الإيمان هو الإيمان بإله مشخص على النحو الذي قالت به التعاليم المسيحية (أي العقيدة الكاثوليكية). وقد كانت براهين وورد الفلسفية على وجود الله متفقة أساسا مع براهين غيره من المفكرين الكاثوليك مثل نيومان، ول. أولى-لابرين
L. Ollé-Laprune ، وي. كلويتجن
J. Kleutgen
الذين تأثر بهم تأثرا دائما. ولقد أكد مثلهم بوجه خاص الحجة الأخلاقية وجعلها الأساس الرئيسي لدفاعه عن الدين، غير أنه لم يتمكن - من الوجهة النظرية البحتة - من إيجاد مكان لوجود الله في فلسفته، من غير أن يخالف سائر مبادئ تفكيره، إلا بقدر ما رأى في حقيقة وجود الله واحدة من تلك الحقائق الأولية التي تنطوي في ذاتها على يقين مطلق؛ نظرا إلى وضوحها الذاتي، فوجود الله لا تضمنه حقائق التجربة ولا البراهين المنطقية، وإنما تضمنه البصيرة المباشرة فحسب.
وأخيرا فإن مبدأ الحدس يظل بدوره محفوظا عندما يطبق على الأخلاق. والواقع أن آراء وورد في هذا الموضوع، وإن كانت هي النتيجة الطبيعية لمقدماته الخاصة في نظرية المعرفة، لم تجد التعبير الواضح عنها إلا قرب نهاية حياته، عندما عرف آراء «أولى-لابرين»، أبي الحركة «التجديدية
Modernist » الذي تأثر وورد تأثرا عميقا ببحثه «في اليقين الأخلاقي
De la Certitude morale » (1880)، واستمد منه الكثير مما أعانه على بلورة آرائه الخاصة في هذا الموضوع. ولقد كانت لمشكلة اليقين الأخلاقي في نظر وورد، كما كانت في نظر أولى-لابرين، مكانة رئيسية، وكما أن هناك حقائق نظرية وميتافيزيقية ضرورية، فهناك أيضا استبصارات أخلاقية، لها يقين مطلق نظرا إلى وضوحها الذاتي الملزم. فأفكار الخير والشر والصواب والخطأ والفضيلة والرذيلة هي أفكار بسيطة تماما، ولا تقبل مزيدا من الترشيح أو التحليل. فكون خيانة صديقي شرا ينبغي استهجانه لذاته، هو بالنسبة إلي أمر له يقين حدسي محض، ولا يحتاج إلى مزيد من البحث، فهنا أعترف بحقيقة أخلاقية واضحة بذاتها، وبالتالي ضرورية. غير أن الوضوح الذاتي لمثل هذه اليقينيات الأخلاقية يلزمنا بالاعتراف بوضوح ذاتي ثان متضمن في الأول، وأعني به كون هذه اليقينيات ترجع في أساسها إلى وجود الله؛ ذلك لأن كون مصدر البديهيات الأخلاقية - أي استحسان الخير واستهجان الشر - هو كائن من نوع أعلى، هو بدوره مسألة بصيرة مباشرة، فجذور الأخلاقية ترجع إلى الله بوصفه المشرع الأعظم للمعايير الأخلاقية، وهي في الوقت ذاته أفضل برهان على ضرورته ووجوده.
وأخيرا، فإن هذا الموقف يلقي ضوءا ساطعا على مشكلة الحرية؛ ذلك لأن وورد، شأنه شأن معظم ممثلي الأخلاق الحدسية، يجهر بأنه من خصوم الحتمية، وهكذا يجد نفسه في هذه المسألة بدورها متخذا بطبيعته موقف المعارضة من المذهب التجريبي بنظرته الآلية والحتمية. ولقد كان الخصم الأكبر الذي اشتبك معه، في هذه الحالة أيضا، هو مل. ويرى وورد أن مشكلة حرية الإرادة تتوقف أساسا على مسألة كون الإنسان قادرا أو غير قادر على مقاومة نزعاته الإرادية الطبيعية. ويعتمد وورد، في الإجابة على هذا السؤال، على حقائق التجربة، وذلك على خلاف ما جرت عليه عادته. فهذه الحقائق تثبت أن الكائن الذي وهب عقلا يملك هذه القدرة بالفعل بدرجة كبيرة - أي إنه يستطيع أن يكبح جماح نفسه ويقاوم النزوع التلقائي لإرادته - وإنه بقدر ما تكون له هذه القدرة، تكون أفعاله حرة بحق، بغض النظر تماما عن كونه يمارس هذه القدرة في أية حالة خاصة أم لا. وهكذا يبدو أن في هذا الالتجاء البسيط إلى التجربة، الذي يصل مباشرة إلى لب المشكلة، برهانا كافيا على اللاحتمية. غير أن للمشكلة وجها آخر: فهي لا تنطوي فقط على الرأي السلبي القائل إن الإرادة «ليست» خاضعة للحتمية في كل أمر، وإنما تنطوي أيضا على الرأي الإيجابي القائل إن الإنسان ذاته مصدر أصيل للنزوع الإرادي أو علة للفعل الإرادي لها استقلالها الذاتي. وعند هذه النقطة تتشابك الخيوط التي تربط بين الأخلاق والدين، فليس هناك سوى منبعين أصيلين من هذا النوع، لتلك العلية التي لا تخضع لحتمية خارجية، هما الإرادة الإلهية والإرادة البشرية؛ إذ بينما يكون الله - بوصفه العلة القصوى والعليا - هو أصل كل حادث، وبالتالي أصل الإرادة البشرية بدورها، فإن النزوع الإرادي للإنسان لا يخضع مباشرة لحتمية الإرادة الإلهية. بل لقد جعلت قوة الله الخالقة من الإنسان مركزا للنزوع الإرادي قائما بذاته، وقد أضفى الله - بمحض اختيار - على مخلوقه تلك الحرية التي ينفرد بها وحده، فمنحه القدرة على إحداث الحوادث؛ وبذا يتسنى له أن يتحرر، في حدود معينة، من الارتباط بالله، ويسلك مستقلا عن الإرادة الإلهية. وهكذا فقد تخلى الله إلى درجة محدودة عن السيطرة على الإرادة والسلوك البشري، وإلى هذا الحد يكون الإنسان حرا، بمعنى أن لديه حرية الاختيار بين الصواب والخطأ، وبين الخير والشر. وهكذا نهتدي إلى حل طبيعي للنقيضة القائمة بين الأخلاق والدين، والتي تثيرها مشكلة الحرية، وهو حل يعترف اعترافا كاملا بالاستقلال الذاتي للعالم الأخلاقي، ولكنه في الوقت ذاته يربط بينه وبين القانون الإلهي.
ويجدر بنا في هذا الصدد أن نشير إلى فرانسيس وليام نيومان
Francis William Newman (1805-1897)، وهو الشقيق الأصغر للكردينال، الذي قال بآراء لا تختلف كثيرا عن آراء أخيه الشهير، وإن لم يكن قد انضم إلى حركة أكسفورد. ولقد كان فرانسيس نيومان كاتبا خصبا غزير التأليف، غير أن مزاجه كان مزاج الباحث الهادئ أكثر منه مزاج المناضل أو الزعيم في صراع ديني. وكان ضحية شتى أنواع الهواجس، فنسج حول نفسه عالما فكريا خاصا به، دون أن يشعر بالحاجة إلى أية زمالة فكرية مع الآخرين، ودون أن يكون متصفا بما كان يلهم أخاه من انفعال رفيع واقتناع عميق بإيمانه. ولقد كان فرانسيس أقل مكانة من أخيه، سواء في شخصيته ومن حيث عمق التفكير ووضوحه وصدق العزيمة وقوة الإيمان، وإنه لمن عدم التوفيق من جميع النواحي أن يوضع قبل شخصية الكردينال العظيمة، أو حتى أن يوضع إلى جانب «شيلر ماخر
Schleiermacher »
3 (كما فعل فليدرر
). وقد عرضت أهم آرائه الدينية والفلسفية في ثلاثة مؤلفات: في «النفس
The Soul » (1849)، وهو كتاب يتسم بالصدق والحساسية، ويفيض بالحماسة الصوفية في كل صفحاته، ثم «مراحل الإيمان
» وهو ترجمة ذاتية لحياته وصف فيها تلك الرحلة الروحية التي انتقل فيها من تعاليم المسيحية إلى مذهب ألوهي (theism)
منفصل عن جميع الارتباطات الكنسية الإيجابية، وهو مؤلف يوازي كتاب أخيه «دفاع عن حياتي»، وهناك أخيرا كتابه «الألوهية» مذهبيا وعمليا و
Theism, doctrinal and
(1858)، وهو كتاب يتضمن عرضا أكثر منهجية لوجهة نظره اللاهوتية.
ولقد كانت وجهة نظره هذه، مثل وجهة نظر أخيه، فردية وضد العقلية، غير أن فرديته تتركز، على نحو أشد وأكثر تحيزا حتى من أخيه، في العلاقات ذات الطابع الشخصي الكامل، التي تربط بين النفس والله، فالمصدر الوحيد لمعرفة حياة الله هو نفس المرء ذاتها، وهو تلك الحاسة الباطنة التي تكشف لنا الماهية الإلهية، والعضو الذي نتمكن بفضله من الاقتراب من الموجود الإلهي والاتحاد به. وهنا نستطيع أن نلمج تيارا صوفيا قويا، يقترن به رفض كل الوسائط الخارجية للطف الإلهي، وكل سلطة ملزمة أيا كانت، سواء أكانت الكنيسة والعقيدة أو سلطة الإنجيل أو حتى وساطة المسيح.
والركن الوحيد الباقي من الإيمان هو الألوهية الصوفية كما تتكشف وتدرك في التجربة الحية للنفس. ولكن على الرغم من كل العمق والإخلاص الذي اتسمت به تلك التجربة التي نبعت منها هذه المحاولة، فإن هذه المحاولة للوصول إلى مذهب ألوهي منقى من جميع الشوائب تعني في الواقع أن الجوهر الأصيل للدين قد خفف أو فرغ تماما، وأن اتجاه فرانسيس نيومان ليوحي - على عكس حماسة شقيقه وحيويته المقترنة بإيمان راسخ بالحياة التنظيمية الفعلية للكنيسة - بأن لصاحبه روحا منعزلة تطرب لعواطفها الخاصة، حتى ليشعر المرء بأن التفكير الديني قد تراجع أمام الأنا الذي يقنع بتأمل نفسه منعكسا في مرآة ذاتية، وأمام التجربة ذات النوع الذاتي الشخصي المحض.
ولقد رأينا أن للفلسفة الدينية لحركة أكسفورد، كما تتمثل لدى ج. ه. نيومان وو. ج. وورد، سمة بارزة يمكن تسميتها ب«النزعة الأخلاقية
moralism » وفي هذه النزعة يتمثل الوعي الأخلاقي، بكل تأكيد ممكن ، على أنه أساس الدين، بل على أنه معيار حقيقته، فتعاليم حركة أكسفورد تفترض مقدما أن نقطة بداية الدين هي الأخلاق، وأن كل تطور أصيل للوعي الديني ينطوي في ذاته على السعي إلى الكمال الأخلاقي، وهذا الاتجاه في الوقت ذاته دليل على مدى تغلغل جذور التراث الإنجليزي فيها. ولقد ظهر نفس هذا الاتجاه، على نحو أوضح وأبرز في مذهب آخر هو المثالية الأخلاقية عند مارتينو
James Martineau .
ولقد كان هذا المذهب الأخير بالتأكيد مستقلا عن حركة أكسفورد، غير أن الأهداف التي اتجه إليها والميول التي كشف عنها لها بعض الشبه بهذه الحركة، فضلا عن أن تعاليمه الفلسفية بوجه خاص تقترب منها اقترابا وثيقا في نقاط متعددة. ولقد كان مارتينو - بعد نيومان - هو بالتأكيد أقوى مجدد وباعث لحياة الروح في مجالي الأخلاق والدين من أبناء الشعب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، وهو ينتمي مثل نيومان، إلى الصف الأول من كبار العقول في العصر الفكتوري.
وتعد فلسفة مارتينو
4
تعبيرا عن اعترافات شخصية عظيمة أكثر مما تعد نظرية مذهبية بالمعنى الضيق. فهي لم تكن نتاجا لأية مدرسة أو اتجاه فلسفي خاص، بقدر ما كانت ثمرة للقوى والحركات العقلية العامة التي أضفت على العصر الفكتوري طابعه وميزاته الخاصة. وبفضل الاتصالات الشخصية والأدبية التي أقامها مارتينو، كان أكثر تغلغلا في هذه الحركة من معظم المفكرين الآخرين في عصره. ولعل من أهم أسباب ذلك طول حياته، التي بدأت من السنة التالية لوفاة كانت، ولم تنته إلا بعد بداية القرن الجديد، واشتمل عمره على حوالي ثلاثة أجيال، وبذلك شهد ظهور وانقضاء عدة تيارات وحركات فكرية مختلفة. ولذا كان تطوره الذهني يرجع إلى فترة أسبق كثيرا من الفترة التي نعرضها ها هنا؛ إذ يبدأ من العقد الثالث في القرن الثالث الماضي، ثم يمتد طوال جزء غير قليل من مجرى هذه الفترة، ليصل إلى قمته الحقيقية في فترة النضج الكامل الوضاء خلال عمر متقدم كانت له فيه مواهب نادرة، والواقع أن الكتب التي جلبت لمارتينو أكبر قدره من الشهرة الفلسفية تكاد كلها تكون منتمية إلى فترة كهولته المتأخرة جدا،
5
ولا توجد قطعا أية حالة أخرى لمفكر وصل إلى أعلى درجات الإنتاجية الخلاقة فيما بين سن الثمانين والتسعين من عمره. وإلى هذا الحد تكون أعمال مارتينو وتأثيره منتمية أساسا إلى الفترة موضوع البحث في هذا الجزء من كتابنا، وإن يكن إنتاجه الفكري قد بدأ في فترة أسبق بكثير.
وترجع الأهمية الخاصة لتطور مارتينو، من حيث هو فيلسوف، إلى أن هذا التطور يعكس السمات المميزة لثقافة عصره في مجموعها، وقد عرض هذا التطور في مقدمته لكتاب «أنماط من النظرية الأخلاقية»، فقد تأثر بعمق، في شبابه ورجولته المبكرة، بطريقة التفكير التجريبية والحتمية التي كانت سائدة في البيئة الوثيقة الصلة به، وأصبح على التوالي من الأتباع المخلصين لتعاليم كل من لوك وهارتلي وكولينز وإدواردز وبريستلي وبنتام وجيمس مل. ولكن حتى في ذلك الوقت كانت تطرأ على ذهنه من آن لآخر شكوك حول صحة هذه المذاهب، وإن تكن صداقته الوثيقة لمل الابن قد خففت من شكوكه مؤقتا. ولكن بدأ يحدث داخله تحول عميق، انتهى بصورة مؤقتة عام 1840، وأدى إلى انشقاقه صراحة عن نمط التفكير الذي كان يقبله من قبل، وكان من الواضح أن هذا التغيير قد حدث نتيجة لنمو باطن أكثر مما حدث نتيجة لمؤثرات خارجية. فقد كشف له تأمله العميق في مشكلات التجربة الباطنة عن عامل لم يكن قد لاحظه حتى ذلك الحين، وهو وظيفة الذهن المستقلة بذاتها في الإرادة والمعرفة، والتي تنطوي على شيء مختلف ومستقل عن مجرد تغير الظواهر والنوازع وتعاملها، وتظل خلال هذا التغيير محتفظة بهوية ثابتة. وكانت مشكلات الوعي الأخلاقي هي التي تشغله أكثر من غيرها، فقد بدأ يدرك المعنى العميق لأفكار مثل المسئولية والذنب والجدارة والواجب، وأصبح وجها لوجه إزاء مسألة احتمال وجود عالم مثالي لما ينبغي أن يكون من فوق كل موجود تجريبي، واحتمال كون هذا العالم المثالي هو الذي يستطيع أن يمده بوجهة النظر التي يمكن من خلالها فهم المعنى الحقيقي للإرادة البشرية وللسلوك البشري. فالمذهب الطبيعي
Naturalism
لم يمكنه من تقديم إجابة على هذه الأسئلة المحيرة؛ ولذلك تخلى عن تلك النظرة إلى العالم، التي تؤكد أن كل حادث باطن - لا كل حدث ظاهر فحسب - يخضع لقانون علي دقيق، ثم أدى به الاختبار النقدي لمشكلة العلية إلى مراجعة دقيقة للمذهب الذي سبق له قبوله، ومهد الطريق للكشف الذي أصبح فيما بعد من السمات الرئيسية لتفكير مارتينو.
وهكذا كان مارتينو قد تمكن، عندما بلغ سن الأربعين، من التغلب على المذهب الطبيعي في نقاط أساسية معينة، غير أن تحوله التام إلى المثالية كان نتيجة اطلاعه المباشر على الفلسفة الألمانية وإعجابه بها أثناء فترة الدراسة في برلين في شتاء 1848-1849. ولقد رأى هو نفسه، عندما بلغ الشيخوخة، أن هذه التجربة كانت لها أهمية عظمى في تطوره الذهني، فتحدث عن «ما يمكن أن يقال عنه إنه تعليم ثان تلقيته في ألمانيا» سار فيه «بإرشاد سديد من المرحوم الأستاذ ترندلنبرج
Trendelenburg
قبل غيره»، ووصف تأثير هذه التجربة بأنه «ميلاد روحي جديد»، على أن هذا الاتصال بترندلنبرج، شارح أرسطو المشهور، الذي حضر مارتينو محاضراته في المنطق وتاريخ الفلسفة، لم يمده بأي مذهب فلسفي تام الإعداد كان يستطيع أن يتخذه لنفسه بأكمله، ولم تكن ميتافيزيقا ترندلنبرج بأسرها مقبولة لديه. وإنما كانت نتيجة هذا اللقاء هي أنها أمدته لأول مرة بفهم عميق للتطور الكامل للتفكير الفلسفي منذ العصر اليوناني القديم حتى الفلاسفة الألمان المحدثين؛ فتمكن بذلك من أن يلمح الارتباطات الباطنة والقوى الروحية الفعالة في جميع المذاهب الماضية العميقة، ومن أن يجمعها كلها سويا. وعلى هذا النحو حصل ما لم يكن لديه من قبل، أي على ذلك العتاد العقلي الذي تمكن بفضله من أن يجمع في وحدة فلسفية واحدة بين مختلف الأفكار النظرية والأخلاقية والدينية التي كانت تدور في رأسه وتكافح من أجل التعبير عن نفسها تعبيرا واضحا. وكتب هو ذاته من برلين (في 25 فبراير سنة 1849)، يقول: «إن محاضرات ترندلنبرج في تاريخ الفلسفة قد لبت حاجاتي تماما، فلم تعرض علي مذهبا، وإنما أمدتني بمرشد أمين لمصادر المذاهب اليونانية القديمة والألمانية الحديثة، وأتاحت لي على أفضل وجه فرصة لإعادة النظر في آرائي الخاصة وتصويبها» (حياة جيمس مارتينو
Life & Letters of James Martineau
من تأليفه ج. درموند
J. Drummond ، وك . ب. أبتن
C. B. Uptos ، المجلد الثاني، ص331). وهكذا لم يكن ذلك حافزا له على إعادة دراسة كتابات أفلاطون وأرسطو فحسب، بل أيضا على التعمق في الأفكار الزاخرة للمثاليين الألمان، ولا سيما كانت وهيجل، اللذين بدأ الغموض ينقشع عن كتاباتهما لأول مرة، كما صرح هو ذاته. ولقد كان هذا التوضيح المتبادل للمذاهب الفكرية الألمانية عن طريق المذاهب اليونانية، ولليونانية عن طريق الألمانية، هو الذي أدى إلى ظهور الكشوف الفكرية الجديدة التي تجمعت لتكون فلسفة مارتينو الخاصة، والتي لم تعرض مع ذلك عرضا ناضجا إلا بعد جيل أو أكثر. ومن ثم فإن هذه الفلسفة لا تنتمي إلى أية مدرسة فكرية بعينها، وإنما هي تجمع في ذاتها العناصر الرئيسية للفكر المثالي في كل الأوقات وبين جميع الشعوب، على نحو ما يتمثل في المذاهب الدينية (ولا سيما المسيحية) وفي المذاهب الفلسفية. فالواقع أن التعاليم الدينية والمسيحية كان لها، في تشكيل تفكير مارتينو، دور لا يقل عن دور النظريات الفلسفية، وكانت مصدرا لقوة متجددة على الدوام في صياغة نظرته العامة إلى العالم.
وهكذا فإن مارتينو قد أعاد بناء طريقته الخاصة في التفكير من أساسها بعد اتصاله المباشر بالفلسفة الألمانية قبل فترة من بدء الحركة المثالية الجديدة في العقد الثامن من القرن الماضي، وقد أفاده المفكرون اليونانيون في عملية التجديد هذه مثلما أفادوا تلاميذ كانت وهيجل في أكسفورد فيما بعد. وهكذا استبق، بشخصه، تطور الفلسفة الإنجليزية بحوالي عشرين عاما، ولكنه ظل في البداية شخصية منعزلة؛ فكان عاجزا عن أن يبدأ من ذاته حركة فكرية جديدة، أو أن يهتدي إلى حركة ينضم إلى صفوفها. وكان سبب هذا الافتقار النسبي إلى التأثير مزدوجا؛ ذلك لأنه لم يكن قد صاغ التعاليم التي اتخذت قواما محددا في ذهنه على شكل منهجي في مؤلف رئيسي، وإن يكن قد عبر عنها في كتابات صغيرة كانت تظهر من آن لآخر، ولم تكن هناك بيئة لديها الاستعداد العقلي لتلقي آرائه وتقبلها، على نحو ما أصبحت جامعة أكسفورد فيما بعد. وعندما بدأت حركة إحياء كانت وهيجل في أكسفورد فيما بعد، وسارت في طريقها الظافر، استقبل مارتينو وتلاميذه في البداية الحركة بأعظم الترحيب؛ إذ شعروا بأنها قريبة كل القرب من نظرتهم الخاصة، وحاز جرين بوجه خاص إعجاب مارتينو، وجمعت بين الرجلين صداقة أفاد منها كلاهما. ولقد وجدوا أساسا مشتركا لجهودهما الفلسفية، ليس فقط في نقط الالتقاء المتعددة التي تميزت بها نظريتاهما، بل أيضا في ذلك الاهتمام بالدين، الذي كان يتميز به الأنصار الأولون لمذهب أكسفورد المثالي، مثلما كان يتميز به مارتينو. وفضلا عن ذلك فإن اشتراكهما في محاربة نفس الأعداء - أعني الاتجاهات المادية واللاأدرية والمذاهب الطبيعية
naturalistic
السائدة في ذلك العصر، قد جمع بينهما في تحالف واحد. ولكن العلاقات الطيبة التي تميزت بها السنوات الأولى اهتزت فيما بعد على نحو ملحوظ، ووجد مارتينو ومن يماثلونه في التفكير أنهم يقفون موقف المعارضة الشديدة من المثاليين، ولا سيما الهيجليين الأوائل، وكان قوام الاختلافات بينهما هو، من جهة، ذلك الفارق الأساسي بينهما في طريقة معالجة مشكلتي الحرية والشخصية (وهما أهم المصادرات في مذهب مارتينو)، ومن جهة أخرى ذلك الاتجاه المتزايد إلى صبغ التفكير بصبغة دنيوية لدى المذاهب المطلقة عند الهيجليين المتأخرين، وفي مقابل ذلك التقت تعاليم مارتينو في نقاط متعددة مع أولئك المثاليين المحدثين الذين كانوا يمثلون مذهبا «تشخيصيا
personalist » والذين كانت وجهة نظرهم أقرب إلى لوتسه
Lotze
منها إلى هيجل. ومن أمثلة هؤلاء المثاليين المحدثين، برنجل باتيسون
، راشدل
Rashdall ، وسورلي
Sorley . والواقع أن فلسفة مارتينو في مجموعها قريبة في نواح عدة من فلسفة لوسته، وكانت لها في انجلترا رسالة مماثلة لرسالة لوتسه في ألمانيا.
وعندما نشرت على الملأ، في العقدين التاسع والأخير من القرن التاسع عشر، مؤلفات مارتينو المذهبية الكبيرة (وهي «أنماط من النظرية الأخلاقية» و«دراسة للدين» و«محور السلطة في الدين») أثارت اهتماما كبيرا، ولقيت ترحيبا حارا، ولا سيما من خارج أوساط الفلاسفة المحترفين. ولكنها جاءت أكثر تأخرا من أن تكون مفرق طرق في تاريخ الفكر الإنجليزي؛ ذلك لأن الحركة المثالية المحدثة كانت قد اكتسبت منها قصب السبق، ولم تعد لهذه الكتابات الأهمية التي تمكنها من أن تكون قوة تدفع الفكر إلى الأمام، وإنما استطاعت فقط أن تعيد تثبيت ودعم مواقف تم التعبير عنها بكل دقة قبل ذلك بسنوات عدة، ولم يكن تأثيرها راجعا إلى المضمون الفعلي لما نشرته من تعاليم، بقدر ما كان راجعا إلى كونها وصية أدبية لزعيم مشهور اكتسب احتراما عميقا، وشاهدا على شخصية أخلاقية رفيعة عاشت بقوة الذهن وعلمت الناس كيف يعيشون بها.
ولقد كانت أهم الميادين التي امتدت إليها قدرة مارتينو واهتمامه الفلسفي هي الأخلاق وفلسفة الدين، ولم تكن معالجة المشاكل النظرية الخالصة في نظره غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة تمهد لفلسفته الأخلاقية والدينية وتدعمها؛ لذلك ألحق مناقشة هذه المشاكل ببحثه في طبيعة الدين (في المجلد الأول من «دراسة في الدين»)، ولم يكرس لها كتابات خاصة. وكانت المشكلتان اللتان أبدى بهما اهتماما خاصا هما مشكلتا المعرفة والعلية. ولن نناقش هنا أولى هاتين المشكلتين؛ إذ لم يكن في معالجة مارتينو لها من جديد، أما نظرية العلية فتمهد الطريق مباشرة للمشاكل الميتافيزيقية الكبرى.
فالعلية تعني أولا العلاقة بين عاملين، العلة والمعلول. وتبعا للنظرية السائدة، التي تمثلها المذاهب الطبيعية
naturalistic
التي تسود التفكير العلمي تماما، فإن العملية العلية تحدث في عالم الظواهر. فالعلة والمعلول معا ظاهرتان تربطهما سويا علاقة تسلسل وارتباط ضروري، بحيث تسبق العلة المعلول في الزمان وكأنها هي التي تبعثها، والعاملان معا متجانسان تماما، ولهما نفس الطابع الوجودي. وهكذا فإن العلة هي التعاقب الزمني للظواهر المرتبطة تبعا لقانون ما، ونتيجة ذلك هي نظرية الحتمية، أي كون كل حادث داخلي أو خارجي متحددا تماما تبعا لقانون علي، تخضع له الإرادة البشرية بدورها خضوعا تاما.
وفي مقابل هذا التفسير للعلية، يؤكد مارتينو أن العلة تتسم بطابع الشيء في ذاته، فهي ليست ظاهرة ضمن سائر الظواهر، وإنما هي قوة إنتاجية أصيلة، والمعلول لا يتلو منها بمجرد التعاقب العلي فحسب، بل إن العلة تنتجه وتولده. وهكذا يصبح معنى العلية هو التوليد أو الإنتاج، أي إن العلة تصبح لا متجانسة مع المعلول، وأساس كل المظاهر ذاتها لا يكون في العالم الظاهري، وإنما في عالم لا ظاهري للعلل المنتجة. وينتقل مارتينو بعد ذلك إلى محاولة إثبات أن العلة الحقيقية الوحيدة التي نعرفها هي فاعلية الإرادة، وأن ماهية العلية هي إذن هوية مع الإرادة، غير أن الإرادة تتمثل أولا، وقبل كل شيء، في ذات المرء نفسه أو في الشخصية الإنسانية، ففي تأكيدي لإرادتي أكون على وعي تام بذاتي بوصفها قوة قادرة على إحداث ظواهر، وعلة أصيلة قادرة على تغيير عالم الظواهر. ولكن، على حين أن القوة الناتجة عن فعل الإرادة هي شر ضروري لمثل هذا الاختيار، فليس فيها هي وحدها ما يوضح سبب تغيير معين دون غيره، ومن ثم فإن ماهية فعل الإرادة إنما تنحصر، لا في مجرد فيض القوة، وإنما في قدرة الإرادة على اختيار طريقة معينة للسلوك من بين طريقتين أو أكثر من طرق السلوك المتاحة لها، وفي أن تستقر على هذه الطريقة وتوجه إليها تلك القوة التي تطلقها والتي تحدث التغيير، وبهذا المعنى لا تكون العلية إلا تعبيرا عن إرادة. ولكن من الواضح أن إرادة الإنسان لا يمكن أن تكون هي العلة الوحيدة في العالم بأكمله، فهناك من فوقها الإرادة الموضوعية أو الكونية، وهي ليست إلا إرادة الروح الإلهية التي خلقت العالم وتحدث فيه كل تغير فيما عدا ما يقع في النطاق الضيق المخصص للنشاط البشري. وهكذا فإن الحقيقة الأساسية للعالم هي الإرادة بمعنى الممارسة الحرة للعلية، ويغدو العالم أو الطبيعة مظهرا للإرادة العليا للروح الإلهية.
وهكذا فإن المصادرتين الكبيرتين اللتين تبنى عليهما نظرية مارتينو في العلية، والدعامتين الهائلتين اللتين يرتكز عليهما بناؤه الميتافيزيقي، هما مصادرة حرية الإرادة البشرية والإيمان بسلطة الله، فالأولى هي محو نظريته الأخلاقية، والثانية لب فلسفته في الدين. وترتبط بالإيمان بألوهية المبدأ الأعلى فكرة تجسده في عالم الطبيعة، وفي النفس البشرية معا، كما ترتبط بمصادرة الحرية فكرة وحدانية النفس البشرية وفرديتها الأصيلة وقيمتها اللامتناهية، وتضاف إلى هاتين أخيرا مصادرة ثالثة هي الإيمان بعدم فناء الروح البشرية وببقائها في حياة مقبلة دائما.
وهكذا يتوقف مذهب مارتينو تماما على فكرته عن الحرية الأخلاقية ومعها فكرة الشخصية المستقلة الشاعرة بالمسئولية والموهوبة عقلا؛ فالشخصية الأخلاقية حرة، لا بالنسبة إلى عالم الحوادث الطبيعية فحسب، بل بالنسبة إلى إرادة الله أيضا. إذ على الرغم من أنها تشارك في الروح الأزلية التي خلفتها والتي تكون حية فيها، فإن هذا لا يستتبع فقدانها لاستقلالها ولاكتفائها الذاتي الأساسي، ومع ذلك فليست حريتها ملكا أصليا لها، وإنما تضفيها عليها الإرادة الإلهية. وهبة الحرية هذه هي التي تمكن الشخصية الإنسانية من الاختيار بين السبل الممكنة للسلوك، وبالتالي من الاضطلاع بالمسئولية الكاملة عما تفعل. وعلى هذا النحو لا يكون ثمة قيد على الإرادة الإلهية ولا على البشرية، فالله قد خلق العالم البشري بحريته ووهبه حرية، حتى يتمتع الإنسان، بقدر ما هو شخصية أخلاقية، بحرية تجعله مستقلا عن الإرادة الإلهية. وهكذا يتميز المجالان البشري والإلهي، تميزا واضحا، وبفضل هذا الانفصال بين الإنسان وبين الله ينسجم استقلال المتناهي مع الطابع المطلق للموجود اللامتناهي، ويتم التوفيق بين مذهب الألوهية
Theism
وبين مذهب اللاحتمية
Indeterminism . والثمن الذي يدفع مقابل ذلك هو بطبيعة الحال قبول الثنائية التي تسود المذهب بأسره، ولا تقتصر على الثنائية الأصلية بين الإنسان والله، وإنما تميز تفكير مارتينو في مجموعه، بما فيه من تفضيل للمتقابلات المطلقة، وللخطوط الفاصلة القاطعة، والتقسيمات الفرعية المتميزة.
ولعله قد اتضح الآن أن هذا المذهب مضاد تماما لمذاهب الهيجليين المطلقة (absolutist) ، ومن هنا ندرك سبب ذلك العنف الذي حارب به مارتينو وأتباعه نمو المثالية الفلسفية، ففي رأي مارتينو أن المذهب الهيجلي، على الرغم من استخدامه الدائم للفظ الحرية، لم يكن في مجموعه إلا حتمية مقنعة، تنطوي على اختفاء «الشخصية» التي ادعى هذا المذهب أنه يقدرها، في «غياهب المطلق»، ولم يكن في وسعه أن يرى هذا «المطلق» إلا إطارا ميتافيزيقيا مجردا معقدا، توضع في مقابله الشخصية الحية العينية للمطلق الإلهي، وفي الوقت ذاته أحس بنفور من ميتافيزيقا برادلي؛ لأنها قد فتحت الباب، في رأيه، لمذهب شمول الألوهية والصوفية، وبذلك أزالت كل الحدود التي رأى ذهنه الهادئ الصريح ضرورة رسمها.
أما مذهب مارتينو الأخلاقي، كما عرضه في «أنماط من النظرية الأخلاقية»، فهو ثمرة دراسة شاملة لمختلف النظريات التي يكشف عنها تاريخ الفلسفة الأخلاقية. وإن هذه المحاولة الطريفة لوضع مذهب للأنماط الأخلاقية لتشبه من بعض الأوجه المنهج الذي سار عليه سدجويك، وإن كانت قد أدت إلى نتائج مخالفة تماما. فهو يقسم المذاهب الأخلاقية أولا إلى فئتين رئيسيتين: مذاهب نفسانية ومذاهب غير نفسانية، وأساس التقسيم هو كون المسلمات الأخلاقية الأساسية يتوصل إليها، من جهة، من الداخل - عن طريق المعرفة الذاتية - ومن هناك تمتد لتأتي بتفسير للعالم الموضوعي، أو كونها تسير في الطريق المضاد، وفي هذه الحالة الأخيرة تكون هناك مجموعتان فرعيتان، في إحداهما يكون أساس المشكلة الأخلاقية البشرية في افتراض كيانات ميتافيزيقية، وفي الأخرى يكون في مجرد الظواهر وقوانينها. وتسمى الفئة الأولى من هاتين الفئتين الفرعيتين باسم النظريات الميتافيزيقية (التي تتشعب إلى المتعالية
transcendental
عند أفلاطون والباطنة أو الكامنة
immanent
عند ديكارت ومالبرانش واسبينوزا)، أما الفئة الثانية فهي الفيزيائية، التي يعد كونت أهم ممثليها. كما تقسم الأنماط النفسانية من النظريات إلى نفسانية ذاتية
idiopsychological
ونفسانية غيرية
heteropsychological ، فالأولى تقوم على حدس الوعي الأخلاقي الفردي، والثانية على ملكة نفسية غير هذه. وهذا النمط النفساني الغيري قد يتخذ بدوره ثلاثة اتجاهات، يستمد فيها ماهية الحقيقة الأخلاقية من الحس أو من العقل أو من التجربة الجمالية، وتنتمي إلى الفرع الأول من هؤلاء كل أخلاق للذة (ويمثلها على الأخص أبيقور وبنتام)، سواء أكانت نفعية أم تطورية. ويمثل النوع الثاني، الذي يسمى «الأخلاق الذهنية
dianoetic »، كل من كدوورث
Cudworth
وكلارك
Clarke
وبرايس
، أما النوع الثالث، أي الجمالي، فيتمثل في شافنسبري وهتشسون. أما نظرية مارتينو الخاصة، فهي تلك التي تتخذ المنهج «النفساني الذاتي».
وليس من الممكن تحديد الأصول التاريخية لهذه النظرية بدقة، وقد أشار مارتينو ذاته إلى صلتها الوثيقة ببطلر من جهة، وبكانت من جهة أخرى، وليس ثمة شك في أنه يدين لهذين المفكرين بأكثر مما يدين به لأي مفكر غيرهما، فاتفاقه مع بطلر ينصب أساسا على منهجه، أما اتفاقه مع كانت فيتعلق أساسا بمضمون تفكيره. وهناك مؤثرات أخرى أقل أهمية، هي صلاته بالمدرسة الاسكتلندية كما يمثلها ريد وهاملتن (بل والمفكرون الأخلاقيون الاسكتلنديون الأقدم عهدا أيضا)، وهي مؤثرات أولاها النقاد الأهمية الأولى، وإن لم يكن في وسعنا أن ننكر أن العامل الحدسي، وفكرة الوضوح الذاتي لأحكام القيم الأخلاقية، وهي عناصر تلعب دورا كبيرا في نظرية مارتينو، تشير إلى مؤثرات اسكتلندية، وأخيرا ينبغي ألا ننسى أن المصدر الذي كان مارتينو يستمد منه على الدوام بصيرة متجددة هو الأخلاق المسيحية كما عرضت في «موعظة الجبل
Sermon of the Mount ».
ولقد اتخذ مارتينو نقطة بدايته من الوعي الفردي أو التجربة الباطنة التي تكون لنا على أساسها بصيرة مباشرة بالحقائق والصفات الأخلاقية. وهكذا فإنه يفترض مقدما حاسة أخلاقية أو ملكة أخلاقية خاصة تختلف أساسا عن كل ملكة أخرى (كملكة العقل أو الحس الجمالي).
وهو في هذه المسلمة الرئيسية يتفق أساسا مع بطلر وفكرته في الحاسة الأخلاقية، ونحن نطلق على هذا الموقف الأخلاقي اسم المذهب الحدسي، الذي يمكن أن يعد مارتينو واحدا من أهم ممثليه المحدثين. وإذن فالحقيقة الأخلاقية الأساسية إنما تكون في أن لدينا، بوصفنا بشرا، نزوعا لا يقاوم إلى استحسان أشياء معينة واستهجان أخرى، وإصدار أحكام مطابقة عليها.
وإنه لواضح على التو أن موضوعات تقديراتنا واستنكاراتنا الأخلاقية هي أشخاص لا أشياء، وهذا يؤدي إلى الحدس، الكامن من وراء كل فكرة أخرى، والقائل إن كل تقويماتنا الأخلاقية موجهة دائما إلى البواعث الباطنة للفعل لا إلى نتائجه الخارجية. والواقع أن مارتينو يركز اهتمامه كله على الباعث الباطن، بينما النتيجة الخارجية، مهما كان من خيريتها، لا تكون لها أبدا صلة بأخلاقية الفعل، وإنما ينبغي أن ينظر إليها فقط من حيث إنها علامة أو شاهد على البواعث الباطنة للفعل. فإذا كنا نعترف بالقيمة الأخلاقية للباعث على الفعل فقط، فمن الواضح أنه لا بد أن ينشأ كل حكم أخلاقي من ملاحظة بواعثنا الباطنة، وأن تكون جذوره متغلغلة في التجربة الباطنة أو الوعي الذاتي. وهذه هي نقطة البداية الوحيدة التي يمكننا منها أن نصل إلى أحكام تقويمية على سلوك الآخرين، إذ نطبق على هذا السلوك، بالتمثيل، نفس الإجراء الذي طبقناه من قبل على أنفسنا. وهكذا لا تتكشف الحياة الأخلاقية إلا في مجال الإرادة، وليس ثمة أفعال لها أي معنى بالنسبة إلى الأخلاق سوى الأفعال المنبعثة عن الإرادة.
ولكي يزيد مارتينو فكرته هذه إيضاحا، يميز بين «التلقائيات
spontaneities » و«الإرادات
volitions »، ففي السلوك التلقائي لا نكون عادة مدفوعين إلا بدافع واحد، أما السلوك الإرادي فينطوي على دافعين على الأقل، فوجود كثرة من البواعث الملزمة هو الشرط الأساسي للحكم الأخلاقي، ولا بد أيضا أن تظهر هذه البواعث في آن واحد، لا متعاقبة. غير أن الذات لا يمكن أن تقتصر على أن تكون الساحة التي تقتحمها البواعث وتتقاتل فيها على السيطرة، بل إن هذه البواعث إنما هي مجرد إمكانيات متاحة للذات، التي يكون لها وحدها البت فيما سيؤخذ به من بينها. فالذات لا بد أن تكون هي المسيطرة على البواعث الملزمة، لا خاضعة لها. والحكم الأخلاقي يتوقف قيامه أو سقوطه على وجود قدرة انتقائية لدى الذات، تمكنها من البت بين إمكانيتين أو أكثر، ومن هنا كان لا بد أن تتوافر الحرية للذات في اختيارها بين البواعث، «فإما أن تكون الإرادة الحرة حقيقة، وإما أن يكون الحكم الأخلاقي وهما.»
وتكون فكرة البحث في البواعث الأساس النفسي لمصادرة حرية الإرادة، فإذا كان للإرادة الحرية في الأخذ بهذا الباعث ورفض غيره، وإذا كانت لدى المرء، بالتالي، القدرة على التصرف في ظرف معين على نحو مخالف لذلك الذي تصرف عليه فعلا، فلا بد أن تواجهنا مسألة البحث فيما إذا كان ثمة نظام معين يمكن أن ترتب به البواعث، على نحو يبرر الأخذ بهذا الباعث أو ذاك في كل حالة خاصة. ويرى مارتينو أن مثل هذا النظام موجود، ففي وسعنا أن نتأمل بواعث الفعل من وجهتي نظر مختلفتين، تبعا لما في كل منهما من قوة كامنة من جهة، ومن سمو أو جدارة من جهة أخرى. وعندئذ نقول إن من يستسلم لأقوى الدوافع يسلك سلوك الحريص
prudent ، على حين أن من يطيع أسمى هذه الدوافع يسلك بدافع الواجب؛ إذ إن التقدير الأخلاقي يتوقف على قيمة الباعث، بينما يتوقف التقدير الحريص على قوته؛ لأن الأول في أساسه شامل ثابت ملزم للجميع، بينما الثاني فردي متغير تبعا للأشخاص والظروف.
ويعرض مارتينو بعد ذلك بالتفصيل نظرية في بواعث السلوك، فيصنفها ويعددها بدقة، تبعا لمبادئ في التقسيم مطبقة بطريقة منهجية. وهو يقوم بمحاولة رائعة لتفسير ميدان البحث هذا بأكمله وبكل نواحيه، ولبعث النظام والتناسق فيه. وهنا يصادف المرء كثيرا من الملاحظات النفسية العميقة، غير أن المناقشة تكشف أيضا عن نزوع واضح لصاحبها إلى التقسيمات والتصنيفات الشكلية؛ مما يؤدي في حالات كثيرة إلى التعسف في إدخال الظواهر في الإطار المنطقي. وهو يحتم هذا البحث بوضع سلم أخلاقي للقيم، نستطيع أن ندرك منه على الفور مكانة الباعث الذي يدفع إلى هذه القيم. وهو يشمل ثلاثة عشر مستوى، في أدناها توجد الانفعالات المسماة بالثانوية، كحب الانتقام
vindictiveness
والميل إلى اللوم
censoriousness
والريبة
suspiciousness ، وفي أعلاها عاطفة أساسية هي العطف
compassion ، وشعور أساسي هو التبجيل
reverence . وهكذا كان مارتينو، مثل جيته، يرى في هذا الأخير تاجا للشخصية الإنسانية وكمالا لها.
ويعد هذا الجزء أهم أجزاء النظرية الأخلاقية عند مارتينو وأكثرها أصالة. وفيه، كما في غيره، يظهر طابعها الحدسي بوضوح، إذ إن الترتيب الموضوعي لمكانة القيم الأخلاقية يرجع في أصله إلى الوعي الأخلاقي الخاص أو إلى الحاسة الخلقية، التي نستطيع عن طريقها أن ندرك بوضوح ذاتي مباشر، ويقين حدسي كامل تدرج قيم البواعث من الأعلى إلى الأدنى، والمواضع المختلفة للبواعث الخاصة في سلم القيم. ولا يظهر هنا أي دور للاعتبارات النظرية وعوامل الاستدلال العقلية، والمقارنة ... إلخ، وإنما يقتصر ذلك على وعينا الباطن بالقيمة الأخلاقية، وهو وعي يقدم إلينا كلما ازداد دقة ورفاهة، معيارا أدق وأوثق، يطبق على قراراتها الخاصة، وكذلك في الحكم على سلوك الآخرين. ومن الطبيعي أن مارتينو كان مضطرا إلى الاعتراف بأن العملية الحدسية لا تكون صحيحة تماما إلا بالنسبة إلى الحالات التي تكون فيها البواعث بسيطة غير معقدة، أما حين يكون الموقف أكثر تعقيدا، فقد يحتاج الأمر إلى تصحيح لاستبصارنا الأصلي بالقيمة، عن طريق عملية تفكير انعكاسي. وهو يتحدث في هذا الصدد عن وعي «شبه حدسي» أي وعي يتم بالتأمل العقلي، ولكنه يؤكد بشدة، على أية حال، أن هناك سلما متدرجا لمبادئ الفعل، يتيح تحليلا مقارنا للبواعث والقيم الأخلاقية، كما يؤكد أننا نحمل في ذاتنا هذا السلم، ونستطيع أن نقرأ درجاته مباشرة. ويستتبع هذا أن يكون كل حكم أخلاقي ذا طابع مقارن فليس في وسعنا أن نكتفي بالقول إن هذا السلوك أو ذاك صواب أو خطأ، خير أو شر، بل إن كل ما يمكننا أن نقوله هو أنه أفضل أو أسوأ نسبيا من سلوك آخر كان للإرادة نفس القدرة على اتباعه، وعلى ذلك فمن الواجب تقدير الفعل بأنه خير عندما يكون ناتجا عن باعث أعلى، في الوقت الذي يوجد فيه أيضا باعث أدنى. ولكن لما كنا نحمل في ذاتنا وعيا بالدرجة النسبية لقيمة باعثين يتعين علينا الاختيار بينهما، فإن فينا من الأصل التزاما باختيار الباعث الأعلى. ويطلق مارتينو على هذا الاسم «القانون الأخلاقي للمبادئ أو الالتزام
Canon of Principles or Obligation » وهو يميزه من القانون الأخلاقي للنتائج
Canon of Consequences
فالأول يقدم إلينا «المعيار الأخلاقي الحقيقي لتحديد ما هو صحيح في الحالة التي نكون إزاءها»، والثاني يقدم إلينا «المعيار العقلي لتحديد حكمة السلوك». «والأول كاف لتقدير الشخصية، أما إذا شئنا تقدير السلوك فمن الواجب تكملته بالثاني.» غير أن للأول في كل الأحوال مكانة تعلو على الثاني؛ إذ إن الاكتفاء بمراعاة نتائج الفعل من أجل الصالح العام لا ينطوي في ذاته على التزام أخلاقي - وهي نقطة يؤكدها مارتينو ويعترض بها على سدجويك - لأن الالتزام إنما ينشأ من وجود صراع بين البواعث تتضح فيه القيمة العليا للغيرية منها، وهكذا يتعين علينا دائما أن نرجع إلى بواعث الفعل قبل الانتقال إلى تقدير نتائجه.
وهذا يؤدي إلى وضع حد فاصل قاطع بين مذهب مارتينو الأخلاقي وكل نوع من مذهب اللذة أو السعادة أو المنفعة، فالأخلاق عند مارتينو - كما هي عند كانت - أخلاق ضمير وواجب، ومسئولية وقانون أخلاقي ملزم. ولم يكن واحد من معاصريه الإنجليز يدانيه في قوة الاقتناع التي أعلن بها جدارة الإنسان الأخلاقية، وسمو الشخصية ونزاهتها، وحرية الإرادة، وسيادة القانون الأخلاقي. ولقد كان مذهبه من أقوى القلاع التي قاومت الاتجاهات الطبيعية
naturalistic
والمادية في عصره، وناضلت ضد طوفان المذاهب الداروينية والتطورية، وضد الاكتفاء بالوجه الدنيوي للحياة، وكثير من الاتجاهات الأخرى. ومما زاد في فعاليته أنه كان يجد دعما من شخصيته العظيمة الرفيعة وأن تلك الحياة الروحية الرفيعة التي جعل منها رسالة له، قد تحققت في شخصه على أكمل نحو.
ولقد كانت نفس الأهداف المثالية التي وضعها لمذهبه الأخلاقي، هي التي تكون أساس فلسفته الدينية، فعلى الرغم من أنه - حين جعل السلوك الأخلاقي أمرا باطنا تماما - قد حرره من الروابط الاجتماعية فضلا عن قيود الوجود الطبيعي، فإنه لم يفترض أن من الممكن تحديد هذا السلوك بطريقة مستقلة تماما، وإنما سعى إلى إيجاد أساس له في ذلك المبدأ الأعلى الذي يكون الدين مجاله. ولقد رأينا من قبل أن نقطة البداية في مذهب مارتينو هي الوعي الذاتي، ولكن هناك مع ذلك طريقتين تستطيع بهما الذات تجاوز حدودها الخاصة؛ هما فعل الإدراك، الذي تدرك به عالم الطبيعة الخارجي، وحقيقة الضمير الذي نشارك به في الموجود الإلهي. وهي في الحالتين تشعر بذاتها في «آخر»، وتشعر بهذا «الآخر» في ذاتها، وهي في الحالة الأخيرة تتجاوز ذاتها لتنتقل إلى ذات أعلى. وتزداد ضرورة الانتقال من المجال الديني في فكرة السلطة، فما هو أصل تلك السلطة التي تجعلنا نفضل الباعث الأعلى على الأدنى، ونرى أن هذا التفضيل هو الفعل الأخلاقي الصحيح؟ هل نحن نستمدها، على نحو ما، من وعينا الخاص الذي تبدت فيه لأول مرة؟ لو كان هذا صحيحا، ألن يكون صراع البواعث في هذه الحالة مجرد صراع بين حاجاتنا الشخصية؟ من المحال أن يكون هذا هو لب تجربة الإلزام، وإنما الأصح أن هذه التجربة تعني أننا نشعر بشيء أعلى منا، لا يمكن أن يكون جزءا من ذاتنا؛ لأنه يفرض علينا مطالب معينة. وهكذا فإن تجربة السلطة هذه، إذا ما فسرت على النحو الصحيح، تدفعنا إلى تجاوز حدودنا الخاصة لنعترف بكائن من مرتبة أعلى، يتجاوز ذاتنا، ولكنا لما كنا أشخاصا، ولما كانت الشخصية تنطوي على نوع من الوجود أعلى من مجرد الشيئية، فلا بد أن يكون هذا الكائن، الذي هو من مرتبة أعلى من مرتبتها ذاتها، مختلفا عنا، يتجاوزنا ويعلو علينا، أي ينبغي أن يكون هو الشخصية اللامتناهية أو الإلهية. وهكذا فالوعي الأخلاقي أكثر من مجرد جزء من ذاتنا، ففيه نعترف بسلطة موضوعية أو قانون موضوعي عال علينا، لا نصنعه بأنفسنا، وعن طريقه ندخل في اتصال مباشر مع الحياة الإلهية.
وعلى ذلك فمن الواجب تحديد العلاقة بين الأخلاق والدين على النحو الآتي: فالأولى سابقة على الثانية، وتقتضي بحثا سابقا؛ إذ إن القواعد الأخلاقية تكون في البداية مستقلة عن أي إيمان ديني، وهي تتحكم فيه من البداية ولا تفترضه مقدما، فكل دين علوي ترجع جذوره إلى الوعي الأخلاقي، وإلى المجال الأخلاقي يرجع أصل أعظم النتائج التي يحققها. ومن جهة أخرى فليس من الممكن إبقاء الأخلاق في حدود المجال البشري وحده، وإنما هي تشير إلى ما يتجاوز هذا المجال، وتتطلب اكتمالا في اتجاه الدين، وإلا عادت فانحدرت إلى مستوى مذهب اللذة.
وتزداد قوة الاتجاه الأخلاقي للدين ظهورا عند مارتينو عندما يبدأ في بحث براهين وجود الله، فهو يحرص قبل كل شيء على عرض حجتين: الأولى وهي الحجة الميتافيزيقية، التي عرضنا لها من قبل، تتلو نظرية العلية، فلما كانت العلية، كما رأينا، في هوية مع الإرادة، ولما كانت الإرادة البشرية ضيقة المجال بدرجات متفاوتة، ولما لم يكن من الممكن، فضلا عن ذلك، أن توجد في عالم الظواهر أية علة أصيلة بمعنى العلة القادرة على التوليد؛ فإنا نستدل من الإرادة البشرية على وجود الإرادة الإلهية، بوصفها الدعامة الأصلية لعالم الطبيعة بأسره. وهكذا تؤدي الحجة الميتافيزيقية مباشرة إلى الله، بوصفه العلة الأولى أو الإرادة العاقلة العليا. والأهم من ذلك، البرهان الأخلاقي على وجود الله، أو على الأصح، محاولة إظهار الله في مجال الأخلاق. فهنا تكون الأداة الوسيطة هي الضمير، الذي يتكشف به الموجود الإلهي بنفس اليقين الذي يتكشف به العالم الخارجي للإدراك الحسي. ففي الضمير ندرك كذلك العلة الأولى، بوصفها القانون الأسمى في الوقت ذاته، وندرك الله على أنه المشرع ذو الخير الكامل ومصدر كل القيم الأخلاقية، وأصل سلطة الالتزام التي لا نستطيع أن نستمدها من ذاتنا، وأخيرا بوصفه واهب إرادتنا الحرة ذاتها، والشرط الذي لا بد منه لكل سلوك أخلاقي. فالله، بوصفه دعامة قانون أخلاقي مطلق، لا يكون مجرد «مطلق» ميتافيزيقي، وإنما هو الشخصية الأخلاقية العليا، التي هي حية عنيفة، والتي يمكننا، بوصفنا أشخاصا، أن ندخل معها في اتصال مباشر.
غير أن هذا الاتصال بين الإنسان والله يمتد أبعد كثيرا من مجال الأخلاق، فعلى حين أننا في الوعي الأخلاقي نصل إلى تأكيد للوجود الإلهي، ونصبح على وعي مباشر بالله، ولا سيما في واقعة الضمير، فإن الألوهية تواجهنا أولا بوصفها قوة عالية مطلقة ترتفع «فوقنا» إلى أبعد حد، وندين لها بالطاعة والخضوع. غير أن هذا لا يستنفد جميع أطراف العلاقة بين المتناهي واللامتناهي، وهي علاقة تفوق ما يمكن أن يعرف في الوعي الأخلاقي بكثير من حيث طابعها الوثيق الشخصي المباشر. وهكذا يتضح أن من الضروري اقتراض حاسة أو ملكة دينية على التخصيص، تكون مختلفة لا عن الملكة العقلية أو الجمالية فحسب، بل مختلفة بوجه خاص عن الحاسة الأخلاقية. ويعترف مارتينو بوجود هذه الحاسة أولا في الشعور الأولي بالتبجيل، وهو الشعور الذي عزا إليه أرفع مكانة في سلمه الأخلاقي للقيم. فالتبجيل هو الذي يجذبنا إلى المجال الأرفع، ويتيح لنا أن نتطلع إلى أعلى، وأن نعير الحدود التي تفصل بين الحقيقة الظاهرية والحقيقة الحقة، وأن نصل إلى ما هو مثالي. وهكذا فإن ما كان خضوعا وطاعة للأمر الإلهي، في المستوى الأخلاقي، يغدو الآن شعورا واعيا بالتصديق العميق والحب المؤكد. ففي الشعور بالتبجيل نتخلص من تلك المعركة التي لا تتوقف بين البواعث المتصارعة وتصل إلى «المشاركة في الحياة والحب الإلهيين»، ويجد الأخلاقي تحققه واكتماله النهائي في المقدس، وتدخل النفس المتناهية في الوجود اللامتناهي وتستوعب فيه. وهكذا تتلاشى فلسفة الدين عند مارتينو في تيار فكري، إن لم يكن تيارا صوفيا خالصا، فهو على الأقل يقترب من ذلك اقترابا وثيقا، وهنا نجد أن ما كان يكون اللب الجوهري للأخلاق عنده - أي فكرته عن النفس الفردية المصونة المستقلة - قد أصبح مهددا بخطر عظيم في فلسفته الدينية، ولا يتم الوصول إلى الاتفاق التام بين المجالين، بل لا يمكن الوصول إليه، في ذلك المذهب الذي كان تبعا لغرضه الأصلي قائما على التوتر المستقطب للتقابل بين الإنسان والله، والذي لم يحاول أن يقضي على هذا التوتر ويقرب ما بين القطبين إلا فيما بعد.
وهناك مفكر كان يرتبط بمارتينو ارتباطا وثيقا، وإن كان قد أدخل تعديلات هامة على مذهبه، في اتجاه فلسفة لوتسه، ذلك هو تشارلس أبتن
Charles Barnes Upton (1831-1910)، وكان يشغل منذ 1875 منصب أستاذ الفلسفة في كلية مانشستر، وقد وضع «أبتن» مذهبا ألوهيا أخلاقيا ربط فيه بين الأخلاق والدين ربطا متبادلا وثيقا، فمعنى الأخلاق عنده لا ينحصر في تحقيق قانون أخلاقي مستقل بذاته، بقدر ما يكون في توجيه الإنسان قدما نحو الإيمان الديني؛ لذلك حارب أبتن «ذوى النزعة الأخلاقية
ethicists » الذين كانوا يهدفون إلى حرمان الأخلاق من كل ارتباطاتها «الأعلى» وإلى بنائها على الإرضاء الشخصي للحاجات والرغبات الفردية فحسب. ولقد كانت أفكاره في الميتافيزيقا وفلسفة الدين مستمدة كلها تقريبا من تعاليم مارتينو ولوتسه. وقد استمد من ثانيهما النظرية العامة في الكون كما عرضها في كتابه «العالم الأصغر
Microcosmos ». بل لقد نظر إلى لوتسه على أنه هو الفيلسوف الذي بلغ بالمثالية الألمانية حد الاكتمال، ووجد فيه أقوى حليف له ضد القوى المعادية للدين، التي أطلقتها العلوم الطبيعية من عقالها. ولقد تلقى أبتن ذاته تعليما في العلوم الدقيقة، فاتجهت جهوده إلى التوفيق بين النظرة الآلية إلى العالم وبين حرية الإرادة. وقد عمل، مثل مارتينو، على إحلال فكرة الوعي المباشر بالله محل ذلك الأساس الذي توجده النزعة العقلية للدين، فنحن نشعر بوجود الله مباشرة، لأن هذا الوعي يتكشف في الشعور، وفي أفعال الإدراك الحدسية، أما معرفتنا بالله عن طريق البرهان العقلي والاستدلال النظري فلا تكون لها أبدا، بالنسبة إلى هذا الشعور، إلا قيمة ثانوية، مهما كانت لها مع ذلك من أهمية. والفارق الرئيسي بين فكرة أبتن هنا وبين فكرة مارتينو، التي تشبهها في الأساس، هو ازدياد قوة العنصر الصوفي عند الأول.
وأخيرا فقد كان أبتن من أوائل من أدركوا الخطر الذي يهدد المثالية الأخلاقية من جانب المثالية الهيجلية المطلقة: أعني خطر القضاء على الحرية الأخلاقية والمسئولية الفردية، وهدم حرية الاختيار الأصيلة بين الممكنات المختلفة، والحط من الحقائق الأساسية كالشر والخطيئة إلى مرتبة المظاهر الخالصة، واستبعاد التأثير المباشر للألوهية على النفس البشرية، إلخ. ولما كانت الحركة الهيجلية الإنجليزية، التي قامت في مرحلتها الأولى تدافع عن الدين وعن الكنيسة، قد أخذت تزداد تحولا إلى مذهب غير مكترث بالدين على أحسن التقديرات، فقد طالب أبتن المدرسة الهيجلية بأن تغير مجراها وتتحول إلى فلسفة لوتسه، بوصفها الفلسفة الوحيدة التي يمكن فيها التوفيق بين التجربتين الأخلاقية والدينية على النحو الصحيح. وعلى عاتق مثل هذه الفلسفة الدينية تقع مهمة مزدوجة، هي إعطاء الشخصية والحرية الإنسانية حقها الكامل، مع إثبات كمون الله في الطبيعة وفي النفس البشرية في الوقت ذاته.
6
وللمفكرين التالين بدورهم ارتباط وثيق بمدرسة مارتينو الفكرية:
رتشارد دهولت هتن
Richard Hold Hutton (1826-1897)، وهو صحفي ولاهوتي، اطلع على الفلسفة واللاهوت الألمانيين في وقت لا يعد متأخرا بالنسبة إلى وقت اطلاع مارتينو عليهما. وقد درس على مارتينو في مانشستر، ثم درس معه في برلين (وقبل ذلك في هيدلبرج)، وجمعت بين الرجلين صداقة متينة. ثم حاز بعد ذلك شهرة كبيرة بوصفه مشرفا على تحرير عدة مجلات دورية أو مساهما في تحريرها. وقد اقتفى أثر مارتينو، إذ وجد أن تعاليمه قد ساهمت بأهم دور عرفه القرن التاسع عشر في سبيل تبرير النظرة إلى العالم وفلسفة الحياة الكامنتين في المسيحية وصياغتهما في صورة منهجية. وفيما يتعلق بنظرته إلى اللاهوت فقد بدأ، مثل مارتينو، تابعا للكنيسة التوحيدية
Unitarian ، ولكنه انتقل فيما بعد (بتأثير ف. د. موريس
F. D. Maurice
على الأخص) إلى الكنيسة القائمة
Established Church ، وتتفق آراؤه اللاهوتية في أساسها مع أفكار «موريس».
7
وليام بنجامين كاربنتر
W. Benjamin Carpenter (1813-1885) وهو عالم فسيولوجي مشهور، كان بدوره تابعا لكنيسة التوحيديين، وقد حاول أن يقيم فكرة العلية والإرادة الحرة عند مارتينو على أسس أبتن بحجج مستمدة من الفسيولوجيا، وأن يدعمها بأبحاث فسيولوجية دقيقة.
وكان الأساس الفلسفي لبحثه الخاص قريبا من المواقف الرئيسية لمارتينو.
8
جوزيف إستلين كاربنتر
J. Estlin Carpenter (1844-1927)، وهو ابن المفكر السابق، وكان لاهوتيا توحيديا، واشتغل من 1875 إلى 1915 محاضرا وأستاذا لعلم الأديان المقارن في «مانشستر نيو كوليدج» بلندن، التي أصبحت فيما بعد «كلية مانشستر» بأكسفورد، وهو بدوره يتخذ موقفا قريبا من مذهب الألوهية الأخلاقي عند مارتينو، وذلك في وجهيه اللاهوتي والفلسفي على السواء.
9
فإذا شئنا أن نختار ممثلا أخيرا لوجهة النظر التوحيدية
Unitarian ، فلنذكر نصيرة حقوق المرأة المشهورة، والمؤلفة التي بلغ إنتاجها الغزير حوالي ثلاثين كتابا، وهي «فرانسس باور كوب
Frances Power Cobbe » (1832-1904)، وقد تأثرت بثيودور باركر
Theoder Parker
رئيس مذهب التوحيديين في أمريكا، أكثر مما تأثرت بمارتينو ذاته، كما تأثرت بفرنسيس نيومان
F. W. Newman
وبمذهب كانت الأخلاقي. ولقد كان نشاطها التأليفي المتعدد الجوانب منصبا قبل كل شيء على مناقشة المسائل اللاهوتية والأخلاقية والاجتماعية.
10
وهكذا فإن أعظم القوى النظرية في ميدان فلسفة الدين في القرن التاسع عشر قد تجمعت حول هذين المركزين، حركة أكسفورد والمذهب التوحيدي عند مارتينو، غير أن الاهتمام بالمشكلة الدينية ظل حيا على الدوام، حتى داخل الحركات الفكرية ذات الاتجاه الفلسفي المحدد، ولا سيما بين مفكري المدرسة الاسكتلندية كما رأينا، وفي الأوساط التطورية بدرجة أقل، وإن يكن اهتمام هذه الأخيرة قد اتجه إلى النقد والرفض أكثر مما اتجه إلى البناء الإيجابي.
غير أن مشكلات الدين كانت موضوعا للاهتمام في الحركة المثالية بدورها، ولو أن هذا الاهتمام كان أعظم في بدايتها في العقدين الثامن والتاسع منه في مراحلها المتأخرة. فليرجع القارئ إلى الأجزاء المتعلقة بهذه الاتجاهات في الكتاب للاطلاع على مزيد من المعلومات عن هذه المساهمات. ولكنا لن نذكر شيئا عن التفكير الديني الذي نما في الكنائس والطوائف الدينية، والذي كانت أهميته لاهوتية أكثر منها فلسفية، على أساس أن مثل هذا التفكير خارج عن نطاق بحثنا. ولنكتف في هذا الصدد بالكلام عن أعمال كانت لها أهمية خاصة، هي أعمال «فردريك دنيسون موريس
Frederic Denison Maurice » (انظر أيضا بداية الفصل التالي)، وهو من أعظم وأشهر الزعماء الدينيين في عصره، وقد اشتهر بنشاطه في حركة الإصلاح المعروفة باسم «الاشتراكية المسيحية». ولنضف إليه شخصية أخرى مشهورة هي شخصية الأسقف «تشارلس جور
Charles Gore » (1853-1932) والكتاب الذي نشره بعنوان «نور العالم
Lux Mundi » (1889) والذي يضم مقالات لكتاب مختلفين. ولقد كان جور، مثل موريس، اشتراكيا مسيحيا وداعية إصلاح، تعلم في كلية ب«اليول
Balliol » منبع المثالية الإنجليزية.
ومن الواجب الإشارة إليه في هذا العدد بوجه خاص نظرا إلى محاولته توجيه الاتجاه «البوسي
» المحافظ داخل حركة أكسفورد وجهة حديثة، وبث روح النقد المتحرر فيها، فعلى حين أن نقطة بدايته، في ناحية العقيدة والسلطة الكنيسية، كانت هي ذاتها نقطة بداية «بوسي
»، فقد اضطلع بمهمة التوفيق بين مبدأ السلطة الدينية وبين المبادئ العلمية والفلسفية عن طريق وضع حد فاصل بين نطاقي نفوذهما، وقد أراد أن يبني العقيدة المسيحية على أساس العلم والنقد الحديث، وأن يربطها في علاقة حية بالمشكلات الأخلاقية والاجتماعية الحديثة.
11
وينبغي أن يذكر هنا اسم آخر، هو اسم «ماكس مولر
Max Müller » (1823-1900)، وهو من الباحثين الرواد في ميدان الدراسة العلمية والتاريخية للأديان، وواحد من أعظم العلماء المدققين في عصره، وقد كان ألمانيا بحكم المولد، إذ إنه نجل الشاعر «فيلهلم مولر
Wilhelm Muller »، ولكنه وفد إلى إنجلترا في 1846، وشغل الكرسيين الآتيين في أكسفورد، كرسي اللغات الحديثة من 1850 إلى 1868، وكرسي فقه اللغة المقارن من 1868 حتى تقاعده السابق لأوانه عام 1875. وله دراسات تشغل عددا كبيرا من المؤلفات، وتمتد إلى ميادين واسعة ومتنوعة كالأديان المقارنة والفلسفة والتراجم وعلم الأساطير المقارن وفقه اللغة والدراسات الشرقية واللغويات إلخ. وقد جلبت له هذه الدراسات شهرة عالمية، لا سيما في الهند واليابان والصين، وأكسبته تكريمات متعددة، وكان له دور بارز في فتح آفاق الحضارات والأديان الشرقية، ولا سيما الهندية، أمام الدارسين الغربيين، وقد طبق المنهج المقارن بطريقة مثمرة على دراسة الدين والحضارة والأسطورة.
وكان يرى أن الدين واللغة يسيران جنبا إلى جنب على المستوى البدائي على الأقل، وأن من الممكن استخدام كل منهما في إلقاء ضوء على الآخر، ومن ثم فقد جعل من البحث في اللغة أداة تساعد على البحث العلمي للدين، غير أنه كان باحثا أكثر منه مفكرا، وكان لغويا أكثر منه فيلسوفا، وحال تعدد أوجه نشاطه دون وصوله إلى مذهب فلسفي موحد.
وكان مولر يعني بالدين، الشعور عن وعي باللامتناهي، بقدر ما يمكن لتأثيره أن يتحكم في الطابع الأخلاقي للإنسان. وقد ميز بين ثلاث مراحل في تطور الحياة الدينية: هي المادية
physical
والأنثروبولوجية والنفسانية، وكان يرى في المسيحية خلاصة لكل دين، كما بدا له تاريخ الدين بأسره تطورا لا شعوريا نحو هذا الهدف الأسمى، وإليه ندين أيضا بترجمة كاملة لكتاب «نقد العقل الخالص
Critique of Pure Reason » لكانت (1881)، وهي مهمة كان شوبنهور ينوي الاضطلاع بها قبل نصف قرن من الزمان، ولكنه لم ينفذها. ولقد سبقت ترجمة مولر ترجمة أخرى تولاها مايكلجون
Meikeljohn (1855)، كما حلت محلها الآن ترجمة أخرى لنورمان كمب سمث
Norman Kemp Smith (1929) تفوق السابقتين بمراحل في الدقة والتبصر الفلسفي على السواء.
12
ونستطيع أن نضيف هنا كاتبين في الفلسفة لا يمكن أن يعدا منتميين إلى معسكر بعينه، وكانت تشغلهما مشكلات من نوع آخر بالإضافة إلى مشكلة الدين، هما الاسكتلنديان: فريزر وفلنت.
كان «ألكسندر كامبل فريزر
A. Campbell Fraser » (1819-1914) خليفة لهاملتن، من 1856 إلى 1891، في كرسي المنطق والميتافيزيقا في إدنبرة. ولا ترجع أهميته الفلسفية إلى أي تفكير منهجي بقدر ما ترجع إلى نشاطه الطويل الناجح في التعليم، ومزاياه بوصفه ناشرا لمؤلفات لوك وباركلي، اكتسبت تعاليمهما بفضله شهرة واسعة، وبعثت فيها حياة جديدة، جعلت أقوالهما تسري على ألسنة النقاد وعامة الناس. ولقد ظل شباب اسكتلندا، طوال أكثر من جيل كامل، يتلقون العلم على يديه، ويكتسبون انطباعات وإيحاءات لا تزول من محاضراته التي لم تكن ترمي إلى فرض أي مذهب محدد على السامع، بقدر ما كانت تهدف إلى بث روح التفلسف فيه بفضل ما تبعثه من شعور بالحرية والحماسة؛ وبذلك تحفزه على التفكير الإيجابي المستقل. «فلم ينشر فريزر مذهبا ولا أسس مدرسة، وإنما أثار الأفكار وحفزها دون أن يدفعها إلى السير في اتجاهه» (سورلي).
ولقد تلقى فريزر الجزء الأكبر من ثقافته الفلسفية على يد السير وليام هاملتن، أستاذه وصديقه فيما بعد، وبفضله شب في البداية متشبعا تماما بالتراث الفلسفي الاسكتلندي، ولكنه وقع بعد وقت غير طويل تحت تأثير «توماس براون» ونظريته في العلية، ثم اجتذبه مذهب الشك عند هيوم، بكل ما فيه من إغراء خطر، هزه من أعماقه، وبعد أزمة عنيفة، اهتدى أخيرا، في فلسفة باركلي، إلى الخلاص من الشك والقلق، ووجد فيها، في الوقت نفسه، ذاته الحقيقية، كما روى في ترجمته الذاتية لحياته «سيرة فلسفية
Biographica Philosophica » (1904). ومنذ ذلك الحين أصبح تطور تفكيره الفلسفي الخاص متأثرا في أساسه بمذهب باركلي، وإن لم يكن قد تخلى على نحو قاطع عن أصله الاسكتلندي (ريدو هاملتن)، وهو لم يقتصر على تجديد فلسفة باركلي في تفكيره الخاص، بل يمكن القول إنه أعاد كشفها لمعاصريه. ولا شك أن حرصه على التوفيق العلمي الصارم لم يسفر عنه ما يمكن تسميته «بالباركلية الجديدة»، ولكنه أسفر فعلا عن اهتمام عام بشخصية الأسقف الأيرلندي وتعاليمه، وكان لهذا الاهتمام قيمته، من حيث إنه كان حافزا على التفكير أحيانا، بل اتخذ صورة منظمة في كثير من الأحيان، وكان يحقق نوعا من التوازن مع الطموح المتزايد للمدرسة الهيجلية. ومن أهم أعمال فريزر، النشرة الأساسية لمؤلفات باركلي (1871، الطبعة الثانية 1901) وكذلك ترجمته لحياة باركلي، التي لا تزال تعد مرجعا أساسيا حياة باركلي ورسائله
Life & Letters of Barkeley (1871) وكذلك نشرة ممتازة لكتاب لوك الرئيسي «بحث في الفهم البشري» (في مجلدين، 1894).
ولقد كان فريزر في الأصل قسيسا، ولم يستطع أن يتخلى في كتاباته الفلسفية عن أصله الديني على نحو تام، وهكذا كان أهم ما جذبه إلى باركلي إثباته الفلسفي وتبريره للديانة المسيحية من حيث هي مذهب ألوهي يحتل فيه الله مكانة مركزية بوصفه الخالق، بينما لا يكون للعالم من مبرر إلا بوصفه من خلق الله. ولم تكن القوة الدافعة له إلى تقديم عرض منهجي لهذه الفكرة بادرة ذاتية صادرة عنه، وإنما كانت حافزا خارجيا هو تعيينه لإلقاء محاضرات «جيفورد»، التي اضطر فيها، رغم عدم وجود أي ميل لديه إلى التأمل الفلسفي المنهجي وإلى وضع ما يكاد يكون مذهبا خاصا به (في كتاب «فلسفة المذهب الألوهي
The Phil. of Theism »، في مجلدين، 1895-1896، الطبعة الثانية في مجلد واحد، 1899)، وفي هذا الكتاب يأخذ بفكرة باركلي الطريفة التي تنظر إلى الطبيعة على أنها هي اللغة الإلهية، ويتوسع فيها على نحو مثمر ليجعل منها مذهبا رمزيا كونيا. ولما كان ينفر بطبيعته من كل موقف متطرف، فقد اعتقد أنه، إذ وضع مذهبا ألوهيا مبنيا على الإيمان الديني، فقد اهتدى إلى حل وسط يوفق من جهة بين الإلحاد ومذهب شمول الألوهية
، ومن جهة أخرى بين مذهب الشك اليائس وبين الثقة المفرطة في المعرفة. ولقد أدرك وجود مثل هذا اليأس في اللاأدرية الشكاكة عند هيوم، الذي رأى بحق أنه هو - وليس كانت كما كان يشيع القول عندئذ - الأب الحقيقي للاأدرية المحدثة عند هكسلي وسبنسر وغيرهما، كما أدرك من جهة أخرى وجود الموقف الآخر المضاد، وهو التفاؤل المفرط، في المذهب العقلي الذي يقول بإمكان معرفة كل شيء عند هيجل والهيجليين المحدثين. وهكذا استعاض «بالإيمان» عن «الاعتقاد» النظري عند هيوم، وحاول السير في طريق وسط بين الطرفين، بحيث لا يبخس المعرفة البشرية، في نطاقها الضيق، حقها، مع حمايتها من المبالغات في كلا الاتجاهين. وبالمثل كان ينفر من كل تفسير يرفع الأنماط الأصلية المعطاة للوجود - وهي الإنسان والعالم والله - إلى مرتبة المطلق (وقد كان، مثل مارتينو، يرى أن هذه هي فعلا أنماط معطاة للوجود). وهناك ثلاثة أنواع من المذهب الواحدي
Monism
تنتج عن إضفاء صفة المطلق على هذه المعطيات، هي: شمول الأنا
(أو مذهب الذات الوحيدة
Solipsism ) وشمول المادة
وشمول الألوهية
. ويرى فريزر أن هذه تمثل أنظارا فلسفية لا صلة لها بالألوهية، وقد أخضعها للنقد والتفنيد من وجهة نظره المؤمنة بمذهب الألوهية.
ولقد حاول، في مذهبه الخاص، أن يوفق بين هذه الكيانات الثلاثة المعطاة، فتخلى للعلوم الخاصة عن «العالم» بمعنى الطبيعة، وبذلك حط من مكانتها الفلسفية بل تجاهلها، ووحد بين المجال البشري والأخلاق، وبين المجال الإلهي والدين، لكنه نظر إلى «الله» من الجانب الأخلاقي قبل كل شيء، بوصفه تشخيصا للخيرية اللامتناهية، كما نظر إلى الإنسان على أنه الكائن الأخلاقي على التخصيص، أي على أنه «شخص» أخلاقي، أما الأشياء فقد نظر إليها على أنها توجد من أجل الأشخاص فحسب. وهكذا كان مذهب الألوهية عند فريزر مبنيا على الأخلاق، كما هي الحال عند نيومان ومارتينو، وكانت مثاليته روحية وتشخيصية كمثالية باركلي، وبذلك كانت حصنا ضد الاتجاهات الطبيعية
naturalistic
السائدة في عصره. ومن الطريف أن نلاحظ في هذا العدد أن الفلسفة الألمانية لم تؤثر في تفكيره إلا على نحو ضئيل وبدرجة ثانوية تماما. ولكنه رغم تمسكه التام بالتراث الإنجليزي القومي، قد تغلب على بعض الأخطاء التي كانت شائعة في مدرسة هاملتن (ولا سيما فيما يتعلق بكانت)، بل لقد حاول أن يفسر هيجل (في اتجاه يميل إلى «اليمين» الهيجلي) وأن يستوعب تعاليمه. فإذا تذكرنا أن جذور فريزر الفلسفية ترجع إلى عهد أسبق كثيرا من عهد إحياء المذاهب المثالية الألمانية في إنجلترا، فلن يعود من المستغرب أن تراه، بعد هذا الإحياء، عاجزا عن إعادة توجيه فكره من أساسه، رغم أنه كان يعطف كثيرا على الحركة الجديدة.
أما روبرت فلنت
Robert Flint (1830-1910) فكان من البداية قسيسا بالكنيسة الاسكتلندية، ثم أصبح منذ عام 1864 أستاذا للفلسفة الأخلاقية في «سانت أندروز
St. Andrews » ثم أستاذا للاهوت في إدنبرة (من 1876 إلى 1903). ولقد كان عمله الإيجابي بوصفه مفكرا يسير في اتجاهين، اتجاه فلسفة التاريخ، واتجاه فلسفة الدين، وقد أخرج في كلا الميدانين سلسلة من المؤلفات كانت تتميز باتساع نطاقها ودقة البحث واتساع المعلومات فيها.
وينبغي أن تعزى إلى أعمال فلنت في الميدان الأول أهمية خاصة؛ إذ إن فلسفة التاريخ (ومن بعدها علم الجمال) كانت أقل المباحث الفلسفية نصيبا من اهتمام المفكرين الإنجليز، وهي لم تثر أي اهتمام جدي إلا في حالات استثنائية، بل إنه ليمكن القول: إن التاريخ لم يصبح أبدا مشكلة فلسفية بالنسبة إلى الإنجليز، ولهذا السبب لم يكد إحياء الموقف الفلسفي من التاريخ في القارة الأوروبية، أي في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، يجد أي صدى في إنجلترا، بل إنه لا يمكن أن يكون هناك، بين صفوف الهيجليين الإنجليز، أي اعتراف بمشكلة التاريخ أو أية تفسيرات شاملة لمجرى التاريخ على النحو الذي عرضه هيجل ذاته. وهكذا يتميز فلنت بأنه أحد المفكرين الإنجليز القلائل الذين رأوا أن التاريخ ليس مجرد موضوع يبحث تجريبيا، بل إن من الممكن أيضا تفسيره فلسفيا. فمن الواجب أن يتحول التاريخ إلى فلسفة التاريخ إن شاء أن يفهم ذاته على النحو الصحيح. وكلما تقدم التفكير التاريخي ازداد اصطباغا بالطابع الفلسفي؛ إذ إن وقائع التاريخ تنطوي في أساسها على معنى فلسفي. والحوادث التاريخية لا تتعاقب اتفاقا أو خبط عشواء، وهي ليست متروكة للفوضى والاضطراب، بل إن في وسعنا أن نهتدي فيها إلى نظام وقانون، تترابط فيه فيما بينها، وينمو الحادث فيه من الآخر، ومع ذلك فمن الواجب ألا ينظر إلى هذا الترتيب المنظم في مجرى التاريخ على مثال العلية العلمية، وإنما هو يتمثل في نوع من الاتفاق مع القانون خاص بالعملية التاريخية وحياة الروح. وهذا يعني أن فلسفة التاريخ، بوصفها التفسير العقلي للطابع الصحيح للوقائع التاريخية والعلاقات الحقيقية بينها، هي جزء من التاريخ ذاته، بل هي التاريخ على مستوى أعلى من مستويات المعرفة، فالتاريخ بوصفه علما، والتاريخ بوصفه فلسفة، ليسا مبحثين منفصلين ينتقل كل منهما عن الآخر، وإنما هما فرعان من جذع رئيسي واحد.
وبهذه الروح ألف فلنت كتابه العظيم عن فلسفة التاريخ في أوروبا، وهو عمل كان يستهدف غاية عظيمة الطموح، ويكشف عن اطلاع واسع عميق، بل إن هذه الغاية قد فاقت قدرة هذا العالم على البحث، على ضخامتها، إلى حد أنها تركت ناقصة بعد محاولتين لإتمامها،
13
وتشمل الأجزاء المكتملة النظريات الفلسفية للفرنسيين والألمان من عهد بودان
Bodin
14
وليبنتس، كما أن الطبعة اللاحقة في 1893 قد تضمنت عرضا شديد العمق، لم يفقه أي عرض آخر حتى الآن، لنظريات المفكرين الفرنسيين والبلجيكيين والسويسريين. أما الطبعة الأولى (1874) فلها أهمية خاصة من حيث إنها لفتت أنظار القراء الإنجليز لأول مرة إلى الحركة المثالية الألمانية من كانت إلى هيجل، وكونت منها مركبا جامعا يكشف عن درجة عالية نسبيا من الفهم، بل إن هيجل نفسه يعالج هنا بطريقة نقدية تماما: فمع رفض فلنت لمعظم تعاليمه، نراه يكتب عنه بإعجاب يدعو إلى الدهشة، «مهما كان بعد المرء عن أن يكون تلميذا لهيجل، فمحال عليه أن ينكر أنه لا يكاد يوجد كنز للأفكار الفلسفية أغنى من ذلك الذي تكونه مجلداته الثمانية عشر.»
ولكن تفسيرات فلنت تتفق بوجه عام مع الفرنسيين أكثر مما تتفق مع الألمان - ومن هنا كان النجاح الرائع الذي أحرزه كتابه في فرنسا - وقد أكد أن مذهب رينوفييه
Renouvier
15
هو الذي يمثل موقفه الخاص من فلسفة التاريخ، وهو الموقف الذي لم يقدم أي عرض تفصيلي. وهكذا يرفض تلك النظريات التي تعالج التاريخ على أنه إنتاج آلي أو صراع من أجل الوجود بين الأفراد والمجتمعات، أو على أنه مجرد نمو عضوي أو حركة ديالكتيكية، ويرى في التاريخ - بدلا من ذلك - عملية خلاقة هي في أساسها أخلاقية، عملية تربية للفرد الفاعل بحريته ليبلغ مستوى الإنسانية الأصيل، الذي يصل فيه القانون الأخلاقي إلى صورته الصحيحة وتحققه الكامل.
أما الوجه الآخر من إنتاج فلنت العقلي فيتمثل في الدور القوي الذي لعبه في الصراع بين الاتجاهات الطبيعية اللاأدرية وبين اللاهوت المسيحي، وهو الصراع الذي كان يحتدم في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وقد ألف في هذا الموضوع الكتب الآتية، «مذهب الألوهية
Theism » (1877، الطبعة الثالثة عشرة 1929) و«النظريات المضادة لمذهب الألوهية
Anti-Theistic Theories » (1879، الطبعة التاسعة 1929)، و«اللاأدرية
Agnosticism » (1903)، وهي كتب لقيت إقبالا شديدا، ودافعت عن قضية الإيمان الديني ضد عدم الإيمان بأسلحة الثقافة الواسعة العميقة. ولما كان فلنت يدرك أن موقف الأوساط الدينية من العلم الحديث كان حتى ذلك الحين يقترب من الرفض التام، فقد رأى أن رسالته، بوصفه مدافعا عن الإيمان، هي على العكس من ذلك رسالة توفيق بينهما، وتخفيف التوتر بين اللاهوت المحافظ من جهة وبين الفلسفة الطبقية
naturalistic
والبحث العلمي للطبيعة من جهة أخرى، ولقد حاول أن يجنب الإيمان المسيحي ذلك الخطر الذي تنطوي عليه تعاليم دارون وسبنسر وهكسلي وأتباعهم، وذلك بالتخفيف من حدة حججهم المضادة لفكرة الألوهية، وبتكييف نتائج أبحاثهم بأوسع قدر ممكن على النحو الكفيل بإثبات نظرته المؤمنة بالألوهية إلى العالم. ولكي يبرهن على وجود الله، التجأ إلى الحجج الأنتولوجية والكسمولوجية والأخلاقية القديمة، التي كانت في ذلك الحين قد فقدت قيمتها لدى الجميع، وأشار بوجه خاص إلى ضرورة وجود أساس عقلي للدين، الذي هو في رأيه أمر يتعلق بالعقل، أكثر مما يتعلق بالشعور أو الإرادة. بل إنه مما يميز وجهة نظر فلنت التي كانت عقلية في أساسها، أنه كان يتجاهل عنصر الإيمان في الدين، ويبالغ في تأكيد الوجه العقلي فيه، كما تظهر نفس هذه الروح بوضوح في أمور أخرى، وكان من نتيجتها أنها قللت من فعالية كتاباته في الدفاع عن العقيدة المسيحية بدلا من أن تزيدها.
كذلك عرض فلنت في هذا الميدان برنامجا يتصف بنفس الدقة المميزة له، غير أن إنجازه كان يتجاوز نطاق قدرته كثيرا؛ إذ لم يكن يرمي إلى أقل من عرض مذهب تفصيلي في اللاهوت الطبيعي بكل أطرافه، وكان المفروض أن يعالج هذا المذهب أربع مشكلات بوجه خاص: (1) إيضاح الأدلة التي لدينا للإيمان بوجود الله، (2) تفنيد النظريات المضادة للألوهية، من إلحاد ومادية ووضعية وتشاؤمية وشمول للألوهية ولاأدرية، (3) تحديد معالم وجود الله كما يتكشف في الطبيعة والتاريخ، (4) تعقب أصل فكرة الله وتطورها في تاريخ التأمل النظري الألوهي. ولكن لم يتح له أن ينفذ هذا البرنامج إلا جزئيا؛ إذ إنه لم يضطلع على الوجه الأكمل، كما رأينا، إلا بالمهمة الثانية. والخلاصة أن فلنت كان باحثا مدققا من الطراز الأول، مهتما بنواح أخرى أهمها التاريخ واللاهوت (لقد سمي بأعلم أهل عصره في اسكتلندا). وكانت لديه قدرة كبيرة على التعميم، وذهن موضوعي نافد أصيل، غير أن مكانته، بوصفه مفكرا مستقلا له موقفه الخاص، كانت أقل من ذلك بكثير. أما من حيث هو مؤرخ لفلسفة التاريخ، ومناضل ضد المذهب الطبيعي في الربع الأخير من القرن الماضي، فما زال اسمه يذكر حتى اليوم باحترام، وكان آخر مؤلفاته: الفلسفة بوصفها علم العلوم وتاريخ تصنيفات العلوم
(1904).
الباب الثاني
المدارس الفكرية المتأخرة
نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين
الفصل الأول
الحركة المثالية الجديدة
(1) القسم الأول: أصلها واتجاهها العام
نعني بالحركة المثالية الجديدة تغلغل المثالية الفلسفية الألمانية في الفكر الإنجليزي. ولم يصبح هذا التغلغل ملحوظا إلا في العقدين السابع والثامن من القرن الماضي، أي بعد جيل كامل من وفاة هيجل. وإذا كانت الصفة المميزة للفلسفة الإنجليزية حتى بداية هذه الحركة هي التزامها بدقة حدود تراثها القومي المنعزل نسبيا، ونفورها من أي عنصر خارجي يقتحم أرضها عنوة، بقدر نفورها من الانقلابات الداخلية، فإن أهمية الحركة الحديثة إنما تنحصر في أنها أحدثت تغيرا تاما، واستحدثت وثبتت أشكالا ومضمونات فكرية جديدة كل الجدة، وأضافت إلى حصيلة الفكر الإنجليزي ذخيرة من الأفكار الأجنبية التي لم تكن تعرف أبدا من قبل. وعلى ذلك فإن المثالية الجديدة، التي كان دخولها إلى إنجلترا يمثل تحولا هاما، لم تكن فقط توسيعا وإثراء وتعميقا هائلا للمحتوى المذهبي للتفكير الإنجليزي، بل كانت تمثل أيضا، وقبل كل شيء، تراجعا تاما عن الأساليب القديمة، وتحويلا لدفة الفلسفة في اتجاه جديد كل الجدة.
على أن هذا الرأي، القائل إن تغلغل المثالية الألمانية في إنجلترا قد أدى إلى الخروج على التراث الفلسفي القومي، يتناقض مع رأي يظهر بين الحين والحين (ولا سيما من جانب الإنجليز)، يقول إن المسألة كلها لا تعدو أن تكون إيقاظا لقوى كانت غارقة في سبات عميق، ولكنها كانت موجودة في الفكر الإنجليزي منذ البداية، وقد ورد أروع تعبير عن هذا الرأي الأخير في كتاب ألفه ج. ه. مويرهيد
J. H. Muirhead
1 (وهو كتاب له قيمة عظيمة، وفائدة توجيهية كبيرة بالنسبة إلى بحثنا هذا)، وحاول فيه أن يكشف عن وجود تيار متصل من التفكير المثالي يمر عبر تاريخ الفكر الفلسفي الإنجليزي بأسره، وأن يثبت أن الحركة المثالية لم تكن إلا امتدادا موسعا عميقا لهذا التيار. على أن الوقائع التاريخية لا تؤيد هذا الرأي، فأيا ما كانت المذاهب والأفكار المثالية الرئيسية التي ظهرت في القرون السابقة، فإن الحركة التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم تكن مرتبطة بهذه المذاهب والأفكار لا على نحو مباشر ولا على نحو غير مباشر؛ ذلك لأن هذه الحركة كانت صريحة الارتباط بالفلسفة الألمانية الممتدة من كانت إلى هيجل، ولم تعد أبدا إلى أي تراث إنجليزي سابق. ومما يثبت استحالة كونها قد نبعت من التراث القومي مباشرة، عدم وجود أي تيار مثالي متصل في تطور الفلسفة الإنجليزية، وذلك على الأقل في القرن الذي سبق هذه الحركة مباشرة، أي منذ وفاة باركلي (سنة 1753) حتى ظهور كتاب ستيرلنج عن هيجل (1865). فهذه الفترة على التخصيص هي أبعد الفترات عن أن يقال بوجود اتجاه مثالي إنجليزي فيها، كما لا يمكن الزعم بأن حركة لها من القوة ما لتلك التي نحن بصددها، كان يمكن أن تشتعل جذوتها، وتصبح لها مثل هذه القوة الهائلة بفضل تأثير محاولات قليلة هزيلة متفرقة.
وإذن فعلينا أن نظل على اعتقادنا بأن النهضة الفلسفية في إنجلترا بعد أواسط القرن الماضي كانت ثمرة متأخرة للمثالية الألمانية، وأنها تغذت من مصادر ألمانية، وتغلغلت فيها الروح الألمانية، أو أنها - إذا ما عبرنا عن الأمر بلغة عملية - كانت في أساسها سلعة ألمانية.
وليس المقصود من هذا الإقرار الواقع، لا الحكم، مدحا أو قدحا. فليس هذا موضع الكلام عن التغيرات التي طرأت على السلعة الأجنبية عندما استقرت في الأرض الإنجليزية، ولا عن مدى ارتباطها بالاتجاهات الفكرية القومية، أو بالصور الجديدة التي نمت منها، بل إن من واجبنا بالفعل أن نؤكد أن تغلغل التيار الفكري الألماني لم يحدث بطريقة خارجية محضة، أي عن طريق اهتمامات مدرسية، أو بالقسر والإرغام، وإنما حدث ذلك عندما أصبح ضرورة باطنة؛ ذلك لأنه ليس ثمة شك في أن الظروف المؤدية إلى قبول البذرة الجديدة كانت، في الوقت ذاته، مواتية إلى حد بعيد، وأن العوامل الحاسمة في هذا القبول كانت متعددة ومتنوعة.
فمن الملاحظ أولا، أن الشعر والأدب بوجه عام قد هيأ الجو الذهني لتلقي نظرة مثالية إلى العالم. وكان من أهم العوامل التي ساعدت على البدء في الحركة الفلسفية على التخصيص، ذلك العمل التمهيدي الذي قام به، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، شعراء مشهورون وكتاب آخرون كان موقعهم خارج الأوساط الفلسفية المحترفة، وكان معظمهم على خلاف مع هذه الأوساط. فقد كان شعر الرومانتيكيين هو السبب في ظهور تلك النظرة الجديدة إلى العالم، والموقف الجديد من الحياة، الذي حل محل صور التفكير العتيقة الموروثة من عصر التنوير. وتظهر أولى بوادر المضمون الروحي الجديد، الذي شق طريقه بعد ذلك بوقت طويل إلى الفلسفة بدورها، في أشعار شيلي وكيتس، وورد سورث وكولردج. غير أن صمويل تيلر كولردج (1772-1834) هو الذي كانت له أهمية خاصة من بين هؤلاء جميعا، فهو لم يكن شاعرا ملهما فحسب، بل كانت له أيضا مواهب فلسفية أصيلة، وكان يسعى دائما إلى التعبير عن نظرته الشعرية إلى العالم تعبيرا نظريا إلى جانب التعبير الفني، وفي خلال ذلك مر ذهنه، الذي كان يتصف بقدر هائل من التفتح والمرونة، بتغيرات عدة، فتعرض مرة تلو المرة لتأثير هارتلي وباركلي واسبينوزا وأفلاطون وأفلوطين وكانت وشلنج وغيرهم. وبعد اضطرابات وسورات متعددة، وصل أخيرا إلى نوع من الميتافيزيقا الروحانية التي يمكن التعبير عنها بالحكم الرائعة والأقوال الموجزة أفضل مما يعبر عنها بالطريقة المنهجية الدقيقة. وقد وقف في هذه الآراء موقف المعارضة الشديدة للآراء الفلسفية السائدة في عصره وبلده، ولا سيما مذهب المنفعة التجريبي عند بنتام، الذي كان هو المذهب العصري المنتشر عندئذ. ومن الملاحظ أن الأوساط الفلسفية المتخصصة ذاتها كانت تعترف أحيانا بأن كولردج قد أدخل إلى الفلسفة الإنجليزية روحا جديدة لم تشترك في شيء مع الآراء الراسخة السائدة، كما جاء مثلا في المقالات التي كتبها جون ستيوارت مل في عامي 1838 و1840 عن بنتام وكولردج، والتي أعيد طبعها، «أبحاث ومناقشات»، المجلد الأول، ورغم ذلك لم يظهر أي أثر لتدخل هذه الروح الجديدة في الأوساط الأكاديمية خلال حياة الشاعر، بل ولا بعد وفاته بجيل كامل، وهذا أوضح دليل على أن الأوان لم يكن قد آن لحدوث تجديد مثالي شامل في الفكر الإنجليزي.
ولقد كانت لفلسفة كولردج أهمية، بالنسبة إلى بحثنا هذا، من زاوية أخرى، فمع هذه الفلسفة تدفق إلى إنجلترا لأول مرة مجرى واسع من المثالية الألمانية. ومن الصعب أن يقرر المرء إن كانت الأفكار الرئيسية في نظرته إلى العالم قد تشكلت في ذهنه قبل تعرفه على المذاهب الألمانية،
2
أو أن أول ظهور لها كان على إثر اطلاعه على هذه المذاهب، غير أن كل ما يهم تاريخ الفكر هو أنه قد حدث اتصال بينه وبينها، وأنه كان اتصالا وثيقا إلى حد بعيد، وبفضله دخلت الفلسفة الألمانية لأول مرة في الإطار الذهني للإنجليز.
3
ونحن نعلم أن كولردج قد درس مذهب كانت بالتفصيل، وأن هذه الدراسة تركت آثارا واضحة في تفكيره الخاص. غير أن تأثير شلنج كان أعمق؛ إذ إن تعاليمه في الكونيات والجماليات قد اجتذبته وهزته من أعماقه، بل وكادت تستحوذ عليه تماما في بعض الأحيان، وقد أثبتت الأبحاث الأخيرة أنه درس كتابات متعددة لفشته وهيجل أيضا، ودون بعض التعليقات الهامشية عليها، رغم أن تأثير هذين المفكرين أقل وضوحا في مؤلفاته المنشورة (انظر كتاب «كولردج فيلسوفا» 1931، ص271، للهامش)، كذلك كان لكل من لسنج وهردر وجوته وشيلر تأثير حاسم في تفكيره، وعلى ذلك فإن كولردج يمثل غزوا مبكرا وفريدا من نوعه للحياة الروحية الإنجليزية بواسطة الفكر المثالي الألماني، كما يمثل رد فعل عنيف على الموقف الذهني للقرن الثامن عشر، وعلى امتداد هذا الموقف في العشرات الأولى من القرن التاسع عشر في الفلسفة الإنجليزية القومية. وقد تمكن التيار التجريبي لمذهب المنفعة، الذي وجد في جون ستيوارت مل بطلا جديدا له، من السيطرة على الميدان إلى ما بعد منتصف القرن الماضي، فكان من نتيجة ذلك أن ظلت أنظار كولردج العميقة مبعثرة، عاجزة عن أن تجد في أي مكان تربة صالحة تضرب بجذورها فيها، ولم تثمر البذرة التي بذرها إلا لدى تلميذ واحد، كان هو الجراح «جوزيف هنري جرين
Joseph Henry Green » (1791-1863)، الصديق الحميم للشاعر طوال سنوات عديدة، ثم منفذ وصيته الأدبية فيما بعد، ولقد كان من مهمته - بهذا الوصف الأخير - أن يفحص مخلفات كولردج الفلسفية ويضعها في صورة منهجية، وهي مهمة كرس لها، في إنكار واضح للذات، الجزء الأكبر من سنواته الأخيرة، دون أن يتمكن من إنجازها. على أنه قد شيد نوعا من المذهب الفلسفي من كتابات الشاعر ومذكراته وملاحظاته الهامشية ومحادثاته، ونشرت هذه بعد وفاته بعنوان «الفلسفة الروحية»، المبنية على تعاليم المرحوم س. ت. كولردج
Spiritual Phil. founded on the teaching of the Late S. T. Coleridge . (1865، في مجلدين). ورغم التغير الذي طرأ منذ وفاة كولردج، فقد ظهر هذا الكتاب وظل دون أن ينتبه إليه أحد؛ إذ طغى عليه كتاب سترلنج عن هيجل، الذي ظهر في العام نفسه، وبعد ذلك اتجه القراء مباشرة إلى المصادر الألمانية دون أن يعبئوا بكولردج وتلميذه، ولم تبق أفكار كولردج حية إلا لدى قلة منهم، إلى جانب جرين، مثل ف. د. موريس
F. D. Maurice
وس. ه. هدجسن
S. H. Hodgson ، وقد أهدى الأخير كتابه «فلسفة التفكير
» (1878) إلى كولردج بوصفه «أبا فلسفيا» للمؤلف، ولم تبحث فلسفة ذلك الشاعر الرومانتيكي العظيم بحثا تاريخيا إلا في وقت قريب، بفضل كتابي، أليس د. سنيدر
Alice D. Snyder «آراء كولردج في المنطق والتعليم
Coleridge on Logic & Learning »، 1929 ومويرهيد
J. H. Muirhead «كولردج فيلسوفا
C. as
» 1930.
ومن معاصري كولردج ومعارفه في ميدان الأدب، توماس دي كوينسي
Thomas de Quincey (1785-1859) الذي اجتذبته الفلسفة الألمانية، وقد درس بحماسة كتابات كانت وفشته وشلنج، وحاول أن يثير الاهتمام بأفكارهم وأن يقربها إلى أذهان أكبر عدد من الناس، ولكنه، رغم ما كان يبديه من آن لآخر من استبصار عميق إلى حد يدعو إلى الدهشة، كان يفتقر إلى الفهم الذي لا بد منه لمهمة كهذه، وزاد الأمور غموضا أكثر مما زادها وضوحا. ولا يمكن أن يقال إنه كان عاملا هاما في فتح آفاق الفكر الألماني، ومع ذلك فقد كان واحدا من الإنجليز القلائل الذين لهم أية معرفة بهذا الفكر في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي.
4
على أن أحدا لم يدع إلى رسالة المثالية بمثل العمق والتأثير الذي دعا به إليها توماس كارليل (1795-1881)، فإليه، أكثر من أي شخص غيره، يرجع الفضل في إحداث التغيير الذهني الكامل الذي وقع في أيامه، وتهيئة الأرض للبذرة الجديدة. ورغم أن مواهب كارليل ومعلوماته الفلسفية كانت أقل من مثيلاتها عند كولردج، فقد كان أقوى منه اقتناعا، وأشد إصرارا وجرأة، وهكذا استوعب القيم الروحية للأدب والفكر الألماني، ثم عرضهما ثانية بكل ما كان يتصف به أسلوبه التنبئي من تأثير بالغ. ولقد كان إيمانه الكامل برسالته هو الذي أضفى على أقواله قوتها الإقناعية، وجعل لكلماته أصداءها القوية، وكان هو أول زعماء رد الفعل الحاسم على تراث القرن الثامن عشر، وعلى كل بقاياه في القرن التاسع عشر - أي على عصر التنوير - الذي كان رائده العقلي في نظره هو هيوم، وعلى الاكتفاء المتكاسل بالشكل والإنكار، وعلى الموقف الطبيعي وأخلاق المنفعة، وعلى تجاهل الروح النقدية وسيطرة العقل الغاشمة. ووسط كل أعراض الإفلاس الروحي هذه، التي كانت متفشية في بلاده، حاول أن يغرس القيم الجديدة التي ولدتها الفلسفة الكلاسيكية والأدب الكلاسيكي عند الألمان. وعلى هذا النحو أصبح جسرا حيا بين الثقافتين الألمانية والإنجليزية، وسفيرا أو ممثلا للروح الألمانية في بلاده، وأدى هذه المهمة على نحو أفضل مما أداها عليه كولردج في أي وقت. ولكن، رغم هذا كله، لم يكن لديه أي اهتمام فلسفي على التخصيص، ولم يكن للفلسفة بالنسبة إليه أي معنى إذا ما فهمت على أنها تعمق في التحصيل أو تأمل خالص. ولقد اعتنق من المثالية وجهها العملي والديني أكثر مما اعتنق وجهها النظري، وآمن بها بوصفها قوة حية وموقفا ذهنيا أكثر مما آمن بها بوصفها نظرية أو فرعا للمعرفة. وبدلا من أن يتخذ من الفلسفة موضوعا للتفكير، اكتفى بأن يحياها كيما يدعو إلى قيمتها الروحية ويطبقها على الحياة، منظورا إليها من الوجهة الدينامية، ويدمجها فيها. وبمثل هذا الموقف تعلم من كانت وفشته أكثر كثيرا مما تعلم من شلنج وهيجل، وهذا ينطبق بوجه أخص على فشته، الذي كان يدين له بالجزء الأكبر من الوجه الفلسفي لتفكيره، ولم يكن يمل أبدا من إحالة معاصريه إلى هردر ونوفالس وجان بول وشيلر، وإلى جوته العظيم، بوصفهم دعاة وخالقين لقيم عملية جديدة ولكنها أزلية.
وفي أمريكا كانت لإمرسون
Emerson
رسالة شبيهة برسالة كارليل، وإن لم يكن تأثره بالألمان السابقين عليه قد بلغ مثل هذا العمق. ولما كانت كتاباته قد أثرت في إنجلترا بدورها تأثيرا بالغا، فقد لزم التنويه بأهميته.
من هذه الاتجاهات، لا من أوساط فلسفية خالصة تلقت الحركة الجديدة أكبر قوة دافعة لها. صحيح أن البعض، في هذه الأوساط، كانوا يستبقون الحركة الجديدة من آن لآخر، غير أن معظم هؤلاء لم يتجاوزوا نطاق الإلمام بتعاليم الفلاسفة الألمان والاهتمام بهم، ونادرا ما أظهروا فهما حقيقيا لهم، وكلهم على السواء كانوا منعزلين بدرجات متفاوتة، فلم يجتمعوا أبدا بالقدر الذي يكفي لتكوين حركة واحدة، وفضلا عن ذلك فلم يتوافر لأحد منهم فهم كامل للمثالية في مجموعها. وهكذا فإن دورهم، في التعجيل بظهور الحركة المثالية، كان إما ضئيلا جدا وإما متعمدا. ومع ذلك فمن واجبنا أن ننوه بعمل السير وليام هاملتن ومدرسته، التي سيطرت على الميدان الفلسفي، ولا سيما في اسكتلندا، في أواسط القرن الماضي؛ فقد كان هاملتن أول فيلسوف محترف في إنجلترا اكتسب معرفة عميقة واسعة بالمؤلفات الفلسفية الألمانية وانتفع من هذه المعرفة، وكان يفوق كل معاصريه في فهمه إلى القراءة وعمق معلوماته، ومن المألوف أن يصادف المرء في كتاباته أسماء كبار المفكرين الألمان، بل إن من الممكن وصف مذهبه الخاص بأنه محاولة للتوفيق بين الفكر الاسكتلندي وتفكير كانت أو لإيجاد مركب منهما، أو إذا شئنا تعبيرا أدق، لتطعيم فلسفة الموقف الطبيعي عند ريد ببذرة كانتية. غير أن أهم ما أخذه هاملتن عن كانت هو النزعة الظاهرية اللاأدرية
Agnostic Phenomenalism
في نظرية المعرفة النقدية، والفكرة القائلة إن المعرفة البشرية تقتصر على المظاهر وعلى ما هو متناه مشروط نسبي . ولقد أدى اقتصاره على إبراز الجزء النظري من مذهب كانت، بل والوجه السلبي منه فحسب؛ أدى ذلك إلى جعل هذا الجزء يبدو وكأنه كل ما في الفلسفة الترنسندنتالية أو على الأقل أهم ما فيها، فكان من نتيجة هذه الصورة الجزئية المضللة إلى أبعد حد أن حيل بينه، وكذلك بين مواطنيه، وبين الوصول إلى نظرة شاملة إلى تفكير كانت، وفهم أصيل له، كما قطع الطريق على المذاهب التالية لكانت. صحيح أنه كانت لديه معرفة وثيقة بهذه المذاهب، ولكنه كان عاجزا تماما عن اكتساب أي شيء منها، وبدد جهوده في خلاف عقيم زائف مع «فلسفة اللامشروط (المطلق)». فقد أفتى بعدم مشروعية المذاهب الميتافيزيقية الكبرى التي ظهرت نتيجة لنقد العقل عند كانت، وأصبح هذا الحكم، بفضل سلطته العظيمة، هو الرأي السائد وقتا طويلا. ومن هنا كان من أولى المهام التي تعين على سترلنج القيام بها عند وضع أسس بنائه الجديد، إعلان احتجاجه بشدة على تشويهات هاملتن ونظراته السطحية، وإنكار أصالة نظراته إلى الفلسفة الألمانية؛ ذلك لأنه كان واثقا من أن عدم إنصاف هاملتن لهذه الفلسفة قد عاق تقدم الفكر الإنجليزي جيلا كاملا. ومع ذلك فلا مفر لنا من أن نعترف لهاملتن بفضل إنقاذ الفلسفة الإنجليزية، بعلمه الغزير، من الطريق المسدود الذي كانت قد انتهت إليه؛ إذ أتاح دخول مصادر جديدة وجلب إليها روافد من الفكر الأجنبي المعاصر له، فلم يكن لأي فيلسوف آخر، قبل سترلنج، مثلما كان لهاملتن من الأثر في القضاء على عزلة الفلسفة في بلاده.
وبعد وفاة هاملتن، أصبح جون ستيوارت مل هو أبرز الشخصيات في ميدان الفلسفة في إنجلترا، بل أصبح هو الممثل الوحيد للفلسفة في إنجلترا، وأكثر المفكرين قراء، في الفترة التي تلت منتصف القرن الماضي مباشرة، وفيه التقت جميع تيارات الفكر الفلسفي التي كانت حية عندئذ. ولقد بلغت سيطرته من الاكتمال حدا أصبح من المستحيل معه أن يجد أي شخص يتحدث ضده آذانا صاغية. ونستطيع أن نذكر أولا، ضمن أولئك الذين غامروا بالسياحة ضد التيار التجريبي، اسم جون جروت
J. Grote (1813-1866)، الذي كان أستاذا للفلسفة الأخلاقية في كيمبردج، فقد دار تفكيره، الذي كان منعزلا وشبه مستقل، في إطار المثالية، ولكنها لم تكن مثالية هاملتن ، بما فيها من نسبية لا أدرية، فقد رفض تعاليم هذا الأخير صراحة، وحبذ بدلا منها مذهبا تكون المعرفة فيه هي «تعاطف العقل مع العقل، من خلال الوجود المشروط الجزئي»،
5
فمن الممكن بلوغ الواقع الحقيقي والشيء في ذاته في المعرفة، وذلك راجع إلى أن طبيعته هي نفس طبيعة الذهن الذي يعرفه. وقد جمع جروت، إلى هذه الفكرة، نقدا عميقا للمذهب الظاهري أو الوضعي، وإن يكن قد اقتصر على توجيه نقده إلى ادعاء هذا المذهب أنه هو الكلمة الأخيرة في الفلسفة، أو هو الفلسفة كلها. فمعرفة الظواهر هي شكل مفيد من أشكال المعرفة، وهي تمثل نوعا حقيقيا من التجريد في مجالها الخاص؛ مجال العلوم الطبيعية، ولكنها مع ذلك لا تعدو أن تكون تجريدا مستمدا من سياق أوسع منها كثيرا؛ فهي إذن معرفة مبدئية تمهد للمعرفة الفلسفية بمعناها الدقيق. ومن هنا كان من الواجب تكملة وجهة النظر الظاهرية وإتمامها بوجهة النظر المثالية، بل إن تفكيرنا لا يكون فلسفيا حقيقة إلا إذا فكرنا بالطريقة المثالية؛ إذ إن جروت لم يكن يعني بالفلسفة الاهتمام بموضوع المعرفة، وإنما الاهتمام بواقعة المعرفة أو عملية المعرفة ذاتها. ومن ذلك فإنه لم يصل إلى أي إيضاح كامل لموقفه، وكل ما فعله هو الاعتراف بعدم كفاية النظريات السائدة في أيامه، وتلمس طرق جديدة للتفكير على غير هدى. ولقد كان في ذهنه نوع من المثالية الموضوعية أو الميتافيزيقية، ولكن وجوده في بيئة لها اتجاه مختلف كل الاختلاف، جعله أكثر انعزالا من أن يتمكن من تشييد مذهب له قوامه الصحيح. ومن هنا فإنه لم يكد يلقى أية استجابة مباشرة، ولم تجد الأفكار الخصبة القليلة التي غرس بذرتها تربة مناسبة هنا أو هناك إلا بعد مضي وقت طويل. وقد ظهر الكتاب الفلسفي الوحيد الذي نشره هو ذاته، وهو «بحث استطلاعي فلسفي، المجلد الأول»، سنة (1865) في نفس السنة التي ظهر فيها كتاب سترلنج عن هيجل. أما بقية مؤلفاته
6
فقد نشرت بعد وفاته ولم تلق إلا اهتماما ضئيلا.
أما جيمس فريير
James F. Ferrier (1808-1864، الذي كان أستاذا بكلية سانت أندروز)، فكان مثل جروت، من القلائل الذين رفضوا، في أواسط القرن التاسع عشر، الخضوع لسلطة هاملتن (الذي كان يعجب كثيرا بمواهبه العقلية وبشخصيته القوية) أو سلطة مل، وإنما سار في طريقه الخاص، وقال بمذهب مثالي كانت معالمه أوضح كثيرا من تلك الخيوط المفككة التي قال بها جروت، واحتوى مذهبه على عناصر كثيرة من الحركة التي سرعان ما ظهرت بعد ذلك. وقد وحد في مؤلفه الرئيسي، «مبادئ الميتافيزيقا
Institutes of Metaphysic »، (1854)، بين الفلسفة وبين العلم النظري (
speculative )، وكشف عن خصائص هذا العلم بطريقة منهجية، في صورة نظريات تستنبط كل منها من السابقة عليها، على نحو يقرب كثيرا مما فعله اسيبنوزا في كتاب «الأخلاق». وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء: (أ) الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة، (ب) الأجنيولوجيا
Agnoiology
أو نظرية الجهل، (ج) الأنتولوجيا أو نظرية الوجود. وقد صاغ في قضيته أو نظريته الأولى، التي يبنى عليها بالتالي مذهبه بأكمله، القانون الأساسي لكل معرفة، وهو: «مع أي شيء يعلمه أي عقل، ينبغي أن يعرف هذا العقل ذاته، بوصف هذه المعرفة أساسا أو شرطا لعلمه» (الطبعة الثالثة، ص79)، وهنا نرى، منذ البداية، اتفاقا واضحا مع كانت. والحق أن فريير هو على الأرجح أول مفكر إنجليزي تفهم الفلسفة الألمانية وتعاطف معها، وانتفع منها على نحو إيجابي لصالح مذهبه الخاص. ولقد أحس بتأثير هذه الفلسفة في زيارة مبكرة قام بها لألمانيا، وظل فيما بعد على صلة وثيقة بها، وربما كان مقالاه عن شلنج وهيجل في «القاموس الإمبراطوري للسير العالمية
Imperial Dict. of Universal Biography » (1857-1863)
7
أولى الكتابات التي تجلى فيها فهم حقيقي لهذين المفكرين باللغة الإنجليزية. وكان لموقفه من هيجل طرافة خاصة، فقد كان دائما ينفي الاعتقاد بأنه كان هيجليا، وأيا ما كان الأمر، فلدينا اعترافه الخاص بأنه كان يكافح بقوة، ولكن دون نجاح في معظم الأحيان، لكي يفهم هيجل، فهيجل كان بالنسبة إليه، كما كان بالنسبة إلى سترلنج، - السر الأعظم، المحاط بهالة من الهيبة السحرية، وهو شخصية ليست لديه فكرة عقلية عن عظمته، وإنما مجرد إحساس وشعور غامض بها. وإنا لنصادف لدى فريير، كما نصادف لدى سترلنج (مبادئ الميتافيزيقا، ص91 وما يليها) تعبيرات تلمح إلى أن العملاق الذي لم يقهر سينقض كالقدر على كل ما هو مقدس في تراث الفلسفة الإنجليزية.
ويرتكز مذهب فريير - وهو مذهب مطلق يقوم على أساس نظري بحت - على نظرية مثالية في المعرفة، وعلى نظرية أصيلة تماما في الجهل. وكان هذا المذهب تجريديا نظريا بناء إلى درجة رفيعة، في وقت انحدر فيه التأمل النظري عند الإنجليز إلى أدنى درجاته. ويظهر التأثير الألماني بوضوح في هذا الانطلاق للقوى التأملية، وكذلك في تركيب المذهب عامة، وفي اتجاهاته الفكرية الخاصة، غير أن فريير قد نهل أيضا من منبع الفلسفة القومية، فعاد إلى باركلي واستمد من فلسفته عناصر هامة أدمجها في مذهبه الخاص،
8
ولما كان باركلي في ذلك الحين يكاد يكون منسيا في إنجلترا، فعلينا أن ننسب إلى فريير فضلا آخر هو فضل إعادة اكتشافه من جديد،
9
وإعطائه القوة الدافعة الأولى لبعث مذهب باركلي، الذي تحقق على يد فريزر، وكولينز سيمون
Collyns Simon ، وراشدال
Rashdall
وغيرهم. وأخيرا ينبغي أن نلاحظ أنه ربما كان أول اسكتلندي يثور على تراث المدرسة الاسكتلندية.
10
فالموقف الطبيعي في رأيه لا يمكن أن يكون معيار الحقيقة الفلسفية؛ لأن التفكير اليومي، الذي هو أبعد ما يكون عن التفكير العقلي، مضطر إلى الخضوع تماما لقرارات هذا التفكير العقلي، وهنا أيضا كان فريير مبشرا ومتنبئا بتطورات ستحدث فيما بعد. غير أن اهتمامنا الرئيسي ينصب هنا على الحديث عنه بوصفه واحدا من رواد الحركة المثالية، التي ساهمت كتاباته، بما أحرزته من شهرة غير قليلة في وقتها، في إعطائها قوة دافعة ومضمونا.
وآخر من سنذكرهم من أولئك الذين أحسوا بوضوح بتأثير الفلسفة الألمانية قبل بداية الحركة بمعناها الصحيح، هو اللاهوتي فريدريك دنيسون موريس
F. Denison Maurice (1805-1872). ولقد كان موريس أستاذا للتاريخ والأدب الإنجليزي (1840) وكذلك للاهوت (1846) في «كنجز كوليدج» بلندن، حتى عام 1853 حين أعفي من منصبه بسبب آرائه المفرطة في تحررها، ومنذ عام 1866 حتى وفاته شغل كرسي الفلسفة الأخلاقية بجامعة كيمبردج. ولقد تشبع بعمق بروح كولردج؛ إذ كان واحدا من تلامذته القلائل، ولكنه لم يفلح أبدا في التعمق في مجاهل وغوامض التصوف عند هذا الشاعر الفيلسوف، والارتقاء به إلى مستوى التفكير الواضح. وفضلا عن ذلك فقد رجع، بفضل كولردج، إلى الدراسة المباشرة للفلاسفة واللاهوتيين الألمان، واستمد منهم أفكارا ملهمة عديدة، غير أن نشاطه الرئيسي كان خارج نطاق الفلسفة التي لم يكرس لها إلا اهتماما عارضا.
11
وهكذا فإن إحياء المثالية في إنجلترا قد مهدت له تيارات أدبية، وبشرت به قلة من الفلاسفة المنعزلين، غير أن هناك عاملين آخرين ساعدا على إحداث هذا الإحياء والتعجيل به، أولهما اهتمام الأوساط الدينية واللاهوتية، وثانيهما العناية بالدراسات الكلاسيكية في الجامعات القديمة.
ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم يكن التوتر التقليدي بين الفلسفة والدين، أو بين المعرفة والإيمان، قد تحول إلى صراع علني، وإنما كان أنصار كل من المعسكرين يتسامحون مع أنصار الآخر، ويقفون منه موقف الحياد العطوف، وذلك باستثناء اصطدامات قليلة كانت تقع هنا وهناك. فالفلسفة كانت على وجه العموم أقل اكتراثا بالدين من أن تجعل منه مشكلة حقيقية، وإنما اهتمت بمسائل أخرى، وتركت اللاهوت وشأنه. غير أن تحولا أساسيا حاسما قد طرأ على هذا الوضع بعد منتصف القرن الماضي، فقد أدى ظهور الداروينية إلى اتخاذ الفلسفة موقفا عدائيا من الدين، ونما المذهب الطبيعي والمادي بقوة بين أتباع دارون، وكان تغلغله في أذهان العامة أعمق من تغلغله في أذهان المثقفين، فكان لذلك أثره الهدام؛ فقد تعرض الدين - نتيجة لذلك - لخطر داهم. وهكذا دخل اللاهوت المعركة، بوصفه الجهة المختصة بالدفاع عن الدين، غير أن الأسلحة اللاهوتية وحدها لم تكن كافية للمضي في المعركة ضد المادية، وإنما كان لا بد من صرع العدو بسلاحه الخاص، أي بالفلسفة. على أن الفلسفة القومية كانت عاجزة عن ذلك تماما، فلم يكن من المستطاع استخلاص أي سلاح جديد منها، بل إن جانبا منها قد هرب رافعا أعلامه البيضاء إلى معسكر العدو. وهكذا أدت خطورة الموقف إلى الإصغاء إلى تلك الأصوات الفلسفية التي كانت تتحدث منذ وقت غير قليل من ألمانيا، وأدركت الدوائر الدينية المحافظة، بوجه خاص، الأهمية العظمى لعقد تحالف مع المثالية الفلسفية في الصراع المقبل. وهكذا لم تكن الاعتبارات الفلسفية الخالصة هي التي أدت إلى فتح الباب للغز الألماني، وذلك في المراحل الأولى على الأخص، وإنما أدت إلى الرغبة في دعم اللاهوت المحافظ وتجديد قوة الإيمان المهدد، ضد هجوم اللاأدرية والطبيعية وعدم الاكتراث الديني والإنكار الصريح. وكان أول وأهم المذاهب التي استغلت هو الميتافيزيقا البناءة (أو التركيبية) عند هيجل لا الكانتية؛ إذ كانت هناك شكوك تحوم حول كانت ذاته، وتتهمه باللاأدرية، وذلك نتيجة للتفسير المغرض الذي فرضته عليه مدرسة هاملتن. ويظهر هذا الاتجاه بكل وضوح عند رواد الحركة، أي عند سترلنج وجرين وولاس والأخوين «ليرد»؛ فالمثالية الفلسفية كانت عند هؤلاء جميعا، وعند الكثيرين غيرهم، تعني تأييد الدين والدفاع عنه، مهما كانت لها من دلالة أخرى لديهم. ولقد اعترف سترلنج بذلك، كما سنرى فيما بعد، بصراحة محمودة، وحتى في الحالات التي لم يعترف فيها بهذا الباعث بمثل هذه الصراحة، كان رغم ذلك موجودا وله أثره. وليس من شأننا هنا أن نتحدث عن التفسيرات الباطلة المجحفة التي نشأت عن هذا الباعث، وحسبنا أن نؤكد أن الحركة كانت، في مراحلها الأولى، تدين لهذا الباعث بأكبر قوة دافعة لهذا. غير أن هذا الباعث قد ضعف بنمو الحركة، وبدأت سطوته تخف حتى منذ أيام «نتلشيب
Nettleship » وكاد أن يختفي تماما عند أنصار المذهب المتأخرين (مثل برادلي وبوزانكيت) أو يتحول إلى ضده (كما هي الحال عند ماكتجارت). وهكذا فإن المتدينين المحافظين، الذين هللوا بحماسة للحركة في مرحلتها الأولى، أصبحوا ينظرون إلى مراحلها المتأخرة بعين القلق وخيبة الأمل.
أما العامل الثاني فكان ينتمي إلى مجال مختلف كل الاختلاف، فقد كانت جامعتا أكسفورد وكيمبردج تعتزان دائما بالروح الإنسانية واللغات الكلاسيكية (القديمة) وكانتا بهذا الوصف حاميتي التراث الفلسفي لليونان؛ ذلك لأن الفلسفة اليونانية، ولا سيما فلسفة أفلاطون وأرسطو ، كانت منذ وقت طويل من أهم الوسائل التعليمية لنقل الثقافة الكلاسيكية، وعن طريقها انتقلت الروح اليونانية إلى كل جوانب الحياة العقلية، وكان لها تأثيرها النافع في الفلسفة كما في بقية هذه الجوانب. وهذا هو المعنى الذي يمكننا أن نفهم به العبارة القائلة بوجود «تراث أفلاطوني في الفلسفة الأنجلوسكسونية» ظل مستمرا على الدوام (وهذا هو رأي مويرهيد)، لا معنى استمرار شكل معين من أشكال الأفلاطونية ظل يعمل على نحو فعال طوال تاريخ الفكر الإنجليزي (فأفلاطوني وكيمبردج كانوا ظاهرة منعزلة، ولم تحدث منذ ذلك الحين حركة مشابهة). وبعد منتصف القرن التاسع عشر حدثت نهضة جديدة هامة في دراسة الفلسفة اليونانية بأكسفورد ارتبطت أساسا باسم «بنجامين جويت
Benjamin Jowett » (1817-1893)، ورغم أن جويت كان لاهوتيا قبل كل شيء، فقد كان رجلا واسع الثقافة ذا نشاط متعدد الجوانب، وكان من قادة حزب «الكنيسة الرحبة
Borad Church »،
12
كما كان القوة الدافعة من وراء حركة إصلاح الجامعات، وما زال الأحياء من الجيل القديم يذكرون عنه أنه كان أبرز أساتذة الجامعات وأقواهم تأثيرا في عصره، وقد قضى حياته في التدريس في أكسفورد وحدها، ففي عام 1838 أصبح زميلا في كلية «باليول»، ثم مدرسا بها بعد أربع سنوات، وأصبح في عام 1870 أستاذا
Master ، إلى جانب شغله كرسي اللغة اليونانية من 1855 إلى 1893. ويعزى القدر الأكبر من شهرته إلى تجديده للدراسات الكلاسيكية بروح الفلسفة اليونانية ومن خلالها، وذلك خلال عمله في التدريس والكتابة، الذي امتد أكثر من نصف قرن، ولازمه النجاح الباهر طواله. ومن المعترف به أن ترجمته لمحاورات أفلاطون، التي صدرها بمقدمات رائعة، هي إلى اليوم أفضل الترجمات، ومن الممكن وصفها بأنها كلاسيكية، بمعنى أن أفلاطون أصبح بفضلها لأول مرة، قوة تعليمية حية بحق، وأصبح من المقتنيات المضمونة للأمة. فدورها بالنسبة إلى إنجلترا يساوي دور ترجمة «شلير ماخر» بالنسبة إلى ألمانيا، ولجويت ترجمات أخرى لثوكوديدس
Thucydides (1881) ولكتاب «السياسة» لأرسطو (1588)، غير أنها أقل أهمية؛ إذ إنه كان فيها أضعف تحمسا للمؤلفات الأصلية وأقل تعاطفا معها.
ويمكن القول إن هذا الاهتمام المتجدد والمتعمق، في أكسفورد، بفلسفة العصور الكلاسيكية القديمة ، قد أتى في الوقت المناسب؛ نظرا إلى الاتجاه الذي أخذ الفكر الإنجليزي يتحول إليه في ذلك الحين. فقد كانت القرابة بين المثالية اليونانية والألمانية واضحة، وشعر الجيل الناشئ في أكسفورد أكثر من أي مكان آخر، بالحاجة الملحة إلى تخليص الفكر الإنجليزي من ضيق أفقه وخضوعه الذليل لتراثه، وإلى العودة به إلى المجرى العظيم للفلسفة الأوروبية. وهكذا كان بعث الدراسات الأفلاطونية الذي استهله جويت، هو نقطة تجمع للمؤثرات الفلسفية الآتية من ألمانيا، وفضلا عن ذلك، فإن هاتين القوتين المتقاربتين: اليونانية والألمانية، اللتين تقابلتا سويا في أكسفورد في اتصال متبادل مثمر، قد توحدتا في جويت نفسه، وسارتا في اتجاه مشترك.
فلقد اتصل جويت بالمثالية الألمانية اتصالا مباشرا في وقت مبكر، أي في عام 1844 و1845، خلال إجازتين صيفيتين قضاهما في ألمانيا، فزار شلنج الكهل في برلين، ولكنه لم يعجب به على الإطلاق (ووصفه في رسالة كتبها في ذلك الوقت بأنه «ثرثار عجوز») كذلك قابل ي. أ. إردمان
13
وناقش معه «أفضل طريقة لاستيعاب فلسفة هيجل». وبعد عودته إلى إنجلترا ازداد عكوفا على دراسة هيجل، بل إنه بدأ في ترجمة كتاب «المنطق» لهيجل، ولكنه لم يكمل هذا العمل. وكانت حماسته ومثابرته في الكفاح من أجل فهم معاني هيجل مشابهة لكفاح سترلنج بعد ذلك بحوالي عشر سنوات أو خمس عشرة سنة. وهكذا كتب يقول في رسالة له عام 1845: «أما عن هيجل، فليست لدي إلا فكرة غامضة عن معناه، ولكني أشعر بأني لن أرتاح حتى أزداد تعمقا فيه.» وقال أيضا: «إما أن ينجح المرء في هذه المحاولة وإما أن يضيع، أي أن يتخلى تماما عن الميتافيزيقا؛ فمن المحال أن يقنع المرء بأي مذهب آخر بعد أن يكون قد بدأ في هذا.» غير أنه على خلاف سترلنج، لم يتأثر بهيجل تأثرا كاملا؛ فقد كانت طبيعته أكثر مرونة من أن يستحوذ عليها تماما هيجل أو غيره. وظل محتفظا، حتى في هذه السنوات المبكرة، باستقلاله الذهني المميز له، وازداد احتفاظا به في السنوات التالية.
وأهم ما يعنينا هنا هو أنه حث مجموعة من صفوة تلاميذه على دراسة كتابات هيجل، وبذلك أصبح أول وسيط للفكر الألماني في الجامعة التي أصبحت فيما بعد مقرا للمثالية الإنجليزية. فإلى جويت، أكثر من أي شخص غيره، يرجع الفضل في دراسة الهيجلية ومناقشتها بحماسة في أكسفورد حتى منذ أواسط القرن الماضي، وفي تحولها إلى قوة عقلية متزايدة الأهمية. ولقد كانت للبذور التي غرسها في عقول تلاميذه ثمار فلسفية يافعة. ولا ينقص من فضله في هذا الصدد، أن موقفه من هيجل قد مر بتقلبات متعددة، وأنه لا يمكن أن يعد في أي وقت هيجليا كاملا صادقا؛ ذلك لأنه كان كلما ازداد غوصا في تفكير اليونانيين، ازداد تباعدا عن أستاذه الفلسفي الأول. ومع ذلك فإنه في كهولته الناضجة قد رجع بنظره في إعجاب وتبجيل إلى ما كان هيجل يعنيه بالنسبة إليه يوما ما، فكتب يقول: «لقد مضى أكثر من أربعين عاما على ابتدائي في قراءة كتابات هيجل، وأعتقد أن ذهني قد تلقى منه في ذلك الوقت من القوة الدافعة أكثر مما تلقاه من أي مفكر سواه، ورغم أنني أدرك الآن أن مثل هذا النوع من الفلسفة لن يكتب له البقاء الدائم، فما زلت أكن لمعلمي وأستاذي القديم أعظم التبجيل.»
14
ولقد مر كثير من رواد المثالية الإنجليزية، بل أهمهم، على يديه، ونخص منهم بالذكر جرين وإدوارد كيرد ونتلشيب الذين كانوا هم المقربين إلى مؤلفاته وشخصيته نظرا إلى اشتغالهم في كلية باليول. ولقد ظهر تأثير الفلسفة الألمانية في كتاباته أوضح ما يكون في مقدماته لترجمته لمحاورات أفلاطون (الطبعة الأولى، 1871). ولنقل أخيرا إن أهمية جويت ترجع إلى أنه هو الذي أدخل تلك الروح الفلسفية التي تولدت عنها الحركة المثالية الجديدة في إنجلترا، ورعاها سنوات طويلة، وحفز على الاهتمام بها، ولقنها لتلاميذه.
على أن اليقظة الحقيقية للمثالية الإنجليزية لم تأت من جانب الأوساط الأكاديمية في أكسفورد، حيث لم تظهر مؤلفات تعبر عن الأفكار الجديدة إلا بعد فترة طويلة من الإعداد والكمون، وإنما ظهرت بفضل بادرة جريئة حاسمة لرجل اسكتلندي غير متخصص، كان حتى ذلك الحين مجهولا، هو ج. ه. سترلنج، الذي نشر في عام 1865 مؤلفا من مجلدين عن هيجل. وفي العقد التالي كانت الحركة قد بلغت أوج نشاطها بظهور كتاب «مقدمات إلى هيوم» لجرين (1874) وكتاب «منطق هيجل» لولاس (1874 أيضا) «ودراسات أخلاقية» لبرادلي (1876)، وأول كتاب لكيرد عن كانت (1877). كذلك أدى هذا الإحياء إلى ظهور مجلة فلسفية هامة، هي مجلة مايند
Mind ، (1876، وما زالت هي أهم المجلات)، ورغم أن هذه المجلة كانت ترحب بجميع الاتجاهات الفكرية، فقد كانت واسطة للتعبير عن الحركة الجديدة. وفي العقد التاسع من القرن الماضي دعمت الحركة موقفها، وأنتجت سلسلة أخرى من الكتب الهامة؛ هي «فلسفة الدين» لجون كيرد (1880)، و«هيجل» لإدوارد كيرد، و«مقدمة للأخلاق» لجرين، و«المنطق» لبرادلي، و«مقالات في النقد الفلسفي» (كلها عام 1883)، و«المذهب الهيجلي والشخصية» لأندروسث (1887)، و«المنطق» لبوزانكيت (1888)، وكتاب كيرد الأكبر عن كانت (1889). ولقد اتخذ الاتجاه المثالي لأول مرة، في كتاب «مقالات في النقد الفلسفي» صورة البيان المشترك، وساهم في تأليفه مجموعة من أصغر ممثلي هذا الاتجاه سنا، اشتهر بعضهم فيما بعد (مثل أ. سث. وهولدين وبوزانكيت وسورلي وهنري جونس ورتيشي). وقد أهدي الكتاب إلى جرين، الذي كان قد توفي في العام السابق. وأعرب إدوارد كيرد في التصدير عن المقصد العام للجماعة بقوله: «يتفق مؤلفو هذا الكتاب في الاعتقاد بأن طريق البحث الذي ينبغي أن تسلكه الفلسفة، أو الذي نستطيع أن نتوقع لها أن تساهم فيه بأهم نصيب في الحياة العقلية للإنسان، هو ذلك الطريق الذي شقه كانت، والذي كان هيجل أعظم من ساهم في متابعته بنجاح. وأضاف إلى ذلك أن رغبتهم كانت متجهة إلى أن يضفوا على مؤلفات كانت وهيجل تعبيرا وتطبيقا جديدين.» وقد اعترفوا بأن قبول آراء هذين المفكرين حرفيا في بلد آخر وجيل مختلف «ليس بالأمر الممكن لو كان مطلوبا، ولا بالأمر المطلوب لو كان ممكنا.» وكان هدفهم هو أن يبينوا «كيف يمكن تطبيق مبادئ الفلسفة المثالية على مختلف مشكلات العلم والأخلاق والدين.» وهكذا تناولت المقالات مشكلات المنطق ونظرية المعرفة ومناهج البحث وفلسفة التاريخ وعلم الجمال والفلسفة الاجتماعية والفلسفة الدينية، وبذلك تضمنت كل مجال البحث الفلسفي كما وسعت نطاقه المثالية الألمانية.
ولقد ظهر الجزء الأكبر مما أنجزته هذه المدرسة (إذ إن من الممكن الكلام عن مدرسة في هذه المرحلة) في أكسفورد، التي كانت المعقل الحقيقي للحركة، وظلت كذلك حتى بعد أن أدت وفاة جرين السابقة لأوانها إلى إحداث أول شقاق جدي في صفوف الرواد. ومن أكسفورد انتقل الطلاب الذين تشبعوا بروح كانت وهيجل إلى سائر أرجاء البلاد، وأخذوا يشغلون بالتدريج كراسي الأستاذية وغيرها من مناصب التدريس في بقية الجامعات. وكانت جامعة جلاسجو مركزا هاما آخر؛ فهناك استقرت التعاليم الجديدة فيها منذ وقت مبكر جدا، بفضل الجهود الرائعة التي بذلها إدوارد كيرد وشقيقه جون، وحلت محل مذهب هاملتن الذي كان سائدا حتى ذلك الحين. واكتسحت موجة المثالية الظافرة كل ما صادفها في كل مكان، وسرعان ما تركت طابعها في الجزء الأكبر من التعاليم الفلسفية التي كانت تلقن وتدرس في الجامعات. وهكذا حدث تغيير وتوجيه جديد لا نظير لهما في تاريخ الفكر الإنجليزي بأسره. وفضلا عن ذلك فإن حركة إحياء المثالية لم تبلغ في أي بلد آخر ذلك الحد من الروعة، ولم يبلغ التأثير الروحي للمثالية ذلك الحد من القوة، الذي بلغه في إنجلترا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وإنه لغريب حقا أن ألمانيا ذاتها لم تكد تشعر في أي وقت بهذا التحول العميق الذي طرأ على الفلسفة الإنجليزية بفضل تعاليم كانت وهيجل، وأنها لم تتلق منها ثانية أي رد فعل أو تأثير مرتد.
ولقد سار تقدم الحركة على مراحل متعددة؛ كانت أولاها مرحلة استيعاب محتوى الأفكار الواردة بغية نشرها عن طريق الترجمات والشروح إلخ، وإدماجها في المادة المألوفة للتدريس الأكاديمي واستغلالها في مكافحة التعاليم القديمة التي كانت لا تزال سائدة عندئذ. كان ذلك هو العمل الرئيسي الذي تم في العقد البادئ بسنة 1870، وهو عمل تولاه من أسميهم بالرواد، وهم سترلنج وجرين وإدوار كيرد وولاس وغيرهم. ورغم أن هذا العمل كان تفسيريا في أساسه، فقد كان أداؤه يتميز باستقلال ذهني ملحوظ، وتم فيه التوصل إلى بعض المبادئ الأساسية في التفكير، ظهرت فيها بوادر معالم فكرية هامة تميز بها التطور التالي. وهكذا حورت الأفكار المستوردة، أو وسعت على الأقل في أثناء نقلها. ثم جاءت مرحلة تالية ظهر فيها النقد الخلاق والبناء المستقل، وذلك لتحصين الأرض التي غزاها الرواد وتوسيع رقعتها. وما إن أطلقت الروح النقدية التأملية من عقالها، حتى أمكن تحطيم الأشكال القديمة، واستطاع الفكر أن يبدأ التحليق في مسارات جديدة. وهكذا أفضت الحركة الهيجلية إلى ظهور عدد من المحاولات المستقلة الأصلية لإيجاد حلول جديدة للمشكلات الكونية القديمة. ومهما كانت درجة ابتعاد هذه المحاولات عن نقطة بدايتها، أو اختلفت طرق التفكير الأخرى التي انتهت إلى التحالف معها، فإن القوة الدافعة الأولى التي تلقتها إنما كانت عن الحركة المثالية الجديدة. ولا شك أن أقوى ذهنين تأمليين ظهرا من بين صفوف هذه المدرسة كانا برادلي وماكتجارت، غير أن بوزانكيت وبرنجل باتيسون وورد وسورلي وهولدين وغيرهم قد ساهموا بدورهم في العمل البناء وتوصلوا إلى نتائج لها شيء من الأهمية.
فإذا تساءلنا عن أقوى المثاليين الألمان الكبار أثرا في الفكر الإنجليزي كان الجواب دون شك هو أنه هيجل؛ بحيث يحق أن يطلق على الحركة كما أطلق عليها بالفعل، اسم الهيجلية الجديدة أو الهيجلية الإنجليزية،
15
ولكن ينبغي ألا يغرب عن بالنا أن «كانت» بدوره كان له تأثير قوي عميق؛ لأنه هو الذي أطلق القوة النقدية من عقالها، مثلما أطلق هيجل القوة التأملية النظرية. غير أن جميع المذاهب المثالية الألمانية، كانت تعد عادة كلا واحدا، يكشف عن تطور عضوي ضروري من كانت إلى هيجل، حتى رغم ما كان يحدث من آن لآخر من محاولات لاستغلال أحدهما ضد الآخر. كذلك ساهمت قوى فشته وشلنج في تكوين هذه الحركة، ولم يكونا مجرد موضوعين للاهتمام والبحث. وهذا أيضا يصدق، ولكن بدرجة أقل كثيرا، على هربارت
Herbart
16
وشوبنهور وأ. فون هارتمان،
17
غير أن لوتسه كان هو الفيلسوف الذي درس بأكبر قدر من الحماسة ، وحظي بأعمق الاحترام، وشاع استغلال أفكاره، من بين الفلاسفة الألمان التالين للفترة الكلاسيكية المثالية؛ فقد كان له تأثير هائل، لم يفقه سوى تأثير كانت وهيجل. وقد ظهر كتابه «مذهب في الفلسفة» (المنطق والميتافيزيقا) مترجما عام 1884، وأعقبته في العام التالي ترجمة لكتابه «العالم الأصغر
Microcosmos ». ولما كانت المثالية قد بلغت في ذلك الحين أوجها، فإن كلا الكتابين قد أثار اهتماما ضخما مباشرا،
18
بل إن كثيرا من الإنجليز قد جمعتهم بلوتسه صلات شخصية، حتى كاد أن يصبح من «البدع» الشائعة وقتا أن يقضي المرء فترة الدراسة بجامعة جوتنجن، حتى يتلقى الحكمة الفلسفية من فم المعلم نفسه. ولقد كان نجاحه الساحق في إنجلترا راجعا إلى أن قراءة كتاباته وهضمها كانتا أسهل كثيرا إذا ما قورنتا بغموض هيجل المستغلق أو جلافة كانت. وفضلا عن ذلك فقد كان يعد آخر ممثل حي لذلك العصر الفكري العظيم الذي طويت صفحته بوفاة هيجل، ومن ثم فقد اعتقد أنه يقدم أفضل سبيل إلى فهم عالم هيجل الغامض، وهو سبيل يعد طرقه أسهل كثيرا من الانتقال إليه من خلال كانت. كما أن كثيرا ممن أحسوا بنفور من واحدية هيجل المتزمتة قد راقهم مذهب لوتسه الأشد مرونة. فكل أولئك الذين شعروا، خلال الصراع بين المثالية المطلقة والمثالية الشخصية، أن المذهب الأخير أقرب إلى عقولهم؛ قد انصرفوا عن هيجل وانضووا تحت راية لوتسه. وهكذا أصبح هذا الأخير نقطة تجمع عدد من المفكرين الذين انشقوا على المدرسة الهيجلية بما فيها من صرامة شديدة، ووصلوا إلى تعبير أكثر تحررا عن نظرتهم المثالية إلى العالم. ومن هنا كان تأثيره خارج الهيجلية أعظم من تأثيره داخلها، بل إن البرجماتيين أنفسهم قد ربطوا أنفسهم به، ونظروا إليه على أنه أحد أسلافهم. وأخيرا فإن رودلف أويكن
Rudolf Eucken
19
قد وجد بدوره طريقه إلى الفكر الإنجليزي، بعد لوتسه بوقت طويل؛ فترجم الكثير من مؤلفاته وانتشرت قراءتها على نطاق واسع، وأحرز نجاحا شعبيا عظيما، ولا سيما في العقد السابق للحرب العالمية الأولى، أما الدوائر الفلسفية المحترفة فلم تكد تلحظه.
وبلغت الحركة المثالية الجديدة قمتها قرب نهاية القرن التاسع عشر، وكانت حتى ذلك الحين تحتل ميدان الفلسفة دون منافسة تقريبا؛ فلم يظهر أي منافس جدي بعد اختفاء الأعداء القدامى، كالمذهب الترابطي، ومذهب الموقف الطبيعي، ومذهب المنفعة، والمذهب الحسي، واللاأدرية، والمذهب الطبيعي، والداروينية إلخ. وهي المذاهب التي ازدادت المثالية قوة خلال صراعها معها، والتي كانت هزيمتها واحدا من أعمالها الرائعة. صحيح أن الحركة كلما ابتعدت عن نقطة بدايتها كانت تفقد ذلك التركيز الشديد وتلك الوحدة الصارمة في المذهب، التي كانت تميز مرحلتها الأولى، غير أنها كانت تزداد تنوعا وتعقدا، وتوسع آفاقها بخلق إمكانيات جديدة لا حد لها، ولم يبدأ رد الفعل عليها إلا ببطء وعلى استحياء، وكان ظهوره في معظم الأحيان من بين صفوفها، كما هي الحال في انتقال آدمسون
Adamson
التدريجي إلى الواقعية والطبيعية
Naturalism ، وتحول كوك ولسون
Cook Wilson
بحذر إلى الواقعية. ولهذا التحول الأخير شيء من الأهمية؛ إذ إن كوك ولسون كان ينتمي إلى أكسفورد معقل المثالية، كما أنه جمع حوله عددا محدودا من الشبان، على أن القوى التي شنت فيما بعد هجوما مضادا قويا، وناجحا في نواح عديدة على المثالية، لم تظهر إلا في مطلع القرن الجديد. فبظهور الواقعية الجديدة والبرجماتية، أصبحت المثالية تواجه حربا في جبهتين، اضطرت خلالها إلى أن تتحول على نحو متزايد إلى اتخاذ الموقف الدفاعي، وأخذت تفقد بالتدريج مكان الصدارة. ولا شك أن البرجماتية كانت هي الأضعف من بين هذين الخصمين، ولم يكن الصراع معها - وخاصة مع ممثلها الوحيد المشهور في إنجلترا، ف. ك. س. شيلر - صراعا جديا، ولم يكن بالأحرى يمثل خطرا حقيقيا؛ إذ إنه ارتد إلى مبارزة متحمسة طريفة، بين برادلي وشيلر، ظلت طوال ما يقرب من عشرين عاما تثير قراء الفلسفة وتسليهم. غير أن الهجوم الآتي من جانب الواقعية الجديدة كان أخطر بكثير؛ إذ إن هذا المذهب لم يقتصر، كما كانت الحال في البرجماتية، على الخلاف المباشر، وإنما انتقل إلى مسائل جديدة، ووجد تبريرا له، واكتسب أرضا جديدة، بفضل ما حققه من نتائج إيجابية خاصة به. وحسبنا أن نذكر سببا واحدا من أسباب تفوق الواقعية الجديدة، وهو وثوق الصلة بينها وبين العلوم الطبيعية، وبالتالي تلبيتها لحاجة ملحة في ذلك الوقت، ظلت المثالية تتجاهلها زمنا طويلا.
وبعد فترة تدهور طويلة، بلغت المثالية نقطة تقرب من النهاية خلال السنوات العشر الأخيرة تقريبا، وإذا بدا عليها الوهن بوضوح، ولم يعد بها مدخر من الطاقة الخلاقة الجديدة، فقد أصبحت أكثر ميلا إلى تجنب مواجهة خصومها، والتخلي عن البناء على أسسها الخاصة، والبحث عن دعامة لها في طرق أخرى للتفكير، واتفق هذا الوهن الباطن مع سلسلة سريعة من الخسائر بوفاة أقدر قادتها: بوزانكيت في سنة 1923، وبرادلي في 1924، وماكتجارت وورد في 1925، وهولدين في 1928، وبرنجل باتيسون في 1931، وسورلي في 1935، وماكنزي في 1936، ولم يبق حيا ممن شهدوا أيام مجدها إلا القليلون، وأصبحت الحركة اليوم تكاد تدخل تماما في ذمة التاريخ. على أن المستقبل لن يكتفي بوضع أكاليل الغار عليها، وإنما سيرتد بنظره إليها في احترام واعتزاز؛ إذ إنها تمثل عصرا اقترن فيه الذهن الإنجليزي بذهن كانت وهيجل، فأنتج ثورة عاتية وتجديدا جبارا للفكر، ما زال حيا إلى اليوم، بوصفه قوة دافعة مثمرة في تلك الفلسفة التي تختلف عنها اختلافا تاما، والتي تسود إنجلترا اليوم. (2) القسم الثاني: الرواد
قلنا من قبل إن الإنجليز تنبهوا بطرق متعددة إلى المثالية الألمانية منذ وقت مبكر، أي منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولكن ذلك كان دائما بطريقة تفتقر إلى الانتظام والشمول؛ فكانت النتيجة أن عجزت المثالية عن إشعال جذوة حركة عقلية كبرى، وعن توطين مثل هذه النظرية الأجنبية إلى العالم، في الدوائر الفلسفية على التخصيص. وينبغي أن يعزى الفضل في تحقيق هذا الهدف إلى كتاب فريد واحد لمؤلف واحد، هو كتاب «سر هيجل» لسترلنج. فبهذا الكتاب الرائع أيقظ سترلنج الفلسفة الإنجليزية بالفعل من سباتها القطعي، وأعطاها قوة دافعة جديدة، ووجهها وجهة جديدة. ولا شك في أن هذا الكتاب كان أحق المؤلفات الفلسفية التي ظهرت في القرن الماضي بأن يعد منشأ ثورة وفاتحة عصر جديد. فلكتاب سترلنج أهمية تاريخية لا تقدر؛ إذ إنه غرس الفلسفة الألمانية في التربة الإنجليزية لأول مرة.
20
ولم يكن هذا الكتاب عملا لعالم مثابر غزير المعرفة (وإن يكن يحوي بالفعل كمية غير قليلة من المعلومات العلمية)، بل كان عمل رجل تملكه انفعال طاغ، يشعر بأن لديه رسالة يحققها، ويحس بكل ما تنطوي عليه رسالته. فهو اعتراف ذاتي ينبض بالشعور الفياض، وهو نتاج تجربة شخصية عميقة تهفو بإلحاح إلى التعبير عن ذاتها، وهو يخفق بروح المغامرة الجريئة التي يتسم بها المستكشف. وهو عمل صاغه المجهود الشاق لرائد لم يسبقه أحد، وإن كل صفحة منه لتحمل آثارا لنضال جبار قلق مع الموضوع الذي كتبت فيه. ولولا هذا كله لما استطاع ذلك الكتاب أن يبلغ ما كان لا بد له أن يبلغه من نفاذ البصيرة وعمقها، حتى يجرف الناس أمامه من فرط الحماسة، ويستهل حركة فكرية جديدة.
ولقد كان الطريق الشاق الذي سلكه سترلنج لفهم هيجل - وقد صرح هو نفسه بأنه شق طريقه بحد السيف - مقترنا بتلك المهابة السحرية التي يحس بها المرء وهو في حضرة شيء غامض طاغ، والتي لا يدرك مقدارها ودلالتها إلا في إحساس غامض يحتاج إلى وقت وجهد لكي يتحول إلى مفهوم واضح. وإن كتابه ليزخر بالعجب من ضخامة هيجل الغريبة، وهو عجب يتبدى - تبعا لحالته النفسية - تارة في صورة يأس عميق أو شك مرتاب، وتارة أخرى في صورة ثقة راضية أو حتى سورات من النشوة الخالصة. وليس لنا أن نفسر التعبيرات والأحكام الناشزة فيه إلا بأنها تسجيل لحالته النفسية، كلما مني نضاله بالفشل حينا، وتوج بالنجاح حينا آخر. ويمكن القول إن موقف الثقة والتأكيد الإيجابي والحماسة المتدفقة هو الأغلب على وجه الإجمال، وهو الذي يؤدي به في النهاية إلى بلوغ هدفه المنشود ظافرا؛ أعني إلى كشف سر هيجل.
وسنورد فيما يلي بضعة اقتباسات توضح مدى تبجيله لهيجل، فهو يقول: «بقدر ما يتعلق الأمر بالتفكير المجرد، وبقدر ما يستطيع المرء أن يرى في هذه اللحظة، يبدو أن هيجل قد ختم عصرا، وحدد الكل الشامل للأشياء بتعبيرات فكرية ستظل، على الأرجح، على ما هي عليه في الأساس خلال ألف السنة القادمة؛ فجميع الشواهد الخارجية تدل على أن هيجل، بالنسبة إلى أوروبا الحديثة ، يماثل على الأقل أرسطو بالنسبة إلى اليونان القديمة.»
21 «إن فلسفة هيجل إنما هي بلورة الكون، وهي الكون مفكرا فيه، أو تفكير الكون.»
22 «إن هيجل قد مارس على جميع المسائل التي تهم الإنسانية تفكيرا يتحدى، في عمقه وشموله ودقته أعظم ما سبق إعماله في هذه المسائل من تفكير.»
23 «أسيكون في وسعي أن أرشدكم خلال هذا البناء الرحب العملاق - هذا التركيب الضخم - هذا المركب الهائل - هذه الكتلة العظيمة - التي لا يشبهها شيء مما ظهر حتى الآن في فرنسا أو في إنجلترا أو في العالم؟ إنه واحد من تلك القصور الشرقية الهائلة التي لا يراها المرء إلا في الحلم، لا نهاية لضخامته، إيوان فوق إيوان، وقاعة على قاعة، وشرفة تعلوها شرفة، لبناته من الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ رخام وذهب وزمرد وياقوت ومرجان، ينام فيه أنبياء قدامى أختامهم في أصابعهم، وتحرسهم مردة مجنحة وغير مجنحة، منها ما له أقدام ومنها ما ليس له أقدام. فهناك في الصحراء الخالية، التي تفصلها عن عالم الإنسان أيام وليال لا نهاية لها، وقفار تتكرر وتتردد بلا نهاية، هناك توجد أرض أحلام عملاقة، منعزلة غامضة تستغلق على الأفهام، ولكن فيها مع ذلك وحشة واضطرابا وعمقا.»
24
ومع ذلك، ففي وسط هذه الأوصاف الفخمة الرنانة، يثور لديه الشك والارتياب فيما إذا كان هذا العملاق مجرد دجال وأفاق منطقي «ومغامر جريء يوهم الناس بأنه فيلسوف.»
25
وثرثار يغرر بنا بألفاظه «فالواقع أن الأمر كله هذيان، ولكن مع أجرأ اغتصاب للكلمات ذات السلطة الرنانة، حول الأسرار التي ينبغي أن تظل أسرارا.»
26
بل إن سترلنج يصرح بكلمة قاسية فيقول: «هناك شيء ساذج في هذا الرجل، فهو ما يزال جلفا ريفيا.»
27
غير أنه سرعان ما يسحب هذه الكلمات العاتية فهي ليست أحكاما، وإنما هي أنات رجل يستكشف «هذه المتاهة الغامضة المحيرة»، ويظل هيجل مع ذلك كله «أعظم مفكر تجريدي في العصر المسيحي، وهو يختم العالم الحديث مثلما ختم أرسطو العالم القديم.»
28
وهو يزيد من إيضاح مركز هيجل، عن طريق البحث في علاقته بالسابقين عليه من الألمان ، ولا سيما كانت؛ ذلك لأن هيجل لا يفهم بذاته، ولا بد لاستجلاء غوامضه من الرجوع إلى كانت، الذي يحمل مفاتيح هذه الأسرار. وفي وسع المرء أن يسقط من حسابه المفكرين اللذين أتيا بينهما، وهما فشته وشلنج. ومهما كانت أهميتهما، فقد كان كانت هو الذي وضع أسس المثالية الحديثة، ولا بد لفهم أية خطوة تجاوزته من فهمه هو أولا؛ ذلك لأن كانت «تلك الروح الخيرة الأمينة المخلصة المعتدلة المتواضعة» (المجلد الأول، ص115، ص77 في طبعة 1898) هو الذي جعل مبدأ المثالية معقولا، وعلى أساس هذا المبدأ، موضحا على هذا النحو، بنى هيجل عالمه وشيد مذهبه. ولقد أعاد هيجل تسمية وتصنيف وتنظيم كل شيء، ولكن كانت كان قد مهد لهذا كله من قبل، بحيث ينبغي أن تبدأ به دراسة الميتافيزيقا، التي يتعين أن تجري في إنجلترا على أساس جديد. ويصور سترلنج «كانت» على أنه أصدق الفيلسوفين وأكثرهما أصالة وعمقا، وإن يكن هو الأبسط والأكثر تواضعا، أما هيجل فهو الأجرأ والألمع، ولكنه غير موثوق منه مثل كانت، كما أنه مفرط في الإغراب، وهو الذي تمكن من تشييد بناء جبار من المواد الغنية التي ورثها من الآخرين. ويعبر سترلنج عن فكرته هذه تعبيرا موفقا فيقول إن كانت هو «المنجم الذي استمد منه [هيجل] ثروته بأسرها» (م1، ص115، ص77 في طبعة 1889).
ولقد كان سترلنج يوجه دائما اللوم إلى هيجل؛ لأنه تعمد إزالة كل آثار دينه الكبير الذي كان يدين به لكانت، وذلك بمهاجمته على الدوام؛ وبذلك ترك انطباعا زائفا بأنه كان معارضا له على طول الخط، مع أنه كان في الواقع تابعا ومكملا له من جميع الأوجه. وعند هذه النقطة ينفجر شك سترلنج، مرارا وتكرارا، في أصالة الواجهة البراقة التي اتخذها مذهب هيجل، ولكن هذا الشك كان دائما يتلاشى أمام رؤية جانب جديد من جوانب تفكير هيجل بكنوزه الزاخرة .
وهكذا فإن خط التطور الفلسفي يسير من كانت، عبر قليل من الحلقات الوسطى، إلى هيجل، غير أن هذا الخط قد أتى إلى كانت من هيوم، فهيوم كان، في رأي سترلنج، أكبر دعاة عصر التنوير، ومفكره العظيم الوحيد، وكان واحدا من تلك الأوعية التي يصب فيها الفكر الفلسفي وهو ينساب عبر العصور، ويتخذ فيها شكلا محددا. ولكن يوم هيوم قد انقضى، وانتهت رسالته، بمجرد أن عمل كانت، الذي استولى على ميراثه، على تصفية أعمال عصر التنوير بأسره. وهكذا فإن وعاء هيوم، الذي أصبح عندئذ فارغا، وقد نضب معينه، وتحول التفكير المتطور بعيدا عنه، ليستقر في وعاء جديد أفضل، فهيوم يمثل اكتمال عصر التنوير ونقطة تجاوزه في الوقت ذاته. وهكذا لا يوجد، في رأي سترلنج، خط مستقيم يمر بهيوم، ولا يوجد استمرار لعصر التنوير بما هو كذلك، حيث إن الطريق الذي سلكه الفكر الإنجليزي في القرن التاسع عشر لم يكن إلا طريقا مسدودا، فالفلسفة الإنجليزية قد تخلفت عن الركب، وكانت تتغذى من وعاء خال، وكما قال سترلنج فإن «هيوم هو سياستنا، وهيوم هو تجارتنا، وهيوم هو فلسفتنا، وهيوم هو ديننا، ولا يلزم إلا القليل لكي يصبح هيوم هو ذوقنا أيضا» (المجلد الأول، ص73 من المقدمة، ص62 من المقدمة في طبعة 1898). وهكذا كانت دعوة سترلنج إلى الرسالة الفلسفية للألمان، هي في نفس الوقت حملة على التدهور الرتيب الذي طرأ على تفكير مواطنيه، وعلى «المعقولية» الضحلة البالية، التي أساءوا بها فهم عصر كان في أيامه عظيما، فأحالوه إلى حطام. وهكذا انتهز سترلنج كل فرصة ليعبر، بكل ما أوتيت طبيعته من الحماسة، عن احتقاره لشتراوس
29
وإرنست رينان
30
وفويرباخ
31
وبكل
32
ومن شاكلهم، ولم يمل أبدا من تسميتهم بمفسدي الروح الفلسفية. وقد نظر إلى «بكل» بوجه خاص على أنه أوضح ممثل في إنجلترا لهؤلاء الانحلاليين، وعلى يديه انقلب «التنوير» إلى «إظلام»، على حد تعبير شلنج. بل إنه أحس باحتقار أعظم نحو آخر ممثلي هذه «الرجعية المرتدة»، وهم الداروينيون والتطوريون، الذين أسموا أنفسهم بالمفكرين التقدميين، ومع ذلك لم يتركوا لنا شيئا سوى حيوانيتنا. وقد عاد سترلنج إلى الكلام عن الداروينية في كتابه «حول البروتوبلازم» (1869)، الذي كان موجها ضد هكسلي، ثم عاد إليها بعد فترة طويلة في كتاب «مذهب أتباع دارون
Darwinianism » (1894) حيث وجه إليها نقدا مدمرا.
ولقد طبق سترلنج حكمة القائل إن التفكير الأصيل لم يستمر ولم يفهم في إنجلترا منذ هيوم، طبقه حتى على أولئك المفكرين الإنجليز القلائل الذين «زعموا» أنهم فهموا الفلسفة الألمانية واستوعبوها، أي على السير وليام هاملتن ومدرسته، فكشف عن تفاهة هذا الزعم، بأن بين أنهم لم يفهموا حتى أبسط التعبيرات المميزة لكانت وهيجل، وأنهم - بدلا من أن يجيدوا فهم الفكر الألماني - قد شوهوه ودمروه، أو لم يتركوا منه، على أية حال، إلا ما هو سطحي. وهكذا طرح هاملتن بدوره جانبا، وقد هاجمه مرات عدة في كتابه «سر هيجل»، ثم دخل معه في معركة صريحة في مؤلف خاص ظهر في العام نفسه.
وهكذا لم يستطع سترلنج أن يجد، بين الفلاسفة الإنجليز في أيامه، حليفا واحدا في صراعه ضد عصر التنوير، غير أنه رأى، خارج نطاق الفلسفة، قوى روحية يتجه عملها نحو الغاية ذاتها، كالشعر الرومانتيكي عند وورد سورث وكولردج وشيلي، ومعظم أوجه النشاط الأدبي عند إمرسون وكارليل، اللذين كانا يدينان لعوامل ألمانية بتفتح أعينهما على النظرة المثالية إلى العالم، بل إن كارليل كان له تأثير مباشر في سترلنج ذاته، كما يتضح من كل صفحة تقريبا في كتابات هذا الأخير؛ ذلك لأن سترلنج قد جرفته الحماسة تماما لكتاب «سارتور ريزارتوس
Sartur Resartus »
33
لكارليل، واستحوذت عليه فورا أصالة هذا المفكر التنبئي وقوته اللغوية؛ حتى كان هو ذاته ينساق أحيانا في تلك البلاغة الانفعالية العنيفة التي كانت سمة طبيعية لأسلوب كارليل في أشد أحواله اصطناعا وتركيزا وإفراطا في المجاز. كما أخذ عن كارليل اتجاهه التنبئي، وحماسته المتدفقة، وثورته المتشائمة، وتقديسه للبطولة، وهي صفة أدت به إلى محاولة رد اعتبار بعض العباقرة المفترى عليهم (ومنهم أرسطو، الذي ألف عنه أنشودة يونانية في مؤلف متأخر) وكان له نفس استعداد كارليل للحماسة، ونفس الأسلوب المتضخم، ونفس السخرية اللاذعة، والاحتقار المرير، ونفس الشخصية القوية الحادة الصلبة، وربما كان ذلك راجعا إلى نشأتهما معا على نفس التربة الاسكتلندية. ونستطيع أن نقول إن رسالتهما كانت متشابهة؛ فقد أخذ أحدهما على عاتقه أن يقوم في ميدان الفكر المجرد بما حاول الآخر القيام به في ميدان الأدب.
ولنعد إلى «سر هيجل»، فما الذي كان يعنيه سترلنج بهذا العنوان الذي كان أقرب إلى الإثارة، وكيف استقر عزمه على القيام بمهمة كشف هذا السر؟ ربما كان هناك بعض الصدق في الدعابة القائلة إنه لو كان سترلنج قد عرف سر هيجل لعرف كيف يحتفظ به لنفسه. وفي اعتقادي، على أية حال، أن فضل سترلنج لا يرجع إلى إماطته اللثام عن سر حقيقي، بقدر ما يرجع إلى أنه قد لفت الأنظار بكل قوة، ولأول مرة، إلى العبقري المجهول، الذي كان اسمه يزداد ذيوعا في إنجلترا، وإن لم يتمكن أحد من أن يكون عنه فكرة تقرب من الوضوح والتحدد. ولا شك أن الضوء الذي ألقاه سترلنج على هيجل قد خبا إلى حد ما نتيجة للطريقة الشاقة التي توصل بها إلى فهمه، بحيث ترك من القناع الغامض الذي سعى إلى إزالته جزءا يكفي لإثارة حب الاستطلاع والتشجيع على إبداء مزيد من الاهتمام بموضوع البحث. والأمر الذي لا جدال فيه أن هذا الكتاب لو كان علميا محضا لما أحدث هذا التأثير. وعلى ذلك فإن فضل سترلنج لا يرجع إلى مساهمته في فهم محتوى مذهب هيجل، بقدر ما يرجع إلى مساعدته على إظهار الصفات العقلية والطابع العام لهذا المذهب. فإذا أخذنا في اعتبارنا حالة الفلسفة الإنجليزية في ذلك الوقت لوجدنا أن هذه كانت هي الخدمة الأجل،؛ فقد خلق أسطورة هيجلية، لم تتحول إلى الصبغة الواقعية المنتمية إلى العالم الفعلي، ولم تنق من شوائبها، إلا بعد عشرات طويلة من سنوات البحث الجاد النزيه الدقيق.
على أن سترلنج ذاته كان يعتقد أنه قد نزع، بصبغة نهائية، القناع الذي كان يخفي سر هيجل. فقد عبر، بطريقة مركزة، عن رأيه في هذا السر، في مستهل كتابه الكبير، فقال: «مثلما أن أرسطو قد قام - بمساعدة كبيرة من أفلاطون - بالتعبير بطريقة صريحة عن الكلي المجرد الذي كان موجودا بطريقة ضمنية لدى سقراط، فكذلك قام هيجل - ولكن بمساعدة أقل من جانب نشته وشلنج - بالتعبير بطريقة صريحة عن الكلي العيني الذي كان موجودا بطريقة ضمنية لدى كانت.»
34
وقد عبر عن هذه المسألة تعبيرا أشد غموضا فقال: «إن سر هيجل هو التبادل القائم على تحصيل الحاصل، للفكرة المنطقية، التي هي في ذاتها شيء عيني.»
35
على أنه أشار إلى ماهية مذهب هيجل على نحو أوضح إلى حد ما، فوصفه بأنه التصور العيني الذي ينحصر الديالكتيك في حدوده، بمعنى أنه عندما يفكر الكلي
Universal
في ذاته، فإنه يضع ضده، وهو الجزئي، ثم يعود بعد ذلك إلى ذاته بوصفه الفردي. هذا هو الطريق الذي يسلكه الفكر، كما أن من الممكن أيضا التعبير عنه بوصفه حركة من التصور إلى القياس بتوسط الحكم، أو من المنطق إلى الروح بتوسط الطبيعة. وهكذا فإن مفتاح فلسفة هيجل إنما يكون في التصور العيني؛ إذ أن الأخير يشتمل على الحركة الديالكتيكية للعناصر، وفي الوقت ذاته على علاقتها بالمعرفة في كليتها. ويؤكد سترلنج مرارا وتكرارا عينية تفكير كانت وهيجل، وصعوبة التخلص من تجريدات الذهن والانتقال منها إلى هذا التفكير العيني للعقل، الذي يبلغ فيه التصور حقيقته عن طريق تأمل العاملين المضادين له في آن واحد. وهذا هو بعينه موضع القوة عند كانت وهيجل، فتفكيرهما لم يتحرك أبدا في تجريدات خيالية فارغة، وإنما ارتكز بكلتا قدميه دائما على الأرض العينية الصلبة.
وإن الصورة التي رسمها سترلنج لهيجل لتبدو لي صحيحة على وجه الإجمال، فإذا تذكرنا أنه كان يطرق أرضا جديدة كل الجدة، فسوف تتملكنا الدهشة من عمق بصيرته في إدراك ما هو أساس في هذا التفكير، وهي بصيرة لم تكن ممكنة إلا في ذهن اتسم بمثل هذا الخيال المتعاطف، وإن طريقته في العرض، التي كانت تحفل بالصور الواضحة الملوسة، وتحفل أيضا بالغموض والتعقيد، وتحفل كذلك بالتأمل النظري والإغراب؛ إنما تلقي على المشكلات ضوءا أشبه بضوء مجموعة مختلطة متداخلة من الكشافات. على أنه ينجح في بث الأفكار في ذهن القارئ، بحيث لا يملك القارئ إلا أن يفهمها. ولقد كان مصطلح هيجل مصدرا لصعوبة هائلة في طريقة العرض؛ فقد تعين نحت ألفاظ فلسفية جديدة من أجل الوصول إلى مرادفات إنجليزية، وكانت محاولة سترلنج البطولية لتحقيق ذلك مساهمة قيمة فيما تحقق بعده، بل حققت هي ذاتها نتائج تدعو إلى الإعجاب، حتى لو لم يكن قد نجح تماما، رغم صوره ونحوته الجريئة، في إعادة تجسيد معاني هيجل.
على أن هناك ناحية واحدة كانت فيها الصورة التي رسمها لهيجل مخطئة قطعا؛ ذلك لأن ميوله الألوهية قد سيطرت على عرضه أكثر مما ينبغي، وأدت به إلى أن يقرأ في هيجل أكثر مما فيه من العناصر اللاهوتية المحافظة. فقد كان سترلنج، من حيث هو فيلسوف، لاهوتيا متنكرا، لا مكان عنده لفلسفة لا تتخذ من رعاية المصالح الدينية غاية كبرى لها؛ ومن ثم فقد توجه إلى كانت وهيجل ذاتهما، يسألهما إن كان مذهباهما كفيلين بزيادتنا اقتناعا بسيادة الله ومشاركتنا فيها. ولم يكن هذان الفيلسوفان جديرين في نظره بالدراسة العميقة التي كرسها لهما إلا لاعتقاده بأن في وسعه الإجابة عن السؤال السابق بالإيجاب. ومن هنا فإنه لم يمل أبدا من الإشادة بهيجل بوصفه الفيلسوف حامي المسيحية؛ «فمذهب هيجل يؤيد هذا الدين ويدعم كل قضاياه.» وآراء هيجل «تتفق على نحو يدعو إلى الإعجاب مع الوحي الذي يكشف عنه العهد الجديد.»
36
فهيجل، مثل كانت، يوجه كل خطوة من مذهبه إلى إثبات خلود النفس وحرية الإرادة ووجود الله.
ولقد كان لهذا المزج بين الفلسفة والدين أهمية عظمى في تقبل الإنجليز لهيجل، فلم تجتذبهم فلسفة هيجل إلا لأن من الممكن تسخيرها لخدمة اللاهوت، واستخدامها أداة لمحاربة المذاهب الطبيعية والمادية والداروينية، وانعقد الأمل عليها في إعادة منكري الدين، ولا سيما من ينتمون منهم إلى أوساط المتعلمين، إلى حظيرة الإيمان. ولقد كان النجاح الساحق الذي أحرزه كتاب سترلنج عن هيجل راجعا إلى أنه قد أخذ هذا الموقف في اعتباره، وكان طبيعيا أن يبلغ هذا النجاح ذروته بين الدوائر المتمسكة بالدين، ولكنه اكتسب أيضا تأييدا متحمسا من آخرين لم تكن تربطهم بالدين إلا صلات أقل قوة، مثل إمرسون وكارليل وجويت وجرين وإدوارد كيرد، بل أثار إعجاب هيجليين ألمان مثل ي. أ. إرمان، وروزنكر انتس، وأرنولد روجه
Arnold Ruge .
وتتوقف كل أهمية سترلنج في الحركة المثالية على حكم المرء على مؤلفه الأول «سر هيجل»، فرغم أن عمله في الكتابة الفلسفية، قد استمر حتى القرن الجديد، فإن واحدا من مؤلفاته الأخرى العديدة لم يكن يداني مؤلفه الأول في أهميته التاريخية وفي قوته وتعبيره الشخصي المباشر، سواء في ذلك مناوشاته النقدية مع هاملتن وهكسلي ودارون، وكتابه المدرسي الرائع عن كانت (وهو مواز لكتابه عن هيجل)، ومحاضراته في فلسفة القانون، ومحاضرات «جيفورد» التي ألقاها بأسلوب بلاغي مبالغ فيه، فقد ظل إلى النهاية هيجليا مخلصا. وهكذا استمر، حتى في كتابيه الأخيرين اللذين نشرا بعد أن تعدى الثمانين من عمره، يعرض فلسفة هيجل ويسعى إلى كسب أنصار لها.
كان ت. ه. جرين هو أنشط وأنجح من واصلوا بناء المثالية على الأسس التي وضعها سترلنج، فعلى حين أن الأخير - الذي لم يشغل أي منصب أكاديمي - لم يستطع أن يدعو إلى عالم الأفكار المكتشف حديثا إلا من خلال كتابات منشورة، فإن الأول قد تمكن من أن يضيف إلى ذلك وسائل أخرى لتحقيق نفس الهدف، هي التدريس والقدوة الشخصية، وسرعان ما كوفئ باستجابة حماسية، ليس فقط في أكسفورد، التي كان الاستعداد الذهني متوافرا فيها، بل في أماكن أخرى أيضا. فبفضل جرين، وليس قبله، بدأت المثالية الألمانية بحق رسالتها في الأرض الأنجلوسكسونية، وبفضله كسبت لنفسها وطنا ثانيا باقيا في بلد كانت فلسفته من قبل تغلق أبوابها بكل شدة في وجه المؤثرات الأجنبية، وتسير بإخلاص تام في أعقاب تراثها القومي الطويل. ولقد كان هو الذي فتح تلك الجبهة الفلسفية التي كانت الحراسة عليها قوية مشددة، ومنذ ذلك الحين لم يعد هناك حاجز يحول دون دخول الأفكار الجديدة بحرية.
وعندما بدأ جرين عمله العلمي في أكسفورد، بعد أواسط القرن الماضي بقليل، لم تكن تلك الجامعة المحترمة تضم أستاذا واحدا له شأن في الفلسفة. وكانت أكسفورد تقتفي في ميدان الفلسفة أثر جون ستيوارت مل، الذي كان الطلاب يقرءون مؤلفاته بحماسة، ولا سيما كتاب «المنطق». وكانت هذه المؤلفات - بالإضافة إلى مؤلفات أفلاطون وأرسطو المقررة دائما بطبيعة الحال - تكاد تكون هي وحدها المتحكمة في اتجاه أفكارهم، وكان أقوى ممثلي اللاهوت التقليدي في أيام تلمذة جرين هو مانسل
H. L. Mansel (الذي أصبح فيما بعد أسقفا لكاتدرائية سانت بول). وقد حاضر مانسل في الفلسفة في كلية «ماجدالين» كما حاضر فيما بعد بوصفه أستاذ كرسي وينفليت
Waynflete ، وأثار كتابه المبكر «حدود التفكير الديني
The Limits of Religions Thought » جدلا كثيرا. ولما كان من الأنصار المتحمسين لأفكار هاملتن، الذي كان قد توفي أخيرا، فقد أذاع آراء «كانت» في أكسفورد، ولكن ما أذاعه كان في الواقع الوجه السلبي لأفكار كانت، بوصفه لا أدريا في نظرية المعرفة. وهكذا لم يجد جرين في شبابه حافزا له في هذه المحاضرات (باستثناء الحافز الناجم عن المعارضة على الأرجح) ولم يجد فيها ما يعينه على تحقيق رسالته الفلسفية المقبلة، وإنما أتى الحافز من تلك الشخصية القوية التي ظلت تسيطر على الحياة العقلية في أكسفورد قرابة جيلين، وهي شخصية بنجامين جويت، الذي عين أستاذا للكرسي الملكي
Reguis Professor
لليونانية في نفس العام الذي عين فيه جرين في باليول (1855). وقد اتصل جرين بهذا المعلم العظيم وهو لم يزل طالبا، بل كان يتخذ منه رائدا له. وليس من شك في أن جويت هو الذي حول تفكير جرين في الاتجاه الذي أضفى به هذا الأخير على الفلسفة الإنجليزية، بعد ذلك بقليل، قوة «دافعة جديدة»، وأعني به اتجاه كانت وهيجل.
ولكي نوضح مكانة جرين الفريدة في تطور الفكر الإنجليزي في القرن التاسع عشر، ينبغي علينا، أولا وقبل كل شيء، أن نحدد علاقته بكبار المفكرين الألمان. فمهما كان من عمق انغماس تفكيره، بجميع مظاهره، في جو المثالية الألمانية - ويمكن القول إن كل سطر فيه، بل كل كلمة تقريبا، تشهد بذلك - فقد كان يدرك أن الموقف التاريخي الذي ولد فيه يقضي على أية إمكانية لقبول المذاهب الألمانية أو إعادة ظهورها، وكثيرا ما رأيناه يؤكد ضرورية قيام كل جيل بإيضاح المشكلات الفلسفية من جديد بطريقته الخاصة «فمن الواجب البدء من جديد في هذا الموضوع بأسره.»
37
وعلى ذلك فإن ما نجده لدى جرين ليس مجرد اقتباس لأفكار أجنبية أو إعادة صياغتها من أجل إظهار علمه أو لأي غرض آخر، وإنما نجد له بداية جديدة أصيلة، وتجربة خلاقة لذهن عميق أخصبته وغذته حركة فكرية خارجية كانت تلائم تفكيره الخاص. وهكذا فإن ما أخذه عن هذه الحركة قد تشكل وتحول بفضل تجربته الشخصية من جهة، وبفضل الموقع التاريخي الذي وجد نفسه فيه.
ولكن إلى أي مدى كان من الممكن المضي في عملية البناء فوق الأسس التي وضعها سترلنج، طالما أن التراث القومي المتأصل الذي يرجع إلى قرون طويلة، قد ظل مسيطرا بلا منازع؟ لقد أدرك جرين منذ البداية أن التراث كان العقبة التي يتعين إزاحتها، وأنه لا يكفي أن يوضع الجديد محل القديم، وإنما ينبغي أولا زعزعة القديم وتقويض أركانه. وهكذا كان من الضروري خوض صراع حياة أو موت بين الفلسفات القائمة على المذهب الطبيعي أو مذهب المنفعة عند بنتام ومل وليويس وبكل وسبنسر ودارون وهكسلي، وبين سدجويك من جهة، وبين مثالية كانت وفشته وشلنج من جهة أخرى. وهكذا يصادف المرء في كل شيء كتبه تقريبا، في المحاضرات التي تركها ضمن مخلفاته، وفيما نشره هو نفسه أو أعده للنشر، نضالا مستمرا عنيفا ضد الفئة القائلة بالمذهب الطبيعي، بل إن أول أعماله، أعني مقدماته المشهورة اليوم، تحمل هذا الطابع المميز، ألا وهو الارتباط الوثيق بين المناداة بالجديد، وبين إعلان الحرب على القديم. وهكذا كان لجرين دائما عدو يواجهه، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي كان يستطيع أن يفكر بها. وعلى ذلك ففي تلك المرحلة المبكرة التي يمثلها، من مراحل التأثير الألماني، لم يكن العمل الجديد البناء قد بدأ بعد، رغم أهمية مساهماته التمهيدية ، أي إن رسالة جرين في تاريخ الفلسفة كانت قبل كل شيء إزاحة المذاهب القديمة من الميدان وتمهيد الأرض لمركب جديد من نوع مثالي، ولم تبدأ الثمار الكاملة لجهوده في الظهور إلا عندما ظهرت مذاهب برادلي وبوزانكيت وماكتجارت والباقين.
ولم يقتصر اهتمام جرين، في عملية تطهير الأرض، على المذهب الطبيعي عند معاصريه، بل إنه تجاوزهم، وركز جهوده أساسا في استئصال الجذور التاريخية القديمة العهد لطريقة التفكير هذه. وهي المذاهب التجريبية الكبرى بالقرنين السابع عشر والثامن عشر، ولهذا الغرض كتب مقدمتيه لبحث هيوم في الطبيعة البشرية، وهما تمثلان نقدا أساسيا للتعاليم النظرية والعملية للحركة التجريبية من لوك إلى هيوم. ولكن من الغريب حقا أن تلحق هاتان المقدمتان بطبعة لمؤلفات الممثل الكلاسيكي لهذه الحركة. ولقد كان جرين يسترشد بالفكرة الهيجلية القائلة: إن الفلسفة تتقدم بطريقة ديالكتيكية، مستهدفة إيجاد نظرة متزايدة المعقولية إلى الأشياء، بحيث تكون المذاهب الماضية هي الخطوات المتعددة في عملية التقدم هذه. ولا جدال في أن المذهب التجريبي كان إحدى هذه الخطوات الهامة، وكانت دلالة مذهب هيوم بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة في نظره، هي أنها تمثل نهاية هذه الخطوة، التي ارتفعت بعدها الحركة الديالكتيكية الفكرية إلى مرحلة جديدة أعلى عند كانت. فإذا ما نظرنا إلى المذاهب التجريبية الممتدة من لوك إلى هيوم من هذا المنظور الأعلى، لوجدنا أنها تبدو بالفعل أخطاء، غير أنها، بقدر ما أعانت على استخلاص حقيقة جديدة لدى كانت، قد ساهمت بدور حاسم في تقدم الفكر، فبحث هيوم في الطبيعة البشرية يمثل معبرا يوصل إلى «النقد» الأول عند كانت، [أي نقد العقل الخالص].
وهو في الوقت ذاته أهم نقطة تحول في تاريخ الفلسفة الحديثة. وهكذا يربط جرين بين هيوم وكانت ربطا وثيقا؛ إذ إن أحدهما قد سأل سؤالا، والآخر قد أجابه. فنزعة الشك عند هيوم قد هزت الفكر، من أعماقه، بفضل اتخاذها من التساؤل موقفا أساسيا، وبذلك مهدت الطريق لإجابة من نوع جديد، قدمها كانت في «نقد العقل الخالص»؛ لذلك فإن كانت يعد الخليفة الحقيقي لهيوم. وهكذا فإن تطور الفلسفة بعد هيوم لا يتمثل في ذلك الخط المستقيم المؤدي إلى أتباعه في القرن التاسع عشر، وإنما في التحول الديالكتيكي الذي عجل بظهور الحركة المثالية الكبيرة لدى الألمان، فلم يكن في إنجلترا خلفاء أصيلون لهيوم؛ إذ إن أسئلته الفاحصة، التي نفذت إلى أعمق جذور المعرفة، لم تجد هناك من يجيب عنها، بل إنها لم تعد مفهومة؛ فذلك النوع من الفلسفة، الذي كان موجودا عندئذ، كان منحلا لا حياة فيه، وما هو إلا فكر يسير في فراغ، دون أي حافز خلاق، وبالتالي دون أية إمكانية للتقدم. ولقد كان انتقال الروح الفلسفية التي ظلت حية في المذاهب الإنجليزية الكلاسيكية إلى ألمانيا، هو الذي دعا جرين إلى أن يقول مرارا وتكرارا للجيل الجديد من مواطنيه: «دعوكم من مواطنيكم مل وسبنسر، وتحولوا إلى كانت وهيجل.» وبهذا الرأي المضاد الذي قال به جرين، بدأ فصل جديد في تاريخ الفلسفة الإنجليزية.
وعلى ذلك فإن مذهب جرين يحمل في مضمونه، وكذلك في التعبير عنه، ذلك الطابع واللون المميز للمثالية، الذي ظل مستمرا دون أي انقطاع حقيقي منذ اليونانيين حتى المحدثين، وهو يعد جزءا أساسيا من تلك الحركة. ولقد استمد جرين، في تكوين أفكاره، عناصر من المذاهب المثالية لأفلاطون وأرسطو، ومن الأخلاق المسيحية، ومن ميتافيزيقا باركلي المرتكزة حول فكرة الله (وهي ليست تجريبية إلا في ثوبها الظاهري فحسب)، وأهم من ذلك كله، من المثالية النقدية عند كانت والمثالية المطلقة عند هيجل، كما استمد بعض العناصر من فشته وهربارت وف. ك. باور
38
ولوتسه، ولا شك أن أهم علاقة له كانت تلك التي تربطه بكانت وهيجل، كما أن من المسائل الهامة التي طالما نوقشت: البحث فيما إذا كان «كانت» أم هيجل أعظم تأثيرا فيه، فإذا نظرنا إلى الأمر من الوجهة الخارجية، لبدا لنا جرين كانتيا في المحل الأول، ولقد كان يدين لكانت بالكثير فعلا في نظرية المعرفة والأخلاق إذ نجده يتابع أفكار كانت الرئيسية وحججه خلال أجزاء طويلة من مؤلفاته. وكثيرا ما كان تفكيره يبدأ من وجهة النظر الكانتية ، ويبني على مسلمات كانتية، كما أن نتائجه كثيرا ما كانت تتفق مع نتائج «كانت» أو تقترب منها كثيرا على الأقل. وكثيرا ما يصادفنا اسم كانت في جميع كتاباته، بينما لا نصادف اسم هيجل إلا نادرا، وفي بعض مؤلفاته لا كلها (أي في «المقدمة إلى الأخلاق» مثلا). ومع ذلك فإن تأثير هيجل كان هائلا في التمهيد لتفكير جرين، وهو واضح إلى حد لا تخطئه العين، وإن يكن من العسير أن يحدد المرء موقعه بدقة. ويتبدى هذا التأثير بكل وضوح في تفسير جرين لكانت، وهو تفسير مضاد تماما لتفسير هاملتن ومدرسته، يحول به كانت في اتجاه المثالية المطلقة عند هيجل، وقد يصادف المرء من آن لآخر تعبيرا يوحي بوجود عداء من جانب جرين لهيجل، كما في قوله: «لقد تدبرت أمر هيجل بالأمس ووجدته لا يزيد عن ثرثرة كلامية غريبة.»
39
غير أن مثل هذه التعبيرات لا تغير من الحقيقة الواقعة، وهي أن هيجل كان من العوامل المتحكمة في تفكير جرين، وبالاختصار فقد كان جرين كانتيا في المحل الأول، ولكنه قرأ كانت بمنظار هيجلي.
ورغم نقص عدد المؤلفات التي عبر بها جرين عن تفكيره، فإن هذا التفكير يكون كلا منظما، يندرج تحت ثلاثة أبواب: الميتافيزيقا، والأخلاق، والفلسفة السياسية. ولقد كان الباب الأخلاقي هو الرئيسي من بينها، كما يحق للمرء أن يتوقع من ذهن كان اتجاهه أخلاقيا في أساسه؛ فالأخلاق هي مركز الثقل في المذهب، تسبقها وتمهد لها الميتافيزيقا (التي هي بدورها مسبوقة بنظرية المعرفة). وتسفر عن مذهب في الدولة، وفي الشروط الأخلاقية للحياة الاجتماعية والسياسية، وبتعبير آخر فإن المذهب يبحث على التوالي في المسائل الآتية، التي تفضي الإجابة عن كل منها إلى الإجابة عن الأخرى: ما هو الحقيقي؟ ما هي الطبيعة الحقيقية للإنسان؟ وما مكانه في عالم الواقع؟ وما الذي يتعين عليه أن يفعله إذا شاء أن يؤدي رسالته؟ وماذا ستكون مهام المجتمع إذا شئنا أن يؤدي الإنسان في هذا المجتمع وبفضله رسالته الأخلاقية؟ وأخيرا فهناك السؤال الذي لم يناقشه جرين صراحة، وهو السؤال المتعلق بالحقيقة العليا أو الله، بوصفه أساس كل وجود مخلوق. وهكذا فإن مذهب جرين يتعلق بطبيعة الحقيقة، وبالإنسان بوصفه شخصا أو موجودا أخلاقيا، وبالمجتمع أو الدولة بوصفها كثرة من هذه الموجودات، وبالله بوصفه الموجود الذي تستمد منه كل الموجودات الأخرى معناها.
وتقوم نظرية المعرفة عند جرين، أو على حد تعبيره، ميتافيزيقا المعرفة، وهي لها دلالتها، على أساس معارضة المذهب الحسي القائل بالانفصال المطلق (
sensationalistic atomism ) عند التجريبيين، ولا سيما عند هيوم، ومعارضة الواقعية والمذهب المادي القائل بالانفصال المطلق في العلم الحديث. ففي كلا هذين المذهبين يكون موضوع المعرفة مجموعة من الجزئيات غير المترابطة، أي من الإحساسات والكيانات المادية المستقلة عن الوعي، أو من الذرات، حسبما يقتضيه الحال، وفي جميع هذه الحالات يسقط العنصر الذاتي في المعرفة من الحساب تماما، وتنعدم الصلة، ليس فقط بين الذات والموضوع، بل بين الموضوعات ذاتها أيضا، بل إن هيوم، الذي كان يهوى دائما استخلاص أشد النتائج تطرفا، قد حلل الذات نفسها إلى معطيات متتابعة، أو «حزمة من الانطباعات»، وبذلك رد كل حقيقة، أيا كانت، إلى الانطباعات، غير أن من المحال أن نتصور كيف تستطيع الإحساسات المفككة أن تؤثر بعضها في البعض، أو تدخل في أي نوع آخر من أنواع الارتباط، والأكثر من ذلك استحالة أن نتصور كيف يمكنها التجمع سويا في ذلك الكل المنظم الذي يتبدى عليه العالم لنا في المعرفة. فمثل هذا الكلام إنما هو نهاية لأية نظرية عن الحقيقة، وهو دفع للفكر في طريق مسدود، لا يخلصه منه إلا تغيير حاسم، فالإحساس كما قال به هيوم لا يناظر شيئا حقيقيا، وإنما هو شيء مختلق وتجريد محض.
وقد تمكن جرين من تجاوز مذهب الانفصال المطلق هذا عن طريق نظريته المشهورة، التي أثارت كثيرا من الجدل في العلاقات، وهي النظرية التي تكون لب ميتافيزيقا المعرفة عنده، فعلى حين أن هيوم قد ذهب إلى أن أفكارا مثل الجوهر والعلية والخارجية والهوية إنما هي مجرد اختلاق من الذهن؛ لأنها ليست معطاة في أي انطباع، فإن جرين قد بين أن هذه العلاقات «غير الحقيقية» هي التي تتيح إمكان أية معرفة على إطلاقها، فكون أي شيء حقيقيا أو غير حقيقي، هو أمر لا يتوقف على أية واقعة أو معطى في ذاته، أو على إمكان أو عدم إمكان استخلاص أفكار من هذه الواقعة أو تلك، وإنما يتوقف تماما على العلاقات القائمة بين الوقائع، أو التي يمكن أن تدخل فيها الوقائع، «ففكرة مائة القرش، من حيث هي مجرد فكرة، هي بلا شك مختلفة عن امتلاكنا لها، لا لأنها غير حقيقية، وإنما لأن العلاقات التي تكون الطبيعة الحقيقية للفكرة تختلف عن تلك التي تكون الطبيعة الحقيقية للامتلاك.»
40
فالأشياء ليست مقفلة على ذاتها، تامة على نحو نهائي، مستقلة بعضها عن البعض، وإنما هي لا تصبح حقيقية إلا بقدر ما تخرج عن عزلتها وتشير إلى شيء غيرها. أي إن الأشياء ترتبط بعضها ببعض بعلاقات كثيرة، وتتحكم أو تؤثر في بعضها البعض على نحو متبادل، وتتشابه أو تتباين، وتتضارب فيما بينها، وترتبط في المكان أو الزمان، وما إلى ذلك. وليس معنى ذلك أن الأشياء توجد أولا في حالة تكون فيها معطاة على نحو محض، وفي عزلة كاملة، ثم تدخل فيما بعد في علاقات بعضها مع البعض، بل إن من المحال أن تتصور أو يكون لها أي معنى أو أهمية بالنسبة إلينا دون هذه العلاقات، فإذا نزعت عن الأشياء علاقاتها فلن يكاد يبقى بعد ذلك شيء، ومن هنا كانت نظرية جرين القائلة: إن حقيقة الأشياء لا قوام لها إلا ما يربط بينها من العلاقات. وبعد ذلك يتحول هذا الرأي، الذي توصل إليه عن طريق اعتبارات إبستمولوجية، إلى مبدأ ميتافيزيقي، دون أي برهان آخر خاص بهذا المجال الأخير على حدة.
كذلك تتميز أبحاثه التي تلي ذلك بهذه الصفة ذاتها، وهي الاكتفاء بنقل مبدأ إبستمولوجي إلى مجال الميتافيزيقا، فالصيغة المبالغ فيها، القائلة: إن العلاقات هي قوام الحقيقة، لا تكتسب معنى معقولا، في رأي جرين، إلا إذا أضفنا إليها أن العلاقات لا تعطى في الأشياء ومعها، وإنما هي تقرر أو تحدد عن طريق مبدأ معين للتوحيد، هذا المبدأ لا يمكن إلا أن يكون فاعلية الذهن، فالأشياء تتألف من علاقات، والعلاقات تفترض مقدما وظيفة الذهن الرابطة، على أن ما يقرر العلاقات يختلف أساسا عن ذلك الذي تربط بينه العلاقات، فهو ليس شيئا ضمن الأشياء، أو معطى ضمن المعطيات، وإنما هو نفس شروط إمكان المعطيات على إطلاقها، وشرط إمكان أي وجود؛ إذ إننا بدون الوظيفة التوحيدية التشكيلية للذهن لا نستطيع أبدا أن نعلو على المادة المختلطة التي يأتي بها الإحساس. ومن السهل أن يلمح المرء هنا الأفكار الأساسية لكانت، فالعملية الرابطة للذهن هي بعينها الوحدة التركيبية للإدراك الذاتي
synthetic unity of apperception
عند كانت، كما أن رأي جرين القائل إن هذا الفعل الرابط هو الذي يكون الحقيقة، هذا الرأي إنما هو تعبير آخر عن قول كانت إن الذهن هو الذي يفرض على الطبيعة قوانينها.
وسرعان ما يظهر بعد ذلك، بطبيعة الحال، اتجاه إلى تجاوز موقف كانت الإبستمولوجي واستخلاص نتائج ميتافيزيقية تسير في اتجاه الفلاسفة التالين لكانت ولا سيما هيجل. وقد اتجه المجهود الأكبر لجرين إلى التغلب على الثنائية التي وضعها كانت بين المظهر والشيء في ذاته، وطبيعي أنه كان من المحال، في ضوء مذهبه القائل بأن العلاقات تسري على كل شيء وتكون كل شيء، أن يقنع بعالمين لا تربطهما أية علاقة. وهكذا أوضح، في مقابل هذه الثنائية، أن فكرة الشيء في ذاته تنطوي على تناقض مشابه لذلك الذي تنطوي عليه فكرة الانطباعات عند هيوم، إذ كيف يمكن أن يدخل ما هو - حسب تعريفه - غير قابل للمعرفة، في أية علاقة مع ذهن عارف؟ لو كان الشيء في ذاته علة المظاهر؛ لوجب أن يكون هو ذاته مظهرا، على حين أن تعريفه ذاته ينص على أنه ليس كذلك، ولو كان هو المادة الخام - غير المشكلة على الإطلاق - للتجربة، لوجب أن يكون خلوا من أي تحدد عقلي. فالمادة المحسوسة المستقلة تماما عن التحديد الفكري لا تعدو أن تكون «س» غير مرتبطة بشيء، وبهذا الوصف لا يمكن أن تكون موضوعا للمعرفة ولا واقعة حقيقية، «فالإحساس المحض» تعبير لا يناظر شيئا في الواقع، وإنما هو ناتج عن تجريد مصطنع. وهكذا يقف جرين موقف المعارضة الشديدة للمذهب الحسي، ويلمح أثرا باقيا من هذا المذهب حتى في فكرة الشيء في ذاته عند كانت، وهو يذهب إلى أننا ملزمون بأن ننسب إلى الإحساس شيئا من التحدد، أعني التعاقب والشدة، وهذا يستتبع أن الفكر هو الشرط الضروري لوجود هذه الوقائع المحددة، وأن الإحساس المحض لا يمكن أن يكون عنصرا مكونا للعالم الفعلي.
وإذن فما هو هذا المبدأ الذاتي الذي هو أساس كل وجود موضوعي وشرطه؟ هنا أيضا يسارع جرين إلى ترك نظرية المعرفة، أي المذهب الكانتي بمعناه الضيق، وينتقل إلى تطبيق تأملي نظري يبدأ فيه ظهور أفكار منتمية إلى هيجل وباركلي، فمقابل الطبيعة - أي الطبيعة بوصفها نسقا من الأشياء المرتبطة فيما بينها - هو الروح، ولكن ليس المقصود بالروح هو الذات الفردية منظورا إليها نفسيا، ولا الوعي في عمومه منظورا إليه معرفيا، وإنما المقصود مبدأ ميتافيزيقي كلي، أو وعي أزلي، كما يفضل جرين أن يسميه. فالكون، بوصفه نسقا، كل عنصر فيه يرتبط بكل عنصر آخر ويفترضه مقدما ويفترض فيه، يقتضي وعيا كليا شاملا لكل شيء، يكون شرطا لوجوده، ذلك هو وحدة الكثرة، والهوية في كل تغير للمظهر، وعلاقة محتويات الإدراك العابرة بنسق الفكر، وكذلك علاقة الأشياء والوقائع الجزئية بنسق العالم في كليته. فهذا هو المبدأ المنظم الذي يبعث الوحدة وكل نوع من النظام، وهو الكل الذي يجد فيه كل جزء مكانه المنطقي، والكلي الذي يصبو إليه كل جزئي، والذي يحتاج إليه ليكمل ذاته، ولا يكون بدونه شيئا، وهو للوحدة الإلهية التي تحمل كل شيء وتحفظه، والتي يعيش فيها كل شيء ويتحرك ويجد وجوده، فهو العنصر الروحي المطلق، الذي يعلو ويتجاوز ويسبق كل ما هو طبيعي، والذي لا يوجد في مكان ولا في زمان، واللامادي اللامتحرك، الواحد أزلا مع ذاته. وواضح من ذلك أن للمبدأ الأول عند جرين أوجها متعددة؛ فهو تارة العقل الكانتي، وتارة أخرى الروح الهيجلية، وتارة ثالثة إله باركلي. ونظرا إلى قوة الاتجاه إلى الألوهية عند جرين، فإن الأخير من هؤلاء - أعني إله باركلي - يظهر لديه كثيرا، لا سيما في فكرته عن حضور كل الأشياء (أو كل الأفكار، كما كان باركلي خليقا بأن يقول) وتساميها في الله، ولهذا السبب كان في تعاليمه سلاح رحب اللاهوت المحافظ في كفاحه ضد المذهب الطبيعي والمادي المنبثق عن العلم الطبيعي. ولقد لاحظ الكثيرون أن تجدد المثالية في إنجلترا قد نشأ نتيجة المصالح الدينية والكنسية، التي اتخذت من المثالية وسيلة للدفاع ضد تأثير الداروينية والتطورية الهادم للإيمان.
ومع ذلك ينبغي ألا تنسينا هذه الصفة التي تميزت بها الحركة المثالية في بدايتها، أن تجدد الفكر الإنجليزي، مهما كان قد استغل في خدمة أغراض لها طابع غير نظري؛ يدين بظهوره، بنفس المقدار، لحافز فلسفي أصيل، ولا شك أن هذا الحافز ظاهر عند جرين، رغم أنه لم يكتسب عنده أساسا نظريا محضا، وكان قبل كل شيء تعبيرا عن اهتمامه، الذي كان أخلاقيا واجتماعيا في أساسه، والذي ربما كانت البواعث الدينية بدورها قد لعبت فيها دورا.
وتفضي ميتافيزيقا المعرفة وميتافيزيقا الوجود، اللتان يتأملهما جرين من وجهة نظر واحدة إلى الأخلاق بمجرد أن ينتقل إلى بحث الوعي المتناهي. وعلى الرغم من النقد الذي وجه إليه أحيانا (مثل نقد أ. تيلور
A. E. Taylor
في كتابه «مشكلة السلوك
The Problem of Content » ص59 وما يليها)، من أنه لا توجد إلا هوة بين الميتافيزيقا وبين الأخلاق عند جرين، فإن الأخلاق عنده تكون بالفعل جزءا عضويا من مذهبه، فما هو كل بالنسبة إلى الوعي الأزلي، يكون في البداية شيئا منقسما بالنسبة إلى الوعي المتناهي، ولا يدرك إلا من خلال التعاقب الزمني. ولكن بقدر ما يكون الوعي المتناهي مدركا للكل، مهما كان إدراكه هذا ناقصا، فإنه يشارك، بهذا القدر، في الوعي الإلهي. وعلى ذلك فالإنسان هو نقطة التقاء مركزين للوعي، الزمني والأزلي، المتغير واللامتغير بصفة مطلقة. وتؤلف العلاقة بين هذين مشكلة من أعقد مشكلات فلسفة جرين، ولا يمكن الزعم أنه وصل إلى أي حل مرض لها؛ فهو يقول عن الوعي الفردي إنه الواسطة أو الإرادة بالنسبة إلى الوعي الكلي، وإنه يشارك في هذا الأخير على نحو ما، ولكنه لا ينبئنا بشيء عن طريق هذه المشاركة سوى قوله إن الوعي الأزلي ينقل إلينا في الحدود التي تفرضها علينا أبداننا. ولقد حاول جرين، الذي كان دائما واحدي النزعة عن اقتناع، أن يتخلص من الثنائية الظاهرة هنا، عن طريق افتراض أن الوعي الذي يبدو مزدوجا في الظاهر، لا وجود له في الواقع، وأن ما يبدو لنا منه ناشئ كله عن عجز الذهن المتناهي عن فهم الوعي الواحد اللامنقسم في تمثل واحد، ولكن من الواضح أن هذا الافتراض يتهرب من الثنائية بدلا من أن يتغلب عليها.
ويتكرر مثل هذا الموقف في الأخلاق بمعناها الصحيح عند جرين، بل إن مظاهر الثنائية هنا أوضح منها في أي جزء آخر من مذهبه، وذلك راجع إلى أنه كان في مذهبه الأخلاقي أشد تأثرا بكانت مما كان في ميتافيزيقاه، وهو يتخذ نقطة بدايته من تلك الحاجات الخالصة كالدوافع والغرائز، التي هي في مجال الأخلاق مناظرة للإحساسات الخالصة في المعرفة، وهو يرى أنها بدورها تحتاج لكي تكتمل أو تتحقق إلى مبدأ يعلو عليها. والواقع أننا لا تكون لنا في المجال البشري حاجات خالصة أبدا، بل يضاف إليها دائما وعي بها وبالأشياء المرتبطة بها. وهكذا يتضح لنا هنا أيضا، كما اتضح لنا في مجال المعرفة، أن ما يوصف بأنه موضوعي خالص، ينطوي منذ البداية على إشارة إلى شيء ذاتي، وأن الانتقال من الحاجة الخالصة إلى الوعي بالشيء الذي نحتاج إليه، يفترض مقدما أن الحاجة تتمثل لذات تتميز عنها أساسا بأنها تظل ثابتة طوال تعاقب الحاجات المتغيرة. وهنا أيضا نجد، كما وجدنا من قبل، أن الذات تختلف عن العملية أو التعاقد، المماثل أمامها، وليست هي ذاتها مرحلة أو سلسلة من المراحل داخل هذا التعاقب، وإنما هي شيء باق ثابت من وراء كل ذلك، شيء تستقر فيه المراحل الجزئية المتعاقبة.
وإذن فالحاجة الخالصة ليست بذاتها شيئا، وإنما هي تشير دائما إلى شيء أعلى، أي إلى الفعل الأخلاقي، وإلى ما نعزوه دائما إلى أنفسنا، وما نشعر بأننا مسئولون عنه. ويميز جرين تمييزا قاطعا بين الفعل الأخلاقي وبين الفعل الغريزي البحت، ويسمى الأخير نفيا للأول. وهو يبين أنه على حين أن شروط أفعالنا قد تنشأ من المجال الطبيعي، فإن بواعثنا لا يمكن أن تنشأ من هذا المجال؛ فالباعث لنا على الفعل هو دائما عمل من أعمال الوعي الذاتي، وهذا لا ينتمي إلى المجال الطبيعي وإنما إلى المجال الأخلاقي، فالمسئولية التي نضطلع بها عن الفعل هي التي تجعله أخلاقيا، حتى لو كان الحافز إلى الفعل أو إلى التعجيل به مجرد حاجة حيوانية. ونحن ننسب الفعل إلى شخصيتنا، والشخصية هي وحدة حاجاتنا المتعاقبة زمنيا، أي إن هناك في جميع أفعالنا وعي يظل على ما هو عليه، يمارس فاعليته على حاجات أصلها حيواني، ويرتفع بها إلى مستوى المجال الأخلاقي. والهدف من كل هذه الأفكار، التي لا نستطيع هنا أن نتابعها في تفاصيلها، هو التفرقة القاطعة بين العالم الأخلاقي وبين الظروف الطبيعية التي ينشأ منها، والتي يظل مغلفا بها.
والإنسان هو موضوع الفعل الأخلاقي. وإنه لمما يهم الأخلاق أكثر مما يهم الميتافيزيقا ذاتها أن يكون الإنسان منتميا إلى عالمين، فيكون ابنا للطبيعة وفي الوقت ذاته مخلوقا لله. وفكرة وجود جوانب تجريبية وجوانب عقلية في الإنسان هي سمة أخرى من السمات الكانتية المنبثة في مذهب جرين الأخلاقي. فنظرا إلى وجود مبدأ إلهي فعال في الإنسان، لا يستطيع الإنسان أن يقنع بالوجه الطبيعي لحياته فحسب، وإنما يصبو على نحو متزايد إلى الحياة الأعلى الموجودة فيه، وتدفعه القوى اللامتناهية الكامنة فيه إلى أن يحقق ذاته الأصيلة ويبلغ غايته الأخلاقية عن طريق كفاح مستمر. وعلى ذلك فالفرض الذي تبنى عليه كل حياة أخلاقية هو المبدأ الإلهي الذي لا يحقق ذاته إلا في شخصيات إنسانية. وماهية الشخصية المتناهية إنما هي كونها علة حرة، شأنها شأن الوعي الأزلي، فكل حادث طبيعي منحصر في نسق أعلى، وهو نتيجة حادث سابق وعلة حادث لاحق . وما لم نبلغ مستوى المعرفة، فإننا لا نستطيع أن نصل إلى تجربة العلية الحرة، أي لعلة يمكنها إحداث معلولات دون أن تكون هي ذاتها نتيجة لعلة سابقة. ورغم اندماج الإنسان، في جانبه الحيواني، بالشروط الطبيعية ، فإنه يستطيع، بوصفه كائنا عارفا، أن يرتفع بنفسه فوق الطبيعة ويتحكم في ذاته، ويكون الإنسان فاعلا حرا بقدر ما تكون لديه، على خلاف الحيوانات العجماوات، معرفة، ومعرفة بذاته (أي يكون عارفا بذاته بوصفه عارفا). ومن الواضح هنا أيضا أن جرين لم يحل مشكلة علاقة الحرية البشرية بالحرية الإلهية، وإنما اكتفى بتأكيد الحرية البشرية عن طريق تشبيهها بالحرية الإلهية، وهكذا قال في استسلام «علينا أن نقنع بالقول إن الأمر كذلك، مهما بدا فيه من غرابة.»
41
وعندما يصل جرين إلى المهام والغايات العينية للحياة الأخلاقية، يلتزم الطريق الذي حدد معالمه كانت وفشته. فالقيمة المطلقة للشخصية الإنسانية هي مبدؤه الأول، الذي يتلو منه شرط المساواة والإخاء بين جميع الناس. فليس لأحد أن يسعى وراء أي خير، سواء لنفسه أو لأي شخص غيره، بوسائل قد تنال من خير الآخرين، وليس لأحد أن يحكم على الناس المختلفين بمعايير مختلفة. ولما كان لكل شخص إنساني قيمة مطلقة، فمن الواجب أن تعامل الإنسانية في كل فرد على أنها غاية على الدوام، لا على أنها وسيلة. ولا يمكن تحقيق الخير بمعناه الصحيح إلا إذا كان لكل شخص كيانه الذي يلتزم كل شخص آخر بالاعتراف به واحترامه. وقوام التقدم الأخلاقي إنما يكون في إدراكنا المتزايد للحقيقة القائلة إن الغاية الحقيقية للإنسان لا تكون في المظاهر الخارجية للخير، وبالتالي لا تكون في الفضائل التي نكتسب بها هذا الخير الخارجي، وإنما تكون كلها في الفاعلية الفاضلة منظورا إليها بوصفها غاية في ذاتها. فالموضوع الوحيدة الذي هو أساسي وله قيمة مطلقة، بالنسبة إلى الإنسان، هو كمال الشخصية الأخلاقية منظورا إليه على أنه تحقيق للذات الأصيلة. ولقد أدرك جرين أن الفكرة الأساسية في هذا المثل الأخلاقي الأعلى، الذي وجد أعلى تعبير عنه، في العصور الحديثة، في المثالية الألمانية ، كانت موجودة ولها أثرها في كل من أفلاطون وأرسطو (اللذين أشار إليهما صراحة)، ولكن على الرغم مما عزاه إلى الفلسفة اليونانية من قيمة رفيعة، فقد رأى أن المسيحية، عندما أدخلت مصادرات المساواة والإخاء بين البشر (وهي فكرتها الاجتماعية المميزة)، قد وسعت المجال الأخلاقي إلى حد بعيد، وإن لم تكن قد غيرت المثل اليوناني الأعلى؛ ومن ثم فقد أعطى مكان الصدارة للمثل المسيحي الأعلى، ورأى أنه يمثل خطوة عظيمة الأهمية إلى الأمام.
وإن مذهب جرين الأخلاقي ليمثل، في تطور الفلسفة في إنجلترا، انشقاقا أشد، وتغييرا أعمق من أي شيء حققه في المجال النظري بمعناه الضيق، فهو في الأخلاق قد ضرب على وتر لم يسمع من قبل في إنجلترا أبدا. ففي مذهبه الأخلاقي، كما في نظرية المعرفة عنده، نراه يهاجم المذهب التجريبي، ويرى أن رسالته في الحياة، والخدمة التي سيقدمها إلى عصره، إنما هي الحملة على أخلاق اللذة، إلى جانب ما عرضه من أفكاره الخاصة. فكيف يمكن تحقيق الغايات الرفيعة للمثل الأخلاقي الأعلى إذا لم يكن لسلوك الإنسان من مصدر سوى طلب اللذة وتجنب الألم؟ إن اللذة، بما هي كذلك، لا ارتباط لها بالأخلاق، مثلما لا ترتبط بها الحاجة بما هي كذلك. وهي لا تكتسب دلالة أخلاقية إلا عندما تدخل في علاقة مع وعي يعرفها بوصفها لذة، وعندئذ لا تعود لذة مجردة، وإنما تتحول وترتفع إلى مستوى أعلى، وتغدو عنصرا في الحياة الأخلاقية. وبالمثل فإن مجرد إضافة اللذة إلى اللذة، وموازنة مقدار منها بمقدار آخر، هو عمل لا معنى له، بل هو عمل مستحيل؛ إذ إن اللذة بما هي كذلك، مجردة من الموضوع الذي تتعلق به، والشروط التي تظهر فيها، تكون غير محددة على الإطلاق؛ وبالتالي لا يمكن إدراكها بوصفها حسا محضا. ومن الجائز بالفعل أن يقترن بلوغ الهدف المرغوب فيه باللذة، ولكنها لا يمكن أن تكون هي ذاتها موضوعا للرغبة، وإن طابع اللذة في الخير الذي نصل إليه ليتوقف على خيرية هذا الخير، وليست هذه الخيرية هي التي تتوقف على ما تجلبه من لذة. وهكذا يرفض جرين مذهب اللذة بأكمله بوصفه غير مقنع من الوجهة النظرية، وله نتائج خطرة من الوجهة العملية.
وبعد هذا الرفض القاطع لمذهب اللذة، يكون مما يدعو إلى الاستغراب حقا أن نرى جرين يعترف بالفضل العملي الرفيع الذي أسداه مذهب المنفعة إلى الأخلاق، فهو، مع إنكاره قضية مذهب المنفعة القائلة إن الخير الأسمى هو أكبر كمية ممكنة من اللذة، قد اتفق رغم ذلك مع بنتام في مصادرته القائلة بأكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، واعتقد أن مذهب المنفعة قد تمكن، بفضل هذا التمييز، من القضاء على الفوارق الطبقية، ومن تنمية الحاسة الاجتماعية، والمساهمة في حل مشكلات الإصلاح الاجتماعي والسياسي، بل إنه تخيل صيغة للنظرية النفعية مطهرة من أساسها القائم على فكرة اللذة. هذا التحول الملحوظ من الأخلاق الكانتية، التي تقصر اهتمامها على النزوع أو الاستعداد، إلى التقدير النفعي على أساس النتائج، يحدث في الباب الرابع من كتابه «مقدمة للأخلاق»، دون أن يكون قد ظهر في الأبواب السابقة أي أثر ملحوظ له، وربما كان للمؤثرات الخارجية دور في إحداث هذا التغيير. وعلى أية حال فإن مذهب المنفعة قد وجد في شخص جون ستيوارت مل وفي مؤلفاته المعاصرة، تجسدا رفيعا ونبيلا في آن واحد، وبالتالي مقبولا تماما لمفكر له ذهن مثالي، لا سيما إذا كانت له ميوله الاجتماعية والإنسانية مثل جرين. وهكذا فإن مثالية جرين الأخلاقية، على الرغم من معارضتها الشديدة لمذهب السعادة النفعي على أسس إبستمولوجية وميتافيزيقية، قد اتفقت مع هذا الأخير عندما وصلت إلى مرحلة البحث في المطالب الأخلاقية بصورة عينية، وتغلغلت في المذهبين معا روح إنسانية واجتماعية أصيلة.
42
ومع ذلك لا يسع المرء إلا أن يشعر بأن تلك النقاط التي تسامح فيها جرين مع مذهب المنفعة، مهما كان من نبل الباعث إليها، قد أدخلت عنصرا غريبا غير منسجم في التركيب العام لفلسفته، وأن الرجل الذي كانت نقطة بدايته هي إدراك عدم كفاية فلسفته القومية، وأخذ على عاتقه أن يعلن لمواطنيه حقيقة جديدة تماما بالنسبة إليهم، أحس بها إحساسا عميقا، لم يتمكن بعد هذا كله من التخلص تماما من الماضي في تفكيره الخاص، وظل نفس العدو الذي تصدى لمحاربته، والذي هاجمه بنجاح باهر؛ ظل في صدره غير مهزوم تماما. ولم يكن جرين أول من وضع تمييزا قاطعا بين الأخلاق المثالية عند الألمان وبين مذهب المنفعة القومي، وإنما كان أول من فعل ذلك هو برادلي في كتابه «دراسات أخلاقية
Ethical Studies » (1876)، ولكن هذا الكتاب لم يلق انتباها كبيرا في ذلك الوقت.
أما فلسفة جرين السياسية، فإنها، على خلاف فلسفته الأخلاقية التي عرضها في كتاب انتوى نشره وأعد معظمه بالفعل للنشر، قد وصلت إلينا في صورة محاضرات أشرف على نشرها شخص آخر من بين مخلفاته، ومن ثم فإن أهميتها الفلسفية أقل. فمذهبه في المجتمع وفي الدولة هو مجرد امتداد لمبادئه الأساسية للأخلاق في مجال الحياة الاجتماعية، فالفرد والدولة يفترض كل منهما الآخر ويتحكم فيه، ولا يمكن تحقيق الشخصية الأخلاقية إلا في المجتمع ومن خلاله. ولكن رغم أن جرين أكد العامل الاجتماعي بقوة، واعترف بما فيه الكفاية بأهمية الدولة، فإنه هنا أيضا يتوقف كعادته في منتصف الطريق؛ ذلك لأن فكرة الشخصية الأخلاقية التي أخذها عن كانت وفشته، والتي عمقت إلى حد بعيد، لم تمنعه من العودة إلى الفردية المأثورة عن الإنجليز؛ فظل يضع الفرد، منظورا إليه على أنه مستقل وحر، قبل الأفراد المنتمين إلى مرتبة أعلى كالمجتمع والدولة والأمة. وهكذا فإن عدم تحرره تماما من قيود التراث القومي، قد حال بينه وبين استخلاص تلك النتائج الجريئة التي استخلصها هيجل. وليس من الممكن تفسير ضآلة تأثير هيجل في فلسفته الأخلاقية إلى هذا الحد الذي يدعو إلى الدهشة، إلا في ضوء الحالة السياسية في إنجلترا. ولا بد لنا - لكي نصادف اعترافا غير متحفظ بالنظرية الهيجلية في الدولة - من أن ننتظر حتى يظهر بوزانكيت وغيره من الأفراد الذين هم أحدث عهدا في هذه المدرسة.
ورغم ذلك فإن جرين قد تجاوز الأفكار الإنجليزية الشائعة عن الدولة بكثير؛ فقد أكد بوجه خاص أن الدولة لا ترتكز على القوة، وإنما على الإرادة الحرة لأفرادها، صحيح أن القوة يكون لها تأثيرها في تكوين الدول، ولكن ذلك يكون دائما على أساس حقوق موجودة من قبل ومعترف بها من قبل. والفكرتان لا انفصال بينهما ، فالقوة تنبثق من الحقوق وتؤدي إلى مزيد من الحقوق، وهي بالتالي ليست إلا وسيلة لخلق الحقوق وحفظها. وفضلا عن ذلك فإن غاية الدولة هي حماية الحياة الأخلاقية لأفرادها وضمان هذه الحياة لهم، عن طريق تهيئة الظروف التي تستطيع فيها الشخصية الأخلاقية أن تزدهر وتحقق ذاتها، ومن هنا فإن القوانين هي الشروط الضرورية لهذا التحقيق للإنسان بوصفه كائنا أخلاقيا عاقلا. وإذن فليس لنا أن ندهش إذ نجد لدى جرين اتجاها إلى النزعة السلمية والعالمية. أما كون الدول لا زالت تتخذ من الحرب أداة في سياستها، فإن ذلك لم يكن في نظره دليلا على ضرورة الحرب، بل على انحطاط مستوى الحياة الأخلاقية فحسب. أما عن النزعة العالمية، فإنها لا تسعى إلى تحطيم الدولة، وإنما تشمل القومية في داخلها، وكلما اقتربت الأمة من المثل الأخلاقي الأعلى للدولة، قلت حاجتها إلى خوض غمار حروب مع أمم أخرى؛ لأن نفس القوانين الأخلاقية التي تتحكم في حياة الأفراد في المجتمع تسري بالمثل على العلاقات السياسية المتبادلة بين الأمم.
ولقد كانت مكانة جرين البارزة في أولى مراحل الحركة المثالية، والتأثير القوي الذي أحدثه، راجعا إلى الإعجاب بشخصيته العظيمة، وإلى نجاحه الباهر بوصفه معلما جامعيا، فهو قد أحيا الحركة بطاقته العقلية، وأحيا تعاليمها بنبله وقوته الأخلاقية، وبذلك رفع ما كان يمكن أن يظل مجرد نظرية، إلى مرتبة القوة الروحية الحية. على أن وفاته المبكرة قد قطعت الطريق بقسوة على كل ما كان يمكن أن تحدثه شخصيته مباشرة من تأثير. ولما كان هو ذاته لم ينشر أي مؤلف طويل فيما عدا مقدمتيه إلى هيوم، فقد بدا من المرغوب فيه جمع مخلفاته الأدبية ونشرها، وقد اضطلع بهذه المهمة أقرب تلاميذه إليه، وهو رتشارد ليويس نتلشيب
Richard Lewis Nattleship (1846-1892) الذي أضاف إلى طبعته عرضا عاما لحياة جرين وأعماله. ولقد كان نتلشيب من المتحمسين في تعليم المثالية الجديدة؛ إذ إنه وضعها منذ نعومة أظفاره، إن جاز هذا التعبير. فقد التحق بكلية «جويت» و«جرين» بوصفه باحثا، وظل فيها زميلا حتى وفاته، وكان يشاطر جويت تبجيله لأفلاطون، وتعلقه بروح الفلسفة الأفلاطونية، وهو تعلق أدى به إلى استطلاع معالمها، لا لغرض أكاديمي بحت، بل من أجل تنشيط مستمعيه وقرائه عقليا؛ فأفلاطون كان بالنسبة إليه من الرجال المثاليين، وكان مرشدا إلى الاستقامة والنبل وحكمة الحياة، ومبشرا بنظرة إلى العالم ما زالت صحيحة، وستظل إلى الأبد كذلك، وهي نظرة ينبغي على كل جيل، إذا شاء أن يمتلكها، أن يتدبرها من جديد. وكان موقفه، في مذهبه الفلسفي، مشابها لموقف جرين، ليس فقط في اتجاهه العام، بل في التفاصيل أيضا إلى حد بعيد. وقد تجسدت فيه القوى الأخلاقية والعقلية التي أشعت من جويت وجرين بأصالة وقوة تفوق تجسدها في أي شخص غيره. وكان أفضل أعماله، مثلهما، هو تدريسه الشفوي، وما كان يتجلى فيه من حرارة القول وتعمقه وحدة الذهن، وكان تأثيره أعمق وأبقى بكثير مما قد يستدل المرء عليه من كتاباته القليلة. ولقد نشر هو ذاته، إلى جانب طبعته لمؤلفات جرين، بحثا واحدا هو «نظرية التعليم (التربية) في جمهورية أفلاطون
The Theory of Education in Plato’s Republic » (في مجلة
Hellenica ، 1880)، أما كتاباته الأخرى فقد نشرت كلها من مخلفاته بعد وفاته المبكرة الأليمة في نفس السن الذي توفي فيه أستاذه جرين، وقد نشر هذه المؤلفات أ. ك. برادلي، مع تقديم عرض عام لحياته، في 1897.
43 (3) القسم الثالث: الهيجليون
كان الرائد التالي العظيم للمثالية في إنجلترا بعد جرين هو إدوارد كيرد، ولقد كان سنه مقاربا لسن جرين، وأصبح صديقا لجرين وهو لم يزل تلميذا في أكسفورد، وبدأ عمله في التدريس بعد سنوات قلائل من بداية عمل جرين في التدريس أيضا، ومن هنا فقد كان تعيينه في جلاسجو في 1866 أمرا له أهميته العظمى في نشر الحركة المثالية؛ إذ جعل لها مركزين قويين؛ فقد جعل كيرد من جلاسجو معقلا للمثالية في اسكتلندا. وهكذا بدأ ما يمكن أن يسمى بحركة تطويق للفلسفات السائدة، فتولت أكسفورد أساسا مهاجمة التفكير التجريبي والتطوري عند مل وبين وسبنسر ودارون وهكسلي، ووجهت جلاسجو هجومها، في المحل الأول، إلى مذهب هاملتن الذي كان يسيطر عندئذ على الجامعات الاسكتلندية. وفي هذا الصدد أحدث كيرد انقلابا، فعندما ترك جلاسجو ليخلف جويت عميدا لباليول، بعد سبعة وعشرين عاما من الكتابة والتدريس، كان قد أنشأ جيلا كاملا من الهيجليين الشبان، الذين خلفوه في السيطرة على الأرض التي غزاها، ووسعوها. وبعودته إلى أكسفورد ملأ أخيرا تلك الثغرة التي خلفتها وفاة جرين المبكرة، وأعاد الحركة المثالية إلى الكلية التي بدأت فيها، ودعمها هناك بشخصيته القوية وشهرته اللامعة.
ولقد كانت المهمة الملقاة على عاتق كيرد في توطين الفكر الألماني بإنجلترا مهمة فريدة في نوعها؛ فقد كان سترلنج قد أتم العمل الرائد الأول، غير أن الجهد المضني الذي بذله في كفاحه من أجل استخلاص معنى تفكير هيجل والاهتداء إلى مرادفات إنجليزية لمصطلحاته، قد ترك القناع الذي يحيط بتفكير هيجل هذا على ما هو عليه، إلا بالنسبة إلى فئة قليلة من الأذهان اللماحة، أما جرين فكان تفكيره أكثر استقلالا من أن يتيح له تقديم عرض واضح أمين لتعاليم كانت وهيجل. صحيح أن هذه التعاليم قد دخلت في إطار مذهبه، غير أن من الصعب أن يميزهما المرء، داخل هذا الإطار، الواحد عن الآخر، أو أن يفرق بينهما وبين الأفكار التي استمدها جرين من مصادر أخرى، أو بينها وبين تفكيره الخاص، كما أن أسلوبه الغامض المركز جعل قراءته أمرا عسيرا على أية حال. أما الممثلون المتأخرون للحركة، مثل برادلي وبوزانكيت وماكتجارت، فقد وسعوا الفكر الألماني وحوروه إلى حد يستحيل معه القول إن مهمتهم كانت تقتصر على توصيل مضمون هذا الفكر إلى الإنجليز بأي قدر من النقاء. وهكذا فإن كيرد، الذي كان يقل عن هؤلاء إلى حد بعيد في تقيده بأفكاره المذهبية الخاصة، كان هو الوسيط أو الموصل الحقيقي لتفكير كانت وهيجل، ولكنه لم يضطلع بهذا العمل بروح الموضوعية الجافة التي يتصف بها المؤرخ المحض، وإنما أقبل عليه بحماسة وشغف المريد والداعية المخلص، فتصرف بطريقة فذة في ذلك الكنز الذي آل إليه، وسك منه عملة متداولة يسهل على كل شخص استعمالها بعد ذلك، بل إن كيرد وحده هو الذي يرجع إليه الفضل، لأول مرة في إشاعة استخدام جميع الصيغ والتعبيرات المثالية بين جميع أفراد جيل الكانتيين والهيجليين الإنجليز، وإشاعة السخرية منها بين خصومهم. ولقد كانت لديه قدرة فذة على التعبير عن أمور عسيرة غامضة بلغة واضحة سلسلة بديعة، وأدى تحويله لالتواءات كانت وألغاز هيجل إلى أسلوبه المشرق الوضاء، إلى زيادة قدرة اللغة الإنجليزية على التعبير الفلسفي، فضرب بذلك مثلا لمواطنيه في كيفية الكلام عن مثل هذه الأمور والكتابة فيها.
وقد توج كيرد هذا كله بشخصية رائعة لها مواهبها الفريدة، غنية بالخصال التي تجذب أذهان الشباب وتأسرها؛ من حماسة وانفعال وإخلاص شديد لقضية عظيمة، وسلاسة التعبير وحرارته، فضلا عن القدرة الأدبية الرائعة التي أشرنا إليها منذ قليل، فهو في إنجلترا يمثل أنقى وأفضل نمط تجسدت فيه روح الهيجلية، وربما نصها إلى حد ما. ولقد تجنب كيرد القيام بأية محاولة من شأنها إضفاء ثبات قطعي على مذهب هيجل، أو فرضه على الناس قسرا، أو تشويهه وتبديده، وإنما استهدف أن ينشر بين الناس، وينقل إلى الآخرين، روح مذهب هيجل وماهيته، اللذين امتلك كيرد ناصيتهما واستوعبهما أكثر من كل من عداه تقريبا، دون أن يكون له من هدف سوى خدمة الحقيقة وبعث حياة جديدة في الفلسفة. لقد بلغ ذهنه من الحيوية ومن الامتلاء بالثقافة القومية والأجنبية حدا جعله لا يرضي بأن يقسم يمين الولاء للتعاليم الحرفية لأي أستاذ بعينه. فلم يكن هيجل بالنسبة إليه إلا آخر وأنضج تعبير عن نظرة مثالية إلى الأمور ظلت حية منذ أيام اليونان، لا بين كبار الفلاسفة فحسب، بل عند الأدباء المبدعين أيضا. وإن كتابه «مقالات في الأدب والفلسفة» ومحاضرات جيفورد التي ألقاها في موضوع الإلهيات عن فلاسفة اليونان، لتشهد باتساع أفق نظرته إلى المثالية بوصفها روحا باقية يعترف فيها بكل ما هو رفيع ونبيل وجميل في الإنسان، ويتحقق فيها على أكمل وجه، وهي روح كانت حية في العصر الوثني القديم، مثلما كانت حية في المسيحية، وفي دانتي وجوته، وفي روسو وورد سورث وكارليل. ولقد كانت مثالية هيجل شيئا عاشه الفيلسوف مثلما علمه، ولم تكن نصا جامدا أو نسقا من الأفكار المجردة، وإنما قوة من قوى الحياة، تجدد الإنسان من الباطن. ولم يبدأ الاكتساح الظافر للحركة المثالية الإنجليزية إلا عندما أضفى عليها كيرد، زعيمها المعترف به بعد وفاة جرين، روحا منشطة استمدها من ذهنه الرفيع، وأذاعها على القاصي والداني بكلماته القريبة إلى الأفهام، وجمع حوله حلقة من التلاميذ الذين تشربوا نفس الروح، وضمنوا استمرار عمله. والحق أن أي معلم للفلسفة لم يغرس في ذلك الوقت مثل ما غرسه إدوارد كيرد من البذور المثمرة، ولم يثر ما أثاره من الحماسة، ولم يلق ما لقيه من الإعجاب والاحترام.
فإذا تأملنا كتاباته، لكان أول ما يلفت أنظارنا فيها هو أن حوالي 2000 صفحة قد كرست لكانت، على حين لا يوجد عن هيجل إلا كتاب صغير شعبي إلى حد ما، وعلة هذه الحقيقة الغريبة هي اقتناعه بأن أهم ما في هيجل يمكن أن يفهم أولا، بمزيد من الوضوح، عند كانت، وإن كلمة «فندلبنت
Windelband » المشهورة التي قال فيها إن في فهم كانت تجاوزا له، لتصلح تعبيرا عن اقتناع كيرد هذا، إذا ما أضفنا إليها أن هذا التجاوز ينبغي أن يسير في اتجاه هيجل؛ فقد كان يقيس مذهب كانت، في كل نقطة، بالمعيار الهيجلي، ويتعسف في تطبيق المقولات الهيجلية عليه، ويبين المواضع التي كان لا يزال ينوء فيها بالاتجاهات الفكرية القديمة؛ تلك التي كان يحمل فيها البذور الخفية للمثالية المطلقة. ولقد كان نقده لكانت موجها أساسا ضد مظاهر الثنائية التي يحفل بها مذهب كانت، وضد التمييز والفصل الذي طالما تكرر لدى كانت، بين عناصر التجربة والفكر، وتلك التجريدات والتحديدات التي هي مميزاته السطحية. ومن جهة أخرى فقد رأى أن ما كان يسعى إليه كانت حقا لم يكن تلك العناصر المفككة والمتقابلات والنقائض التي لا ترفع، وإنما هو التوفيق بينها وتجاوزها في وحدة فكرية أعلى، رغم أن كانت ذاته كان كلما أوغل في السعي إلى هذا الهدف الأخير، ازداد ابتعادا عنه. وهكذا رأى كيرد أن مأساة المذهب الكانتي إنما تكون في هذا الصراع الدائم بين هدف كانت الحقيقي وما أنجزه منه بالفعل، بين هذا السعي إلى الوحدة وذاك التعلق بالثنائية، ولم يتحقق التحرر من هذا الصراع إلا في مذهب هيجل الرائع.
وهكذا ننتقل من المثالية النقدية إلى المثالية المطلقة، فتلك الوحدة التي سعى إليها كانت، والتي لم يبلغها إلا نادرا (كما في الجزء الخاص بالإدراك الذاتي الترنسندنتالي
transcendental apperception )، ليست هي الوحدة المجردة التي توجد من وراء كل الفروق، وإنما هي وحدة لا تعبر عن نفسها إلا في هذه الفروق ومن خلالها. وبدون تلك الفكرة الرائعة، فكرة الهوية مع الاختلاف، لا يستطيع الفكر أن يتقدم خطوة واحدة نحو الحقيقة الفلسفية، فإذا ما وضعنا الوجود واللاوجود، أو أي متضايفين آخرين، كلا مقابل الآخر، فلن نستطيع أن نقول إنهما مختلفان أو إنهما في هوية. ولا تكمن حقيقتهما في اختلافهما ولا في هويتهما، وإنما في هويتهما مع اختلافهما؛ فالاختلاف لا يقل أهمية عن الوحدة؛ إذ إن الوحدة المطلوبة في الفلسفة هي وحدة فردية تظل محتفظة بنفسها، ليس فقط على الرغم مما يكمن فيها من اختلاف، بل في هذا الاختلاف ذاته ومن خلاله، ولا تتجاوز الأضداد والخلافات إلا تنحل ثانية إلى أضداد وخلافات أعلى، ثم تسترجع ذاتها مرة أخرى على مستوى أعلى من هذا. تلك هي الوحدة العضوية التي يتعين علينا أن نراها معبرة عن الكون، وهي المبدأ الروحي الكامن في كل الأشياء، أي هي «المطلق».
على أنها ليست هي المطلق منظورا إليه على أنه شيء ثابت مكتمل تماما، مقفل على ذاته غير قابل لأي تطور، وإنما على أنه عملية حية أو دينامية تكشف عن نفسها بطريقة ديالكتيكية. ونظرا إلى أن كيرد قد أخذ عن هيجل ديالكتيكه ونظر إليه على أنه النبض الحي لكل وجود وكل فكر، فقد اتخذ موقفا مضادا تماما لموقف جماعة الهيجليين الأحدث منه عهدا بقيادة برادلي، الذين وجدوا أن الديالكتيك هو ذلك الجزء من مذهب هيجل الذي لم يكن في وسعهم الانتفاع بشيء منه، والذين نظروا إلى المطلق، بالتالي، على أنه سكوني
static ، ففكرة «الكون الثابت
Clock universe » عند برادلي لم تكن مقبولة لدى المثالية كما فهمها كيرد، مثلما أنها لم تكن مقبولة لدى البرجماتية التي ذاعت وشاعت قرب نهاية حياته. ولقد كانت فكرة التجدد الخلاق المستمر للكون مشتركة بينه وبين البرجماتيين، وكانت هذه هي نفس الفكرة التي نشرها برجسون بطريقته الجذابة قبل وفاة كيرد بقليل. وهكذا يتضح لنا السبب الذي تزايدت من أجله أهمية فكرة النمو أو التطور في فلسفة كيرد، حتى أصبحت هي الفكرة الرئيسية في كتابيه الأخيرين. ولهذا السبب ذاته لم يسعه إلا أن يبدي شيئا من العطف على فلسفة التطور الواسعة الآفاق عند معاصره سبنسر، مهما كان من معارضته للجزء الأكبر منها ولكل الاتجاه التجريبي الإنجليزي الذي كان سبنسر آخر ممثل هام له. ذلك لأنه شعر بوجود تقارب وثيق بين التصاعد الديالكتيكي للمقولات الهيجلية وبين فكرة سبنسر في التفاضل (أو التنوع) والتكامل، وفي إعادة التجميع وإعادة التنظيم المستمر لعناصر الأشياء. وفي وسعنا أن نلمح بسهولة، في تعريفه للنمو
development ، ذلك المركب الذي سعى إلى إيجاده بين هيجل وسبنسر، أو على الأصح، صبغه لسبنسر بصبغة هيجلية، «فالنمو عملية تفاضل (أو تنوع) وتكامل في آن واحد، أي إنها عملية يزداد فيها الاختلاف دواما، لا على حساب الوحدة، ولكن على نحو من شأنه تعميق الوحدة أيضا.»
44
وكذلك قوله: «إن النمو عملية يصعب وصفها بلغة متسقة منطقيا، ففيها يتغلغل الاختلاف والوحدة كل منهما في الآخر على نحو وثيق تماما، غير قابل لأي انفصام.»
45
كذلك كان موقفه من كونت والوضعية الذي عرضه في بحث منفصل، كما عرضه في فصل خاص من كتابه «تطور الدين»، يتصف بنوع من العطف والإشفاق، فرغم أنه لم يستطع أن يقبل الوضعية بوصفها نظرة نهائية إلى الأشياء، فقد سلم بأنها خطوة نحو تكوين مثل هذه النظرة، أو جزء من الأساس اللازم لها. أما التجريبية الجديدة منها والقديمة، وفلسفة الموقف الطبيعي عند ريد وهاملتن، فلم يقبل منها شيئا.
ويستطيع المرء أن يجد لدى كيرد عنصرا هيجليا آخر، إلى جانب الديالكتيك وكثرة استخدام تنظيمه الثلاثي للأفكار، هو تفاؤل هيجل الظافر فيما يتعلق بقدرتنا على المعرفة، والجرأة المعرفية للتفكير الذي لا يمكن أن يوضع له حد، والذي يجرؤ حتى على انتزاع قناع الغموض عن «المطلق» ذاته. ففي كل تفلسف له تلمس دائما ثقته المطلقة في قدرات العقل، وهذه الثقة هي التي ألقت عليه نضارة وحيوية أدت به إلى احتقار روح العجز التي يتصف بها مذهب الشك، وروح الاستسلام التي تتصف بها اللاأدرية، كذلك كانت الصوفية، التي تختصر الطريق الموصل إلى المطلق، منفرة في نظره، فحيث يضيء نور العقل كل شيء، تتبدد سحب الصوفية المعتمة.
وتتناول كتابات كيرد، فيما عدا استثناءات قليلة، تاريخ الفلسفة فمنها كتابه الجبار عن كانت (وهو أدق وأشمل وأعمق ما كتب عنه في الإنجليزية)، وبحثه الصغير القيم عن هيجل، ونقده البارع لكونت، وكتاب كبير إلى حد ما عن تطور فكرة الله بين الفلاسفة اليونانيين، وبضعة مقالات قصيرة عن دانتي وجوته وروسو وورد سورث، جمعت كلها، بالإضافة إلى مقال عن المذهب الديكارتي،
46
في «المقالات» (1892)، ولم يكن أي مقال من هؤلاء مجرد تمرين في كتابة الأبحاث العلمية، وإنما كان الموضوع يقارن في كل الأحوال بمذهب هيجل، وكانت كتابته في هذه الموضوعات تحفل بالروح الهيجلية، أما مؤلفاته الأقرب إلى الصبغة المذهبية فلا تشمل إلا بحثا في الميتافيزيقا،
47
ومحاضرات جيفورد التي ألقاها في موضوع تطور الدين، وتعبر هذه الأخيرة عن فلسفته الدينية، التي ينبغي علينا إيضاح أفكارها الأساسية.
كان كيرد يهدف، كمعظم الهيجليين الأوائل، وكأخيه «جون» بوجه خاص، إلى صبغ الميتافيزيقا الهيجلية بصبغة مذهب الألوهية، واستخدامها في خدمة الإيمان الديني. ولقد كان بطبيعته عميق التدين، على خلاف الهيجليين المتأخرين مثل برادلي وبوزانكيت وماكتجارت، وكان يؤمن بأن المسيحية هي أعلى تحقق للوعي الديني. ومع ذلك فقد أبقى نفسه بمعزل عن الاتجاهات المحافظة المتعصبة الضيقة الأفق، واحتفظ، حتى في الأمور الدينية ذاتها، بحرية التفكير الجديرة بالفيلسوف الحق. ورغم أن فلسفته الدينية مبنية على الأفكار الهيجلية وتعبر عن نفسها من خلالها، فإن فكرة التطور عند سبنسر تلعب فيها دورا كبيرا ، بعد صبغها بصبغة هيجلية، وهو يعرف الدين بأنه وعي متفاوت الدرجات، بتلك الوحدة اللامتناهية التي تكمن من وراء كل انقسام للمتناهي، لا سيما انقسامه إلى ذات وموضوع. وهكذا يعرف الله بأنه مبدأ الوحدة في كل الأشياء، وبأنه كائن واع بذاته متحكم في ذاته، فهو «المطلق» واللامتناهي، ولكنه مع ذلك ليس علوا لا يعرف (وهنا يرفض كيرد فكرة «اللامتناهي» عند ماكس مولر، كما يرفض فكرة «اللامعروف» عند سبنسر في نفس الوقت)، وإنما هو يوجد تماما في حدود عالم المعرفة المعقولة؛ ذلك لأن اللامتناهي الذي هو خير ليس مجرد سلب للمتناهي، ولا يتحدد سلبيا فحسب، بوصفه ما يعلو على المتناهي، وإنما هو الشرط الإيجابي للمتناهي، وهو تحققه واكتماله، ومن هنا وجب أن يكون الفكر قادرا على الوصول إليه. ففي الموجود الإلهي وحده تصل الأشياء المتناهية إلى حقيقتها الحقة وتكتسب دلالتها بوصفها عناصر يتكشف بها المبدأ الأعلى ويحقق ذاته فيها. فالدين كالعلم والفلسفة، إنما هو سعي إلى الكلي الكامن من وراء الجزئي، أو الواحد من وراء الكثرة، غير أن الدين إنما يكون كذلك على مستوى أعلى، والعلم والفلسفة على مستوى أدنى. وعلى ذلك فإن الإنسان، بوصفه كائنا عاقلا، إنما هو كائن ديني. وفي كل وعي عاقل تكون فكرة الله، بوصفه الوحدة النهائية للوجود والمعرفة، ماثلة وفعالة، وللإنسان - إلى جانب قدرته على التأمل خارجه في الإدراك الحسي للعالم المحيط به، وداخله في معرفته بذاته - قدرة أخرى على النظر إلى أعلى، إلى الموجود الإلهي الذي يوحد العالمين الخارجي والباطن وينبئنا بوجوده في كليهما، وما الدين في أساسه إلا المعقول، وذلك في أعلى صوره على الأقل؛ إذ إن الدين الذي ينبثق عن الشعور أو عن الإيمان الأعمى فحسب، لا يكون قد حقق فكرته الكاملة، التي لا تكون ممكنة إلا على مستوى العقل. وما ذلك العقل إلا العقل الهيجلي، الذي يسود هذا المجال مثلما يسود غيره. فالدين عنده إذن هو بهذا الوصف مذهب في شمول الألوهية
pantheism ، مهما كان من رغبته في تجنيب هذه النتيجة، أي إن العالم هو الله، والله هو العالم، وليس الله هو القوة العالية التي قالت بها الأديان الوضعية، وليس كائنا خارجا عن العالم أو مغايرا له، ندركه بالإيمان، وإنما هو نقطة القمة في تأمل نظري للكون، وأعلى التصورات في الفلسفة النظرية التأملية. وإن المرء ليفتقد، في هذا الدين العقلي المحض، الشعور بالعلو وما يلازمه من خشوع، وهو العلو الذي لم يستطع كيرد أن يضفيه على فكرته عن الله، رغم إيمانه الصادق. وهكذا كانت هيجليته أقوى من تجربته ذاتها.
ولقد تحكمت الهيجلية أيضا في نظريته في تطور الدين، فالصور المتنوعة للحياة الدينية، كما تتكشف في التاريخ، إنما هي خطوات في تطور «الفكرة» الدينية، وهي مراحل تمر بها الفكرة في عملية الصيرورة التي تطرأ عليها عبر الأزمان، وبين الشعوب. وهو يميز بين ثلاث مراحل للوعي الديني: الموضوعية والذاتية والمطلقة. وهي تناظر المراحل الثلاث في تطور الإنسان، وهو التطور الذي تتحكم في الإنسان خلاله فكرة الموضوع أولا، ثم فكرة الذات، ثم فكرة الله بوصفه المبدأ الموحد لهذين. وتتمثل هذه المراحل الثلاث منظورا إليها من الوجهة التاريخية، في مذاهب تعدد الآلهة
polytheism ، وشمول الألوهية
pantheism
والمسيحية على التوالي. فعقيدة المسيح هي التحقق الأعلى للفكرة الدينية، وهي الطور الذي يكتمل فيه الوعي الديني، والمرحلة التي تشتمل في ذاتها على كل المراحل الأخرى وتستوعبها وتتسامى بها. ومن الواضح أن كيرد كان هنا، كما كان في غير ذلك من المواضع، يقتفي أثر أستاذه الألماني العظيم، الذي اتخذ من الدعوة إليه غاية وهدفا لحياته.
كان جون كيرد، شقيق إدوارد كيرد الذي كان يكبره بكثير، والذي كان لاهوتيا بارزا وواعظا مرموقا، ذا ميول هيجلية واضحة ظهرت في كتابه «مدخل إلى الفلسفة الدينية»، وهو أهم كتاباته الفلسفية. بل إنه قد دعا إلى الهيجلية من فوق منبر الكنيسة، وكان له دون شك نصيب كبير في تغلغلها في الدوائر اللاهوتية باسكتلندا. ولقد كان كأخيه خطيبا وكاتبا لامعا، وكانت له مقدرة تفوق مقدرة أخيه ذاتها في تحرير أفكار هيجل من الأغلال التي قيدها بها هيجل، وإضفاء تعبيرات شعبية غير متخصصة عليها. كذلك كان الشقيقان متشابهين في مذهبهما، فقد التزمت الفلسفة الدينية عند جون حدود الهيجلية بدقة. وكانت فلسفته هذه تؤثر المخاطرة الفكرية التأملية على عزوف مذهب اللاأدرية عن الحكم عند هاملتن ومانسل وسبنسر. كما أعلن في فلسفته معارضته للمحاولة التي قام بها التجريبيون لتعريف الدين من خلال أولى مراحله وأدناها، فأكد أن قيمة أي دين لا تقاس إلا بأعلى فكرة تحقق فيها، وهذه «الفكرة» سابقة على جميع الصور التي تبدت فيها الحياة الدينية، وهي تكون أساسا لها كلها، بحيث لا يمكن فهم تاريخ الدين إلا في ضوئها. أما تلك العناصر الذاتية اللاعقلية - من خوف وأمل وعاطفة وخرافة - التي رأى التجريبيون أنها هي العناصر الأساسية للدين، فإن قيمتها أقل بكثير من العنصر العقلي، مهما كان لها من أهمية تاريخية أو غيرها. فالقوة الدينية على التخصيص إنما هي العقل، ومن الواجب أن يتحدد طابع الدين وماهيته، لا بعمق الشعور، وإنما بالمعرفة والبصيرة النفاذة، وهنا تتخذ المعقولية عند جون كيرد طابعا أصرح مما كان لها عند أخيه.
وهو يرفض فكرة الإله الخارج عن العالم، أو الإله الذي خلق العالم وما زال يحكمه من خارجه، وإنما الله هو أعمق ماهية للعالم، تلك الماهية التي تشتمل على جميع الأشياء المتناهية وتتغلغل فيها بوصفها روحها المطلقة. فالإنسان هو كائن متناه ومشارك في حياة الله في آن واحد، ومن ثم فهو مواطن في عالمين، الروحي والطبيعي. من هنا كانت طبيعته تتسم بذلك القلق والشقاق الدائم الذي لا نجد له في عالم الحيوان نظيرا. هذا الانفصام الذي تتصف به الطبيعة البشرية قد يجد له دواء مؤقتا في الحياة الأخلاقية، غير أن هذا ليس دواء نهائيا، إذ إننا لا نصل في الحياة الأخلاقية إلى بداية ذلك الزوال للذات الفردية، وذلك التوحيد بين حياتنا وبين ذلك المجال الدائم الاتساع، مجال الحياة الروحية التي تتجاوزها. وهما أمران لا يتحققان بأكمل صورة إلا في الدين، فالدين هو المجال الذي يختفي فيه نهائيا التعارض بين الطبيعي والروحي، بين الفعلي والمثالي، والذي لا يعود فيه المثل الأعلى اللامتناهي غاية لا تتحقق، وإنما يصبح شيئا متحققا بالفعل. وهكذا فإن كل تفكير ديني عند كيرد إنما يهدف إلى التوفيق والتوحيد بين الإيمان والمعرفة، بين الدين والفلسفة، وأهم من ذلك كله، إلى زيادة كمال عقيدة المسيح بالهيجلية، أما الفروق العميقة بين هذين، فهو يدعها جانبا دون أن يعيرها انتباها.
أما جون واطسون
John Watson (ولد في 1847)
48
أستاذ الفلسفة الأخلاقية في جامعة «كوينز»، بولاية كنجستن (في كندا)، فقد كان تلميذا للأخوين كيرد، وكان اسكتلنديا مثلهما، وقد اقتصرت معظم كتاباته - وهي عديدة، نشرت كلها في جلاسجو - على عرض الموقف المثالي والتوسع فيه، والتعريف بأبرز ممثليه الألمان، أما مؤلفاته المذهبية (وهي «المسيحية والمثالية
Christianity & Idealism » 1896، و«الأساس الفلسفي للدين
The Philosophic Basis of Religion »، 1907، و«تفسير التجربة الدينية
The Interpretation of Religions Experience »، 1912، في مجلدين، وهذا الأخير نشر لمحاضرات جيفورد)، فتتعلق في المحل الأول بفلسفة الدين، التي يقف فيها - كما في سائر المجالات - موقفا أقرب إلى الأخوين كيرد منه إلى أي مصدر آخر.
كان ولاس، وهو اسكتلندي بدوره، ينتمي إلى الجيل الأول من تلاميذ هيجل الذين تجمعوا في العقد السابع من القرن الماضي حول جويت وجرين وإدوارد كيرد. وقد تحكم هؤلاء الأساتذة إلى حد بعيد في تعليمه الفلسفي، وساعدوا على تحديد اتجاه تفكيره المتأخر ومحتواه. ولقد كان ولاس من أول وأقدر مترجمي هيجل ومفسريه، وساهم في محاضراته وكتاباته معا بدور بارز في تفسير المثالية الألمانية. ولقد بدأت عملية إتاحة مؤلفات هيجل الرئيسية للطلاب الإنجليز في ترجمات موثوق بها، وهي العملية التي لم تبدأ إلا أخيرا بترجمة لكتاب «المنطق الأكبر»،
49
بدأت هذه العملية بترجمة لكتاب «المنطق» الأصغر، وأعقبه، بعد فترة طويلة، كتاب «فلسفة العقل» (الجزآن الأول والثالث من «دائرة المعارف» لهيجل). ولقد لقي كتاباه عن كانت وشوبنهور إقبالا واسعا، ونقل أفكار هذين المفكرين إلى عدد كبير من القراء . وكان ولاس يتمتع بقدرة نادرة على تخليص الحجج الفلسفية من اللغة المحيرة المغرورة التي يعبر بها المتخصصون عنها، وعلى إعادة التعبير عنها بأسلوب أدبي سلس مشرق. ورغم أنه كان من أخلص تلاميذ هيجل، فإنه لم يكن يحجم أبدا عن تغيير نصه ليزيد المعنى وضوحا. ومن الجائز أن أحدا لم يقم بمثل المجهود الذي قام به ولاس في تذليل صعوبة دراسة هيجل في إنجلترا؛ فقد خلع على هيجل ثوبا جديدا، جعله أقرب إلى النفوس والعقول في بلد يكره اللغة الثقيلة الغامضة التجريدية ولا يثق بها.
ولكن رغم أنه كان على وجه العموم يسير في أعقاب هيجل، فقد كان أكثر استقلالا من أن يرتاح إلى مذهب محكم الإغلاق، ولقد كان يفتقر إلى ذلك الحافز التأملي الذي اكتسبه كثير من الهيجليين الإنجليز من هيجل ذاته. وكان يؤثر دراسة فكرة واحدة وإيضاحها بالنظر إليها من زوايا عديدة، على جمع عدد من الأفكار في مذهب واحد. ويظهر ذلك بوضوح في تفسيره لهيجل، الذي يتخذ شكل أبحاث لمشكلات خاصة، تقلب وتختبر من جميع أوجهها، وهي أبحاث تتصف بالحيوية والدقة الشديدة، ولكن الكثير منها كان جزئيا غير مترابط، فيؤدي ذلك إلى عدم إظهار وحدة تفكير هيجل وإحكامه بما فيه الكفاية. ولكن، على الرغم من استقلال ولاس وعزوفه عن وضع تعاليم ثابتة، واعترافه بإمكان وجود طرق متعددة توصل إلى المثالية، فإن إيمانه بحقيقة النظرة المثالية كان راسخا عميقا، وكان يرى أن ضيق الفلسفة الإنجليزية المنطوية على ذاتها لا يمكن التغلب عليه «بالأيديولوجيات» الفرنسية، أو بأفكار عصر التنوير السطحية، وإنما بذلك الدواء الأقوى الذي تقدمه المثالية في الصورة التي بلغتها في ألمانيا. «فالمثل الذي ضربه لنا الألمان قد نجح في توسيع أفكارنا عن الفلسفة وتعميقها، أي في جعلنا ننظر بمزيد من التقدير إلى وظيفتها، وندرك أنها في أساسها علم، وأنها علم الحقيقة العليا.»
50
ولا يتصف أي كتاب مما نشره هو ذاته بالصفة المذهبية، وهكذا لا نستطيع أن نعرف ما كان يقول به هو ذاته من التعاليم إلا من خلال محاضراته ومقالاته التي نشرت بعد وفاته، والتي تتناول الفلسفة الأخلاقية والسياسية والدينية قبل كل شيء، ولقد كانت فكرته الرئيسية، في المجال الأول من هذه المجالات الثلاثة، هي التعاون الاجتماعي، أما في المجال الثاني فكان يفضل ديمقراطية حرة، مع ميول اشتراكية واضحة، وكانت الدولة في نظره هي التنظيم الأعلى الذي يوحد كل الأشكال الأدنى للتجمع الاجتماعي ويشتمل عليها. أما في فلسفة الدين فقد كان قريبا كل القرب من الأخوين كيرد، ولا سيما من تفسير جون كيرد النظري التأملي للمسيحية. فقد كان التجسد الذي لم يعد واقعة تاريخية منفردة وإنما رآه حقيقة أزلية، يعني بالنسبة إليه التجلي المنظور لكمون الله في الإنسان، وللروحي في المادي، والأزلي في الزماني. فالإنسان ليس مجرد ناتج للطبيعة، كما يقول الماديون، ولا مجرد ابن للسماء، كما يقول الأفلاطونيون، وإنما هو نتاج مشترك لعوامل طبيعية وروحية، غير أن الطبيعة والروح هما حقيقة واحدة منظورا إليها تارة من الظاهر وتارة من الباطن. فالألوهية التي توجد في الإنسان بالقوة وتحيا فيه، ترفعه فوق مستوى النظام الطبيعي الذي هو جزء منه، وتكسبه سيطرة عليه وتحررا منه. وهكذا تسفر المثالية عند والاس، كما هي الحال عند معظم الهيجليين الأوائل، عن مذهب في الألوهية، وتبدو دعامة للدين وأداة له.
كان ريتشي من أولئك الذين كان يدينون بتحولهم للمثالية إلى اتصالهم الشخصي بجرين. ولقد تلقى أول تعليم فلسفي له على يد فريزر وكالدروود في إدنبرة، غير أن تفكيره لم يتخذ وجهته النهائية حتى دخل جو الحياة العقلية في أكسفورد في أواسط القرن الثامن. في ذلك الوقت كان أرنولد توينبي (1852-1883)، الاقتصادي والمصلح يعمل بنشاط هناك، وكان إيمانه المتحمس بالاشتراكية، الذي لم يعبر عنه في قاعة المحاضرات فحسب، بل في خدمات متفانية قدمها خارج الجامعة. كان هذا الإيمان يقدم للجيل الجديد من طلاب الجامعة والدراسات العليا مثلا رائعا للشعور بالمسئولية الاجتماعية. وهكذا فإن ريتشي، الذي كان في اتجاهه العام ومثله العليا قريبا من ذهن توينبي وجرين قد نضج في صحبتهما، وبفضلهما قبل غيرهما، واتخذ في نضجه وجهة سارت به في اتجاه البحث العملي، كالفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، التي كرس لها كل كتاباته تقريبا. لقد كان هدفه الأول هو إيضاح هذه الميادين وتنظيمها عن طريق مقولات المثالية الجديدة ومبادئها. وليس معنى ذلك أنه تجاهل مشكلة إيجاد أساس نظري لها؛ فقد كان في هذا الصدد أشد تمسكا بالهيجلية من جرين؛ ذلك لأنه تلقى من هذا الأخير الحافز الذي دفعه في اتجاه المثالية بوجه عام. أما فيما يتعلق بالمضمون الخاص لمثاليته، فقد كان يرجع في معظم الأحيان إلى هيجل نفسه مباشرة، وهذا واضح حتى في أول مؤلفاته، الذي تناول فيه مشكلة «معقولية التاريخ»، أو إمكان قيام فلسفة للتاريخ - وهي مشكلة نادرا ما خاضها الإنجليز - وناقش جميع أطرافها من وجهة نظر هيجلية، هذا على الرغم من أنه لم يتوسع في هذا البحث إطلاقا فيما بعد. كذلك حرص على أن يوضح - بطريقة فلسفية - العلاقة بين الأصل والقيمة، وبين المنهجين التاريخي والمنطقي، وأوضح مرارا أن مسائل الواقع ينبغي أن تظل دائما منفصلة عن مسائل القيمة؛ إذ إن تفسير واقعة على أساس أصلها هو أمر لا صلة له بقيمتها. وكان يرى أن لهذا المبدأ أهمية عظمى في كل تفكير عن الأخلاق والدين والمجتمع والدولة، ولكنه طبقه بوجه خاص في نقده للمذهب التطوري، فالتطوريون، الذين يقصرون اهتمامهم على بحث أصل الشيء، والتتابع الزمني لأحواله، عاجزون تقريبا عن إدراك مغزاه.
أما في آرائه في المنطق ونظرية المعرفة والأنتولوجيا فقد كان أقرب إلى المذهب المطلق منه إلى مذهب الكثرة الذي تتصف به المثالية الشخصية، واتفق إلى حد بعيد مع آراء برادلي في الواحد والكثير، والفردي والكلي، والمظهر والواقع، ودرجات الواقع، وما إلى ذلك. وفي نظريته في الدولة، عارض المذهب الفردي الشائع في المدرسة الإنجليزية القومية؛ فالدولة في نظره كل عضوي، له حق العلو على المجتمع والأفراد، والتدخل على نطاق واسع في شئون الآخرين. وعلى الرغم من أنه كان يؤيد قيام شكل ديمقراطي للحكومة، فإنه لم يكن غافلا عن نقط الضعف في المذهب البرلماني الليبرالي، ومبدأ الاقتراع العام، وطالب باختيار السياسيين المسئولين عن طريق معيار أرستقراطي هو النزاهة والمقدرة. أما في بقية التفاصيل فقد كان يشارك جرين ميله الواضح إلى الاشتراكية، وإن لم يكن قد بناها بالطبع على أية أخلاق للمنفعة، وإنما على مبدأ قيمة الإنسان الأخلاقية، واستمدها من المبدأ المثالي القائل بالذات الاجتماعية، ومسئولية هذه الذات تجاه الجماعة. ولم تكن رسالته هي الرفاهة والسعادة، وإنما التوازن الاجتماعي والفاعلية الاجتماعية.
ولما كان تفكير ريتشي يتحرك كله تقريبا، كما هو واضح، في نطاق المشكلات والحلول المعروفة المميزة للهيجلية الإنجليزية، فربما كان العرض السريع السابق كافيا. غير أن هناك مسألة أخرى ينبغي ملاحظتها، إذ إنها تدل على خروجه على النمط المألوف؛ ذلك لأن المدرسة المثالية قد هاجمت الداروينية والمذاهب المبنية عليها، بقوة منذ البداية، وقد أعطى كتاب سترلنج عن هيجل إشارة الهجوم، وكان كثير ممن تبعوه يعدون قهر الداروينية واجبهم الخاص إزاء عصرهم وبلدهم، أما بحث ريتشي عن «دارون وهيجل»،
51
الذي جمع فيه بين هذين الخصمين معا، فقد أحدث ضجة هائلة في الأوساط الفلسفية. ومن الطبيعي أن المحاولة الجريئة التي بذلها لإظهار وجود علاقة باطنة بين فكرة التطور البيولوجية وفكرة التطور الهيجلية، وبالتالي لإدماج الداروينية في المذهب المثالي؛ هذه المحاولة كان مقضيا عليها بالإخفاق منذ البداية. أما المشكلة الخاصة التي تعرض لها ريتشي فكانت مشكلة الانتقاء الطبيعي، التي حاول أن يربطها بنظرية معقولية الواقع عند هيجل، فبقاء الأصلح يعني أن ما له قيمة معينة؛ أي قدر معين من المعقولية هو وحده الفعلي أو الحقيقي، وزوال الأضعف يناظر العلو على العامل السلبي في الديالكتيك الهيجلي. ولا جدال في أن محاولة ريتشي بعث الانسجام بين أكبر قوتين عقليتين في القرن الماضي قد انحرفت كثيرا عن الطريق السديد، غير أن اهتمامه بدارون قد جعل له مع ذلك بصيرة صادقة في نقطة واحدة، فقد رأى أن تطبيق المقولات البيولوجية على الحياة الاجتماعية للإنسان لا يمكن أن يتحقق دون بحث نقدي في العلاقات المحددة التي تسري على المجال الجديد. فمهما كان من فائدة أو أهمية تطبيق مبدأ الانتقاء، فإن من واجبنا أن نتذكر أن المجتمع البشري لا ينطوي على مجرد صراع من أجل الوجود، كذلك الذي نراه في عالم الحيوان، وإنما على صراع مخالف تماما، له ظروف أكثر تعقيدا بكثير. فنظير المبدأ البيولوجي في المجال البشري هو المنافسة الصناعية والتجارية، والتنظيم التكنولوجي لأحوال المعيشة، والظروف الاجتماعية والتعليم وما إلى ذلك، والتطور الاجتماعي يرتكز على التعاون، لا على سحق الأقوى للأضعف. وبانتهاج ريتشي لهذه الفكرة في التفكير، ارتفع فوق مستوى مذهب التطور الطبيعي إلى ما أسماه بمذهب التطور المثالي. وبهذا الاتجاه العام ساهم في التفكير اللاحق بدور أنجح كثيرا من الدور الذي ساهمت به محاولته الخاصة لتوسيع نطاق المثالية عن طريق إيجاد تلك الرابطة غير الطبيعية بين الأفكار الهيجلية والداروينية.
كانت فلسفة جونس، بقدر ما كان لها من مضمون محدد، مثالية هيجلية بالصورة التي أضفاها عليها كيرد، فمنذ اللحظة التي طلب فيها العلم على أستاذه العظيم، وهو طالب شاب وافد إلى جلاسجو من ويلز، اعتنق مذهب الحركة الجديدة وكرس نفسه لها بكل ما في طبيعته المتحمسة من قوة. وظل طيلة حياته تلميذا مخلصا لكيرد، الذي كان يدين له بكل شيء تقريبا. ولقد كان يدرك أنه ليس مفكرا أصيلا؛ لذلك عد نفسه واعيا وحارسا لكنز ثمين، هو النظرة المثالية إلى كل الأشياء، التي أخذ على عاتقه أن يذيعها بين أكبر عدد ممكن من الأذهان ويبثها فيهم. فالمثالية كانت هي اليقين الفلسفي الوحيد، الذي يتعين حفظه مصونا، على الرغم من أن أسسها يمكن أن توسع ومضمونها يمكن أن يطبق بنجاح في ميادين متزايدة للنشاط الإنساني. وكان تحقيق هذا التوسيع والتطبيق هو المهمة التي كرس لها جونس جهده، وهي مهمة حققها على أفضل وجه في الفلسفة الدينية والاجتماعية والسياسية.
وربما لم يدع أحد إلى المثالية بمثل هذا التفاني والإخلاص الجريء، والحماسة الأصيلة التي دعا بها إليها جونس؛ فقد كان أقل اهتماما بالبرهان منه بالدفاع البليغ والإقناع الحي؛ إذ إن كل فلسفة هي في نظره موقف عن الحياة وقوة روحية أكثر منها مذهبا من التعاليم النظرية. وهكذا فإن جونس قد استوعب - بحرارة التجربة الشخصية المباشرة - ما شيده كيرد وكسبه عن طريق التفكير المضني الدقيق، فحوله من بحث إلى إيمان، ومن مذهب إلى شعور، بل حوله في أحيان غير قليلة إلى حماسة خيالية أو نوع من الوجد الصوفي. فالمثالية كانت في نظره جزءا من حياة عملية، واعتناقا لإيمان وعقيدة، وشيئا عاشه وآمن به وأعلن أنه هو الأمر الوحيد اللازم. وبالاختصار فقد أصبحت الهيجلية عاطفية عند جونس، وهو نبيها وحواريها، وقد حملها كأنه رسول إلى أقصى حدود الإمبراطورية عندما دعي في 1908 إلى إلقاء محاضرات في جامعة سيدني عن «المثالية بوصفها عقيدة عملية»، وهي مناسبة فيها بعض الشبه من محاضرة هيجل الافتتاحية المشهورة في هيدلبرج سنة 1816.
وإذن فلم يكن من المستغرب أن يبحث جونس عن المحتوى المميز للفلسفة المثالية خارج المؤلفات الفلسفية المتخصصة، وأن يجده في ذلك الطابع الأخلاقي الذي تتسم به أوجه النشاط العملية للإنسان، وفي اعتناق عقيدة (ولا سيما العقيدة المسيحية)، وقبل ذلك كله، في عامل دائم خلاق هو الأعمال الأدبية العظيمة. فالشعراء يعبرون بصورة جميلة عما يصوغه للفلاسفة بلغة التصورات المجردة. ومن ثم فإن جونس قد اقتبس من كبار فناني الأدب كثيرا من العناصر التي تؤيد مذهبه وتدعمه؛ فعنده أن لسنج وجوته وورد سوث وبروننج، قد أعلنوا على طريقتهم الخاصة تلك النظرة إلى العالم التي عبرت عنها فلسفة كانت وفشته وهيجل وأتباعهم من الإنجليز بطريقة التصورات. ولقد رأى في شعر بروننج بوجه خاص تعبيرا رفيعا عن الشعور والمقصد المثالي، ووصفه، في كتاب رائع خصصه كله له، بأنه «معلم فلسفي وديني أصيل». ولهذه الأسباب ذاتها أحس بتقارب وثيق مع كارليل، الذي وجدت طبيعته التنبئية وبلاغته الدافقة تجسدا جديدا لها في شخص جونس.
ولسنا هنا بحاجة إلى الدخول في تفاصيل مضمون تعاليمه الفلسفية؛ إذ إنها لم تكد تتجاوز تعاليم الهيجليين الأوائل الذين عرضنا لهم من قبل، فنحن نصادف لديه مرة أخرى جميع العناصر المألوفة في المذهب، بعد إعادة صياغتها بطريقة بارعة ؛ كتضايف الفكر والوجود، والمثالي والواقعي، والروحي والطبيعي، والجمع بين الأضداد في وحدة «الكل» العليا الشاملة لكل شيء، والتركيب الروحي للكون، والحملة على كل أنواع الثنائية بوصفها تجريدات باطلة، واستبعاد العرضي واللامعقول، وفكرة النسق المترابط، والمطلق بكل صفاته ووظائفه المألوفة، وكمون الله في الطبيعة والإنسان، والتوحيد بينه وبين المطلق، وتشخيص الله، وتحقق الأخلاق في الدين، والتفاؤل الميتافيزيقي الساذج، وما إلى ذلك.
ولم يبق علينا إلا أن نلاحظ أن الفارق بين الاتجاهات المتقدمة والاتجاهات المتأخرة في المدرسة الهيجلية ازداد وضوحا وشدة عند جونس؛ فقد أحس مرارا وتكرارا بأنه مضطر إلى نقد تشويهات برادلي وبوزانكيت وتزييفهم للهيجلية في صورتها الأصلية. وقد حرص مرارا على إيجاد تمييز قاطع بين موقفه وبين موقف بوزانكيت بوجه خاص. وكانت نقطة الخلاف الرئيسية هي التقابل بين الواحدية والثنائية، صحيح أن الموقف الذي اتخذه برادلي وبوزانكيت يمكن قطعا أن يوصف بأنه واحدي بمعنى ما، ولكنه بدا موقفا ثنائيا واضحا من وجهة نظر أولئك الذين يمضون، مثل كيرد وجونس، في اتجاه الوحدة إلى حد استخلاص أبعد نتائجها؛ لذلك عكف جونس على تصيد مظاهر الثنائية عند برادلي، وعند بوزانكيت على نحو أوضح، وهي ثنائية المظهر والحقيقة، والمتناهي واللامتناهي، والنسبي والمطلق، والأهم من ذلك كله تلك الثنائية التي تفصم الطبيعة البشرية إلى شقين متغايرين. فجونس كان يرى أن الإنسان ليس بحاجة إلى الخروج عن ذاته ليبلغ المثل الأعلى، ولا يتعين عليه أن يغير ذاته بالاندماج في المطلق؛ إذ إن ذاته ستضيع تماما عندئذ، وإنما الواجب عليه بالأحرى أن يصبح ذاته، ويحقق الإمكانيات الكامنة فيه، وعندئذ يكون قد وصل إلى اللامتناهي بحق، بل يغدو «هو» المتناهي في عملية صيرورته.
وهكذا استعاض جونس عن العلو على الذات عند بوزانكيت بتحقيق الذات وبعث الكمال فيها، كذلك كان يرى أن المطلق ليس حالة تسكن فيها كل حركة، وتستقر في ذاتها مباركة إلى الأبد، وإنما هو عملية دينامية أزلية التقدم، يكون الزمان فيها عاملا حقيقيا، لا مجرد مظهر، وهنا نلمس التضاد بين نزوع جونس إلى الفاعلية والبرجماتية ، وهو نزوع يذكرنا كثيرا بنظيره عند فشته، وبين الموقف الأقرب إلى التأمل والسكينة عند القائلين بالمثالية المطلقة.
وهناك نقطة اختلاف أخرى، فجونس قد اعتقد أنه قد اكتشف أعراض مرض خطير في نظرية المعرفة التي قال بها برادلي وآخرون؛ إذ إن في هذه النظرية نزعة ذاتية تكاد تقرب من مذهب «الذات الوحيدة»، وهي تستتبع النظر إلى الواقع على أنه هزيل أو متلاش تماما، وهكذا آلى على نفسه أن يحاربها. ولما كان يرى أن لوتسه، الذي كان تأثيره في الفكر الإنجليزي هائلا، مسئول عن ظهور هذا المرض، فقد كرس لنقد نظرية لوتسه مؤلفا خاصا، هو واحد من أفضل كتاباته، فهو يرى أن المشكلة الرئيسية في نظرية المعرفة لا تجد حلا مرضيا في الذاتية ولا في الموضوعية، فالذهن ليس مستقلا عن الموضوعات، ولا الموضوعات مستقلة عن الذهن، وما نصادفه في المعرفة إنما هو حركة عالم موضوعي حقيقي في وسيط هو الفكر، وبدلا من أن نتصور المعرفة على أنها محاولة لاقتناص الواقع في شبكة من التمثلات والتصورات، علينا أن نتصور الواقع على أنه مبدأ فعال يكشف عن ذاته لنا في عملية التفكير. فليس ثمة حاجة إلى جلب الذات والموضوع والفكر والواقع سويا، وإنما هما مقترنان منذ البداية، بوصفهما القطبين اللذين يقع بينهما ما نسميه بعالمنا. فالمثالي والواقعي ليسا عالمين منفصلين، وإنما هما عنصران لا ينفصلان داخل كون واحد، وهكذا يسود مفهوم الواحدية تفكير جونس.
ترجع الأصول الفلسفية لمويرهيد إلى جيل الهيجليين الأقدم عهدا، وقد تلقى تعليمه في مركزي الحركة، وهما جلاسجو وكلية باليول بأكسفورد. ودرس على كيرد وجرين على التوالي، فطبع هذان تفكيره بالطابع الخاص المميز له، وحددا الاتجاه الذي سار فيه فيما بعد. ولقد أخذ عن كيرد الهيجلية في الصورة التي اصطبغت بها تحت تأثير الهيجليين الإنجليز الأصليين في العقد الثامن، أما جرين فإليه يرجع اهتمامه بتطبيقها على مشكلة الحياة العادية. وتتناول معظم مؤلفاته المذهبية مشكلات الأخلاق والحياة الاجتماعية والسياسية، بينما لم يعالج الفروع النظرية البحتة للفلسفة إلا لماما، وحتى في هذه الحالة كان بحثه متجها إلى علاقتها بالفروع العلمية أكثر مما كان مبعثه أي اهتمام بها لذاتها. وفيما يتعلق بالأسس النظرية لتفكيره، فقد كان على اتفاق يكاد يكون كاملا مع فلسفة أستاذه كيرد، التي حاول بالفعل أن يوسعها لا أن يغيرها.
ولكن على الرغم من أن مويرهيد لم يحاول أن يدخل أي عنصر جديد بحق على المثالية الإنجليزية، فإنه يحتل بين أولئك الذين قاموا بدور الأوصياء على تراث كيرد وجرين مكانة بارزة؛ فقد احتفظ حتى يومنا هذا بحيوية ونضارة القوة الدافعة التي ولدت الحركة ذاتها، وسار بها في جو متغير عبر زمن تتحرك فيه الفلسفة بمؤثرات آتية من جهات مختلفة كل الاختلاف. وغيرت فيه المثالية ذاتها معالمها الأصلية تغييرا عميقا متعدد الأوجه، بعد أن كادت جذوتها تخبو، وإن لم تكن قد خبت تماما، فهو لا يزال واحدا من القلة القليلة الباقية من تلك الأيام الزاهرة التي دخل فيها الفكر الإنجليزي مرحلة جديدة من تطوره.
على أنه لم يحفظ المثالية بوصفها تراثا ميتا، أضفى عليه ثباتا قطعيا، وإنما تظهر مزاياه الخاصة والخدمة التي أداها في حرصه الدائم على أن يحتفظ بصفاتها الحيوية المثمرة عن طريق تكييفها مع الظروف الزمنية المتغيرة. وهكذا أعمل فكره في المشكلات والمواقف حديثة العهد، وحاول أن يوسع نطاق الأشكال والمذاهب القديمة بقدر الإمكان، ليجعلها قادرة على تقبل كل ما هو صحيح في الأفكار الجديدة. ويتمثل هذا النزوع في الموقف الوسط الذي اتخذه من الخلافات السائدة في مجال علم الأخلاق في عصره، ففي مذهب اللذة تكون غاية الفعل الأخلاقي ومعياره هي اللذة. ولكن مذهب السعادة
Eudaemonism
يأتي بتصحيح هام؛ إذ يعلن أن الخير الأسمى ليس هو اللذة وإنما السعادة، وليس مجرد مجموع من المشاعر التي يعد كل منها مستقلا عن الباقين، وإنما هو تلك المشاعر التي تهدف إلى خدمة كل ويعلو على أية ذات بعينها. وليس معنى ذلك أن في وسع مذهب السعادة أن يقدم حلا مرضيا للمشكلة الأخلاقية، وإنما فيه، كما يقول مويرهيد، مقابل مفيد لتلك النظرية الأخرى، أخلاق الواجب ، التي تركز اهتمامها بنفس القوة على عنصر واحد فقط، هو العنصر المعقول في الطبيعة البشرية، فأخلاق الواجب من أجل الواجب تخضع الحياة الأخلاقية لقانون شكلي مجرد فحسب، وبذلك تسلبها كل ما هو نفيس غال بالنسبة إلينا، فالواجب لا يكون أبدا واجبا بالمعنى التجريدي أو مطلقا محضا، وإنما هو يشير دائما إلى موضوع محدد لاهتمام البشر، وهو يشعر بنفس القدر من النفور من المثل الأعلى لعالم يوجد فيه كل فعل عمدا ضد رغباتنا ومصالحنا، والمثل الأعلى لعالم لا يوجد فيه إحساس بالواجب على الإطلاق. وهكذا يعرف مويرهيد الأخلاقية بأنها إطاعة قانون يفرضه الإنسان، بوصفه وحدة واعية بذاتها، على العناصر الكثيرة المؤتمرة
subordinate
في طبيعته. وفضلا عن ذلك فقد حاول مويرهيد أن يجعل فكرة التطور، كفكرة السعادة، مثمرة في الأخلاق، وإن يكن قد عارض بالطبع النظريات الأخلاقية للفلاسفة التطوريين، فكون المعايير الأخلاقية تتغير بتغير الزمان والمكان لا يعني عدم وجود معيار شامل للأفعال الأخلاقية، والأمر الذي يكشف عنه التطور فعلا هو أن الفروق الواقعية في الأحكام الأخلاقية تفترض مقدما مبدأ واحدا للتقويم تستمد منه اتجاهها المعياري، وأن المعايير المختلفة ينبغي أن تعد مراحل في تطور مثل أعلى أخلاقي واحد وفي تحقيقه لذاته. وهكذا يكون من الممكن - من وجهة النظر هذه - ترتيب المعايير المختلفة في الماضي والحاضر ترتيبا تصاعديا حسب قيمتها، وبالرجوع إلى هذا الترتيب نستطيع أن نحدد درجة التقدم الأخلاقي.
ولقد أتاح الطابع المرن الواسع الأفق لمثالية مويرهيد، أتاح له أن يخفف حدة التعارض بين التعبيرات المتقدمة والمتأخرة عن الحركة المثالية، وأن يجمع قوى المثالية في اتجاه واحد، وبذلك أضاف إلى الذخيرة المشتركة للمدرسة أفكارا قيمة مستمدة من مختلف المذاهب المطلقة والشخصية التي تولدت عن المدرسة. كذلك أتاح له «مذهبه المفتوح» أن يساير، وأن يستوعب إلى حد ما، التيارات المضادة للمثالية، وهي البرجماتية والواقعية، التي ظهرت قرب أواخر القرن الماضي. ولقد أقر بصحة النقد البرجماتي القائل: إن الهيجلية، ولا سيما في صورتها المطلقة، قد تجاهلت أكثر مما ينبغي ذلك العنصر النزوعي الغرضي في التجربة، ووضعت «فكرة» جامدة فوق مثل أعلى مرن حي. وهكذا قال إن المثالية تستطيع أن تقبل هذا النقد، وعندما تفعل ذلك لا يكون قد بقي تعارض بينها وبين البرجماتية العقلية. أما بالنسبة إلى حركات مثل الواقعية الجديدة، التي أوحى بها العلم الطبيعي، والتي أعملت الفكر الفلسفي في نتائج هذا العلم، فقد اعترف بأن على المثالية أن تلائم بينها وبين التفكير العلمي؛ فلم يعد من الممكن ترك تلك النظرة المثالية إلى العالم، التي فعلت الكثير من أجل الفلسفة، تتجاهل فلسفة الطبيعة أو تعزف عنها، ومن ثم فمن الواجب إيجاد أساس أوسع للثقافة العقلية للمثاليين، إذ إن هذه وحدها هي الطريقة التي تتيح للمثالية - من حيث هي فلسفة - أن تظل حية وسط المسائل الملحة في العصر الحديث، وأن تدخل بوصفها شريكا متساوي الحقوق في الاتفاق الذي يجري إعداده بين الفيزياء وبين الميتافيزيقا، والذي قد يحدد مصير الفكر. وهكذا دعا مويرهيد الفلاسفة إلى تناسي الخلافات التي تفرق بين المدارس والمذاهب، وأضفى على دعوته هذه صورة عملية في سلسلة «مكتبة الفلسفة
Liber. of Phil. ». التي يشرف على نشرها، وهي سلسلة من المؤلفات لمفكرين معاصرين، أجانب وإنجليز، ينتمون إلى اتجاهات مختلفة كل الاختلاف، وكذلك في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة» (الذي يناظر كتب «العرض الذاتي للمذاهب
Selbstdarstellungen » الألمانية ...) والذي اجتمع فيه لأول مرة مختلف ممثلي الفلسفة المعاصرة في إنجلترا لتقديم موجزات شخصية لآرائهم.
وأخيرا فقد ساهم مويرهيد بنصيب ملحوظ في تاريخ الحركة المثالية، فقد وضع الحركة في إطار عقلي أوسع، وحاول على هذا الأساس أن يفهم أصلها وتطورها، فضلا عن مغزاها العام، وقد تتبع ما أسماه «بالتراث الأفلاطوني في الفلسفة الأنجلوسكسونية» حتى بداياته الأولى، وكشف - على خلاف الطريقة المألوفة في العرض - عن تيار موحد مستمر للتفكير المثالي، يسري طوال تاريخ الفلسفة الإنجليزية بأسره، وإن كان يتخذ أحيانا صورة تيار غير ظاهر. وقد أوضح كيف أن الأرض في إنجلترا كانت ممهدة للتجديد الذي حدث في القرن التاسع عشر بتأثير ألمانيا، قبل ظهوره المفاجئ بوقت طويل، وذلك أولا عن طريق الشعر الرومانتيكي لشلي وكيتس ووردسورث وكولردج (وقد كتب مويرهيد عن هذا الأخير بحثا كان غاية في العمق)، ثم عن طريق أدب الكتاب في العصر الفكتوري، مثل كارليل وإمرسون وتينسون وبروننج وأرنولد، وأخيرا عن طريق ذلك التغير العام في الأفكار والنظم، الذي تميز به النصف الثاني من القرن الماضي. ولما كان مويرهيد شاهد عيان على ظهور الحركة المفاجئ في العقد الثامن من ذلك القرن، ومساهما فيها بنشاط منذ ذلك الحين، فقد كان أصلح الجميع للعودة بنظره إليها في فترة الكهولة من حياته الطويلة، وتأملها في مجموعها، والكشف للجيل الجديد، عن قصة تطورها والكنوز التي تحويها تعاليمها.
كان ماكنزي، مثل جونس ومويرهيد، من أولئك الذين يدينون لإدوارد كيرد باهتمامهم المبكر بالفلسفة. ولقد ظل إلى النهاية على ولائه لأستاذه العظيم، واعترف في آخر مؤلفاته بأنه «مجرد سائر متواضع في طريق التأمل المثالي الذي أعتقد أن أستاذي الأول، إدوارد كيرد، كان خير مرشد فيه.»
53
وقد تناول أول كتبه موضوع الفلسفة الاجتماعية وثانيها الأخلاق، أما في سنواته الأخيرة فقد اهتم أساسا بالمشكلات الكبرى للميتافيزيقا، ومشكلة القيم المرتبطة بها. وكان، مثل معظم الهيجليين، قليل الاهتمام بنظرية المعرفة وعلم النفس، كما أهمل المنطق.
وهو يعرف الميتافيزيقا بأنها «الدراسة المنهجية التي تسعى إلى إيجاد نظرة شاملة إلى التجربة، بغية فهمها في كل منهجي.»
54
وهو يعني بالتجربة هنا الكون بما هو كذلك، أو الواقع في مجموعه، الذي يسميه بالكون المنظم
Cosmos ، والذي يكون العالم الزماني المكاني وجها جزئيا واحدا له. وكما يدل اسم «الكوزموس»، فإنه يجعل فكرة النظام أساسية في تصوره للكون، أما العالم المحيط بنا فبعيد كل البعد عن ذلك النظام الكامل الذي يتصف به الكون (الكوزموس)، ومن جهة أخرى فلا يمكن أن يعد هذا العالم مجرد فوضى؛ لأنه ينطوي على قدر غير قليل من النظام، ولأن العوامل المؤدية إلى النظام فيه تغلب، عموما، على تلك المؤدية إلى الاضطراب. ولما كان الأمر كذلك، فإن لنا الحق في أن نفترض أن عالمنا ليس إلا جزءا من كل أكبر يتصف بالنظام الكامل، هو «الكوزموس». ومن أمثلة العوامل المؤدية إلى الاضطراب، كل ما هو عرضي متغير، والأهم من ذلك: التعاسة والشقاء والألم والشر، فوجود الشر في عالمنا هو العقبة الكبرى في وجه الإيمان بالانسجام الكامل في الكون، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك «شيئا له طبيعة الشر»، يظل موجودا بالضرورة، من وجهة نظرنا المحدودة، غير أن هذا لا يتناقض مع الافتراض القائل إنه قد يكون هناك انسجام كامل من وجهة النظر الشاملة. ويعرض ماكنزي هذه الآراء بدقة كاملة في الفقرة الآتية: «إن العرضية والتغير والشر الظاهري، التي نجدها في العالم كما نعرفه، يمكن أن تعد كلها متمشية مع حقيقة نظام كامل، إذا ما استطعنا أن نفترض أن الكل روحي في أساسه، وأنه يحقق ذاته عن طريق عملية تغير، تتضمن في مراحلها الأولية نوعا من الافتقار إلى النظام وما يتبعه من ظهور العرضية والشر، ولكنها تسير متدرجة نحو الوحدة الكاملة، التي يحتفظ فيها بالعملية بطريقة أزلية واعية.»
55
ويستتبع التمييز بين الكون المنظم وبين العالم الزماني المكاني أن يكون الأول لا متناهيا والثاني متناهيا، وقد وجد ماكنزي في الفيزياء حديثة العهد تأييدا لثاني هذين الرأيين، وهو يتوسع في هذه الآراء الشديدة العمومية، «التي هي بالضرورة ذات طابع نظري تأملي إلى أبعد حد.»
56
ويؤيدها بعرض مفصل لهذين المجالين وعلاقة كل منهما بالآخر، أعني المجال المكاني الزماني الكيفي العلي، ومجال الوعي والقيمة والمنطق والأخلاق وهكذا. ويناظر هذا الجزء من نظريته، بشكل عام، مبحث المقولات.
ولقد تزايد إلى حد بعيد تأكيد ماكنزي، في تأملاته الميتافيزيقية الأخيرة، للطابع الإيجابي لما هو عرضي مفتقر إلى الضرورة، بالنسبة إلى تأملاته القديمة العهد، فقد وقع تحت تأثير بعض أفكار ف. ك. س. شيلر، ود. فوست
D. Fawcett ،
57
وأصبح في هذه الفترة المتأخرة يقول إن الأساس الأخير للأشياء عقل خلاق، لا يتصور على أنه فرد مشخص، وإنما على أنه عقل كوني، يكشف عن ذاته ويعبر عن نفسه في أذهان متناهية، وواضح أن هذا هو «المطلق» عند الهيجليين، ولكنه ليس المطلق السكوني المفارق الثابت عند برادلي ، وإنما هو مطلق يحركه خلال مجرى العالم نزوع خلاق، كما هي الحال في المطلق عند فوست. ولقد حدث تغير يناظر هذا في وجهة نظره، أدى به إلى وضع الخيال في موضع مواز للعقل، وإلى ربطه به بوصفه ملكة فلسفية هامة. ومن الواضح أن ماكنزي هنا يصطنع تحالفا زائفا؛ إذ ليس ثمة عنصر مشترك بين الهيجلية وبين خيالات «فوست» الفلسفية، وإنا لنجده أيضا في مواضع أخرى يفتت كيان الهيجلية الذي كان متسقا من قبل، عن طريق إدماج أفكار غريبة فيه، مستمدة من أحدث تيارات الفكر الإنجليزي.
ويظهر مثل هذا الميل في مذهب ماكنزي في الأخلاق، الذي عرضه بدقة وبالتفصيل في كتاب موجز رائع، فهذا المذهب، في صورته الأصلية، يرفض النزعة الشكلية الصارمة عند كانت، ويدعو إلى المثل الأخلاقي الأعلى بوصفه تحقيق الذات العاقلة، وينظر إلى فكرة الخير على أنها أعلى القيم كلها. وتلك بطبيعة الحال هي الأفكار الأخلاقية الرئيسية في المدرسة الهيجلية التي هي أقدم عهدا، غير أن الأخلاق عند ماكنزي قد طرأ عليها فيما بعد، بتأثير ج. أ. مور
G. E. Moore
وآخرين، تغيير ملحوظ، ابتعد بها عن نقطة بدايتها، فلم يعد الخير في نظره هو القيمة العليا، وإنما أصبح مجرد قيمة واحدة ضمن قيم أخرى، شأنه شأن الحق والجمال، بل لقد أصبح ماكنزي ميالا إلى إعطاء المكانة العليا للجمال، وذلك نتيجة لميله المتزايد إلى تحقيق الاكتمال في مذهبه، ولرغبة جمالية في صياغة جميع المشكلات الفلسفية في نظام كامل.
ولقد كرس ماكنزي كتابين كاملين للفلسفة الاجتماعية، وكانت فكرته الرئيسية هي التعاون الخلاق بوصفه أهم أساس للحياة الاجتماعية في كل صورها، وقهر النوازع الحيوانية في تركيبنا، وتنمية طبيعتنا العقلية والروحية، وتناظر ذلك ثلاثة أوجه أو وظائف للدولة، هي الاقتصادية، والسياسية أو التشريعية، والتعليمية أو الروحية. ولقد كان ماكنزي متأثرا في هذا بفكرة شتينر
Steiner
عن الكائن العضوي ذي الأعضاء الثلاثة،
58
وقد رفض الاعتراف بأن فكرة الدولة القومية هي الشكل الوحيد، أو الأفضل، للتنظيم الاجتماعي، ودعا بدلا منها إلى نظام للإخاء واحد بين جميع الدول، وهناك ارتباط واضح بين نزعته العالمية هذه (
Cosmopolitanism ) وبين قوله بالعالم المنظم
Cosmism
في الميتافيزيقا.
وكما أوضحنا من قبل، فإن الصفة المميزة لماكنزي هي تفتيته للأرض الصلبة للمدرسة الهيجلية القديمة، وتفتحه المتزايد للأفكار الجديدة، بل لأحدث الأفكار عهدا . وقد أدى تفتحه الذهني الواسع الأفق هذا، وطريقته المرنة المتسامحة في التفلسف، وطبيعته الحذرة التي جعلته يمتنع عن ادعاء الإتيان بأية حلول نهائية؛ أدى ذلك كله إلى جعله يصلح وسيطا بين مختلف تيارات الفكر، ويرمز إلى مدى تحرر الهيجلية حتى من ذلك القدر الضئيل من التزمت وثبات العقيدة الذي كانت قد اكتسبته من قبل. فهو أوضح مثال لما أسماه بوزانكيت «بتقابل الأضداد في الفلسفة المعاصرة». ولقد كان الشعار الذي اتخذه لنفسه، والقائل: إن كل عقيدة ثابتة، في مجال الفلسفة، تجديف؛ كان هذا الشعار خير تلخيص لموقفه، فهو قد أخذ أفكارا جديدة من جميع الجهات، ووزنها واختبرها، واستبقى أفضلها، غير أنه لم ينجح على أي نحو في إدماج الجديد في القديم. وكيف كان يتسنى له ذلك وقد اشتمل الجديد على أمور متنافرة مثل خيالات «فوست» الغريبة المسرفة، وتحليل مور المفرط في التدقيق والتعمق، وفكرة الفاعلية عند البرجماتيين، ومذهب التطور الظافر
emergent Evolutionism
عند ألكسندر، وصوفية ماكتجارت الجافة، والنتائج العلمية الدقيقة التي أتت بها الفيزياء الحديثة؟ كل هذه اتجاهات لا يمكن جمعها تحت سقف واحد، ومن هنا كان ذلك الانطباع العام الذي يعطينا إياه بوجود نزعة تلفيقية لديه، ونوع من الإعياء الفكري، وعدم الاستقرار، يوضح لنا السبب الذي لم يواجه من أجله ماكنزي مشكلاته مواجهة حقيقية أبدا، وإنما تركها تدفعه وراءها دون أن يتمكن هو ذاته من السيطرة عليها. ولقد كان ذلك كله راجعا إلى حصيلته المفرطة من المعرفة، وتطرف النزعة إلى التوفيق لديه؛ مما جعله يرغب في إنصاف كل اتجاه، واستيعاب كل ما كان صحيحا وشريفا وذا سمعة طيبة. وهكذا كان ماكنزي مفكرا مهذبا محببا إلى النفس أكثر مما كان مفكرا قويا متمسكا بموقفه.
على الرغم من أن مؤلفات اللورد هولدين الفلسفية لا تكون إلا جزءا صغيرا من أعماله الرائعة التي كانت متعددة الأوجه إلى حد يبعث على الدهشة؛ إذ كان فقيها مشرعا وبرلمانيا وسياسيا ومصلحا جامعيا وفيلسوفا وكاتبا؛ فلزام علينا أن نعدها مركز حياته، الذي كانت جميع أوجه نشاطه الأخرى مجرد إشعاعات له، وقد أنبأنا هو ذاته في ترجمته الذاتية لحياته، أن مثاليته الفلسفية قد صاحبته في جميع أوجه نشاطه العملية، وأنه قد عاشها فعلا، وأدمجها في كل وجه من الأوجه المتعددة لحياته. ولقد كان هولدين - من بين الهيجليين الإنجليز في جيله - أصرحهم في إبداء إعجابه بالمفكر الألماني العظيم، وأخلصهم في التتلمذ عليه، فأخذ بمذهبه كاملا تقريبا. وهكذا نجد في كتاباته أقوى اعتراف بالهيجلية في اللغة الإنجليزية، باستثناء ما نجده لدى سترلنج، فهو يقول: «إن كل ما في هذه المحاضرات قد أخذته أو اقتبسته عن هيجل ... فليس في وسع أي مفكر آخر أن يفيد الباحث عن الحقيقة بمثل ما يفيده به هيجل، فهيجل هو «أعظم معلم» للمنهج النظري التأملي عرفه العالم منذ أيام أرسطو.»
59
ولا نكاد نجد واحدا غير هولدين، ممن كانوا ينتمون إلى نفس هذه المدرسة، يجرؤ على أن يقول عن نفسه، دون أي تحفظ: «إنني راض بالقول إنني هيجلي، وأود أن أسمى كذلك.»
60
وتميز هولدين، فضلا عن ذلك بفهم عميق للحياة والحضارة الألمانية عامة، وتعاطف تام معها، وهو أمر لم يفقه فيه واحد من معاصريه الإنجليز، كما لم يقترب منه، في سعة نطاق معلوماته ورحابة ذهنه، إلا القلة القليلة. ولقد انصب تبجيله الأعظم، إلى جانب هيجل، على حكمة «جوته» العميقة والواضحة في نفس الآن، فكان هذان - أعني الفيلسوف العظيم والشاعر العظيم - هما النجمين اللذين استرشد بهما في حياته. ومما يدل على ذلك أنه طبع صورتهما في كتابه «مسلك إلى الحقيقة». أما في الفلسفة على التخصيص فكان دينه الأعظم لأرسطو، من بعد هيجل، وكان دائما ينظر إلى تفكيره الخاص على أنه ينتمي إلى ذلك التراث المثالي العظيم الممتد من اليونانيين الأوائل، مارا بأفلاطون وأرسطو، إلى كانت وهيجل ولوتسه. ولقد قابل لوتسه وهو طالب في جامعة جوتنجن ، في السابعة عشرة من عمره؛ فضاعف هذا من اهتمامه بالفلسفة، وأثرت شخصيته الرائعة في نفسه تأثيرا عميقا ظل يلازمه طوال حياته، كما تعرف إلى سترلنج في إدنبرة قبل ذلك بقليل، وعرف هناك أيضا كتابات جرين وكيرد التي أدت، كما شهد هو نفسه، «إلى دفعي في اتجاه المثالية.»
61
ولقد استمد هولدين، من أجل إثراء الفلسفة، عناصر من الحياة العملية والفن والدين والشعر والعلم، وهو أمر لا يستغرب على شخص كان له مثل هذا الذهن الواسع الأفق. وكانت تجمعه في ذلك قرابة روحية بهيجل، بل إنه قد فاق هذا الأخير في اهتمامه البالغ بالعلوم الطبيعية، وإدماجه نتائجها في مذهبه؛ إذ كان هدفه هو تجديد الهيجلية بمساعدة ما توافر منذ عهد هيجل من معارف جديدة أكثر دقة. ولقد أظهر هذا الرجل، الذي كانت مشاغله عديدة هائلة، حماسة وتفهما يدعو إلى الدهشة، حتى في الأعوام التي أصبح فيها متقدما في السن، في التعمق في أسرار الفيزياء الحديثة، ولا سيما نظرية النسبية، وفي ربط مبادئها بالمشكلات الفلسفية. ولقد كانت النسبية فكرة من أفكاره المركزية، التي عرفها على أسس فلسفية محضة قبل نشر نظرية أينشتين، في كتابه «مسلك إلى الحقيقة» (1903-1904). ولما تبين له - فيما بعد - أن في نظرية أينشتين ما يبدو أنه تأييد لها؛ توسع فيها، ولا سيما في كتابه «عهد النسبية». فالحقيقة واحدة غير أن هذه الواحدية أو الكلية ليست واضحة للذهن البشري للوهلة الأولى؛ إذ لا يرى هذا الذهن إلا أوجها جزئية منها، ويتأمل هذه الأوجه في تركيبها الخاص وفي طريقة وجودها الخاصة، من وجهة نظر جزئية. على أن وجهة نظر عالم الفيزياء مختلفة عن وجهة نظر عالم البيولوجيا، وهذه مختلفة عن وجهة نظر الفيلسوف؛ لذلك كانت معرفة الفيزيائي جزئية شأنها شأن عالم الموضوعات التي يدرسها، ولم يكن في وسع مقولاته أن تمتد إلى العالم البيولوجي. والواقع أن كل وجهة نظر خاصة إنما هي نسبية فحسب إذا ما نظر إليها في ضوء الحقيقة الكلية. هذا بصورة مجملة هو المبدأ العام والفلسفي البحت للنسبية، الذي لا يعد مبدأ أينشتين - في نظر هولدين - إلا تطبيقا جزئيا له. ونستطيع أن نطلق على هذا الموقف اسم «العلاقية
relationism »، تمييزا له من الموقف الذي شاع أن يطلق عليه اسم النسبية
relativism ، والذي لا يجمعه به أي عنصر مشترك.
ويقتضي مبدأ النسبية ارتباطا وثيقا بين الفلسفة والعلوم الخاصة، أي بين وجهة النظر الكلية ووجهات النظر الجزئية. وقد عبر هولدين عن هذا المطلب صراحة في أول بحث فلسفي كتبه (علاقة الفلسفة بالعلم)، وهو البحث الذي تكاد تظهر فيه جميع الأفكار الهامة التي قال بها فيما بعد. وليس قانون النسبية، في أساسه، إلا قول هيجل إن الحقيقة هي الكل، صحيح أن وجهات النظر الخاصة في العلوم المختلفة تظل محفوظة في المعرفة من حيث هي كل، ولكن ينبغي أن نضيف إلى ذلك أمرا لا يقل عنه أهمية، هو أنها لا تجد لها مكانا، ولا تدخل في علاقة بعضها مع البعض، إلا في هذا الكل. أما النظر إلى أي وجه جزئي على أنه مطلق، وتجميد أي فرع للمعرفة على صورة يصبح معها مستقلا عن الفروع الأخرى وعن الكل، فأمر فيه تناقض مع مبدأ كلية الحقيقة ووحدة الواقع. فالواقع، في ماهيته النهائية، هو روح، لا تدرك خلال المراحل المتعددة للوجود والمعرفة إلا نفسها، ولا تكشف إلا ذاتها، خلال مرورها بعملية الإدراك الذاتي الديالكتيكية، فهي الكل العيني، وهي وحدة المعرفة والوجود، والحقيقة والواقع.
كل هذا ينطوي على فكرة الكل العيني، وهي الفكرة التي تلعب لدى هولدين دورا يماثل في أهميته دورها لدى بقية الهيجليين. وهي تدل على ماهية الفكر، وتنطوي على العناصر المميزة لعامليه، وهما الكلي المحض والجزئي المحض، اللذان يكونان مجردين تماما، إذا ما أخذا على حدة، شأنهما شأن الذاتي والموضوعي مأخوذين على حدة. فعينية الفكر تعني إدماج أوجهه المنعزلة المجردة عمدا، بحيث يتم التغلب على الانعزالية عن طريق فاعلية الفكر الدينامية أو الديالكتيكية، التي تتقدم من وجه إلى وجه حتى تبلغ الحقيقة في كل عيني يجمع بين هذه الأوجه كلها.
هكذا كانت أفكار هولدين الأساسية هيجلية كلها، ومن الواضح أن رأيه القائل إن كل ما هو حقيقي محتشد بالمعنى منذ البداية، وإن المعنى هو ماهية الحقيقة الواقعة، هذا الرأي يعبر مرة أخرى عن قول هيجل بمعقولية الواقع، وهنا يصبح الواقع، مرة أخرى، مقيدا بعلاقته بالفكر، ولا يكون ممكنا إلا داخل المعرفة. وتلك، من الوجهة الإبستمولوجية، هي فكرة هيجل القائلة إن الفكر هو الذي يصنع لنفسه حدوده، وهو الذي يستطيع أن يتجاوزها. وأخيرا فإن هولدين - مثل هيجل - يرى أن الفلسفة، بوصفها وصول الروح المطلقة إلى الوعي الذاتي والتحقيق الذاتي، لا تكون ممكنة إلا من حيث هي مذهب، وهو يضع أسس هذا المذهب في المجلد الثاني من «المسلك إلى الحقيقة»، فيكشف عن الأوجه المتعددة للروح في المراحل المتناهية والمطلقة من تطورها.
ويمكن وصف موقف هولدين، منظورا إليه على نحو شامل، بأنه مزج بين الهيجلية وبين نظرية النسبية، أو بعبارة أصح: بأنه إثراء للأولى بالثانية. وهكذا كشفت الفلسفية الهيجلية عن خصبها الدائم في هذا التجديد المستقل لذاتها في ميدان خاص للمعرفة غريب عنها تماما، كالفيزياء النظرية الجديدة؛ إذ إن نظرية أينشتين لم تكن، في نظر هولدين، إلا اعترافا بأن مبدأ هيجل الأساسي هو المبدأ الصحيح لكل علم على الإطلاق، وبأن المعرفة التي كشف النقاب عنها حديثا إنما هي مثل جديد يوضح الإطار المذهبي الذي وضعه هيجل ويزيده ثراء.
تنتمي كتابات بيلي قبل الحرب العالمية الأولى إلى تراث الهيجلية الإنجليزية، بل لقد قيل عنه إنه كان «من نواح عديدة، أشد الهيجليين الحاليين تمسكا بأصول المذهب»،
63
غير أن كتاباته التالية، التي تأثرت بصدمة الحرب تسير في اتجاه مخالف تماما؛ لذلك فإن أعماله الفلسفية تنقسم قسمين متميزين، بل متعارضين إلى حد ما.
ولقد ربط بيلي اسمه باسم هيجل، لا بوصفه شارحا ومترجما له فحسب - وذلك في كتابين قيمين ساهم بهما بنصيب كبير في تشجيع الدراسات الهيجلية بإنجلترا - بل أيضا في كتابه المذهبي الأول «عرض عام للتركيب المثالي للتجربة». فهذا الكتاب، وإن يكن مستقلا فيما عرضه من التفاصيل، لا يعدو في أساسه أن يكون تلخيصا - بتصرف - للأفكار الرئيسية في كتاب «ظاهريات الروح» لهيجل، وهو الكتاب الذي عده بيلي «أعظم ما أنتجه الفكر المثالي في الفلسفة الحديثة». وهو يعرض - معتمدا على كتاب هيجل اعتمادا كبيرا - الطريقة التي ترتفع بها التجربة البشرية من مرحلة إلى أخرى، مكونة تركيبات جديدة أخصب في كل مرحلة أعلى، حتى تصل - في مستوى الوعي الذاتي - إلى وحدة الذات والموضوع، التي تعلو فيها المستويات الدنيا، من إدراك وفهم، على ذاتها وتصل إلى أعلى وحدة لها. وهنا يعطي بيلي للديالكتيك الهيجلي، الذي كان المذهب الهيجلي الإنجليزي يتجاهله عادة، حقه كاملا، وتظهر «الفكرة»، لا على أنها مبدأ متحجر ثابت، كما هي عند جرين وبرادلي وبوزانكيت وغيرهم، بل على أنها عملية حية تتقدم بطريقة ديالكتيكية. على أن هذا التجديد الذي اكتفى فيها بمحاكاة تفكير هيجل قد تأخر عن أوانه جيلا، بمعنى أنه أتى بعد أن كانت الحركة الهيجلية في إنجلترا قد تجاوزت بكثير مرحلة التقيد الحرفي بهيجل، وأصبح لها كيانها المستقل.
ولا يكاد يوجد أي ارتباط فكري بين المثالية المطلقة التي ظهرت في كتابات بيلي الأولى وبين الموقف المختلف تماما، الذي نصادفه في كتاب له ظهر بعد الحرب الأولى، هو «دراسات في الطبيعة البشرية». ولا شك أن السبب الرئيسي لهذا التغيير الملحوظ، هو تلك التجربة التي أحس فيها إحساسا عميقا بمأساة الحرب العالمية الأولى وعدم وجود داع لها، وهي المأساة التي أدت، بما ولدته من اضطراب شامل ودمار هائل في العلاقات البشرية، إلى زعزعة تامة لإيمانه بالعقل الهيجلي الذي يحكم العالم، بحيث لم يعد يقبل بعد ذلك أي تبرير؛ لذلك تحول بيلي إلى البحث في الطبيعة البشرية. ويمكننا أن نقول إنه انتقل رجوعا من هيجل إلى هيوم؛ إذ أصبح يجعل من الفردية العينية للإنسان موضوعا رئيسيا لاهتمامه الفلسفي. ولقد ظهرت بالفعل نقاط اتصال بينه وبين هيوم، من أمثلتها: الاهتمام البالغ بتأكيد العوامل غير العقلية في التفكير والمعرفة، والنظر إلى جميع المشكلات الفلسفية بطريقة كلها تركز حول الإنسان وتشبه به. ولم تعد الفلسفة عند بيلي - حينئذ - طلبا للحقيقة الكلية أو وصول العقل إلى الوعي بذاته، وإنما أصبحت مسألة شخصية محضة لكل مفكر، تتجه أساسا إلى إرضاء حاجاته النظرية الفردية، فهي السعي إلى بلوغ أقصى حد من الرضا يمكن أن يجلبه التفكير للفرد. والغاية الوحيدة للحقيقة هي الوصول بالذهن الإنساني إلى الانسجام والطمأنينة. مثل هذه التعاليم، التي يظهر فيها، بالإضافة إلى ما سبق، تيار برجماتي واضح، تستتبع صبغ الفكر بصبغة ذاتية فردية نفسانية، أي إنها تقلب تماما اتجاه المثالية المطلقة الذي دافع عنه بيلي من قبل عن اقتناع كامل. وبالمثل أصبح ينظر إلى العلم نظرة تشبيهية بالإنسان، بوصفه اختراعا بشريا يعبر عن نشاط بشري تدفعه حاجة ملحة. وهكذا فإن هذه المرحلة الأخيرة من مراحل تعليمه، التي أحرق فيها كل جسور ماضيه الفلسفي تقريبا، قد استقرت أخيرا في تراث الفكر القومي الإنجليزي. وتلك هي الحالة الوحيدة لمثل هذا التطور، وهي حالة لم تكن راجعة إلى اعتبارات باطنة، وإنما إلى ظروف خارجية.
لا يسعنا، إذا شئنا أن يكتمل العرض الذي نقدمه، أن نتجاهل ج. أ. سمث، الذي اختتم به فرع الهيجليين، ولقد تلقى سمث تعليمه، شأنه شأن الكثيرين من السابقين عليه، في أكسفورد، وفي الكلية التي ظهرت فيها الحركة، حيث اتصل شخصيا، منذ وقت مبكر، بممثليها البارزين مثل جويت وإدوارد كيرد ونتلشيب، الذي كان المشرف عليه في الكلية. كذلك استمد رصيدا من الأفكار الهيجلية من برادلي وبوزانكيت، وإن كان ذلك بصورة أقل تمسكا بالأصل، على أنه عكف في الوقت ذاته، اقتداء منه بالتراث السائد في أكسفورد، على دراسة الكتاب اليونانيين، فكرس أبحاثا طويلة عميقة لأرسطو، وظل سنوات متعددة يعد واحدا من أبرز الباحثين في أرسطو بإنجلترا، وشارك بهذه الصفة في نشر ترجمة أكسفورد الهامة لأرسطو، التي ختمت في عام 1931 بترجمته الخاصة لكتاب «النفس». ولقد كان إتمام هذا العمل، وكذلك تأثيره العميق بوصفه معلما، هما أهم ما ساهم به في ميدان البحث الفلسفي.
أما فلسفته الخاصة فليست لها أهمية كبيرة إذا ما قورنت بمساهماته السابقة، كما أن قلة كتاباته تجعل من الصعب تقديم صورة دقيقة لها. ولقد مرت هذه الفلسفة بتقلبات وتغيرات كانت أكثر من أن تتيح لنا إدراجها تحت أية تسمية واحدة، بل إن افتقارها إلى الثبات هو بالفعل أبرز سماتها، وقد ألقى سمث ذاته ضوءا واضحا على هذه المسألة في عرضه الشخصي لتطوره الفلسفي في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، فهو هنا يقدم اعترافا غريبا، في صراحة تصل إلى حد السذاجة، فيقول إنه لم يدرك بالضرورة التفكير في وضع مذهب فلسفي إلا عندما عين لشغل كرسي الأستاذية في الفلسفة، بل لشغل واحد من أهم كراسي الأستاذية في الجامعات الإنجليزية، ولقد أعانته على هذا التفكير المذهبي صدفة موفقة، هي عثوره على مؤلفات كروتشه
Croce
في أثناء إقامة له في نابولي، ومنذ ذلك الحين شعر بأن واجبه يقضي عليه بالارتباط بمذهب الهيجليين الإيطاليين (أي بمذهب جنتيلي
Gentile
فضلا عن كروتشه) والعمل على كسب اعتراف الإنجليزية. وقد أسفرت جهوده، في السنوات التي أعقبت الحرب الأولى مباشرة، عن موجة قوية من الإعجاب بكروتشه،
65
ولا سيما في أكسفورد (حيث اشتد هذا الإعجاب بفضل زيارة قام بها كروتشه ذاته). ولكن هذه الموجة تلاشت بسرعة، وقد حدد موقفه، في كثير من كتاباته، بأنه ضرب من مثالية كروتشه، مع أخذ أفكار معينة عن جنتيلي، وبذلك وجد لنفسه - مؤقتا على الأقل - ما يمكن أن يقال إنه موقف خاص به.
والفكرة الرئيسية في هذه المثالية، التي عرضها أساسا في بحثه «الفلسفة بوصفها نموا لفكرة الوعي الذاتي وحقيقته»، تتمثل في قوله بالطابع التاريخي للواقع، فالواقع في ماهيته، تبعا لهذا الرأي، ليس سكونيا ثابتا، وإنما هو حركي متغير؛ فله طابع العملية، وهو حادث أصيل، وهو تاريخي في جميع أجزائه وفي كل تعبير عنه. على أن تاريخيته لا زمانية، بمعنى أنها هي التحقق الأعلى للزمان، أي الأزلية. وفضلا عن ذلك فهو روحي تماما، ولا يوجد خارجه شيء روحي، وبالتالي لا يوجد شيء حقيقي أو واقعي بالمعنى الكامل. أما ما نطلق عليه اسم «المادة» أو «الطبيعة» فليس حقيقيا، ولو شئنا أن نعبر عن الواقع بطريقة إيجابية، لقلنا إنه فاعلية خالقة لذاتها، ولما كانت هذه الفاعلية روحية، فإنها تعبر عن نفسها على أكمل وأفضل نحو في الوعي الذاتي. ومن هنا فإن النشاط المميز للوعي الذاتي هو الفلسفة، مفهومة على أنها النمو الذاتي للروح، والواقع كله يدخل في نطاقها، وهي - من حيث المبدأ على الأقل - قادرة على التغلغل فيه. وهنا نجده مرة أخرى ينتفع بفكرة هيجلية هي فكرة معقولية الواقع، ويوجهها في هذه الحالة، في رد فعل عنيف، ضد المذهب المطلق عند برادلي وضد كل مذهب ذاتي أو برجماتي (ولو أن إغراءات البرجماتية، التي أسماها باللافلسفة
un-Philosophy ،
66
كانت أحيانا أقوى من أن يستطيع مقاومتها)، ففلسفة سمث هي مثالية موضوعية ديالكتيكية بالمعنى الهيجلي، تظهر فيها تلك التنوعات المميزة التي أدخلها الهيجليون الإيطاليون المحدثون على مذهب هيجل. (4) القسم الرابع: فلاسفة المثالية المطلقة
لا يفوق برادلي في أهمية النصيب الذي ساهم به في عرض المذهب المثالي ونشره في إنجلترا، سوى جرين وكيرد، غير أنه يعد المركز الرئيسي لمرحلة جديدة في هذه الحركة. فكل ما تم حتى الآن يعد، بدرجات متفاوتة، مجرد جهد تمهيدي، هو عرض لعالم الأفكار الجديد في صورة ترجمة وتفسير وعرض ومحاكاة ونقد. وإذا استثنينا جرين، فإنا لا نصادف حالة واحدة تستحق الاهتمام صيغت فيها المادة الجديدة وعرضت بطريقة مستقلة. أما عند برادلي، فقد شب المذهب المثالي الإنجليزي عن الطوق، وبدأ يسلك طريقا خاصا به. ولقد كان برادلي أول من تناول هذا المذهب بطريقة خلاقة، وأول من جرؤ على أن يضع بذور مذهب خاص به في الأرض التي فتحت حديثا، بل لقد كان واحدا من القلائل من عظماء بناة المذاهب، وواحدا من أجرأ المفكرين التأمليين الذين أنجبتهم إنجلترا ومن أكثرهم أصالة. وهو يحتل في الفكر الإنجليزي الحديث منزلة رفيعة، وربما أرفع منزلة، على الرغم من أن أعماله الفلسفية ما زالت تثير نزاعا شديدا حاميا، وربما ستظل تثيره طويلا، فلا يكاد يوجد مفكر آخر ساهم بمثل ما ساهم به في إثارة الاهتمام الأصيل بالفلسفة.
ولقد كان كل النجاح الهائل الذي أحرزته فلسفة برادلي يرجع إلى جهوده من حيث هو كاتب فحسب؛ ذلك لأنه، على الرغم من أنه ظل زميلا في كلية بأكسفورد لمدة تزيد على نصف قرن، لم يتول التدريس أبدا، وإنما عاش في كليته أشبه ما يكون بالناسك، لا يصل إليه إلا أصدقاء قلائل، عاكفا على استخلاص أفكاره، وكان اعتلال صحته هو الذي فرض عليه هذه العزلة. ولقد تجلى التقدير الرفيع الذي كان يتمتع به خارج الأوساط الفلسفية وداخلها، تجلى ذلك التقدير على الملأ في تلك المنحة الملكية التي نالها قبل وفاته بقليل، وهي وسام الاستحقاق
Order of Merit ، الذي كان برادلي أول فيلسوف يناله. وقد كرمه إخوانه من الفلاسفة في ذلك الإهداء الحافل بالمعاني الذي صدر به المجلد الثاني من كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، وهو: «إلى ف. ه. برادلي، حامل وسام الاستحقاق، الذي دانت له الفلسفة الإنجليزية بالقوة الدافعة التي أضفت عليها حياة متجددة في عصرنا.»
ونستطيع أن نوضح مكانته في المثالية الإنجليزية إذا لاحظنا أولا أنه ظل تقريبا غير متأثر بكانت على الإطلاق، وإنما كان يدين لهيجل بكل ما أتاه من الخارج تقريبا، على أن علاقته بهذا الأخير كانت دائما موضوع خلاف، وكثيرا ما كان هو ذاته يرفض أن يسمى هيجليا، على أساس أنه لا يعرف بأي شيء كان يدين لهيجل، وإلى أي مدى كان دينه هذا. ومن الأمثلة الدالة على ذلك، هامش في أحد كتبه اعترف فيه بدينه لهيجل، ثم أضاف: «ولكن ينبغي أن يذكر القارئ أنني أنا وحدي المسئول عما أقول.»
67
وفي وسعنا، إذا تأملنا الأمر من وجهة نظر عامة إلى أقصى حد، أن نقول إنه تلقى من هيجل القوة الدافعة الأولى للتفكير المستقل، وإن التفكير الهيجلي يتغلغل بعمق في فلسفته، في مجموعها وتفاصيلها، غير أن كل ما أخذه عن هيجل أو غيره قد صهر في بوتقة ذهنه الخاص وأضيفت عليه صورة مميزة. ومن المؤكد أن تأثير هيجل قد ضعف مع نمو مذهب برادلي ونضوجه.
كذلك ذهب البعض إلى وجود بعض أفكار رئيسية اسبينوزية لديه، ولهذا الرأي شيء من الصحة. وقد حبذ برادلي ذاته فلسفة هربارت
Herbart
بوصفها ترياقا مفيدا ضد هيجل، وتدل بعض أجزاء مذهبه الميتافيزيقي على أنه قد عمل بنصيحته الخاصة هذه. كذلك كانت هناك بعض مظاهر التقارب بينه وبين شلنج ، كما كان يبدي نوعا من الإيثار لشوبنهور، وإن لم يكن قد أخذ عنه إلا قليلا جدا من الأفكار. وهناك فلاسفة ألمان آخرون أثروا فيه في ميادين خاصة، مثل لوتسه وسيجارث في المنطق، وفاتكه
Vatke
في الأخلاق، وفولكمان
Volkmann
في علم النفس.
ولكن لم يكن لواحد من هؤلاء تأثير حاسم بأية حال. فلسنا نملك إلا أن نؤكد أن برادلي هو الذي صاغ فلسفته الخاصة، التي انبثقت عن أصالة فكرية حقيقية، ونمت ونضجت في جوها الخاص. على الرغم من رفضه المتواضع لكل وصف له بالأصالة، وهو رفض قد يراه المرء متكلفا في بعض الأحيان، فإنا لا نملك إلا أن نعده مفكرا مستقلا إلى أبعد حد، بل مفكرا هوائيا عنيدا. وهذا واضح في كل سطر كتبه، وفي جمود أسلوبه وخشونته، وفي طريقته الجافة التي تكاد تكون قاسية عنيفة، في التخلص من خصومه، وفي الطريقة التي ألف بها كتبه، وهي الطريقة التي لا يحس معها المرء أن هذه الكتب عرض هادئ موضوعي محكم، وإنما يشعر بأن الكاتب يخاطب ذاته، أو يجري مع القارئ محادثة منطلقة بلا قيود، تكون أحيانا بسيطة وصريحة إلى أقصى حد، وأحيانا أخرى تتخللها دعابات جافة خفيفة الوقع أو لاذعة، واستطرادات تهكمية ساخرة، واندفاعات ثائرة، وسخرية من خصومه أو من نفسه. ولقد كان يحب المواقف الممتنعة، ويؤثر غير المألوف، وينتقل بين الأضداد ويطرب للمتناقضات، ويحلق عاليا، ولكنه نادرا ما كان يدع أقدامه تترك الأرض الصلبة. وكان سفسطائيا شكاكا توكيديا صوفيا في آن واحد. ومن هنا كانت فلسفته تتسم بكل ما في الحياة من تنوع وتلون، وبما فيها من فردية لا تتكرر أيضا، إذ إن أي تقليد لها لا يمكنه أن يحتفظ بقوامها ومذاقها المميز. وفضلا عن ذلك فقد كان تفكيره مرنا إلى حد غير عادي، فكان يؤثر المواقف الانتقالية على النتائج النهائية، ويعمل على الدوام على صهر هذه المواقف وإعادة تشكيلها في ديالكتيك ذهنه غير المستقر. ويتميز فكره كله بقدر غير قليل من نزعة الشك، ولكنها ليست نزعة الشك المميزة لذهن هدام، بل لذهن حي مصقول إلى حد بعيد، يعلو بإرادته على الأشياء ويتمتع باللهو معها، بدلا من أن يقبض عليها ويكتفي بحقيقة واحدة لا يمكن مع ذلك أن تكون نهائية. وإنه ليذكرنا كثيرا بطريقة هيوم الاستخفافية، المفتقرة إلى الشعور بالمسئولية، في معالجة مشكلاته. ولم يكن لبرادلي اهتمام كبير بالديالكتيك الهيجلي منظورا إليه على أنه منهج فلسفي دقيق، ولكنه يطبقه على نحو ضمني في طريقته المرنة في الانتقال على الدوام من موقف إلى آخر. ويمكننا أن نسمي طريقته ديالكتيكية، طالما أننا نعني بذلك ارتقاء ذهن أشد قلقا من أن يقنع بنتائج يقينية مزعومة، إلى مستويات للفكر تزداد علوا. فلذة البحث والكشف أعظم عند برادلي من لذة الامتلاك، «فعلينا - في الفلسفة - ألا نسعى إلى الرضا المطلق ... فالفلسفة ليست إلا ممارسة جانب واحد من طبيعتنا والتمتع به.»
68
والنوع الوحيد المشروع من الشك هو التخلي عن أمل الوصول في أي وقت إلى امتلاك نهائي للحقيقة. أما ذلك الذي يطلق عليه عادة اسم نزعة الشك فإنه يسميه بالقطعية الانتحارية
Suicidal Dogmatism .
غير أن برادلي كثيرا ما كان يعبر، بنفس المرونة والحيوية التي أبرزنا أهميتها، عن موقف مخالف تماما، فالحقيقة «هي ما يرضي العقل
Intellect » و«الفلسفة ترمي إلى الرضاء العقلي، أي بعبارة أخرى إلى الحقيقة النهائية.»
69
ذلك هو الموقف الذي استرشد به في تأملاته الميتافيزيقية، أعني الحاجة إلى الأمان والنظام، والسعي النظري إلى التغلب على كل ما هو مختلط متناقض، بغية الوصول إلى نظرة منسجمة إلى العالم يجد الذهن فيها طمأنينة. ويبدو لي أن هذا هو الأساس العاطفي لميتافيزيقا برادلي الرفيعة في «المطلق»، فهو يحاول بحماسة صوفية خالصة، أن يفهم المطلق ويتأمله بوصفه مستقر النفس، وذلك بخشوع فيه تقديس، وباستسلام خائر إلى حد ما، يقف على نقيض ذلك الشك الجريء المرن الذي بينا أنه يمثل الوجه الآخر من طبيعته.
وفي ضوء ما سبق ينبغي لنا أن نتأمل العداء المرير الذي حمل به البرجماتيون على مذهب برادلي وسخروا به منه سخرية لاذعة، فأصل النزاع إنما هو الاختلاف الكامل في المزاج والموقف الكامن من وراء كل من الفلسفتين، أعني التقابل بين العقلية المغامرة المناضلة التي تحب أن تجوس خلال العالم وتغيره، وبين العقلية الخائرة الحريصة على الطمأنينة والهدوء، والتي تغلق نفسها في مذهب وتلتزم الطريق الواسع المؤدي إلى الحقيقة المطلقة. ولا شك في أن الاختلاف أساسي، وأن الخلاف الطويل المرير بين برادلي وشيلر ينبغي أن يعد تعبيرا عن هذا الاختلاف.
وسوف نتناول أعمال برادلي الفلسفية حسب الترتيب الزمني لتطورها، فنتحدث أولا عن مذهبه الأخلاقي ثم منطقه، وأخيرا عن ميتافيزيقاه. ولقد كان كتابه في الأخلاق من أوائل مؤلفات المدرسة المثالية، فظهر بعد وقت قصير من نشر مقدمتي جرين إلى هيوم، وترجمة ولاس للمنطق الأصغر عند هيجل، وقبل وقت قصير من ظهور الكتاب الأول لإدوارد كيرد عن كانت. ولقد كان ذلك الكتاب الذي سبق «المقدمة
» لجرين بسبع سنوات، أول مؤلف يقوم بمهمة الواسطة لنقل أخلاق المثالية الألمانية إلى الإنجليز، وبذلك كان من المعالم الأساسية في المجرى التاريخي للفلسفة الأخلاقية الإنجليزية. وفي هذا كتب بوزانكيت، بعد سنوات متعددة، يقول: «لقد كان نشر ف. ه. برادلي لكتابه «دراسات أخلاقية» - في نظر الكثيرين منا - حادثا غير مجرى تاريخ ذلك العلم.»
70
ففي مذهب برادلي الأخلاقي تجد نزعته الهيجلية أوضح وأصدق تعبير عنها، وتتجلى بأوضح صورة تلك التجربة الشخصية العنيفة التي تعلق بها المذهب الهيجلي، وذلك على الرغم من قلة استخدامه لمصطلح هيجل. وهنا أيضا يشير في فقرة مأثورة إلى الفلسفة الألمانية على أنها الفلسفة الصحيحة، والوحيدة القادرة على إنقاذ الفكر الإنجليزي من عزلته الخطرة. وهنا كذلك نجد أول نقد هدام، بأسلحة هيجلية، للفلسفات الأخلاقية التقليدية البالية التي قالت بها مذاهب المنفعة واللذة والتجريبية بوجه عام. وأخيرا فعلى الرغم من كل اعتماده على هيجل وغيره من الألمان في هذا الكتاب المبكر في الأخلاق، فإنه يظهر فيه مفكرا مستقلا من الطراز الأول، قدر له أن يطور تلك القوة الدافعة الجديدة التي تلقاها من الآخرين ويسير بها إلى الأمام.
ويرد برادلي أن الغاية الأخلاقية هي قبل كل شيء اكتمال الذات وتحققها ، ولكن ما هي هذه الذات؟ إنها قطعا ليست هي الذات البشرية، التي هي مجرد مجموعة أو سلسلة من العواطف أو الإرادات أو الإحساسات الجزئية، وإنما هي تبتدئ منذ البداية بوصفها كلا واحدا أو منهجيا، وحقيقة كلية عينية، تعد أجزاؤها المتعددة أو المتلاحقة مجرد مراحل أو عوامل بالنسبة إليها. فالذات التي تعرفها الأخلاق ذات أعلى، ذات كلية تعلو على هذه الذات أو تلك، على ذاتي أو ذاتك أو أية ذات أخرى؛ ومن هنا فإن القاعدة الأخلاقية: «حقق ذاتك بوصفك كلا لا متناهيا» تعني «حقق ذاتك بوصفك عضوا واعيا بنفسه في كل لا متناه، عن طريق تحقيق هذا الكل في ذاتك.»
71
وباتخاذ هذا الموقف يبين برادلي كيف أن الغاية الأخلاقية لمذهب اللذة وهي تحصيل اللذة لذاتها، تعجز عن التعبير عن المعنى الحقيقي للأخلاقية، وأن موقفه ليمثل تخلصا كلاسيكيا من كل الأخلاق الضحلة التي تعبر عنها فكرة اللذة والسعادة والمنفعة، كما يمثلها مل وسبنسر وستيفن وسدجويك (وقد هاجم برادلي هذا الأخير في كتيب خاص نشر بعد عام من ظهور كتابه «دراسات أخلاقية») كذلك رفض برادلي الغاية الأخلاقية المقابلة، وهي أداء الواجب لذاته، على أساس أنها بدورها تنطوي على تحيز ضيق الأفق في الجانب المضاد؛ إذ إنها تكتفي بأن تستعيض عن الجزئي المحض بالكلي المحض، وتأتي بمبدأ مجرد شكلي تماما، لا يمكن أن يتخذ مرشدا في السلوك، فلا جدوى من أن يقال للمرء: إن عليه أن يفعل ما هو خير لأجل الخير، إذا لم يحدد له المضمون العيني للخير. وواضح أن برادلي هنا يهاجم النزعة الشكلية الصارمة في الأخلاق الكانتية، وإن يكن يعترف بأن النظرية التي ينتقدها ليست نظرية قيل بها فعلا، بقدر ما هي نظرية وضعت لغرض الجدل. ويكاد نقده لهذا المذهب الأخلاقي يماثل تماما نقد هيجل له .
هاتان النظريتان اللتان تتحيز كل منهما إلى جانب واحد، هو اللذة لذاتها أو الواجب لذاته، ينبغي تجاوزهما من وجهة نظر أعلى يسميها برادلي بوجهة نظر «مركزي
my station
وواجباته». ولوجهة النظر هذه، في أساسها، معنى يعادل معنى قاعدة تحقيق الذات، إذ إن الإنسان، الذي لا يمكن أن يكون مجرد فرد منعزل عن المجتمع ومستقل عنه، فمثل هذا الفرد تجريد لا معنى له، وإنما هو كائن اجتماعي؛ هذا الإنسان لا يستطيع أن يحقق ذاته الحقة، أو الإرادة الخيرة أو الاجتماعية التي ينبغي تمييزها من ذاته الشخصية البحتة، الباحثة عن لذاتها فحسب، إلا عندما يكون قد اهتدى إلى مركزه وواجباته، أي وظيفته داخل كل اجتماعي. وهنا يحطم برادلي أساس المذهب الفردي الأخلاقي الذي يلازم الفلسفة الأخلاقية الإنجليزية من لوك إلى سبنسر، وهو يتخلص في الوقت ذاته من الثنائية الكانتية التي تحفر هوة لا تعبر بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. فالواجب الذي يفرضه على مركزي لا يمكن أن يكون عملية لا تنتهي يقترن فيها «الوجوب
Ought » الدائم بتكرار لا ينتهي لكلمة «ليس بعد»، وإنما ينبغي أن يتحقق هنا والآن. فمن الواجب أن يكون المثل الأخلاقي الأعلى قابلا للتحقق في المجال الزمني للوجود، وفي ذلك الرضاء الناجم عن التحقق الفعلي للواجب، وبفضل هذا القضاء على التوتر بين الوجوب وبين الوجود، يجعل برادلي للحياة الأخلاقية جوا أرق وأرحم، يقترن فيه الحب بالواجب ويعينه.
فما هي الغاية الأخلاقية إذن، إن لم تكن هي المثل الأعلى القصي الذي لا يبلغ، الذي قالت به الأخلاق الكانتية؟ إن برادلي، بقدر ما يهتدي إلى معيار السلوك الأخلاقي في المجتمع الذي يعيش فيه المرء، وفي عرفه وقوانينه ونظمه، ويرى أنه ليس من المرغوب فيه أن يسعى المرء إلى تجاوزه، بهذا القدر يكون برادلي قد تمسك بتراث بلاده، الذي يستبعد السيادة المطلقة للفرد، ويخضعه بشدة للمعايير الأخلاقية للمجتمع، ولهذا السبب نفسه يرفض برادلي أخلاق الإنسان الأرقى، ومعها أخلاق المجتمع الفاضل
Utopian
بوصفها ابتداعات ذهنية لا يمكن أن تكون لها سلطة على السلوك العملي في الحياة اليومية.
على أن برادلي ينتقل، من بعد هذه الأخلاق الفعلية الواقعية، إلى تشييد «أخلاق مثالية»، أي نظام أخلاقي من مستوى أعلى، لا تعود فيه الذات حبيسة بيئتها الاجتماعية. وهو في هذه المحاولة، التي يتخلى فيها جزئيا عن الموقف الذي بلغه من قبل، يقدم إلينا لمحة لعالم القيم لا يكون من الضروري فيه إقامة علاقة مباشرة مع البيئة الاجتماعية، وإنما الواجب أن تطلب قيمة لذاتها، شأنها شأن سعينا إلى الحق والجمال. وهكذا فإن برادلي يعترف هنا بمجال للكمال غير الاجتماعي، ومع ذلك فلا يمكن أن يحلق هذا المستوى الأعلى في الهواء فوق المستوى الأدنى، وإنما ينبغي أن تكون جذوره متأصلة في هذا الأخير وأن ينمو منه، فالأخلاق المثالية ترتكز على الأخلاق الاجتماعية. وهكذا ينسجم تفكير برادلي مع حساسية الشعب الذي ينتمي إليه، فهو يجسد فكرة «الجنتلمان» الإنجليزي، وهي فكرة لا تحتمل خروجا عن الحواجز الاجتماعية والقومية، وهو في هذه النقطة أقرب إلى هيوم بكثير منه إلى هيجل.
وإذا نظر برادلي إلى الغاية الأخلاقية على أنها شيء ينبغي تحقيقه في الواقع الحالي، فقد تجاوز ثنائية كانت بطريقة هيجلية، ولكن يتضح بعد ذلك أن هذا الموقف الرفيع ذاته إنما هو موقف تمهيدي فحسب، يلقي به برادلي بدوره في دوامة ديالكتيكة، الذي لا يتوقف عند حد؛ ذلك لأن الثنائية القديمة، التي سبق حلها، بين الوجوب والوجود، تطل برأسها من جديد عندما يتضح أن الفكرة الأخلاقية لا يمكن أبدا أن تتحقق تحققا كاملا. ففكرة الوجوب أو الإلزام تنطوي على تناقض؛ إذ إنه حيث لا يوجد نقص لا يوجد إلزام، وحيث لا يوجد إلزام لا توجد أخلاقية، ولا يمكن أن يوجد حل مباشر لهذه المشكلة القائلة بوجود تباين بين الأخلاقي، بوصفه شيئا متحققا بالفعل أو قابلا للتحقق، وبينه من حيث هو غاية مثالية مرغوب فيها. ومعنى ذلك أن من واجبنا، إذا شئنا الخلاص من هذه المشكلة، أن نترك مجال الأخلاق ونفكر قدما في مجال يعلو على الأخلاق، لا تعود فيه فكرة الإلزام حاضرة. هذا المجال الأعلى هو الدين، الذي هو تحقق الأخلاقية أو اكتمالها الرفيع، بمعنى أن الذات المثالية، التي تظل دائما، بالنسبة إلى الأخلاق، شيئا ينبغي أن تكونه، تتحقق بالفعل في الدين، هذه الأفكار تفضي إلى تلك التأملات التي لم ينتقل برادلي إليها إلا عند صياغته لمذهبه الميتافيزيقي بعد سنوات عدة.
وسوف نرى، عندما نعرض لهذا المذهب، أن الخير الذي يلحقه تناقض ذاتي لا يحق له ادعاء الواقعية بالمعنى الدقيق، وإنما ينتمي فقط إلى عالم الظواهر غير الواقعي، وعلى ذلك فحتى حين يتجاوز هذا الخير ذاته في الدين، فإنه لا يجد في ذلك إلا حلا أو تحققا تمهيديا. وفي «المطلق» وحده بوصفه الواقع الحقيقي، يصل الخير - ومعه ضده أي الشر - إلى مستقره النهائي، بعد أن يفقد طبيعته الخاصة في تحول كامل. وهكذا فإن اكتمال الأخلاق عند برادلي إنما يكون في ميتافيزيقا المطلق عنده.
ولقد أحدث برادلي، بكتابه «مبادئ المنطق» (1883)، انقلابا في المنطق يوازي ذلك الذي أحدثه في الأخلاق بكتابه «دراسات أخلاقية»؛ إذ إنه زعزع في هذا الميدان بدوره، سيطرة التجريبيين التي كانت كاملة تقريبا، وفتح باب فروع جديدة للبحث في إنجلترا. ولقد وصف وليم جيمس - وهو خصم برادلي - كتابه الأخير هذا، مثلما وصف بوزانكيت كتابه الأول، بأنه قد «غير مجرى تاريخ ذلك العلم.» وقال: «لقد فرغت لتوي من قراءة «المنطق» لبرادلي، باهتمام وحماسة لا حد لهما ... ومن المؤكد أنه من الكتب التي غيرت مجرى تاريخ الفلسفة الإنجليزية، ولزام على التجريبيين وعلى القائلين بالمعقولية الشاملة معا أن يسووا حساباتهم معه، فهو يخرج عن كل الاتجاهات التقليدية.»
72
وعلى الرغم من أن ظل هيجل كان يختفي وراء منطق برادلي بدوره - ولكن من مسافة أبعد وبوضوح أقل - فقد اعترف برادلي بأنه كان مدينا للوتسه أولا، ومن بعده لزيجفارث وغيره من المناطقة الألمان؛ فبفضلهم استطاع أن يرد بحجة قوية مضادة على النزعة النفسية لدى المناطقة التجريبيين الإنجليز. وكانت مهمته الأولى هي إعمال معول الهدم في أسس هذه النزعة بكشف زيف الأساس النفسي للمنطق التجريبي، أعني فكرة الترابط، التي تكون المعرفة بالنسبة إليها ربطا بين عناصر عقلية لها طابع فردي مفكك. فهو هنا يتساءل: كيف يتسنى لواقعة منعزلة لا تكاد تظهر حتى تختفي، أن تكون هي مناسبة عودة ظهور شيء كان ماثلا (
a presentation )؟ وما هو نوع العناصر التي تربط معا في الإدراك الحسي على نحو يجعل عودة ظهور أحدها في الوعي مؤديا إلى الإتيان معه بالباقين؟ إن ما يأتي من جديد في الوعي لا يمكن أن يكون هو نفس ما كان فيه من قبل، وكل عنصر في الذهن يحمل في ذاته نوعا من الجدة؛ إذ إنه يدخل في علاقات جديدة، وبذلك يتغير طابعه، حتى لو كان المظهر الوحيد لذلك التغير هو تلك النقطة الزمانية الجديدة التي عاد فيها إلى الظهور. أما ارتباط محتويات العناصر الماثلة (
presentations ) فينبغي أن يرتكز على شيء مشترك أو متماثل في هذه المحتويات، ولا يمكن أن يحدث بين جزئيات خالصة زائلة. ومن هنا وضع برادلي قضيته القائلة إن كل ارتباط إنما يحدث بين كليات، وقد اعترف برادلي بأنه كان يدين لهيجل بهذه الفكرة الهامة، الكفيلة بهدم كل المذهب الترابطي ابتداء من هارتلي وهيوم حتى مل «وبين»، كما اعترف بأنها هي التي أخذت بيده من الظلمات إلى النور. والواقع أننا لا نكاد نستطيع الآن، بعد أن تعودنا تماما على هذه الفكرة بفضل جهود المفكرين الهيجليين خلال عشرات السنين، أن ندرك دلالتها بالنسبة إلى المرحلة التي كان علم النفس والمنطق الإنجليزيين قد بلغاها عندئذ. ويكفي أن برادلي، عندما نشر الطبعة الثانية من «مبادئ المنطق» بعد فترة دامت حوالي أربعين عاما، قد رأى أن أي نقد آخر لخصومه السابقين إنما هو لغو لا داعي له، واكتفى، في إشارته إلى بعض المتشبثين المتأخرين بالمعسكر التجريبي، بقوله: «دع الموتى يدفنون الموتى.»
73
وإن كتاب برادلي ليختلف، حتى من حيث المظهر الخارجي، عن البحوث المألوفة في المنطق، فهو ليس منطقا صوريا ولا رياضيا ولا تجريبيا، وإنما هو بحث أصيل إلى أبعد حد، شخصي تماما، في قوانين الفكر والصور المنطقية. وهو موجه أساسا وبعنف ضد منطق التجريبيين، ويرجع تأثيره التاريخي إلى أنه قضى على التأثير القوي لمنطق مل، وأبعد تعاليمه عن الميدان عشرات متعددة من السنين، إلى أن حدث، في وقت قريب جدا، رد فعل بطيء لصالح مل إلى حد ما. وأفضل ما يوصف به منطق برادلي هو أنه منطق ميتافيزيقي، بمعنى أن للمسلمات الميتافيزيقية تأثيرها الفعال فيه، أو أنها على الأقل تكون أساسه الخفي، ولكنه لا يناظر إلا على نحو عام ذلك النوع من المنطق الذي يتجلى بأنقى صوره في هيجل، والذي لا تربطه به إلا نقط التقاء متفرقة، والذي نادرا ما استخدم ماهيته، وهي الديالكتيك، إذ تجنب تماما الارتقاء الديالكتيكي من مقولة إلى أخرى، وفضلا عن ذلك فإن علاقاته بالمذهب الأرسطي التقليدي في المنطق سطحية إلى حد ما، وذلك على الرغم من أنه مبني جزئيا على نتائجه، فهو يتخلى عمدا عن فكرة التصور، وينقد فكرة القياس بقسوة.
وفي مقابل التقسيم الثلاثي المألوف للبحث المنطقي إلى تصور وحكم أو تصديق واستدلال، يقتصر برادلي على الأخيرين، وهو يبدأ بالحكم لأنه يرى أن الحكم - لا التصور - هو الصورة المنطقية الأولى أو الوحدة الأصيلة للفكر، وهو يعلن منذ البداية أن الحكم لا يمكن أن يكون ربط فكرة بإحساس أو بفكرة أخرى، على أساس أن العوامل النفسانية لا دخل لها في هذا الأمر، وإنما الذي يهمنا في الحكم معناه، ومضمونه الفكري الكلي، الذي يختلف اختلافا أساسيا عن أية حادثة أو واقعة ذهنية. فالمعنى أو الفكرة المنطقية يظل على ما هو عليه مهما تغيرت المعطيات، وهو ذلك الجزء من مضمون الوعي، الذي أوقفه الذهن وأخرجه بالتالي من مجال الزمان. وعلى حين أن الحادثة الذهنية جزئية فريدة موجودة واقعيا، فإن المعنى لا ينتمي إلى مجال الوجود الفعلي على الإطلاق، وإنما هو فكري كلي. وهكذا فإن نظرية برادلي المنطقية إنما هي محاولة لإيجاد انفصال واضح بين المجالين المنطقي والنفسي، بين العوامل الفكرية الأولية من جهة، وبين الوقائع البحتة للتجربة المعرفية من جهة أخرى، والفكرة الرئيسية فيه هي أن من المستحيل قيام حكم أو أية صورة أخرى للمعرفة ما لم يوجد عامل يظل في هوية مع ذاته طوال تغير الوقائع وصيرورتها. كل هذا يعبر عنه برادلي في تعريفه المشهور للحكم، وهو التعريف الذي أثار جدلا كثيرا، والقائل إن الحكم هو «الفعل الذي يحيل مضمونا فكريا (يعترف به بما هو كذلك) إلى واقع متجاوز لذلك الفعل.»
74
فكل حكم ينطوي بالضرورة على مثل هذه الإحالة أو الإضافة، وكل إضافة تفترض مقدما، إلى جانب الطرفين المضافين، وحدة تجمعهما سويا. وهكذا يؤدي نقد فكرة الترابط إلى مذهب خاص في الحكم.
ولكن على الرغم من كل انتقادات برادلي للنزعة النفسية، فإنه هو ذاته لم يسلم منها؛ ذلك لأنه عرف الحكم تارة بأنه فعل، أي بأنه شيء ذهني، وتارة أخرى بأنه ما يقصده الفعل أو يعنيه، أي القضية المنطقية، ومثل هذا الإخفاق في الفصل بما فيه الكفاية بين المنطق وعلم النفس، يحول دون إدراجه ضمن ممثلي المنطق الخالص، ولقد كان تأرجحه بين الموقفين هو النقطة التي تركزت عليها انتقادات خصومه، وأولهم كوك ولسن
Cook Wilson ، ثم ستوت
Stout
ورسل وغيرهما.
وعندما وصل برادلي إلى صياغه مذهبه في الميتافيزيقا، اهتدى إلى وجهة نظر جديدة يعرف منها الحكم، فقد أدى به تمييزه بين الواقعي والفكري على أساس أن أولهما هو «هذا
That » وثانيهما هو «ماذا
What »، أي هما الاسم والصفة على التوالي؛ أدى به ذلك التمييز إلى النظر إلى الحكم على أنه إيضاح ل«هذا» بوصفه موضوعا، عن طريق «ماذا» بوصفه محمولا، أي إنه هو أن نطلق على الواقع صفة لا تكون واقعة وإنما فكرة، أما الموضوع فهو وجود فعلي، وتتوقف حقيقة الحكم على نوع الواقع الذي نصدر عنه التأكيد. وبين برادلي في ميتافيزيقاه أن الوجود الفعلي جزئي متناقض دائما، ولا يعبر إلا عن وجه جزئي من كل أكبر، ومن ثم فإن أي حكم يشير إلى واقعة محددة، يتصف دائما بالخطأ، وغاية ما يبلغه هو حقيقة جزئية أو نسبية فحسب. والحكم الكامل هو الذي يكون موضوعه، على طول المدى، هو الواقع كاملا أو المطلق. وهكذا يدمج برادلي منطقه في ميتافيزيقاه كما فعل هيجل.
ويعاود برادلي - في مذهبه في الاستدلال - مهاجمة أخطاء تقليدية متأصلة؛ ذلك لأن نفوره من كل قبول أعمى للسلطة جعله يرفض نظرية القياس بأسرها، بوصفها محض خرافة؛ فالقياس يزعم أنه أنموذج كل استدلال وبرهان منطقي، غير أن هناك صورا متعددة للاستدلال والبرهان لا يمكن إدماجها فيه. ويضرب برادلي - لتوضيح رأيه هذا - أمثلة يثبت بها أن المقدمة الكبرى كثيرا ما تكون غير ضرورية،
75
فإليه يرجع الفضل في الإشارة إلى عدد من الصور غير القياسية للاستدلال، وهي الصور التي لم يكد يلاحظها المنطق التقليدي على الإطلاق.
والفرق بين الاستدلال والحكم هو أن الأخير أقرب كثيرا إلى الإدراك المباشر، أي إلى المادة الحسية، فقبل إمكان قيام أي استدلال، ينبغي أن يطرأ قدر معين من التنظيم على المادة الخام للمعرفة، وهذه هي مهمة الحكم أساسا، ويمكن القول: إن الحكم يبدأ، بصورة بسيطة أولية، في التجربة الحسية، على حين أن الاستدلال يفترض مقدما أساسا عقليا، وهذا لا يعني أن الاستدلال يبدأ حيث ينتهي الحكم؛ إذ إن برادلي يؤكد أن الصور البدائية للاستدلال تظهر في البدايات الأولى للحكم، وعلى أدنى مستويات الحياة المعرفية. غير أن الحكم الصريح هو قطعا سابق منطقيا، إن لم يكن نفسيا، على الاستدلال الصريح، وإن يكن الاثنان معا وجهين لعملية واحدة. وهكذا فإن فكرة برادلي هذه تستبق فكرة بوزانكيت (التي كانت وثيقة الصلة بها)؛ إذ تجعل مهمة المنطق هي عرض نمو الذهن وتتبع العمليات المنطقية طوال مراحل نموها المتعددة.
وعند تحليل الاستدلال، يمكننا أن نميز بين ثلاثة عناصر: المعطيات، والفاعلية العقلية في الاستدلال من هذه المعطيات، والنتيجة. ويتصف عنصر الفاعلية بأنه مركب، أي إنه تركيب فكري، وفي الارتباط الزائد الذي يضاف عندئذ إلى الاتصال الأصلي القائم بين المعطيات، تمر هذه المعطيات بتغير وتنتقل إلى وحدة جديدة؛ ذلك لأنه حيث لا يظهر شيء جديد لا يكون ثمة استدلال. على أن برادلي قد ابتعد كثيرا عن رأيه هذا في الاستدلال في الطبعة الثانية من كتاب «مبادئ المنطق »، وآثر أن ينظر إليه على أنه في الأساس يمثل التطور أو النمو الذاتي
self-development
لمضمون موضوعي.
وهو في كل الأحوال يتمسك بتأكيده للفارق الأساسي بين المجالات المادية والذهنية والمنطقية، ولا يمل أبدا من مهاجمة الخلط الذي يتمثل لدى النزعة النفسية بين المجالين الأخيرين، فللفكرة المنطقية طريقة في الوجود تختلف أساسا عن طريقة وجود الشيء المادي والحادثة الذهنية، وهي لا توجد (
exist )، ولا يمكن أن تحدث، إذا كنا نعني بهذه الألفاظ الدخول في مجال الظواهر، وإنما هي مضمون فكري وماهية ومعنى كلي في مقابل الواقعة أو الحادث؛ لذلك فإن المنطق لا يمكنه أن يدرك - ناهيك به أن يفهم - ما تتصف به الجزئيات والفرديات التي تتمثل في الواقع العيني من ثراء زاخر بالتنوع لا ينضب معينه، فالتنوع المتعدد الألوان للحياة يقع خارج نطاق المنطق.
ولقد أعاد برادلي طبع النص الأصلي «لمبادئ المنطق» في طبعته الثانية التي يفصلها عن الأولى حوالي أربعين عاما، مع إضافة حاشية في صورة ملاحظات في نهاية كل فصل، وسلسلة من الأبحاث الختامية. وهذه المادة الجديدة تصحح النص الأصلي وتتجاوزه في نقاط ليست كلها ثانوية، والجزء الأكبر منها مستمد من بوزانكيت، الذي قام باختبار نقدي لكتاب برادلي «مبادئ المنطق» في 1885 (في كتاب المعرفة والواقع
Knowledge & Reality )، والذي نشر بعد ذلك بثلاث سنوات كتابا خاصا له في «المنطق» اتخذ من برادلي نقطة بداية له، وقد اعترف برادلي بدينه صراحة ودون تحفظ.
ولقد سبق أن نوهنا مرارا بالأهمية التاريخية الكبرى لأعمال برادلي في ميادين الأخلاق وعلم النفس والمنطق. وقد صادفت هذه الأعمال قبولا واسعا، وسرعان ما أصبحت جزءا من تراث الفكر الإنجليزي. أما آراؤه الميتافيزيقية، كما عرضها في كتابه الرئيسي «المظهر والواقع»، فإنها أثارت جدلا أوسع بكثير، فقد كان هذا الكتاب مثارا للشقاق في الفلسفة الإنجليزية الحديثة، وتفاوتت الآراء بشأنه كل التفاوت، ما بين ثناء لا حد له، إلى عدم اكتراث أبله، إلى سخرية مريرة واحتقار صريح، فقد وصفه إدوارد كيرد بأنه أكبر حدث منذ «كانت»، كما قال مويرهيد إنه «لم يظهر أي شيء مثله منذ «بحث» هيوم، فهذا الكتاب، شأنه شأن كتاب هيوم، قد أيقظ المفكرين من جميع المدارس من سباتهم القطعي.»
76
أما خصومه، وعلى رأسهم البرجماتيون، فقد انقضوا عليه بوحشية، وجعلوا منه مسخا مشوها، ورأى غير هؤلاء فيه مزيجا عشوائيا من الجد والهزل، ولم يستطيعوا أخذه مأخذ الجد، واقترح أحد الظرفاء تغيير العنوان إلى «اختفاء مظهر الواقع
The disappearance of Reality »،
77
وعلى الرغم من ذلك فلا يوجد كتاب آخر هز الفلسفة الإنجليزية الحالية من أعماقها، وأثار من التفكير، ومارس من التأثير إيجابا وسلبا، مثل كتاب برادلي «المظهر والواقع».
سارت ميتافيزيقا برادلي في طريق تشييد مذهب، ولكنها لم تفعل ذلك بالتحليق الأهوج فوق التجربة، وإنما طبقت الشرط الذي وضعه برادلي في تصدير كتابه «مبادئ المنطق» فقامت ببحث نقدي (أو سمه بحثا شكاكا إذا شئت) في المبادئ الأولى، وقد اشتهرت كلمته المأثورة التي قال فيها: «إن الميتافيزيقا هي العثور على أسباب رديئة لما نؤمن به بالغريزة، غير أن العثور على هذه الأسباب هو بدوره غريزة بنفس المقدار.»
78
فهو يرى - مثل شوبنهور - أن الإنسان «حيوان ميتافيزيقي»، والميتافيزيقا هي ترياقه الأفضل ضد الخرافة القطعية للاهوت المتزمت، وضد سطحية المذهب المادي، فهي سلاح ذهن نشيط متحرر عقليا، يسعى إلى الخلاص من قيود المذهب الجامد، وهي موقف أكثر منها نظرية، وهي إثارة للمشكلات وبحث عنها أكثر منها حلا لها. ومن هنا كان لنا - إذا شئنا - أن نجعل منها ملهاة، وستظل تحتفظ ببعض قيمتها حتى لو أسفرت عن الشك الكامل؛ ذلك لأن الاتجاه إلى الشك له عند برادلي من الفعالية ما للاتجاه التأملي النظري.
وهو يعزو إلى الميتافيزيقا مهمتين: أولاهما طلب معرفة للواقع متميزة عن مجرد المظهر، والثانية تصور العالم عقليا، لا بطريقة مفككة، وإنما من حيث هو كل على نحو ما. هاتان هما الفكرتان الرئيسيتان في نظريته، أما عن الأولى، فواضح أن من المهم تعريف اللفظين اللذين تضمنهما الفكرة، فما هو المظهر
appearance ؟ إنه ليس الظاهري
phenomenal
في البداية على الأقل - سواء فهم هذا الأخير على أنه ما هو معطى في الوعي أو ما هو مقابل الشيء في ذاته - كما أنه ليس أي مجال محدد للوجود أو الفكر مميزا عن أي مجال آخر، وربما كان هو كل هذه معا، ولكنه قبل كل شيء ما نكون إزاءه كلما صادفنا تباينا بين ما هو موجود وما هو موضوع للفكر. وكلما غاص الفكر في متناقضات أو اقتصرت قدرته على إدراك جزء بدلا من الكل، وكثرة بدلا من الوحدة، وشيئا نسبيا بدلا من شيء مطلق، فالمظهر هو ما هو علائقي
relational
مفكك، وما تسري عليه الصيرورة والتغير، وهو سلب للمعنى والقيمة، إنه يكون حيث يكون الخطأ والشر والخطيئة، وحيثما ننساق في سعي قلق، وحيثما نكتفي، في بحثنا عما هو أسمى وأفضل، باستنفاد أنفسنا واستهلاكها بدلا من أن نصل إلى ما يرضينا.
وهكذا يعرف المظهر في عبارات تكاد كلها تكون سلبية فحسب، فما هو الواقع
reality
إذن؟ إنه ما يقابل المظهر من جميع النواحي، بحيث لا يكون علينا، لكي نعبر عن طبيعته كما تصورها برادلي، إلا أن نستعيض عن الصفات السالبة السابقة بمقابلاتها الإيجابية، فلنرجئ مؤقتا الإتيان بوصف أكمل له، ولنعرف الواقع - بصفة مبدئية - بأنه ما خلا من التناقض، وبأنه وحدة وكلية واستقرار وانسجام، وبأنه شامل لكل شيء، وبأنه حقيقة كاملة، أي بالاختصار: بأنه المطلق.
فما الذي يعزوه برادلي إلى مجال المظهر؟ إن لب تعاليمه إنما يوجد في الفصل الخاص بالعلاقة (أو بالإضافة) والكيف، ولعلنا نذكر أن جرين، والمدرسة القديمة عامة، كانوا يعزون إلى مقولة الإضافة أهمية كبرى، فهو ذلك الذي يضفي على الأشياء حقيقتها بالربط فيما بينها، أما برادلي فيحاول أن يثبت العكس، فهو يقول إننا عندما نختبر بطريقة نظرية ترتيبنا للوقائع تبعا لعلاقاتها وصفاتها نقع في صعوبات ومتناقضات غير متوقعة؛ ذلك لأن العلاقة (أو الإضافة) والصفة يفترض كل منهما الآخر، والصفات ليست شيئا بدون العلاقات، ونحن نكون إزاء علاقات كلما ميزنا أو حكمنا أو فكرنا على أي نحو، وكما قال برادلي في موضع ما، فإن التفكير ينتحر إذا لم يعد علائقيا
relational . وطبيعي أننا عندما نتجاوز الفكر إلى الوحدة المتصلة بالشعور ، نكون قد انصرفنا عن العلاقات والصفات، ولكنا لا نستطيع التفكير في صفات دون التفكير في سمات محددة متميزة بعضها عن البعض، كما أننا لا نستطيع التفكير في هذه الأخيرة دون التفكير في علاقات بينها. وهكذا فإن الصفات لا يكون لها معنى بدون العلاقات، والاثنان لا يتميزان إلا بالفكر، ولا ينفصلان واقعيا. وبالمثل لا يمكن أن توجد علاقة دون صفة؛ إذ لا يوجد ما يربط إذا لم توجد صفات بوصفها حدودا. وعلى ذلك فلا يمكن تصور أي حد مأخوذا على حدة، ولكنه من المؤسف أنه حتى عندما تؤخذ الحدود مرتبطة فيما بينها، فسيظل من المستحيل تصورها؛ إذ إننا عندما نحاول تصور العلاقة بين العلاقة الأصلية وبين الصفة أو الحد، فإنا نبدأ في عملية نسير فيها إلى ما لا نهاية، ما دامت كل علاقة جديدة بين العلاقة الأصلية وبين الحد تحتاج بدورها إلى الارتباط في علاقة مع هذا الحد. ومن هذا كله يستنتج برادلي أنه كلما تحرك الفكر في علاقات أصبح - حسب معيار المعرفة - بديلا أو حلا وسطا، عاجزا عن بلوغ الحقيقة أو الكشف عن واقع الأشياء، فالتفكير العلائقي أو المقالي
discursive
يوقع نفسه بالضرورة في متناقضات، وبالتالي لا يشير إلا إلى عالم الظواهر. وكما قلنا من قبل، فإن القابلية للتناقض هي المعيار الذي ندرك به كون الشيء أو التصور ينتمي إلى مجال المظهر.
وبعد تخلص برادلي من تصور العلاقة، يرد كل التصورات الأولية الأخرى للفكر إلى علاقات، هي بدورها عاجزة عن الاتصال بحدودها إلا من خلال سلسلة لا متناهية - وبالتالي مستحيلة - من العلاقات المتوسطة. وهكذا فإن عالم المظهر عنده مزدحم بدرجة لم تعرف من قبل، وقد كرس الباب الأول كله من كتابه لإثبات أن المقولات والتصورات الأخرى للفكر، وكذلك محتوى التجربة، كل هذا يعاني مما تتضمنه العلاقة من تناقض غير قابل للحل، وبالتالي ينتمي إلى عالم المظهر. وفي هذه الفصول يترك برادلي السفسطائي الشكاك نفسه على سجيتها، في دوامة من التمييزات الحادة والحجج الدقيقة التي تثير سحابة هائلة من الغبار الديالكتيكي بحيث لا يكون لنا أن ندهش حين نرى الأشياء تتهاوى بين يديه، ولا تترك في النهاية إلا عالما من الأنقاض. ففي دوامته الديالكتيكية يكتسح، الواحدة تلو الأخرى، كلا من: الكيفيات الأولى والثانية، والشيء والصفة، الكيف والإضافة ، الزمان والمكان، الحركة والتغير والتعاقب، العلية والفعل والانفعال، الجوهر وهوية الأشياء، بل وهوية الذات، وكل علم طبيعي، والخطأ والشر والخير، بل الدين والله.
ولا حاجة بنا إلى تتبع كل من هذه على حدة، وإنما سننتقي حالة الذات لنضرب مثلا بها على الطريقة التي سار عليها؛ إذ إنها تكشف على أكمل وجه عن مدى استعداد برادلي للخروج عن مواقف المثاليين السابقين عليه، مثل جرين وولاس كلما اقتضى مبدؤه ذلك. وتلك هي أوضح حالة تبين مدى تحكم الإطار الجامد الذي وضعه برادلي في نتائجه مقدما، وإلى أي حد أغمض عينيه عن حل كان قريبا من متناول يده، وفي الوقت ذاته كانت تقتضيه المشكلة ذاتها. فدون أن يبذل حتى مجرد محاولة لحل مشكلة الهوية الشخصية بتحليل مباشر للوقائع المجردة، نراه يكتفي ببحث النظريات المتعلقة بها، وهي نظريات بلغت من الكثرة والتنوع حدا يبعث على الاضطراب، وانتهى إلى أن تصورا له من التباين والغموض ما لتصور الذات لا يمكنه أن يفي بتلك الشروط التي ينبغي عليه، أو على أي تصور آخر، أن يفي بها إذا ما شاء أن يعد حقيقيا أو واقعيا؛ لذلك أدرجه ضمن المظاهر. غير أن الذات تمثل حالة ينطبق عليها بكل وضوح معيار الواقعية الذي رأى برادلي أن له أهمية عظمى، أعني معيار انسجام الواحد والكثير، والكثرة في وحدة مركبة. فهو إذ أنكر وحدة الوعي الذاتي قد جعل الذات مساوية لمجموع تجاربها بدلا من أن يجعلها مساوية لوحدة هذه التجارب. وهكذا انتهى إلى الرأي القائل إنها مجرد حزمة من الأحوال المتفرقة، فاقترب بذلك كثيرا من نظرية هيوم التي كان قد أعلن صراحة عن عدم رضائه بها. والأهم من ذلك أنه تخلى بهذا عن الرأي الذي كان قد عرضه في مذهبه الأخلاقي من قبل. وفضلا عن ذلك فإن هذا قد جعل من المستحيل عليه - كما سنرى فيما بعد - أن ينتفع على أي نحو من مقولة الشخصية في تحديد المطلق. وهكذا فإن نظريته في الذات، كما عرضها في كتابه عن الميتافيزيقا، تمثل نكسة إلى التجريبية (التي كانت تربطه بها بالفعل صلات قوية)، وهي تعد مثالا للطريقة التي أساء بها مفكر لامع الذهن مثله إلى مشكلة في سبيل مبدأ.
وهكذا لا يتبقى لدينا، بعد هذا كله، إلا ثنائية وهوة شاسعة بين المظهر والواقع، ولكن من الواضح أن المسألة لا يمكن أن تقف عند هذا الحد. وهكذا يتصدى برادلي في الباب الثاني من كتابه لمعالجة الجراح التي سببها في البداية؛ فهو يبين عندئذ أن العالمين المفصولين ديالكتيكيا لا يمكن أن يوجدا منعزلين، وأن كلا منهما يتضمن إشارة إلى الآخر، فالمظهر هو - على أية حال - شيء ما وليس عدما؛ ولذلك ينبغي أن ينتمي إلى الواقع على نحو ما. ومن جهة أخرى فلو أخذ الواقع في ذاته وبذاته لكان عدما، فمن الواجب إذن أن يشتمل على المظهر على نحو ما، إذ لا يمكن - على أبسط الفروض - أن يكون أقل من هذا. وهكذا انتهى برادلي إلى أن المظهر في حاجة إلى الواقع لتكملة ذاته، وأن الواقع في حاجة إلى المظهر ليجعل لذاته مضمونا وواقعية، وهنا ينبغي أن نتساءل عن الطريقة التي ينتمي بها المظهر إلى الواقع، أو إلى المطلق كما يسميه برادلي عادة. وهو يقول في نهاية الكتاب (مشيرا إلى هيجل، مع إبداء الموافقة على رأيه) إن الواقع روحي. فإذا ما تأملنا هذا القول في ضوء المجرى العام لاستدلاله، لبدا لنا أنه خاتمة بلاغية أكثر من كونه ممثلا لرأيه الحقيقي؛ إذ إنه قد أعلن أن الفكر العلائقي (الذي لا يعرف برادلي للفكر نوعا غيره) لا يمكن بأية حال أن يعبر عن طبيعة المطلق، وأعلن بوجه خاص أن المطلق لا يمكن تصوره على مثال الذات أو الشخصية، ما دام الفكر والذات ينتميان سويا إلى عالم المظهر، أما رأيه الحقيقي، الذي يدل مرة أخرى على استمرار عناصر تجريبية في تفكيره، فهو أن المطلق تجربة حاسة، إنه حقا نسق واحد منسجم شامل، ولكن محتواه يتألف من التجربة الحاسة، وفي هذا المطلق تنحل كل الفوارق في وفاق أو ترفع (
aufgehoben ) على حد تعبير هيجل.
والحق أنه لمما يبعث على الحيرة، بعد ذلك المستوى الرفيع الذي رفع إليه برادلي المطلق، أن نراه يوحد بين المطلق وبين التجربة الحاسة، ويرفع هذه الأخيرة بالتالي فوق مستوى التجربة المنظمة أو التي نتوصل إليها بالفكر. فمن الواضح أنه لا توجد تجربة نستطيع بها أن ندرك المطلق إدراكا مباشرا. وربما كان برادلي قد شعر بهذه الصعوبة؛ إذ إنه بحث عن تشبيه ليوضح معناه، وأحالنا في النهاية إلى التجربة الباطنة التي نمارسها عندما نحس مباشرة بشعور خالص متجانس تماما. فهو يرى في هذه الأخيرة أنموذجا أو صورة دنيا لتجربة «المطلق»، نظرا إلى ما تتصف به من كلية لا تتجزأ. والاثنتان متوازيتان، ولا تختلفان إلا من حيث إن إحداهما تقع في الجانب الأقرب لعالم المظهر المتناقض، نظرا إلى أنها لم تخضع بعد للنشاط المقالي (
discursive ) للفكر، بينما الأولى تتجاوزه، لا بالمعنى المكاني، وإنما بمعنى أنها قد علت على الانقسامات والتقابلات التي يأتي بها الفكر، واستعادت التجربة الأصلية المتصلة على مستوى أعلى. هذا الطابع المطلق للشعور، الذي يبعث النشوة أحيانا في نفس برادلي، يؤدي به إلى إصدار تأكيدات جريئة إلى حد مفزع، من أمثلتها ما يلي: «لا شيء حقيقيا أو واقعيا في النهاية إلا ما هو موضوع للشعور، وبالنسبة إلي لا يكون هناك في النهاية شيء واقعي إلا ما أشعر به ... فالواقع - لكي يكون واقعا - ينبغي أن يشعر به.»
79
وفي الشعور نحس بالكثرة على أنها وحدة، وبالأجزاء على أنها كل، فهنا نكون على مستوى أدنى من مستوى التقسيم إلى ذات وموضوع، والتقابل بين الصواب والخطأ، هذه التجربة، التي هي أكثر تجاربنا أولية، تتصف بتلك الوحدة في الكثرة، التي أنكرها برادلي على أعلى التجارب مستوى، أعني تجربة الوعي الذاتي، غير أن الوحدة هنا «تمارس» فحسب، وهي تختفي بمجرد إعمال الفكر فيها، بل إننا لا نستطيع التعبير عنها بألفاظ، وإنما نستطيع فقط أن نشعر بأنها انعكاس لتلك التجربة الأعلى التي نشارك بها في المطلق.
وهكذا تتضح الآن الخطوط العامة لنظرة برادلي إلى العالم. فهي ترسم صورة لثلاثة مستويات: أدناها عالم الشعور المباشر، أي التجربة قبل العلائقية
pre-relational
التي نشعر فيها بكل لا انقسام فيه ولا تنوع، ويلي ذلك المستوى الديالكتيكي، أي عالم الفكر الذي توجد فيه علاقات تفكك الوحدة الأصلية للشعور، وتكون فيه الأشياء مظاهر فحسب لا واقعا، والثالث عالم الواقع والمطلق الذي تعود فيه، في مركب أعلى، تلك الوحدة والكلية المفقودتان في المرحلة الثانية. ويمكن التعبير عن معنى برادلي بدقة على نحو أكثر عينية وإنسانية. فنحن إذ أكلنا من «شجرة المعرفة» قد فقدنا وحدتنا النقية الأصلية، وأصبحنا في كل سعي لنا نهدف إلى استردادها. غير أننا لا نستطيع أبدا أن نرجع إلى حالتنا الأصلية، فأبواب الجنة الأرضية موصدة في وجوهنا إلى الأبد، ولكنا ربما اهتدينا بعد أن نكون قد تحملنا حياتنا المضطربة الممزقة هنا، إلى الوحدة ثانية في عالم أعلى وأسمى، وسواء أمكننا إدراك ذلك أو لم يمكننا، فإن كل شوق لنا، في الوقت الحالي إنما يتجه إليها، فالإنسان ينتقل من البراءة النقية للشعور الساذج، إلى إثم المعرفة، ومنه إلى التوبة والخلاص في المطلق.
وفي هذا الصدد يبدو المطلق عند برادلي على أنه ناتج عن رغبة، وتحقيق متخيل لها. والواقع أن في كتابه فقرات نستطيع أن ندرك فيها تلك العاطفة العميقة، التي ترقى أحيانا إلى مرتبة الشوق الصوفي، والتي كان يسعى بها وراء المطلق ليصبح وإياه واحدا؛ ذلك لأن المطلق، على أية حال، ليس رتابة خاوية مملة، إذ أنه يضم كل ما في الفردي والجزئي من ثراء وتنوع، ويحتفظ به في داخله، وهو على أسوأ الفروض لا يمكن أن يكون أفقر من عالم المظهر الحسي، بل إنه ينبغي أن يكون أثري إلى حد لا متناه من أي شيء تمدنا به تجربتنا الحالية، فلا شيء يضيع فيه. «إن كل لهيب انفعالي ، عفيف أو شهواني، يظل يشتعل في المطلق دون أن يرتوي أو تخف حدته، فهو نغمة يستوعبها التوافق المميز لسكينته وطمأنينته الرفيعة.» ولكن كيف تدخل المظاهر في المطلق وتكون جزءا من طبيعته؟ من المحال قطعا أن يكون ذلك بالصورة التي نعرفها بها الآن، أي بما تتميز به في حالتها الراهنة من اضطراب وحيرة، بل ينبغي أن تتغير هيئتها ويعاد تشكيلها لكي تلائم الحياة العليا والكاملة، وليس في وسعنا أن نذكر كيف يحدث ذلك في كل حالة، بل كل ما نملك أن نفعله هو الاكتفاء بالتخمين والترجيح، فعناصر التجربة، من شعور وإرادة وفكر أيضا، ستكون هناك، ولكنها لن تعود في حالة شقاق. فلا بد من وجود إرادة حيث يغدو المثل الأعلى حقيقة واقعة. على أن الفكر ينبغي أن يطرأ عليه تبدل عميق، فسيكون ماثلا بوصفه حدسا أعلى، وبذلك يفقد طابعه المميز، ويلتهم ذاته عند بلوغه مثله الأعلى، ويعلى عليه عند الاهتداء إلى ذلك العلو الذي يكون البحث عنه ماهيته ذاتها. وواضح أن برادلي يعني هنا بالفكر ذلك الفكر العلائقي المقالي، والنشاط المتناهي للذهن، لا الفاعلية المطلقة للعقل، ولو كان فقط قد توسع في هذا الفهم الضيق المحدود الفكر في اتجاه «الفكرة المطلقة
Idea » عند هيجل، لوجد ما كان يبحث عنه دون جدوى.
ولا يستثنى الخطأ والشر من عملية التحول الكبرى التي تدمج بها المقولات والمظاهر المتناهية في المطلق، ففيما يتعلق بالخطأ، يكون معنى هذا الاندماج أنه لا يمكن وجود تعارض أساسي بين الحقيقة والخطأ، وإنما الأمر كله أمر درجات من هذا وذاك، فالخطأ في الواقع «هو» الحقيقة، أي هو الحقيقة الجزئية الناقصة، التي نتأملها من وجهة نظر فهمنا المحدود القاصر، أما في التجربة الكلية فإنه يصحح ذاته ويختفي. ومن الواضح أن برادلي هنا لا يحل هذه المشكلة الخطيرة غاية الخطورة، وإنما يكتفي بالزيغ والتهرب منها. ولا جدال في أن الهجمات العنيفة التي وجهها خصوم برادلي، ولا سيما البرجماتيون، إلى نظريته في الخطأ، قد مست نقطة شديدة الضعف في مذهبه.
كذلك يتضح أن الألم والشر، شأنهما شأن الخطأ، متمشيان مع الكمال المطلق، ولا ينكر برادلي أن لهما وجودا فعليا، ولكن المسألة التي يهتم بها هي طريقة التحول الذي يمكن أن يطرأ عليهما. وهو هنا يلجأ إلى تشييه، فمن التجارب المألوفة أن الألم البسيط يمكن أن يستوعب في لذة أعظم، فيختفي نتيجة لذلك، صحيح أن شدة هذه اللذة ستقل عندئذ، غير أن الشعور في مجموعه يمكن أن يظل شعورا باللذة، فمن الممكن إذن، إذا ما حسبنا مجموع الأمور حسابا شاملا، أن تطغى اللذة على الألم وترجح كفتها عليه. ويبدو أن هذا الإمكان المحض يزيح، بالنسبة إلى برادلي، آخر عقبة تقف في وجه كمال المطلق، فهو حين ينتقل إلى مشكلة الشر، يذهب إلى أن الشر لا يوجد إلا في التجربة الأخلاقية، وإلى أن التجربة الأخلاقية في أساسها حافلة بالتناقض، وأن هناك رغبة ديالكتيكية تدفعها إلى العلو على هذا التناقض في مجال أعلى - أي فوق الأخلاقي - من مجالات الوجود. وهكذا يدخل الشر في خدمة الخير، مستهدفا تحقيق هذا الأخير، وإن يكن ذلك عن كره منه، وهنا أيضا، كما في حالة الخطأ، يختفي التعارض إذا ما وسع مجال الإشارة بما فيه الكفاية «فكل ما نحتاج إلى فهمه هنا هو أن «مقصد السماء»، إذا ما كان لنا أن نتحدث على هذا النحو، يمكن أن يحقق ذاته بنفس الفعالية في كاتيلينا
Catiline
80
وبورجيا
Borgia
81
مثلما يتحقق في صاحب الضمير الحي أو في البريء الساذج.»
82
وأن التفاؤل المفرط الذي يتخلص به برادلي من هذه المشكلات الخطيرة، وتشويهه للحقائق في صورة أقرب إلى رغبته الشخصية، ليشكك المرء فيما إذا كان من الممكن للمطلق أن يبعث ذلك الرضاء «النظري» الذي ابتدعه من أجله.
وكما رأينا من قبل، فإن المجال فوق الأخلاقي الذي تهفو إليه الحياة الأخلاقية هو الدين. ولم تكن لبرادلي صلة وثيقة أو أساسية بالأمور الدينية، وإن المرء ليحس بأن ما قاله عنها سطحي، وبأنه ليس ناتجا عن معاناة وتجربة، وإنما عن تفكير نظري قام به وهو قابع في مقعده الوثير فحسب. وهو في هذا يقول إنه رغم أن الدين مطلق بالنسبة إلى الأخلاقية، فإنه بالنسبة إلى «المطلق» مجرد مظهر. وتؤدي التناقضات الداخلية التي يهتدي إليها برادلي في الدين إلى دفعه إلى تجاوز ذاته، ليصل إلى كمال الكل الميتافيزيقي الأعلى. فما هي إذن العلاقة بين الله وبين المطلق؟ إن الله لا يكون إلها إلا بقدر ما يكون هو الكل، ولكنه بهذا المعنى ليس هو الله، كما تعرفه الأديان، الذي هو أقل من المطلق. وهكذا فإن تصور الله ينجذب بدوره، بعد كل التصورات الأخرى، في الدوامة الديالكتيكية، فهو ليس الكل وإنما هو وجه واحد، وبالتالي مجرد مظهر، بحيث ينبغي أن يطرأ على الله، ومعه الدين، ذلك التحول الذي يغوص به في «الواحد» الميتافيزيقي النهائي، ولا شك أن هذا الحل - أو قل هذا الانحلال - الغريب محتم بالنسبة إلى مذهب برادلي؛ ذلك لأنه بعد أن نظر إلى الشخصية على أنها حزمة من المتناقضات، وبالتالي على أنها حقيقة من مرتبة أدنى، لم يعد أمامه بد من أن يعزو إلى المطلق طبيعة فوق الشخصية، وأن يصفه من خلال فكرتي الاتساق والانسجام، أما الدين فكان بالنسبة إليه مسألة عملية، ونظرا إلى أن صوره وتصوراته تتجه أساسا إلى تحقيق غايات عملية، فلا يلزم أن تخلو من التناقضات النظرية. أما كون معظم الأديان تصور الكائن الأعلى على أنه شخص، فتلك مجرد نتيجة للحاجة البرجماتية التي تعبر عنها هذه الأديان. وعلى أية حال فإن هذا التصوير، كما يقول برادلي، لا يمكن أن يفي بمقتضيات المبدأ الميتافيزيقي الذي يسميه المطلق؛ ومن ثم فهو يقصر دونه.
فالمطلق إذن هو الغاية التي تسعى إليها كل الأشياء، والذي تؤثر كل الأشياء، من أجله، أن تضحي بطبيعتها الخاصة على أن تظل على حالتها القلقة الراهنة؛ وعلى ذلك فإنه هو المعيار الأسمى لكل قيمة، وهو ما يجعل الصحيح صحيحا، والجميل جميلا، والخير خيرا، «إن المطلق إنما وجد ليضمن أن يكون للأعلى، في كل الأحوال، أكبر مكانة وأن يكون للأدنى أقلها.»
83
فهو الواقعي بمعنى مؤكد أو رفيع، وهو الواقعي بوصفه قيمة، أما كل ما في عالم المظهر فهو مغترب عن طبيعته الخاصة، وبالتالي فهو دائما في عملية انتقال من طابعه المتناهي إلى كماله الحقيقي، فكل هذه الأشياء في صيرورة وتغير دائمين، وهي لا تصل إلى الكمال في ذاتها، ولا تحمل في ذاتها معنى وجودها الحقيقي.
ولكن ألا تعني هذه الحركة الدائمة نحو الكمال وتحقيق المثل الأعلى، أننا نقلل إلى حد بشع من القيمة الحقيقية الصحيحة للأشياء، ونلغي تماما كل ما تكونه وما تفعله هنا، والآن؟ أليس مما يزيد الأمر سوءا أن يترك المثل الأعلى دون أي تحديد أو تمييز، بحيث لا يمكنه أن يقدم تعويضا كافيا عن هذه التضحية الشديدة للأشياء التي لا تعود على ما هي عليه مطلقا؟ لقد شعر برادلي ذاته بهذه الصعوبة، وحاول أن يخففها في فصل (رأى الكثيرون أنه لا يرتبط بأفكاره الرئيسية ارتباطا حقيقيا) عن «درجات الحقيقة والواقع»، وفي بعض الشروح المكملة في كتابه «أبحاث في الحقيقة والواقع»، فهو في هذه المواضع يقول إنه لا يلقي بكل الأشياء دون تمييز في حومة المطلق، فمتى في عالم المظهر القائم الناقص، يوجد تمييز بين درجات أو مستويات تحدد تبعا للقرب أو البعد عن المثل الأعلى الذي يضعه المطلق، وبالمسافة التي تفصل بين أي مظهر وبين المثل الأعلى - أي درجة واقعيته - وتقاس هذه الدرجة بمقدار التغير اللازم لإدخال المظهر في نسق الواقع، فجميع الأشياء - بالقياس إلى المطلق - نسبية، غير أن هناك درجات النسبية، وبالتالي - بمعنى ما - درجات من الواقعية أو من الطابع المطلق
absoluteness ، وهذا هو الذي يتيح ترتيب درجات الأشياء، فالبدن والذهن مثلا هما معا مجرد مظهرين، غير أن الذهن أقرب إلى الواقع. وهكذا فإننا لو نظرنا إلى كل شيء من مستواه الخاص، لرأينا له قيمة نسبية خاصة به، تقدر تبعا لمدى اشتماله لطبيعة الكل العيني، الذي هو الواقع، ومدى تعبيره عنها، ومثل هذا يقال عن الحقيقة، فالمستويات الدنيا للمعرفة، إذا ما نظر إليها من المستويات العليا، تبدو متناقضة مفتقرة إلى الترابط، ولكنها إذا ما نظر إليها في ذاتها، وقيست تبعا لدرجة وضوحها الخاص، تغدو متسقة صحيحة، وهنا يزداد برادلي اقترابا من المعنى العميق لفكرة هيجل في المراحل الديالكتيكية، ويقدم عرضا أفضل للمعنى الحقيقي للتمييز الأساسي بين المظهر والواقع، لا بالنسبة إلى مذهبه الخاص فحسب، وإنما بالنسبة إلى جميع المذاهب المثالية بوجه عام.
أبرز سمات فلسفة بوزانكيت قرابتها الوثيقة من فلسفة برادلي، وكأن الرجلين يكونان شركة، يمثل فيها برادلي الذهن المنشئ الذي جاء بالبادرة الأولى وأخصبها بعد ذلك، ويمثل بوزانكيت - عموما - الذهن الأكثر تفتحا والأقدر على العمل والتنفيذ. غير أن من الإسراف أن يقال - كما فعل البعض في الآونة الأخيرة - إنه يكاد يكون من الممكن النظر إلى الاثنين على أنهما شخصية فلسفية واحدة؛ ذلك لأنه، على الرغم مما بينهما من اتفاق كبير في الموقف العام فضلا عن التفصيلات، فليس من الصحيح أن تسمى فلسفة بوزانكيت مجرد ترديد لفلسفة برادلي، فهي تمثل إعادة بناء مستقلة وتوسيعا وتطبيقا لتعاليم برادلي، قام به مفكر أصيل تصادف أنه متفق مع برادلي، وإن لم يكن يقل عنه مقدرة، فليس أحدهما هو المعطي والآخر هو الآخذ فحسب، بل لقد كان بين الاثنين تبادل مثمر للآراء، كان برادلي فيه هو المستفيد في أحيان غير قليلة.
ولقد كان بين حياة كل من برادلي وبوزانكيت اختلاف هائل، (على الرغم من أن بداية حياتهما ونهايتها كانتا متفقتين في الزمان تقريبا). وقد انعكس ذلك الاختلاف أيضا في عقليتهما وطريقتهما في التفلسف، فقد كانت طبيعة برادلي منطوية منعزلة، ولم يشغل منصبا تعليميا، ولم تكن له واجبات تستحق الذكر، وهو لم يكن تواقا إلى النشاط العملي، وإنما ظل مغلقا على ذاته، منصرفا بكليته إلى حياة التأمل، وقضى حياته كلها بين جدران كليته في منفى اختياري عن العالم. أما بوزانكيت فكانت له، على العكس من ذلك، طبيعة إيجابية عملية، وقدرة هائلة على العمل، ولم يستطع أن يقنع بالحدود الضيقة لحياة المحاضر الجامعي إلا فترة محدودة، فبعد عشر سنوات قضاها في هذه الحياة، وجد مجالا أوسع وأبرز للعمل في لندن، حيث كان يقوم بالمساعدة في تنظيم الخدمات الاجتماعية ويحاضر في الجمعيات الفلسفية وفي فصول كانت قد بدأت تنشأ عندئذ بموجب حركة تعليم البالغين الجديدة. وعلى حين أن برادلي لم ينشر إلا أربعة كتب من جميع الأحجام، فإن بوزانكيت ، الذي كان من أخصب كتاب الفلسفة في عصره وأوسعهم مجالا، نشر ما يقرب من العشرين.
ولقد كانت عزلة برادلي عن الحياة متمشية مع تحفظه العقلي الشديد، فقد كان تفكيره منطويا على ذاته، جافا خشنا لا يعرف التسامح، ويكاد يكون محصنا ضد المؤثرات الجديدة. أما ذهن بوزانكيت فكان سخيا ودودا متسامحا، متفتحا على المعارف والتجارب الجديدة، قابلا للتشكل تبعا للمواقف الجديدة، ولقد كان يفوق زميله في سعة الثقافة والتحصيل، وفي تعدد جوانب اهتمامه، وإن كان يفتقر إلى تعمق زميله وقدرته على النفاذ إلى بواطن الأمور ومقدرته الخلاقة الأصيلة،
84
وكان للاثنين معا تأثير لا حد له، على الفلسفة الإنجليزية المعاصرة لهما، وما زال هذا التأثير قويا إلى اليوم، في الوقت الذي أخذت فيه الحركة المثالية تضمحل. ولقد نمت الحركات المعارضة لهما بفضل ما استمدته منهما، وزادت من حدة أسلحتها بفضل خلافها معهما. أما في القارة الأوروبية فإن تعاليمهما لم تلق إلا اهتماما ضئيلا، ويكاد اسم بوزانكيت يكون مجهولا، ولم تترجم من كتبهما إلا كتاب «المظهر والواقع» لبرادلي (ترجم إلى الألمانية سنة 1928).
ولقد وجدت المثالية المطلقة في برادلي وبوزانكيت أفضل من يمثلانها بين الإنجليز، فقد توسع فيها الأول في اتجاه العمق، والثاني في اتجاه الامتداد. وإلى بوزانكيت على التخصيص يرجع فضل بناء نظرة برادلي إلى العالم على أساس أوسع كثيرا وتطبيقها وعرضها، بكل ما فيها من نواح مثمرة، في جميع الفروع الفلسفية، أي في علم الجمال وفلسفة الدين والقانون والدولة، فضلا عن علم النفس والمنطق ونظرية المعرفة والأخلاق. وهو في هذه الخاصية الموسوعية يزداد اقترابا إلى هيجل من برادلي، كما أنه على وجه العموم تلميذ أشد تمسكا بتعاليم الأستاذ وإخلاصا لها. ونستطيع أن نقول إنه أعاد مذهب برادلي إلى نقطة بدايته الهيجلية الأولى، وإن السبب في ذلك ليس فقط كونه أقل قطعية من برادلي، بل أيضا كونه أقل منه نزوعا إلى الشك. ولقد أشار البعض، عن حق، إلى أنه قد عمل في كل الأحوال على تغيير الاختيار القاطع عند برادلي، الذي يعبر عنه كلمة «إما كذا وإما كذا»، إلى تعبير أخف وأقل حدة، هو «كلاهما معا»، بحيث كان يسعى إلى تخفيف التعارض بين المدارس بدلا من أن يؤكده ويزيده حدة. ولا أدل على اتجاهه هذا من البرنامج الذي وضعه لواحد من كتبه المتأخرة، والذي يتضح في عنوانه، هو «تقابل الأضداد في الفلسفة المعاصرة»، وهو كتاب بذل فيه قصارى جهده ليهتدي إلى أساس مشترك تستطيع جميع المدارس أن تبدأ منه محاولة تعاونية لمواجهة مشكلات الفلسفة. وهكذا وجد ذهنه الرحب اللامع تعبيرا مميزا له في هذا الموقف، وكذلك في موقف الشهامة الذي كان يعامل به خصومه إذا ما رأى نفسه مضطرا إلى الاختلاف معهم، ومع ذلك فلزام علينا أن نعترف بأن هذه الشهامة قد أدت به في كثير من الأحيان إلى التنازل عن آرائه على نحو لا يتفق مع موقفه الخاص.
ونستطيع أن نقول إن المثالية قد شعرت، عند بوزانكيت، بالحاجة إلى مزيد من التجربة، وضمت إلى مجالها الخاص مجالات فكرية واسعة، ولقد كانت الميادين الخاصة التي تغلغل فيها أكثر من أن تتيح لنا تتبعه حيثما ذهب. ومن هنا كان يكفينا أن نستخلص، من عدد قليل منها، الاتجاه العام لتفكيره. ونستطيع أن نقسم نشاطه التأليفي، بوجه عام، إلى ثلاث فترات: في الأولى كان يهتم قبل كل شيء بالأسس المنطقية لمذهبه، وفي الثانية بمشكلات علم الجمال والأخلاق وفلسفة الدولة، وفي الأخيرة أكمل أطراف نظرته إلى العالم بميتافيزيقا بناءة، وبتطبيق هذه الميتافيزيقا على مجال الدين.
ففي مجال المنطق، نستطيع أن نقول إن بوزانكيت قد عمق المنطق المثالي وأثراه إلى حد بعيد، ولقد تأثر في هذا المجال ليس فقط بهيجل وبرادلي ولوتسه وزيجفارث
85
وإنما بمل وجيفونز أيضا، على الرغم من معارضته لهما. ويقدم «منطق» بوزانكيت الخاص، الذي أكملته فيما بعد دراسات لمشكلات خاصة ، «موفولوجيا للمعرفة» - كما يدل العنوان الفرعي لكتابه في المنطق - والمقصود بهذا التعبير عرض لنمو الأشكال المنطقية وارتباطها الباطن. وكان ذلك خروجا منه على طريقة الاكتفاء بالتعداد والتصنيف، التي يتبعها علماء المنطق الصوري، فقد كان منذ البداية مهتما بحركية الفكر المنطقي وعلاقته الأساسية بالنسق، ولم يكن التفكير في نظره أفعالا ذاتية وإنما رأى أنه يدين بطابعه المميز لإشارته إلى المجال الموضوعي للأشياء، وهو المجال المستقل عن هذه الأفعال، فهو يدرك الواقع ويغدو هو وإياه شيئا واحدا. وهكذا فإن للمنطق نفس مضمون الميتافيزيقا، وإن كلمة هيجل القائلة: إن الحقيقة هي الكل، لتصح على الأول مثلما تصح على الثانية، هذه الفكرة تنتشر في جميع تعاليم بوزانكيت، فالحقيقة لا تكون إلا في نسق، بحيث إن علامتها المميزة هي الترابط
coherence ، أي التوافق في ارتباط جميع الأجزاء في كل منظم، لا في التطابق الخارجي بين الفكر والواقع، كما تقول نظرية النسخة والأصل،
86 «والوقائع الخالصة» لا تكون لها واقعية ولا حقيقة حتى ترتبط مع وقائع أخرى وتدرك في مكانها في ترتيب الكل.
فالصورة المنطقية الأولى والأساسية في بوزانكيت - كما هي في نظر برادلي - هي الحكم لا التصور؛ إذ ليس للتصور مكان في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءا عضويا من حكم، فالحكم معنى يكون كلا عضويا، وبالتالي لا يمكن فهمه إلا في ضوء الوحدة الوظيفية لأجزائه. أما إذا أخذنا نعدد هذه الأجزاء ونحللها، كان في ذلك تمزيق لنسيجها الحي، وكل فعل للحكم يشير إلى واقع خارج هذا الفعل ذاته، ومن الواجب أن يعد حكم الإدراك الحسي المألوف تماما تعبيرا جزئيا عن الواقع، أما الحكم الكامل فلن يكون أقل من تأكيد الواقع كله في أعم صورة له؛ لذلك فإن الواقع - بما هو كذلك - هو في آخر الأمر الموضوع المميز لكل حكم صحيح، وفي كل حكم تفترض مقدما كلية الأشياء بطريقة أو بأخرى على الدوام، حتى ولو كنا لا ندركها في عملية الحكم إلا بطريقة جزئية، وإذن فلما كان الحكم هو الجهد الذي يبذله الفكر لتحديد الواقع، فإنه لن يتباين فقط تبعا لاختلاف الأنواع الكيفية للواقع الذي يحدده من آن لآخر، بل أيضا تبعا لدرجة النجاح الذي يحققه في هذا التحديد، وسواء اتخذ الحكم شكل معادلة رياضية أو تعريف منطقي أو حكم تقويمي، فإن أهم طابع يميزه يتحدد بالكل الكامن الذي يدركه.
ويتضح نقص المنطق الصوري التقليدي والمنطق الاستقرائي الذي قال به التجريبيون على السواء إذا ما قيسا بالفكرة التي ترى المنطق متوقفا على النسق وعاملا يدخل في تركيب الواقع. ويزداد ذلك وضوحا في فكرة الاستدلال عند بوزانكيت، وهي الفكرة التي يعرضها في كتابه «المنطق»، كما يقدم لها عرضا عميقا في بحثه الموجز «التضمن والاستدلال التسلسلي»، فهو هنا يميز بين رأيين ممكنين في الاستقراء، التسلسلي
Linear
والنسقي
systematic
فالقياس، الذي هو أصدق ممثل لكل أنواع الاستنباط، يسير تبعا للرأي الأول، فهو يربط محمولا بموضوع، ويأخذ النتيجة على أنها موضوع جديد، ويربط بها محمولا آخر، وهكذا يسير على شكل متسلسل، ومعظم الاستدلالات المسماة بالاستقرائية تسير على نفس النمط. وفي مقابل هذه الأنواع يقول بوزانكيت برأي آخر في الاستدلال، يراه فيه نسقيا
systematic ، أي تضمنيا بدلا من التسلسلي، بحيث يكون التضمن هو تشابك الأجزاء في كل نسق سابق عليها، يوجه العملية الاستدلالية كلها ويتغلغل فيها نتيجة لصفة السبق هذه، فنحن في كل استدلال حقيقي، سواء أكان ذلك في التفكير العلمي أم في التفكير اليومي، نستعرض نسقا من الوقائع، ونتأمله في علاقته بنسق أكبر للواقع، ونتبين المتضمنات بطريق مباشر أو غير مباشر، وكلما كانت ارتباطات النسق في أي فرع للمعرفة أكمل وأشمل، كانت تلك المعرفة أرفع.
ومن الطريف، في صدد هذا الرأي القائل إن جميع العمليات المنطقية ترتكز على استدلال نسقي لا تسلسلي، أن نلاحظ تأثير هوسرل؛
87
ذلك لأن أعمال هوسرل في عمومها، ولا سيما منهجه في حدس الماهيات بوجه خاص، قد أدى ببوزانكيت إلى الفكرة القائلة إن التبدي المباشر للدالات أو التضمنات الرابطة يلعب، في جميع العمليات المنطقية، دورا أهم بكثير من الاستدلال على أساس التجربة السابقة، فهناك عامل حدسي يؤدي دوره، ويمكننا من أن نتأمل ماهية الأشياء في أعمق أعماقها - إن جاز هذا التعبير - وندرك على التو ارتباطاتها داخل النسق. وهكذا لا يتردد بوزانكيت في أن يعلن أنه ليس من الصحيح على الإطلاق أن يقال على هذا الحدس إنه لا منطقي أو لا معقول، بل إنه يكون ماهية كل الأنواع العليا من الاستدلال، كذلك ينبغي أن نلاحظ أن التضمن بهذا المعنى يعني بالنسبة إليه نفس ما يعنيه الديالكتيك. ولما لم يكن من المحتمل أنه قد عرف بوجود ارتباط تاريخي وثيق بين ديالكتيك هيجل وحدس الماهيات عند هوسرل، فإن إدراكه للعلاقة الوثيقة القائمة بينهما هو دون شك علامة على صدق فطرته.
أما في ميدان الفلسفة السياسية، فإن بوزانكيت كان يسلك نفس الطريق المثالي العظيم الذي سار فيه أفلاطون وأرسطو وروسو وهيجل وجرين. وإذا استثنينا المحاولة التي بذلها جرين على استحياء، فقد كان بوزانكيت أول مفكر في إنجلترا يقوم بعملية إحياء حقيقية لفكرة الدولة كما تصورها هيجل، في مقابل النظريات القومية الليبرالية عند بنتام ومل وسبنسر. وعلى حين أن جرين قد توقف في منتصف الطريق، فإن بوزانكيت قد سار الشوط كله مع هيجل، وكان أول من فعل ذلك، ويمكن القول، دون تحفظ: إن وضعه لنظرية الدولة كان أكبر وأهم محاولة في الحركة المثالية الإنجليزية.
والمشكلة الأساسية في هذا الصدد هي علاقة الفرد بالمجتمع، وهي المشكلة التي سرعان ما تغدو جزءا من المشكلة الميتافيزيقية العامة، مشكلة علاقة الجزء بالكل، فالفرد المنعزل الذي اتخذت منه جميع النظريات السياسية الإنجليزية تقريبا نقطة بداية لها (وقد أطلق بوزانكيت على هذه النظريات اسما ملائما هو «نظريات الوهلة الأولى
theories of the first look »)، لا يمكن أن يكون هو الفرد الذي نعرفه في المجتمع أو الدولة والذي نهتم به في هذا الفرع من الفلسفة، كذلك لا بد أن يكون هنالك خطأ في الافتراض القائل إن الناس بطبيعتهم أفراد من هذا النوع، ينعزل بعضهم عن البعض، أو حتى يعارض بعضهم البعض، ولا يتجمعون سويا في مجتمع إلا في مرحلة متأخرة، وبطريقة مصطنعة أو خارجية، فلقد خطا روسو خطوة هائلة إلى الأمام، واستبق النظرية المثالية في الدولة، بتمييزه بين «إرادة الجميع
Volonté de tous » وبين «الإرادة العامة
Volonté générale »، فالأولى لا تعدو أن تكون مجموع الإرادات الخاصة، بينما الثانية تتضمن فكرة الوحدة العضوية. ويوضح بوزانكيت هذا التمييز فيضرب له مثلا دالا عليه، هو التفرقة بين الحشد الذي اجتمع كيفما اتفق، والجيش المنظم؛ فليس بين أفراد النوع الأول ما يشتركون فيه إلا تجمعهم سويا، أما أفراد النوع الثاني فيجمع بينهم تنظيم يتحدد فيه الأفراد تبعا لكل منظم يتغلغل ويحيا فيهم. وهكذا فإن الفرد، عندما تتغلغل فيه، على هذا النحو، الإرادة العامة، يتخلص من عزلته، ولا يعود مفككا منفصلا عن غيره، ويرتفع إلى مستوى أعلى، ويبلغ فرديته الأصيلة التي تنتمي إلى ذات تربطها بالكل الجماعي رابطة عضوية. وبهذه النظرة العميقة إلى الفردية حطم بوزانكيت أساس النزعة الفردية في النظرية التجريبية في الدولة.
ولو نظرنا إلى الذات الجزئية من الوجهة الأخلاقية، لكانت هي الذات الأنانية التي تحيا تماما بدوافعها الطبيعية، على حين أن الذات العضوية هي الذات المعنوية أو العاقلة. والآن يمكن تحديد ماهية الدولة وغايتها، فالدولة هي الإرادة العامة أو العاقلة، وهي كائن مستمر في هوية مع ذاته، يتغلغل في كثرة من الأفراد الذين لا يكون للدولة وجود ومعنى إلا فيهم وبهم، والغاية العليا للدولة هي نفس غاية الفرد، أي تحقيق أفضل حياة ممكنة، أو الارتفاع بطبيعتنا إلى الوحدة الكاملة مع الكل الاجتماعي. والأمران سيان، غير أن للدولة، في غايتها المباشرة، وظيفة أخرى أكثر سلبية، هي إزاحة العقبات التي تقف في وجه تحقيق الغاية الأخلاقية. ولما لم يكن من الممكن دائما إزاحة هذه العقبات بالتأثير الأخلاقي البحت، فإنه يتعين في كثير من الأحيان الالتجاء إلى الإرغام والقهر. وهكذا فإن القوة جزء أصيل لا يتجزأ من طبيعة الدولة؛ إذ أن الأنانيين في طبيعتهم الجامدة، وكذلك معظمنا في حالتنا الحيوانية، يحتاجون إلى الإرغام من أجل تحقيق الذات الحقة. وهذه فكرة تظهر فيها بوضوح تلك الثنائية التي وضعها كانت بين الذات التجريبية والذات المعقولة، فعلى عاتق الدولة تقع مهمة تحرير الذات العاقلة من أغلالها التجريبية، والارتقاء بها، ولو بالقوة، إلى مرتبة الحرية؛ ذلك لأن الحرية هي تحقيق الذات الحقة، وهي أن نحيا أفضل حياة ممكنة لنا، ونكون نحن والكل واحدا. وما القسر الذي تفرضه علينا الإرادة العامة، آخر الأمر، إلا المطلب الذي تفرضه ذاتنا الحقة الفاضلة على ذاتنا الدنيا العنيدة. ومثل هذا القسر أمر لا مفر منه طالما أنه ليس لدينا فكرة عن ضرورة هذا المطلب، أو طالما كانت فكرتنا عنه ناقصة فحسب. وهذا هو أساس حق الدولة في معاقبة المذنبين، فالعقاب تعويض عن الظلم الذي يلحق المجتمع نتيجة للإخلال بنظامه القانوني، وهو إلغاء للإرادة المضادة للمجتمع عند المذنب.والمذنب ذاته عضو في الجماعة التي لحقها الظلم، وله على هذا الأساس الحق في أن يعاقب بمعنى ما، لئلا يخدع في طبيعة الحياة الاجتماعية. ويعد إلحاق العقوبة به ثمنا لإعادة اندماجه في المجتمع الذي خرج على قانونه بما ارتكبه من إثم، وهنا نجد بوزانكيت يساير نظرية هيجل التي تعرف العقوبة بأنها قصاص.
وخير سبيل إلى تحقيق هذه المهام المتعددة، في رأي بوزانكيت، هو الدولة القومية
national State ، ولا شك أن فكرة الإنسانية تتجاوز هذا المدى، غير أنها لما كانت غير قابلة للتحقق في نظام أو كل منظم، فليست لها أهمية فيما يتعلق بالتدبير العملي للمهام الاجتماعية، ومن الواجب ألا يحكم على أخلاقية أفعال الدولة بالمقاييس التي تسري على أفعال الأفراد؛ إذ إن الغايات الواجب تحقيقها أرفع، بحيث تجعل من الدولة، بوصفها فردا من مرتبة أعلى، كيانا قائما بذاته ولا نظير له، فقد يتعين في بعض الأحيان أن تستخدم القوة الكامنة في طبيعتها، والتي تستخدمها في كثير من الأحيان ضد أفرادها، ضد دول أخرى، عندما تهدد المصالح العليا للأمة. ولقد لقيت هذه الآراء وغيرها من الآراء المشابهة، كما لاحظنا من قبل عند الكلام عن هبهوس، معارضة شديدة خلال الحرب العالمية الأولى، عندما رأت العقلية التي أعمتها الحرب في نظرية الدولة عند هيجل - وهي النظرية التي شوهتها هذه العقلية تماما - أصلا روحيا للكارثة. أما اليوم، بعد أن أصبحت النفوس أهدأ، فقد اعترف من جديد بأن فيلسوفا إنجليزيا لم يدرك طبيعة الدولة ويعرضها على نحو أعمق مما أدركها وعرضها به بوزانكيت، وهو فيلسوف هيجلي.
أما الميتافيزيقا فإنها بداية تفكير بوزانكيت ونهايته، وهي أيضا كل ما يقع بين هذه البداية والنهاية، ويتم الانتقال إليها من فلسفته في الدولة عن طريق الاعتراف بأن الروح الاجتماعية، التي تكون الدولة أعلى تجسد لها، ليست هي الصورة النهائية للفردية، بل هي واحدة من صورها الأولية فحسب، فهناك - من وراء أنظمة الحياة السياسية وأوجه نشاطها - مجالات تساهم بنصيب أكبر كثيرا في تحقيق الذات التي اكتفت الدولة بدعمها وكفالة الأمن لها، فالروح الإنسانية، في إدراكها المتزايد للعالم، تعلو على الدولة إلى نسق أعلى تزيدها اقترابا من الواقع المطلق، أعني نسق الفن والدين والفلسفة. وبهذه الأخيرة تصل إلى الميتافيزيقا، أي مذهب المطلق.
وعلى الرغم من أن أنظار بوزانكيت الميتافيزيقية، التي تتبدى فيما ألقاه من محاضرات «جيفورد»، تفترق عن أنظار برادلي وتتجاوزها من حيث المضمون والمصطلح معا، فإن التغيرات لا تمس إلا الفوارق الدقيقة والاختلافات السطحية. أما في جميع النقاط الأساسية فهو يسير في الاتجاه الذي أشار إليه برادلي؛ لذلك لم تكن بنا حاجة إلا إلى أن نلفت الأنظار إلى النواحي التي يبدو أنه تجاوز برادلي فيها.
وتتركز أفكار بوزانكيت في مشكلة الفردية، فمهمته هي إدراك طبيعة الفردية، لا في أي مجال خاص، كالمجال الأخلاقي أو الاجتماعي، وإنما في دلالتها الميتافيزيقية النهائية. هذه الدلالة، كما فهمها بوزانكيت، مضادة تماما للرأي السائد عن الفرد بوصفه شيئا منعزلا، خاصا، فريدا. ويتضح ذلك في موقفه من التاريخ، فهو، على خلاف بعض الفلاسفة الألمان المحدثين، الذين كان التاريخ في نظرهم هو المجال الخاص بالفرد، قد رأى أن التاريخ تجربة من نوع مختلط، تتميز بالتعاقب العارض والزمني المحض للحوادث؛ وبالتالي لم يعلق عليه أهمية. وهو بالفعل يرى بدوره أن الفرد شيء خاص يتميز على نحو فريد تماما من الجزئيات الأخرى، ولكن بمعنى أن هناك شيئا واحدا فقط هو الذي يعبر بوضوح عن طبيعة الفردية، ألا وهو المطلق، فالوحدات في الرياضة والعلوم الطبيعية، كالأعداد والذرات، تقف على مسافة بعيدة كل البعد عن الفرد بالمعنى الزاخر الذي فهمه به بوزانكيت، فالأولى وحدات مجردة، ومجرد تكرار لمتشابهات ، بينما الفرد الحقيقي هوية عينية كلية داخل كل منظم زاخر بالتنوع.
وهكذا فإن الفردية، بوصفها الكلية العينية، واللامتناهي الحقيقي بالمعنى الهيجلي، تبلغ أسمى مراحلها في تجربة «المطلق» اللامتناهية، أما في التجربة المتناهية فإنا نجد استباقات لها، وأفرادا من نوع أدنى، تتمثل أكمل أنواعها في العمل الفني وفي الشخصية الإنسانية وفي الطائفة الاجتماعية مثلا. ومن الواجب ألا نخطئ فهم هذه الفكرة في حالة الإنسان، ففي اللغة المعتادة يقال عن الإنسان إن لديه فردية بقدر ما يكف عن أن يكون مجرد ممثل للنوع الذي ينتمي إليه، وبقدر ما يغدو شخصية، أي بقدر ما يتميز بصفاته وأعماله الخاصة، بل إن التفكير الفلسفي ذاته كثيرا ما نظر إلى فكرتي الفردية والشخصية على أنهما فكرتان لا تنفصلان. وقد كان «راشدال»، من بين الفلاسفة الإنجليز المتأخرين، أوضح وأصدق ممثل لهذه النظرة التشخيصية، غير أن بوزانكيت يخالف هذا الرأي؛ فهو لا يوافق على أن الشخصية عنصر ضروري داخل في تكوين الفردية، ويؤكد مرارا أن الفردية البشرية ليست هي التي تحقق مقتضيات الفردية الكاملة بمعناها الصحيح، وإنما ينبغي التماس هذا التحقق فيما وراء المستوى الشخصي والمتناهي، فما الفرد البشري إلا جزء من كل أكبر، وهو بدون هذا الكل لا يكون شيئا، وإنما يحتاج إلى أن يكمل فيه، فهو ناقص مفتقر إلى الكمال طالما ظل على تناهيه، وهو لا يكون فردا بحق طالما ظل شخصا، وإنما هو في الأصل لا يعدو أن يكون كثرة وتعددا، يهفو إلى أن يصبح كلا واحدا، ومن هنا كان عليه أن يجد حلا وسطا أو توفيقا بين ما يكونه وبين ما يود أو ينبغي أن يكونه، وعلى ذلك فالصفة المميزة للمتناهي هي العلاء على الذات، وهذه فكرة لها أهميتها الرئيسية في مذهب بوزانكيت.
وتحتل الفكرة مكان الصدارة في الجزء الثاني من «محاضرات جيفورد» الذي حاول فيه تقديم عرض ميتافيزيقي «لقيمة الفرد ومصيره»، وهو يرى أن هناك ثلاث مراحل ينبغي أن يعتبرها المرء في سيره نحو مصيره، هي «تشكيل النفوس
moulding of souls »، «ومخاطرها ومشاقها
hazards & hardships » و«استقرارها وطمأنينتها
stability & security »، فالمركز الذي يتميز به الإنسان في الكون هو أنه يقف بين قطبي «الطبيعة» و«المطلق»، المتناهي واللامتناهي، بحيث إن له طابعا مزدوجا، وبحيث يكون متناهيا ولا متناهيا معا، فهو ينشأ من الظروف الطبيعية للحياة، ويكون في مبدأ الأمر مقيدا بهذه الظروف خاضعا لها في جزء من نسيج وجوده. غير أنه بقدر ما يكون نتاجا خالصا للطبيعة، يعجز عن تحقيق المعنى والهدف الصحيح لوجوده. على أن في الإنسان منذ البداية حافزا يدعوه إلى بلوغ مزيد من الكمال الذي يتجاوز صفاته الطبيعية الخالصة، هذا الحافز يولد اضطرابا في نفسه، واختلالا في التوازن المحكم الذي تتحقق في ظله الغريزة الحيوانية، بحيث ينغمس الإنسان في معترك الوجود الحي، في النضال والحاجة، في الخطر والهم، ولا يجد له في أي مكان مستقرا، غير أنه لا يستطيع أن يثابر على هذا التذبذب الدائم بين المتناهي واللامتناهي، ويهفو على الدوام إلى تلك الصورة العليا للوجود، التي يجد فيها وحدها ذاته الحقة وكماله. وفي عملية التقدم هذه يتعين عليه أن يترك جانبا فرديته المتناهية، بكل ما فيها من قلق وشقاق، وينبغي أن يختفي كل ما كانه من قبل، في تحول أصيل. وهو لا يصل إلى الخلاص مما تتصف به حياته الطبيعية من قصور ونقصان، ومن ضغط وعذاب، ولا يرتفع إلى مستوى الاستقرار والطمأنينة في الهدوء والكمال، إلا إذا تحقق هذا التحول. فعندئذ تنتقل ذاته محورة إلى الاندماج في السلام الأزلي للمطلق. ولو كان للاعتقاد بالخلود أي معنى، فهذا المعنى ليس هو أننا نحمل ذاتنا الحالية إلى العالم المقبل، وإنما أننا يمكن أن نظل باقين على نحو ما، في ذلك العالم في صورة متغيرة.
ومن الواجب أن نتجنب فهم هذه الأفكار بأي معنى ديني، فقد كان بوزانكيت يماثل برادلي في بعده عن الدين بمعناه الضيق، وكان مثله ينظر إلى الدين، مهما كانت قيمته وضرورته في مجاله الخاص، على أنه لا يعدو آخر الأمر أن يكون مرحلة مبدئية تمهد للميتافيزيقا، وكان ينظر إلى الله لا على أنه الكائن الحقيقي الشامل لكل شيء، بل على أنه مظهر، أي على أنه أعلى المظاهر، ولكنه ما زال أقل من المطلق، وإنما الواجب أن يفهم التحول، الذي تحدثنا عنه من قبل بمعنى ميتافيزيقي صرف، أي على أنه علو الفرد على ذاته، لا في عالم يتجاوز هذا العالم، بل في حياته اليومية في المكان والزمان الحاليين. ويعلن بوزانكيت أن إعادة تنظيم تجربتنا عن طريق إدراجها في تجربة كلية أكمل، هو شيء يمكننا أن نحققه في أي وقت، فالمطلق يدخل حياتنا المتناهية ويتبدى في أي شيء نفكر فيه أو نفعله، «فأي تحليل دقيق لحياة كائن بشري عادي في يوم واحد، كفيل بأن يأتي على نحو قاطع بكل ما هو لازم من حيث المبدأ لتأكيد المطلق.»
88
وعلى ذلك فإن بوزانكيت، مثل برادلي، يرى أن المطلق، الذي يضحى على مذبحه بفردية الإنسان الشخصية، إنما هو نتاج للشوق والتلهف، فهو المثل الأعلى الذي نصبو إليه، وهو أعلى قيمنا، وهو النجم الذي يهدينا في ارتقائنا بطبيعتنا. وعلى ذلك فهو لا يوجد وراء أفق بعيد، وإنما هو بيننا، وكل ما علينا هو أن نمد أيدينا لنصل إليه ونأتي به إلى وجودنا، بل إن في وسعنا، دون أن نخرج عن معناه، أن نسميه بالإنسان الأرقى
Superman
بلغة نيتشه. وقد استخدم بوزانكيت نفسه تعبير نيتشه «قلب كل القيم» ليصف علو المتناهي على ذاته، ولقد أكد بعض الكتاب أن لنظرته إلى العالم طابعا بطوليا. ومع ذلك فمن الخطأ المضي في هذا الاتجاه أبعد مما ينبغي؛ إذ إن المثل الأعلى عند بوزانكيت أقرب بكثير إلى طابع الملاذ الأمين والمقر المريح، وهو أكثر سلبية وسكونا من أن يسمح بالتوفيق بينه وبين كفاح نيتشه البطولي من أجل إعلاء طبيعتنا. كذلك الحال في تفاؤليته الساذجة ونظرته إلى الحياة البشرية على أنها تنزلق بهدوء إلى الاستقرار في الانسجام الوادع المطلق، فهو في هذه النواحي يقتفي أثر برادلي.
وعلى الرغم من أن بوزانكيت، كما رأينا، قد جعل من مشكلة الفردية محورا لتفكيره، فإن مذهبه في المطلق لم ينشأ عنها، وهذا أمر واضح لديه كما هو لدى برادلي؛ ذلك لأنه إذا كان السبيل إلى بلوغ المثل الأعلى هو التضحية بالذات الإنسانية، فهلا يكون في ذلك تحطيم لشخصية الإنسان في أعمق أغوارها؟ وإذا كان لا بد لهذه الشخصية أن تتبدل تماما لكي تجد ذاتها الحقة، فما الذي يتبقى من قيمتها المميزة؟ ألسنا نقدر قيمة الشخصية أولا وقبل كل شيء من أجل ما هي عليه في المكان والزمان الراهنين، لا من أجل مثل أعلى لها يقتضي تحقيقه القضاء على كل ما هو عزيز لدينا؟ أليست فكرة إذابة فرد وإدراجه في فرد أعلى هي على أية حال فكرة يصعب تصورها إلى حد بعيد؟ لا جدال في أن بوزانكيت، في بحثه في الشخصية الفردية، يمضي في الحد من قيمتها إلى حد يستحيل بعده البحث على أي نحو في مسألة إدراك طابعها الأساسي، فمذهبه مضطر إلى الاختيار بين أحد أمرين: إما أن يظل المثل الأعلى غير متحقق، وإما أن يقضي على الواقع الحقيقي، وتلك هي نتيجة السير بالمثل الأعلى أبعد ما ينبغي عن الواقع.
ولا يتسع المقام هنا لمعالجة ميتافيزيقا بوزانكيت بطريقة شاملة على أي نحو، كما أن الحاجة لا تدعو إلى ذلك، بل نستطيع أن نختم كلامنا بأن نلاحظ أن مشكلة القيم تحتل فيه مكانة أبرز بكثير من مكانتها عند برادلي، وربما كان ذلك راجعا إلى تأثير لوتسه والفلاسفة الألمان المتأخرين الذين بحثوا مشكلة القيم. على أن تكرار استخدام التعبيرات المستمدة من مجال القيم لم يتغير بالفعل أي عنصر أساسي في الموضوع، بحيث لا يمكننا في هذه الحالة أيضا أن نقول إن بوزانكيت قد أفلح في إحراز أي تقدم حقيقي على برادلي، الذي كان التجاؤه إلى مصطلح القيم أقل منه بكثير. والواقع أن استخدام برادلي المتحمس المترفع للفظ «الواقع» يدل على أن هذا اللفظ كان في نظره تصورا ينتمي أساسا إلى مجال القيمة. ولما كان الأمر كذلك فقد كان من السهل إعادة التعبير عن أجزاء معينة من مذهبه بلغة القيم، وهذا ما فعله بوزانكيت، فالمطلق في نظره ليس أعلى حقيقة وأسمى واقع فحسب، بل هو أيضا أعلى القيم، وهو مقياس كل جدارة. كذلك اعترف بوزانكيت بمستويات القيمة مثلما اعترف بمستويات الفردية والواقع، فمقياس جدارة أية ظاهرة هو في حتميتها المنطقية وخلوها من التناقض، أو في الارتباط العضوي المتبادل والانسجام بين أجزائها، والأمران سيان. ومن الواضح أن فكرته عن القيمة ونظرته إلى العالم بوجه عام، قد تحددت أساسا بأفكاره الرئيسية المنطقية والجمالية، فتأثير الأفكار المنطقية واضح في سعيه وراء الرضاء النظري باستبعاد كل ما هو متناقض لا معقول، كما أن تأثير علم الجمال واضح في ذلك التكامل المنسجم لمذهبه في سيمفونية للمطلق يعود فيها كل ما هو نشاز إلى التوافق والانسجام.
وليس في وسعنا إلا أن نتعرض بإيجاز للدور الذي ساهم به بوزانكيت في علم الجمال، فقد كان من الفلاسفة الإنجليز المتأخرين القلائل الذين شغلوا بهذا الميدان، وقد لفت النظر، بذلك، إلى جزء من تراث هيجل كان من العجيب أن المدرسة الهيجلية لم تكد تهتم به. ولقد كان يدين بالكثير إلى رسكين
Ruskin
ووليام موريس، بالإضافة إلى دينه لهيجل، وكان أهم مؤلفاته في هذا الصدد كتابه الشامل «تاريخ علم الجمال» الذي يتعقب تطور نظرية الفن وعلم الجمال منذ اليونانيين حتى القرن التاسع عشر. ويعد هذا الكتاب، الذي تغلغلت فيه روح هيجل، بحثا تاريخيا من الطراز الأول، جمع بين ارتفاع مستوى الثقافة وبين سعة الاطلاع والفهم العميق للمشكلات الفنية والجمالية، وقام فيه بدراسات واسعة عميقة لمواقف وشخصيات روحية، فبحثه، مثلا، في الدلالة الجمالية للحركة الألمانية منذ بداية القرن الثامن عشر، إلى المذهب الكلاسيكي والرومانتيكي والمثالي، حتى المدارس بعد الهيجلية؛ هذا البحث هو وحده شاهد على سعة نطاق قراءاته إلى حد يدعو إلى الدهشة، وليس من المبالغة أن نقول إن بوزانكيت كان، في عصره، هو الإنجليزي الوحيد الذي كان في وسعه الارتفاع إلى هذا المستوى العالي الشامل في الملاحظة، أما آراؤه الخاصة في علم الجمال، التي لم يعرضها إلا في كتاب صغير جدا، فتندرج بطبيعة الحال ضمن الإطار العام لمذهبه ، وإن لم يكن هذا الإطار يظهر إلا بطريقة عارضة، ولا يحول على أي نحو دون التطور الحر لأفكاره.
ولقد كان يرى في الجمال نوعا أساسيا من الوحدة العليا، وتوفيقا بين الخاص والعام، والطبيعي والروحي، والضرورة والحرية، وكان تصوره للجمال من السعة بقدر تصوره للخير والحق. وهكذا جعله يشتمل على القبح بوصفه أدنى مستوى أو مظهرا له، وأن الكمال المنسجم الذي تتمتع به في العمل الفني إنما هو أكمل بشير بتلك الوحدة النهائية التي تتطلع إليها الميتافيزيقا بوصفها «المطلق».
أثارت نظرية الحقيقة عند جويكم، وهي النظرية التي وضعها على أساس مذهب المطلق عند برادلي وبوزانكيت، اهتماما كبيرا بمجرد ظهورها، كما حفزت على قيام مناقشات حية اشترك فيها رسل ومور وشيلر ودوس هكس
Dawes Hicks
وغيرهم. وكان سبب هذا الاهتمام الذي أبدي بكتاب صغير نسبيا هو أن الكتاب، الذي ألفه ممثل لمدرسة المطلق، قد تضمن لأول مرة اعترافا علنيا صريحا ببعض الصعوبات الكامنة في مذهب المطلق، واستخلص منها نتائج معينة كان ممثلو المدرسة يخفونها، ولكن كان خصومها قد كشفوها من قبل، وفضلا عن ذلك فقد وضع جويكم في صورة منهجية أفكارا اكتفى برادلي بالإشارة إليها، أو عرضها بطريقة عامة فحسب.
تقول هذه النظرية إن من الواجب النظر إلى الحقيقة على أنها هي حقيقة النسق فحسب، أي هي الترابط داخل كل أكبر للمعرفة والوجود، وداخل الكل الكامل لهما آخر الأمر. ونستطيع أن نطلق على هذه النظرية اسم نظرية الترابط الكامن
immanent coherence
ويميز جويكم بينها وبين ثلاث نظريات أخرى كانت شائعة عندئذ، فالحقيقة أولا ليست هي التطابق بين الفكر والواقع، وليست هي التصوير الفكري لواقعة، وليست صورة صحيحة لأصل خارج عنها، وهي ثانيا ليست صفحة لكيانات مستقلة عن الوعي، توجد في ذاتها ولذاتها، وبالتالي لا ترتبط بالذهن العارف، وثالثا فهي لا يمكن أن تكون إدراكا حدسيا مباشر الموضوعات، حتى لو كانت تتخذ هذا الشكل في كثير من الأحيان، وعندما تتخذ الحقيقة هذه الصورة لا تكون صحيحة بسبب هذا الطابع المعطى المباشر، بل رغما منه، ومقابل هذه النظريات يرى جويكم أن الحقيقة تتكشف في توسط عقلي داخل نسق. فكل حكم جزء من تركيب عام للمعنى، بدونه لا يكون الحكم شيئا، وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بأساس يستمد منه معناه المحدد، هذا الأساس، كما قلنا، هو كل المعرفة أو الوجود، وحتى لو تأملنا قضية بسيطة، تبدو واضحة بذاتها، مثل 2 + 2 = 4، لوجدناها لا تكتسب معنى، وبالتالي لا تكتسب حقيقة، إلا إذا نظر إليها في ضوء النسق الكامل للأعداد، الذي هو بدوره ليس قسما أو جزءا صغيرا من الواقع من حيث هو كل، وكلما اتسع نطاق أساس المعنى الذي يرتكز عليه الحكم، كان هذا الحكم أصح؛ إذ إن حقيقته تتوقف على درجة الترابط التي تتحقق للنسق فيه، وبالمثل فإن كل تجربة جزئية تكمن في التجربة المثالية الشاملة لكل شيء، ولكن ينبغي ألا ينظر إلى هذه التجربة المثالية بطريقة سكونية، على أنها تركيب جامد، وكل تام مرتكز في ذاته، وإنما ينبغي أن تعد عملية حية تحقق ذاتها، وهنا يترك جويكم، مثل. برادلي، مجالا لإمكان وجود درجات للحقيقة تتدرج بين طرفين هما الحقيقة كاملة النسق، وبالتالي المطلقة، من جهة، والوقائع المنعزلة تماما من جهة أخرى. وهو يتفق أيضا مع برادلي، ومع اسبينوزا الذي درسه بعمق، في قوله إن الخطأ حقيقة ناقصة، أو هو الظل الذي تلقيه الحقيقة، فهو العنصر السلبي في قلب الأشياء، وهو نشاز قبيح سيختفي في توافق المطلق، وهو مجرد مرحلة جزئية أو عامل جزئي في الديالكتيك اللانهائي للحقيقة. ومعناه الميتافيزيقي النهائي هو سقوط المتناهي عن اللامتناهي، وانفصال جزء عن الكل، يود أن يؤكد استقلاله الخاص، هذا الانفصال الواحد من عوامل الحقيقة ينتمي إلى الطبيعة الباطنة للحقيقة، فالجزء إنما هو سلب للحقيقة، ووجه مغاير لها، ينبثق عن باطنها، ولكنه لا يفعل ذلك إلا ليعود إليها؛ إذ إن الوحدة تستوعب المغايرة
otherness
وتعلو عليها. وهنا نجد بكل وضوح عنصرا صوفيا اسبينوزيا، يتمثل كذلك لدى برادلي، ولكنه لا يتمثل لدى بوزانكيت.
وبعد كل هذا العرض الذي يقدمه جويكم بدقة وإحكام كبيرين، يعترف اعترافا طريفا، هو أن نظرية الترابط لا يمكن أن تأتي بالحل المرضي لطبيعة الحقيقة، وأن مآلها إلى الانهيار، فهو يرى أنها لا تنطبق إلا على حقيقة مثالية لا يمكن أن تبلغها المعرفة البشرية أبدا. فمعرفتنا المتناهية مقالية
discursive
دائما، وهي دائما معرفة «عن» شيء غيرها، وبالتالي فإن أية نظرية نصوغها عن الحقيقة لا يمكن إلا أن تكون نظرية «عن» حقيقة أسبق منها فحسب. لذلك فإن فكرة الترابط لا يمكن أن ترتفع فوق مستوى معرفة مهما بلغت فلن تزيد على ما تبلغه الحقيقة بوصفها تطابقا، بل إن هذا يستتبع أيضا أن نظرية الترابط ذاتها لا يمكن أن تكون لها صحة كاملة؛ إذ لا يمكننا أن نثبت أنها علامة للحقيقة المطلقة، بل إننا نرجح ذلك فحسب. وهكذا اعترف جويكم بانهيار نظريته الخاصة، حتى مع تأكيده أنها تغوص في قلوب المشكلة على نحو أعمق مما تغوص فيها أية نظرية أخرى. مثل هذه النتيجة لا يمكن أن تكون مرضية، وهي تدل على أن هناك خطأ ما في الأسس الفلسفية التي نشأت منها النظرية، والمشكلة إنما تكون في تلك الهوة السحيقة التي وضعها برادلي بين المظهر والواقع، والتي استبقاها جويكم في صورة انفصال أكبر مما ينبغي بين المعرفة البشرية والحقيقة المطلقة، فالمثل الأعلى مرفوع فوق الواقع الفعلي إلى حد لا يتيح له أن يجد في هذا تعبيرا عنه وتجسدا له. فالخصومة الشديدة بين مذهب المطلق وبين المذهب البرجماتي مثلا ترتكز أساسا على التقابل بين مذهب يتخذ من المثل الأعلى غاية له ومذهب لا يتركز إلا في مجال التجربة البشرية.
لقد كان التأثير المباشر وغير المباشر لتعاليم برادلي من القوة بحيث لم يكد يفلت منه أي مفكر هام، ويمتد هذا التأثير في جميع أطراف الفلسفة الإنجليزية المعاصرة، فهو ظاهر في أتباعه وخصومه والمحايدين على السواء، وهو لم يبدأ في الاضمحلال إلا في السنوات الأخيرة. ونستطيع أن نذكر، من بين أقرب الأتباع إليه، بالإضافة إلى بوزانكيت وجويكم، أ. إ. تيلور
A. E. Taylor ، الذي كان يدين لبرادلي بالكثير في كتاباته الأولى. ولكن لما كان تيلور قد اتبع فيما بعد طرقا فكرية أخرى، واهتدى إلى طرق خاصة به، تختلف كثيرا عما لدى برادلي، فلزام علينا أن نعرض له في موضع آخر. (5) القسم الخامس: مذهب الكثرة عند ماكتجارت
كان ماكتجارت - بلا شك - أكثر المثاليين اكتمالا واستقلالا بعد برادلي، ومن الواجب أن يدرج في الحركة المثالية العامة، ضمن الفئة الهيجلية. صحيح أنه كان، في نواح متعددة، أبعد بكثير عن الأصول الهيجلية من برادلي وبوزانكيت، ولكنه كان أقرب إليها بكثير في ناحية هامة، هي أن فكره نشأ عن دراسة فاحصة متعمقة لفلسفة هيجل، ظلت هي الأساس الذي بني عليه مذهبه الخاص، مهما كانت درجة ابتعاده عن هذه الفلسفة في اتجاهات خاصة به. وتتركز مكانته المميزة في الحركة الهيجلية الإنجليزية في أنه خطا الخطوة النهائية الحاسمة في فصم عرى الارتباط مع اللاهوت، وهو الارتباط الذي تميزت به أولى مراحل المذهب، وذلك بتشييده مذهبا إلحاديا على أسس هيجلية. وهكذا فإنه - في داخل المذهب الهيجلي - ينتمي إلى أقصى اليسار، في الطرف المضاد تماما لمفكرين مثل سترلنج وجرين كيرد، وهو يتميز عن برادلي وبوزانكيت - اللذين يمكن أن ينسبا إلى اليسار بدورهما، نظرا إلى اتخاذهما موقف الحياد، إلى حد ما، من التحالف مع اللاهوت - باستقلاله وأصالته الكاملين، فأبرز الاختلافات بينه وبين من بحثناهم حتى الآن هو ذلك التحول إلى مذهب الكثرة، الذي أدخله على اتجاههم الذي سار بقوة في طريق الواحدية.
وأيا ما كانت نتيجة الخلاف حول كون ماكتجارت هيجليا أو غير هيجلي، فمما لا نزاع فيه أنه بذل جهدا لا يكاد يكون له نظير في سبيل فهم هيجل، وأن فلسفة هيجل تحكمت في تفكيره في نقاط متعددة، ولكنه لا يمكن أن يسمى هيجليا إلا مع تحفظات هامة. والفكرة التي يخرج بها المرء عنه هي أن طرق التفسير المتكلفة المتعمدة التي طبقها على هيجل لو كانت قد طبقت على مفكرين آخرين - أو على أية حال على أفلاطون وليبنتس واسبينوزا وباركلي - لأتت بنتيجة مماثلة أو مشابهة، أعني بناء فلسفة خاصة به وهدم أية فلسفة أخرى . فالانتقال من أي من هؤلاء المفكرين إلى مذهب ماكتجارت ليس أصعب قطعا من الانتقال من هيجل إليه، ولقد لوحظ أن تعاليمه، وإن كانت ترفع راية هيجل وتمخر عباب المياه الهيجلية، إن جاز هذا التعبير، قد أسفرت مع ذلك، بطريقة لا شعورية، عن نوع من المذهب الأفلاطوني، كما قيل عنه إنه «اسبينوزا حديث». وكان لهذه التسمية ما يبررها، كذلك أكد البعض تقاربه الوثيق مع مذهب الذرات الروحية عند ليبنتس والمذهب الروحي عند باركلي، وهذا التقارب بالفعل واضح. غير أن هذا كله، على صحته، لا يدل إلا على أن مذهبه مذهب شخصي إلى حد بعيد، لم يتخذ من أفكار الآخرين مادة له، وإنما استخدمها وسائل وأدوات فحسب. وأيا كان الرأي في قيمة هذا المذهب أو أهميته، فهو قطعا من أجرأ وأروع وأصدق المحاولات التي بذلت في إنجلترا للتفكير في العالم في مجموعه، وهو يحتل ضمن بناة المذاهب الإنجليز المحدثين، مكانة لا يشاركه إياها سوى برادلي وألكسندر وهويتهد. ولقد أظهر، في صياغة مذهبه المقفل الجامد، قدرة على التفكير الرائع الواضح، وعلى الدقة في التعبير، ومنطقا حتميا صارما، وقوة بناءة، وعمقا تأمليا، وبصيرة صوفية.
ونستطيع أن نبدأ بإيضاح الطريقة التي انعكس بها تفكير هيجل على ماكتجارت، فهو ذاته يقول إن تفكير هيجل ظل هو الموضوع الرئيسي لبحثه طوال ما يزيد على عشرين عاما، وقد كرس لاختباره وعرضه النقدي ثلاثة كتب، وعند نهاية الكتاب الثالث، أصدر حكمه المبني على تفكير وروية، فقال «إن هيجل قد تعمق في الطبيعة الحقة للواقع أكثر مما تعمق فيها أي مفكر آخر من قبله أو من بعده.»
90
ولكن ليس معنى تقديره الرفيع هذا لهيجل، أن نتوقف حيث توقف هو، «فينبغي أن تكون المهمة التالية للفلسفة هي القيام ببحث جديد لهذه الطبيعة بوساطة منهج ديالكتيكي مشابه أساسا، ولكن ليس مشابها تماما، لمنهج هيجل.»
91
ولقد كان يؤمن بأنه على اتفاق مع هيجل في الجزء الأكبر من مناقشاته، وكل ما أراده هو أن يستخلص هنا وهناك نتيجة كامنة في تفكير هيجل ولكنها تركت بطريقة ضمنية، ولم يستخدم تعبيرا نقديا أو مخالفا إلا لماما، غير أن كل هذا الاتفاق الظاهري لم يتحقق، عند مفكر مستقل عنيد مثله، إلا عن طريق التفسير المتكلف والتشويه ووضع الأفكار في غير مواضعها. فهو قد كيف تفكير هيجل مع تفكيره الخاص عن طريق قراءة أفكاره هو ذاته في أفكار هيجل أو استخلاصها قسرا منها، بل إنه في الواقع قد بث الألغام في مذهب هيجل ونسفه من الداخل، فلم يترك في النهاية إلا أنقاضا لم يستخدمها إلا باقتصاد في تشييد مذهبه الخاص الجديد.
ولقد كان ماكتجارت يرى أن قلب فلسفة هيجل، ومصدر قيمتها الدائمة في تاريخ الفكر، هو منطقها والديالكتيك المتصل به، غير أنه كان يرى أن التطبيقات العديدة للمنطق على الأجزاء الجانبية من مذهبه، كالفن والدين والتاريخ والقانون والدولة، كانت متوقفة على ظروف عصر هيجل الخاص، ولم تكن لها أهمية كبيرة، وإن كان قد اعترف بتلك الثروة الكبيرة من الأفكار وتلك القوة الدافعة الهائلة التي أتت منها. وكان همه الأساسي في هذا الصدد هو الدفاع عن هيجل ضد الفكرة الباطلة، التي كانت لا تزال شائعة على نطاق واسع، والقائلة إن هيجل قد نسج العالم من الفكر المحض، ولم يتحرك إلا وسط تجريدات وتركيبات شكلية خالصة، دون أي اعتبار للمضمون العيني للتجربة، فهو قد أكد مرارا أن تفكير هيجل عيني، وأن الديالكتيك لا يتناقض مع التجربة، وإنما يفترضها مقدما في كل الأحوال. فالتجربة ترتكز بطبيعة الحال على المعطيات المباشرة للحس، التي لا يمكن أن تنتج عن الفكر الخالص، وإنما هي شروط وجوده. ولقد كان هيجل، في رأي ماكتجارت، يدرك هذا كله تماما، وكان يعلم ويعني أن حركة الفكر الديالكتيكية لا يمكن أن تتحقق إلا داخل الكل العيني للتجربة الذي تكون فيه المعطيات الحسية عوامل مستقلة متضايفة مع الفكر.
ولقد أدت دراسات ماكتجارت الخاصة للديالكتيك الهيجلي إلى رأيه القائل إن تصاعد المقولات ليس عملية تجريد متزايد، وإنما هو عملية اقتراب متزايد من الكل العيني، فقد بين أن المركب الأخير، الذي يتم الوصول إليه في «الفكرة» المطلقة، هو الشرط والأساس المنطقي لكل المقولات السابقة، وأن الأزواج العديدة من الأضداد والأفكار العليا التي تستوعب فيها هذه الأضداد وتتجاوز على التوالي، كل هذه تنتج بالتجريد من تلك المقولة العليا، التي هي أغنى المقولات، والتي تنتهي عندها الأخريات وتجد فيها اكتمالها. وهكذا فإن الانتقال من مقولة إلى أخرى ومن مركب إلى آخر ليس تقدما بمعنى وضع مضمون جديد لم يكن موجودا من قبل، وإنما هو قلب لعملية التجريد، واستعادة للوحدة العينية التي استمدت منها التجريدات. وبهذا المعنى يكون الديالكتيك هو المنهج الوحيد الصحيح والمثمر في الفلسفة. صحيح أن بعض انتقالات هيجل الجزئية ليست ضرورية منطقيا ولا مقنعة، غير أن هذا لا ينطوي على أي حط من قيمتها؛ إذ إن الانتقال من مقولة إلى أخرى لا يقتصر في الواقع على اتجاه واحد محتم منطقيا، وإنما هو يترك مجالا لإمكانيات أخرى. ومن الواضح أن ماكتجارت يتخذ في هذه الفكرة الأخيرة موقفا غير هيجلي على الإطلاق، وفضلا عن ذلك فليس المنهج الديالكتيكي جامدا، محددا على نحو نهائي، بل إنه هو ذاته معرض للنمو، وهو نمو يمكن رده إلى قانون عام. وأخيرا فإن ماكتجارت يذهب إلى أن مرحلة السلب تلعب دورا ضئيلا جدا في العملية الديالكتيكية من حيث هي كل، فلها أهمية في الأطوار المبدئية فقط، وهذه الأهمية تقل بالتدريج كلما ازدادت الحركة صعودا. وهذه المرحلة عرضية، لا أساسية، ففي التفكير، لا تنبثق كل مقولة من مقابلها السابق، وإنما تعبر عن الدلالة الحقيقية للمقولة الأدنى، وتحقق هي ذاتها طبيعتها الحقة في مقولة أعلى. وحيث لا يوجد تقابل لا يكون ثمة حاجة إلى التوفيق، أو إلى مركب تنحل فيه المتناقضات، وإنما تدعو الحاجة فقط إلى كشف وإظهار ما ترك ضمنيا، فالديالكتيك مثل النمو العضوي، إذ تنمو فيه المراحل العليا من الدنيا مثلما ينمو النبات من البذرة. فمرحلتا التقابل والسلب توضحان ما هو ناقص باطل في العملية، ومرحلة النمو الإيجابي هي التي تعبر عن الطبيعة الحقة للفكر. وعلى ذلك فإن معنى المنهج الديالكتيكي أو غايته تتحقق بقدر ما يحل العنصر الإيجابي محل العنصر السلبي. ولقد كان ماكتجارت يرى أن هذا التفسير للديالكتيك يمكن أن يوجد لدى هيجل أو يستمد منه، ولكنه كان هنا - كما كان في مواضع أخرى - واقعا في خطأ لا شعوري، فقد انزلق - دون وعي تام منه - إلى مواقف لم تكن دائمة قابلة للاندماج في مذهب هيجل، بل كانت أحيانا مناقضة له على نحو مباشر.
ولو نظرنا إلى دراسات ماكتجارت لهيجل في ضوء عمله الفلسفي العام، لبدت لنا هذه الدراسات مجرد استطراد كان ينبغي له القيام به لكي يصل إلى ذاته. ومن الصعب تحديد السبب الذي تعين عليه من أجله أن يقوم بهذا الاستطراد، ففي خلال السنوات التي تكونت فيها شخصيته، كان هيجل قد بلغ قمة الشهرة في إنجلترا، وكانت قراءته قد أصبحت موجة سائدة. ولكن ربما كان السبب الرئيسي هو حاجة ماكتجارت إلى تجربة قواه وممارستها على واحد من أعظم أعلام الفكر، والتسلق على أكتافه. ومع ذلك فإن هذا الاستطراد لا يبدو ذا ضرورة باطنة، إذ إن الميل إلى تكوين نظرة إلى العالم خاصة به كان يتملكه منذ البداية، وكانت الخطوط الرئيسية للنظرة التي عرضها فيما بعد، ظاهرة بوضوح في كتبه الأولى، فمن الواضح أنه لم يكن يحتاج إلا إلى ما يجلبه للزمن من مزيد من التفكير ومن النضوج، لكي يكون نظرته الخاصة إلى العالم ويتمها، فتطوره الفلسفي سار فيما يمكن أن يقال عنه إنه أنموذج ديالكتيكي؛ فقد كان مذهب هيجل يمثل مرحلة التقابل التي تعين عليه مواجهتها لكي يرتفع إلى تفكيره الخاص الصحيح، ويمثل المقولة الدنيا التي كان ينبغي فهمها أولا، ثم تجاوزها بعد ذلك في مذهبه الخاص.
ولقد ظهر مذهبه هذا في مؤلف غريب رائع كان المفروض أصلا أن يكون عنوانه : «ديالكتيك الوجود»، ولكنه أسماه فيما بعد «طبيعة الوجود»، وهذا الكتاب هو الثمرة الناضجة لتفكير استمر طوال حياته بلا كلل ودون انقطاع. وقد صيغ هذا التفكير كله في قالب واحد، يحمل على الدوام طابع صانعه. ولو نظرنا إليه في إطار الفلسفة الإنجليزية الحديثة لبدا لنا غريبا أشبه بضوء منعزل يشع من جزيرة نائية قفرة، ولبدا لنا ظهوره في مثل هذه البيئة أقرب إلى اللغز المستعصي. فهو يخالف جميع طرق الفكر المألوفة المتداولة الموثوق فيها، ونادرا ما يجد المرء مفكرا يضع لنفسه مثل هذه الشروط القاسية الصارمة، ويتخذ لنفسه مثل هذا الهدف الرفيع، فأفكاره تتقدم بحتمية منطقية حتى النهاية، دون أن تظهر في أي موضع بادرة توحي بتهاون في هذه الصرامة أو تراخ في تلك الطاقة. ويتضح الحرص الشديد الذي التزمه في تفكيره وكتابته في أنه كان يخطط ما لا يقل عن خمس مسودات كاملة قبل أن يبعث بأي شيء إلى المطبعة. فالتعبير والتفكير كانا يتفقان تماما؛ إذ إن الأول، الذي كان ينحته بجهد وعناية، كان يقدم هيكلا كاملا للثاني، ومع ذلك لا يلمح المرء أي أثر للصراع الذي كان يبذله من أجل التعبير عن نفسه تعبيرا كاملا، إذ إنه قد ترك كل ذلك الصراع جانبا في عملية المراجعة الخماسية التي كان يقوم بها، والانطباع العام الذي يتركه في نفوسنا هذا الكتاب هو أنه مذهب تصوري وضع حتى النهاية بدقة ومجهود ووضوح واقتصاد وإحكام، ولكنا نجد أيضا - إلى جانب ذلك - نزعة شكلية ولفظية خاوية، ونجده كثيرا ما يهتدي في الألفاظ إلى معان سبق له أن دسها فيها، ونجده يتلاعب بالأفكار، ويميز بين أمور يقل الفرق بينها عن حد الشعرة، ويقدم تعريفات مفرطة في التدقيق، ولا جدال في أن عبارة برادلي، التي طالما اقتبست، والتي تتحدث عن «رقصة ليست من هذا العالم، تؤديها مقولات لا حياة فيها»، تنطبق تماما على مذهب ماكتجارت ببرودته وصلابته الرخامية. على أن هذا ليس إلا وجها واحدا - وإن يكن هو الوجه الغالب - من أوجه تفكير ماكتجارت وطريقته في التعبير، فمن وراء الواجهة الظاهرية التي بذل كل جهده لكي يجعلها صحيحة لا تشوبها شائبة، يشعر المرء من آن لآخر بذهن قلق، ونار خفية لتجربة عاشها بعمق، ونبض وحرارة شخصية حية تنشق حياتها الخاصة في ذلك البناء الذي يتخذ مظهرا رخاميا جامدا. ذلك هو الوجه الصوفي لماكتجارت، وهو يخترق نسيج التصورات المجردة ويصبغها بألوان أشد حيوية وبمضمون من نوع أكثر عينية. ولكن ليس لأحد أن يظن أن هذين الجانبين من طبيعته كانا يقفان في تعارض محتوم الواحد منهما قبالة الآخر، بحيث يحتفظان بالصراع محتدما بين «التصوف والمنطق» (إذا شئنا أن نستعير هذا العنوان الموفق لواحد من كتب رسل)، فقد كانت كل من هاتين النزعتين وثيقة الصلة بالأخرى في مذهبه، وقد انبثقتا معا من جذر واحد، بحيث إن التصوف قد أعطى المنطق النبض والدفء، وسيطر المنطق على التصوف وأضفى عليه النظام الدقيق. وقد قدم إلينا ماكتجارت ذاته مفتاحا لفهم هذا الطابع المزدوج لتفكيره في الجملة التي ختم بها كتابه الأول: «إن كل فلسفة حقة ينبغي أن تكون صوفية، ولكن ليس في مناهجها، وإنما في استنتاجاتها النهائية.»
92
ويعبر عنوان مؤلفه الرئيسي عن المشكلة الرئيسية فيه، فما الذي يمكن أن يقال عن العلامات المميزة لكل ما يوجد أو للوجود في مجموعه؟ إن الوجود - من حيث هو تصور - هو أضيق نطاقا من تصور الواقع
reality ، من حيث إن هناك واقعا لا يوجد بالضرورة، بينما ليس ثمة موجود إلا وهو واقع بالضرورة. وهو، على أية حال، يصف الواقعية والوجود بأنهما غير قابلين للتعريف، فإذا نظرنا إلى التمييز بين الواقع الموجود والواقع غير الموجود، وجدنا أن الأهمية الوحيدة التي تلحق بالثاني إنما هي أهمية نظرية بحتة، أما الأول - فنظرا إلى أن له أهمية عملية كبرى - فإن ماكتجارت يحدد لنفسه مهمة أضيق نطاقا هي البحث فيه، فمشكلته هي طبيعة «الوجود
existence »، ومنهجه استنباطي أولي، وهو يبرز أولا الطابع العام للوجود، ثم يناقش المشكلات الخاصة للوجود التجريبي. والجزآن يناظران مجلدي كتابه على التوالي، ففي الجزء الأول، الذي هو من أروع أعمال التفكير المنهجي الدقيق، والذي يمثل أعلى قمة بلغها ذهنه المنطقي الحاد، في هذا الجزء يقف ماكتجارت وحده بين الفلاسفة الإنجليز في جميع الفترات، صحيح أن الفلسفة الإنجليزية قد ساهمت بالكثير، منذ الأجزاء الأولى في القرن التاسع عشر، في مجال المنطق الصوري، وأن هذا المبحث، الذي هو أكثر المباحث تجريدا، قد بلغ في «الحساب المنطقي
Logical calculus » أعلى ما بلغه من القمم، ولكن لم يجرؤ أي مفكر قبل ماكتجارت على أن يطرح في الميتافيزيقا، التجربة جانبا باحتقار، ويقدم تفسيرا أوليا محضا للكون. ومن هنا لم يكن من المستغرب أن محاولته، وإن تكن قد لقيت إعجابا من آن لآخر لما فيها من جدة وغرابة، قد قوبلت منذ البداية بالارتياب، ولم تجد لها أنصارا، فهي لم تلق ذلك الصدى الرنان الذي لقيته فلسفة برادلي مثلا، على الرغم من أنها كانت في وضوحها، وإحكامها، وعمق فكرها، تفوق هذه بكثير.
وهناك شيء من التشابه بين منهجه في البرهان المطلق، الذي اتبعه في الجزء «الأولي» من ميتافيزيقاه، وبين الديالكتيك الهيجلي، غير أن المقارنة بين المنهجين لا تسفر إلا عن نتائج ضئيلة، نظرا إلى ما اتصف به منهج ماكتجارت من فردية تامة، وإلى أنه قد وضع لكي يلائم الغايات الخاصة لفلسفته فحسب. ولقد كان ماكتجارت نفسه شاعرا بذلك، على الرغم من ميله إلى الانتساب إلى هيجل، فاعترف بأن منهجه «ليس هيجليا بالمعنى الدقيق»،
93
وإن كان قد رأى أنه أقرب إلى منهج هيجل منه إلى أي منهج آخر. والواقع أن لدى ماكتجارت سلسلة من التحديدات المنطقية المتعاقبة، غير أنها لا تسير حسب النمط الثلاثي لمقولات هيجل، كما أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى ليس ضروريا من الوجهة المنطقية على الدوام (بل إنه يترك المجال مفتوحا، في بعض الحالات، لإمكان ظهور تحديدات أخرى)، وفضلا عن ذلك فهو لا ينظر إلى المقولات الدنيا على أنها مشوبة بالخطأ بالضرورة، بل يؤكد حقيقتها النسبية أكثر مما يؤكد افتقارها إلى الحقيقة المطلقة.
والفارق الأساسي بين تفكير هيجل وتفكير ماكتجارت هو أن الأول عيني مشبع بالتجربة، بينما الثاني مجرد، بعيد عن التجربة. فقد كان ماكتجارت على الدوام حريصا على أن يحتفظ لتحديداته الصورية بنقائها الأولي الذي لا تشوبه أية شائبة من المادة التجريبية، ومن الطبيعي أنه لم يستطع أن يحقق هذا الهدف على طول الخط؛ إذ يبدو أن من الضروري الالتجاء إلى التجربة على وجهين، من أجل دفع عجلة العملية الاستنباطية، فمن الممكن في البداية تأكيد الوجود الخالص، واستنباط صفاته بطريقة أولية، غير أن كون أي شيء موجودا بالفعل في الواقع هو أمر لا يعرف إلا بالرجوع إلى التجربة، فالقضية القائلة إن ثمة شيئا يوجد، ترتكز على الإدراك الحسي، وهي المقدمة الأساسية لكل استنباط تال؛ لذلك فإن بداهتها تجريبية، غير أن يقينها لا يقل عن يقين البداهة الأولية. على أن القول بأن ثمة شيئا يوجد، يعني في رأي ماكتجارت، أن ثمة جوهرا يوجد، وهنا تثار مسألة ما إذا كانت توجد كثرة من الجواهر أو جوهر واحد، أو بعبارة أخرى: ما إذا كان الجوهر متنوعا أم لا. هذه، في رأي ماكتجارت، مسألة يمكن البت فيها بالاستنباط المحض؛ إذ إن تنوع الجوهر يتلو من اليقين الأولي القائل إن الجوهر لا يمكن أن يكون بسيطا، غير أنه يؤثر أن يلجأ إلى البرهان التجريبي، ويبين أن إدراكا حسيا واحدا كفيل بإثبات أن الجوهر متنوع، وإذن فالجوهر موجود، وهو ليس واحدا بل كثير.
ولكن «ما هو» الجوهر؟ ينبغي، عند تعريفه، أن يضاف الكيف إلى الوجود، فكل ما يوجد ينبغي أيضا أن يكون له كيف، غير أن الكيف لا يعرف، وكل ما يمكننا أن نفعله هو أن نشير إلى أمثلة خاصة له، كذلك ينبغي إضافة العلاقة، وهي بدورها لا تعرف. فلما كان ثمة كثرة من الجواهر، فلا بد أن تقوم بينها علاقات، وإذن فالعلاقات أساسية الوجود. وقد علق ماكتجارت أهمية كبيرة على تصور العلاقة، وقام ببحث دقيق عميق للعلاقات الخاصة. فالعلاقات تختلف عن الكيفيات أو الصفات في أن الأخيرة تكمن في الأشياء، بينما الأولى تقوم بينها. وهكذا فإن الجوهر يوصف (ولا نقول يعرف) بأنه ما له كيفيات أو صفات، وما يدخل في علاقات، دون أن يكون هو ذاته كيفا أو علاقة. وفضلا عن ذلك فكل جوهر مختلف عن كل جوهر آخر، فلا يمكن انطباق وصفه على أي جوهر آخر، وتنظم الجواهر في فئات يمكن أن تتكون من أية مجموعة من جواهر. مثال ذلك (والأمثلة مستمدة من ماكتجارت نفسه) أن رؤساء جمهورية الولايات المتحدة أو مواطنو إنجلترا، يؤلفون فئة، وليس هذا فحسب، بل إن من الممكن تأليف فئة من أشياء لا متجانسة تماما، كالمكتب الذي أجلس إليه، وأقدم أرنب في أستراليا، وآخر دواء تناوله لويس الرابع عشر، هذه الأشياء يمكن إدراكها في نوع من الوحدة، على الأقل وحدة كونها ثلاثة، أو وحدة جمعي الاعتباطي بينها، وليس لنا أن نتساءل فيما إذا كانت الفئة فئة بحق، وإنما يجب أن نكتفي بالسؤال عما إذا كانت مناسبة أو لها أية قيمة، ولهذه النقطة - إلى جانب كونها استنباطا شكليا - دلالة ميتافيزيقية، بمعنى أن كل شيء في الكون يرتبط على نحو ما بكل شيء آخر، ويؤثر في كل شيء آخر، مهما كان من ضآلة هذا التأثير.
والجوهر الذي يشتمل على كل الجواهر الأخرى بوصفها أجزاء له هو الكون، ولتصور الكون ضرورته، بوصفه الوحدة التي ينبغي أن ترد إليها كثرة الجواهر. ولما كان يشمل المضمون الكامل لكل ما يوجد، فلا يمكن أن يكون هناك سوى كون واحد؛ إذ إنه لو وجد جوهران كليان لكان لهما نفس المضمون تماما، ولما أمكن بالتالي تصورهما. وهكذا فإن كل ما يوجد داخل في وحدة نسق محدد تماما، وكل جوهر يرتبط بكل جوهر آخر، بفضل علاقتهما المشتركة بالوحدة الشاملة للكون، وعلاقة أجزاء الكون بعضها ببعض، وكذلك علاقتها بالكل، هي علاقة تبادل أو تعاون، فالكون وحدة عضوية.
وهناك فكرة لها أهمية نظرية خاصة، هي فكرة قابلية الجوهر للانقسام إلى ما لا نهاية، فعدم وجود شيء بسيط بساطة مطلقة، هو أمر واضح حتى على مستوى الإدراك الحسي، كما أن هذه القضية - من وجهة نظر الفكر المحض - واضحة تماما وذات صحة نهائية، فإذا لم يكن هناك حد لقابلية الانقسام في كل الجواهر وكل أجزائها وكل أجزاء أجزائها، فمعنى ذلك أن لدينا تركيبا لا متناهيا في تعقيده وتنوعه، له مراتب في تنظيمه ، وبه عدد غير متناه من العلاقات بين الكل وأجزائه وبين الأجزاء ذاتها. والأداة التي يستطيع بها الفكر أن يتحكم في هذا النسق الشديد التعقيد للعلاقات المتناهية، هي تلك التي يطلق عليها ماكتجارت اسم «التطابق المحدد
determining correspondence ». ولقد رأى ماكتجارت أن هذا التطابق، الذي هو علاقة علية (لا يسمح المجال هنا بالخوض في تفاصيلها أكثر من ذلك) هو وحده الذي يتيح تجنب التناقض الذي تنطوي عليه فكرة القابلية للانقسام إلى ما لا نهاية، ويتيح تنظيم مضمون الكون بأسره بطريقة مرضية منطقيا. وعند تنظيم هذا المضمون على هذا النحو، يظهر في صورة نسق له مراتب، يحتل الجوهر الأصلي قمتها بوصفه الكل الأولى، ثم ينقسم هذا إلى أجزاء مبدئية تتفرع إلى أجزاء ثانوية من الدرجة الأولى، وهكذا إلى ما لا نهاية. وتربط بين جميع هذه الكليات ذوات المراتب العليا والدنيا، وكذلك بينها وبين أجزائها، علاقة تطابق متبادلة التحديد، بحيث لا يكون وصف الجوهر كافيا إلا إذا أوضحت كل أجزائه وعلاقتها بعضها ببعض وبالكل، ويسمي ماكتجارت هذا النسق من الجواهر، المرتكز على التطابق المحدد، باسم النسق الأساسي للكون.
ومن الممكن بصفة متساوية - من الناحية النظرية الخالصة - أن يعد مذهب ماكتجارت مذهب وحدة أو مذهب كثرة، وذلك تبعا لتركيز اهتمامنا على وحدة الجوهر أو على كثرة أجزائه. ولا شك في أن ماكتجارت، حين نظر إلى هذه الأخيرة على أنها هي الأهم، لم يكن يستطيع أن يبرر اختياره هذا على أسس أولية، فقد تحكمت فيه اعتبارات تجريبية وعملية، كما سنرى فيما بعد، ومن الواضح أن الأجزاء المبدئية تعزى إليها، في داخل الكثرة، أهمية ميتافيزيقية تفوق أهمية الأجزاء الثانوية لجميع الأنواع، وتفوق أهمية الكل المبدئي نفسه.
أما أولئك الذين لا يرضيهم التعامل الشكلي مع التصورات بقدر ما يرضيهم التبصر الميتافيزيقي الأصيل، فإنهم يجدون في المجلد الثاني من مؤلفه الرئيسي (وفي كتاب «بعض المعتقدات الدينية» الذي أحرز شهرة نسبية، والذي يستبق هذا المجلد الثاني) أكثر مما يجدون في الأول.
ففي المجلد الثاني نزل ماكتجارت أخيرا من الجو الأثيري للفكر الخالص إلى عالم تجربتنا الواقعي، وربط بين نتائجه العامة وبين مشكلات تجريبية معينة، وطبقها نظريا وعمليا. وهو يعرض الأفكار الميتافيزيقية الهامة التي توصل إليها، والتي تؤلف معا نظرة كاملة إلى العالم، على أنها النتائج الضرورية للأساس الأولي. وبإدخال المشكلات الجديدة والمادة الجديدة، يكتسب الجهاز التصوري مزيدا من النمو والتدعيم، بحيث يتعين علينا مرة أخرى أن نجتاز قفارا شاسعة قبل أن نستطيع أن نجني ثمار شجرة الحياة. ولما كانت بعض أفكار ماكتجارت الميتافيزيقية قد ظهرت بوادرها في أول كتبه، كما أن كل أفكاره الأساسية قد ظهرت في كتابه عن الدين، على نحو مستقل تماما عن الأساس المنطقي الذي كنا نبحث فيه حتى الآن، فربما كان لنا الحق في أن نستدل من ذلك على أن الجهاز التصوري قد صمم تصميما لاحقا، وإذا كان الأمر كذلك، فليس في وسعنا أن نقر ماكتجارت على رأيه القائل إن خطته الأولية هي التي تحكمت في استنتاجاته المنطقية، وإنما ينبغي أن نقول، على العكس من ذلك، إن استنتاجاته هي التي تحكمت في هذه الخطة، وإن هذه الخطة قد رسمت فيما بعد لإيجاد أساس لاستنتاجه ولدعمها. وبعبارة أخرى، فإن لمواقفه الميتافيزيقية الرئيسية قيمة مستقلة عن الخطة المجردة، ولها أساسها في ذاتها.
وليس في وسعنا أن ننتقي من المشكلات المتعددة التي عرض لها في المجلد الثاني إلا عددا قليلا لكي نوضح الاتجاه العام لتفكيره على الأقل.
وأشهر هذه المشكلات هي نظرية الزمان، فهو يميز أولا بين نوعين من التعاقب الزمني، ينتقل أحدهما من الماضي إلى المستقبل مارا بالحاضر، ويتألف الآخر من علاقتي «قبل» و«بعد». ففي الأول، الذي يسميه بالسلسلة أ، تتغير الحدود دواما، وينتقل بعضها إلى البعض. أما في الثاني، الذي يسميه بالسلسلة ب، فإن هذه الحدود تكون ثابتة، وترتكز على علاقات دائمة ؛ إذ إنه عندما يقع حادث قبل حادث آخر وبعد حادث ثالث، فإن الترتيب الزمني يكون نهائيا غير قابل للتغيير؛ لذلك فإن السلسلة أ هي السلسلة الحقيقية للزمان، ما دامت تشتمل على صفة التغير التي هي العلامة الأساسية المميزة للزمان. ومع ذلك يبدو، بعد مناقشة طويلة مفرطة في التعقيد، أن السلسلة أ تنطوي على تناقض، وأنها بالتالي لا يمكن أن توجد من وجهة نظر الواقع الحقيقي، وإذن فلا شيء واقعي هو ماض أو حاضر أو مستقبل، أو معرض لأي تغير. إننا حقا ندرك الأشياء في الزمان، ولا نملك إلا ذلك، غير أن كل ما يثبته هذا هو أن الإدراك الحسي لا يصل إلى الأشياء في طبيعتها الحقة، فكل ما في الزمان هو بهذا الوصف مجرد مظهر.
ويستخلص ماكتجارت من عتاده التصوري إضافة أخرى يعبر بها عن هذه الفكرة المميزة للمثالية تعبيرا إيجابيا، فهو يضيف سلسلة أخرى، هي السلسلة ج، إلى السلسلتين أ، ب. وتمثل السلسلة ج العلاقات الحقيقية بين الأشياء، وهي تتضمن الحقيقة التي كان يعبر عنها باطلا في العلاقات الزمنية للسلسلتين الأخيرتين، وكذلك في كل وصف للعلاقات المكانية أيضا، إذ إن المكان بدوره مجرد مظهر، هذه السلسلة تعبر عن العلاقات بين الأشياء على أنها علاقات تضمن منطقي، فهي سلسلة تضمنات لها اتجاه محدد أعم بشكل واضح من الاتجاه المضاد، من حيث إنها انتقال مما له محتوى أكثر فراغا إلى ما له محتوى أكثر امتلاء، ففي أحد الطرفين لا يكون ثمة شيء، وفي الطرف الآخر يوجد الكل، وهنا يستعاض عن علاقة «قبل» في السلسلة ب، بعلاقة «متضمن في»، وعن علاقة «بعد» بعلاقة «متضمن ل»، ونظرا إلى أن الطرف الأخير في السلسلة غير متضمن في أي شيء، فإنه متضمن لكل شيء، ولا يمكن أن يضاف إليه شيء، وواضح أنه هو «الفكرة المطلقة» عند هيجل، وواضح أيضا أن تزايد التضمن في السلسلة ج يناظر التقدم الديالكتيكي للمقولات عند هيجل.
وهكذا فإن نظرية ماكتجارت في الزمان تؤدي إلى نفس النتيجة التي تؤدي إليها فلسفة برادلي، وإن تكن ترتكز على مقدمات مختلفة تماما، هذه النتيجة هي التمييز بين المظهر والواقع، وفي هذه النقطة تكمن الأهمية الخاصة لنظرية ماكتجارت. ومعيار التمييز بين المظهر والواقع هو الإطار الأولي للتطابق المحدد، فكل ما لا يمكن إدخاله في هذا الإطار، ينزل توا إلى مرتبة المظهر، بينما يعد واقعا كل ما يمكن إدخاله فيه، وبهذا المعيار تنحط المادة، وكل المعطيات الحسية، إلى مرتبة المظهر، فلو كانت المادة موجودة، لكانت قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية، ولكانت أجزاؤها اللامتناهية في الصغر خاضعة لمبدأ التطابق المحدد. ولكن يبدو أن مثل هذا التقسيم للمادة إلى ما لا نهاية أمر لا يمكن القيام به، وعلى ذلك لا يمكن أن تكون المادة موجودة.
أما بالنسبة إلى العلوم الطبيعية فسيان أن توجد المادة أو لا توجد؛ إذ إن الأمرين معا فرضان ميتافيزيقيان لا يمسان العلم ولا الحياة اليومية. وهكذا فإن ماكتجارت، مثل برادلي الذي استعان كثيرا بحججه في هذا الموضوع، يرفض التسليم بوجود المادة، لا لشيء إلا لأن في هذا استخداما غير سليم للميتافيزيقا.
والآن نصل إلى لب ميتافيزيقا ماكتجارت، أعني المذهب القائل إن الواقع روحي في أساسه، فكل ما يوجد روح ولا شيء غير الروح، بالمعنى الميتافيزيقي الخالص الكامل للجوهر الروحي كما فهمه باركلي مثلا. وعند هذه النقطة تتلو كل التحديدات الأخرى للطبيعة الميتافيزيقية للعالم من الاستنباطات الأولية للباب الأول من الكتاب، فمساواة الجوهر المبدئي بالواقع في ذاته أو بالمطلق، تعني إيجاد تناظر بين الأجزاء المبدئية وبين تلك الكائنات الروحية التي نسميها أشخاصا أو ذوات. ولما كانت الذوات هي قبل كل شيء مدركة للأجزاء الثانوية، فإن هذا التناظر يمتد إلى إدراكات هذه الذوات.
وهكذا فإن للذوات منزلة ميتافيزيقية خاصة، صحيح أن من الواجب تصورها على أنها متجمعة في وحدة الجوهر المطلق، وعلى أنها هي التنوع الأولي له، ولكن الرد على ذلك هو أن طبيعة الواقع تتكشف في التنوعات على نحو أعمق مما تتكشف في الوحدة العليا. والمثل الذي يفضل ماكتجارت أن يضربه لإيضاح العلاقة بين الكل وأجزائه هو تشبيهها بعلاقة مجمع وأعضائه، فكلاهما كيان روحي، غير أن الأعضاء وحدهم هم الأشخاص بأي معنى أصيل لهذه الكلمة، بينما المجمع ليس هو ذاته شخصا، وإن يكن وحدة روحية لأشخاص. ففي آخر الأمر لا يوجد بالفعل إلا الأشخاص، وهم وحدهم الذين يؤلفون مكونات الكون، مفهومة بالمعنى الميتافيزيقي. وهكذا نجد أن الوجه التعددي يعد هنا، كما يعد في الجزء الأول من الكتاب، أهم من الوجه الواحدي، وإذن فالمطلق وحدة من أشخاص، ونسق من الذوات، ترتبط بعضها ببعض كما ترتبط أجزاء الجوهر التي أوضحها في الجزء الأول.
والواقع أن طبيعة الشخصية المتناهية وقيمتها لم تدرك وتدعم، في أي مذهب معاصر آخر، بقدر ما أدركت ودعمت في مذهب ماكتجارت. ومن الممكن أن توصف الفكرة القائلة إنه لا شيء حقيقي بالفعل إلا الأشخاص المتناهون، بأنها هي الاقتناع الفلسفي الأساسي عند ماكتجارت، فمذهبه كله يدور حولها، واستنتاجاته الأخرى تتلو كلها منها، ومن هنا كان ذلك الإحساس الذي يتملكنا بأن من وراء كل ذلك الدرع السميك من الاستنباطات الأولية، يوجد ذهن يضطرم في باطنه بالانفعال؛ مما يدل على وجود طبعة عميقة من التفكير غير الشكليات والتجريدات التي تسود كتاباته، ومما يزيد هذا الشعور قوة، تلك الصفات الأخرى التي ينسبها إلى الشخصية، فالذات كيان مستقل، له خصائصه الفريدة، وهي جوهر روحي يوجد لذاته تماما، ولها فردية كاملة، بحيث تختلف كل ذات اختلافا أساسيا عن الأخرى، ومن هنا كان من اليقينيات النهائية المطلقة أن الذات لا يمكن إدماجها في أية ذات أخرى، أو في جزء من ذات أخرى، لا سيما في تلك الوحدة العليا التي تسميها الفلسفة بالمطلق، ويسميها الدين بالله. وترجع المكانة الميتافيزيقية العليا للذات إلى أنها في أساسها لا تتعرض للتغير، ولما كانت توجد بهذا الوصف أزلا، ولا بداية لها ولا نهاية في الزمان، فلا يمكن أن تكون قد خلقت في وقت ما، ولا يمكن أن تفسد أبدا. فإذا سلمنا بفكرة الذات، كانت فكرة الخالق مستحيلة، وإن كان ثمة إله، فلا يمكن أن يكون قد خلق الذات؛ إذ إن هذه توجد بنفس الأزلية التي يوجد الإله بها. وهكذا فإن الذات خالدة، بمعنى أنها توجد في أزلية لا زمانية، فلا بد إذن أن يكون وجودها قديما مثلما هو دائم؛ ذلك لأن هويتها لا تكون في استمرار الوعي أو في الذاكرة، وإنما في ثبات جوهريتها الروحية. والواقع أن الوعي ليس جزءا من الطبيعة الأساسية للشخصية، ومن الممكن أن يختفي دون أن تتأثر هذه. كما أن فقدان الذاكرة لا يؤثر في الخلود بحال؛ إذ إن حياتنا الحاضرة تبدو لنا حينئذ ذات قيمة كاملة، على الرغم من أننا لا نؤكد حياة سابقة وليست لدينا أدنى فكرة عن حياة مقبلة. كما أن هذا القول لا تدحضه الحجة القائلة إن من الممكن أن نكون قد مررنا في الماضي، وأن نمر في المستقبل، بمراحل متعددة تناظر تلك التي تبدأ، في حياتنا الراهنة، بالميلاد وتنتهي بالموت. ففكرة تعدد الحيوات، وتكرر الموت، ليست خلوا من المعنى، بل هي مرجحة إلى حد بعيد.
وتؤدي فكرة الخلود عند ماكتجارت إلى اتخاذه موقفا مميزا إلى حد بعيد، يبدو ممتنعا لأول وهلة، ولكنه يتلو بالضرورة من مقدماته، وأعني به أن الإيمان بالخلود، على الرغم من شيوع ارتباطه في الدين والفلسفة بالإيمان بالله، يمكن أن يوجد ويظل قائما دون هذا الأخير، فليس بينهما ارتباط منطقي. وبالمثل لا يوجد ارتباط كهذا بين المثالية ومذهب الألوهية، فلا يمكن أن يكون للشخصية، كما رأينا، مستوى أعلى من مستوى الذوات المتناهية، التي يمكن أن تتضمن فيها، أما المطلق، فهو قطعا لا شخصي، مهما كانت طبيعته الإيجابية، ومن المؤكد أن تسمية هذا المبدأ اللاشخصي بالإله هي تسمية غير صحيحة، ولكن إذا لم نوحد بين المطلق وبين الإله، فما هي الأفكار التي تتبقى لدينا لكي نلحقها بهذا الأخير؟ إن من المحال تبرير صفات الخيرية الكاملة والقدرة الشاملة للإله، نظرا إلى ما في العالم من شر، وإلى أسباب أخرى. والسبيل الوحيد إلى المحافظة على الطابع الأخلاقي للإله هو أن نفترض أن قدرته محدودة، وستكون الفكرة الناجمة عن ذلك، أعني فكرة إله يصبو إلى الخير ويصل إليه ظافرا، مرضية للذهن إلى حد يفوق بكثير فكرة إله كامل الخير، وأقوى منها احتمالا. كذلك لا يمكن أن يكون الإله هو الخالق؛ إذ إن الشخصيات المتناهية - كما لاحظنا من قبل - أزلية. وهكذا فإن النظرة الوحيدة التي يمكن تبريرها هي تلك التي لا يكون فيها الإله ذا قدرة شاملة ولا خالقا، والسبب الوحيد الذي لا ينبغي من أجله أن نؤمن بوجود مثل هذا الإله هو أنه لا يوجد أساس معقول يبرر ذلك. وهذا أنموذج واضح لطريقة ماكتجارت في البرهان، ونتيجته - كما هو واضح - أن فكرة وجود إله، وإن لم تكن بالطبع متناقضة، هي مسلمة غير ضرورية على الإطلاق. وهكذا استخلص ماكتجارت النتيجة الإلحادية لمذهبه، بكل ما تميز به فكره من صلابة وجرأة، وما عرف عنه من إحجام عن أية تضحية بالمعقولية وأي تراجع أمام الآراء السائدة. غير أن إلحاده بطبيعة الحال مختلف تماما عن المذاهب التي تتباهى عادة بهذا الاسم، فمن المستحيل مثلا أن يسمى إلحاده لا دينيا، وإنما هو يتمشى مع بعض صور الدين، كالبوذية وبعض المذاهب الشرقية الأخرى. ومما يثبت ذلك أن مقدماته الأولى - وهي النظرة المثالية إلى الطبيعة الروحية للعالم، والإيمان بخلود النفس البشرية - كانت ترتبط دائما بفهم للعالم في ظل الألوهية.
والعنصر الأخير في ميتافيزيقا ماكتجارت هو دليل آخر على أن إلحاده لم يكن لا دينيا، فقد نظرنا إلى الذات حتى الآن في ذاتها وبذاتها، فماذا نقول عن علاقة الأشخاص بعضهم ببعض؟ إن استقلال الذات، الذي رفعه مذهب ماكتجارت إلى أعلى المراتب، لا يعني أن الأشخاص منعزلون، كل منطو على نفسه في ذاتيته، وإنما هم - على العكس من ذلك - يرتبطون بعضهم ببعض ارتباطا حيويا عميقا متبادلا، وأهم علاقة تربط بينهم - وبالتالي تلك العلاقة التي تربط بين الأشياء جميعا - هي الحب، أي العاطفة التي تحس بها ذات نحو أخرى، هذه العاطفة تنبثق من شعور بأوثق الارتباط والتوحد مع الذوات الأخرى. وهذا الارتباط ميتافيزيقي، كامن في ماهية الشخصية ، وليس شيئا يتعين إحداثه أو إيجاده. ومن هنا فإن الحب، الذي ينشأ من الطبيعة النهائية الذاتية
selfhood ، لا يمكن أن يكون شيئا سطحيا أو خارجيا، وإنما هو عميق باطن أساسي؛ ولذا كان مشحونا بعمق وانفعال لا نظير له، وهو أعظم خير يتسنى للبشر أن ينالوه، وأرفع قيمة ينطوي عليها الكون، وهو يعبر عن الانسجام الكامل الذي توصل إليه العالم في مرحلته الأخيرة، مرحلة الذاتية
selfhood ، وهو الضمان الوحيد على أن ماهية العالم خير وليست شرا.
ومن الطبيعي أن الحب لا يجد في حياتنا الراهنة أكمل صورة له، بل إن هذه الصورة لا تتحقق إلا في ذلك الوجود الذي يتجه إليه كل سعي لنا، والذي يسميه ماكتجارت - محتفظا بتخطيطه المجرد حتى النهاية - بالحلقة الأخيرة في السلسلة ج، غير أن هذه الصورة المنطقية لا تعود هنا إلا شبحا هزيلا خاويا، عاجزا عن التعبير عن تلك النار والسورة الباطنة التي يصور بها المفكر، بعد أن تحول الآن إلى متصوف، هذه الغاية النهائية. فالمرحلة الأخيرة، التي لها بداية ولكن ليست لها نهاية، هي مرحلة الحقيقة المطلقة، وقيمتها أعظم من قيمة جميع المراحل السابقة مجتمعة، ففيها تنال الحقيقة نصرها النهائي على الخطأ، والسرور على الألم، والخير على الشر. صحيح أنها ليست خالية من الشر، غير أن هذا يتضاءل بحيث لا يكاد يبدو إلا على أنه صدى، يتردد فيه الألم الذي كان يجلبه الشر في المراحل السابقة. وهنا يعظم الحب إلى حد أنه يتغلغل في كل شيء ويسيطر عليه، وتحيا فيه الأشياء كلها وتتحرك وتكتسب وجودها، ففي الحقيقة المطلقة تحب كل ذات أية ذات أخرى تدركها مباشرة، هذا الحب الكامل ليس هو حب الحقيقة أو الخير أو الفضيلة، وهو ليس انفعالا جنسيا، بل إنه ليس حب الإنسان لله، وإنما هو قوة دافقة غامرة، وهو «مباشر ووثيق وقوي، إلى حد أن أعمق وجدان صوفي لا يعطينا إلا أبسط لمحة عن كماله»،
94
وهو لا يخضع لأي تحديد خارجي، ولا يمكن تعيين سبب له، وأفضل وصف هو أن نقول بكل بساطة ، وبطريق مباشر: إنه هو الذي يجعل كائنين ينتميان بعضهما إلى البعض ويصبحان كائنا واحدا، إنه الحب الذي تغنى به الشعراء، وتجلى بصورة خالصة تماما لدى تنيسون في ديوانه «الذكرى
La Memorian » وفي ديواني «الحياة الجديدة
Vita Noova »، و«الكوميديا الإلهية
Divina Commedia » لدانتي. «الحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم.»
95 (6) القسم السادس: أصحاب مذهب المثالية الشخصية
ساهم برنجل باتيسون - وهو اسكتلندي كان نشاطه الفلسفي معاصرا لبوزانكيت - بدور ملحوظ في استيعاب التراث المثالي المستمد من ألمانيا، وفي نشره وتدعيمه، وكان من أقدر مفكري الجيل الثاني من المثاليين الإنجليز، على أنه لم يكن يتميز بأصالة ملحوظة، فقد كان يفتقر إلى المقدرة العقلية العميقة التي كان يتميز بها برادلي، وإلى مزاج ماكتجارت الجريء الصريح، وإلى إلمام وورد بالعلوم الطبيعية، فكان مدينا إلى هؤلاء جميعا، غير أنه لم يرتبط بواحد منهم ارتباطا كاملا، وإنما سلك طريقا خاصا به، مر بهؤلاء جميعا عن طريق نقده لمذاهبهم وتوفيقه بينها. وكانت النتيجة ما يمكن تسميته بمذهب مثالي عادي، جمع بين الاتجاهات المختلفة، وتجنب من آرائهم ما ينطوي على المزيد من الجرأة ويثير المزيد من الجدل. وبفضل هذا التكيف مع عناصر المدرسة ذاتها، والمواجهة النقدية لخصومها، والأبحاث الواسعة في تاريخ الفلسفة، وتوصل برنجل-باتيسون إلى العالم، وكان ذلك راجعا إلى دافع خارجي، هو تعيينه لإلقاء محاضرات جيفورد، ودافع باطن حفزه إليه ذهنه النقدي، أكثر مما كان راجعا إلى رغبة عميقة في التأمل وبناء مذهب خاص به. فنظرته إلى العالم تبعث على الاحترام، غير أن تجنبها للواحدية والتعددية، ولمذهب المطلق والمذهب الشخصي، وكل المذاهب الثابتة والأخرى، كل ذلك جعل منها محاولة تلفيقية، لا خلقا أصيلا.
وهناك اثنان من كتبه الأولى، التي ترجع إلى العقد التاسع من القرن الماضي، لهما أهمية تزيد على كونها أهمية عابرة فحسب. فكتاب «مقالات في النقد الفلسفي»، الذي نشره بالاشتراك مع صديقه هولدين، هو بيان أو إعلان مشترك لعدد من الشبان، الذين كانوا في ذلك الوقت يفتقرون إلى الشهرة، والذين انضموا إلى الحركة الجديدة، وكانوا يمثلون أول تعبئة لقوى المثالية. وقد ساهم برنجل باتيسون بالبحث الافتتاحي، فعرض الخطوط العامة لفلسفة هي في أساسها فلسفة هيجل، ولكنها ليست مقيدة تماما به، وإنما تتحرك بحرية في جميع الاتجاهات الفكرية التي امتدت من كانت إلى هيجل. وكان قد بين في كتابه الأول، الذي ظهر قبل ذلك بعام واحد، أن تطور هذه الفلسفة من الكانتية إلى الهيجلية قد سار وفقا لضرورة منطقية كامنة.
ولما كان برنجل باتيسون قد ظهر، عندئذ، بمظهر حامل راية المذهب الهيجلي، فقد أثار دهشة غير قليلة عندما نشر بعد سنوات قلائل كتابا تعرضت فيه الهيجلية لنقد شديد، وأعلن فيه أنها غير مرضية في نواح معينة، على أن هذا الكتاب - وهو «المذهب الهيجلي والشخصية» - لم يكن موجها ضد الحركة الهيجلية بقدر ما كان موجها ضد تطورات نظرية معينة لها، تمت على يد جناحها المناصر لفكرة المطلق. ومع ذلك فقد كان الكتاب يمثل نوعا من الثورة داخل قيادة المعسكر، وأدى إلى قيام حركة معارضة انضم إليها - على مر الأيام - كل من رفضوا تأييد المذهب المطلق عند برادلي وبوزانكيت، وكان هدف هذه المعارضة هو تنقية المثالية من عناصر هيجلية معينة، بالتطلع قدما إلى لوتسه، ورجوعا إلى كانت، وفي الوقت ذاته كانت تعني إعادة إحياء مذهب الألوهية بوصفه جزءا لا يتجزأ من المثالية. وبذلك كانت تعني العودة إلى المدرسة الهيجلية القديمة وتحالفها مع الدين. ولا شك في أن ميول برنجل باتيسون الدينية القوية كانت في هذه الحالة عاملا حاسما، ولم يكن من المستغرب أن يجد كتابه صدى عميقا في حلقة مارتينو.
وكان مركز هذا النقد لهيجل هو مشكلة الذات أو الشخصية، فقد ذهب إلى أن من الواجب فهم فكرة الذات عند كانت بمدلولها الإبستمولوجي (المعرفي) الأصلي، فالوحدة الترنسندنتالية للوعي الذاتي ليست إلا الوحدة المنطقية للتفكير، والعامل الصوري المحض في المعرفة. ولقد كان فشته هو الذي بدأ عملية تحويل الإبستمولوجيا عند كانت إلى ميتافيزيقا للمطلق، وواصل هيجل هذه العملية، كما واصلها الكانتيون الإنجليز والهيجليون؛ إذ إن هذه الإبستمولوجيا ليست أوضح ظهورا عند فشته منها في تحويل جرين للوحدة التركيبية للوعي الذاتي إلى مبدأ روحي كلي أو وعي إلهي، كما أن المنطق والميتافيزيقا ليسا منفصلين بوضوح عند هيجل، فالتصور يجمد في ماهية واقعية، والمقولات تحدد هويتها بصور لأشياء موجودة، والعالم يشيد منطقيا من الفكر المحض. غير أن هذه المحاولة الطموحة لا تفلح أبدا في الوصول إلى المعطيات الحقيقية للتجربة، أو إلى العيني والفردي، ولا تتجاوز أبدا عالم التصورات الشكلية المجردة، على أن الواقع لا يمكن أن ينتج بالفكر، وإنما هو يعطى له، والفكر لا يمكنه أن يصف إلا ما يمكن الاهتداء إليه نظرا إلى كونه موجودا بالفعل، وهذا الأخير يكون على الدوام فرديا وفعليا، وبالتالي يكون لا منطقيا ولا عقليا. وهكذا فإن إصرار هيجل على تجاهل ما هو فعلي قد جعل عالمه ينكمش في حدود العملية المنطقية التي لم يعد فيها الفرد العيني سوى مركز تجمع المقولات الصورية.
ويواصل برنجل باتيسون نقده قائلا: إن الشمول المنطقي (
panlogism ) عند هيجل، يظهر قصوره بوجه خاص في ذلك الشكل من الفردية الذي نسميه بالشخصية، فهو لا يترك مجالا لحقيقة الأشخاص. ولقد كان خطأ هيجل، الذي شاركه إياه جرين والمدرسة الهيجلية الإنجليزية بوجه عام، وهو خطأ التوحيد بين الوعي البشري والوعي الإلهي، ووضع الاثنين معا في ذات كلية واحدة؛ كان هذا الخطأ نتيجة للاتجاه إلى الاستعاضة بصورة خالصة عن كائن حقيقي. ففي الذات الشكلية الخالصة، أو في المطلق، يتلاشى الاثنان، ويسلبان طبيعتهما المميزة بوصفهما شخصيتين فرديتين. ومقابل هذا المذهب المطلق يؤكد برنجل باتيسون الفردية الكمية والكيفية لكل شخص أصيل، واستبعاده التام المطلق لكل الأشخاص الأخرى، وعدم قابليته للاختراق أو النفاذ (
impenetrability )، وهي صفة لا يعد عدم قابلية المادة للاختراق، بالنسبة إليها، إلا شبيها هزيلا، فلا يمكن أن تتضمن ذات في ذات أخرى أو تتغلغل فيها، ولا تكون الذات مبدأ للتركيب أو للتوحيد إلا إذا عدت ذاتا عارفة. أما إذا نظر إليها من الوجهة الميتافيزيقية، بوصفها موجودة، لكانت أولى علاماتها المميزة هي الاستقلال والانعزال، بل إن الشخصية الإنسانية مستقلة نسبيا حتى إزاء الله، ما دام لها مركزها الخاص. ومن الواجب أن ينظر إلى الله ذاته، لا على أنه مقولة مجردة مثل «المطلق» عند هيجل، بل على أنه شخصية واعية بذاتها، لا تستطيع الشخصية المتناهية أن تتغلغل فيها أكثر مما يستطيع الله أن يتغلغل في الشخصية المتناهية. وبهذا الوصف تكون «الروح المطلقة» عند هيجل والوعي الكلي عند جرين أشبه بالطريق المسدود، الذي لا يؤدي إلى شخصية متناهية ولا إلى شخصية لا متناهية؛ فالهيجلية والشخصية لا تجتمعان.
ولسنا بحاجة إلى أن نبحث في مدى صحة فقد برنجل باتيسون لفلسفة هيجل، ولا سيما اتهامه إياها بأنها مجرد إطار شكلي، ولقد رأينا من قبل أن ماكتجارت، الذي كانت له معرفة أوثق بنصوص هيجل، قد اتخذ بعد عشر سنوات موقفا مضادا تماما، وإن يكن من الطريف أن نلاحظ أنه قد وصل على الرغم من ذلك، مع برنجل باتيسون، إلى نفس النتيجة في تفكيرهما في مشكلة الشخصية. غير أن نقد برنجل - باتيسون له أهمية تاريخية، هي أن ما يبرره لم يكن التطور السابق للهيجلية الإنجليزية بقدر ما كان تطورها اللاحق، أي ذلك العزوف التام الذي أسفر عنه مذهب برادلي وبوزانكيت المطلق فيما يتعلق بالشخصية، فقد وضع إصبعه على جرح لم يبدأ في الظهور إلا فيما بعد، ورأى مقدما خطرا مقبلا، فشيد للدفاع عنه حصنا احتمى به كل أولئك الذين لم يقبلوا أن ينتقص أحد من حق الشخصية المتناهية وقيمتها أو ينكره. وهكذا قسم المعسكر الهيجلي إلى جماعتين متعارضتين، هما جماعة المطلق وجماعة الشخصية، وهو تقسيم ظل قائما طوال التاريخ، وبذلك كانت الخدمة الخاصة التي أداها برنجل باتيسون في تطور المثالية الإنجليزية هي أنه كان أول مفكر في هذه المدرسة أكد عن وعي وبإصرار قيمة الشخصية التي لا يمكن أن تسلب، وبذلك بدأ اتجاها فكريا كانت له ثمار من أنواع شتى فيما بعد.
ولقد كان كتاب «الهيجلية والشخصية» يمثل أبعد نقطة افترق فيها برنجل-باتيسون عن هيجل، أما في كتاباته الأخرى فإنه، مع احتفاظه بالموقف الذي اتخذه من مسألة الشخصية ووضعه أساسا منهجيا له، قد أخذ يعود إلى نقطة بدايتها الهيجلية الأصلية، وظهر هذا الاتجاه أول ما ظهر في اختبار نقدي مفصل لكتاب برادلي «المظهر والواقع»،
96
عالج فيه «هذه النظرية الجديدة في المطلق» على نحو أقل قسوة وسلبية مما قد يتوقعه المرء من موقفه السابق، فقد وجد لدى برادلي اتجاهين متعارضين، أسمى أولهما بالاتجاه الهيجلي، والثاني صدى لاسبينوزا وشلنج، فقبل الأول ورفض الثاني. وبعبارة أخرى فقد رفض الرأي الذي يجعل من المطلق وحدة خاوية لا تنوع فيها، ولا تتجاوز فيها المتقابلات على نحو أصيل، وإنما تخف حدة التقابل بينها فحسب. كما رفض الثنائية غير الهيجلية بين المظهر والواقع، وقبل درجات الحقيقة والواقع، التي رأى أنها هي أساس ما في فلسفة هيجل من قيمة باقية. وعلى الرغم من انتقاداته الكثيرة لتفاصيل المذهب المطلق الجديد، فإن موقفه العام من هذا المذهب، كما يتمثل لدى بوزانكيت، أكثر مما يتمثل لدى برادلي، كان موقف التأييد. ويبدو أن بوزانكيت بوجه خاص قد ساهم مساهمة كبرى في الصورة النهائية التي اتخذتها ميتافيزيقاه. وعلى أية حال، ففي كتاب «فكرة الله»، كانت وسيلته إلى إيضاح أفكاره الخاصة هي المناقشة المستمرة لآراء بوزانكيت. ولما كانت مسألة اتفاق هذين المفكرين واختلافهما مسألة داخلية بالنسبة إلى المدرسة، فلا حاجة بنا إلى خوضها.
ولا تكتمل أطراف مذهب برنجل باتيسون بحيث تتكون منه نظرة كاملة إلى العالم، إلا عندما نصل إلى المجموعتين اللتين ألقاهما من محاضرات جيفورد، وهما «فكرة الله» و«فكرة الخلود»، وهما المجموعتان اللتان كانت أولاهما هي الأهم من جميع النواحي، وهنا - كما في المواضع السابقة - يتركز اهتمامه في المسائل الميتافيزيقية. فمهمة الفلسفة في نظر غيره من بناة المذاهب من الهيجليين، هي التفكير في الواقع في كليته، وتتبع مركبه المعقول بوصفه نسقا مقفلا مترابطا، وتفسير كل أجزائه ومراحله في ضوء مبدأ واحد أساسي، بناء على افتراض لا يمكن إثباته، ولكن لا مفر من تأكيده، هو أن الواقع معقول تماما، وأن الأشياء تلتزم نظاما، وأن هذا النظام قابل لأن يعرف من حيث المبدأ. ففكرة الارتباط العضوي للأجزاء بعضها ببعض وبالكل، هي الفكرة الأساسية في مذهب برنجل-باتيسون، وهي مظهر تأثره بهيجل. وفي ضوء هذه الفكرة يناقش العلاقة بين الطبيعة والإنسان، والفرد والمجتمع، والعالم والله، والمتناهي والوجود الإلهي وما شابهها من الأفكار.
فالطبيعة أداة بالنسبة إلى الإنسان، والإنسان أداة بالنسبة إلى الله، ولا وجود للطبيعة بوصفها حقيقة مستقلة تامة في ذاتها، كتلك التي يقول بها العلم الميكانيكي، بل إن كل حادث طبيعي هو، على العكس من ذلك، يوجه إلى الإنسان بوصفه كائنا عاقلا. إن الإنسان حقا ابن الطبيعة وفلذة كبدها، وإليها ترجع جذوره، ومنها ينمو عوده، غير أنه أداة ذلك الشيء الذي نماه، وهو الوسيلة التي وصلت بها الطبيعة - لأول مرة - إلى وعيها بذاتها وتمتعها بوجودها، فكل منهما أداة للآخر.
فإذا ما تبين لنا ذلك، أمكن خوض مشكلة المعرفة وحلها. فالإنسان بوصفه كائنا عارفا، هو مع ذلك فرد في الكون أو عضو فيه؛ لذلك كان علينا أن نزيل الهوة التي أقامها الفلاسفة بين العارف والمعروف، بين الذات والموضوع، وأن ننظر إليهما معا في وحدتهما بوصفهما أعضاء في نسق واحد. فالإنسان، من حيث هو ذات عارفة، داخل في العالم الذي يعرفه، وهو يقف جنبا إلى جنب مع موضوعاته، ويستتبع ذلك ألا يكون قوام حقيقة الشيء هو فعل المعرفة، بل إن ذلك الفعل يفترضها مقدما، وهي بهذا المعنى مستقلة عنه؛ أعني أنها مستقلة بالمعنى الميتافيزيقي، أي معنى أنها موجودة بذاتها، خارج كل علاقة لها بالذهن، كما يزعم الكثيرون بالنسبة إلى المادة، وكما يقال على تلك الخرافة الأخرى التي لا يمكن تبريرها، أعني الشيء في ذاته. وإذن فمشكلة المعرفة لا يمكن أن تحل بمذهب مثالي من نوع مذهب باركلي، ولا بمذهب مادي من النوع المرتبط بالعلم الطبيعي؛ إذ إن الأول يمحو الموضوع في الذات، والثاني يمحو الذات في الموضوع. كما أنها لا تحل بثنائية الظاهرة والشيء في ذاته عند كانت، ما دامت هذه تؤدي إلى اللاأدرية. والحل الوحيد الذي يمكن إيجاده هو القول بمذهب واقعي يعطي كلا من العاملين المتضايفين حقه. وما دام مثل هذا المذهب الواقعي يتفق في جميع النقاط الأساسية مع الرأي الساذج، فإن برنجل-باتيسون يطلق على مذهبه اسم الواقعية الطبيعية. وهذا الموقف لا يتعارض أبدا - بطبيعة الحال - مع القضية المثالية الأساسية القائلة إن طبيعة العالم روحية، ويمكن أن يندمج عضويا في مذهب المثالية الميتافيزيقية.
ولقد كانت الميتافيزيقا التي قال بها برنجل - باتيسون مثالية، لها مراكز أساسية ثلاثة هي الطبيعة والإنسان والله. فالمثالية في هذا المذهب ليست عنصرا فيه بقدر ما هي تكون الأساس العام للكل، وقوتها الدافعة إنما تكون في الفكرة القائلة إن الطبيعة لا يمكن تصورها موجودة بذاتها، وإنما هي لا تتصور إلا بوصفها عاملا في كل أكبر، تجد من خلاله القيم الروحية تعبيرا عنها؛ فرفض أية صورة من الفلسفة الطبيعية
naturalistic
هو أمر تحتمه الاعتبارات الأخلاقية، غير أن المثالية لا يمكن البرهنة عليها، فهي ترتكز أساسا على اعتقاد مطلق، لا تبرره الحجج الإيجابية بقدر ما تبرره استحالة الفرض الطبيعي المضاد له. ومن ثم فهي ليست نظرية جامدة، وإنما هي قوة حية وإيمان، هو الإيمان بأن الطبيعة ليست أصلا للروح أو نقطة بداية لها، وإنما هي تتخذ من الروح غاية ونقطة نهاية لها.
وبهذا المعنى يكون مذهب برنجل - باتيسون متركزا حول الإنسان، فهو يرتكز، لا على الأصل أو نقطة البداية، وإنما على الغاية أو الهدف. وهذا الطابع الغائي يزداد وضوحا في مذهبه في الإنسان أولا، ثم في مذهبه في الله، الذي بلغ فيه هذا الاتجاه قمته. فهو يعمل على توسيع وتعميق تصوره للإنسان كما عرضه في كتابه «الهيجلية والشخصية»، دون أن يغير أيا من نقاطه الأساسية. وهنا تظهر مرة أخرى معارضته للمذهب المطلق، ولكنها تظهر هذه المرة عن طريق نقده، لا لهيجل ذاته أو للهيجليين الإنجليز الأوائل، وإنما للهيجليين المتأخرين، ولا سيما برادلي وبوزانكيت. أما وجهة نظر برنجل باتيسون فهي، على خلاف هؤلاء، أقرب إلى آراء ماكتجارت وسورلي وراشدال. ويمكن تلخيصها على النحو الآتي: فكل ذات متناهية هي فرد لا نظير له، ويقع مركزها في داخلها، وتكون عالما لنفسها، وهي مركز للكون غير قابل للتكرار. وليست الذات، كما قال برادلي، مجرد معبر يوصل إلى حقيقة مطلقة تلتهمها وتبدلها، بل إن لها، على العكس من ذلك وجودا وقيمة خاصة بها ، وطبيعتها هي ما تكون عليه في الزمان والمكان الراهنين، لا ما يمكن أن تكون عليه في المستقبل. ومن المحال إغراق الذات في كل أعلى، أو تحقيقها لذاتها بالفناء في غيرها، فهي ليست نعتا للمطلق، على حد تعبير برادلي، وإنما لها كيان الاسم القائم بذاته (وإن لم يكن هذا الكيان جوهريا)، وهي مركز يكتسب فيه مضمون متعدد الأوجه وحدة باطنة هي وحدة ذات فريدة. أما من وجهة النظر الأخلاقية فإن الذات تعد إرادة متكونة، مستقرة، محددة، ومصدرا لأفعالها الخاصة، التي تضطلع تبعا لذلك بالمسئولية الكاملة عنها. وليست الذات نقطة التقاء أو مفرق طرق بالنسبة إلى قوة غريبة عنها، بل إنها هي التي تتحكم في مصيرها، وهي حرة خلاقة وتنتمي الحرية إلى قلب طبيعتها؛ إذ إنها هي الشرط الأساسي لأية حياة أخلاقية. فكوننا أحرارا هو حقيقة لا تفند، ولا تتأثر بجميع الصعوبات التي تعترض طريقنا عندما نحاول إيضاح الطريقة التي نكتفي بقبولها. فالفردية، ومعها الحرية التي تكون مركزها، هي المبدأ الأساسي للعالم الحقيقي.
وتحتل فكرة الشخصية الإنسانية هذه - باستقلالها وحريتها وعدم قابليتها للفناء - موقعا مركزيا في مذهب برنجل-باتيسون؛ إذ إن كل شيء آخر يرتبط بها ويتحدد بوساطتها، بل إن فكرة الله ذاتها، مهما كان بحثها أساسيا بالنسبة إلى كل ميتافيزيقا، مستمد من هذه الفكرة ضوءا وتكتسب مكانتها بفضلها. فالله، كالطبيعة، ليس نقطة بداية بالنسبة إلى الإنسان، وإنما هو يعرف بأنه نقطة النهاية بالنسبة إليه، وذلك على خلاف معظم مذاهب الألوهية. وهكذا فإن المبالغة في تأكيد الشخصية المتناهية، الذي أدى عند ماكتجارت إلى الإلحاد، قد أدى عند برنجل - باتيسون، الذي كان شعوره الديني أقوى بكثير، إلى تكييف فكرة الله مع فكرة الإنسان. أما عن العلاقة بين العالم والله، فإنه يرى أن كلا منهما وسيلة للآخر، فليس الله خالقا عاليا أوجد العالم ثم تركه لمصيره، أي تركه ليسير في طريقه آليا، وإنما هو كائن في العالم، وهو خالق بمعنى أنه يتكشف أزلا فيه، ويضفي أزلا على تناهي العالم وعرضيته فيضا من طبيعته اللامتناهية التي لا ينضب معينها. فالمتناهي والإلهي لا يوجدان إلا وبينهما مبادلة، وتغلغل عضوي متبادل.
وبالمثل، فليس الإنسان والله حقيقتين مستقلتين، وإنما يستمد كل منهما معناه من الآخر. فالله يحتاج إلى الإنسان بقدر ما يحتاج إليه الإنسان، ولا يكون لله معنى إذا ما استبعدت عنه كل علاقة بحياتنا الشخصية، وبالمثل لا يكون للإنسان معنى إذا ما عزل عن أساسه الخالق. ولا يمكن أن يكون معنى الكون وقيمته منحصرا في تنازل الأفراد المتناهين عن ذواتهم لكي يستوعبها اللامتناهي، الذي لن يستمد من ذلك أي تعميق أو إثراء لطبيعته، بل إن وجود مراكز فردية للتفكير والفعل هو ذاته إثراء وإعلاء للكل في هذا العالم الحالي، وكلما ازداد لهيب الحياة الفردية لمعانا ونقاء، كان ذلك الإثراء أعظم وأعمق، ولو دمرت حياة فردية واحدة لكان في ذلك إقلال من قيمة الكون، فالقيم العليا لا تتحقق إلا في حياة الأشخاص ومجموعات الأشخاص، أي في اتصال الأفراد المتناهين بعضهم ببعض وبالله. ولهذا السبب كان من المستحيل على المطلق أن يصبح بنفسه ذاتا حقيقية. ولا يتحقق المطلق أو الله بمعناه الكامل، ولا يغدو إلها حقا إلا عندما تترك للأفراد سلامتهم الكاملة إلى جانبه، وعندما يدخلون في اتصال معه، وبذلك يعلون من قيمته.
والنتيجة المنطقية لقدرة الشخصية الإنسانية على إعلاء الألوهية، هي أولوية الإنسان بالنسبة إلى الله. ولقد علق الدكتور تمبل
Temple
على كتاب برنجل باتيسون قائلا: إن الله قد أصبح مجرد نعت لاحق بالكون،
97
ولعل الأصح من ذلك أن يقال: إنه قد أصبح مجرد نعت لاحق بالإنسان أو متوقف عليه. وقد ظهر معترض آخر من الجانب الديني هو البارون فون هوجل
Von Hügel ،
98
فمذهب الألوهية عند برنجل - باتيسون، مهما كان عمق الإيمان الذي انبثق عنه، ليس في أساسه سوى مذهب ألوهي مزيف وحل وسط عاجز عن إرضاء العقل نظريا، وإن تمجيده للشخصية الإنسانية ليؤدي منذ البداية إلى استبعاد فكرة الله كما شاع فهمها. وعلينا، إذا شئنا عرضا أكثر اتساقا لهذه الفكرة، أن نعود إلى برادلي ورأيه في المطلق اللاشخصي، وإلى إلحادية ماكتجارت، أما موقف برنجل - باتيسون فهو موقف وسط، لا يرتكز على أساس متين، ويخفق في نفس النقطة التي جعل منها قمة نظريته للميتافيزيقا، أعني تعريف طبيعة الله.
نشأ جيمس سث في نفس البيئة الفلسفية التي نشأ فيها شقيقه أندرو، فكلاهما قد شب في العاصمة الاسكتلندية، التي كان يهيمن على شئونها الفلسفية فريزر وكالدروود، أستاذا كرسيي الفلسفة بالجامعة. وعلى الرغم من أن هذين لم يتأثرا بالحركة المثالية الجديدة إلا قليلا، فقد هيآ الأرض لاستقبال الأفكار الجديدة وتنميتها، وذلك حين أحيا فريزر مثالية باركلي، ورفض كالدروود مذهب هاملتن، الذي كان قبوله شائعا في اسكتلندا في ذلك الحين، كما أن الاثنين كانا من أنصار فكرة الألوهية، وفي هذا كانا قريبين من المثاليين الهيجليين. ولقد وفدت المثالية الجديدة إلى العاصمة الاسكتلندية في حوالي بداية العقد التاسع من القرن الماضي، آتية من جلاسجو، حيث كان إدوارد كيرد سفيرا واسع النفوذ للمثالية، وفي الوقت نفسه تقريبا أنشئت جمعية فلسفية جامعية في إدنبرة، كان من أعضائها شبان موهوبون مثل آدامسون
Adamson
وسورلي
Sorley
وهولدين وريتشي، والأخوان سف. وبفضل المناقشات التي دارت بينهم للأفكار الجديدة، تغلغلت جذور الحركة المثالية في المدينة التي كان يعيش فيها عندئذ - بهذه المناسبة - الرائد الأصلي للهيجلية الإنجليزية، أعني سترلنج. وعندما حل العقد الأخير من القرن الماضي أصبح ممثلان للاتجاه الجديد يشغلان الكرسيين الجامعيين بها؛ ذلك لأن أندروسث قد خلف فريزر في 1891، كما أن جيمس سث قد خلف كالدروود في 1898، وواصل الاثنان نشاطهما في التعليم بقوة ونجاح غير عاديين، إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى.
ولقد كان الشقيقان يجمعان، إلى أواصر القربى ووحدة المهنة، تشابها في المذهب، فقد كانا متفقين في جميع النقاط الأساسية، ولكن بينما كان الاهتمام الأساسي لأندرو منصبا على الميتافيزيقا، فقد اتجه اهتمام جيمس إلى الأخلاق. وهكذا طبق أفكار شقيقه على نطاق واسع في هذا الميدان، وصاغها في كثير من الأحيان صياغة أدق وأضبط، ففي بحثه - الذي أحرز في وقته مكانة عالية - عن «الحرية بوصفها مصادرة أخلاقية»، دافع عن استقلال الشخصية الأخلاقية وسلامتها ضد الاتجاه الهدام لدى الهيجليين، وبذلك ألف ما يمكن أن يعد ملحقا أخلاقيا لكتاب أخيه «الهيجلية والشخصية». وإذا كان هناك جانبان يهددان بالخطر استقلال الشخصية، الذي هو أساس كل حياة أخلاقية ومقدمتها الأولى، أعني المذهب الطبيعي، الذي يذيبها في الطبيعة، ومذهب المطلق، الذي يذيبها في الله، فإنه كان يعد الجانب الثاني أخطر. غير أن كلا هذين قد تخلى عن الحرية، التي ترتبط بفكرة الشخصية ارتباطا يبلغ من العمق حدا يجعل الوجود المتميز للإنسان متوقفا تماما عليها.
ومهمة الأخلاق هي تحديد مركز الإنسان الخاص بالنسبة إلى الأحداث الطبيعية من جهة وإلى القوة الإلهية من جهة أخرى؛ لذلك لا يمكن أن تكون الأخلاق علما وضعيا فحسب، أو بحثا تجريبيا في الظواهر الأخلاقية وأصولها، مثلما يقول أنصار المذهب الطبيعي والمذهب التطوري (الذي يعد «لسلي ستيفن» ممثلا نموذجيا لهما)، وإنما ينبغي أن تمتد من ناحية أخرى إلى الميتافيزيقا واللاهوت. وفي هذه الميادين الأخرى كان مذهب جيمس مماثلا، على وجه العموم، لمذهب أخيه، فالفلسفة هي المركب الأعلى للحقائق الميتافيزيقية الثلاث: الطبيعة والإنسان والله. ولكن عليها أن تكشف، في عملية التركيب، عن الفروق القائمة بينها، فضلا عن علاقاتها الإيجابية. وعليها أن تحذر بوجه خاص طغيان إحدى هذه الحقائق على الأخرى؛ فعليها أن تعطي كلا منها ما تستحقه بالفعل من قيمة ومكانة. والمشكلة الميتافيزيقية الحاسمة هي علاقة الإنسان - بوصفه شخصا أخلاقيا حرا - بالله، غير أن حل هذه المشكلة، دون تهرب من أية صعوبة من الصعوبات المتضمنة فيها، هو أمر يتجاوز نطاق قدرة الفكر، فيبدو أن كلا من العاملين لا يتمشى مع الآخر، ومع ذلك لا يمكن التخلي عن أحدهما لصالح الآخر، كما تفعل الصوفية، مثلا، لصالح الدين، أو كما تفعل المثالية المطلقة لصالح الفلسفة. فالإنسان لا يصل إلى فكرة كائن أعلى إلا عن طريق اقتناعه بسموه على الطبيعة وبحريته واستقلاله الأخلاقيين؛ لذلك كان النظر باحترام إلى الطبيعة البشرية هو الضمان الصحيح الوحيد للنظر إلى الطبيعة الإلهية باحترام، أي إن إفناء الشخصية الإلهية ليس إلا إفناء لعظمة الله بدورها. ولهذه الأسباب لا يمكن النظر إلى الإنسان على أنه مجرد أداة سلبية في يد الله، فالصفة الأساسية المميزة لحياة الإنسان، من حيث هي تحكم حر في مصيره، هي الفاعلية الإيجابية. وأرفع رأي يمكن أن يتخذه الإنسان عن علاقته بالله هو القول بالتعاون الإيجابي، الذي يتخذ فيه الإنسان لنفسه الغايات الإلهية، ويغدو هو ذاته مساهما في تقدم العملية الكونية. ويرتبط بهذه الفكرة الجذابة، الرأي القائل إن الشر قوة إيجابية حقيقية، ينبغي أن نعترف بكل ما لها من خطورة أليمة، وهنا أيضا يظهر سث، كما أظهر في مسألة الشخصية، معارضته للهيجليين، الذين كان في تفاؤلهم السطحي تهرب من مشكلة الشر أكثر مما كان فيه حل لها.
ومن الواضح أن هذه الآراء الأخلاقية، إذا ما نظر إليها في سياق نتائجها الميتافيزيقية، تبدو أقرب إلى الروح الكانتية منها إلى الروح الهيجلية، كما أنها قريبة الصلة بمذهب مارتينو الأخلاقي. غير أن دين سث الأعظم، إلى جانب دينه لأخيه، هو - باعترافه - دينه لكتاب «الأخلاق
Ethica »، من تأليف مواطنه لوري
Laurie ، الذي كان يدرس في جامعة إدنبرة في نفس الوقت، والذي لم توجه إليه الأوساط الفلسفية الاحترافية في ذلك الحين ولا فيما بعد اهتماما كبيرا.
وقد عرض سث آراءه على شكل مذهب أخلاقي كامل، في كتاب تال أحرز نجاحا كبيرا، هو «دراسة في المبادئ الأخلاقية»، فقد وقف موقفا مضادا لأنصار المذهب الطبيعي؛ إذ نظر إلى الأخلاق على أنها علم معياري، غايته الرئيسية هي كشف المثل الأخلاقي الأعلى، والمعيار الأسمى للقيمة الأخلاقية. ومن الممكن التمييز بين حلين متعارضين من بين الحلول المتباينة لهذه المشكلة الأساسية، هما مذهب اللذة عند الأبيقوريين وأصحاب مذهب المنفعة، ومعياره هو الشعور، ومذهب القانون الصارم
Rigorism
عن الرواقيين والحدسيين وكانت، ومعياره هو العقل. هذان الطرفان المتقابلان في حاجة إلى نظرية تتوسط بينهما، تعطي كلا من الشعور حقه، وتجمع بينهما في وحدة الطبيعة البشرية. ويطلق سث على هذا الموقف الأشمل اسم مذهب السعادة
Eudaenonism
أو أخلاق الشخصية. ولا يعني بذلك نظرية السعادة كما عرفها الأخلاقيون التجريبيون الإنجليز في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وإنما يعني الموقف المثالي الذي تجلى بأنقى صوره عند أفلاطون وأرسطو وبطلر وهيجل، وفي رواية «فاوست» لجوته، وفي شعر تنيسون وبرواننج وأرنولد. وعلى حين أن شعار مذهب اللذة هو إرضاء الذات، وشعار مذهب القانون الصارم هو التضحية بالذات، فإن شعار مذهب السعادة (بهذا المعنى) هو تحقيق الذات. فالأمر الأخلاقي ليس موجها للشعور أو إلى العقل، وإنما إلى الذات الكاملة، التي تجمع بين هذا وذاك، وإلى شخصية حرة منظورا إليها في ضوء جميع أفعالها وعلاقتها، وإلى ذات تنسجم جميع قدراتها، وتحيا حياة أخلاقية ارتبط فيها الواقعي والمثالي ارتباطا عضويا. فالذات الأخلاقية هي الوحدة التركيبية للوعي الذاتي، منظورا إليها من وجهة النظر الأخلاقية. وهكذا فإن القانون الأخلاقي يقضي بأن ننمي - من فرديتنا الطبيعية - ذاتنا المثالية الشخصية الأصيلة. ولكي يكون الكائن شخصا ينبغي أن يكون حرا، وعلى ذلك فإن قانون الكائنات العاقلة كلها هو الاستقلال الذاتي.
وبعد تحديد سث للمثل الأخلاقي الأعلى على هذا النحو، ينتقل إلى تطبيق مفصل له على الحياة الفردية والاجتماعية، وهكذا ينتهي بميتافيزيقا للأخلاق يتحدث فيها عن الحرية والله والخلود. وهو في هذه الموضوعات لا يتجاوز - كما ذكرنا من قبل - البرنامج الذي وضعه في كتابه الأول، ولا يفترق في أية نقطة أساسية عن آراء أخيه.
انضم سورلي إلى الحركة الجديدة في وقت مبكر؛ إذ نجد في كتاب «مقالات في النقد الفلسفي» مناقشة أجراها للمنهج التاريخي. وقد كان الموضوع الرئيسي لكتاباته التالية هو المسائل الأخلاقية، التي نقدها ونظمها من وجهة النظر المثالية، وقد بحث مشكلات فلسفة القيمة على نحو أدق وأعمق، مما بحثها معظم أفراد المدرسة، وأحرز في مذهبه نتائج أعظم. وكان بحثه مرتبطا بدراساته الأخلاقية ارتباطا وثيقا، وكان تعلقه بكانت وهيجل، على وجه العموم، أقل مما كان شائعا بين زملائه من المثاليين. غير أنه استبق تمييز كانت للوجود إلى عالمين: عالم الطبيعة وعالم الغايات، وكان يماثل هيجل في سعيه إلى بناء مذهب وتعلقه الدائم بالكل، وبهذا كان يواجه كل أنواع الثنائية بمحاولة تجاوزها في وحدة أعلى.
وقد تضمن كتاباه الأولان: «أخلاق المذهب الطبيعي» «والاتجاهات الأخيرة في علم الأخلاق» نقدا عميقا لمختلف صور الأخلاق الطبيعية، فبين أولا أن أصل الأفكار والأحكام الأخلاقية لا يمكن أن يقرر شيئا بشأن مشكلة قيمتها؛ إذ لا يوجد طريق يؤدي من الواقع إلى القيمة، ومما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، وهي فكرة استمدها من لوتسه، كما بين ثانيا أن المراحل الدنيا، في العملية التطورية، ينبغي أن تفهم في ضوء المراحل العليا وليس العكس. وقد عرض فيما بعد مذهبه كاملا في كتابه الرئيسي «القيم الأخلاقية وفكرة الله»، ولخصه في مقال «القيمة والواقع».
فالوجود في كليته، الذي تكون مهمة الفلسفة هي الوصول إليه، يشمل عالمين مختلفين كل الاختلاف، عالم ما هو واقعي فحسب أو موجود، وعالم ما له قيمة. فالتقويمات شأنها شأن الإدراكات الحسية، من بين المعطيات الأصلية للتجربة، وصحيح أن فعل التقويم، وكذلك فعل الإدراك، هما فعلان ذاتيان، غير أن الموضوعات التي يتجه إليها هذان الفعلان ليست ذاتية، فبأي معنى إذن تكون القيم موضوعية؟ يرد سورلي على هذا السؤال قائلا إنها تكون موضوعية بقدر ما تكون علامة مميزة للشخصية، فالأشخاص ينتمون إلى النظام الموضوعي للأشياء، وهم في نفس الوقت حملة القيم التي تظهر في حياتهم وشخصياتهم. وهكذا فإنهم ينتمون إلى كلا العالمين اللذين أشرنا إليهما.
هذه الأفكار، التي ترجع أصلا إلى كانت، قد اكتسبت طابعا خاصا بفضل ارتباطها بلوتسه وفلسفة القيم المستمدة منه، والتي وضعتها مدرسة بادن
Baden ،
99
واتفقت مع مذهب ريكرت
Rickert
100
اتفاقا يكاد يكون تاما، ولقد كان لهذا الاتجاه الفكري ذاته، الذي لم يلق في إنجلترا اهتماما كبيرا، تأثير قوي في أجزاء أخرى من مذهب سورلي، فعرضه لمناهج العلوم، مثلا، مستمد من ريكرت، ولا سيما فكرته عن العملية التعميمية في العلوم الطبيعية والعملية التخصيصية في العلوم التاريخية، ونظرته إلى الأولى على أنها تقوم بتجريد القيم، والثانية على أنها متوقفة على القيم، ولما كان مقر القيم هو الأفراد، والأفراد يتميزون بفردانية كيفية وعددية، فإن هذه الصفات تنتمي إلى ماهية ما له قيمة.
وعندما أخذ سورلي يضع تفاصيل نظريته الخاصة في القيم، ازداد اهتماما بالقيم الأخلاقية، وجعل لها آخر الأمر مكان الصدارة بالنسبة إلى كل القيم الأخرى، بوصفها أنقاها وأشملها، ومن حيث إنها ترتبط بالقيم الأخرى جميعا. وهو يميز بين القيم من حيث هي أداة، والقيم من حيث هي كامنة، فالأولى تنتمي حتى إلى الأشياء المادية، بقدر ما تدخل في علاقات مع الأشخاص، أما الثانية - وهي القيم بمعناها الصحيح - فلا تنتمي إلا إلى الأشخاص بوصفهم حملتها، ولا تدخل هذه القيم الأخيرة في تركيب الكون عن طريق ارتباطها بالأشخاص.
ولقد شيد سورلي على نظرية القيم هذه مذهبه الخاص في الميتافيزيقا، الذي كانت مهمته الرئيسية، الرامية إلى تحقيق غايته الرابطة الجامعة، هي تجاوز ثنائية نوعي الوجود، أعني الوجود الفعلي أو الطبيعي، والوجود ذا القيمة أو الأخلاقي. فعلى الميتافيزيقا أن تهتدي إلى المصدر الموحد الذي نشأ عنه هذان العالمان، والذي قد يعودان إليه ثانية. ولما كان العالمان يلتقيان في الإنسان، فلا بد من تصور هذه الوحدة العليا، وهي المطلق أو الله، من خلال مقولة الشخصية. فإذا شئنا أن نحقق النظرة المتكاملة التي تعطي كلا من القيم والوقائع الطبيعية حقها الكامل، فإنا لا نستطيع الاستغناء عن فكرة الله؛ فالله ضروري ليس فقط من حيث إنه خالق الكون الموجود، بل أيضا من حيث إنه ماهية كل قيمة ومصدرها.
وحسبنا هنا أن نشير من بعيد إلى النتائج الميتافيزيقية لهذا الرأي، فقد وضع سورلي مصادرتين ميتافيزيقيتين، هي الحرية الفردية للإنسان، والغرضية الكونية للطبيعة. أما الأولى فتثير مشكلة خطيرة هي علاقة الإنسان بالله في علمه الشامل وقدرته الكاملة. فوجود الشر وتلك الأحداث التي لا يجوز أن تنسب إلى الإرادة الإلهية، وقدرة الإنسان على أن يسلك على نحو مضاد للقانون الأخلاقي، هذه الحقائق وغيرها لا يمكن تفسيرها إلا على أساس افتراض أن الله يضع لقدرته الشاملة حدودا، وأن تحديد الله لذاته هو جزء أساسي من طبيعته. ويفضل سورلي هذا الموقف على محاولة الهيجلية الجديدة رد الأشياء والأشخاص إلى مجرد أحوال يظهر عليها المطلق، الذي يفقدون فيه - من وجهة النظر النهائية - كل ما يجعلهم يبدون على ما هم عليه.
ومن الممكن أن تسمى مثالية سورلي مثالية أخلاقية، ما دامت ترتكز على مذهب للقيم تحتل القيم الأخلاقية مكان الصدارة فيه، ولما كان يعزو إلى الأشخاص - بوصفهم حملة القيم ووسطائها - مكانة ميتافيزيقية تعلو على مكانة العالم الطبيعي، عالم الوقائع المادية الخالصة، فإن موقفه أقرب إلى مثالية باركلي منه إلى مثالية أفلاطون، فهي مثالية أشخاص فرديين يندرجون تحت روح إلهية تتصور بدورها على أنها شخص، فهي مثالية ألوهية، أقرب إلى تفكير «راشدال» منها إلى أي مذهب معاصر. وبالمثل يرجع مذهب راشدال إلى باركلي، وإن يكن ارتباطه، داخل هذا المذهب، بالجانب الروحي على وجه التخصيص من ميتافيزيقا باركلي، أقوى بكثير من ارتباط سورلي به؛ فمثاليته موجهة ضد المثالية المطلقة عند المفكرين الأقوى تمسكا بهيجل، وهي تتأثر بكانت أكثر ما تتأثر بهيجل. ولما كان اهتمام سورلي قد اتجه أساسا إلى الأخلاق والميتافيزيقا، فإنه لم يعرض مذهبا خاصا به في نظرية المعرفة.
اتخذت المثالية طابعا فريدا عند راشدال، الذي كان من أقوى الزعماء تأثيرا في المذهب الديني المحدث بإنجلترا. وربما كانت أول قوة دافعة إلى تكوين نظرته المثالية إلى العالم هي تلك التي أتته من جماعة أكسفورد (فقد استمع إلى محاضرات جرين وهو طالب)، وإن يكن قد شعر منذ وقت مبكر بنفور من المذهب عند برادلي وبوزانكيت، وازداد تحولا إلى لوتسه، الذي رأى أنه هو الوحيد من المفكرين البارزين المحدثين الذي كان تفكيره مسيحيا بعمق ودون قيد أو شرط. غير أن ما اتصف به تفكيره من الوضوح والهدوء، وما اقترن به من ميل قوي إلى الموقف الطبيعي، جعله لا يستفيد كثيرا من الأعماق الغامضة للفلسفة الهيجلية؛ فاتجه بتفكيره، بدلا من ذلك، إلى باركلي، الذي اجتذبته ميتافيزيقاه الدينية بوصفه لاهوتيا وبوصفه فيلسوفا ذا ميول مثالية. وبفضل استيعابه للأفكار الأساسية في ميتافيزيقا باركلي ونظريته في المعرفة، أصبح هو الباعث الحقيقي لمذهب الألوهية عند باركلي في القرن العشرين؛ أعني الباعث الأصيل الوحيد لهذا المذهب؛ ذلك لأن المحاولات الأخرى التي بذلها فرييه
Ferrier
وفريزر وكولينز وسيمون وغيرهم لم تلق إلا اهتماما عابرا.
ولقد وضع راشدال، مقابل المثالية المطلقة، مثالية شخصية، فقد انبثقت فلسفته عن اقتناع بالطابع الفردي والفريد للشخص، سواء أكان ذلك الشخص إنسانيا أم إلهيا، وظلت مرتبطة بهذا الاقتناع ارتباطا وثيقا. ولقد أدت الحماسة التي دافع بها عن هذا الاعتقاد، والتي كادت تبلغ حد التعصب، إلى جعله يغمض عينيه عن حقوق أو مزايا أية نظرية تقول بكيان فوق الفردي، أو كلي، قد يهدد قداسة الذاتية الشخصية وطابعها المطلق، وجعلته يستهل نشاطه الفلسفي في صحبة جماعة من الكتاب كانت تشمل بعض البرجماتيين، الذين لم يكن يجمع بينه وبينهم شيء إلا معارضته للمذهب المطلق. ويعبر المقال الذي ساهم به في مجموعة الأبحاث التي نشرها «هنري سترت» بعنوان «المثالية الشخصية»، عن الخطوط الرئيسية لتفكيره، الذي طبقه فيما بعد ووسعه في الميدانين اللاهوتي والأخلاقي، وإن لم يكن قد تجاوزه في أية نقطة أساسية.
فهو قد أعلن - متفقا في ذلك مع باركلي اتفاقا وثيقا - أنه لا يمكن وجود مادة بلا ذهن، ولا أشياء جسمية موجودة في ذاتها، والذهن يوجد على صورة أشخاص عارفة مريدة، وكل ما ليس بذهن - بهذا المعنى - لا وجود له إلا في علاقته بذهن، فعالم الحقائق الأصيلة يتألف من أذهان متناهية، ومن الذهن اللامتناهي الذي هو الله؛ إذ إن هذا الأخير ضروري لإعطاء أساس موضوعي كامل للأشياء الخارجية التي تبدو أولا (في ترتيب المعرفة) في وعي الأذهان المتناهية، والذهن فردي على نحو مطلق، وهو يتحقق دائما في وعي مستقل، دون أن يكون من الممكن نفاذ أي وعي آخر فيه، أي إن الأشخاص يستبعد كل منهم الآخر. وقد طبق راشدال هذه الفكرة التي هي الأساسية في تفكيره، على علاقة الأشخاص المتناهين بالشخصية الإلهية، وانتهى من ذلك إلى استحالة استيعاب الشخصية الإلهية للأشخاص المتناهين. وهنا أعرب عن معارضته لأية صورة من المعاناة الصوفية لله أو الإدراك الحدسي له، على أنها تنطوي على قضاء على حدود الشخصية أو إذابة لها. والأمر الذي كان يود أن يصل إليه، هو إقامة الدين على برهان عقلي محض، ولم يتردد آخر الأمر في قبول النتائج المنطقية لمبدئه القائل باستقلال الشخصية واستحالة نفاذ غيرها فيها؛ وأعني بهذه النتائج، الفكرة القائلة إن الله متناه، فقدرة الله تحد بوجود الأشخاص الإنسانيين، والحقيقة المطلقة ليست هي الله، وإنما هي مجال مشترك للأرواح الشخصية التي يكون الله واحدا منها، وإن يكن هو الروح الرئيسية. وهذا الرأي مشابه لرأي ماكتجارت.
ولقد كان كتابه «نظرية الخير والشر» من أدق وأشمل الأبحاث الإنجليزية الحديثة في الأخلاق، وهو يصف موقفه، الذي كان أقرب إلى سدجويك ومور منه إلى جرين وبرادلي، بأنه «مذهب منفعة مثالي
ideal utilitarianism »، وتبعا لهذا المذهب، تكون للحياة المثلى ثلاث مقولات رئيسية، هي القيمة واللذة والسعادة (ومن هنا فإن إدراجه للذة ضمن خير الإنسان الحق يزعزع صحة تأكيده أن نظريته مضادة لمذهب اللذة). إن الأخلاق بطبيعة الحال مجال قائم بذاته ولا نظير له، غير أنها مع ذلك مرتبطة بالميتافيزيقا وتنطوي على مصادرات ميتافيزيقية، ولا سيما هذه المصادرات الثلاث: (أ) كل الأفعال الأخلاقية ينبغي أن تنسب إلى الذات الفردية. (ب) أساس موضوعية الحكم الأخلاقي هو وجود الله. (ج) الخلود. وهكذا فإن الأخلاق عند راشدال تبدأ بالأشخاص الفرديين وتنتهي بالله، أما عن الشر فقد أكد أنه ليس مجرد مظهر، وإنما هو جزء من طبيعة الأشياء له من الحقيقة ما للخير؛ فهو إذن يتجنب التفاؤل الساذج الذي قال به أصحاب مذهب المطلق. ونظرا إلى الطبيعة الإيجابية للشر، فإنه يتعين علينا مرة أخرى أن نرفض فكرة شمول القدرة الإلهية.
وهكذا فإن فلسفته، التي تشبه فلسفة سورلي أكثر مما تشبه أية فلسفة أخرى، يمكن أن توصف في عمومها إيجابيا بأنها إحياء متأخر لمذهب باركلي، مع اهتمام خاص بذلك الرأي في الشخصية، الذي كان من الواضح أن باركلي يقول به، ولكنه تركه في صورة ضمنية. كما يمكن أن توصف سلبيا بأنها رد فعل على المذهب المطلق عند برادلي، الذي يهدد قداسة الشخصية بخطر كبير . ولقد تأثرت الأخلاق عنده بالتراث الإنجليزي في نواح هامة، واتجهت أساسا نحو مذهب المنفعة التجريبي عند مل وسدجويك ومور. وهكذا فإن القوة الفلسفية الدافعة التي تلقاها أصلا من هيجلي أكسفورد قد عادت القهقرى إلى تراثه الفكري القومي، ولكن مع تأثره بالعناصر المثالية في هذا التراث إلى جانب عناصره التجريبية. (7) القسم السابع: أصحاب مذهب الألوهية وفلاسفة الدين
اتخذت المثالية عند وورد - وهو مفكر كان مشهورا ذا مكانة رفيعة في انجلترا، ولكنه كان شبه مجهول خارجها - صورة تختلف اختلافا أساسيا عن أي مذهب بحثناه حتى الآن، وذلك بعد أن تخلصت من ارتباطاتها القديمة، فهي مثالية أكثر تحررا ومرونة من هذه المذاهب. ولم تكن مرتبطة لا بالمذهب الهيجلي كما عرضه القدامى المتمسكون بالأصل، ولا كما عرضه المحدثون والمدرسة المتحررة، ولا بأية مدرسة أو أي مذهب على الإطلاق. فقد كان لمثاليته هذه صدر رحب، يستجيب لمؤثرات متعددة متنوعة، ولكنها، على الرغم مما اكتسبته من هذه النزعة التلفيقية من عمق، قد فقدت الاتساق المتين والوحدة الراسخة التي اتصفت بها المذاهب الأخرى. وهكذا كان هذا المذهب من أوضح المذاهب تعبيرا عن تزايد انفصال المثالية الإنجليزية عن مصدرها ووحيها الهيجلي الأول. فنقطة البداية الأساسية في تفكير وورد لم تكن قوة فلسفية دافعة أصيلة ملزمة، وإنما كانت أبحاثا علمية متخصصة، وصراعا دينيا باطنا أحس به، واعترف بوجوده منذ وقت مبكر، وكان هذان العاملان: العلم التجريبي واللاهوت، خليقين بإحداث تأثير حاسم في النظرة التي كونها في سنواته المتأخرة عن العالم.
وبعد صراع ذهني حاد، انشق وورد عن اللاهوت، واعتزل منصبه الديني في كنيسة «الرافضة
Non Conformist »، وكرس حياته للعمل العلمي، واتخذت أولى دراساته الجديدة صورة بحث علمي متعمق في مجالي علم الحياة وعلم النفس. وسرعان ما تركز اهتمامه الأساسي في هذا الأخير، وأصبح واحدا من كبار علماء النفس الإنجليز، إلى أن تحول في وقت متأخر نسبيا (في العقد الأخير من القرن الماضي)، إلى بحث مسائل فلسفية متخصصة. ولقد كان مستوى أعماله في علم النفس، التي يشيع الاعتراف اليوم بأنها كانت أعمالا رائدة ذات أهمية عظمى في التطور التالي لهذا العلم، أرفع كثيرا من مستوى أعماله في الفلسفة؛ لذلك فمن واجبنا أن نكرس للأولى حيزا بسيطا، وذلك على الأقل لما لها من أهمية فلسفية ولتأثيرها الكبير في فلسفته الخاصة. هذه الأعمال متضمنة في مقاله المشهور في «دائرة المعارف البريطانية» سنة 1886، وهو المقال الذي عدل مرتين فيما بعد، ثم اتخذ صورته النهائية في كتابه «مبادئ علم النفس» (1918) الذي أصبح في أهميته كتابا كلاسيكيا.
ولقد كان علم النفس عنده - كما أشار هو ذاته - يدين بأكبر الفضل للألمان: هربارت ولوتسه وفنت وبرنتانو. وعلى الرغم من أن جذوره كانت متغلغلة في التراث القومي في نواح كثيرة، فإنه قد بدأ السير في طريق جديد إذ انصرف عن النزعة العقلية (
intellectualism ) في المدرسة الإنجليزية، وارتفع عن مستوى المذهب الترابطي القديم، وعلم نفس الملكات، فقد أكد وورد - متفقا في ذلك مع لوك وخلفائه - أن علم النفس هو علم التجربة «الفردية»، على أساس أن لكل حادث ذهني مقره في الحياة الفردية، كما أكد أن التجربة التي يتعين على علماء النفس دراستها ليست تجربة المعرفة أو التلقي (
reception ) فحسب، وإنما هي تتحدد أساسا باهتمامات عملية تمارس عملها من خلال الشعور والإرادة، والمهمة الوحيدة للتجارب البشرية هي أن تخضع للإرادة وتخدم سلوكنا، والاعتراف بذلك هو مفتاح فهم علم النفس. غير أن التجربة، وإن تكن في أساسها نزوعية أكثر منها معرفية، لا يمكن أن تكون ذاتية تماما، فهي منذ البداية تنطوي على عاملين: ذات حقيقية فعالة، ومقابل لها هو عالم حقيقي، بحيث يرتبط الاثنان ارتباطا متبادلا بوصفهما جزأين متشابكين متعاونين في كل واحد، وبحيث لا يتميزان إلا بالفكر، لا في الواقع.
أما الوعي - الذي أطلق وورد على مكوناته وصفا عاما هو «الماثلات
presentations » فليس كثرة لا رابط بينها، بل إن له وحدة، ووحدته تتخذ صورة مجرى متصل موضوعي، أي كل موضوعي. ويتميز مجرى التجربة بالتنوع المتزايد لهذا المجرى المتصل عن طريق تغيرات في الماثلات المكونة له، «فلدينا في أية لحظة معينة كل معين من التمثلات ومجال للوعي.» هو واحد ومتصل نفسيا، وفي اللحظة التالية لا يكون لدينا مجال جديد تماما، وإنما تغير جزئي في داخل المجال القديم،
101
فكل تجربة جديدة ليست عنصرا زائدا مضافا، وإنما هي تعديل لكل موجود من قبل، تدخل عليه بعض التعقيد الجديد، أي إنه ليس ثمة ماثلات منفصلة. لذلك فإن الوعي ليس مجموعة من الوحدات المتميزة المستقلة، وإنما هو عملية متصلة يطرأ فيها تنوع مستمر على مجال المثول أو الحضور. وعلى هذا النحو تجاوز وورد الرأي الميكانيكي للتجريبيين، وهو الرأي الذي لا يكون على عالم النفس فيه إلا أن يحلل (كالمشرح أو الكيميائي)، محتوى التجربة إلى عناصره، ثم يختبر كلا منها على حدة. أما تلك التمييزات التي تصف فيها العملية بأنها تنوع واستيعاب واختزان فهي في رأي وورد تعبر عن طابع «المرونة» الذي يتصف به الاتصال المثولي.
كل هذا ينطوي على هدم لأسس النظريتين اللتين كانتا شائعتين عندئذ، أعني النظرية الترابطية ونظرية الملكات الذهنية، فالترابط ليس عملية سلبية شبه آلية تتداعى فيها محتويات الوعي وتدخل في علاقات جديدة بعضها مع البعض بطريقة آلية، وإنما تتحكم فيه من البداية إلى النهاية ذات غرضية تنتقي وتختار هذه التجربة أو تلك نظرا إلى ملاءمتها لغاياتها الخاصة. وقد أدى اهتمام وورد هذا بالانتقاء الغرضي إلى قوله بأن الانتباه هو الوظيفة الرئيسية للوعي، واتخاذه منه فكرة رئيسية في علم النفس. ولقد ذهب وورد إلى حد بحث كل نشاط ذهني على حدة، ناظرا إليه من خلال فكرة الانتباه، ووسع نطاق هذا اللفظ بحيث يشمل كل ما كان يندرج قبل ذلك تحت مفهوم الوعي. فالوعي هو دائما مقدار أعظم أو أقل من الانتباه إلى ما هو جديد في الاتصال المثولي. وهو كما لاحظنا من قبل، ليس ذا طابع معرفي بحت فحسب، وإنما هو إدراك وانتقاء مقصود للمعطيات اللازمة للنشاط الغرضي للذات. وهكذا يحل الانتباه محل الملكات القديمة، التي كانت متميزة ومنعزلة في معظم الأحيان، ويغدو هو الوظيفة الأساسية الواحدة التي تتحكم فيها، أما التمييز في داخل الانتباه فإنه تمييز في الدرجة، وكل أوجه نشاطه إنما تهدف إلى خدمة اهتمامات. فإذا ما عبرنا عن التصور النفساني الناتج عن هذا كله بصورة عامة، كان تصورا لذات إيجابية منتبهة، بوصفها الرابطة الضرورية التي تجمع بين مختلف أنواع التمثل.
لقد توسع وورد فيما بعد في نظرته هذه، إذ ربطها بميتافيزيقاه وعرف التجربة، التي سبق أن وصفها من خلال فكرة الاهتمام الانتقائي قبل كل شيء، بأنها عملية حفظ للذات، وبذلك تكون ممتدة بقدر امتداد الحياة ذاتها. فالنشاط المعرفي متشابك تشابكا تاما مع جميع ظروف حياة الذات العارفة، ولا يمكن فهمه إلا في علاقاته بها، أما تصور الذات على أنها نظرية خالصة، فما هو إلا تجريد محض. ولقد قبل وورد رأي كانت في الوحدة التركيبية للإدراك الذاتي، غير أنه رأى أن المركب لا يكون ممكنا دون اهتمام عملي ما بالأشياء، ودون دافع إلى الفعل، فالتجربة وحدة حية عينية تؤدي عملها بوصفها كلا، والجانب الأهم من جوانبها التي يمكن التمييز بينها هو الجانب العملي لا النظري، ونتيجة لهذا الرأي الأساسي، يمكن إدراج وورد ضمن الممهدين الأوائل ل «فلسفة الحياة
Lebensphilosophie » التي أصبحت شائعة فيما بعد. كما أنه مهد الطريق - بوجه خاص - للحركة البرجماتية، وكان له تأثير باق على بعض قادة هذه الحركة، مثل جيمس وشيلر، وهو تأثير لا يقلل من حقيقة كونه غير واضح في كل الأحوال؛ ذلك لأنه، عندما جاء الوقت الذي ظهرت فيه البرجماتية، قرب نهاية القرن الماضي، كانت أفكار وورد قد أصبحت مشاعا بين الجميع، كذلك استبق وورد برجسون في نظريته في الزمان.
فقد ميز الزمان المجرد في الفيزياء، وهو زمان لا شدة ولا كثافة له، من الزمان كما نجربه، وأطلق على هذا الأخير - نظرا إلى كونه كمية كثافية - اسم «المدة». وعلى الرغم من أن وورد قد عرض هذه النظرية في مقاله الذي صدر عام 1886، وأن برجسون لم ينشر نظريته إلا في 1889 (في كتابه «المعطيات المباشرة للوعي
Les donnéos immédiate de La conscience ») فالأرجح أن الاثنين كانا مستقلين.
ولقد أحدثت أفكار وورد الجديدة انقلابا في مجال علم النفس كان له تأثيره الهائل، فلم يعد من الممكن - منذ ذلك الحين - السير في طريق التجريبية المألوف، الذي كان «بين
Bain » آخر ممثل هام له، وأصبح لزاما على عالم النفس، إذا ما شاء ألا تتهم آراؤه بأنها بالية عتيقة، أن يتبع طريق وورد. وما زال علم النفس الإنجليزي حتى اليوم ملتزما، في جميع النقاط الأساسية، ذلك الطريق الذي حدد وورد معالمه، وأشهر تلاميذه هو ستوت
G. F. Stout ، وفي أمريكا ظهرت في الوقت ذاته حركة تسير في نفس الاتجاه، كان الفضل فيها يرجع إلى علم النفس الإرادي
voluntaristic
عند وليم جيمس، وينبغي أن يضاف إلى ذلك أن الانقلاب الذي أحدثه وورد لم يتخذ صورة انشقاق حاسم عن المناهج التقليدية في البحث النفسي، وإنما اتخذ صورة تصحيح هادئ لوجهة النظر العامة التي كان من الشائع النظر بها إلى ظواهر الحياة الذهنية وتركيبها، فمناهجه كانت قريبة الشبه من مناهج لوك وهيوم إلى حد بعيد، أي إنها كانت استبطانية. وهو لم يترك في كتاباته مكانا لعلم النفس التجريبي أو الفسيولوجي أو المرضي، ولم يلجأ إلى المنهج المقارن إلا لماما وبحذر، وذلك بوصفه وسيلة لتوضيح النتائج لا لكشفها، فهو - مثل برنتانو
102 - قد بدأ بالإدراك الباطن، ووصف المعطيات المباشرة للوعي الفردي.
ولقد استمد مذهب وورد في الفلسفة من مصادر متعددة؛ من ليبنتس وباركلي وكانت ولوتسه (الذي تأثر به تأثرا قويا خلال السنوات التي قضاها طالبا في جوتنجن)، وكل الاتجاهات الفلسفية المعاصرة في وطنه.
وقد تناول في أول كتاب ميتافيزيقي رئيسي له: عالم الطبيعة، والمذهب الطبيعي واللاأدرية اللذين نشآ عن تأمل هذا العالم. وكان موضوع كتابه الثاني هو عالم الغايات، ومذهب الكثرة ومذهب الألوهية اللذان نشآ عن تأمل عالم الغايات هذا. ومن الواضح أن هذا التقابل مستمد من الثنائية المماثلة التي وضعها كانت، وأن تفكير وورد هو في عمومه أقرب إلى كانت بكثير منه إلى هيجل.
وهكذا كان وورد يسعى، في المحل الأول، إلى الوصول إلى فهم فلسفي للعالم الذي يتمثل لنا في العلوم الطبيعية، فكانت النتيجة اختبارا من أعمق وأشمل الاختبارات التي تعرض لها المذهب الطبيعي واللاأدرية في ذلك الوقت. ولقد تتبع وورد هذين المذهبين في جميع اتجاهاتهما وتفرعاتهما الممكنة والفعلية، وتعقبهما في أشد مخابئهما خفاء، وكشف عن المصدر المشترك للمذهب الآلي، والمذهب التطوري، ومذهب الموازاة بين المجال النفسي والمجال المادي، وأوضح أن مثل هذه النظريات ليست كافية بالنسبة إلى أية فلسفة تتجاوز جميع الأوجه الجزئية للكل. وهكذا صاح في خصومه قائلا: «إن في السماء والأرض لأكثر مما حلمت به الفلسفة الطبيعية.»
103
وهذه الصيحة تمثل، بمعنى ما، النتيجة النهائية لنقده الذي كان شديد العمق والتأثير.
أما الرأي الآلي في العالم الذي يكون في رأي وورد أساس كل بحث علمي، فهو تجريد واحد ضخم، وهو نتيجة لنظرة متحيزة أساسا إلى جانب واحد، تنتقي من الواقع وجها جزئيا، وتنظمه وتتعقبه حتى آخر نتائجه. وهذا التركيز الضيق هو سبب روعة هذه النظرية ونجاحها، وهو أيضا سبب زيفها الكامل من حيث هي نظرة إلى العالم فهي تعبر عن كل شيء من خلال الكم المقاس، وتعرض برموز رياضية. غير أن كل ما هو فرد عيني، وكل ما يضفي على الحياة مضمونا ونبضا ولونا، ينزلق من خلال المسام الواسعة لشبكة التصورات المجردة هذه، فمن المحال أن تكون هذه «الحركة التي لا لون لها الذرات»، وهذا «النسيج الطيفي للتجريدات غير الملموسة»، وهذه «الرقصة التي ليست من هذا العالم، والتي تؤديها مقولات لا حياة فيها.»
104
من المحال أن تكون هذه هي الواقع، وحتى لو كانت تنطوي على إشارة خافتة إلى العالم العيني الذي جردت منه، فلا يمكنها - عن طريق مضمونها وتركيبها الخاص - أن تجيب عن السؤال عن ماهية الطبيعة الحقيقية للعالم العيني، ففي ذلك الإطار التخطيطي الذي لا يتناول سوى نقاط متجانسة للقوة لا ترتبط فيما بينها إلا آليا، يكون من العبث أن يبحث المرء عن دلالة وقيم وغايات، ومن المستحيل أن يجدها.
ومن الواضح أن وورد - في نقده القاسي هذا للمذهب الآلي - قد أخفق في الاحتفاظ بتمييز العلم الطبيعي بما هو كذلك، والنظرة الطبيعية إلى العالم، التي تقوم عليه عادة ، وبذلك «أفرغ الطفل مع تفريغه مياه الحمام.» بل وحمل على التفكير العملي بمعناه الدقيق على أساس أنه أدى بالفعل، في كثير من الأحيان، إلى نتائج فلسفية مشكوك في صحتها إلى حد بعيد، وهذا يبدو غريبا، إذا أدركنا أن وورد نفسه قد بدأ حياته الأكاديمية عالما، واستخدم مناهج العلم بنجاح كبير. غير أن لهذه الغرابة دلالتها الخاصة، فقد تعين عليه أن يتخذ موقفا نقديا شديدا من وجهة النظر والمناهج المميزة للعلم الطبيعي، حتى يتمكن من أن يدخل في مجال الاهتمام الفلسفي ميدانا آخر للمعرفة كانت الفلسفة الإنجليزية حتى ذلك الحين تتجاهله تجاهلا غاشما، وأعني به التاريخ. ففي العلوم التاريخية، على عكس العلوم الطبيعية، نصادف كائنات فردية عينية، ينطبق عليها ما نعنيه بالحقائق، من حيث إنها تضع لنفسها غايات، وتحقق قيما وتكون جزءا لا يتجزأ من عينية الحياة وواقعيتها، ولقد كان وورد - مثل سورلي - مدينا بهذا الرأي للأبحاث التي قام بها هينريش ريكرت في مناهج المعرفة، وهي الأبحاث التي لا يبدو أن أي فيلسوف إنجليزي آخر قد أبدى بها أي اهتمام.
فلدينا إذن، داخل الوجود من حيث هو كل، تقابل حاد بين عالمين، فهناك من جهة الطبيعة، وعالم الحوادث الآلية، الذي يسوده الاطراد والضرورة التجريبية، وهو عالم من العموميات والتجريدات، ليس فيه مكان للأفراد العينيين أو للتلقائية والابتكار والقيم والغايات، ولدينا من جهة أخرى عالم القيم والغايات، عالم التاريخ، والعيني والفردي، الذي لا يكون الفعل الأخلاقي ممكنا إلا فيه، والذي تحل فيه الغرضية والحرية البشرية محل قيود العلية الآلية. غير أن هذا التمييز القاطع ينبغي ألا يؤخذ على أنه يعني انفصالهما التام؛ إذ يتضح من وجهة نظر أعلى أنهما منظوران جزئيان إلى عالم واحد، وينبغي بالتالي أن يجمعهما الفكر في وحدة، ومهمة الفلسفة هي كشف هذه الوحدة ، وكذلك تحديد أي وجهيها هو الأعمق والأشمل.
وكما هو المتوقع، فإن وورد قد جعل العالم الطبيعي مشتقا من العالم الروحي. ومن الأدلة على ذلك أن الطبيعة، عندما نواجهها بجهاز العلم العقلي، تجيب عن الأسئلة التي نوجهها إليها، وفي ذلك تحقيق لصحة الوسائل التي اصطنعها الإنسان للسيطرة عليها. وإذن فهلا يكون لنا الحق أن نستدل من ذكاء الروح الباحثة على ذكاء الطبيعة، أو على الأقل: على وجود مبدأ ذكي كامن فيها؟ وفضلا عن ذلك، فإن آخر أبحاث العلم قد أثبتت أن الحياة العضوية تمتد في العالم غير العضوي المزعوم أبعد مما اعتقدنا حتى الآن، وليس هناك ما يمنع من أن نكتشف للحياة حدودا أدنى من ذلك. مثل هذه الاعتبارات أدت بوورد في النهاية إلى افتراض أن الطبيعة حية وفردانية في جميع أرجائها. ويسمى وورد مذهب شمول النفس هذا باسم «الواحدية الروحية
spiritualistic Monism »، لكي يوضح بذلك تضادها المباشر مع الواحدية المادية عند اللاأدريين والتطوريين وغيرهم من أصحاب المذهب الطبيعي، فالطبيعة غائية في جميع أرجائها، وهي عالم من الغايات والطبيعة المطبوعة
nature naturals
هي في واقع الأمر الطبيعة الطابعة
nature naturals .
غير أن الواحدية الروحية ليست إلا موقفا عاما، وهي لا توضح شيئا عن الطريقة التي تصنع بها الأشياء على وجه التخصيص، أو عن مصدر هذه الأشياء وغايتها، أو عن قيمتها والغايات التي تستهدفها، وما إلى ذلك. وعلينا لكي نجيب عن هذه الأسئلة، أن نبدأ من جديد، ونسير، ونحن نفعل ذلك بطريقة «تجريبية من الأساس
radically empirical » (وقد استخدم وورد - مثل وليم جيمس - نفس هذا التعبير)، فإذا ما نظرنا إلى الواقع من وجهة النظر الجديدة هذه، ظهر لنا مباشرة في كثرة من المراكز المجربة التي تتصل فيما بينها اتصالا متبادلا، ويطلق وورد على هذه الوحدات اسم الذرات الروحية
monads ، أو الكمالات
entelechies ،
105
كما يطلق على أدنى ما يمكننا تصوره منها اسم الذرات الروحية أو البحتة، وأحيانا يسميها ب «أشباه النفوس
psyeehoids ».
وتنشأ هذه الأخيرة من أصل مشترك بين جميع الذرات الروحية (ربما كان اتصالا لا تنوع فيه) يكون البيئة التي تعيش فيها هذه الذرات، إن جاز هذا التعبير. ومن الواجب النظر إلى جميع الذرات الروحية على أنها أفراد؛ إذ ليس فيها واحدة تشبه الأخرى، ومع ذلك فهي لا تكون منعزلة أبدا، وإنما تمارس دائما - بعضها على البعض - أفعالا وردود أفعال، وتشكل نفسها في صورة جماعات اجتماعية، ولا سيما في المستويات العليا للذات الروحية، ومن الواجب النظر إليها أيضا على أنها تسعى أساسا نحو غايات، بحيث إن غايتها العليا أو قانونها الأعلى هو حفظ الذات.
ولسنا بحاجة إلى تتبع مذهب الذرات الروحية هذا أبعد من ذلك؛ ما دام يتفق مع مذهب ليبنتس في جميع النواحي الهامة فيما عدا أنه يجعل للذرات الروحية نوافذ ويترك جانبا فكرة الانسجام المقدر
pre established harmony ، وكثيرا ما وصف وورد مذهبه هذا بأنه مذهب كثرة
pluralism ، وهو بالفعل يلتقي مع فلسفة الكثرة عند جيمس في نقاط تزيد على نقاط التقائه مع أي مذهب حديث. ويكون هذا المذهب ما يمكن تسميته بالطابق الأسفل في بنائه الميتافيزيقي، فليس في وسعنا أن نبقى هنا مع هذه الكثرة، فالكثرة - بقدر ما يمكن المضي فيها - هي موقف متسق تماما مع ذاته، كفيل بإرضاء حاجاتنا العقلية وقتا ما، غير أنه موقف ناقص، يحيلنا إلى موقف أعلى يتجاوزه، سواء في حدوده الدنيا أو في حدوده العليا، فلا يمكن أن توجد كثرة من الموجودات المتناهية ما لم توجد وحدة تكمن من ورائها وتشتمل عليها. صحيح أننا لا نستطيع التحقق من هذه الوحدة علميا، فهي تسير بنا إلى ما بعد عالم الوقائع، ولهذا السبب ينكر التجريبي الأصيل حقيقتها، غير أن هذا لا يدل إلا على أنه لم يرتفع بعد إلى مستوى وجهة النظر الفلسفية الحقة، فليس للفلسفة بمعناها الصحيح تعامل مباشر مع الوقائع، وحسبها أن تتجنب مناقضة التجربة. صحيح أن الكل الذي تحاول الفلسفة فهمه يشمل الوقائع، غير أن أية نظرية تكتشف وحدة الكثرة بأكملها، وتكشف عن معناها العام، لها ما يبررها فلسفيا، حتى لو لم يمكن تحقيقها تجريبيا.
والموقف المكمل لمذهب الكثرة هو مذهب الألوهية، وقد بلغ وورد هذه النقطة المتوجة لمذهبه بقفزة تأملية جريئة من الذرات الروحية المتناهية الكثيرة نسبيا، إلى وحدة لا متناهية مطلقة، فوجود الكثرة يرتكز على الألوهية ويستهدفها، أي إن الله مصدر الكثرة وتتويج له.
وهنا يكون موضع معالجة وحل المسائل الميتافيزيقية النهائية كفكرة التطور ومشكلة الحرية والخلود وطبيعة الله، وأهم من هذا كله: مشكلة علاقة الموجودات المتناهية بالمطلق. ولسنا نستطيع أن نقدم إلا لمحات عامة من أبحاث وورد المفصلة في هذه المسائل، فالله روح لها عقل وإرادة، ومن ثم فهو شخصي، وهو خالق العالم وحافظه ومدبره. غير أنه في خلقه للعالم قد فرض حدا على ذاته، ولكن هذا لا يعني بطبيعة الحال أنه جعل لنفسه ماهية متناهية، فهو - بوصفه خالقا - يعلو على العالم، ولكن ليس بالمعنى الذي يقصده أصحاب مذهب الألوهية الطبيعية (
deists ) والقائل إنه يظل خارجا عن العالم، فلا يمكن فهم الخلق إلا على أنه الحضور الدائم للمبدأ الخلاق في الخلق، بحيث يكون الله في نفس الوقت باطنا، يحرك العالم من داخله. ولم يستطع وورد أن يجد بين العلو والكمون رابطة تصورية، غير أنه تمسك بالفكرتين معا؛ لأن عمق شعوره الديني حال بينه وبين القول بمذهب «شمول الألوهية
pantheism » في صورته الخالصة من جهة، كما حال بينه، من جهة أخرى، وبين القول بمذهب الألوهية الطبيعية
deism ، وهو المذهب الذي يرى أن الله ينسحب من العالم عندما يخلقه، ويأخذ ما يمكن تسميته «بإجازة» بعد ما بذله من مجهود. ولقد أدى به موقف التوسط هذا إلى أن ينسب القدرة الخالقة إلى الإنسان بدوره، فالله حين جعل الناس أحرارا، قد خصهم بأن يكونوا شركاءه في العمل على تحقيق غاياته. ولما كان الإنسان شريكا لله في هذه المهمة على قدم المساواة، فإنه يضطلع بمسئولة كاملة عن أعماله، وهو في الوقت ذاته قادر على ارتكاب الشر، فالشر الأخلاقي هو العقدة الكبرى في أي مذهب ألوهي. ولكن لما كان الله كامنا في العالم، فلا بد أن تكون للخير الغلبة آخر الأمر على الشر، فالشر هو تعكير صفو النظام الأخلاقي، وهو ليس مبدأ إيجابيا، له طبيعته وحقيقته الخاصة به، إلى جانب الخير، بل إنه نسبي بالقياس إلى الخير فحسب، ومن هنا فإنه سينهزم بالتدريج أمام الخير ويتلاشى فيه. «ففي الأشياء الشريرة نوع من الروح الخيرة.»
106
وهكذا فإن الكون عند وورد يختلف عنه عند برادلي وبوزانكيت في أنه ليس كونا سكونيا، وإنما هو يصعد من مرحلة إلى أخرى حتى أعلى ذرة روحية وهي الله. ولقد اجتذبته - مثل معظم معاصريه - فكرة التطور، وأدمجها في مذهبه إدماجا وثيقا. غير أن المعنى الذي تكتسبه هذه الفكرة في مذهب ألوهي يختلف تماما عن معناها في مذهب طبيعي أو مذهب للكثرة؛ إذ لا يعود معناها هو التكشف التدريجي لما كان موجودا منذ البداية، وإنما هي تعني النشوء الجديد، والتركيب الخلاق، والظهور المستمر لإمكانيات جديدة، وهي تدل على وجود انسجام عند نقطة البداية فضلا عن نقطة الهدف، وليس فقط عند نهاية عملية تسير قدما، وقد لا تكون لها نهاية على الإطلاق.
فإذا ما عدنا بنظرتنا إلى مذهب وورد في مجموعه أمكنا أن نرى المثالية فيه وقد اتخذت صورة جديدة، استوعبت فيها - على نحو يفوق بكثير ما سبق أن عرضناه من المذاهب - كثرة زاخرة متنوعة من الأفكار، بعضها لا تربطه صلة وثيقة بوجهة النظر المثالية. صحيح أنه ظل يحتفظ بالنزوع إلى التأمل فيما وراء حدود التجربة، ويسعى إلى بلوغ وحدة نهائية، غير أننا لا نشعر لديه بأن المركب منبثق عن اتساق فكري أصيل، فالعناصر أكثر عددا وأشد تنوعا من أن تكون وحدة حقيقية، وكثيرا ما تظل منضمة بعضها إلى بعض على نحو خارجي فحسب. غير أن هذا ليس إلا دليلا آخر على قوة الدافع التأملي الذي أحدثه ميتافيزيقي لدى شخص كانت مواهبه أقرب إلى مجال متابعة الأبحاث العلمية واختبار المشكلات الفلسفية في طابعها الجزئي.
أفضل ما يوصف به وب هو أنه ممثل فلسفة الدين داخل المذهب المثالي المطلق، فهو ينتمي، بحكم ارتباطه الطويل بجامعة أكسفورد خلال سنوات دراسته وتدريسه، إلى تراث أكسفورد الذي يرجع إلى جرين. وقد أبدى، منذ كان طالبا، ميلا إلى المشكلات الأخلاقية والدينية، كما أنه اعترف بالتأثير القوي الذي أحدثه فيه كتاب جرين «المقدمة
»، والتأثير الطاغي لكتاب كانت «أساس ميتافيزيقا الأخلاق». ولقد كان تفكيره، على وجه العموم، أقرب إلى كانت وفشته منه إلى هيجل، وهو يذكر باحترام بالغ، ضمن أساتذته في أكسفورد، اسم ج. كوك ولسون، وإن يكن من المستبعد جدا أن يكون مثل هذا المصدر الواقعي قد أحدث فيه أي تأثير ملموس. وهو يدين بأكثر من ذلك بكثير لصداقته الشخصية مع الفيلسوف الكاثوليكي «فريدرش فون هوجل»، كما تأثر فيما بعد بكتاب رودلف أوتو
Rudolf Otto «المقدس
Das Heilige »
108
وهو الكتاب الذي أثار اهتماما كبيرا في الأوساط اللاهوتية الإنجليزية.
وهكذا فإن وب قد تناول مشكلة المثالية المطلقة من جانب الدين أساسا، وكان هدفه الخاص هو تعديل ميتافيزيقا برادلي وبوزانكيت من وجهة نظر التجربة الدينية واللاهوت المسيحي.
109
فقد أدت بهذين المفكرين الأخيرين تأملاتهما النظرية البحتة، التي كانت غير مكترثة بالدين، إلى وصف للعلاقة بين المطلق والله لم يكن بالطبع مما يقبله مفكر يتخذ من الدين موقفا إيجابيا وثيقا؛ فالمطلق في نظره ليس موضعا للتأمل الميتافيزيقي فحسب، بل هو أيضا موضوع للتقديس الديني. وهو يذهب إلى أن فصل برادلي وبوزانكيت بين المطلق والله، إذا ما مضينا فيه إلى أبعد نتائجه المنطقية، يؤدي إلى سلب الدين على إطلاقه أي معنى له، ولا بد من أجل التجربة الدينية من أن يكون كلاهما في هوية مع الآخر.
وهناك مشكلة ثانية كرس لها وب اهتماما كبيرا، هي مشكلة شخصية الله وعلاقتها بشخصية الإنسان المتناهية، وهو هنا يبين أيضا أن الوعي الديني هو وحده الذي يكشف الطابع الشخصي النهائي للحقيقة؛ إذ إن الإنسان في علاقة شخصية مع المطلق إلا في التجربة الدينية؛ لذلك ينبغي أن تنسب الشخصية إلى الله، ولكن بمعنى يختلف إلى حد ما عن معنى شخصية الإنسان؛ إذ إن علاقة الإنسان بالإنسان في التجربة الاجتماعية هي علاقة استبعاد متبادل، بينما علاقة الإنسان بالله في التجربة الدينية هي علاقة تضمن متبادل. فلزام علينا - من وجهة النظر الدينية - أن نقول إننا نستقر في الله وإن الله يستقر فينا، وإن الله كامن - على نحو لا نعرفه - في المؤمن، ولكن دون أي تهديد للشخصية المستقلة للكائن المتناهي؛ ذلك لأن وب يدافع عن استقلال الشخصية الإنسانية ضد إنكار حقيقتها وقيمتها في المذهب الطبيعي والمذهب المطلق. ومن هنا فإنه لا ينظر إلى التجربة الدينية على أنها صوفية، وعلى أنها هي فناء النفس المتناهية في اللامتناهي، بل على أنها علاقة يظل الاثنان فيها متميزين، ويستتبع ذلك أن يكون الله، مع كل كمونه في العالم، عاليا عليه في الوقت ذاته. وهو يحاول أن يربط ويوفق بين الرأيين المتضادين في كمون الله وعلوه، عن طريق إدخال فكرة لاهوتية هي فكرة الوسيط والثالوث. وبذلك استخدم هاتين الفكرتين استخداما فلسفيا، وربما كانت هذه المتقابلات المتنافرة وأمثالها في مذهب وب راجعة إلى افتقار باطن إلى التناظر أو الاتفاق بين المذهب المطلق والنتائج الميتافيزيقية التي يستتبعها الدين المسيحي.
ولقد أبدى وب اهتماما خاصا بمشكلة معرفتنا للذوات الأخرى ولعالم الأشياء الخارجية، وهو يرفض الحجة القائمة على التمثيل
argument from analogy ،
110
فلدينا بالذوات الأخرى إدراك مباشر تماما، مثل إدراكنا لله، فلا يمكن أن تكون معرفتنا بالذوات الأخرى مستمدة من ذواتنا، أو من الأشياء الخارجية، أو من العلاقة بين الاثنين، وإنما هي كامنة، على نحو ما، من وراء كل هذه الأنواع من التجربة، فالذات الأخرى لا يمكن أن تكون بالنسبة إلينا مجرد موضوع ضمن الموضوعات الأخرى، وإنما هي تدرك دائما بوصفها شخصا واعيا بذاته، نستطيع أن ندخل معه، لأن لنا شخصية، في علاقات شخصية مباشرة.
وهكذا فإن الشخصية هي الفكرة الرئيسية المسيطرة على تفكير وب، ولا سيما بالصورة المنهجية التي أعطاها لتفكيره هذا في كتابه الرئيسي، وهو مجموعتا محاضرات «جيفورد» اللتان نشرتا بعنوان «الله والشخصية»، و«الشخصية الإلهية والحياة البشرية». وهو في ثاني هاتين المجموعتين يناقش التعبير عن الشخصية البشرية في مختلف مجالات نشاطها، مبينا نواحي التميز والاختلاف في المجال الاقتصادي والعلمي والفني والأخلاقي والسياسي والديني. وهو يتخذ على وجه العموم موقفا وسطا بين راشدال، الداعية المتعصب إلى الشخصية الفردية من جهة، وبين برادلي وبوزانكيت، اللذين أذابا الشخصية وأفنياها في ظلام المطلق، من جهة أخرى. ولكنه لا يرتفع إلى مستوى الأصالة العظيمة في التفكير، التي تثير فينا الإعجاب ببرادلي، وكذلك ببوزانكيت ولكن بدرجة أقل؛ ففلسفته لم تظهر بفضل قوة باطنة تدفعه إلى وضع مذهب، بقدر ما ظهرت عن طريق عرض آراء المفكرين الآخرين ونقدها. وربما اتضح آخر الأمر أن أكبر خدمة أداها هي أنه خفف من حدة مبالغات خطيرة معينة في المذهب المطلق الذي كان بطبيعته ميالا إليه.
تلقى تيلور تعليمه الفلسفي في الوقت الذي كانت فيه أكسفورد في قبضة الحركة الهيجلية، وكان أقوى الشخصيات تأثيرا فيه هو برادلي؛ فقد كان، بحكم عمله زميلا في نفس الكلية التي كان يعمل بها برادلي، واحدا من الأشخاص القليلين جدا الذين أسعدهم الحظ بالاتصال شخصيا بذلك الناسك في محرابه، وتمكن بفضل اتصالات يومية تقريبا، من مشاركة برادلي آراءه في الوقت الذي كان فيه برادلي يناضل في سبيل صياغة ميتافيزيقاه. وهكذا انطبع تأثير آراء المفكر الأكبر سنا بعمق على مؤلفاته الأولى، ولقد اعترف هو ذاته، بعد ذلك بوقت طويل، عندما كان قد ابتعد كثيرا عن موقفه الأول؛ اعترف بامتنان بأن تأثير برادلي «الذي مارسه على أنحاء شتى، ينبغي أن يعد أقوى وأنفع تأثير تعرض له تفكيري الخاص.»
112
وعلى الرغم من ذلك فمن المستحيل القول بأنه كان يتبع بإخلاص تعاليم برادلي أو أي معلم آخر في الفترة المتأخرة، فتيلور لم يكن فقط مفكرا مستقلا، وربما هوائيا إلى حد ما، بل إن ذهنه مرن لا يستقر على حال. ولقد أدت سعة اطلاعه إلى جعله يقيض بالعلم في أشد الميادين تباينا، وكانت له قدرة مدهشة على استيعاب مجالات غريبة للمعرفة والأفكار. وتشهد المجموعة الكبيرة من مؤلفاته في تاريخ الفلسفة بالاتساع الهائل في نطاق معرفته التاريخية، واستعداده العلمي العظيم. ولقد كان واحدا من أبرز الثقات في فلسفة القدماء، ولا سيما سقراط وأفلاطون (فلكتابه الضخم عن أفلاطون، وشرحه الذي يقع في سبعمائة صفحة لمحاورة «طيماوس»، مكانة فريدة وسط ذلك السيل المتدفق من المؤلفات التي تتناول أفلاطون، وذلك بفضل ما اشتملا عليه من معلومات زاخرة، ودقة في التفسير، وعمق في الفهم الفلسفي). وكان يتمتع بنفس القدر تقريبا من سعة الاطلاع في التفكير الدنيوي والديني في العصور الوسطى، وفي الكتابات الحديثة والمعاصرة في الأدب واللاهوت معا.
ولكن الذي يهمنا، في هذا المقام، هو تيلور الفيلسوف، لا المؤرخ والشارح والمترجم، ولقد كان السبب الوحيد لإشارتنا إلى هذه الناحية في عمله هو أنها قد أثرت في تفكيره الفلسفي على أنحاء شتى، فكل ما قدمه إلينا من أفكار خاصة به، يحمل دائما آثار علمه المتشعب الأطراف، فمن الواضح في كل نقطة أن هذا المفكر قد طرق أبوابا متعددة واستكشف ديارا كثيرة، وانتفع من المعلومات الوفيرة التي توصل إليها على نحو حي مثمر، بدلا من أن يكتفي بجرها وراءه وكأنها حمل لا حياة فيه. وعلى ذلك فإن مهمة تتبع مضمون تفكيره إلى مصادره هي جهد عقيم؛ إذ سيكون علينا عندئذ أن نبدأ باليونانيين ولا ننتهي إلا بآخر بدعة قال بها معاصروه. غير أن من الواجب أن نلاحظ أن المعرفة التاريخية الشاملة التي جمعها تيلور في ذهنه المتفتح على الدوام، على الرغم مما كان لها من فائدة في موقفه الخاص من المشكلات الفلسفية، كانت حملا ثقيلا وعقبة في وجه النمو الطبيعي لتفكيره، فانحرفت به في أكثر من مناسبة، من طريق إلى آخر، وأفقدته الاتصال ووحدة الهدف، وهي السبب في تلك التغيرات، الرئيسية منها والفرعية، التي تتصف بها رحلته الفلسفية، والتي لا يبدو أنها بلغت نهايتها إلا أخيرا، ما لم يكن يخبئ لنا مفاجأة جديدة، وإنه ليذكرنا - في تعطشه إلى المعرفة وقدرته على استيعابها - بمعاصره الألماني المتقلب المتشعب، شيلر
Scheler .
113
وأهم الكتابات الفلسفية التي ألفها تيلور كتابان: ينتمي أحدهما إلى بداية عهد نشاطه التأليفي والآخر إلى نهايته، وكلاهما يبحث في الأخلاق. ومن الكتب الأخرى التي ألفها بين هذا وذاك كتاب شامل في الميتافيزيقا، ينتمي إلى الفترة المبكرة، وبضعة أبحاث هامة إلى حد ما، كان معظمها مساهمات في حلقات دراسية أو في كتب مشتركة، وتتناول هذه الأبحاث مشكلات في الأخلاق والميتافيزيقا وفلسفة الدين، وتعبر عن موقفه في الفترة الأخيرة؛ إذ أنها ألفت خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة على وجه التقريب. وسنبدأ أولا ببحث مذهبه الأخلاقي؛ لأنه أولا مركز الثقل في فلسفته، ولأن بحثه له في فترتين يفصل بينهما زمان طويل، يتيح لنا فرصة رائعة لإظهار سمة التغير التي اتصف بها تطوره الفلسفي.
ويعد كتابه الأول «مشكلة السلوك»، الذي كان له عنوان فرعي له دلالته، هو «دراسة في فينومينولوجيا الأخلاق»؛ يعد هذا الكتاب - في نواح متعددة - أفضل عمل فلسفي له، وكان هو الذي أذاع شهرته عن حق. وهو في هذا الكتاب المبكر ذاته يتجلى بوصفه مفكرا شجاعا مستقلا لا يحجم عن استخلاص النتائج الجريئة أو الممتنعة. صحيح أنه اقتبس بعض أفكار برادلي ومضى بها - عن طريق التحليل الدقيق والديالكتيك البارع - إلى أبعد نتائجها، غير أنه تأثر بالجانب الشكاك في برادلي، على نحو ما يتبدى في كتابه «المظهر والواقع» (ولا سيما الفصل 25 في «الخير»)، أكثر مما تأثر بالمرحلة المثالية البناءة التي يمثلها كتاب «دراسات أخلاقية». وهكذا فسرعان ما وجد نفسه يقف موقف المعارضة الشديد للمدرسة الهيجلية، ولا سيما لجرين بوصفه المتحدث الرئيسي باسمها في ميدان الأخلاق، ويظهر التعارض أقوى ما يكون في فصله للأخلاق عن المذهب الفلسفي بوجه عام، وفي معالجته لها من وجهة نظر تجريبية محضة، فهجومه الأساسي موجه إلى الربط بين الأخلاق والميتافيزيقا كما يتمثل أصدق تمثيل في كتاب جرين «المقدمة»: «إن الأخلاق مستقلة، في مبادئها ومناهجها، عن النظر الميتافيزيقي، بقدر ما يستقل عنه أي علم من العلوم المسماة «بالطبيعة»، فمن الواجب التماس أساسها الحقيقي، لا في نظريات فلسفية حول طبيعة المطلق أو التركيب النهائي للكون، وإنما في الوقائع التجريبية للحياة البشرية كما تتكشف لنا في تجربتنا اليومية العينية.»
114
أي إن الأخلاق علم وضعي وتجريبي محض، وليست علما تأمليا نظريا، وهي مرتبطة ارتباطا ضروريا وثيقا بعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وما شابه ذلك من العلوم، ومهمتها هي وصف الظواهر الأخلاقية كما نجدها في الماضي والحاضر، وبوصفها وقائع للتجربة موضوعة في سياق عيني من المواقف والظروف.
وهكذا كان الجزء الأول من كتاب تيلور تحليلا نفسانيا للشعور الأخلاقي بوصفه منبع السلوك وأساس الحكم الأخلاقي ، وهو هنا ينضم صراحة إلى صف النظرية الإنجليزية في الشعور الأخلاقي كما ظهرت في القرن الثامن عشر (على يد شافنسبري وهتشسون وهيوم وآدم سمث)، ويرمي، بإبقائه الأخلاق على مستوى ثابت هو مستوى الحقيقة اليومية، إلى تشييد حصن يحمي الأخلاق من التركيبات والتجريدات اللاواقعية التي يبينها الأخلاقيون المنتمون إلى المدرسة الهيجلية. وهكذا رأى أن كل محاولة لبناء الأخلاق على الميتافيزيقا تنطوي على خطر تفريغ الحياة الأخلاقية من واقعها العيني، وإثقال دراستها منذ البداية بتركيب نظري بحت لا يمكن أن يكون فيه مكان لجميع الظواهر المتصلة بالموضوع. مثال ذلك أن الأخلاق لا شأن لها بالذات الأزلية اللازمانية التي قال بها جرين، وإنما هي تعنى فقط بالذات التجريبية التي تتجسد في لحم ودم، وبالظروف المادية والفسيولوجية والنفسية التي تتحكم فيها. ولعلم الأخلاق مهمة أخرى، إلى جانب التحليل الوصفي للظواهر الأخلاقية، هي تعقب الظواهر إلى بداياتها البسيطة، والبحث في أصل الأفكار الأخلاقية وتطورها، وهو ما أصبح يعرف في ألمانيا، منذ أيام نيتشه، بأصل نسب الأخلاق. وفي هذا الميدان أسفرت تحليلات تيلور العميقة المفيدة عن نتائج رائعة، فمناقشاته لأصل ودلالة تصورات كالإلزام والضمير والمسئولية والخير والشر والشخصية الأخلاقية، لها قيمة دائمة، ولا ينقص من قدرها على الإطلاق عدم كفاية الأسس النظرية لهذا البحث في مجموعه. ومع ذلك فعلى الرغم من قيمة أفكاره واستنتاجاته - مأخوذة على حدة - فإن عودته إلى المذهب التجريبي في القرن الثامن عشر كانت خطأ كبيرا، وخاصة بالنسبة إلى مفكر تربى في مدرسة جرين وبرادلي وذاق ثمار كانت وهيجل. وعلى الرغم من كل ما كان يدين به لبرادلي، فإنه أدار ظهره عمدا لكتابه «دراسات أخلاقية»، الذي عرضت فيه الآراء الأخلاقية للمثاليين الألمان لأول مرة، وبفهم عميق، في إنجلترا. وهكذا فإن عودة تيلور الانتكاسية إلى المذهب النفسي والنسبي، وكذلك إلى مذهب اللذة كما سنرى فيما بعد، كانت تخلفا عن العصر الذي عاش فيه، لا يكفي لتبريره الاستدلال الدقيق الكامن من ورائه ولا الأفكار القيمة الكثيرة التي ظهرت مقترنة به (ولكنها لم تظهر منه).
ونظرا إلى رفض تيلور لكل مبدأ عقلي، وقصره الأخلاق على وقائع التجربة، فقد أخذت أبحاثه تدفعه، على نحو متزايد، إلى السير في طريق شكاك، وإلى الوقوع في صعوبات ديالكتيكية، ويتجلى تأثير برادلي بوضوح لأول مرة في نقله للديالكتيك التحليلي الذي اتسم به الجزء الأول من «المظهر والواقع»، بطريقة بارعة إلى أبعد حد، إلى مجال الأخلاق.
وكان من المحتم أن يؤدي الحط من عالم التجربة إلى منزلة المظهر البحت، إلى نتائج هدامة بالنسبة إلى مذهب أخلاقي تجريبي محض، وبالفعل نجد أن نظرية تيلور التجريبية في الأخلاق، شأنها شأن نظرية هيوم التجريبية في المعرفة، تنتهي إلى مذهب في الشك؛ ذلك لأنه ينتهي إلى أن ميولنا الأخلاقية، بمجرد أن تتحرر من الشعور الأخلاقي البدائي الذي هو أساسها المشترك، تتطور في اتجاهات متباينة، بل إنها تبلغ من التباين، في نظره، في تلك الثنائية القائمة في كل الأحوال بين الأنانية والغيرية.
فكلا هذين الموقفين قد اكتسب موافقة أخلاقية وادعى لنفسه قيمة مطلقة. وهكذا تواجهنا على الدوام فكرتان متقابلتان إلى الأبد، إحداهما فكرة تنمية الذات، والأخرى فكرة خدمة المجتمع، وتعجز النظرية الأخلاقية تماما عن البت في أيهما الأفضل، فمن المحال على نحو قاطع إيجاد مركب نهائي يجمع بين تحقيق الذات وبين التضحية بالذات.
والنتيجة التي ينتهي إليها هذا الاستدلال الذي ينطوي على دور منطقي واضح، هي أن الأخلاق ليست نسقا من الاستنباطات العقلية من مبدأ ميتافيزيقي واحد، وإنما هي مجموعة من التعميمات التجريبية التي لا يمكن جمعها تحت نسق مترابط من الفروض، ومن هنا فإن الأخلاق، شأنها شأن الفيزياء وكل العلوم الخاصة الأخرى، لها طابع مؤقت فحسب، ولا يمكن أن ترتفع إلى مستوى القول بمعايير باقية لمبادئ ذات صحة شاملة، فهي في أساسها لا عقلية. وما نسميه بالمثل الأخلاقي الأعلى هو في واقع الأمر موقف وسط بين استقطاب الميول الأنانية والغيرية، وهو الاستقطاب الذي يتمثل في المجال الأخلاقي بأسره. أما فكرة التقدم الأخلاقي فهي وهم باطل؛ إذ لا يوجد اتجاه واحد محدد للحركة، وكل تقدم ظاهري يقابله تأخر.
وإذن فليس من المستغرب أن نرى تيلور يسير خطوة هامة في اتجاه ما يسمى بمذهب اللذة الأخلاقي، وذلك مع رفضه مذهب اللذة النفسي، كما فعل جرين وبرادلي وسدجويك وغيرهم. وكان يعني بمذهب اللذة الأخلاقي ذلك المذهب القائل إن اللذة طابع أساسي لما له قيمة أخلاقية، وإننا نستطيع - بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية - أن ننظر إلى وجود اللذة على أنه علامة إعلاء طاقات الحياة، فإن اللاذ يكون خيرا بقدر ما يؤدي هذه الوظيفة، غير أن مثل هذه الأفكار - التي تخضع الأخلاق للمقولات البيولوجية - ليست لها إلا حقيقة نسبية.
على أن الأرجوحة الديالكتيكية عند تيلور تنتقل بعد ذلك إلى الجانب الآخر، لكي ننصف الفكرة المضادة، وهي فكرة الواجب، صحيح أن أية أخلاق تجريبية تستبعد الأمر المطلق، بالمعنى الذي قال به كانت، ما دام هذا الأخير يرتبط بفلسفة ترتكز على مبادئ أولية مطلقة، ومع ذلك فهناك أوامر، غير أنها دائما موجهة إلى أشخاص فرديين في مواقف خاصة، وعلى الرغم من أنها يمكن أن تغدو ملزمة أو إجبارية بالنسبة إلى جماعات معينة من الأفراد والطوائف، فلا يمكن أن تكون لأي منها صحة أولية شاملة؛ ذلك لأن المقدمة التي ترتكز عليها الأخلاق هي أن كل ما هو واقعي قابل للرد في آخر الأمر إلى واقعة للتجربة العينية.
ويؤكد تيلور صراحة اتفاق هذا المبدأ مع المبدأ الأساسي في نظرية المعرفة عند هيوم، وينبغي أن يقال إن تيلور قد عمل في مجال الأخلاق ما عمله هيوم في مجال المعرفة، إذ وجه كل جهوده إلى تطبيق مذهب تجريبي في الشك، أو مذهب شكاك تجريبي، مماثل لمذهب هيوم، على هذا الميدان، ويمكن أن يقال إنه تجاوز هيوم نفسه في هذا الميدان؛ إذ إن هذا الأخير، مع بنائه الأخلاق على أساس تجريبي، قد منعه حسه السليم من بعث الانحلال فيها عن طريق الشك. ومما يزيد الأمر غرابة أن تيلور رأى - في كتاب متعلق بنظرية المعرفة والميتافيزيقا نشره بعد ذلك بسنتين فقط، هو «أركان الميتافيزيقا» - أن يبتعد تماما عن هيوم ، ويستبدل بالحجج الشكاكة صيغ المذهب المطلق.
وهكذا فإن المرحلة الأولى في مذهب تيلور الأخلاقي تنتهي إلى نزعة نفسية ونسبية وشكاكة، فليس فيها نتائج إيجابية.
غير أن هذا الوصف وحده غير كاف؛ إذ إن دلالة هذه المرحلة السلبية هي أن الفكر الأخلاقي قد ألقي به في دوامة ديالكتيكية يضطر فيها إلى الابتعاد عن جميع الارتباطات التوكيدية لكي يعود إلى الحياة العينية ذاتها، ويعترف بتنوعها ومرونتها وتنافرها. والواقع أن تيلور قد فاق جميع المفكرين الآخرين في إظهار المرونة الكامنة في الحياة الأخلاقية، والنقائض والممتنعات التي تنشأ عن دراستها، ففي بوتقة تيلور الديالكتيكية يذوب كل شيء. ولقد كان فكره أكثر مرونة وليونة من أن يستقر على موقف واحد، وإنما هو ينتقل بلا انقطاع إزاء الكثرة الزاخرة من المظاهر المرتبطة بموضوعه من قضية إلى نقيضها دون أن يرضى بأيهما. وإذن فنزعة الشك التي تنساب في جميع أرجاء هذا الكتاب المبكر النابض بالحياة، الذي وضع بعد تفكير عميق، ليست شكا هداما فحسب، وإنما هي زاخرة بالأفكار القيمة التي لا تنتظر إلا عملية التشكيل.
فإذا كانت الحياة الأخلاقية حلا وسطا ووهما باطلا، وإذا كان جزء من ماهيتها يتألف من قدر معين من الخداع أو النفاق (
Cant ) - والكلمة ترجع إلى تيلور ذاته - فإن لنا أن نتساءل عما إذا كان يجوز لنا أن نعدها صورة نهائية للتجربة البشرية. ويحاول تيلور أن يجيب عن هذا السؤال الأخير في الفصل الأخير من كتابه، وعنوانه: «وراء الخير والشر»، وهو فصل يتضمن تلميحا للاتجاه الذي ستتحرك فيه أفكاره الأخلاقية فيما بعد. وعلى الرغم مما يوحي به هذا العنوان، فإن الإجابة ليست تلك التي قدمها نيتشه، صحيح أن تيلور كان أول مفكر إنجليزي افتتن بعمق بتفكير نيتشه، ولكنا لا نستطيع أن نتحول عن موضوعنا لنبحث في النواحي التي تأثر فيها به، فهو في هذا الفصل يرى أن مآل الأخلاق إلى الدين. ففي السلوك الأخلاقي البحت ننظر إلى التمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والرفيع والمنحط، على أنه تمييز نهائي، غير أن هذه الأضداد الخشنة لا تكفي على الإطلاق للتعبير عن بعض التمييزات الأدق التي توجد تحت السطح الظاهر، والتي تتغلغل في قلب الأشياء. وفضلا عن ذلك فالمشكلة لا تنحصر فقط في أن الأخلاقي الأعلى لم يبلغ بعد، وإنما في أن بلوغه مستحيل؛ إذ إن كل ما يبدو تحققا له يتضح فيما بعد أنه وهم باطل؛ لذلك كان من الضروري تجاوز التجربة الأخلاقية على مستوى يعلو على أضدادها المعرفة. وهذا المستوى لا يوجد إلا في التجربة الدينية، فهذه التجربة هي التعبير الأعلى والنهائي عن مسعانا العملي، وليس المثل الأعلى فيها شيئا مفارقا لا يبلغ، أو حقيقة دائمة متجاوزة لهذا العالم، وإنما هو شيء حقيقي ومتحقق بالفعل لا بالمعنى المألوف، وإنما بأكمل وأيقن معنى، أي معنى كونه هو الحقيقة العليا، والحقيقة الوحيدة التي يصدق عليها هذا الاسم. فالموقف الأخلاقي المتطرف للدين يتخذ صورة تعاطف شامل وتراحم مقصود هو حقا مبني، في كثير من الأحيان، على الخير الأخلاقي، غير أنه لا يتقيد به بالضرورة.
أما المرحلة المتأخرة من أبحاث تيلور الأخلاقية، وهي المرحلة التي لا يتسع المقام هنا لمعالجتها على أي نحو كامل، فيمثلها كتاب كان أشمل حتى من الكتاب السابق، ولكنه أقل منه تركيزا، وهو كتاب ينبئنا عنوانه منذ البداية - وهو «إيمان مفكر أخلاقي» - بأن الكاتب قد اهتدى إلى أرض صلبة، هذا الكتاب - الذي يفصله عن كتابه الأخلاقي الأول جيل كامل - يكشف عن تقدمه المستمر خلال هذه الفترة نحو ميادين جديدة من الموضوعات ومجموعات جديدة من المشكلات، وكان الميدان الرئيسي الذي أضافه إلى عتاده الذهني هو اللاهوت، وذلك بفضل دراسته الموسعة لتفكير العصور الوسطى. كما أضاف إلى تمكنه السابق من الفلسفة الكلاسيكية القديمة، معرفة أوثق بالفلسفة القديمة في العصر التالي للعصر الكلاسيكي، ولا سيما فلسفة الأفلاطونية المحدثة. أما بين المحدثين فقد ازداد اقترابا من جاليليو وديكارت وهبز وليبنتس وريد، وأجرى اتصالات مثمرة مع مفكرين معاصرين له من أمثال ألكسندر وفاريسكو
Varisco
115
وورد ورويس وبرجسون وهويتهد. كما أصبح مدينا في بعض النواحي الهامة لكتاب فون هوجل ووب في فلسفة الدين، ولكتاب أ. ر. بيفان
E. R. Bevan ، «الهلينية والمسيحية
Hellenism & Christianity ».
وأفضل ما يوصف به موقفه الجديد هو أنه مذهب ألوهي أخلاقي
ethical theism ، فالأخلاق تستمد أساسها النهائي من الدين، والتفكير فيها يتم من خلال المقولات الدينية. وهكذا فإن التلميحات المتفرقة التي انتهى بها الكتاب الأول، تعرض هنا على نحو مذهبي، وتكون الموضوع الرئيسي للبحث الجديد بأكمله. وهو هنا يخلص الأخلاق من نزعة الشك، ويسير بها إلى بر الأمان بفضل طوق النجاة الذي يقدمه اللاهوت. غير أن المرء يشعر بأن اهتمامه الرئيسي قد تحول الآن من الأخلاق إلى مذهب الألوهية، وعلى أية حال فإن الهدف الذي يوجه مناقشته المطولة إلى تحقيقه هو إيجاد برهان أخلاقي جديد، مبني على أساس عريض، على وجود الله. ويظهر التغير الذي طرأ على آراء تيلور في طبيعة الأخلاق، يظهر أوضح ما يكون في تغيير موضوع هجومه، فقد كانت معارضته في الكتاب الأول موجهة أساسا إلى جميع محاولات صبغ الأخلاق بصبغة ميتافيزيقية، وربطها بأية مبادئ أولية ذات طابع ميتافيزيقي. أما الآن فهو يتحول عن طيب خاطر إلى معسكر الأعداء؛ إذ إن بناء الأخلاق على أساس مذهب في الألوهية هو ربط لها بالميتافيزيقا، فموضوع هجومه الآن - وهو الموضوع الذي لا يكف تيلور عن تأكيده - هو النزعة الدنيوية
secularism ، أي نفس عملية قصر الأخلاق على المجال الإنساني المحض، وهي العملية التي لم يكن كتابه الأول إلا محاولة لتنفيذها.
وهكذا فإن جميع حججه أصبحت تدور الآن حول محور الفكرة القائلة: إن الحياة الأخلاقية، مهما كان من ارتباط مجراها بالزمان، ومن تقيدها بظروف العالم الحالي، لا تكتسب معناها الحقيقي إلا عندما تولي وجهها شطر الأزلية وتسترشد في كل نقطة بالإيمان بالله، فهي مغامرة تبدأ بالعالم الطبيعي وتنتهي بالعالم فوق الطبيعي. ولا شك في أن هذه الأخلاق - بالنسبة إلى الدين - غير مستقلة ، وإنما هي معتمدة عليه، ولكن تيلور يؤكد استقلالها بالنسبة إلى الطبيعة. ونستطيع أن نضرب لهذا مثلا إيضاحيا بمناقشته لفكرة الذنب، فالشعور الذي نحس به عندما ندرك أن هناك شرا ارتكبناه، يختلف عن أي شيء نجده في المجال دون الإنساني إلى حد أنه يجوز لنا أن نعده شعورا لا نظير له، يختص به الإنسان وحده. على أن هذا الشعور بالذنب يقترن به أساسا شعور آخر بعدم إمكان محو الذنب، فلا يمكن أن يمحى الذنب بأي جهد أو فعل، ولا يمكن «تعويضه» أو تغطيته بأي عقاب، غير أن إحساسنا بعدم إمكان التكفير عن الذنب إنما هو دليل مباشر على التشابك الكامن بين الزمان والأزلية، الذي هو العلامة المميزة لكل سعي أخلاقي.
وترتبط بهذا تلك الفكرة التي أطلق عليها تيلور اسم «الحافز المنبعث عن الأزلي
The initiative of the eternal »، فكل أخلاق أصيلة تشير إلى ما وراء حالتنا الراهنة؛ إذ تتطلب تجديدا وتحويلا وبعثا مستمرا لشخصيتنا، على أننا لا نستطيع أن نرتفع فوق مستوى عملنا الحالي بجهدنا الخاص وبمثل أعلى خاص بنا فحسب، فالحافز الذي يدفع إلى التجديد لا يمكن أن يأتي من جانب الشخصية المطلوب تجديدها، وإنما يمكن فقط أن يأتي من الاستجابة لحركة تأتي من الخارج، وهذه الحركة لا بد أن يكون مصدرها هو الله. وهكذا فإن الأخلاق تفترض ما يعلو على الطبيعة مقدما، بوصفه بيئتها وقوتها المحركة، وهذا لا يعني بأية حال الاستغناء عن الجهد الشخصي، وإنما يعني فقط أن من واجبنا، في كل أوجه نشاطنا، ألا نظل محصورين في حدود قدراتنا، وإنما أن نتطلع إلى ما ورائنا لكي نقبل الحافز الإلهي الذي هو وحده القادر على الارتفاع بنا إلى ما يعلو علينا، فللذرات الروحية عند تيلور نوافذ، وهذه النوافذ تطل على اللامتناهي.
ويدخل تيلور فكرة الخلود في نطاق «برهانه الأخلاقي» العام، فالخلود يعني تحول الذات الزمانية إلى ذات أزلية، والعملية مستمرة، قوامها في المحل الأول تطهير الذات تماما من حالة خضوعها لتحكم الظروف الزمنية، غير أن هذا ليس تطهيرا يغمر الشخصية الفردية ويغنيها في مطلق لا شخصي (وهنا يتجه تفكير تيلور إلى نظرية الفردية عند بوزانكيت)، وإنما هو تطهير يتركها أغنى مما كانت، فالذات تظل باقية، غير أنها تنتقل من مركزها الأصلي إلى مركز جديد، وكما يقول تيلور، فبقدر ما نتخلى عن ذراتنا، نفنى في شخصيتنا الحقة، ففي المطلق لا تفني الفردية على الإطلاق، بل تحقق أكمل تعبير عنها.
ولكن أليست الأخلاق والحياة الأزلية متعارضتين تماما؟ أيظل للجهد الأخلاقي أي معنى بعد أن نبلغ هدفنا؟ هنا نواجه مرة أخرى تلك الصعوبة الأساسية التي تتمثل في أي مذهب أخلاقي، أعني الازدواج بين ما هو كائن، أي ما هو زائل متغير على الدوام، وما يجب أن يكون، أي ما لا يمكن بلوغه أزلا، وإن يكن يبدو أنه هو ماهية الأخلاقية ذاتها. غير أن الأخلاق لا تختفي عند بلوغ هدفها إلا إذا جعلنا الأخلاق مساوية للصراع ضد الشر، على أن هذا أمر غير مشروع، تماما كجعل العلم مساويا للصراع، ضد الجهل، فمن الممكن أن نتصور مرحلة للحياة الذهنية تنتهي فيها عملية تكوين الشخصية، ومع ذلك يستمر النشاط المنبعث عن الشخصية المتكونة. وحتى «في السماء» يظل هناك مكان للحياة العملية الفعالة، إلى جانب سعادة التأمل الخالص، صحيح أننا لا نعود قادرين على التقدم «نحو» الخير، ولكن سيكون هناك مجال واسع للتقدم «في داخله». ومن الطبيعي أن الحياة الخيرة لن يمكنها عندئذ أن تظل تتخذ شكل صراع إيجابي ضد الشر، وإنما ستستمر بوصفها تحقيقا «للخير» على صور تزداد على الدوام كمالا وتنوعا. فانتهاء الصراع بين الخير والشر وبلوغ الغاية لا يمنع من استمرار بقاء النشاط الأخلاقي، وهذا هو حل التناقض العميق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون في الأخلاق.
وهكذا فإن تفكير تيلور الأخلاقي يمر بمرحلتين لا صلة بينهما على الإطلاق: الأولى مرحلة واقعية تجريبية ديالكتيكية شكاكة، تفتقر إلى النظام المذهبي، وتعادي أي مذهب ميتافيزيقي، والثانية مرحلة مختلفة تماما، تبني الأخلاق على مذهب ألوهي ميتافيزيقي، وتجعلها خاضعة له تماما. وهذا القول يتضمن في الوقت ذاته وصفا صحيحا لتفكيره الميتافيزيقي المتأخر بدوره، وهو التفكير الذي عرضه أيضا في كتابه «إيمان مفكر أخلاقي». فهو يرمي إلى كشف عدم كفاية كل لاهوت طبيعي صرف، وإلى تبرير الإيمان بوحي فوق الطبيعي. والواقع أن إيمان تيلور الديني قد نما بقدر ما نما تفكيره تماما، فقد كان في البداية واعظا غير متخصص (علمانيا)، ينتمي إلى طائفة «الميثوديست»، ثم انتقل إلى مرحلة عدم اكتراث بالدين، وبعد ذلك ازداد بالتدريج تقاربا من المذهب الأنجليكاني، وها هو ذا أصبح ينتمي إلى جناحه المتطرف المسمى بجناح «الكنيسة العليا
High Church »،
116
بل إنه أصبح يصرح علنا بإعجابه بمذهب الروم الكاثوليك، وعبر عن ذلك فلسفيا في رأيه القائل إن الحركة المدرسية الجديدة هي تجديد أصيل لروح الفلسفة، وإن تفكير توما الأكويني ما زال حيا، وسيظل له تأثير في مجرى التفكير الفلسفي في المستقبل.
ولا مفر لنا من أن نعرض - ولو بإيجاز شديد - لتفكير تيلور الميتافيزيقي الأول، كما عرضه في كتاب «أركان الميتافيزيقا»، طبعة سنة 1903، فلا حاجة بقارئ هذا الكتاب إلى أن يذهب بعيدا لكي يجد هنا أيضا انفصاما عميقا يفقد المؤلف صفة الاستمرار والاتصال، فكل ما يمكن إيجاده من روابط بين تفكيره الدنيوي في كتابه الأول، وبين تفكيره الديني في فترة نضوجه، إنما هي بضعة روابط خارجية، لا وحدة باطنة، وهنا أيضا تحول «شاءول
Saul » إلى بولس
،
117
ويزداد الانفصال وضوحا إذا ما عدنا بنظرنا إلى الوراء؛ إذ توجد بين كتابه الأول وهذا الكتاب هوة شاسعة في الروح وفي المضمون، بينما لا يفصلهما في الزمان سوى عامين أو ثلاثة. ففي كلا الكتابين كان تأثير برادلي سائدا، ولكن كان هناك - كما أكد تيلور نفسه بعد ذلك بوقت طويل - شخصيتان لبرادلي: إحداهما شخصية الناقد الهدام، والأخرى شخصية المفكر البناء العظيم، بحيث حطمت الأولى ما شيدته الثانية تحطيما. ولا يملك المرء إلا أن يحس بأن تيلور، في فترته الأولى، قد تأثر بهذين الوجهين لبرادلي دون أن يحل ما بينهما من تعارض، بحيث كان الوجه الأول هو السائد في مذهبه الأخلاقي، والثاني هو السائد في ميتافيزيقاه. وإذن فمن الممكن أن نطلق على ميتافيزيقاه الأولى، التي أطلق عليها اسم «المثالية المنهجية»، وصفا موجزا هو أنها مذهب برادلي في المطلق، محذوفا منه نزعته في الشك.
ولكن مذهب المطلق، الذي تركه برادلي في صورة مفككة إلى حد بعيد، قد نظم هنا تنظيما دقيقا صارما، والأقسام الرئيسية في المذهب هنا هي الأنتولوجيا أو التركيب العام للعالم الواقع، والكسمولوجيا أو ميتافيزيقا الطبيعة، وعلم النفس العقلي أو ميتافيزيقا الذهن والمجتمع البشري.
غير أن تنظيم أفكار برادلي لا يكون سوى الأساس والإطار العام لمذهب تيلور الأول، فقد تمكن تيلور - بمرونته وتفتحه وتقبله لما هو جديد - من أن يدمج في كثرة زاخرة من المواد الجديدة، تشمل كل ما كان مدار البحث في ذلك الحين، ويستغلها في أغراضه التأملية. وأوضح المؤثرات ظهورا بعد برادلي: مثالية وورد ورويس، وإن يكن قد أخذ عنها موقفها العام أكثر مما أخذ تفاصيل المذهب، كذلك تأثر إلى حد غير قليل بالاتجاه الذي كان جديدا عندئذ في علم النفس عند وورد وجيمس وستوت ومونستربرج
Munsterberg ،
118
مؤكدا أن للحياة الذهنية طابعا غرضيا غائيا، واستخدم هذه الفكرة في محاربة النظريات الآلية، فأعلن أن النظرة الآلية إلى العالم هي نظرة ذات قيمة أدنى يتضح آخر الأمر بطلانها، ولا تصح دون قيد أو شرط حتى على العالم غير العضوي، ما دام للذرة ذاتها قدر من الفردية، مهما كانت ضآلته، وإلى هذا الحد لا يمكن استبعادها من التركيب الغائي الذي يتغلغل في جميع أرجاء الوجود. على أن هذه الآراء كادت ترغمه على أخذ بعض العناصر الهامة من المذهب البرجماتي الذي كان عندئذ في بداية ظهوره، ومن المؤكد أنه تنازل لهذا المذهب في نواح كثيرة. وللمرء الحق في أن يشك جديا فيما إذا كان هذا الربط بين الميتافيزيقا القائمة على فكرة المطلق، وبين الفلسفة البرجماتية في الحياة، قد ساهم في تأكيد اتساق مذهبه ووحدته. ونستطيع أن نقول إنه نظرا إلى التوتر الشديد الذي كان قائما عندئذ بين ممثلي هذين الطرفين، كان على الأقل خطأ منه في «التكتيك». على أن التنافر التام بين المذهبين سرعان ما فرض نفسه عليه، فدخل في خلاف مع شيلر، ولما وجد نفسه محاصرا ومحرجا تخلى عن قدر كبير من برجماتيته، وتجلى ذلك في كلامه عن طبيعة العلوم الوضعية ومناهجها، وفي رأيه في العلية وغيرها من المبادئ العامة التي رأى أنها ليست بديهيات، وإنما مصادرات (وهنا كان متأثرا على نحو مباشر بمقال لشيلر ظهر حديثا في ذلك الحين، أي في 1902، بعنوان «البديهيات بوصفها مصادرات
Axions as
»، وكذلك في تأكيده أن العنصر الإرادي الاختياري ماثل في كل تجربة، ورفضه لفكرة السعي المنزه إلى الحقيقة. أما آراؤه في مناهج المعرفة العلمية فتكاد تكون مماثلة تماما لآراء كارل بيرسون في كتابه «قواعد العلم
Grammar of Science »، وأخيرا نستطيع أن نلاحظ من آن لآخر تشابها مع فلسفة التجربة الخالصة عند أفناريوس
Avenarius .
119
فإذا ما تأملنا تفكير تيلور الفلسفي في مجموعه، أمكننا أن نقول إنه أغنى وأعقد من أن يفهم فهما جامعا مانعا، أو يدرج تحت وصف واحد، فهو يلمع بألوان متعددة استمدها من المصادر المختلفة التي أضاءته، وكثيرا ما عمل على حرق سفنه من خلفه، والزحف قدما لاحتلال ممالك جديدة، غير أنه يفتقر إلى التركيز، بحيث إنه لم يبعث وحدة باطنة في الميادين المختلفة المتعددة التي استمد منها ثقافته واتخذها موضوعا لبحثه، فتفكيره صورة أمينة لذلك الشقاق العميق، الفلسفي وغير الفلسفي، الذي يتصف به عصرنا؛ هذا العصر الذي اتخذ من الإيمان ملجأ، ولكنه لم يصبح بذلك أقوى تفكيرا. وربما كان ذلك المذهب أوضح مظهر على مدى إخفاق الفلسفة الإنجليزية، حتى في يومنا هذا، في الوصول إلى أي هدف، واستمرارها في تلمس الطريق.
تلقى تمبل تعليمه الفلسفي في كلية باليول بأكسفورد على إدوارد كيرد، وظل يذكر لهذا الأخير أنه أفضل مثل لشخص لا يقتصر على تعليم الحياة الروحية، وإنما يحياها على أكمل وجه أيضا. وعن طريق كيرد اتصل منذ وقت مبكر بعالم الفكر المثالي، الذي التزمه على الدوام فيما بعد في سعيه إلى الوضوح الفلسفي. وهو ينتمي إلى تلك الفئة من اللاهوتيين المتفلسفين التي كان عددها في إنجلترا أكبر منه في أي بلد آخر، والتي كان باركلي ممثلا متقدما وبارزا لها. ولم تكن فلسفته إشباعا لحاجة نظرية، بقدر ما كانت تبريرا لنظريته الدينية واللاهوتية، فمهمتها هي التوفيق بين الإيمان والمعرفة، وإيجاد أساس نظري لمذهب ألوهي ثبت في ذهنه من قبل.
ويعرف تمبل مذهب الألوهية بأن الفرض القائل إن الأساس النهائي للكون إرادة، وبأن هذه الإرادة تحقق غاية، وإن هذه الغاية تبدو لنا - نحن الموجودات المتناهية - خيرة، هذا الفرض يستمد دعامته من تجربتنا الأخلاقية والدينية، فالواقع إذن تعبير عن الإرادة الإلهية، وله مستويات أو مراحل متعددة، تجمع بينها عملية نمو واحدة. ولو نظرنا إلى سلسلة المراحل زمنيا لوجدناها تتحرك من الأدنى إلى الأعلى، أما لو تأملناها من حيث دلالتها العامة، لانعكس هذا الترتيب؛ ذلك لأنه على الرغم من أن الأعلى يفترض الأدنى مقدما من الوجهة الواقعية، فإن الأدنى لا يقدم أي تفسير لمعنى الأعلى، فالتحديد والمعنى يصيران من أعلى إلى أدنى، بحيث إن معنى الأدنى لا يتكشف إلا بظهور المرحلة الأعلى التالية له. وعلى ذلك فإن الأعلى يكمن - بالإمكان أو بالقوة - في الأدنى، ثم ينبثق عنه ليكون مرحلة جديدة، وهناك أربع مراحل رئيسية للوجود، يتميز بعضها عن البعض تميزا واضحا، هي المادة والحياة والعقل
intellect
والروح. فإذا طبقنا القانون السابق على العلاقة بين هذه المراحل؛ لوجدنا أن المادة لا تكشف عن طبيعتها الحقة إلا عندما تنتقل إلى الحياة، والعقل لا يحقق وظيفته الصحيحة إلا عندما يخضع لتوجيه الروح، التي هي أعلى مرحلة للحقيقة المعروفة لنا، وهنا يظهر بطبيعة الحال تأثير الاهتمام المتجدد بالتطور، الذي تبدى فيما بعد - على سبيل المثال - في النظريات القائلة بالطفرة عند لويد مورجان وألكسندر، والتي تتفق معها نظرية تمبل في خطوطها العامة اتفاقا شديدا.
وتثير فكرة المستويات الصاعدة مشكلة القيمة، ولا سيما علاقتها بالواقع، فهل تستنفد ماهية الأشياء في وجودها المحض، بحيث تكون القيم صفات لها فحسب؟ أم أن القيم هي التي لها الأولوية؟ يحاول تمبل أن يبين أن الفرض الثاني هو الصحيح، وسبيله إلى إثبات ذلك هو القول إن القيم وحدها هي التي لها حقيقة جوهرية، وهي تحقق صورها المختلفة بالتجسد في الأشياء، ويتلو من ذلك أن ما هو حقيقي لا يكون كذلك إلا بقدر ما تشكله القيمة، أو بتعبير آخر: بقدر ما يكون خيرا. على أن القيم أو الخير ليس إلا الطرف المتضايف مع إرادة، وهذه الإرادة هي الإرادة الخلاقة للروح الإلهية، التي هي وحدها الموجودة بذاتها، ومن ثم فإن العالم من خلق إرادة الله، وهو التعبير عنها، فالقول بهوية الجوهر والقيمة يؤدي حتما إلى مذهب الألوهية.
وقد عرض تمبل هذه الأفكار عرضا مذهبيا في كتابه «الذهن الخلاق»، فهو هنا يبحث في سعي الروح إلى تكوين نظرة ترضيها عن العالم، في ضوء الأشكال الثلاثة، العلم والفن والأخلاق، هذه الأشكال الثلاثة معا تستهدف توحيد الكثرة المختلطة للأشياء، ولكن ليس في وسع أحدها أن يحققها، وإنما في الدين وحده يمكن بلوغ نظرة موحدة إلى العالم، بحيث إن الدين هو اكتمال جميع الصور الأخرى للمعرفة، وهو حجر الرحى في أي مذهب فلسفي. وهكذا أضاف تمبل إلى كتاب «الذهن الخلاق» تكملة في كتاب «حقيقة المسيح»، الذي عرض فيه ما أسماه بحق ميتافيزيقا متركزة حول المسيحية.
وفيما عدا ذلك، فمن الممكن أن يوصف موقف تمبل الفلسفي بأنه مثالية مطلقة، فإذا ما جردنا هذه المثالية من قيودها اللاهوتية وتعلقها الشديد بالأفلاطونية؛ لوجدناها مدينة لبوزانكيت ولبرادلي من خلاله أكثر مما هي مدينة لأي شخص آخر. وتتضح أولوية هذا التأثير في قوله: إن أمام الفلسفة طريقين متشعبين يتعين على أية فلسفة أن تختار بينهما، إما أن تفترض المعقولية الكامنة للكون (أو على الأقل إمكان تحديده عقليا)، وإما أن ترتد إلى مذهب الشك الكامل. فالمعقولية الميتافيزيقية للعالم تتضمن معها مصادرة أخلاقية هي خيريته الكاملة، فيسفر ذلك عن نظرة متفائلة إلى العالم. على أن من واجبنا أن نعترض على ذلك قائلين إن هذا التفاؤل لا يتغلغل في قلب مشكلة الشخصية ولا مشكلة الشر، فليس فيه مكان للفرد واللامعقول وكل ما يقاوم القيمة والمعنى إلا بقدر ما يستطيع أن يجمعها كلها بوصفها عناصر مرتبطة بأضدادها أو مظاهر لها. والذي يقدمه إلينا حقيقة هو مطلق تختفي فيه كل هذه التمييزات والأضداد، دون أن تترك أثرا للعذاب الذي يبعثه اضطراب عالمنا الفعلي، أو للمواقف الأليمة التي تتعرض لها حياتنا، فالمذهب المطلق يدخل هنا في مرفأ آمن هو اللاهوت الحرفي المحافظ.
وتتضمن محاضرات جيفورد التي ألقاها تمبل بعنوان «الطبيعة والإنسان والله» أدق وأشمل محاولاته لإيجاد أساس لرأيه في الكون ولعرض هذا الرأي، غير أن ما يقدمه إلينا هنا أيضا هو محاولة إيجاد تبرير نظري لعقائد إيمانية سابقة، أكثر منه برهانا دقيقا مستقلا على وجهة نظره؛ فليس ثمة تغيير أساسي في موقفه. وتغدو نقطة بدايته هنا واقعية، فهو يرفض جميع الصور الذاتية الإبستمولوجية، التي يرى أن قضيته «أنا أفكر إذن أنا موجود» عند ديكارت هي المسئولة عنها أولا، ففي المعرفة لا يكون العقل معنيا بذاته - وبأحواله الخاصة بوصفها موضوعات حاضرة - وإنما بعالم يقف في مقابله بالفعل. وهو يصف هذه الواقعية أيضا بأنها «ديالكتيكية»، ويؤدي تطويره لعمليتها الديالكتيكية، والمكان البارز الذي يوليه للذهن، إلى إضفاء طابع هيجلي متزايد عليه، يعد أوضح مظاهره الخارجية تأكيد تمبل الدائم لصلته الوثيقة بأستاذه القديم إدوارد كيرد، الذي يهدي هذا المجلد إليه، وكذلك إشاراته المتعددة إلى بوزانكيت، الذي يتفق مع ميتافيزيقاه اتفاقا عاما، على الرغم مما بينهما من اختلافات في التفاصيل. وتبلغ العملية الديالكتيكية قمتها في مذهب ألوهي، وفي نظره إلى الكون على أن له «طابعا مقدسا». والواقع أن المذهب الذي يعرضه تمبل هنا آخر الأمر هو واحد من أروع ما أنتجه الفكر الإنجليزي الأخير من التعبيرات عن مذهب الألوهية المسيحي، معروضا من وجهة نظر مثالية قبل كل شيء. (8) القسم الثامن: مفكرون قريبون من المثالية
انبثقت فلسفة المفكر الاسكتلندي لوري من ذهنه الخاص كلها تقريبا، ومن ثم فلا يمكن أن يدرج تحت أية فئة عامة مألوفة إلا بشيء من التجاوز، وقد أسماها هو ذاته «عودا إلى الثنائية»، (وهو العنوان الفرعي لكتابه: الميتافيزيقا). غير أن غموض تفكيره وعدم إمكان النفاذ إليه، يجعل من العسير على المرء أن يقرر إن كان الاتجاه التوحيدي أو الاتجاه الثنائي (وهناك اتجاه تعددي أيضا) هو الأغلب لديه. كذلك أطلق على مذهبه اسم «الواقعية الطبيعية»، وهي تسمية تصدق على نقطة بدايته الإبستمولوجية، التي تقترب عن وعي من موقف ريد، غير أنها لا تنطبق بحال على بقية تفكيره، أو على تفكيره منظورا إليه في كليته. ومع ذلك ففي إمكاننا - دون إجحاف - أن ندرجه ضمن الحركة المثالية الجديدة، حتى لو لم يكن من الممكن القول إن لوري ذاته قد انجرف في هذا التيار، فهناك قطعا روابط تجمعه بكانت وشلنج، وقبل هؤلاء جميعا بهيجل، الذي كانت له بتفكيره معرفة مباشرة.
غير أن لوري يظل هو نفسه فحسب، ويتسم بصفة الاستقلال هذه أكثر من أي مفكر إنجليزي آخر في عصره؛ لذلك كان من الواجب فهم مذهبه في ضوئه الخاص. فهذا المذهب أشبه بمناجاة ذاتية، ومحادثة بينه وبين نفسه، بحيث لا يصغي إلى الآخرين ولا يسير بناء على أي اتصال سابق بالغير، ولهذا السبب لم يكن له صدى بين شعبه، وإنما تبدد صوته في الهواء.
ولقد حاول داعية وحيد متحمس له، هو ج. ريماكل، أن يذيع آراءه في فرنسا وبلجيكا عن طريق ترجمة مؤلفاته وعرضها، ولكنه لم يجد أية استجابة. وليس في هذا كله ما يدعو إلى الدهشة، نظرا إلى صفات الغموض والهوائية والغرابة والأصالة التي كان يتسم بها تفكيره وطريقة تعبيره معا، فقد استحدث لنفسه مصطلحا خاصا به، نحت فيه الألفاظ بجرأة، واستخدم الكلمات بصور غير مألوفة، لا تعين القارئ على الفهم بأية حال، وهو يذكرنا بهيجل في ثقل وطأة تركيباته وألفاظه معا. وهكذا كان تفكيره وعرا قاسيا تماما كتضاريس بلاده اسكتلندا. غير أننا لا نكاد نجد واحدا من معاصريه يفوقه أو حتى يدانيه في القوة أو الجرأة التأملية فيما وراء حدود التجربة، وفي الميل إلى بناء المذهب والقدرة عليه. وفي الوقت ذاته لا يصادف المرء إلا في أحوال نادرة، مثل حالة فوست
Fawcett (لكن على مستوى أدنى بكثير)، مثل هذا الخيال الحالم والإغراب المصحوب بعمق صوفي. والواقع أننا لو قسناه بالمعيار المألوف لدى الناس عن الفلاسفة الإنجليز، لما وجدنا سمة واحدة تجمع بينه وبينهم، ولأحسسنا بأنه مفكر ألماني هبط مصادفة في أرض إنجليزية.
ونستطيع أن نقول إن الكتابين الأولين، من بين كتبه الثلاثة التي عرض فيها نظرته إلى العالم، وهما «الميتافيزيقا» و«الأخلاق»، هما مقدمتان لكتابه الثالث، ففي هذا الكتاب الثالث، وهو «أفكار تركيبية»، الذي يتضمن أفكاره الناضجة، تتجمع كل الأنغام المنفصلة في تفكيره لتكون سيمفونية ميتافيزيقية قوية رنانة، ويفتتح الكتاب بما يمكن أن يعد تاريخا للوعي أو «ظاهريات للروح»، يصور فيها المراحل التي ترتفع فيها الروح ارتفاعا متزايدا من أدنى مستوى «للوعي العضوي» المقيد بالنزوع والإحساس، إلى تحقيق طبيعتها الحقة. فالمرحلة الأولى للوعي هي إحساس خالص لا تنوع فيه، وهنا لا تكون الذات قد تميزت بعد عن كتلة الموضوعات، وإنما ترقد كالجنين النائم في أحشاء وجود له طابع عام غير محدد. ومع ذلك فهي «موجودة» هناك في صورة بذرية. والمرحلة التالية هي الإحساس الذي يتميز بأنه وعي بآخر، نحس به في التجربة على أنه خارجي، فالذات هنا تتلقى منبهات خارجية وتدركها في صورة غامضة، وهنا تظهر لأول مرة ثنائية الذات والموضوع، وتغدو الذات الحاسة - بفضل عملية صبغ انطباعاتها بصبغة خارجية - إيجابية لا سلبية فحسب، والمرحلة التي تلي ذلك هي أعلى مراحل الإحساس. وينحت لوري لهذه المرحلة لفظ «الإحساس المميز
attution »، فهي مرحلة تتوسط بين الإحساس بمعناه السابق وبين الإدراك الحسي، فيها تدرك الذات الفروق بين «الأشياء»، وتميز الواحد منها عن الآخر، دون أن تتمكن بعد من تحرير نفسها من سيطرة المجال الموضوعي، فالإحساس المميز، على حد تعبير لوري، هو الشعور «بكثرة في وحدة» وهو «نظرية تركيبية إلى الموضوع»، وهو «إحساس بوجود شيء يوضع بالتفكير أو رد الفعل، خارجا عند النقطة التي يرجع إليها أصله.»
121
وعندما تضاف الإرادة، التي هي إيجاب محض، إلى الإحساس المميز، الذي هو «سلبي إيجابي» فحسب، نصل إلى مرحلة الإدراك الحسي
perception ، وهنا يدرك الموضوع، لا على أنه مختلف عن الذات فحسب، بل على أنه مقابل لها أيضا، ويربط بوحدة الوعي عن طريق فعل التأكيد أو الإقرار (
assertion ). وهكذا يتحقق الانفصال النهائي بين الذات والموضوع، وتبلغ بذلك مرحلة العقل ، إذ يتغير ذكاء الإحساس المميز الحيواني، والإدراك الحسي الإنساني، عن طريق ظهور النشاط الخالص للإرادة، وهنا تعتبر حدود ما دون العقل، وتصبح الذات عاقلة بصفة نهائية. غير أن أساس العقل وصورته وماهيته هو الإرادة، فأعلى صورة للوعي هي حدس فوق العقلي، يستعاد فيه الطابع الأصلي المباشر للشعور.
ويتصور لوري تقدم الوعي هذا بصورة ديالكتيكية؛ ولذلك فإنه يعرضه على شكل برهان عقلي. أما في المجلد الثاني، الذي ينتقل فيه إلى مذهبه في الله والإنسان، والذي تبلغ فيه قوته التأملية أعلى مستوى لها، لا نعود إزاء برهان، وإنما كشف عن أعمق تجارب نفس تبحث عن الله، فهو هنا يخوض مشكلة طبيعة الله من جميع أوجه التجربة البشرية، ويسلط عليها أنوارا كاشفة تتجمع فيها، منبعثة عن الإحساس والإرادة والعقل. ومن هنا كان ذلك الفيض من الصفات التي تتسابق على شفتي هذا الحالم الذي أسكرته رؤيته، فالله هو الكل في الكل، والواحد في الكثير، والهوية في الاختلاف والشامل اللامتناهي الأزلي، وهو منبع الأشياء ومقرها، وهو العمق الأكبر، والحب الأعظم والجمال والخير والحق. غير أنه - مع ما يتسم به وجوده من هذا الطابع غير المقيد بشرط - ليس بعيدا عنا، فالإله العالي المحض الذي عرفه مذهب الألوهية الطبيعية، لا معنى له بالنسبة إلى روح تتحرق شوقا إلى الوحدة الصوفية، مثل روح لوري. فهو (على حد التعبير المجازي القوي الذي استخدمه لوري) أقرب إلى أن يكون إلها ذهب في سفرة أو غلبه النعاس، وإنما الله حياة وفعل وقدرة خلاقة، فضلا عن كونه وجودا. ومن هنا وجب أن يتخذ صبغة خارجية ويدخل في العالم الزمني ليستقر في الأرواح المتناهية التي أوجدها، وهذا الخروج عن ذاته هو وحي لمخلوقاته (ويستخدم لوري نفسه لفظي
outerance
و
utterance
للتعبير عن معنى الخروج عن ذاته والوحي على التوالي)، كل ذلك ينبغي ألا يفهم على أنه قول «بشمول الألوهية
pantheism »، فالعملية ليست صدورا، وإنما هي عملية ديالكتيكية، والمطلق يشمل السلب المحض، بوصفه جزءا من ماهيته، وعن طريقه يتكون في مقابله الوجود المغاير له - أي المتناهي والزمني والفردي - ومع ذلك يظل الله متغلغلا في هذا الوجود المغاير ومشتملا عليه، بحيث إن الشخص المتناهي يظل محتفظا بفرديته، حتى في الوحدة الصوفية مع الله، التي يصفها لوري بلغة كلها وجد وشوق.
أما آراء لوري في الإنسان فترجع إلى رأيه في المراحل الثلاث للوعي، فليس في وسع الإنسان أن يظل في مرحلة الإحساس المميز، التي يكون فيها الإنسان مجرد مركب حيواني من رغبات ونزعات وإحساسات جزئية. فلما كان الإنسان قد وهب عقلا، فإنه يهدف إلى تحوير هذه العناصر غير المنظمة بحيث تدخل في الوحدة العاقلة لشخصية أخلاقية، فالتجربة البشرية هي ديالكتيك للإرادة، ما دامت تنطوي أساسا على شوق إلى المثل الأعلى والمطلق. ومن يخفق في مسايرة هذا الديالكتيك الإرادي يهبط إلى مرتبة أدنى، أما من يسايره ويحقق ذاته الحقة، فإنه يشارك - حتى في أثناء خضوعه لقيود الزمان - في الحياة الأزلية لله، ويصطفيه الله ليكون زميلا له في تحقيق غاياته الأزلية؛ ذلك لأن الله في هذا العمل محتاج إلى الإنسان.
وعند هذه النقطة يجمع لوري خيوط خطته الطموحة ليصل بها إلى قمة شامخة، فالعنصر السلبي للأشياء يعود إلى الظهور ثانية في صورة الشر، والشر هو «إخفاق الإله الخلاق في تحقيق المثل الأعلى للفرد والكل على مستوى الوجود الذي يشغله الإنسان.»
122
ولا شك أن من المفزع الكلام عن إخفاق الله، ولكنا عندما نفكر في الشر، وفي العنصر اللامعقول في العالم، وفي «اللا الدائمة
everlasting No » (ويأخذ لوري هذا التعبير عن كارليل)، نضطر إلى أن نطرح جانبا التعبيرات المريحة التي ألفها العرف السائد. فلا يمكن أن يكون الألم والشقاء والخطيئة عناصر تنتمي إلى خطة الخالق؛ لذلك نضطر إلى أن نفترض أن المبدأ السلبي قد أثبت - على نحو ما - أنه أقوى من أن يتغلب عليه الله. وإذن فالشر حقيقة في نظام الكون، ولا بد، بهذا الوصف، أن يكون مصدره هو الله، ولكنه لا يمكن أن يكون قد أتى عن طريقه. وهكذا يتقدم لوري إلينا - كما فعل الكثيرون من معاصريه - بفكرة إله محدود، تقابله صعوبات محيرة، ويعاني هو ذاته من خلقه، ويسعى إلى التغلب على نواحي النقص فيه، ويحتاج من أجل نجاح مسعاه إلى مساعدة الإنسان، وبهذا المعنى تكون الموجودات المتناهية شريكة لله في الألم، وفي العمل والجهد، بل إنها - على الرغم من تناهيها - ترتبط بالله إلى حد يتعين معه أن نفترض خلودها، «فالإنسان الذي يصبو، في هذا المكان والزمان، إلى الوحدة مع الله، يجعل من نفسه - لهذا السبب ذاته - خالدا، بقدر ما يدمج روحه المتناهية في حياة الروح الأزلية ذاتها، وينجرف في تيار ذلك الذي لا يموت.»
123
فالإنسان إلهي بقدر ما يكون إنسانا، أو بقدر ما يكون كائنا عاقلا، وبالتالي لا مفر له من المشاركة في الحياة الإلهية، وهذا هو ضمان الخلود الذي لا يمكن أن يمدنا به البحث التجريبي بطبيعة الحال.
يقف تفكير فوست بمعزل عن الفلسفة المصطبغة بالمعقولية، مثلما ظل هو نفسه بمعزل عن الحياة الأكاديمية، فهذا التفكير يمثل نمطا في الفلسفة نادرا نسبيا في إنجلترا، ولكنه شائع نسبيا في البلدان الأخرى، ونستطيع أن نطلق عليه اسم «المثالية الخيالية
Fanciful Idealism »، مستخدمين نفس التسمية التي استخدمها كانت، دون أن يكون لها مبرر كبير، للإشارة إلى مذهب باركلي، فهو واحد من أولئك الذين «يشيدون قصورا فكرية متعددة في الهواء» مستعيرين تعبيرا آخر لكانت، ويحلقون فوق التجربة عاليا، وكما يدل عنوان كتابين من كتبه المتأخرة،
124
فهو ينسب إلى الخيال دورا أساسيا، جاعلا منه الملكة الفلسفية على التخصيص، بل أساس الحقيقة ذاتها، فالخيال هو مبدؤه الميتافيزيقي الأول، والعالم ليس إرادة أو حضورا لتمثلات أو عقلا، وإنما هو تخيل خلاق. وهو يدرك - إذ يطلق على موقفه العام اسم «المذهب التخيلي» - أنه يقف موقف المعارضة الشديدة لفكرة الشمول المنطقي عند هيجل. ويمضي في كراهيته للعقل إلى حد أنه قال في أحد المواضع بشيء من التباهي: «وهكذا تخلصنا من العقل.»
125
والحق أن فلسفته، وإن لم تكن قد تخلصت من العقل تماما، هي نتاج لذلك الخيال الأدبي الذي اتخذت منه مبدأ أول للأشياء جميعا.
وعلى الرغم من تفاخر فوست بجدة آرائه، فقد كان يدرك تمام الإدراك أن هناك فلاسفة آخرين سبقوه في هذا المضمار، وكان يشير إلى آرائهم على الدوام، فإلى جانب ما نجده عند كانت من ميل ضئيل في هذا الاتجاه، نجد الخيال المنتج يظهر لأول مرة بوصفه نشاطا لا متناهيا عند فشته، ثم يظهر بعد ذلك في تفكير واحد من أنصار «التومية الجديدة
New Thomism ، هو فروهشامر
Frohschammer »،
126
أما بالنسبة إلى المفكرين المتأخرين، فإن فوست يشعر بأن أقربهم إليه هو برجسون، بفكرته في الحدس والتطور الخلاق، كما تجمعه ارتباطات أقل وثوقا بهوايتهد وماكنزي وشيلر. على أن تفكيره في تركيبه الباطن - أو على الأصح في رؤياه - كان أقرب إلى موقف لوري، الذي كان يماثله في شطحاته التأملية، منه إلى تفكير أي معاصر آخر له، ومع ذلك فقد كان يفضل - كما هو متوقع - أن يتجه إلى الشعراء، بوصفهم أناسا أقدر على الرؤية المتعمقة في الأشياء من الفلاسفة. ففي نظره أن وليم بليك
W. Blake
هو «شاعر المذهب التخيلي»، كما كانت أشعار شيلي، المبنية على فكرة شمول الألوهية، مصدرا آخر مألوفا لأفكاره.
ويسمي فوست - الذي كان على استعداد دائم لنحت ألفاظ جديدة - ماهية الحقيقة باسم «المتخيلة
imaginal »، للدلالة على نشاط واع يعد الخيال أقرب نظير بشري له، وهو ينحت لها لفظا آخر، هو لفظ
conspiring ، فهو نشاط لا متناه، يجمع بين خلق كل ما في العالم وحفظه، وبين إنتاجه وإكثاره. وما الطبيعة إلا مرحلة في عملية الخلق الكلية، فهي مغامرة أو محاولة إلهية، إن جاز هذا التعبير، والقوى الدافعة لها هي القوى الجديدة العرضية الدينامية الخلاقة، لا التحديد العلي بما فيه من تماثل دائم. وهكذا فإن عالم الفيزياء ليس عالما حقيقيا، وإنما هو عالم تصوري فحسب، وهو طيف بلا قوام، إذا ما قارناه بعينية العالم الواقعي وامتلائه وتنوعه اللامتناهيين.
وهو ينظر إلى المرحلة الأصلية للوجود على أنها انسجام سكوني محكم، وعلى أنها كل لا يتغير، لا يوجد فيه من كل شيء إلا بذرته، ويسمي فوست هذه المرحلة باسم «المتخيل العظيم
the great imaginal »، ومنه يظهر بضربة واحدة النظام الطبيعي، الذي تكتسب فيه الأشياء تنوعا ، ويقابل بعضها بعضا، وتدخل في التعاقب الزمني. على أن هذه العملية تعكير للانسجام الأصلي، وهي «سقوط ميتافيزيقي»، أو كما كان شوبنهور خليقا بأن يسميها جريمة الفردانية. وهكذا يسعى المبدأ الكوني إلى الهروب من هذا الرجوع إلى الزمان واستعادة انسجامه. فالنظام الحالي للحوادث هو ساحة تتصارع فيها القوى التي تعمل على الإخلال بالنظام، وتلك التي تعمل على بعث الانسجام، ولا بد أن يكتب النصر للأخيرة؛ لأنها هي التي تضفي على العملية الكونية معناها، أي تطورها الخلاق، وصعودها إلى مستويات أعلى للوجود، وفي هذا الصعود - الذي هو عودة الأشياء إلى قلب الوجود كله - يكون الخلاص من كل نقص وتنافر وشر. إن العالم الذي نحيا فيه مليء حقا بالألم والحاجة والخطيئة، غير أن لنا الحق في أن نفترض أنه قادر على تحسين ذاته، وأنه سيعمل بالتدريج وبمضي الوقت، على مساعدة الخير على الانتصار.
تتحقق في باكس دعوة جرين للجيل الجديد في العقد الثامن من القرن الماضي إلى الانصراف نهائيا عن تعاليم مل وسبنسر، والتحول إلى مؤلفات كانت وهيجل، ففي شبابه كان يلتزم تماما نطاق المذهب التجريبي عند ليويس وبين ومل وسبنسر، كما حضر اجتماعات الوضعيين، وبعد ذلك تعرف إلى إدوارد فون هارتمان في رحلة إلى ألمانيا كان لها أثرها الحاسم في حياته، فأسفر ذلك عن دراسة عميقة للمثالية الألمانية في صورها المتعددة، أقنعته بأن طبيعة الفلسفة الإنجليزية التقليدية سطحية لا أساس لها. هذا التحول الأساسي، الذي نجم عن اتصاله المباشر بخالقي المثالية نفسها، أكثر مما نجم عن اتصاله بأتباعها من الإنجليز، قد حدث في بداية العقد التاسع، وقضى باكس بقية حياته مثاليا، فمنذ ذلك الحين أصبحت ألمانيا بالنسبة إليه وطنا روحيا، كما كانت من قبل بالنسبة إلى كارليل، وكما كانت في نظر معاصره هولدين.
وكان باكس يرى أن القضية الأساسية في المثالية هي المبدأ القائل: إنه لا يمكن أن توجد حقيقة خارج كل علاقة بالوعي، والوعي مركب لا ينفصم، يتألف من عوامل ثلاثة هي، «هذا
that » الذي يدرك، «وشيء ما
some what » هو الذي يدرك، وصورة الفكر، التي هي علاقة متبادلة بين العاملين السابقين. وهكذا تتألف التجربة العينية أو الحقيقة من عاملين على الأقل: أحدهما مادي والآخر صوري، بحيث تكون وحدة الاثنين هي أساس موضوعية الفكر. وإذا تأملنا الأمر من منظور أوسع، لقلنا إن الثنائية الأولية للواقع تبدو على أنها هي التقابل بين المعقول واللامعقول، أو كما يفضل باكس تسميتها، المنطقي واللامنطقي. وليس معنى ذلك أن هذين يحدثان، أو يمكن أن يحدثا، منفصلين في التجربة العينية، وإنما هما قابلان للتمييز الواضح بالمعنى الحقيقي، أي بمعنى أن أحدهما يسود في مراحل معينة للواقع، والآخر يسود في مراحل أخرى. فإلى العنصر المنطقي ينتمي كل ما يقع في مجالي الفكر والعقل، أما اللامنطقي فيوصف بأنه هو الإحساس الخالص، وهو النزوع والقوة الدافعة في كل حركة وتغير، فالأول يمثل الأوجه السكونية الكلية اللامتناهية للواقع، والثاني يمثل النواحي الحركية والجزئية والمتناهية، الأول إمكان، والثاني واقع، والأول قانون، والثاني اتفاق.
ونستطيع باستخدام لغة ريكرت
Rickert ، أن نصف تفكير باكس بأنه «متغاير الأسس
beterothetic »، إذ يبدأ بتأكيد الواحد «والآخر»، فالاثنان معا هما اللذان يؤلفان الواقع كله، والتخلي عن أي منهما لا يدع شيئا سوى التجريد الخاوي، وفي رأي باكس - وهو رأي غير صحيح - أن طرح العامل اللامنطقي جانبا هو السمة والمغالطة المميزة لفلسفة هيجل؛ ذلك لأن معارضة باكس لأي مذهب واحدي من هذا النوع، وهي المعارضة التي رأى أنها هي مهمته الرئيسية؛ قد جعلته يميل إلى الانتقال إلى الطرف المضاد الآخر، بحيث أضفى على العامل اللامعقول القيمة الميتافيزيقية العليا، فهو يعرض العملية الكونية على أنها صراع مستمر بين المبدأين، بحيث يسعى المنطقي على الدوام إلى قهر اللامنطقي، ولكنه لا ينجح أبدا في ذلك نجاحا كاملا، وهكذا يميل إلى أن ينسب إلى اللامنطقي مركزا مطلقا، وينتهي - بعد التوحيد بينه وبين الإرادة - إلى مذهب في شمول الإرادة
panvoluntarism
يشترك في نقاط كثيرة مع مذهب شوبنهور. وإلى هذا الحد نراه يحيي الصراع القديم الذي احتدم داخل المثالية الألمانية بين مذهب هيجل ومذهب شوبنهور. وفي الوقت ذاته أدى به النظر إلى المطلق على أنه إرادة، إلى معارضة فكرة برادلي وبوزانكيت عن النسق التام الاكتمال، الذي يظل محتفظا بانسجامه السكوني الهادئ من فوق كل ما تتصف به الأشياء من عدم استقرار وتنافر، فالمطلق عند باكس هو حركة دينامية وصيرورة مستمرة، وهو تطور دائم التقدم، ولكنه غير متجانس، نحو تحقيق الوعي الذاتي لنفسه، وتلك صورة تحمل طابع فكرة الإرادة عند شوبنهور والمدة عند برجسون.
ويتبدى التقابل الأساسي داخل الواقع، في مجال الأخلاق، في صورة التقابل بين الخير والشر، ولكن عندما انتقل باكس إلى عرض تفاصيل هذا التطبيق لمبدئه الميتافيزيقي العام، تناقض على نحو غريب مع مذهبه الميتافيزيقي؛ إذ يظهر لنا، في هذا المجال، أن الخير، لا الشر، هو العامل الأقوى. صحيح أن الشر لا يمكن أن يقضى عليه تماما، بل ينبغي أن يظل إمكانه على الأقل قائما على الدوام، غير أن الشر العيني - كما نعرفه - عابر، ولا بد أن يقهره الخير ويمحوه. وإذن ففي العملية الكونية ميل أصلي نحو التحقيق الظافر للخير، وفي التجربة ترجح كفة الخير على الشر دائما، فالهدف هو الخير، بحيث لا يظل الشر قائما إلا من حيث هو إمكانية فارغة. وهنا ينزلق باكس على الرغم منه إلى مياه التفاؤل الضحلة عند هيجل وبرادلي، ملتفا بسفينته دون اهتمام بما يقع فيها من تناقض حول صخور تشاؤم شوبنهور، وهي الصخور التي لو كان قد استرشد ببوصلته الميتافيزيقية، لتحطمت سفينته عليها تماما، ولنتحدث بلغة مجازية أخرى، فنقول: إنه عقد زواجا غير موفق تماما بين اللامعقولية الميتافيزيقية وبين التفاؤلية، أو بين مبدأ أساسي عند شوبنهور وبرجسون، ومبدأ أساسي لا يقل عنه أهمية عند هيجل وبرادلي.
أما نظرية المعرفة عند باكس، التي لا يتسع المقام هنا لعرضها، فتسير في عمومها في اتجاه كانت، كما أن فلسفته في تحقيق الإنسان لنفسه روحيا، ترتكز على نظرية في القيم يلمح إليها أكثر مما يعرضها صراحة، وهي تلتقي في نقاط متعددة مع أفكار فندلبانت وريكرت. أما فلسفته في المجتمع فهي ترتبط بالماركسية، كما يتوقع المرء من دفاعه الحار عن الاشتراكية، وإن يكن يفسر الماركسية تفسيرا مثاليا، ويرفض بذلك نظرية ماركس المادية في التاريخ.
والواقع أن الاستقبال الذي لقيته أفكار باكس لا يتمشى مع قيمتها على الإطلاق، فلم يكن له تأثير يستحق الذكر، كما أن الفلاسفة الأكاديميين كانوا يجهلونه تقريبا، ولما لم يكن قد درس أو درس في جامعة، وإنما سار في طريقه الخاص، فقد لقي نفس مصير الكثيرين غيره من الدخلاء، فقد نظرت إليه الأوساط الجامعية المقفلة على نفسها باستياء؛ فأحس مثل شوبنهور - الذي كان يشترك معه في نقاط كثيرة - بشيء من السخط على «الفلسفة الاحترافية لأساتذة الفلسفة».
127
كان هورنلي - مثل مرتس
Merz - ألمانيا في أصله وفي تعليمه الأول، ولكنه كان مواطنا إنجليزيا، وكان أول معلم فلسفي له، وهو طالب بكلية باليول بأكسفورد، هو إدوارد كيرد؛ فاكتسب منه أول ميوله الفلسفية. ولقد عمل بضع سنوات مساعدا لبوزانكيت في سانت أندروز، فبدأت بينهما صداقة دامت حتى وفاة بوزانكيت.
وكان تأثير بوزانكيت في هورنلي أعظم من تأثير أي مفكر آخر فيه: «فبقدر ما أستطيع أن أحكم، أجد نفسي مدينا له بالإطار الأساسي لتفكيري الفلسفي الخاص، أكثر مما أدين به لأي كاتب آخر على حدة»،
128
على أنه - باستثناء ذلك - لم يكن مقيدا بأية مدرسة بعينها أو بأي اتجاه خاص، وإنما كان جهده موجها إلى الانتفاع من أذهان متعددة في سبيل هدف مشترك، محاولا أن يحقق ما أسماه بوزانكيت «بالتقاء الأضداد في الفلسفة المعاصرة». وكان يسعى إلى ما أسماه - مقتديا بمرتس
Merz - بالنظرة الجامعة أو الموقف الجامع، وهو الجمع في التفكير بين كل الأوجه المختلفة للتجربة في كل منظم. وهو ينظر إلى الروح الفلسفية على أنها - في أعلى تعبير عنها - روح الكل، بحيث إن التفلسف ما هو إلا تلمس التفكير طريقه إلى موقف عقلي من الكون في مجموعه ، على أن ذلك يعني في نظره أن يضيف المرء إلى المذاهب الموجودة مذهبا آخر، يحدد فيه لكل شيء مكان ثابت؛ فليس جمود المذهب هو المطلوب، وإنما المطلوب هو اتساق الموقف، دون تقيد بمدرسة أو تبعية لعقيدة.
ويظل موقف هورنلي الجامع ساريا في معالجته للمشكلات الخاصة، فلنتناول - على سبيل المثال - مشكلة الكليات أو تصورات الفئة؛ فهو - كالهيجليين - يعدها عينية لا مجردة، وهي لا تمثل فقط إدراك عدة أشياء على أنها متماثلة، بل أيضا إدراك فروقها الفردية في سياق متماثل، بحيث يمكن تطبيقها أيضا على المراحل المتعددة لسلسلة نامية
developmental series
بل على صور القيمة المثالية. وهكذا فإنها لا تمكن من قيام الأحكام الوصفية والتصنيفية فحسب، بل تمكن من قيام الأحكام المعيارية أيضا.
ولما كان مركز هورنلي قد أتاح له أن يوسع نطاق تفكيره ويسير فيه بحرية، فقد أخذ عن التفكير المعاصر واستوعبه كما وجده إلى حد بعيد، وكان موقفه العام مثاليا بمعنى أنه تأملي موجه إلى الكل. أما تعاليمه فلا تتميز في جميع أجزائها بالمثالية، وليست كذلك بالضرورة، وإنما تحوي عناصر مستمدة من أشد المذاهب والاتجاهات تباينا، وخاصة تلك التي كانت موجودة في العالم الأنجلوسكسوني في أيامه؛ ففيها عناصر من برادلي وبوزانكيت وغيرهما من المثاليين، ومن فلسفة الطبيعة عند هويتهد، ومن نقد «برود
Brood » للآلية، ومن فلسفة ج. س. هولدين
J. S. Haldane
البيولوجية، ومن «النزعة الكلية
Holism » عند سمطس
Smuts ، ومن الصورة الخاصة التي اتخذها المذهب السلوكي عند هولت
Holt ، ومن فلسفة الدين عند وب، كما أن فيها عناصر من مينونج
Meinong
وهوسرل وبرجسون. فتفكيره تلفيقي توفيقي، وهو، كأي مذهب تلفيقي، جذاب أكثر مما هو محكم، ومتقبل سلبيا أكثر مما هو أصيل، ومركب صناعيا أكثر مما هو خلاق.
لا تكاد مثالية «ولدن كار» ترتبط على أي نحو بالكانتيين والهيجليين الإنجليز، فهي تستلهم مصادر أخرى وتستمد محتواها منها. ولقد كان مجرى حياته ذاته غير مألوف إلى حد بعيد، بل يمكن القول إنه كان مثيرا، فقد كان في البداية كاتبا في البلدية، ثم في شركة للأسهم والسندات وحضر في هذه الأثناء دراسات مسائية في «كنجز كوليدج» بلندن، فتولد لديه اهتمام بالفلسفة (وكان الكتاب المحببون إلى نفسه هم أفلاطون وباركلي وهيوم). وانضم إلى الجمعية الأرسططالية في السنة الثانية من إنشائها، وسرعان ما أصبح سكرتيرها وواحدا من أبرز أعضائها . وكان قد تجاوز الخمسين من عمره عندما أدى ظرف عارض إلى تنبهه إلى كتاب برجسون «التطور الخلاق» الذي كان قد ظهر حديثا، كما وجد أن اهتمامه موزع بين مثالية كروتشه وجنتيلي من جهة، وفيزياء أينشتين الجديدة من جهة أخرى، ومنذ ذلك الحين انفجر نشاطه، وتبدى ذلك في سلسلة ضخمة من الكتابات الفلسفية التي شملت ترجمات، ومؤلفات للعرض والشرح، ومحاولات مستقلة لبناء مذهب بناء، وقد شغل أول منصب أكاديمي له وهو في الحادية والستين من عمره، وهو كرسي الفلسفة بجامعة لندن، ثم انتقل بعد سبع سنوات إلى كرسي مماثل في أمريكا، وكرس له السنوات الست الباقية من حياته الغريبة الرائعة.
أما نظرته الفلسفية الخاصة، التي عرضها أولا في كتاباته النقدية الشارحة، فقد بلغت صورتها النهائية في كتابه «أفكار تأملية»، وهو كتاب موجز ولكنه مثقل بالمعاني. ويتألف الكتاب من مركب من عدة اتجاهات فكرية كان قد استوعبها استيعابا خارجيا. وقد احتلت ميتافيزيقا برجسون مكان الصدارة بين هذه الاتجاهات؛ إذ إن تعرفه إليه لأول مرة كان له فيه تأثير بلغ من العمق حدا جعله يسمي هذا التأثير تحولا فلسفيا كاملا. ولقد كان هو أول من دعا إلى البرجسونية في إنجلترا، وظل أكثر أنصارها تحمسا، وكان يعد صاحبها آخر فيلسوف عظيم ظهر في العالم، ونبي مذهب مثالي جديد في الفعل والخلق. أما المؤثر التالي فأتاه من المثالية الإيطالية التي بذل جهده لكي ينشرها بدورها، وأتى المؤثر الأخير من الفيزياء الجديدة، ففي النزاع الذي نشب بوجه عام بعد الحرب، حول التفسير الفلسفي لنظرية النسبية، انضم إلى صفوف أولئك الذين علقوا عليها أهمية كبيرة، وحاولوا استخلاص نتائجها الفلسفية واستيعابها، وأصبح هدفه الأساسي إيجاد «تحالف ودي» بين الفيزياء الحديثة والميتافيزيقا الحديثة، وأكد مرارا - على وجه العموم - ضرورة التعاطف والتعاون الوثيق بين الفلسفة والعلم. وكان يعتقد أن نظرية أينشتين تمثل تجديدا وتحقيقا لمذهب الذرات الروحية عند ليبنتس على يد مناهج العلم الحديث، وأن النظرية الجديدة في الذرة، ولا سيما نظرية الكم، لها أهمية عظمى بالنسبة إلى المثالية؛ لأنها هدمت أساس المادية التوكيدية، التي ارتكزت على فيزياء عفى عليها الزمان. ولقد كان تأثير ليبنتس عليه أقوى من تأثير أي مفكر قديم آخر. وكان آخر تعبير عن فلسفته في كتابه «أفكار تأملية» هو في الواقع نظرية في الذرات الروحية، تابع فيها نظرية ليبنتس في نواح عديدة هامة. وله كتاب سابق بعنوان «نظرية في الذرات الروحية» يحاول فيه إيجاد مركب بين ميتافيزيقا ليبنتس وبين فيزياء أينشتين، أما في نظرية المعرفة فإن موقفه يقترب كثيرا من موقف باركلي، مع استخلاص نتائج تنتمي إلى مذهب «الذات الوحيدة» (
Solipsism )، وهي نتائج لم يتردد في إعلانها صراحة.
ومن الواضح «أن هذه المثالية الجديدة» - على خلاف القديمة - لم تكد تتأثر بالحركة الفكرية التي بدأت بكانت وبلغت قمتها عند هيجل، فهي تشابه المثالية القديمة في مهاجمتها للمادية والحتمية والتطورية وغير ذلك من صور المذهب الطبيعي في القرن التاسع عشر، غير أن هجومها كان قائما على القول بأن العلم الجديد في القرن العشرين قد هدم النظريات العلمية التي ارتكزت عليها هذه المذاهب، وكان هذا هو السبب الجديد الذي قدمه لاستبدال التطور الخلاق بالتطور الآلي، والحرية والتلقائية بالضرورة، والصيرورة بالوجود، والأفعال بالأشياء، والحياة بالمادة، والحدس بالذهن المقالي.
وهكذا ينبغي إدراج مذهب كار ضمن «فلسفات الحياة» التي يتميز بها وقتنا هذا، والتي أثبت برجسون أنه أروع وأقوى ممثل لها. وتقترب هذه الفلسفة في نواح معينة من البرجماتية، وإن لم يكن التقارب معترفا به. أما الصفات التي ادعتها لنفسها فهي أنها مثالية (على غرار ليبنتس وباركلي) في الميتافيزيقا، وإدارية في الأخلاق، ومجددة في الدين، ونسبية في العلم. وعلى الرغم من كل ما بدا عليها من وحدة، فقد تأثرت بعمق بكثرة مصادرها، التي بلغت من التنوع حدا يحول دون إيجاد أي مركب أصيل بينها. وهكذا لم يفلح كار في صهر كل ما وضعه في بوتقته؛ فكانت النتيجة - على أحسن الفروض - خليطا مركبا. وعلى الرغم مما أداه من خدمات هائلة، كانت تنطوي على إنكار للذات يصل إلى حد التضحية، في سبيل إيقاظ الاهتمام الفلسفي ونشر الثقافة الفلسفية، فمن الواجب النظر إليه على أنه مفكر تلفيقي متمكن، أكثر منه مفكرا أصيلا، غير أنه كان أكثر الشخصيات جاذبية وأحقها بالاهتمام من بين أولئك الذين خدموا الفلسفة وهم هواة.
كان مرتس - مثل بلفورت باكس - «دخيلا»، فبعد فترة قصيرة من التدريس الأكاديمي، دخل عالم الصناعة، غير أنه ظل في ميدانه الجديد مخلصا للموضوع الرئيسي لاهتمامه العلمي، فكان يقضي في دراسة الفلسفة أوقات الفراغ البسيطة التي سمحت له بها مسئولياته الضخمة في أعماله الاقتصادية. ولقد ذكر هو ذاته أن مؤلفه الرئيسي، تاريخ الفكر الأوروبي، الذي يقع في أكثر من 2500 صفحة، قد كتب معظمه في ساعات الصباح الباكر، ما بين الساعة الخامسة والثامنة، قبل أن يبدأ العمل في أعبائه الثقيلة، ولكنه لم ينج من المصير المألوف لأي مفكر دخيل؛ فلم يلق من الفلاسفة المحترفين ما يستحقه من الاعتراف، بل إنهم لم ينتبهوا إليه إلا قليلا، أو لم ينتبهوا إليه على الإطلاق.
ولقد أثبت مرتس في هذا الكتاب أنه مؤرخ ومشيد لمذهب في آن واحد، فهو قد أثبت مقدرته من حيث هو مؤرخ؛ إذ إن الكتاب إنتاج تظهر فيه المثابرة وسعة الاطلاع التيوتونية بكل وضوح، ويجمع على نحو موفق بين دقة البحث وبين سعة الأفق والتبصر التاريخي العميق، فهو عمل من الطراز الأول. وكانت المهمة التي أخذها مرتس على عاتقه هي عرض الحياة الروحية للقرن التاسع عشر، بكل مظاهرها المتعددة، في صورة واحدة جامعة. وعلى الرغم من أنه لم يستطع أن ينجز مجلدين كان يعتزم إصدارهما عن الأفكار الشعرية والدينية في ذلك القرن، فإن المجلدات الأربعة المنشورة تكون عملا قويا لم يكتمل، ودليلا بليغا على مقدرة مؤلفها الفريدة ونشاطه الذي لا يكل.
كذلك وضع مرتس لنفسه، في ميدان الفلسفة، خططا طموحة، مستهدفا تشييد مذهب قائم على أسس واسعة، وهنا أيضا لم يستطع إنجاز خططه وإكمالها، غير أن من الممكن بسهولة إدراك الاتجاه الذي كان يسير فيه تفكيره، من خلال تلك الأسس التي وضعها بالفعل لمذهبه، فقد كان التأثير الحاسم على تفكيره هو تأثير الفلاسفة الألمان، وهو لم يتأثر بكانت وهيجل بقدر ما تأثر بليبنتس وشيلر ماخر ولوتسه، وأهمهم هذا الأخير، الذي اتصل به شخصيا خلال الفترة القصيرة التي درس فيها في جوتنجن. وبعد عودته إلى إنجلترا تأثر أيضا بالاتجاهات الفكرية الإنجليزية المميزة، ولا سيما تلك التي ارتبطت بباركلي وهيوم، والنوع الجديد من علم النفس الاستبطاني الذي استحدثه وورد وجيمس، أما الحركة المثالية الجديدة في إنجلترا فلم تكد تؤثر فيه على الإطلاق.
ولقد كان جهده الأساسي، الذي عبرت عنه كتاباته التاريخية والفلسفية على السواء منصرفا إلى بلوغ ما أسماه بالنظرة «الجامعة
Synoptic » إلى الواقع، بحيث ينظر إلى أي كل، لا في كثرة أجزائه وعلاقاته فحسب، بل في كليته أيضا؛ فتلك في نظره هي المهمة المميزة للفلسفة، التي ترتد لهذا السبب آخر الأمر إلى نوع من الرؤية الفنية، على الرغم من كل ما في تفاصيلها من دقة وما في براهينها من إحكام. ومن هنا كان حرصه على التوفيق بين العلم والدين، اللذين كان انفصالهما وتنافرهما في رأيه خطرا يهدد وحدة حياتنا الروحية. ولقد طبق على هذه المشكلة العامة منهجه الجامع، كما طبقه على عدد من المشكلات الخاصة، كمشكلة العلاقة بين العالم الباطن والعالم الخارجي، وبين الذات والموضوع، وبين الواقع والقيمة، وحاول، مستلهما روح لوتسه، أن يزيل الشقاق القديم بين حاجات القلب ونتائج البحث العلمي، ولم يكن يحتقر العلم - فقد كان له هو ذاته إلمام واسع بالفيزياء والكيمياء - ولكنه رأى أن كل بحث علمي لا يتعلق بالتجربة أو الواقع من حيث هو كل، وإنما بوجه محدود جدا له، متبعا في سيره مناهج الانتقاء والتجريد والتحليل والتصنيف. ولا ينتقل إلى مرحلة الإدراك التركيبي إلا في مرحلة متأخرة، وفضلا عن ذلك فالعلم لا يدرس إلا الوقائع لا القيم. أما وجهة النظر الدينية فهي - على العكس من ذلك - تدرك التجربة من حيث هي كل، وتؤكد الارتباطات الإيجابية الهامة في داخلها، وتتجاوز الوقائع إلى القيم، وتركز اهتمامها على الطابع الشخصي للعالم الخاص الذي تكونه القيم، في مقابل العالم اللاشخصي للعلم، والمنهج المتبع في حالة الدين جامع موجه صراحة إلى كشف لغز الشخصية، الإنسانية منها والإلهية، وهي المشكلة التي يعجز العلم الطبيعي عن حلها، وفي هذا التأكيد لمشكلة الشخصية يقترب مرتس من لوتسه.
ولقد أدى تطبيق مرتس لهذه النظرة الجامعة على مشكلات علم النفس ونظرية المعرفة إلى وقوفه موقف المعارضة الشديدة من هيوم، الذي كان يحمل له مع ذلك احتراما شديدا ويدين له بالكثير. فقد أوضح أن هيوم، عندما حل الوعي إلى حزمة من الانطباعات تتصور على مثال الذرات المادية، قد أغفل حقيقة واضحة هي أن الوعي سابق على تحليله، وينبغي أولا أن يوجد لكي يمكن القيام بأي تحليل له. وهكذا كان مرتس متفقا تماما مع علم النفس الجديد عند وورد في استعاضته عن الفكرة القديمة القائلة بمجموعة متراكمة من المعطيات المنفصلة المفككة، بفكرة المجرى المتصل للوعي، وفي إدخاله للمعطيات الانفعالية والإرادية داخل هذا المجرى المتصل إلى جانب الإحساسات. وقد أدى به التفكير في وحدة الوعي إلى القول بأن التنوعات والتميزات التي تجلبها التجربة - والتجربة وحدها - تفترض كلها نوعا من الوعي «الأولي
primordial »، الذي يتصف هو ذاته بعدم التنوع وعدم الانقطاع، والذي يتخلص بالتالي من أنواع الانفصال، كذلك الذي يوجد بين الذات والموضوع، أو بين الذهن والجسم. وواضح أن هذا الرأي يشبه إلى حد بعيد فكرة برادلي في التجربة التي لا تعرف توسطا، والتي تتألف من إحساس محض. وليس من المؤكد إن كان مرتس قد استمدها من برادلي أو توصل إليها مستقلا، غير أن الواضح أن هذه الفكرة يمكن أن تندرج - بطريقة طبيعية عضوية - في مذهب كذلك الذي يتطلبه مثله الأعلى في النظرة الجامعة إلى الأمور.
अज्ञात पृष्ठ