فوق السحاب
أكابد الواقع، وهو يعاندني، يستوي في ذلك يومه وغده. لم أنل من عطايا الدهر إلا تكوين أسرة وإنجاب ذرية، وفي ذات الوقت عجزت عن إسعادها وبالتالي عن إسعاد نفسي. ولولا التطابق الفريد بين سوء حالي وسوء حال البلد ما فكرت في البلد، ولكنني وجدت أسرتي تعكس صورة البلد والبلد يعكس صورة أسرتي. كلتاهما يعاني من كثرة العدد وقلة الموارد واختلال التوازن بين الدخل والمنصرف وتكاثر الديون وتجهم المستقبل، غير أنني لم أخف عن ذوي حقيقة وضعنا، ولم أعد بشيء يفوق قدرتي. ولعجزي عن تحسين حالتي فضلا عن عجزي عن تحسين البلد غشيتني الكآبة وبادرني الشيب قبل الأوان. ولم أجد ما أروح به عن نفسي في خلوتي إلا الحلم، هو الذي شق لي طريقا جديدة، ويسر لي رزقا وافرا، وهيأ لي صحة وعافية وعلاقات إنسانية حميمة، ورفعني إلى عالم جديد، وحقيقة سامية، وعدل شامل، وتطلع باهر إلى عالم الغيب. وفي أتون المعركة بين الحقيقة والخيال طال ليل الشقاء وامتد، وانكمشت تحت الغطاء بكل جوارحي المرتعدة، فقلقت زوجي واقترحت أكثر من وصفة للعلاج، ولكني تمنيت النوم باعتباره المنقذ من الاضطراب والألم. ولم أنم ولم تهدأ الثائرة وأصابتني في الأعماق ضربة رادعة، مفاجأة وأي مفاجأة. وارتفعت في جو الغرفة كأني طير يطير في هدوء ووقار، ولبثت معلقا بسقفها، غير غائب عن خاطري ما خبرته من معلومات عن الهذيان والحمى. وأنظر فأرى جسدي مطروحا على الفراش، والجميع يتطلعون إليه من خلال دموع منهمرة. هي الحمى ولا شك، وكل ما تموج به الغرفة من حركات وأصوات تبدو لي خالية من أي معنى. دعوتهم إلى التزام الهدوء والصمت فلم يسمعوا. راقبتهم في سكينة كاملة، ومضى اهتمامي بما حل بهم يضعف ويتلاشى رويدا رويدا، ومنظرهم يغوص في العمق ويتضاءل حتى اختفى تماما. وامتد أمامي ممر طويل مجوف غائم الأرض والجدران يلوح في طرفه القصي نور رائق. أتقدم فيه بخطوات ثقيلة متعثرة، ومترنحا أحيانا، وبقلب يفتقد الأمان. وفي مستقر النور يلوح لي وجها أبي وأمي، يرمقانني بحنان، فأهرع نحوهما متخففا من مخاوفي. ثم أذكر حاجز الموت الذي يفصلهما عني، فأتوقف في حذر، وأهمس كالمعتذر: لعلي أحلم!
فيجيء صوتاهما معا كأنهما صوت واحد: بل تستيقظ.
ويقبلان نحوي في ثوبين من السحاب، ويتأبط كل منهما ذراعا، ويقولان: انتبه، أصبحت معنا بلا فاصل.
وقلت لنفسي: إن الحلم لا يكون بهذا الوضوح، وهمست: نعم، إني منتبه تماما. - هذا حسن. - ولكني أشعر في داخلي بكابوس ثقيل. - سينقشع عندما تبرأ من أخطائك.
قلت برجاء: سوف تساعدانني.
فقالا معا: بل تنتهي مهمتنا هنا، اعتمد على نفسك.
وتلاشيا في لحظة خاطفة، وسرعان ما وجدتني في عالمي الجديد. عالم جديد حقا لا أملك أسماء لمفرداته . مكان وليس بمكان، ضوء وليس بضوء، ألوان وليست بألوان، أشجار وليست بأشجار، بيوت وليست ببيوت. أرضه وسماؤه مغطاة بالسحب، مترام بلا حدود، بيوته من السحب أيضا ممتدة في صفوف متوازية تفصل بينها مسافات شاسعة، أشجاره هائلة، ألوانها جديدة تماما وذات تأثير عميق في الحواس. ويغمره ضوء ثابت هادئ جديد أيضا، فلا هو شفق ولا هو غسق. لأول وهلة خيل إلي أنني وحيد في وجود لا متناه. ولكن الوحشة لم تثقل علي طويلا ولم تدم. فهذا الوجود المحيط بي ينتفض بحياة غامضة. إنه حي وعاقل أيضا ويرنو إلي باهتمام، وكأنما يتساءل عما سأفعل. وفي البيوت أحياء منشغلة بشئونها، تترامى إلى أذني الباطنة تسبيحاتها. هل أطرق بابا لأسترشد بمن في الداخل؟ ولكن إذا كان والداي قد تخليا عني فكيف بالغرباء؟! لم يبق لي سوى أن أعتمد على نفسي، ولكن كيف أبدأ؟ وأين أتجه؟! ويقبل علي شخص جليل يرفل في ثوبه السحابي، ويطالعني بوجه آية في الإشراق والجاذبية. وبنظرة من عينيه أمرني أن أتبعه، حتى وقف أمام بيت وهو يقول: بيتك.
نظرت إلى بيتي بحب استطلاع فقال: انتظر، لن تدخل حتى تستحم.
فأشرت إلى قلبي قائلا: ثمة كابوس يجثم فوق صدري. - من أجل ذلك يجب أن تستحم أولا.
अज्ञात पृष्ठ