أن العرب في الجاهلية كانوا يعيشون قبائل، وهذه القبائل تختلف فيما بينها - كثرة وقلة - في اللغة وفي اللهجة، فقد تستعمل قبيلة كلمة ولا تستعملها القبيلة الأخرى، أو تستعمل غيرها، فقد روي «أن أبا هريرة لما قدم من دوس عام خيبر لقي النبي
صلى الله عليه وسلم - وقد وقعت من يده السكين - فقال له: ناولني السكين، فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة، ولم يفهم ما المراد باللفظ، فكرر به القول ثانية وثالثة، فقال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها فقيل له: نعم، فقال: أوتسمى عندكم السكين ؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ»، وهذه اللغات بدأ توحيدها قبل الإسلام واستمر هذا العمل في الإسلام، فقد تكون قبيلة استعملت كلمة لم تستعملها الأخرى، أو استعملت غيرها، خصوصا وأن بعض البيئات الطبيعية والاجتماعية لقبيلة قد تخالف ما للقبيلة الأخرى؛ فقبيلة على الساحل وأخرى في جبل، وثالثة في سهل وهكذا، فإذا لا يصح لنا إذا عثرنا على كلمة في شعر شاعر أن نستدل بها على الحياة العقلية للعرب أجمعين. (الثالثة):
أن كثيرا من الألفاظ العربية خلق في العصر الإسلامي، قال ابن جني في الخصائص: «إن العربي إذا قويت فصاحته، وسمت طبيعته، تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه، فقد حكي عن رؤبة وأبية أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاها ولا سبقا إليها»، وهناك ألفاظ تغيرت معانيها في الإسلام كأن يكون المعنى عاما في الجاهلية وخصص في الإسلام، كالصلاة والزكاة والحج والبيع والمزارعة ونحو ذلك، بل إن اللفظ الواحد قد يتغير مدلوله في عقل السامع بانتقاله من طور إلى طور في الحضارة، فلفظ الكرسي والمائدة والخوان والمطبخ والكانون والملهى له مدلول في ذهن البدوي غير مدلوله في ذهن الحضري؛ فالكرسي في ذهن البدوي أبسط شكل يطلق عليه اسم كرسي، وفي ذهن الحضري أشكال مختلفة من الكراسي لم يكن يتخيلها البدوي، إن شئت فانظر إلى ما نفهمه نحن الآن من مؤتمر وصحافة وجريدة ومطبعة وما كان يفهمه البدوي في الجاهلية من هذه الألفاظ، بل وما يفهمه العربي في العصر العباسي منها.
فما معجم الألفاظ للجاهليين قبل الإسلام؟ وهب أنك عثرت عليها، فما مدلولها بالدقة عندهم؟ ذلك مطلب عسير المنال.
قد تقول: إن في القرآن غناء عن ذلك، فقد نزل بلغة العرب وفهمه العرب وقت نزوله، ونصه لا يحتمل الشك، فنستطيع أن نتعرف منه لغة الجاهليين، فنقول: صحيح أن القرآن نزل بلغة العرب، ونصه لا يحتمل الشك، وهو يفيدنا في تعرف كثير من حياة الجاهلية العقلية فيما يحكي من أقوال المعاندين، وفيما يصور من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، ولكن ألفاظه وتعبيراته ومعانيه لا تمثل لغة الجاهليين بأكملها؛ لأن القرآن استعمل ألفاظا لم يكن يستعملها الجاهليون، وخصص ألفاظا لمعان لم يكن يخصصها الجاهليون، واستعمل استعارات ومجازات خارجة عن الدائرة التي كان يستعملها الجاهليون، وله أسلوب أخاذ كان بعيدا عن أسلوب الجاهليين، وله معان كذلك؛ قال السيوطي في المزهر: «قال ابن خالويه: إن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة، والمنافق اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية، وقال ابن الأعرابي: لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق ... إلخ»، فلا تستطيع بعد ذلك أن تقول: إن معجم القرآن ومعانيه وأمثاله تمثل الحياة العقلية من الناحية اللغوية.
وبعد؛ فمع كل هذه العقبات نرى أن ما يسلم من شعر ومثل صحيحين يدلنا - نوعا ما - على حياتهم العقلية، كما يدلنا كم ثوب عثر عليه على طول الثوب نفسه وسعته، على اختلاف في الصعوبة بين الماديات والمعنويات.
وهذا الباقي يدلنا على غنى معجم اللغة قبل الإسلام، وخاصة فيما يتصل بنوع معيشتهم، وقد عبر عن ذلك الأستاذ «نولدكه» خير تعبير إذ يقول: «إنا ليتملكنا الإعجاب بغنى معجم اللغة العربية القديم، إذا ذكرنا مقدار بساطة الحياة العربية وشئونها، وتوحد مناظر بلادهم واطرادها اطرادا يدعو إلى السآمة والملل، وهذا يستتبع حتما ضيق دائرة التفكير، ولكنهم في داخل هذه الدائرة الضيقة وضعوا لكل تغير - وإن قل - كلمة تدل عليه؛ ويجب أن نقر بأن معاجم اللغة العربية قد تضخمت كثيرا بكلمات استعملها الشعراء وصفا لأشياء فذكرها اللغويون على أنها أسماء لتلك الأشياء، فمثلا إذا أطلق شاعر كلمة «الهيصم» على الأسد من الهصم وهو الكسر، وأطلق عليه آخر «الهراس» من الهرس وهو الدق، وضع أصحاب المعاجم الكلمتين على أنهما اسمان مرادفان للأسد، وقد أدخل باب الهجاء - على الأخص - في اللغة وفي الأدب العربي - وهو باب ذهب أكثر ما قيل فيه - تعبيرات كثيرة صاغها قائلوها في صور مبتكرة وأحيانا غريبة، وقد انتقص اللغويون - على ما يظهر - كلمات وردت في بعض الأشعار على قلة، ولم تكن مستعملة إلا في قبائل معينة ، ولكن رغما عن هذا كله يجب أن نعترف بأن معجم اللغة العربية غني غنى رائعا، وسيبقى دائما مرجعا هاما لتوضيح ما غمض من التعبيرات في جميع اللغات السامية الأخرى.
وليست اللغة العربية غنية بكلماتها فحسب، بل بقواعد نحوها وصرفها أيضا، فجموع التكسير وأحيانا أسماء الأفعال كثيرة زائدة عن الحاجة» ا.ه باختصار.
ونحن نوافقه في غنى اللغة العربية غنى مفرطا في الحدود التي ذكرناها من قبل، وهي الحدود التي رسمتها لهم بيئتهم، فهم أغنياء في الجمل وما إليه، والصحراء وما فيها، وألفاظ العواطف المحدودة التي تجيش في صدورهم؛ ولكن ليست غنية فيما خرج عن هذه الحدود كالبحر وعالمه، ولا بأنواع الترف التي ينعم بها المنغمسون في الحضارة، يعرفون القبيلة وما تفرع منها، ويضعون لكل اسما؛ لأن نظام القبيلة نظامهم؛ ولكن لا يعرفون نظام الحكومات ولا أنواع الدواوين، فلم يضعوا لها بالضرورة اسما فلما عرفوا معنى الديوان أخذوا اسمه عمن يعرفه؛ وهكذا، ولم يكن يتطلب منهم في الجاهلية أن يضعوا كلمات لما لم يمس حياتهم، فذلك محال، وحسب الأمة فضلا أن تسمي ما تشعر به الاسم والأسماء، ولكن حسبها مذلة أن تتحضر وتتسع حياتها من جميع نواحيها، ثم لا تريد إلا أن تبقى - من حيث اللغة - في حدود الدائرة الضيقة التي رسمها لهم آباؤهم الأولون.
كذلك مما لا شك فيه أن اللغة العربية غنية باشتقاقها وتصريف كلماتها؛ فوضع صيغة فعلية لكل زمن، والمشتقات العديدة للدلالة على أنواع مختلفة من المعاني والأشخاص، كل هذا يشعرنا شعورا تاما بغنى اللغة وصلاحيتها للبقاء.
अज्ञात पृष्ठ