وزيادة على ما ذكر فإن أقدم ما وصل إلينا من الأدب المصري القديم مفعم بالإشارات عن تلك الزوجة المخلصة التي كانت لا تزال تواصل البحث عن زوجها القتيل : «لقد أتيت باحثة عن أخيك «أوزير» بعد أن هزمه أخوه «ست».»
أما قصة «بلوتارخ» فإنها تجعل «إزيس» تواصل السير في بحثها حتى عرض البحر الأبيض المتوسط إلى أن تصل إلى «جبيل» (ببلوص)، وهو المكان الذي حملت إليه المياه جثة «أوزير» كما مر ذكره. غير أن متون الأهرام تشير إلى أن «أوزير» وجد أخيرا فوق شاطئ «نديت»، وهو المكان الذي ذبح فيه «أوزير» بيد «ست»، ويجوز أن «نديت» كان في الأصل اسما قديما لإقليم «ببلوص»، وإن كان موقع «نديت» المذكورة قد حدد فيما بعد في «العرابة المدفونة» بمصر، ولذلك كان أحد فصول رواية «أوزير» يمثل على شاطئ «نديت» القريبة من «العرابة المدفونة» بمصر.
أما الإلهة «نفتيس» فكانت غالبا ترافق أختها «إزيس» في هذا البحث الطويل عن جثة «أوزير»، وكانت كل منهما ممثلة في شكل طائر: إن «إزيس» تأتي «ونفتيس» تأتي إحداهما على اليمين والأخرى على الشمال ... وقد وجدتا «أوزير» كما صرعه أخوه «ست» على الأرض في «نديت»، وعندما رأتاه قالت «نفتيس»: «لقد وجدته صريعا على جنبه على الشاطئ ... يا أخي لقد بحثت عنك ... ابكي أخاك يا «إزيس»! ابكي أخاك يا «نفتيس»! ابكي أخاك.» ومن ثم صار عويل «إزيس» و«نفتيس» على أخيهما «أوزير» أقدس تعبير معروف عن الحزن لدى قلب المصري القديم، وقد تقلب ذلك العويل في صور متنوعة شتى حتى ظهر أخيرا في الأساطير الأوزيرية الأوروبية فيما بعد ذلك العهد الذي نحن بصدده الآن بنحو ثلاثة آلاف سنة.
وبعد ذلك قامت الأختان بتحنيط جثمان أخيهما حفظا له من الفناء، وبعد أن وضعتاه في قبره نبتت به شجرة جميز، ثم أحاطت بجسد ذلك الإله المتوفى. والجميزة المذكورة هي مثل شجرة «الأريكا» التي ورد ذكرها في قصة «بلوتارح»، وتلك الشجرة المقدسة تمثل الرمز الظاهر لحياة «أوزير» الخالدة التي لا تفنى، وقد كانت في أقدم المصادر القديمة مقدسة أيضا، وكانت تخاطب كأنها إلهة.
وهكذا كانت قصة حياة «أوزير» وموته. على أن حياته التي كانت تمثل لنا دورة من الظواهر الطبيعية لم تكن تقف طبعا عند ذلك الحد، فإنها استمرت في بعثه من جديد كما استمرت أيضا في قصة أخرى أضيفت فيما بعد مأخوذة عن اللاهوت الشمسي، وهذه هي قصة «حور» بن «أوزير» المذكور والنزاع الشمسي الذي قام بين «حور» و«ست»، مع أن هذا النزاع لم يكن «أوزيريا» في الأصل.
وكذلك نلاحظ أن القوة الحيوية عند «أوزير» لم تنقطع أبدا حتى في حالة الموت؛ إذ إن «إزيس» المخلصة قد اقتربت من سيدها المتوفى ثم احتضنته «وأسدلت عليه بريشها فيئا وبجناحيها نسيما ... وبذلك بعثت الحياة ثانية في أعضاء صاحب القلب الساكن المتعبة فوضع فيها نطفته، وبذلك أنجبت منه وريثا له، ثم ربت هذا الطفل في مكان منعزل لم يعرف بعد موضعه، وعندما اشتد ساعده قدمته أمام القاعة العظيمة في عين شمس.»
وقد كان خيال عامة الشعب مغرما بتأمل صورة الأم التي أخفت نفسها في مستنقعات الدلتا التي قامت فيها بتربية «حور» الشاب، حتى إذا «ما اشتد ساعده» صار قادرا على الانتقام من قاتل أبيه. وفي خلال تلك المدة التي ولد وتربى فيها «حور» لم يقعد «ست» مكتوف اليدين طبعا، فقد لقي ذلك الطفل «حور» على يده كثيرا من المخاطرات والمآزق، وقد حفظت لنا من هذه الحوادث نتف صغيرة جدا لا يمكن تأليف قصة متصلة منها، ولكن حتى بعد بلوغ ذلك الصبي أشده وارتفاع قامته ثمانية أذرع (نحو 14 قدما) اضطر مع ذلك لصنع صندوق صغير طوله نحو نصف ذراع يكون مخبأ له يتقي بالاختفاء فيه شرور «ست» وعاديته، وعندما بلغ ذلك الإله الشاب سن الرجولة وصار في مكنته مدافعة الأخطار خرج من مكمنه الذي كان فيه بالدلتا، وأتى مطهرا ليتمكن من الانتقام لأبيه.
وكذلك كان موضوع بر «حور» بوالده محببا إلى عامة الشعب، يسرح خيالهم ويجول مبتدئا بحادث تصدي «حور» لمحاربة أعداء أبيه والانتقام له من «ست». وقد اشتد وطيس الموقعة التي نشبت بين «حور» و«ست» (وهي كما ذكرنا فيما مر، مأخوذة عن المذهب الشمسي) حتى إن ذلك الإله الشاب فقد عينه بيد «ست » عدوه وعدو أبيه، ثم غلب «ست» على أمره، واسترد الإله «تحوت» أخيرا عين «حور» المفقودة بأن تفل ذلك الإله الحكيم على الجرح فصحت وشفيت. وتلك الطريقة التي سلكها الإله «تحوت» لشفاء العين هي بطبيعة الحال نوع من التطبيب الشعبي، تردد ذكره في تلك الأسطورة فنال شهرة وذيوعا ثم تحول إلى آسيا؛ حتى لقد يلوح لنا أن استعماله ظهر مرة أخرى في كتاب العهد الجديد عند ذكر الحادث الذي يصور لنا المسيح مستعملا تلك الطريقة نفسها لإبراء الأعمى، وفي ذلك بلا شك إذعان لعادة منتشرة بين العامة في مثل تلك الحالة.
ثم إننا بعد ذلك نجد «حور» قد أخذ يبحث عن والده القتيل عابرا البحر في سبيل البحث عنه حتى يرفعه من بين الموتى، ويقدم له عينه المصابة التي ضحى بها من أجله. وهذا العمل الذي يدل على البر بالوالد - كما جاء مذكورا في متون الأهرام - ضاعف تقديس «عين حور» التي كانت مقدسة من قبل في التقاليد وفي الشعائر المصرية القديمة حتى صارت رمزا لكل تضحية؛ ولذلك صارت كل هبة أو قربة يصح أن تسمى «عين حور»، وخاصة إذا قدمت باسم القربان لمتوفى. وإذا استثنينا «الجعل المقدس» فإن «العين المقدسة» كانت تعتبر أعظم رمز منتشر نال احتراما عظيما في الديانة المصرية القديمة، ولذلك نرى عشرات الآلاف من الأعين المصنوعة من الفخار المطلي ذات اللون الأزرق أو الأخضر وغيرها مما صنع من الأحجار النفيسة الغالية، ولقد ملئت بتلك الأعين متاحفنا، هذا فضلا عما كان يحضره آلاف السياح معهم إلى بلادنا، وما كانت تلك الأعين في الواقع إلا تذكارات ورموزا لتلك القصة القديمة التي تحدثنا عن «حور» وبره بوالده.
ولدينا فصل في متون الأهرام يحدثنا عن جميع ما جاء في قصة بعث ذلك الإله القتيل، نجد فيه حادث بعث «أوزير» مرددا مرارا وتكرارا؛ وذلك لأن معارضة الإنسان للموت قد عبر عنها بإلحاح بترديد ذكر تلك الحقيقة القاطعة القائلة ببعث «أوزير»، فنرى في تلك المتون أن القبر فتح له: «لقد أخرج لأجلك اللبن
अज्ञात पृष्ठ