فتركته حيث هو، وذهبت أنا ودومينج إلى الساحل لنفتش عن جثة فرجيني، وكانت الزوبعة قد هدأت قليلا فقضينا في البحث عنها زمنا طويلا فلم نعثر عليها، فاشتد حزننا وألمنا، واستولى اليأس على نفوسنا، وبدأ الريب يدب في قلوب الكثير منا، فصاح بعض الناس وقد أدركه مثل الجنون: ألا يوجد لهذا الكون إله يدبره ويرعاه؟ ألا يوجد بين هؤلاء الناس جميعا من يستحق هذه الميتة التي ماتتها هذه الفتاة سواها؟ والنفس الضعيفة تعجز دائما عن احتمال صدمات القضاء، فلا تجد بدا حين تصدمها من أن تروح عن نفسها بالسخط والغضب، وقد تخرج في سخطها أحيانا عن صوابها وهداها، فليرحمها الله، فإنها ما أتيت إلا من ناحية الإيمان بالله والثقة بعدله ورحمته.
وهنا مر بنا بعض الناس وأخبرنا أن التيار قد ألقى ببقايا السفينة على شاطئ الخليج المسمى خليج «وتمبو»؛ أي خليج القبر، فذهبنا إليه نرجو أن نعثر على الجثة هناك، فوجدناها غارقة في الرمل إلا جزأها الأعلى، فنبشنا عنها فإذا هي على الصورة التي رأيناها عليها في ساعتها الأخيرة، وكأنها حية باقية لم تمت، وكأن ماء الحياة لا يزال يجول في وجهها، لولا اصفرار قليل في خديها، وإذا هي لا تزال ضامة ثوبها إلى جسمها وواضعة يدها الأخرى على قلبها، وكأن أناملها تقبض على شيء، ففتحتها فرأيتها قابضة على صورة الرسول بول، التي كان بول قد أهداها إليها قبل سفرها فوعدته أن تحتفظ بها إلى آخر رمق من حياتها، فكأنها تودع صديقها الحميم الوداع الأخير في صورة ذلك القديس العظيم، فأكبرت هذا الإخلاص العظيم كل الإكبار، وأيقنت أن النفس الطاهرة كالذهب الخالص، لا يغيرها شأن من شئون الحياة أو الموت.
ثم حملناها إلى كوخ قريب لبعض الصيادين، وعهدت إلى بعض النساء أن يتولين شأنها حتى نعود، وصعدت إلى الوادي لأبلغ تينك المرأتين المسكينتين ذلك الخبر الهائل، وما أحسبني وقفت في حياتي موقفا أشد علي من هذا الموقف، فدخلت عليهما في الكوخ فرأيتهما جاثيتين تصليان وتدعوان الله تعالى بسلامة ابنتهما من شر هذه العاصفة، وكان الليل قد بدأ يرخي سدوله على الكائنات، ويضرب عليها سرادقا من وحشته وكآبته، فما وقع نظرهما علي حتى ذعرتا وارتاعتا وصاحتا: أين فرجيني؟
فلم أستطع أن أنطق بشيء سوى أنني أطرقت برأسي، فدنت مني هيلين وقد استحالت إلى شبح كأشباح الموتى وقالت لي بصوت خافت متهافت: هل ماتت؟ فاستمررت في إطراقي، ففهمت كل شيء، وما هي إلا صيحة واحدة صاحتها من أعماق قلبها ثم سقطت في مكانها لا يختلج في جسمها عرق واحد، ودارت مرغريت بنظرها فلم تر ولدها أمامها فسألتني أين بول؟ فتلطفت في قص قصته عليها، وحلفت لها بالله أنني أرجو له حسن العاقبة، فلم تعبأ بما أقول، ولم يكن جزعها على ولدها، بأقل من جزع صاحبتها على ابنتها.
ولا أستطيع أن أصف لك يا بني هول تلك الليلة في ذلك الكوخ، فلم تكن ليلة بكاء وعويل، وولولة، كما تكون ليالي الثكل في بيوت الثاكلين، بل ليلة حزن صامت عميق يحبس الدموع عن الانطلاق والزفرات عن التصعيد، وإن أنس لا أنسى منظر تلك المرأة المسكينة وهي ساقطة تحت أعباء ذلك الحزن الثقيل تئن أنين الدفين تحت أنقاض البيت الساقط، وتقلب وجهها في السماء تسألها دمعة واحدة تروح بها عن نفسها فلا تعطاها، وقد تغمغم أحيانا بكلمات مبهمة لا يستمع منها السامع غير قولها: ابنتي! حبيبتي! مسكينة أنت! الرحمة يا رب! المغفرة يا إلهي! ومرغريت تجلس بجانبها تارة لتعزيها وتهون عليها مصابها، وتخرج خارج الكوخ تارة أخرى لتبكي ولدها ما شاء الله أن تفعل، فكان منظر إخلاصها في تلك الساعة أعجب منظر رأيته في حياتي، أما دومينج وماري فقد ظلا يدوران ليلهما حول الكوخ يلطمان خدودهما، ويخمشان وجهيهما، وينتفان شعورهما، ويرسلان صرخاتهما المحزنة الأليمة في جو السماء حتى تلفا أو كادا.
ولم يزل هذا شأننا جميعا حتى انبثق نور الفجر، فانسللت في صمت وسكون من حيث لا يشعر بي أحد وانحدرت إلى الشاطئ، فرأيت أن الحاكم قد أعد كل شيء لتشييع جنازة فرجيني، فكسوا نعشها بصنوف الزهر وأنواع الريحان، وحمله ثمان من عذارى «سان لوي» لابسات حللا بيضاء مشرقة، وتبعه نحو مائتي طفلة من أطفال الدير يمشين صفوفا متتالية، ويحملن في أيديهن سعف النخل وطاقات الزهر، ويرتلن الأناشيد الدينية بنغمة شجية محزنة، ومشى في المقدمة حاكم الجزيرة ووراءه ضباطه وجنوده منكسي أسلحتهم، مطرقي رءوسهم، والناس فيما وراء ذلك بحر زاخر يعج بالبكاء والعويل، والأنات والزفرات، وكانت مدافع الحصون ترسل طلقاتها من حين إلى حين، فتردد صداها مدافع السفن الراسية على الشاطئ.
ولم نزل سائرين في طريقنا حتى وصلنا إلى كنيسة «بامبلموس»، وهناك حي الزنوج المساكين الذي كانت تزوره فرجيني في أيام الآحاد بعد أداء الصلاة في الكنيسة، فتعول فقراءه وتطعم جائعيه، وتعود مرضاه، وتعطف على أيتامه وأرامله، فخرج رجاله ونساؤه، وفتيانه وفتياته، باكين صارخين، فبكينا جميعا لبكائهم، وكانت مناحة عامة جاد فيها بالدمع من لم يجد، وبكى فيها من لا عهد له بالبكاء، ولقد رأيت بعيني أولئك الأبطال الأنجاد الذين يأنفون أن يذرفوا دمعة واحدة من مدامعهم والرماح تنوشهم والسيوف تأخذهم من كل جانب يتهافتون على الجذوع والأحجار باكين منتجين انتحاب الأطفال الصغار، ورأيت جماعة من نساء مدغشقر وموزنبيق آتيات يحملن على عواتقهن أقفاص الفاكهة حتى وضعنها حول القبر، وعلقن على أغصان الأشجار المحيطة به خرقا بيضاء ناصعة، كعادتهن التي اعتدنها في موتاهن الأعزاء، ورأيت جماعة أخرى من نساء الهند والبنغال يحملن أقفاص الطير على عواتقهن ليرسلنها فوق القبر ساعة الدفن، ولعلهن يردن من ذلك تمثيل صعود الروح إلى سمائها ... فما أجل الفضيلة وما أعظم شأنها! إنها الشريعة العامة التي يدين بها الناس جميعا عالمهم وجاهلهم، مؤمنهم وملحدهم، حاضرهم وباديهم، والمعبد المشترك الذي يقف فيه الجميع صفا واحدا أمام هيكل واحد، يرتلون آية واحدة بنغمة واحدة.
وكانوا قد حفروا للميتة قبرا تحت شجرة خيزران مورقة في الجانب الغربي من كنيسة «بامبموس» كانت تجلس تحتها دائما هي وبول حينما كانا يأتيان لزيارة الكنيسة وتوزيع الصدقات على الفقراء والمساكين، فلما حلت ساعة الدفن اشتد البكاء والنحيب، وهرعت الفتيات إلى النعش يلمسنه بأيديهن، ويشرن إليه بمناديلهن وخرقهن، ثم يمسحن وجوههن تبركا كما يفعلن أمام تمثال العذراء، وجأرت الأمهات بالدعاء إلى الله، تعالى، أن يمنح بناتهن الفضيلة التي يمنحها هذه القديسة المباركة ليحيين حياتها، ويمتن موتها، وما هي إلا لحظات حتى انحدر إلى مغربه ذلك الكوكب الفخم الذي خفق في سماء العالم لحظة ثم اختفى.
الفصل الخامس والعشرون
أحزان بول
अज्ञात पृष्ठ