وما هو إلا عام وبعض عام حتى طلب إلي أن أعلمه فن الفلاحة، ولعله أراد أن يصل من طريقه إلى الثروة الواسعة إرضاء لفرجيني، وعلم تقويم البلدان ليعرف النقطة التي تحلها فرجيني من سطح الأرض، وعلم التاريخ ليعرف شيئا من شئون أولئك القوم الذين تعاشرهم فرجيني، فعلمته من ذلك ما يستطيع أن يقوم به مثلي، ولم يلبث إلا قليلا حتى استطاع أن يستقل بنفسه في دراسته تلك العلوم وغيرها مما بدا له أن يعرفه ويزاوله، فأصبح يشعر بلذة عظيمة ما كان يشعر بمثلها من قبل، وسمت نفسه إلى درجة عالية من الفهم والإدراك لم يسمح الدهر بمثلها لفتى في مثل سنه، وفي مثل الزمن الذي قضاه في الدراسة، وأصبح ينظر إلى الحياة وشئونها نظر الفيلسوف الحكيم، ففهمها على حقيقتها، واستشف الكثير من بواطنها وخفاياها، وعرف الفروق الدقيقة بين الخير والشر، والصلاح والفساد، والإساءة والإحسان، فلم يشتبه عليه مسلك من المسالك، ولا سبيل من السبل؛ وكان السبب في ذلك أنه تعلم العلم لا ليتخذه آلة يتوصل بها إلى غرض من أغراض الحياة، أو مطمع من مطامعها، ولا ليتجمل به بين الناس كما يفعل أولئك الفاخرون المغرورون الذين يعتبرون العلم حلية من الحلي يفاخرون بها كما يفاخرون بأثوابهم القشيبة، وجواهرهم الثمينة، وقصورهم الشامخة، ومراكبهم الفارهة، بل ليفهم الحياة على حقيقتها ويراها كما خلقها الله لا كما عبثت بها يد الإنسان، فكان له ما أراد.
وكذلك استطاع الحب أن يخلق من هذا الغلام الهمجي المتوحش إنسانا كاملا، مستنير الذهن، مستوي العقل، فياض الشعور والإحساس، واستطاعت شمسه المشرقة أن ترسل أشعتها الوضاءة إلى أعماق ذلك القلب المظلم القاتم، فتنير جوانبه، وتبدد ظلماءه، واستطاعت شعلته الملتهبة أن تطهر بنارها تلك النفس الصدئة المتبلدة، وتستخلصها من أخلاطها وشوائبها، فإذا هي سبيكة صافية من الذهب تتوهج توجها وتلتمع التماعا، إلا أنه لم يمض على ذلك زمن طويل حتى بدأ يمل التاريخ لكثرة ما يشتمل عليه من وصف المجازر البشرية، والمصارع الإنسانية، الآخذ بعضها بأعناق بعض، ومن تلك الجداول المستطيلة الحافلة برذائل الملوك والأمراء، وفظائع الأشراف والنبلاء، وما سودوا به صحائف حياتهم وحياة العالم أجمع من عار وشنار، كما مل تقويم البلدان لكثرة ما يحتويه من أسماء الأمكنة والبقاع، والجبال والتلال، والأنهار والنهيرات التي لا نهاية لها، ولا فائدة منها، وشغف الشغف كله بالأدب شعرا ونثرا، وقصصا وروايات، وأمالي ومحاضرات؛ لأنه خلاصة العقل البشري، وزبدته الأخيرة التي تمخض عنها، ولأنه المرآة الصافية التي تتراءى فيه صور الحياة على حقيقتها، ومشاعر النفوس بكل ما تشتمل عليه من حب وبغض، وسرور وألم، وطمع ويأس، وارتياح وانقباض، وكان خير ما يعجبه من الشعر شعر «هومير»، ومن النثر قصة «تليماك»؛ لأنها تصور حياة الفطرة والبساطة، وتمثل المشاعر النفسية بدقائقها وأجزائها، وترسم مزالق الشهوات التي تزل فيها أقدام البشر من فجر التاريخ حتى اليوم، فإذا جلس لقراءتها ووصل إلى قصة أنتيوت وأوخاريس، خيل إليه أن فرجيني مثال الأولى في إبائها وعزتها، ومثال الأخرى في رقتها وعذوبتها، فتهيج أشجانه، وتسيل عبراته، فيلقي كتابه جانبا ويسبح في فضاء الخيال سبحا طويلا.
وكان من أبغض الأشياء إليه مطالعة تلك الروايات الغرامية التي وضعها واضعوها لا ليهذبوا بها الطباع البشرية، ولا ليصوروا فيها الحياة الاجتماعية على حقيقتها؛ بل ليستثيروا بها شهوات الناس، وفضول أطماعهم، وليلهبوا بنارها ما برد من عواطفهم، وهدأ من لواعجهم، ولينزلوا بالحب من سمائه الرفيعة المقدسة إلى تلك الحمأة القذرة من الرذائل والمثالب، وكان يقول في نفسه كلما قرأ شيئا منها: ليت شعري، هل تستطيع فرجيني أن تنجو بنفسها من شرور ذلك المجتمع الخبيث الذي تتحدث عنه هذه الروايات؟! إنني أخاف عليها خوفا شديدا.
الفصل التاسع عشر
أوروبا
مرت ثلاثة أعوام ولم يرد على هيلين كتاب من ابنتها ولا من عمتها؛ فقلقت لذلك أشد القلق؛ لأنها لم تعرف عن ابنتها شيئا منذ سافرت حتى اليوم سوى ما كانت تسمعه من حين إلى حين من أفواه بعض الطارئين على الجزيرة، أنها وصلت سالمة إلى بيت عمتها، وأنها تعيش في ذلك البيت عيشا سعيدا يحسدها عليه الحاسدون، ثم ورد عليها منها بعد حين ذلك الخطاب، ولا أزال أحفظ صورته حتى اليوم:
والدتي
كتبت إليك قبل اليوم كتبا كثيرة، ثم علمت من عهد قريب أنها لم تصلك، فأرسلت إليك هذا الكتاب من طريق آخر غير الطريق الذي كنت أرسل إليك منه.
لا أحدثك كثيرا عن سفري وأدوار، سوى أن أقول لك إن فراقك كان له تأثير على نفسي عظيم ما كنت أقدره من قبل، فقد بكيت كثيرا، وتألمت كثيرا، حتى رحمني من كان معي، وكان يخيل إلي والسفينة تمخر بي في عباب البحر؛ أنني إنما أفارقك فراقا لا رجعة لي منه أبد الدهر، ولقد شعرت بوحشة عظيمة في الساعة التي دخلت قصر عمتي، فقد خيل إلي أنه على جماله ورونقه، وحسن نظامه، وبديع هندمه، وكثرة الذاهبين والآتين في أبهائه وحجراته، مقبرة موحشة لا نأمة فيها ولا حركة.
ولقد سألتني عمتي حين وقفت بين يديها بصوت خشن جاف لا تجول في أديمه قطرة واحدة من الرحمة: ماذا علمت في صغري؟ فلما عرفت أنني لم أتعلم شيئا حتى القراءة والكتابة قالت: إنك لا تزيدين في شأنك على شأن هؤلاء الخدم الوقوف بين يدي، ولم تنشئي منشأ خيرا من منشئهم. ثم أمرت بإرسالي إلى دير في ضواحي باريس أتعلم فيه أنواع العلوم، فعلموني القراءة والكتابة؛ فسرني منهما أني أستطيع مراسلتك وقراءة رسائلك، ثم أخذوا يعلمونني التاريخ وتقويم البلدان والحساب والهندسة والرسم والعلوم الدينية وبعض الألعاب الرياضية، فلم أحفل بشيء من هذا كله؛ لأني شعرت ببغضه والنفور منه، واعتقدت أن لا فائدة لي فيه، فوصفني أساتذتي ورفيقاتي بالبلادة وعسر الفهم، فلم أبل بذلك؛ لأني ما دخلت الدير لأرضيهم، ولا لأنال الحظوة في عيونهم، على أن عمتي تعنى بي عناية كبرى، وتبذل في سبيل راحتي ورفاهيتي وتيسير جميع مرافقي وحاجاتي مالا كثيرا.
अज्ञात पृष्ठ