ثم لا تلبث أن تصل بخيالها إلى النهاية الطيبة التي ختمت بها تلك الرواية، فتهدأ نفسها قليلا، وتتفاءل خيرا لابنتها أن يكون مصيرها هذا المصير السعيد.
وجملة القول أننا كنا نتمتع في ذلك اليوم بجميع ما يتمتع به السعداء في منتدياتهم ومجتمعاتهم ومعاهد أنسهم ولهوهم من أكل وقصف، ورقص، وتمثيل، ولعب ومزاح، لا فرق بيننا وبينهم، إلا أننا لا نزخرف المسرح الذي نتنقل عليه بالصور الكاذبة للبحر والشاطئ، والصحراء والسماء، والكواكب والنجوم، والنبات والعشب، وهدير الأمواج وزيف الرياح، ودمدمة الرعود كما يزخرفون، فكل ذلك حاضر بين أيدينا حقيقة لا خيالا.
ولا نزال هكذا حتى تدنو ساعة الأصيل، ويقف قرص الشمس وقفة الوداع على قمة الجبل متوهجا كاللهب الأحمر، فيظل ينثر ذراته الذهبية في عرض الفضاء، وتظل قطع الأنوار تتساقط من بين فجوات الأغصان كأنها الدنانير المبعثرة، وتستحيل أوراق الزهر في سكون ذلك الجو وهدوئه إلى أحجار جامدة من الزمرد والياقوت، والماس والفيروزج، ويخيل للناظر إلى الجذوع الماثلة كأنها بقايا بركان قديم كان قد غمرها في سالف العهد ثم انحسر عنها، فإذا هي أعمدة صدئة من البرنز القاتم، ثم لا يلبث الظلام أن يمتد وينبسط فإذا الفضاء سكون ووحشة، وإذا البحر خشية وجلال، وإذا الطير حائمة على أوكارها تفر إليها من وحشة الظلام وهوله، وإذا كل شيء صامت جامد إلا ما كان من جرجرة الآذي تصل إلى آذاننا من حين إلى حين كأنها الزئير المنبعث من حلوق الوحوش الضارية، فنجمد أمام هذا المنظر الرهيب ساعة ذاهلين مستغرقين، وكأننا قد انتقلنا إلى عالم آخر من عوالم الملأ الأعلى حافل بعجائب المنظورات وغرائب المشاهدات، ثم نعود إلى أنفسنا فيودع بعضنا بعضا، ثم نفترق إلى أكواخنا.
الفصل الرابع عشر
آدم وحواء
نشأ بول وفرجيني في هذه الجنة الأرضية منشأ أبوينا الأولين في جنتهما السماوية، فكان بول مثال آدم، له قامة الرجل وشطاطه، وبساطة الطفل وسذاجته، وكانت فرجيني مثال حواء، لها جمال الأنوثة وحلاوتها، ودعة النفس وعذوبتها. وكانا يعيشان في معتزلهما هذا حرين مطلقين، لا يسيطر عليها مسيطر من تلك القيود التي تسيطر على عقول الناشئين وضمائرهم في تلك البلاد التي يسمونها بلاد الحرية والطلاقة، ولا تسجنهما العلوم والمعارف في سجنهما الضيق المظلم الذي يحول بينهما وبين التبسط والاضطراب في فضاء الكون كما يشاءان.
ولم تكن لديهما ساعة لمعرفة أوقات الليل والنهار، ولا تقويم لمعرفة الفصول والأعوام، ولم يتلقيا درسا واحدا في علم الهيئة ونظام الكواكب والنجوم، ولكن الطبيعة استطاعت أن تمنحهما من نفسها ما تمنح العلوم والمعارف أمثالها، فاستعانا بالأشعة والظلال على معرفة الأوقات، وبنضج النبات وظهور الأثمار وتلون الأزهار على معرفة الفصول، وبعدد ما غرسا من الأشجار على عدد ما مر بهما من السنين والأعوام، فكانا يقولان «قد حان وقت الغداء» إذا انقبضت ظلال أشجار الموز وتضاءلت تحتها، و«قرب الليل» إذا التفت أوراق التمر هندي على أثمارها، وكانا إذا وعدا أحدا بزيارة جعلا ميعادها ظهور قصب السكر أو نضج أثمار النارنج، وإذا سئلت فرجيني عن عمرها أجابت: قد أثمرت الكروم مذ ولدت أربع عشرة مرة، وأشجار البرتقال ثمانية وعشرين، وإذا سئل بول بكم يكبر فرجيني؟ أجاب بمقدار ما بين النخلتين الماثلتين على حافة النبع، كأن حياتهما متصلة بحياة النبات، أو كأنهما إلهان من آلهة الحقول التي تعيش بينها وترعاها.
فكانا لا يعرفان تاريخا غير تاريخهما، ولا يطالعان مصورا غير مصور جزيرتهما، ولا يقرآن كتابا غير كتاب الطبيعة المفتوح أمامهما، ولا يفهمان فلسفة غير أن عمل الخير سعادة، وعمل الشر شقاء، ولا يحفظان آية غير آية التفويض إلى الله - تعالى - في كل ما يأخذان وما يدعان.
وكانا إذا خلوا بنفسيهما جرت بينهما أحاديث بسيطة ساذجة لا يتكلفان فيها ولا يتعملان، ولا يحاولان أن يضعا حجابا بين ما يدور في سريرتيهما، وما ينطق به لساناهما.
ولقد سمعتهما مرة يتحدثان من حيث لا يشعران بمكاني وكان بول قد عاد من عمله ساعة الغروب، فرمى بفأسه وحقيبته إلى الأرض وجلس إلى فرجيني يقول لها: إني لأراك يا فرجيني وأنا تعب مكدود ما أكاد أتماسك، فأنسى تعبي وشقائي، وكأنني لم أحمل في يومي فأسا، ولم أفلح أرضا، وربما وقع نظري عليك وأنا على قمة الجبل وأنت في سفحه فيخيل إلي أنك وردة بين الورود النابتة حولك، إلا أنك أنضر منها حسنا، وأطيب أريجا، فإذا غبت عن ناظري وراء أكمة من الأكمات أو تحت ظلة من الظلل استطعت أن أعرف المكان الذي أنت فيه؛ لأنني أشعر أن موجة من النور تحيط بك حيثما ذهبت وأني حللت، فإذا برق لي شعاعها علمت أين تحلين من بطن الوادي، فلا أحتاج للسؤال عنك، فإذا رأيتك وأنت عائدة إلى المنزل خيل إلي - لجمال مشيتك ورشاقة حركاتك - كأنك قطاة تنتقل على بساط الخضرة، وأنك موشكة أن تستقلي بجناحيك في جو السماء.
अज्ञात पृष्ठ