الفصل العاشر
العمل
وكان بول وهو في الثالثة عشرة من عمره كأنه في الخامسة عشرة قوة ونشاطا، وهمة وعزيمة، وذكاء وفطنة، فكان لا يمل العمل نهاره ولا ليله، ولا يتلهى عنه بما يتلهى به أمثاله من الغلمان في مثل هذه السن، وكأنما كان يشعر في نفسه أنه مسئول عن هذه القفرة الموحشة أن يحيلها إلى جنة فيحاء من جنان الأرض، فلا بد له أن يعمل حتى يصل إلى الغابة التي يريدها، وكان لا يعمل قبل أن يفكر، ولا يفكر إلا تفكيرا صحيحا مستقيما، وقد وهبه الله قريحة وقادة، وذهنا خصبا، وذوقا سليما، ومخيلة قوية قادرة على جمع شوارد الأشياء والتأليف بين متنافراتها، فرسم في ذهنه صورة بديعة لذلك الوادي الجميل كما يفعل المهندس الماهر، وأخذ نفسه بالعمل لإبرازها وتحقيقها فلم يخطئ ولم يضطرب، ولم يلجأ إلى الاستشارة إلا في القليل النادر مما يستعصي مثله على أمثاله، فكان لا يراه الرائي إلا غاديا أو رائحا، أو مصعدا أو منحدرا، أو متسلقا شجرة، أو مكبا على قناة، أو حاملا غرسا أو خائضا نهرا، ودومينج وراءه يعينه على ما يعجز عنه من حمل الأثقال وتحويل المياه ونقل الأغراس، فأنشأ الحظائر المختلفة للحنطة والشعير، والدخن والذرة، والقطن والقصب، تزخر كل حظيرة بما فيها من ماء وثمر، وغرس أشجار الليمون والبرتقال والتمر الهندي ونخيل البلح والجوز، وألوانا من الأزهار والأنوار تتألق في أغصانها تألق الأحجار الكريمة في التيجان المرصعة.
وأجرى المياه حول تلك الأغراس وفي خلالها بنظام دقيق كأنما قد خطها بالبركار، وزرع الأكمات والروابي المشرفة على الوادي من جميع نواحيه، فتراءت لعين الناظر كأنها قباب لطاف، أو أهرام صغار مكسوة برقاق الخز والديباج على اختلاف أصباغها وألوانها، ولم يترك بقعة جدبة ولا أرضا صلبة إلا هز تربتها وأحيا مواتها، فاستحالت إلى روضة أنف تتدفق ثمارا وأزهارا، وتسيل عيونا وغدرانا، وأعجب ما كان يعجب له الناظر في هذه الروضة الزاهرة منظر المياه المتدفقة من أعالي الجبال تنثر الخصب حولها نثرا، وتدور بالربى والهضاب قلائد وعقودا، وبالخمائل والأشجار أوشحة ومناطق، وتتلوى في سيرها وتدفعها تلوي الحيات المذعورة الهائمة على وجهها، حتى إذا انتهت إلى السفح مشت برفق وهدوء تتبسط في مذاهبها ومناحيها، ثم تتلاقى أطرافها فتكون بركا صغيرة مستديرة تحف بها الأعشاب المخضرة كما تحف بالعيون أهدابها، فإذا انعكست على تلك البرك زرقة السماء خيل إليك أنها المرايا الصافيات في أطرها أو أحجار الفيروز في خواتمها، ولما كانت الأرض في تلك الدائرة متدرجة غير مستوية، فقد راعى أن يغرس الأدواح الباسقة في البقاع المنخفضة، والأشجار المتوسطة في الأماكن المتوسطة، والشجيرات القصيرة في المشارف العالية، فاستوت رءوس الأشجار في علوها وارتفاعها كأنما قد قرضت ذوائبها بمقراض، أو كأنما غرسها غارسها في بطحاء مستوية.
وكان يعمد إلى الهضاب العالية ذات الجباه البارزة فيغرس بين يديها الأشجار العظيمة المورقة، فتتلاقى ذؤابة الشجر بذؤابة الهضبة؛ فتتكون منهما قبة جوفاء تشرف على مجلس رطب ظليل كانوا يفيئون إليه من حر الهاجرة، فإذا هم في روضة يانعة من رياض الجنة تزخر أشجارها، وترن أطيارها، وترف ظلالها، وتتهادى نسائمها، وأجمل من هذا وذاك أنه غرس صفين متقابلين من الأشجار الوحشية الضخمة يمتدان على مدى بعيد، فتألف منهما دهليز ضيق مستطيل لا تنفذ إليه أشعة الشمس، ولا تكاد تصل إليه أضواء النهار، فإذا دخله الداخل خيل إليه أنه يسير في نفق مظلم تحت الأرض، وشعر بوحشة غريبة أشبه بتلك الوحشة التي يشعر بها سكان السراديب في سراديبهم، أو عملة المناجم في أعماق مناجمهم.
في أحضان ذلك الوادي الجميل، وفي ذمة تلك الجنة الزاهرة وبين أعطاف تلك الدائرة الواسعة المخضرة من الربى والهضاب كان يعيش هؤلاء القوم في أكواخهم البسيطة عيشا سعيدا هانئا، متمتعين بما لا يتمتع به الأثرياء في قصورهم وبساتينهم، والسعداء في جناتهم وعيونهم، فإذا انقضى النهار وأوت الشمس إلى خدرها صعدوا إلى صخرة عظيمة تشرف على ذلك الوادي جميعه فيتجلى أمامهم منظره العام بعيونه وغدرانه، وأعشابه وأشجاره، وخمائله وكرومه، ومروجه وحرجاته، وظلاله وأضوائه، فإذا ألقوا بأنظارهم في جو السماء المائج فوق رءوسهم بأضوائه وأنواره خيل إليهم أنهم بين سماءين متقابلتين، سماء تنبت الكواكب والنجوم، وأخرى تنبت الأزهار والأنوار، أو روضتين مترائيتين، تتألق في إحداهما الزنابق البيضاء على ديباجة زرقاء، وفي أخراهما الورود الحمراء على قطيفة خضراء.
الفصل الحادي عشر
التاريخ
وكانوا يسمون هذه الصخرة «اكتشاف الصداقة»؛ لأن بول غرس في قمتها شجرة دقيقة من شجر الأثل، ورفع في أعلاها منديلا أبيض يشبه العلم، وناطه بخيوط مختلفة تسترسل في أسفل الشجرة، فإذا لمحني مقبلا على البعد شد الخيط فانتشر المنديل واضطرب في الهواء، وكان ذلك إعلانا للأسرة بقدومي، كما يرفع العلم على قمة الجبل إعلانا بقدوم سفينة إلى الشاطئ.
وكذلك كان شأنهم دائما في تسمية الأماكن والبقاع والجذوع والأشجار التي يحبونها بأسماء لطيفة يرمون بها إلى غرض خاص، ويسجلون بها فكرة معينة، فكان يخيل إلي أنهم يلقون عليها أشعة أرواحهم النورانية السامية فتدب فيها حياة جديدة فوق حياتها الأولى، فأطلقوا اسم «ميدان الاتفاق» على بساط من العشب الأخضر مسور ببضع شجيرات متسقات من أشجار البرتقال كان بول وفرجيني يرقصان عليه معا في ضوء القمر، وأطلقوا اسم «الدموع الممسوحة» على شجرة عتيقة جلست تحتها هيلين ومرغريت لأول عهدهما باللقاء، وأخذت كل منهما تقص على صاحبتها قصتها وتبثها أحزانها وآلامها، فتضمها الأخرى إلى نفسها وتعزيها عن همها وتمسح لها دموعها، وسموا حقلا من القمح باسم «نورماندي» مسقط رأس هيلين، وآخر من الأرز باسم «بريتانيا» مسقط رأس مرغريت، إلى كثير من أمثال تلك الذكريات القديمة، كأنما أرادوا وقد هجروا بلادهم إلى الأبد، وحالت الحوائل بينهم وبينها أن يستصحبوها معهم تصورا وخيالا بعد ما فقدوها سكنا وموطنا ليأنسوا بها بعض الأنس، ويلطفوا من حرارة شوقهم إليها.
अज्ञात पृष्ठ