Factors Influencing Judgments Based on Assumption or Wisdom
العوامل المؤثرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة
शैलियों
العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنّة أو بالحكمة: دراسة أصوليّة
أيمن صالح
أستاذ الفقه وأصوله
جامعة قطر
عدد 70 / 99
الملخّص
ثَمَّ جدلٌ نظريٌ في كتب الأصول، قديمًا وحديثًا، حولَ القول بجواز أن يُعلَّل الحكم بحكمته، أم يجب أن يُعلَّل بالمظنّة الظاهرة المنضبطة (العلّة). وبالنظر إلى الفروع العملية للفقهاء، فإنّا وجدناهم ينيطون الأحكام بالحكمة نفسها تارةً، وبالمظنة/ العلة تارةً أخرى، فاحتاج الأمر إلى معرفة العوامل التي تؤثّر في اختياراتهم هذه. وبالاستقراء توصّل الباحث إلى تسعة عوامل تؤثِّر في نوط الحكم بالمظنّة أو بالحكمة في الوقائع.
الكلمات المفتاحية: التعليل بالحكمة، التعليل بالمظنة، العلة، الحكمة.
عدد 70 / 100
المقدّمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن والاه، وبعد:
فإنّ علم مقاصد الشريعة بلغ مبلغًا عظيمًا هذه الأزمان، من حيث انتشارُ تناولِه، وكثرةُ المؤلّفات فيه، وهو علمٌ حقيق بالعناية والرعاية، عظيم الفائدة، كبير العائدة، ولاسيّما في تسديد النظر في القضايا الاجتهادية المعاصرة، لكنّه في الوقت نفسه مَزِلّة قدم إذا أُخذ بمعزلٍ عن أصله ومعدنِه، علمِ أصول الفقه، الذي اشتمل على آليّات تحديد المقاصد، وشروطها، وضوابط إعمالها. فالحقيقةُ التاريخية التي لا ينبغي إغفالها هي أنّ علم مقاصد الشريعة فرعٌ عن علم أصول الفقه، عنه انبثق ومنه اشتُق، ولا ينبغي للفرع أن يعود على أصله بالإبطال، وإلا أبطل نفسه.
وكثيرٌ من الخائضين في البحث المقاصدي، سيّما من غير المتخصّصين في الأصول، يندفعون بحماسٍ زائد مع المقاصد، أو ما يخالونها المقاصد، من غير تقيُّد بمقرّرات الأصوليين العتيدة في ضوابط تحديدها وإعمالها: إمّا جهلًا بهذه المقرّرات لوعورة مباحثها، ودقّتها، وكثرة الخلاف والخلط فيها في مباحث القياس من كتب الأصول، وإمّا إعراضًا عنها بقصد الالتفاف على الأحكام الشرعيّة التي تفيدها النصوص، وتعطيلِها بذريعة إعمال المقاصد، كما يظهر ذلك جليًّا في كتابات الحداثيين والعَلمانيين أصحاب القراءات الجديدة للنصوص الدينيّة.
وفي المقابل هناك طائفةٌ من أهل الشريعة «متحفِّظة» على علم المقاصد برمّته؛ لما تراه من تعسُّف في توظيفه والتذرّع به إلى الافتئات على الشريعة، وتعطيل ظواهرها ونصوصها ومقرّراتها، من قِبَل كثيرين، هم في الغالب دخلاء على العلوم الشرعيّة.
عدد 70 / 101
فبعيدًا عن هذين المسلكين: مسلك المتهاونين، ومسلك المتحفِّظين، يأتي هذا البحث ليربط علم المقاصد بعلم أصول الفقه، بتجلية عوامل عِدّة ذكرها الأصوليون: صراحةً، أو إشارة، تؤثِّر في تعليق الأحكام: إما بالمقاصد والحِكَم، وإما بالمظانّ والأسباب.
وهذا البحث هو الثالث في هذا السّياق إذ سُبق ببحثين تمهيديين مهمّين:
أحدهما: بعنوان: "العلة والحكمة والتعليل بالحكمة: دراسة مصطلحيّة"، وقد هدف إلى تجلية الاصطلاحات المتعلّقة بموضوع التعليل بالحكمة، كالعلة والحكمة والسبب والمظنة وضابط السبب، ولا سيّما أن بعض هذه الاصطلاحات بلغ الغاية في الغموض والاضطراب، ممّا أورث نزاعاتٍ كثيرةً في تعريفها، وفيما ترتب على ذلك من شروطها، والمسائل المرتبطة بها في الدراسات الأصولية: قديمها وحديثها. وممّا هدف إليه البحث المذكور أيضًا تحريرُ محلّ نزاع الأصوليين في مشروعية نوط الحُكم: وجودًا، أو عدمًا، أو كليهما، بالحكمة دون المظنة/ العلة، وهو ما يُسمّى عندهم بالتعليل بالحكمة.
والبحث الثاني: بعنوان "التعليل بالمظنة لا بالحكمة: دراسة أصوليّة"، وقد هدف إلى تأصيل القول بنوط الأحكام بالأوصاف الظّاهرة المنضبطة (العِلَل أو المظانّ لا الحِكَم والمقاصد) ببيان معناه، وشواهده من أقوال العلماء، وأدلّته الشّرعيّة، وغايته التي تمثِّل الفلسفة الأصوليّة التي يقوم عليها. وقد أُشير في البحث المذكور إلى أنّ التعليل بالمظنة، وإن كان هو الغالب في أحكام الشرع، فيُمكن العدول عنه إلى اعتبار الحكمة كليًّا أو جزئيًّا، وجودًا أو عدمًا، في أحوالٍ خاصّة. وهو ما سنبيّنه في هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وبعد الفراغ من هذا البحث، تظلّ الحاجة قائمة في قابل الأيام إلى إنجاز بحوث تطبيقية تفصيلية، تتناول قضايا فقهية معاصرة محدَّدة، نبيِّن فيها الكيفية التطبيقية لإعمال القواعد والعوامل التي خلصنا إليها في هذه السلسلة الثلاثية من البحوث النظرية، كما فعلناه في كتابنا الأخير حول البصمة الوراثية، وهو ما نسأل الله تعالى أن ييسّره لنا بعونه وتوفيقه.
عدد 70 / 102
إشكاليّة البحث:
ثَمَّ جدلٌ نظريٌ في كتب الأصول، قديمًا وحديثًا، حولَ القول بجواز أن يُعلَّل الحكم بحكمته، أم يجب أن يُعلَّل بالمظنّة الظاهرة المنضبطة (العلّة). وبالنظر إلى الفروع العملية للفقهاء، فإنّا وجدناهم ينيطون الأحكام بالحكمة نفسها تارةً، وبالمظنة/ العلة تارةً أخرى، فاحتاج الأمر إلى استقراء العوامل التي تؤثِّر في اختياراتهم هذه.
وعليه، تتركّز إشكاليّة البحث في السؤال الآتي:
ما العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بمظنته أو بحكمته، كما تدلّ عليه مباحث الأصوليين ومذاهب الفقهاء؟
ويسبق هذا السؤال الرئيس سؤالان تمهيديّان:
أحدهما: ما خلاصة القول في تحرير الاصطلاحات الدائرة في باب التعليل بالحكمة والتعليل بالمظنة؟
والسؤال الثاني: ما أشكال تصرّفات الفقهاء عند تردّد الحكم بين أن يُناط بالمظنة أو بالحكمة؟
أهداف البحث:
١. ذِكر خلاصة القول في تحرير الاصطلاحات المستعملة في مبحث التعليل بالمظنة أو الحكمة.
٢. استقراء أشكال تصرفات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين أن يُناط بالمظنة أو بالحكمة.
٣. استقراء العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة عند الأصوليين والفقهاء، وبيانُها.
منهج البحث:
اعتمد البحث على المنهجين: التحليلي، والاستقرائي، على حدٍّ سواء.
عدد 70 / 103
الدراسات السابقة:
مع كثرة ما كتبه المعاصرون في باب التعليل عمومًا، وفي مسألة التعليل بالحكمة خصوصًا، فإنّ الغالب المعظم من هذه البحوث تناول القضايا الكبرى في الموضوعات المذكورة، وقليلٌ منها ولج إلى التفاصيل الدقيقة، وأعني بذلك تفاصيل التفاصيل، كما أنّ أكثرها خلا من تقعيدٍ يضبط آلية التعليل بالحكمة عند تعارضه مع التعليل بالمظنّة، وبيان كيفية توظيفه في القضايا الفقهية قديمةً ومعاصرة. وهذا ما لاحظه بعض الباحثين في التجديد الأصولي، قال حسين آيت سعيد:
«تعليل الأحكام بحِكَمها لابدّ فيه من تجديدٍ وتقعيد؛ إذ ما يزال بابُه فقيرًا من حيث التأصيل لضوابطه وشروطه حتى يُعتمد كما تُعتمد العلة المستنبطة» (^١). وقال: «القول بتعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد، لم يكن بدعًا من القول، لكنّه من ناحية العمل، ناله حيفٌ، وأُصيب بضمور وهزال، وينبغي الاهتمام بهذا الجانب، وتأصيله أكثر، وإضافة ضوابط وشروطًا أُخر له، حتى يُحدّد بدقة، وينضبط كلِّيًّا، لأنّ الضوابط الموضوعة له غير كافية في عصرنا هذا، وهي غير قادرة على إنتاج اجتهاد سديد وموفّق لا تتضارب فيه الجزئيّات مع كلّيّاتها، ولا كلّيّاتٍ وجزئيّاتٍ أُخر، فالمجال ما يزال رحبًا لمن يُجدِّد فيه ممّن آنس من نفسه القدرة على السِّباحة في لجّيّ هذا البحر، وأمّا من قنع بأن يحوم في شُطآنه فما هو موجودٌ يكفيه» (^٢).
وممّا وقفنا عليه من الدراسات وله تعلُّقٌ قريب، نوعًا ما، بموضوعنا دراستان:
الأولى: بحث بعنوان: "الاجتهاد المقاصدي الأصولي: نوط الأحكام بمقاصدها نموذجًا"، للدكتور جاسر عودة، نشره في ضمن عدّة بحوث أخرى في المقاصد في كتاب بعنوان: الاجتهاد المقاصدي من التصوّر الأصولي إلى التنزيل العملي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط ١، ٢٠١٣ م. الصفحات ٤٥ - ٨٩.
_________
(^١) سعيد، "التجديد في التعليل الفقهي"، في الاجتهاد الفقهي أي دور وأي جديد، ١٢١.
(^٢) المرجع السابق، ١٢٢.
عدد 70 / 104
والبحث مستلّ مع تعديلات يسيرة من رسالة الماجستير للباحث التي نُوقشت في العام ١٤٢٥ هـ/ ٢٠٠٤ م، وصدرت بعد ذلك في كتاب بعنوان: فقه المقاصد: إناطة الأحكام بمقاصدها، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط ١، ١٤٢٧ هـ/ ٢٠٠٦ م.
هدف البحث إلى الإجابة عن السؤال: «هل يصلح المقصد كوصف يتعلّق به الحكم، كما هو الحال في العلة التي يَتّفق على حجّيتها أغلب الفقهاء» (^١).
وجاء البحث - كما قال المؤلِّف - في سياق التجديد في البحث المقاصدي محاولًا: «الإسهام في هذا التجديد المعاصر عن طريق إعمال المقاصد في حال تعارض النصوص وتفسيرها، ويقترح القاعدة التالية: "تدور الأحكام الشرعية العملية مع مقاصدها: وجودًا وعدمًا، كما تدور مع عللها: وجودًا وعدمًا"» (^٢).
واعتمد المؤلّف على ضابط وحيد لجواز التعليل بالمقصد، وذلك بالتفريق بينه وبين الحكمة فقال: «على الرغم من أنَّ الحكمة من الحُكم لا تختلف عن المقصد من الحُكم عند كثيرٍ من الأصوليّين، إلا إنّه يبدو لي أنّ هناك فارقًا معتبرًا بين ما يُقصد بالحكمة وما يُقصد بالمقصد، وهذا الفارق له أثره في مسألة التعليل. فالحكمة مصلحة تترتب على الحكم، أمّا المقصد فهو مصلحة، أو مجموعة مصالح، ينصّ الشارع أو يغلب على ظن المجتهد أنّها المقصودة من الحكم، أي لولاها لما شُرع الحكم أصلًا. وأرى بناء على ذلك أنّ الحكمة قد تختلف عن المقصد، وقد تكون جزءًا من المقصد، وقد تساوي المقصد، وأنّ النقد الموجّه إلى التعليل بالحكمة، وإناطة الحُكم بها، لا يلزم أن ينطبق على التعليل بالمقصد» (^٣).
وحاصل ذلك أن المؤلّف يرى أنّ الحكمة أعمّ من المقصد، والمقصدَ أخصُّ منها، والحُكم يدور مع المقصد لا مع مطلق ما يُسمّى حكمة. والمقصد عنده هو ما لولاه لم يُشرع الحكم أصلًا، بينما الحكمة قد تكون كذلك فيُناط بها الحكم، كالمقصد تمامًا، وقد تكون مجرّد مصلحة تترتّب على الحكم من دون أن تكون هي الباعث الكلّي عليه، وهذه لا يُناط بها الحكم.
_________
(^١) عودة، فقه المقاصد: إناطة الأحكام بمقاصدها، ٥٥.
(^٢) المرجع السابق، ٥٤.
(^٣) عودة، الاجتهاد المقاصدي من التصور الأصولي إلى التنزيل العملي، ٧٩.
عدد 70 / 105
والبحث في نظري لا يقدِّم جديدًا في هذا السياق، وأكثرُ من ذلك أنّه يقوم على فهمٍ شائع مغلوطٍ لقول من قال من الأصوليين بجواز التعليل بالحكمة، حيث يبدو من صنيع الباحث بإيراده عددًا من الفروع الفقهية التي اعتُرض بها على نوط الحُكم بالحكمة: كنوط عدّة المرأة ببراءة الرحم لا بعدد القروء، ونوطِ الفطر في السفر بذات المشقّة لا بالسفر، ونوطِ التحريم الناشئ عن الرَّضاع بالجزئيّة لا بنفس الارتضاع، وتكلّفِه في الجواب عن هذه الفروع - يبدو من ذلك أنّه فهم من قول من قال من الأصوليين بجواز التعليل بالحكمة أنهم يوجبون ذلك عند كلّ حكمة، مع أنّ لفظ "الجواز" يشير إلى عدم لزوم ذلك، بل تخضع كلّ مسألة عندهم لنظر المجتهد، وما يمكن مراعاته من شروط أخرى تتوفّر في الحكمة محلّ النظر، كانفرادها بالحُكم، وتأثيرها، وعدم انتقاضها، وعدم معارضتها بغيرها، ونحو ذلك مما يُذكر في شروط العلة المناسبة التي تُناط بها الأحكام. فالقائل بجواز التعليل بالحكمة أنّما يتخلّى عن شرط واحد فقط من شروط العلة هو الظهور والانضباط، ولا يتخلّى عن باقي الشروط. وهذا مفهوم بالبداهة من حديث الأصوليين عن التعليل بالحكمة.
وهذا الفهم لمذهب القائلين بجواز التعليل بالحكمة - غير السديد في نظرنا - هو الذي اضطّر الباحث إلى الخروج عن الاصطلاح الشائع عند الأصوليّين في الحكمة والمقصد؛ ففرّق بينهما في حين لم يكن الأصوليّون والفقهاء يفرِّقون بينهما في مجاري كلامهم. والخروج عن الاصطلاح الشائع - من غير حاجة ماسّة - إنّما هو خطأ آخر ينضاف إلى الخطأ الذي أدّى إليه.
وعلى أية حال فهذا البحث لا يلتقي مع دراستنا هذه في الهدف ولا في المضمون، لأنّ دراستنا معنيّة باستقراء العوامل المؤثّرة في التعليل بالمظنة أو التعليل بالحكمة في آحاد الوقائع، أمّا دراسة الباحث فعُنيت ببيان جواز - أو بالأحرى لزوم - التعليل بالحكمة (المقصد) إلى جانب التعليل بالمظنة، أي التعليل بالحكمة لتوسيع الحُكم، لا على حساب التعليل بالمظنة، ولا في معارضته. حيث قال المؤلّف: «التعليل بالمقاصد هنا ليس مطروحًا
عدد 70 / 106
كبديل عن التعليل بالعلل المنضبطة الظاهرة، وإنما التعليل بالمقاصد إضافةٌ إلى التعليل بالعلل وتوسيعٌ لمفهومها» (^١). فدراستنا عند التعارض بين التعليل بالمظنة والتعليل بالحكمة في آحاد الوقائع، ودراسته بفرض التوافق بينهما، مع أنّ فرض مثل هذا التوافق نظريٌّ قليلُ الوقوع، إذ الغالب الساحق أن التعليل بالحكمة في مسألة ما يؤثِّر في التعليل بالمظنة في المسألة نفسها، لأنّه يؤثِّر في الأفراد والجزئيات المنضوية تحتها طردًا وعكسًا، ضيقًا وسَعَةً، إلا ما نَدر.
والدراسة الثانية: بحث بعنوان "أثر الاختلاف في إناطة الحكم بعلّته أو حكمته في اختلاف الفقهاء" لزميلنا الدكتور إياد نمر، المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، مج (١٢)، ع (١)، ١٤٣٧ هـ/ ٢٠١٦ م، الصفحات ١٩١ - ٢١٢.
هدف البحث إلى بيان مسوّغات إناطة الحكم بكلٍّ من العلة أو الحكمة عند الأصوليين، مسلِّطًا الضوء على أثر انعكاس التردُّد في إناطة الحكم بعلّته أو حكمته على اجتهادات الفقهاء في القياس الأصولي، أو في التعليل المجرّد عن القياس. وتوصّل الباحث إلى إمكانية الالتقاء بين العلة والحكمة في إناطة الأحكام بكلٍّ منهما، إذا ما رُوعيت ضوابط العلة، وشُروط الحكمة المعتبرة التي تحمي الفقيه من الانجرار وراء القياس المجرّد عن حكمته، أو الحكمة المخالفة لظواهر النصوص التي انبنى عليها القياس.
وقد ذهب الباحث - تبعًا لبعض الباحثين في التعليل بالحكمة (^٢) - إلى اشتراط أن تكون الحكمة المعلَّل بها ظاهرة منضبطة (^٣). وهذا الاشتراط - في نظري - يُفرِغ موضوع القول بجواز التعليل بالحكمة من مضمونه الذي هو التعليل بالوصف الخفي أو غير المنضبط، لأنّ الحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة فإنّها تكون حكمة وعلّة في الوقت نفسه، وحينئذٍ فلا خلاف يتحقّق في جواز التعليل بها بين الأصوليّين والفقهاء.
وعلى أية حال فهذا البحث كذلك لا يلتقي مع دراستنا هذه في الهدف ولا في المضمون، إذ بحثنا يهدف إلى استقراء العوامل المؤثّرة في نوط الحُكم بالمظنة أو الحكمة عند الأصوليين والفقهاء، وبيانِها، وهو ما لم يتطرّق إليه البحث المذكور، وإنما تطرّق إلى بيان
_________
(^١) المرجع السابق، ٨٢.
(^٢) أبو مؤنس، منهج التعليل بالحكمة، ١٦٨.
(^٣) نمر، "أثر الاختلاف في إناطة الحكم بعلّته أو حكمته في اختلاف الفقهاء"، المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، م ١٢، عدد ١، ٢٠٢.
عدد 70 / 107
الدوافع والمسوِّغات العامّة التي يمكن الاعتماد عليها للقول بجواز التعليل بالحكمة جنبًا إلى جنب مع القول بالتعليل بالمظنة.
الإضافة العلمية في البحث:
أهمّ الإضافات العلمية في هذا البحث:
أولًا: استقراء أشكال تصرّفات الفقهاء في الوقائع عند تردّد الحكم بين أن يُناط بالمظنة، أو بالحكمة، وقد حصرها الباحث في أربعة أشكال عامّة.
ثانيًا: استقراء العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم إما بالحكمة، وإما بالمظنة، في آحاد الوقائع، من كتابات الأصوليين وتصرّفات الفقهاء، وقد توصّل الباحث إلى تسعة عوامل.
ثالثًا: نظرات ونَقَدات في قضايا جزئيّة متناثرة في البحث أصولية وفروعيّة.
هيكل البحث:
بعد هذه المقدّمة، اشتمل البحث على مطالب ثلاثة وخاتمة:
المطلب الأول: خلاصة القول في تحرير الاصطلاحات الدائرة في باب التعليل بالحكمة، والتعليل بالمظنة.
المطلب الثاني: أشكال تصرفّات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين المظنّة والحكمة.
المطلب الثالث: العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة.
وخاتمة في نتائج البحث.
عدد 70 / 108
المطلب الأول: خلاصة القول في تحرير الاصطلاحات الدائرة في باب التعليل بالحكمة، والتعليل بالمظنّة
تعليل الحُكم بالمظنّة/ العلة مصطلحٌ مقابلٌ لتعليله بالحكمة. وما يقتضيه أحدهما في تحديد المساحة الفروعية التي يغطّيها الحُكم المنصوص يختلف عمّا يقتضيه الآخر، سَعةً وضيقًا، طردًا وعكسًا.
فنهي المرأة عن السفر إلا بزوجٍ أو مَحْرَم - مثلًا - إذا عُلِّل بالمظنة المذكورة في الحديث، وهي السفر، يختلف فيما يقتضيه ويشمله من وقائع عمّا إذا عُلِّل بالحكمة المعقولة من النهي - كما رآها الشافعي وجماعة - وهي عدم الأمن على المرأة والخشية من أن يُعتدى عليها إذا لم يصحبها زوجٌ أو محرم (^١):
فنوطُ الحكم بالمظنة (السفر) يقتضي تحريم سفر المرأة إلا مع الزوج والمحرم، حتّى لو وُجد الطريق الآمن، في حين أنّ نوطه بالحكمة (عدم الأمن) يقتضي جواز سفرها من دون محرم أو زوج إذا أمنت خطر الطريق، كأن تكون الطريق آمنة في نفسها بأمان البلد، أو تكون المرأة بصحبة غير الزوج والمحرم، كنساءٍ ثقات.
ومن جهةٍ أخرى يقتضي النوطُ بالحكمة تحريمَ تنقُّل المرأة بمفردها فيما دون مطلق السفر أو لم يبلغ المسافة التي عيّنها الفقهاء لأقلّ السفر، إذا كان هذا التنقل ينعدم فيه الأمن وكانت المرأة فيه عرضة للاعتداء والتحرّش، كما في بعض البلاد، في حين لا تقتضي المظنّة ذلك؛ لأنّ هذا التردّد وإن انعدم فيه الأمن فإنّه لا يدخل في مفهوم السفر.
وفيما يأتي رسمٌ يوضّح مواضع التباين ومواضع التقاطع بين دائرتي ما تقتضيه المظنّة وما تقتضيه الحكمة في مثال نهي المرأة عن السفر إلا بمحرم أو زوج.
_________
(^١) الشافعي، الأم، ٢/ ١٢٧.
عدد 70 / 109
رسم توضيحي ١: تباين المساحة الفروعية التي تغطيها المظنة والحكمة في مثال النهي عن سفر المرأة وتقاطعها
|
ولفهم المقصود بمصطلحي التعليل بالمظنة/ العلة، والتعليل بالحكمة تمام الفهم لا بدّ من فهم الاصطلاحات الجزئيّة المكوِّنة لهما: التّعليل، والحكمة، والمظنّة/ العلة. وقد كنت نشرت بحثًا مفصَّلا أسهبت فيه في التّعريف بهذه الاصطلاحات وتحقيقها والتفريق الدقيق بينها (^١). ثم أردفت ذلك ببحث ثان لبيان أنّ "التعليل بالمظنة" هو الغالب في التعليل الذي يُراد به ربط الأحكام بالعلل السببية الموجبة لها والمنصوبة للمكلّف علامةً على تطبيقها، واستدللت لذلك بأدلّة مُسهبة مع تفصيلٍ في بيان الفلسفة الأصوليّة المقاصدية التي يقوم عليها التعليل بالمظنة (^٢). وقد كان هذا ضروريًّا في ظلّ النقد القاسي الذي وجّهه بعض فضلاء المعاصرين (^٣) للأصوليين لعنايتهم وتقديمهم التعليل بالمظنة/ العلة على التعليل بالحكمة، وقد نجم ذلك النقد عن خَلطٍ عند هؤلاء الفضلاء في تحرير المقصود بـ «التعليل بالحكمة» الذي اختلف الأصوليّون في جوازه.
_________
(^١) صالح، "العلّة والحكمة والتّعليل بالحكمة"، مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، م ٣١، عدد ٢، ٦٥.
(^٢) صالح، "التعليل بالمظنة لا بالحكمة: دراسة أُصولية"، مجلة الصراط، م ٢١، عدد ٣٨، ٤٨.
(^٣) شلبي، تعليل الأحكام، ١٨٤؛ إمام، "بحث في التّعليل بالحكمة"، مجلة كلية الشريعة والقانون بأسيوط، م ٣، عدد ١٨، ٦٦٥؛ الجبوري، "التعليل بالحكمة عند الأصوليين"، مجلة كلية الآداب - جامعة بغداد، عدد ١٥، ١٩١؛ الحكمي، "حقيقة الخلاف في التعليل بالحكمة"، مجلة جامعة أم القرى، عدد ٩، ١٢.
عدد 70 / 110
وأجتزئ هنا في هذا المطلب التمهيدي بنقل ما يفي بالغرض من ذانك البحثين، متخفِّفًا من كثير من العزو والتّطويل، محيلًا من أراد مزيدًا من التفصيل والتمثيل والتوثيق على البحثين المذكورين. فأقول:
العلّة لفظٌ مشترك متعدِّد المعاني في كلام الأصوليين، وهو يأتي عندهم في معنيين رئيسين: السبب والحكمة.
أمّا السبب فهو الوصف الظاهر المنضبط الذي يلزم من حصوله حصولُ الحكم في حقّ المكلّف، لتحقيق حكمة، كالسفر الذي يلزم عنه إباحة الفطر في رمضان، والدلوك الذي يلزم عنه وجوب صلاة الظهر. ويكثر أن يُعبَّر عن السبب عند الأصوليين والفقهاء بألفاظ أخرى مثل: العلّة، والموجب، والمعرّف، والمناط، والمقتضي، والعلة السببية، وأمارة المصلحة، والمظنّة.
وأمّا الحكمة، فهي مقصود الحكم، أو ما لأجله شُرع الحكم. ويمكن تعريفها بأنّها: المعنى المَصلحي (المناسب) المقصود جلبه أو دفعه من تشريع الحُكم إن كان تكليفيًّا، أو المتضمَّن فيه إن كان وضعيًّا، أو قُلْ: هي باعث الشّرع على التّكليف بالحُكم، أو على وضعه. قال الغزالي: «لسنا نعني بالحكمة إلا العلّة المخيلة والمعنى المناسب» (^١). وقال الطّوفي: «المراد بحكمة الحُكم: هو المعنى المناسب الذي نشأ عنه الحُكم» (^٢). ويُعبَّر عنها في كلام الفقهاء والأصوليين بـ المصلحة، وعين المصلحة، ووجه المصلحة، والمعنى، والمعنى المُخيل، والمعنى المناسب، والعلّة، والمَئِنَّة، وحقيقة العلّة، ورُوح العلّة، وعلّة السّبب، وعلّة العلّة، والباعث، والحامل، والدّاعي، والمحرِّك، والغرض، والمغزى، والمرمى، والمراد، والمقصد، والمقصود، والقصد، والغاية، والفائدة، والعلّة الغائيّة.
وهي ضربان: حِكمة الحُكم، وحِكمة السّبب.
فحكمة الحُكم: هي المعنى المصلحي المقصود جلبه أو دفعه من تشريع الحُكم التّكليفي:
_________
(^١) الغزالي، شفاء الغليل، ٦١٣.
(^٢) الطوفي، شرح مختصر الروضة، ١/ ٤٢٣.
عدد 70 / 111
• كحفظ العقل المقصود من تحريم شرب الخمر. وتحصيل الزّجر، ومن ثمّ تقليل القتل، المقصود من إيجاب القصاص.
• وكحفظ الأسرة والنّسل المقصود من تحريم الزّنى.
• وكدفع المشقّة (=التّيسير أو التّخفيف) المقصود من إباحة الفطر للمسافر.
وهذا النّوع من الحكمة أولى بأن يُخصّ باسم المقصد أو الغرض أو الباعث.
وحكمة السّبب: هي المعنى المصلحي الذي لأجل اشتمال سبب الحُكم عليه، علَّق الشّارع الحُكمَ بهذا السّبب، وذلك لتحقيق حكمة الحُكم التكليفي المترتِّب على هذا السّبب في نهاية الأمر:
• كالمشَقّة المتضمَّنة في السّفر التي من أجلها جُعل السّفر سببًا لإباحة الفطر؛ تحقيقًا لحكمة التّيسير.
• وكتضييع المال المتضمَّن في السّرقة، الذي من أجله جُعلت السّرقة سببًا لوجوب القطع؛ تحقيقًا لحكمة الزّجر عن تضييع المال.
• وكتشوُّش الذِّهن المتضمَّن في غضب القاضي، الذي من أجله جُعل الغضب سببًا لكراهة القضاء أو تحريمه؛ تحقيقًا لحكمة العدل.
• وكالإسكار المتضمّن في شرب الخمر، الذي من أجله جُعل شرب الخمر سببًا لوجوب الحدّ؛ تحقيقًا لحكمة الزّجر عن تضييع العقل، ودفع ما يلزم عن تضييعه من مفاسد.
وألصق الأسماء بهذه الحكمة: المعنى، والمئنّة، وعلّة السّبب، وعلّة العلّة، وحقيقة العلّة.
وأمّا المَظِنّة، بفتح الميم وكسر الظّاء، فهي المحلّ/ الوصف الظاهر المنضبط الذي يُظنّ فيه وجود الحكمة.
وهذا المحلّ - الذي هو مظنّة الحكمة - يختلف بحسب نوع الحُكم:
• فإن كان الحُكم تكليفيًّا، كالوجوب والحرمة ونحوها: كان المحلّ هو فعل المكلَّف الذي تعلَّق به الحُكم، فمثلًا المحلّ في حُكم تحريم شرب الخمر، هو الفعل "شرب الخمر"، وهذا الفعل
عدد 70 / 112
مظنّة إحداث السُّكر. ومحلُّ الحُكم في حرمة السّرقة، هو فعل السّرقة، وهو مظنّة تضييع المال. ومحلُّ الحُكم في إباحة البيع هو فعل البيع (التّعاقد)، وهو مظنّة تراضي المتبايعين بتبادل الملك، وهذا التراضي مظنّة رغبتهما، أو حاجتهما، إلى هذا التّبادل، وهكذا …
• وإن كان الحُكم وضعيًّا، كالسّبب والشّرط والمانع، كان المحلّ هو الفعل أو الصّفة أو الحَدث الذي وضعه أو جعله الشّارع سببًا أو شرطًا أو مانعًا. وهو السَّبب نفسه، أو الشّرط، أو المانع، نفساهما: كفعل السّفر الذي هو سبب إباحة الفطر، ومظنّة المشقّة. وصفة البلوغ التي هي شرط وجوب الصّلاة، ومظنّة تكامل العقل. وفعل القتل الذي هو مانعٌ من استحقاق الميراث، ومظنّة استعجال الشيء قبل أوانه بفعلٍ محرّم.
وعليه، فالمظنّة، وإن اشتهر إطلاقها على العلّة بمعنى السّبب، فهي أعمّ منه، لأنّها تشمل الشّرط والمانع ومحلّ الحُكم التّكليفي؛ إذ كلّ أولئك مظانّ لحكمة الحُكم المتعلِّق بها، تكليفيًّا كان أو وضعيًّا.
ويتحَدَّد المعنى المقصود من العلة إذا جاءت في كلام الأصوليين بحسب قرائن السياق، فإذا ذُكرت العلة والسبب في سياق واحد، كما يذكرهما الشاطبي وغيره، فالمقصود بالعلة حينئذٍ الحكمة (أي العلة الغائية)، وإذا ذُكرت العلة والحكمة في سياق واحد، كقول كثير من الأصوليين: يدور الحكم مع العلة لا مع الحكمة، فالمقصود بالعلة في هذا السياق السبب أو المظنة (العلة السببيّة).
وأمّا التّعليل فهو يُطلق أصوليًّا على: بيان علّة الحُكم، سواء أكان ذلك بفعل الشّارع، أم المجتهد، وسواء أكان ذلك لمجرّد إبداء الحكمة التشريعيّة للحكم من غير ربط الحكم بهذه الحكمة وجودًا وعدمًا، أم لغرض نوط الحكم بها وجودًا -كما في قياس الطرد - أو عدمًا - كما في قياس العكس - أو كليهما.
كما يُطلق التّعليل على القول بأنّ الأحكام معلَّلة بالمصالح. فالقائلون بالتّعليل هم الجمهور، ويقابلهم الظّاهرية المنكرون للتّعليل.
عدد 70 / 113
وأمّا فيما يخصّ مصطلحي: التّعليل بالمظنّة والتّعليل بالحكمة، فالمقصود بهما نوط الحكم بالعلّة، سواء أكانت علة سببية (مظنّة)، أم علّة غائية (حكمة). فقول الأصوليين: يجوز - أو لا يجوز - التعليل بالحكمة، معناه: يجوز - أو لا يجوز - نوطُ الحُكم بالحكمة، وجودًا أو عدمًا، وليس المقصود به: أنّ الأحكام من حيث المبدأ معلّلة بالمصالح والحِكَم، ولا المقصود به مجرّد بيان الحكمة التشريعية للحكم من غير نوطٍ له بها.
وإذا تقرّر ما سبق، فـ «التّعليل بالمظنّة» هو نوط الحُكم، وجودًا، أو عدمًا، أو كليهما، بالمظنّة، وهو يُطلق في مقابل «التّعليل بالحكمة» الذي هو نوط الحكم، وجودًا، أو عدمًا، أو كليهما، بالحكمة.
ومعنى النّوط وجودًا: إثبات الحُكم في كلّ محلٍّ تُوجد فيه المظنّة أو الحكمة. وهذا قد يقتضي قياس الطَّرد، كما في قياس الجوع والألم المفرطين على الغضب؛ لأنّهما يشوّشان الذّهن (وجود الحكمة). وكما في قياس الأرزّ على البرّ بعلّة الكيل التي هي ضابط محلّ الحُكم بتحريم ربا الفضل عند الحنفيّة (وجود المظنّة).
ومعنى النّوط عدمًا: نفي الحُكم عن كلّ محلٍّ تنتفي عنه المظنّة أو الحكمة. وهذا قد يقتضي قياس العكس، كنفي حُكم الكراهة عن قضاء القاضي مع الغضب اليسير؛ لأنَّه لا يشوّش (انتفاء الحكمة). وكما في نفي الحنفيّة حُكم التّحريم عن بيع قليل البرّ بقليل البرّ، كالحَفْنة بالحَفنتين؛ لأنّه لا يُكال (انتفاء المظنّة).
ولحصول المظنّة والحكمة في آحاد الوقائع المحكوم فيها ثلاثُ حالات:
الأولى: أن يحصلا معًا في الواقعة محلّ الحكم.
والثّانية: أن ينعدما معًا.
والثّالثة: أن تُوجد إحداهما في الواقعة دون الأخرى.
وفي هذه الحالة الأخيرة فقط يحدث الإشكال الفقهي، ويُحتاج إلى الاجتهاد بالمفاضلة والموازنة بين التعليل بالمظنّة والتّعليل بالحكمة.
عدد 70 / 114
والقاعدة العامّة التي تحكم عمليّة الموازنة بين نوط الحكم بالمظنّة ونوطه بالحكمة عند الفقهاء والأصوليّين، بإطباقٍ منهم، هي أنّ الأصل والغالب أن يُناط الحُكم بالمظنّة (التي تكون منصوصة عادة) لا بالحكمة (التي تكون مستنبطة عادة). ويُخرَج عن هذا الأصل في حالات خاصّة هي ما سنوضّحه في هذا البحث إن شاء الله تعالى.
والغاية من نوط الحكم بالمظنّة لا بالحكمة هي تشوُّف الشّارع إلى الضّبط والحَسْم والوضوح في وضع الأحكام وسنّ القوانين. ومقصدُ الضّبط هذا ينطوي على مقاصد أو مصالح أخرى. فالضَّبط، على التّحقيق، ليس غايةً في نفسه، بل الغاية الحقيقيّة هي ما يترتَّب عليه من مصالح للمكلّفين أفرادًا وجماعاتٍ. وتتمثّل هذه المصالح - المترتّبة على الضّبط - في ثلاثة معانٍ يمكن عدُّها الغايات المصلحيّة لنوط الأحكام بالمظانّ دون الحِكَم، وهي: التّسهيل، والاحتياط، وقطع النّزاع. وقد تجتمع هذه الغايات، كلّها أو بعضها، في المثال الواحد والمسألة الواحدة، وقد يتجلَّى انفراد أحدها أو غلبته على غيره في أمثلة أو مسائل أخرى.
المطلب الثاني: أشكال تصرّفات الفقهاء عند تردُّد الحكم بين المظنّة والحكمة
بالاستقراء والتأمّل فيما يُوجد عند الفقهاء من مسائل فقهية، يتردَّد الحكم فيها بين أن يُناط بالمظنة، أو يُناط بالحكمة، وجدتُّ أنّ تصرُّفاتِهم، تتّخذ أشكالًا أربعة:
الأوّل: أن يقطعوا الحكم عن المظنّة المنصوصة، ويديروه مع الحكمة وجودًا وعدمًا، وهذا إذا كانت الحكمة منفردة بالحكم، ومفهومة بوضوح من النصَّ على المظنّة.
ومثاله: «لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان» (^١)، أداروا حكم كراهة القضاء مع تشوُّش الذهن (الحكمة) وجودًا وعدمًا، وقطعوه عن الدوران مع ذات الغضب (المظنّة المنصوصة)، فكلُّ ما يشوِّش - كالألم والاحتقان والجوع والعطش المفرطين - مكروهٌ معه القضاء. والغضبُ اليسير غير المشوِّش يرتفع عنه حكم الكراهة. فالغضب نفسه لم يعد مَناطًا للحكم، بل تشوّش الذهن، وجودًا وعدمًا (^٢).
_________
(^١) أحمد، المسند، ٣٤/ ١٤ واللفظ له. قال الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ البخاري، الصحيح، ٩/ ٦٥؛ مسلم، الصحيح، ٣/ ١٣٤٢.
(^٢) ينظر: ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، ٤/ ١٨٥؛ ابن حجر، فتح الباري، ١٣/ ١٣٧.
عدد 70 / 115
ومثاله أيضًا: اجتهاد الجمهور في حديث: «إذا استيقظ أحدُكم من نومه فليغسل يده قبل أن يُدخلها في وَضوئه، فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده» (^١)، أداروا حكم ندب غسل اليد على الشكّ في نجاستها (الحكمة)، سواء أكان ذلك بسبب الاستيقاظ من النوم (المظنة المنصوصة)، أم غير ذلك من الحالات، ورفعوا حكم ندب الغسل عن المستيقظ من نومه المتيقِّنِ عدمَ نجاسة يده، كمن نام ويداه مقيّدتان خلف ظهره، أو كمن نام ويداه في قفّازين. فالاستيقاظ من النّوم ليس مناطًا للحُكم، بل الشكّ في نجاسة اليد، وجودًا وعدمًا (^٢).
والشكل الثاني: عكس الأول وهو: أن يديروا الحكم مع المظنّة المنصوصة، ويقطعوه عن الحكمة بالكلّية، وهذا في الأحكام التعبّدية والتقديرية والمخصوصة بأصحابها.
ومثاله: تحريم لحم الخنزير، فالحكمة هي كونه رجسًا وقذرًا، ومع هذا لا يُقاس عليه غيره من الحيوان، حتى لو فُرض كونه أقذر منه، ولا يرتفع حكم التحريم عن الخنزير، حتى لو جعلناه يعيش في بيئة نظيفة، ولم نطعمه إلا طعامًا نظيفًا. فحكم التحريم هنا يدور مع المظنّة (محل الحكم)، وهي تناول لحم الخنزير، وجودًا وعدمًا، وهو مقطوع عن حكمة التحريم، وهي كون الخنزير رجسًا وقذرًا أو مصدرًا لكثير من الأمراض، وغير ذلك ممّا يُقال في حكمة تحريم أكل الخنزير.
ومثاله أيضًا: وجوب افتتاح الصلاة عند الجمهور بلفظ التكبير "الله أكبر" لحِكمة إجلال الله تعالى وتعظيمه، ولا يُقاس على لفظ التكبير غيره، وإن أدَّى معنى الإجلال والتعظيم، كـ "الله أعظم"، و"الله أجلّ"، كما أنّ الصلاة تصحّ مع لفظ التكبير، حتى لو كان المصلّي وقتئذٍ غافلًا عن معنى التعظيم والإجلال (فقدان الحكمة) (^٣).
ومثاله أيضًا: الأحكام المخصوصة بالنصّ، كشهادة خزيمة التي جُعلت بشهادة رجلين (^٤)، وإجزاء العَناق عن أبي بردة (^٥)، وإباحة الزواج بأكثر من أربع للنبي، ﷺ، وغير ذلك من الأحكام المخصوصة بأصحابها بالنصّ، التي قد تُفهم حكمةُ تخصيصها بأصحابها، ولكن، مع ذلك، لا يُقاس عليها.
_________
(^١) البخاري، الصحيح، ١/ ٤٤؛ مسلم، الصحيح، ١/ ٢٣٣.
(^٢) ينظر: النووي، شرح صحيح مسلم، ٣/ ١٨٠؛ ابن حجر، فتح الباري، ١/ ٢٦٤.
(^٣) ينظر: ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ١/ ٢٦٠.
(^٤) قال الألباني: «صحيح. أخرجه أبو داود (٣٦٠٧)، والنسائي (٢/ ٢٢٩)، والحاكم (٢/ ١٧ - ١٨)، وأحمد (٥/ ٢١٥)». الألباني، إرواء الغليل، ٥/ ١٢٧.
(^٥) البخاري، الصحيح، ٢/ ٢٣؛ مسلم، الصحيح، ٣/ ١٥٥٢.
عدد 70 / 116
والشكل الثالث: أن يُبقوا الحكم دائرًا مع المظنّة المنصوصة لا مع الحكمة، ولكن يشترطون في المظنّة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى الحكمة.
ومثاله حكم إباحة الفِطر في رمضان مع السّفر، أداروا الحكم مع السّفر لا مع المشقَّة، فلم يجيزوا للحمَّالين وأصحاب المهن الشاقَّة الفطر كالمسافر (^١)، ومع هذا فإنّهم، في جمهورهم، قيَّدوا السّفر المبيح للفطر بكونه طويلًا، وضبطوا طوله: إمّا بمسافة معيّنة، كأربعة بُرُد، وإمّا بمسافة تُقطع في مدّة معيّنة، كمسيرة ثلاثة أيام، أو يوم وليلة، وذلك التفاتًا إلى معنى المشقّة (^٢). وكذلك المرض المبيح للفطر ضبطوه بكونه يشقّ، أو يضرّ، معه الصوم، حالًا أو مآلًا (^٣).
ومثاله أيضًا: حكم نقض الوضوء بلمس المرأة عند الجمهور، فالسّبب المنصوص هو مطلق لمس النِّساء، ومع هذا فقد اشترط الفقهاء في هذا اللمس شروطًا لكي يكون مظنّةً للحِكمة، أي للمعنى المناسب لحصول الانتقاض بلمس لمرأة، وهو الشهوة، فاشترط المالكية (^٤) والحنابلة (^٥) وجودَ الشهوة (اللذة) أو قصدَها، واشترط الحنفية (^٦) وجودَ المسّ الفاحش، أي مباشرة الجسد الجسد، إذ المعتبر عندهم شهوة قويّة تكون مظنة لخروج المذي لا أي شهوة، واشترط الشافعيّة (^٧) أن تكون المرأة من اللاتي يُقصدن باللمس للالتذاذ والشهوة عادةً، فلم يعتبروا لمس الصغيرات، ولا لمس المحارم، لأنّهنّ لسن مظنّة للشهوة. وكلُّ هذه الاشتراطات - على تفاوتها - تلتفت في نهاية المطاف إلى حكمة الحُكم بنقض الوضوء من لمس المرأة، وهو أنّه مظنّة للشهوة والالتذاذ.
والشكل الرابع: وهو عكس السابق: أن يديروا الحُكم مع الحكمة لا مع المظنّة المنصوصة، ولكن يشترطون مع تحقُّق الحكمة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى المظنّة المنصوصة.
ومثال ذلك اجتهاد الشافعيّة (^٨) والحنابلة (^٩) في حديث الاستنجاء أنه، ﷺ، «أمر بثلاثة أحجار» (^١٠)، فقد أداروا الحكم على إنقاء المحلّ من النجاسة (الحكمة)، ولم يديروه على استعمال الثلاثة أحجار (المظنة)، فمن جهة الوجود: قاسوا على الحجارة كلّ
_________
(^١) ينظر: ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، ٢/ ٤٢٠؛ البكري الدمياطي، إعانة الطالبين، ٢/ ٢٦٧؛ البهوتي، دقائق أولي النهى، ١/ ٤٧٨؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، ١٧/ ١٧٦.
(^٢) ينظر: ابن قدامة، المغني، ٣/ ١٠٦؛ ابن الهمام، فتح القدير، ٢/ ٣٠.
(^٣) ابن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، ٣/ ١٣٨؛ الموسوعة الفقهية الكويتية، ٢٨/ ٤٥.
(^٤) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، ١/ ٢٩٦.
(^٥) البهوتي، كشاف القناع، ١/ ٣٠١.
(^٦) الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، ١/ ١٢.
(^٧) الشربيني، مغني المحتاج، ١/ ١٤٥.
(^٨) المرجع السابق، ١/ ١٦٣.
(^٩) البهوتي، كشاف القناع، ١/ ١٣٩.
(^١٠) أبو داود، سنن أبي داود، ١/ ٢٠٨. قواه الارناؤوط وحسنه الالباني.
عدد 70 / 117
مزيل من الطاهرات، كالورق وغيره، ومن جهة العدم: قالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ. ولكنّهم، مع ذلك، اشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسَحاتٍ على الأقلّ، وهذا الاشتراط التفاتٌ منهم إلى لفظ التثليث الوارد في المظنّة المنصوصة.
أمَّا الحنفيّة (^١) والمالكيّة (^٢)، فأداروا الحكم مع حكمة الإنقاء وقطعوه عن المظنة تمامًا، فأجازوا الاستنجاء بكلّ طاهر مزيل، وقالوا بعدم إجزاء الحجارة الثلاثة إذا لم تنقِ المحلّ، ولم يشترطوا في المزيل أن يُستعمل في ثلاث مَسحات، بل تكفي المسحة الواحدة إذا كانت مُنقية، فالعبرة عندهم بحكمة الإنقاء لا بعين المزيل ولا عدده. فهم أداروا الحكم مع الحكمة بالكُلِّية، وجودًا وعدمًا، لوضوحها وانفرادها، فاجتهادهم في هذه المسألة من الشكل الأول. والشافعيّة والحنابلة أداروه مع الحكمة، ولكنّهم اشترطوا معها شرطًا استمدّوه من المظنة المنصوصة، إمّا احترامًا لظاهر النصَّ، وإمّا لأنَّهم قدَّروا وجود نوعٍ من التعبُّد في الحكم المنصوص. وإمّا لأمر معنوي وهو أنَّ إنقاء الدّبُر يعسر أن يكون بمسحة واحدة، كما يعسر غالبًا التحقّق من حصول الإنقاء في الواقع لغياب موضعه عن نظر المستجمر، فكان الاحتياط ألّا يُجتزأ بأقلَّ من ثلاث مسحات. وهو ملحظٌ وجيه.
المطلب الثالث: العوامل المؤثِّرة في نوط الحكم بالمظنة أو بالحكمة في الوقائع:
نظريًّا، التعليلُ بعين الحكمة يَفْضُل التعليل بالمظنة من حيث إنه تعليل بالمقصود من الحكم نفسه، لا بما هو وسيلة إليه، وهذا أدنى إلى تحقيق قصد الشارع من الحكم من غير تفويت له في أيّ جزئية من جزئيّات الحكم.
وفي المقابل التعليل بالمظنة يَفْضُل التعليل بالحكمة من حيث ما يحقِّق من مصالح ثانويةٍ تتمثّل في الضبط مع ما يستبطنه هذا الضبط من التسهيل والاحتياط وقطع النزاع، بالإضافة إلى تحقيق الحكمة والمقصود من الحُكم في معظم الجزئيّات. والتضحيةُ بفوات تحقيق المقصود من الحُكم في بعض الجزئيات؛ نتيجةً للنوط بالمظنة، تُعوِّضُه المصالح الأخرى المترتِّبة على الضبط واطّراد الأحكام.
_________
(^١) ابن الهمام، فتح القدير، ١/ ٢١٣.
(^٢) الحطاب، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، ١/ ٢٨٩.
عدد 70 / 118