Explanation of al-Tahawi's Creed by Saleh Al-Sheikh
شرح العقيدة الطحاوية - صالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل
शैलियों
شرح العقيدة الطحاوية
للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي
والمسمى بـ «إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل»
شرحها فضيلة الشيخ العلامة
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
حفيد مفتي الديار السعودية
وسليل شجرةٍ مباركة حَمَلَت راية التوحيد والدعوة ابتداءً من أصلها المبارك الإمام المجدد
محمد بن عبد الوهاب ﵀
قال سماحته «والسنة عزيزة واتباع طريقة السلف مطلوبة، والواجب على المرء أن يُخَلِّصَ نفسه من هواها، وأن يمتثل ما دلت عليه السنة دون مخالفة» .
بدأ فضيلته بشرحها في مدينة الرياض يوم السبت ١٣ ذي القعدة ١٤١٧هـ
1 / 1
: [[الشريط الأول]]:
مقدمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُوًا أحد، واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ﷾ وتقدس وتعاظم ربنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبد الله ورسوله ﷺ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذا الدرس شروعٌ في شَرْحِ مُخْتَصَرٍ في العقيدة؛ مُخْتَصَرٍ مهمّ لأنَّ أهل العلم يُحَبِّذُونَ إقْرَاءَهُ وشرحه ويؤكدون على أهمية ما اشتمل عليه من مسائل الاعتقاد بلفظٍ مُوجَز وبيانٍ حَسَنْ.
وهذه العقيدة التي نبتدئ شرحها في هذه الدروس هي عقيدة العالم المحدِّث: أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، المتوفى سنة ٣٢١هـ، وهي المسماة بالعقيدة الطحاوية نسبةً إليه.
وهي عقيدةٌ موافقة في جُلِّ مباحثها لما يعتقده أهل الحديث والأثر، أهل السنة والجماعة، كما سيأتي في بيانه إن شاء اللهُ تعالى.
وهذه العقيدة الطحاوية ذَكَرَ عددٌ من أهل العلم أنَّ أتْبَاعَ أئمة المذاهب الأربعة ارتضوها؛ وذلك لأنها اشتملت على أصول الاعتقاد المُتَّفَقِ عليه بين أهل العلم، وذلك في الإجمال لأنَّ ثَمَّ مواضع اُنتُقِدَت عليه كما سيأتي بيانه.
وأبو جعفر الطحاوي من علماء الحديث المعروفين ومن الفقهاء المشهورين أيضًا، وكان شافعيًا تَفَقَّهَ على المُزَنِي ﵀ تلميذ الشافعي، ثم انتقل في الفروع من مذهب الشافعية إلى مذهب الحنفية فصار في المذهب حنفي المذهب إلا أنَّهُ لا يتعصب لقول أبي حنيفة ولا يُقَلِّدُهُ؛ بل صنيع العلماء المحققين أنْ يتابعه فيما ظهر فيه الدليل وأن يأخذ بالدليل إذا خالف قول الإمام.
وجرت مناظرة في ذلك، أو جرى حوارٌ في ذلك بين الطحاوي وبين أحد العلماء في مصر من الحنفية، فقال الطحاوي في مسألة بغير قول الإمام أبي حنيفة، فذاك قال له: ألست من أتباع أبي حنيفة؟
قال: بلى، ولكني لا أقَلِّدُهُ؛ لأنَّهُ لا يُقَلِّدُ إلا عصبي - يعني متعصبًا -.
فقال الآخر وغبي أيضًا - يعني لا يقلد من أهل العلم إلا عصبيٌ أو غبي -.
فصارت الكلمة مثلًا في مصر تداولها الناس في مقولة هذين العالمين، وذلك يدل على تحرّي أبي جعفر الطحاوي للحق وعلى ابتغائه له.
وهو في الفروع كما ذكرنا حنفي المذهب، وأما في الأصول ففي الجملة هو على مذهب أهل السنة والجماعة أتباع أهل الحديث والأثر إلا في مسائل تَبِعَ فيها مُرجئة الفقهاء.
وفي جُمَلِ كلامه في هذه العقيدة يوافق معتقد السلف إلا في المواضع التي ذكر فيها مسألة الإيمان في تعريفه حيث قال (والإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان) وقال (وأهله في أصله سواء) وهذه من مقالة المرجئة، وقد ذكر هو في صدر عقيدته هذه أنَّ هذا الُمعتَقَد الذي كتبه هو اعتقاد أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وهذا ظاهر فيما ذَكَرَ من مسألة الإيمان.
* فنقول: هذا الكتاب -كما سيأتي- كتابٌ مشتملٌ على أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بعبارةٍ حسنة جيدة وبتقريرٍ لها طيِّب، إلا في مسائل انتُقِدَتْ عليه.
ولهذا كان بعض مشايخنا عافاهم الله وخَتَمَ لهم برضاه يقول: هذه عقيدة الطحاوي ولا يقال هذه عقيدة أهل السنة والجماعة إذا أُرِيدَ الجميع، لأنّه ثَمَّ مسائل خالف فيها معتقد أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر في الأصول وفي التعبير عن الاعتقاد كما سيأتي بيانه.
وهذه العقيدة اهتَمَّ بها علماؤنا لأجْلِ شَرْحِهَا العظيم؛ وهو شَرْحُ ابن أبي العز الحنفي من تلامذة الحافظ ابن كثير صاحب شرح العقيدة الطحاوية المشهور بينكم.
على أنَّ هذه العقيدة لها شروحٌ كثيرة، فالماتريدية شَرَحُوهَا بشروحٍ متنوعة، ووجَّهُوا الكلام فيها على معتقد أتباع أبي منصور الماتريدي.
ولكن شرح ابن أبي العز وجَّهَهَا توجيهًا سلفيا تابِعًَا فيه طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية وطريقة ابن القيم - رحمهما الله تعالى - وأجاد في ذلك بحيث صار هذا الشرح مرجعًا في علم الاعتقاد بعامة، ودافع الشارح عن المصَنِّفْ الطحاوي في مواضع مما عبَّرَ فيه بغير ما ينبغي من التعبير أو فيما قرَّرَهُ في مسألة الإيمان، بما هو معروفٌ في موطنه وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى عند التعرض لعبارات المصنف.
هذا الكتاب أو هذه الرسالة والنبذة؛ العقيدة الطحاوية فيها كما ذكرنا ذِكْرُ الاعتقاد بعامة ولكنَّهُ أُخِذَ عليه أنه لم يُرَتِّبْهُ، ولهذا وقع الكلام على الصفات مُفَرَّقًا، ووقع الكلام على القدر مُفَرَّقًَا، ووقع الكلام على الإيمان مُفَرَّقًا، وهكذا في نظائر هذه المسائل.
فهي كانت شبيهةً بالإملاء على ما جاء في قلب المؤلف ﵀ وأجزل له المثوبة - دون ترتيبٍ علميٍ يجمَعُ المسائلَ بعضَهَا إلى بعض؛ يجمع النظير إلى نظيره، والشبيه إلى شبيهه.
1 / 2
ولهذا وَقَعَ كلام الشارح علي بن علي بن أبي العز الحنفي وقَعَ كذلك تَبَعًا للأصل غير مرتَّبْ.
وذَكَرَ في أواخر شرحه أنه تَمَنَّى أنْ لو رَتَّبَ هذا الشرح على ترتيب أركان الإيمان، ثم ما يتصل بذلك من الكلام، ليكون أبلغ في الانتفاع؛ فيجعل الكلام في الألوهية مُتَتَابِعًَا، والكلام في الصفات مُتَتَابِعًَا، والكلام في الإيمان مُتَتَابِعًَا، وفي القدر مُتَتَابِعًَا، وفي النبوات مُتَتَابِعًَا إلى آخر ذلك.
وهذا لو حصل لكان أنفع وأدعى لاستحضار شرح تلك المسائل.
هذه العقيدة أيضا على جلالتها ووَجَازَةِ ألفاظها تحتملُ شرحًا طويلًا كما صنع الشارح ابن أبي العز الحنفي، وتَحْتَمِلُ شَرْحًَا متوسطًا، وتحتمل شرحًا مُخْتَصَرًَا، ولما كُنَّا قد شرحنا عددًا من كتب العقيدة في سِنِيِّنَا التي مَرَّتْ، رأيت -والتوفيق بيد الله ﷿ أن أجعل الكلام عليها ليس على طريقة الشارح في الاستطراد في ذكر الشرح وإدخال المسائل بعضها في بعض، ولكن على طريقةٍ مرتبة متعلقة:
- أولا: بألفاظ المُصَنِّفْ.
- ثانيًا: بالمسائل التي أورَدَهَا المُصَنِّفْ.
- وثالثا: بتحقيق القول في أنَّ ما ذَكَرَهُ هو مذهب أهل السنة والجماعة.
- ورابعا: في أدلة ما ذكره من المسألة.
- خامسا: في ذِكرِ تفريعاتِ تلك المسألة على اعتقاد أهل الحديث والأثر.
- وسادسًا: في ذِكر الأقوال المخالفة؛ أقوال أهل الفِرَقْ، وأدلَّتِهَا والرد عليها.
وكما تنظر في هذا التقسيم يحتمل تطويلًا كبيرًا، ويحتمل توسطًا، ويحتمل اختصارًا.
فأسأل الله ﷿ أن يوفقني لما ينفعكم وأن ينفعكم بما تسمعونه إن شاء الله وأرجوا أن يكون منكم الاجتهاد في متابعة الشرح والتَّفْرِيْعْ على هذه المسائل من جهة النظر في الشروح، وكلام شيخ الإسلام وابن القيم وأئمة الدعوة رحمهم الله تعالى جميعا؛ لأنَّ في بحثك بعد الدرس ومراجعتك للدرس ما يُؤَكِّدُ هذه المسائل ويُبَيِّنُهَا، لأنَّ التطويل والتفصيل قد يُذهِبُ بَعضُه بعضًا عند المبتدئ والمتوسط، لكن إذا راجعت وأكدت على نفسك بالمراجعة المستمرة الأسبوعية كان في ذلك إن شاء الله تعالى خير كثير واستحضارٌ لتلك المسائل.
اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك فهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا، اللهم لا يسير إلا ما يَسَّرْتْ، ولا سَهْلَ إلا ما جعلته سَهْلًَا، أنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وسددنا في القول والفهم والعمل إنك على كل شيء قدير. نعم
1 / 3
قَالَ الْعَلَّامَةُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ -بِمِصْرَ- ﵀:
هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
_________
هذه المقدمة اشتملت على مسائل:
[المسألة الأولى]:
أنَّ هذه عقيدة، والعقيدة فَعِيلَة بمعنى مَفْعُولْ؛ يعني مَعْقُودًَا عليه.
والمسائل منقسمة إلى أخبار وأحكام كما قال ﷿ ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام:١١٥] .
تمت كلمة الله على هذين القسمين: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي.
والأخبار يجب تصديقها.
فما كان مرجعه إلى التصديق والإيمان به ولا دخل للعمليات به فإنه يُسَمَّى عقيدة؛ لأنّ مرجعه إلى علم القلب.
فسُمِّي هذا عقيدة لأنه معقودٌ عليه القلب - يعني كأنَّهُ دخل إلى القلب فعُقِدَ عليه فلا يخرج منه من شدة الاستمساك به ومن شدة الحرص عليه - لأنْ لا يخرج أو ينفلت.
وهذا اللفظ لفظ (العقيدة) كما ذكرتْ راجعٌ إلى علم القلب؛ لأنه هو الذي يُعْقَدُ الشيء الذي فيه، وأمَّا العمليات فهذه من الإيمان -كما هو معروف- لكن مورِدُهُا عمل الجوارح، لذلك لم تدخل في العقيدة.
وهناك ألفاظ مرادفة للعقيدة للدلالة على ما ذكرنا وهي: التوحيد، السنة، الشريعة، وأشباه ذلك:
- فمنها ما يكون مختصًّا بالعقيدة كالتوحيد.
- ومنها ما يكون لها ولغيرها كالسنة والشريعة، فإنَّ لفظ الشريعة يشمل العقيدة أيضًا؛ لأنَّ الله ﷿ بَيَّنَ لنا أنَّ الأنبياء اجتمعوا على شريعةٍ واحدة فقال ﷿ ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:١٣]، فهذه شريعةٌ أُجْمِعَ عليها بين المرسلين، والمقصود بها التوحيد والعقيدة الواحدة.
وتأتي الشريعة ويُرَادُ منها العمليات كما قال ﷿ ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:٤٨]، وكما ثبت في الصحيح أنه ﷺ قال (الأنبياءُ إِخْوة لعَلاّتٍ الدين واحد والشرائع شَتّى) (١) .
نخْلُصُ من ذلك إلى أنَّ التصانيف في العقيدة قد تكون باسم: العقيدة أو باسم التوحيد أو باسم السنة أو باسم الشريعة كما هو موجودٌ فعلًا في تصانيف أئمة أهل السنة والجماعة.
_________
(١) البخاري (٣٤٤٣) / مسلم (٦٢٧٩)
1 / 4
[المسألة الثانية]:
قوله (أهلُ السنَّة والجماعة) أهل السنة والجماعة، هذا لفظٌ أُطْلِقَ في أواخر القرن الثاني الهجري على أتْبَاعِ الأثر والمخالفين للفِرَقْ المختلفة الذين خرجوا عن طريقة الصحابة والتابعين.
وأول من استعمله بعض مشايخ البخاري - رحمهم الله تعالى - وجَمَعَ بين لفظين، بين (السنة) و(الجماعة)؛ لأنَّ هناك من يدَّعِي اتّباع السنة ولكنه لا يكون مع الجماعة، وهناك من يدعو إلى الجماعة بلا اتِّبَاعِ سنة.
فصارت طريقة أهل الحديث والأثر أتباع السلف الصالح مشتملة على شيئين: اتِّبَاعْ السنة والجماعة.
وكلٌ منهما في الحقيقة لازمٌ للآخر، فاتّباع السنة هو اتّباع الجماعة، واتّباع الجماعة هو اتّباع السنة، وذلك لأنَّ النبي ﷺ صَحَّ عنه في الحديث الذي في السنن أنه قال (وَسَتَفْتَرِقُ هذه الأمَّة عَلَى ثلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. كُلّهَا فِي النّارِ، إِلاّ وَاحِدَةً. وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) (١) .
فصارت الفِرَقْ في النار؛ يعني مُتَوَعَّدَةْ بدخولها في النار، والناجية فرقة واحدة هي الجماعة، وهم المتبعون للسنة الممتثلون لقول النبي ﷺ (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيين مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكوا بها، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) (٢) ... الحديث.
وإذا أُفْرِدَ أهل السنة فقد يُطْلَقُ ويُرَادُ بهم ما يقابل الرافضة والشيعة.
لأنَّ لفظ (أهل السنة) يطلق ويراد به ما يخالف التَّشيُّع، ويُطلق ويراد به أهل الحديث والأثر.
ولهذا زادوا على السنة (الجماعة)، مع أنَّ كلًا منهما ملازمٌ للآخر لأجل أن يكون هناك تحديد في الإطلاق، فيكون المراد بالإطلاق ما يخالف الفرق كلها: الرافضة والخوارج والجهمية، المرجئة والقدرية، والجبرية إلى آخر أصول الفرق.
وقد ذكرنا لكم في أول شرح الواسطية تفصيل معنى أهل السنة والجماعة، ومعنى الجماعة؛ وجماعة الدين وجماعة الأبدان بما يُرجع في ذلك إليه.
_________
(١) أبو داوود (٤٥٩٦) / الترمذي (٢٦٤٠) / ابن ماجه (٣٩٩٣)
(٢) أبو داوود (٤٦٠٧) / الترمذي (٢٦٧٦) / ابن ماجه (٤٢)
1 / 5
[المسألة الثالثة]:
أنّ هذه العقيدة التي ذكرها الطحاوي ﵀ بُنيت على مذهب فقهاء الملة:
أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن.
وهؤلاء عند أهل الحديث والأثر وافقوا السنة والجماعة في أكثر المسائل، لكنَّهُم خالفوهم في أصلٍ عظيمٍ من أصول الدين ألا وهو الإيمان، ولهذا أُطْلِقَ عليهم مرجئة الفقهاء.
فهُم مرجئة لأنَّ كلامهم في الإيمان كلام المرجئة لأنهم أرجَؤُوا العمل عن مسمى الإيمان، وقالوا (إنّ أهله في أصله سواء)، وقيل لهم مرجئة الفقهاء؛ لأنهم فقهاء، اشتهروا بذلك.
فإذن يظهر من هذا التقديم أنَّ هذا المُؤَلَّفْ مبنِيٌّ على كلام أهل السّنة والجماعة بعامة، وعلى مذهب مرجئة الفقهاء في الإيمان بخاصة.
وهذا هو الواقع فِعلًا؛ فإنَّ كلامه في الإيمان هو كلام المرجئة.
فإذًا قوله (أهل السنة والجماعة) يُدخِل فيهم المرجئة؛ مرجئة الفقهاء.
وهذا منه يدل على أنَّ مدلول (أهل السنة والجماعة) يشمل أهل الحديث والأثر ويشمل الماتُريدية والأشاعرة، وهذا باطل.
وهذا القول صَرَّحَ به بعض الشُّرَّاحْ من المتقدمين ومن المتأخرين كالسَّفَّاريني في (لوامع الأنوار) (١) حيث قال في فصلٍ له (اعلم أنَّ أهل السنة والجماعة ثلاث طوائف؛ أهل الحديث والأثر والأشاعرة والماترودية) .
وهذا باطِلٌ؛ لأنَّ أهل السنة والجماعة هم الذين أخذوا بالسنة والجماعة في كل أصول المسائل.
وأعظم المسائل التي حصل فيها الاختلاف أولًا هي مسألة الإيمان ومسائل الأسماء والأحكام، فخالَفَ فيها الخوارج، كما هو معلوم، ثم تَبِعَ ذلك ظهور المرجئة إلى آخر ما حصل.
فإذًا هذه المسألة -مسألة الإيمان- من مسائل الأصول العظيمة فلا يكون من نفاها -يعني من نفى دخول العمل في مسمى الإيمان- على طريقة أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر؛ لمخالفة قولهم للنصوص الكثيرة الدالة على أنَّ العمل من الإيمان كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.
_________
(١) لوائح الأنوار البهية. كما في المنجد في اللغة والأعلام.
1 / 6
[المسألة الرابعة]:
قوله (وما يعتقدون من أصول الدِّين) هذه الكلمة (أصول الدِّين) يُعبَّرُ بها عن العقيدة لأنَّ التعبير عن العقيدة صار فيه اشتراك.
فيُعَبَّر عنها -عن العقيدة- عند أهل الحديث بما ذكرنا لك من العبارات: العقيدة، السنة، التوحيد، الشريعة، وعَبَّرَ عنها المخالفون بِعِلْمِ الكلام.
والذين تركوا الفلسفة وما أصَّلَهُ علماء الكلام في بيان العقيدة إلى ما دَلَّ عليه كلام مُعَظَّمِيهم كالأشعري والماتريدي عَدَلُوا عن (علم الكلام) إلى (أصول الدين) .
لأنَّ كلمة أصول الدين فيها مخالفة للفظ علم الكلام المذموم، وفيها تَوَسُطْ ما بين الألفاظ الشرعية (السنة، العقيدة، التوحيد، الشريعة) وما بين قولهم: علم الكلام.
فأَتوا بهذا اللفظ الذي هو بيْن اللفظين.
ولهذا نقول هذا اللفظ إن كان دليله ومَأخَذُهُ هو مَأْخَذْ التوحيد والسنة والعقيدة والشريعة فلا بأس باستعماله، ولهذا يستعمله أهل السنة والجماعة، ويريدون به المعنى الصحيح وهو أنَّ (أصول الدين) المقصود بها أصول الإيمان الستة وما يَنْدَرِجُ في ذلك من المسائل الأصلية والتّبَعِيَّة.
فكلمة (أصول الدين) كلمة مُرَكَّبَة مُضَافَةْ، ولذلك يقولون هي مُرِكَّبٌ إضافي؛ أُضيف فيه الأصل إلى الدين.
و(أصول الدين) كلمة معناها العقيدة.
يريدون بكلمة (أصول) ما يخالف الفروع وهي العمليات.
وإذا كان اللفظ محدثا أو مُصطَلحًا عليه فنقول لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح إذا كان لم يختص به أهل البدع، فاستعمله طائفة من علماء الحديث والسنة ويعنون به ما دلت عليه الألفاظ الشرعية؛ العقيدة، السنة، التوحيد، الشريعة.
فإذن (وما يعتقدون من أصول الدين) يعني المقصود بها أصول الإيمان المعروفة، وما يتصل بذلك من مباحث، وما خالف فيه أهل السنة أهل البدعة.
1 / 7
نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
_________
قوله (نقُولُ) هذا لأنه لا يُكْتَفَى في الاعتقاد باعتقاد القلب؛ بل لا بد من قول اللسان.
وأعظم قول اللسان وكافِيْهْ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لأنَّ العقيدة الصحيحة اعتقادٌ بالجنان، وقولٌ باللسان حتى يكون الإيمان صحيحًا، ثم امتثال العمليات في الأمر والنهي.
وقوله (مُعتَقدينَ) هذه حال من (نقُولُ) يعني أقول حَالَةَ كوني معتقدا هذا الكلام، عاقدا عليه قلبي، غير متردد فيه ولا مرتاب.
فـ (مُعتَقدينَ) ولو تأخرت فهي حال من الضمير في (نقُولُ) .
وقوله (بتوفيق الله) هذه استعانة بالله ﷿ أنْ يوفقه في القول الحق في ذلك.
والتوفيق اختلفت فيه التفسيرات بما سيأتي بيانه إن شاء الله مفصلًا في ذكر مسائل القدر، فأهل السنة لهم تفسير للتوفيق وللخذلان، وأهل البدع كلٌ له مَشْرَبُه في تفسير التوفيق والخذلان.
قال (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله: إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) اشتملت هذه الجملة على ذِكر التوحيد وعلى تفسيره.
وكلمة (التوحيد) هذه مصدر: وَحَّدَ، يُوَحِّدُ، تَوْحِيدًا؛ يعني جَعَلَ الشيء واحداُ.
قد جاء في السنة عن النبي ﷺ أنه قال في حديث معاذ (إنّك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أنْ يوحدوا الله) (١)، وجاء أيضا في قول الصحابي ﵁ (فأهلَّ رسول الله ﷺ بالتوحيد) (٢) في قوله لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك -التلبية المعروفة في أول الحج-، (فأهلَّ رسول الله ﷺ بالتوحيد)، فإذًا كلمة (التوحيد) جاءت في السنة.
ومعنى التوحيد كما ذكرنا جعل الشيء واحدًا في اللغة، فتوحيد الله معناه أنْ تجعل الله واحدًا.
واحِدْ فيما وحَّدَ الله ﷿ نفسه فيه فيما دلت عليه النصوص.
والنصوص دلَّت على أنَّ الله واحدٌ في ربوبيته، واحدٌ في إلهيته، واحدٌ في أسمائه وصفاته.
فالتوحيد إذًا في الكتاب والسنة راجع إلى توحيد الربوبية، توحيد الإلهية، توحيد الأسماء والصفات، وهذا على التقسيم المشهور.
وقَسَمَهُ بعض أهل العلم إلى تقسيمٍ آخر وهو أنَّ توحيد الله ينقسم إلى قسمين؛ ينقسم:
- إلى توحيدٍ في المعرفة والإثبات.
- وإلى توحيدٍ في القصد والطلب.
وعَنَى بقوله (في المعرفة والإثبات) في معرفة الله ﷿ بأفعاله، وهذا هو الربوبية و(الإثبات) له فيما أثبت لنفسه، وهذا هو الأسماء والصفات.
وقوله (في القصد والطلب) وهو توحيد الإلهية.
وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات جاء في عبارات المتقدمين من أئمة الحديث والأثر، فجاء عند أبي جعفر الطبري في تفسيره وفي غيره من كتبه، وفي كلام ابن بطة، وفي كلام ابن منده، وفي كلام ابن عبد البر، وغيرهم من أهل العلم من أهل الحديث والأثر، خلافًا لمن زعم من المبتدعة أنَّ هذا التقسيم أحدثه ابن تيمية، فهذا التقسيم قديم يعرفه من طالع كتب أهل العلم التي ذكرنا.
إذا تقرر ذلك:
فمعنى توحيد الربوبية: اعتقاد أنَّ الله واحدٌ في أفعاله سبحانه لا شريك له.
وأفعال الله ﷿ منها خَلْقُه سبحانه، ومنها رَزْقُهُ وإحياؤه وإماتته وتدبيره للأمر وإغاثته للناس ونحو ذلك
يعني أنَّ توحيد الربوبية راجعٌ إلى أفراد الربوبية التي هي السيادة والتصرف في الملكوت.
فكل ما رَجَع إلى السيادة والتصرف في الملكوت رجع إلى توحيد الربوبية.
فالإيمان بتوحيد الربوبية معناه أنَّهُ إيمانٌ بأنَّ الله وحده لا شريك له هو المتصرف في هذا الملكوت أمْرًَا ونهيًا، هو الخالق وحده، وهو الرَّزَاقُ وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهو النافع الضار وحده، وهو القابض الباسط وحده في ملكوته، إلى آخر مفردات الربوبية، كما قال ﷿ ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:٣١]، فأثبت أَنَّهُم أقروا بالرُّبُوبِيَّة، وأنْكَرَ عليهم أنهم لم يتقوا الشرك به وتَرْكَ توحيد الإلهية.
وتوحيد الإلهية: هو توحيد الله بأفعال العبيد.
التوحيد في القصد والطلب؛ بأن يُفْرِدَ العبد ربه ﷿ في إنابته وخضوعه ومحبته ورجائه، وأنواع عبادته من صلاته وزكاته وصيامه ودعائه وذبحه ونذره إلى آخر أفراد العبادة بما هو معلوم في توحيد الإلهية.
_________
(١) البخاري (١٤٩٦) / مسلم (١٣٠)
(٢) مسلم (٣٠٠٩) / ابن ماجه (٣٠٧٤)
1 / 8
وتوحيد الأسماء والصفات: هو جعل الله ﷿ واحدًا لا مِثْل له في أسمائه وصفاته كما قال ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١] وكما قال ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤]، وكما قال ﷿ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥] .
إذًا قوله (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله) هنا ذَكَرَ التوحيد لأنَّ الخلاف قائمٌ فيه:
- ففي الربوبية قام الخلاف مع الدُّهْرِيَةْ والفلاسفة الذين يقولون: إنَّ هذا العالمَ قديم لم يزل، وأنه ليس له خالق، بل وُجِدَ هكذا العالم باتفاق، وغير ذلك من مقالات نُفاة الرب ﷿.
وكذلك مخالفة للذين جعلوا الله ربًا ولكن جعلوا معه شريكًا في الربوبية، وهم طوائف من الملل مختلفة، وفي هذه الأمة دَخَلَ ذلك في قول غلاة المتصوفة الذين يقولون:
إنَّ لهذا العالم فيه من يتصرف فيه من الأولياء والأقطاب الذين لكل بلد قطب يمنع ويعطي فيها ويرزق ويحيي ويميت، إلى آخر ما يعتقدون فيه.
- في الإلهية ثَمَّ من خالف.
- في الأسماء والصفات ثَمَّ من خالف كما سيأتي تفصيله.
هنا سؤال: وهو أنه قَدَّمَ القول في الاعتقاد في الله ﷿، لم؟
والجواب عن ذلك أنه قدَّم ذلك لأمرين:
- الأمر الأول: أنّ الإيمان بالله مُقَدَّمٌ على غيره من أركان الإيمان كما قال ﷿ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة:١٧٧]، فَقَدَّمَ الإيمان بالله على غيره، وكما في قوله ﷿ ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة:٢٧٥]، وقول النبي ﷺ في حديث جبريل المعروف (الإيمان أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ) (١) .
- الأمر الثاني: أنَّ الاعتقاد في الله ﷿ هو أصل الإيمان، وبه يصير المرء مؤمنًا، بالاعتقاد في الله ﷿ بالوحدانية بما دَلَّتْ عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأَنَّ محمدا رسول الله، وأَنَّ ذلك هو أول واجبٍ على العبيد.
وفي هذا مخالفة للذين زعموا أنَّ أول واجبٍ على العبد -ويقدمونه في عقائدهم- أن يَعْرِفَ الله، أو أَنْ يستدل على معرفة الله، أو ما يسمونه بالنظر للتوحيد أو للمعرفة، أو بالقصد إلى النظر.
فلما كان أول واجب هو التوحيد قَدَّمَه، مخالَفَةً لمن قال إنَّ أول واجب هو أَنْ تنظر في الدلائل وفي الملكوت لمن كان أهلًا لذلك.
قال (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ)، (إنَّ الله واحدٌ)، لفظ (واحدٌ) هذا من أسماء الله الحسنى، كما قال الله ﷿ ﴿هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الزمر:٤]، وأيضا من أسمائه الحسنى الأحد ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:١] .
و(واحدٌ) يعني أنه لا شريك له، ولذلك كانت كلمة (لا شريكَ لَهُ) هذه مؤكِّدَة تأكِيْدًَا بعد تأكيد.
قال الحافظ ابن حجر وغيره في قوله (واحدٌ لا شريكَ لَهُ) هذا تأكيد بعد تأكيد لبيان عِظَمِ مقام التوحيد.
وكلمة (واحدٌ) هذه راجعة عند أهل الاعتقاد إلى أَحَدِيَّتِه سبحانه.
ونقول الصحيح أنه لا فرق بين واحد وأحد.
والمتكلمون يُفَرِّقُونَ ما بين الواحد والأحد؛ أو واحد وأحد، فيُرْجِعُون الوَاحِدِيَّةْ للصفات، والأَحَدِيَّة للأفعال.
لكن الصحيح أنَّ اسم الله ﷿ الواحد يرجع إليه أَحديته سبحانه في الذات وفي الصفات وفي الأفعال؛ في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قوله (شريكَ لَهُ) هذا تفسير لـ (واحدٌ) وتأكيدٌ له.
ولهذا دلَّ قوله (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) على أَنَّ التوحيد أعظم ما يُفَسَّرُ به نَفْيُ الشريك عن الله ﷿، (نقُولُ في تَوحيدِ الله إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) فالتوحيد يُفسَّر بِضِدِّهِ وهو نفي الشرك كما قال الشاعر:
فالضد يظهر حسنه الضد ****** وبضدها تتبين الأشياء
فقد لا يستقيم معرفة التوحيد بتفاصيله إلا بالإيقان بِنَفْيِ الشرك بأنواعه.
لهذا نقول هنا قوله (لا شريكَ لَهُ) هذا عام يشمل نفي الشريك في الربوبية، ونفي الشريك في الألوهية، ونفي الشريك في الأسماء والصفات.
١ - النوع الأول من أنواع نفي الشريك في قوله (لا شريك له) نفي الشريك لله في ربوبيته:-
والشَّرِكَة في الربوبية راجِعَةْ إلى جعل المخلوق له من صفات الرب ﷿ في صفات الربوبية؛ يعني أنْ يَجْعَلَ للمخلوق تصرفًا.
إذا جعل للمخلوق تصرفًا في الكون مما يختص به الله ﷿، فهذا ادِّعَاءٌ للشريك معه في الربوبية.
أو أن يعتقد أنَّ الله معه مُعِينٌ أو ظهير أو وزير.
_________
(١) البخاري (٥٠) / مسلم (١٠٢)
1 / 9
وهذا كله منفي، وكل هذا داخل في الاشتراك في الربوبية، كما قال ﷿ ﴿قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ [سبإ:٢٢]، فذكر أنواع الاشتراك في الربوبية:
- إما شَرِكَةْ مستقلة ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يعني استقلالًا.
- أو معاونة.
- أو اتخاذ ظهير ووزير لله ﷿.
وهذه المعتقدات موجودة في طوائف من هذه الأمة.
والإيمان بتوحيد الربوبية ونَفْيِ الشَّرِكَةْ في الربوبية على درجتين:
أ - الدرجة الأولى: واجبة على كل مُكَلَّف، ومن لم يأتِ بها فليس بموحّد، بل هو مشرك، وهو ما ذكرنا من الاعتقاد بأنَّ الله واحدٌ في ربوبيته؛ في أفعاله سبحانه، فهو الخالق وحده، وهو الرزّاق وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهو النافع الضار وحده ﷿، وهو مُدَبِّرُ الأمور وحده، وهو خالق الخَلق وحده، إلى آخر أفراد ذلك، وهذه واجبة على كل أحد.
ب - الدرجة الثانية: وهي مرتبةٌ للخاصة وأهل العلم وهي شهود آثار الربوبية في خَلْق الله ﷿، وهذه بحيث لا يَرَى غير الله ﷿ مُؤَثِرًا في هذا الملكوت، ولو كان تأثير معلولات عن عِلَلْ، أو تأثير مُسَبَّبَاتْ عن أسباب، فإنّه يَرَى أنْ لا مؤثر في الحقيقة ولا خالق إلا الله ﷿، وينظر لذلك في الملكوت متفكرًا، متدبرًا.
وهذه حال الخاصة وهي مستحبة، وهي لأهل العلم ولأهل الإيمان، وليست واجبة على كل أحد، كما قال سبحانه ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ [آل عمران:١٩٠-١٩١]، وكما وصف الله ﷿ بعض عباده بالتفكر والنظر والتدبر في خلق الله ﷿، بل أمر بذلك في بعض الآيات بقوله ﴿قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس:١٠١]، وكقوله ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ [الأعراف:١٨٤]، وكقوله ﷿ ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبإ:٤٦]، فهذا التَّفَكُرْ في ربوبية الله ﷿، في خلق الله يدل على توحيده في الربوبية، وهو حال الخاصة، كما قال الحسن البصري ﵀ (عاملنا القلوبَ بالتفكر فأورثها التذكر، فرجعنا بالتذكر على التفكر، وحركنا القلوب بهما، فإذا القلوب لها أسماع وأبصار) (١) .
وهذه عند أهل البدع وأهل الكلام مطلوبة وواجبة لمن كان أهلًا لها.
فيوجِبُونَ النظر، ويوجبون التفكر، ولا يصح إيمان أحدٍ - عند طائفة منهم- ممن كان أهلا للنظر إلا بالنظر.
فلو مات المتأهل للنظر من غير نَظَرٍ لم يكن مؤمنا بربوبية الله ﷿، وإنْ كانت تجري عليه أحكام أهل الإسلام في الدنيا فإنهم لا ُيجرُونَ عليه أحكام أهل الإسلام في الآخرة على تفصيل مذهب أهل الكلام في ذلك.
٢ - النوع الثاني من أنواع نفي الشريك في قوله (لا شريك له) نفي الشريك لله في إلهيته:-
والإلهية معناها العبادة، يعني لا شريك له في عبادته، كما دلت عليها كلمة التوحيد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) .
فيعتقد أنَّ الله ﷿ ليس معه إله يستحق العبادة، وأنّ كل من أُدُّعِيَ فيه الإلهية وأنه يُعْبَدْ، فإنما عُبِدَ بالبغي والظلم والعدوان والتعدي.
وكل من أشرك بالله ﷿ فهو ظالمٌ أبشع الظلم وأكبر الظلم؛ لأنه سبحانه توعَّد أهل الشرك بالنار، بل أوجب لهم النار في قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (٢) وكما قال المسيح ﵇ ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة:٧٢] .
لبيان هذا التوحيد وما يتصل به كتب توحيد العبادة المعروفة ومن أعظمها وأشملها كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ﵀.
٣ - النوع الثالث من أنواع نفي الشريك في قوله (لا شريك له) نفي الشريك لله في الأسماء والصفات:-
وذلك بأنْ يعتقد أنَّ الله ﷿ لا شريك له في كيفية اتصافه بالصفات.
يعني لا مُماثِلَ له، ولا مشابه له في كيفية اتصافه بالصفات.
_________
(١) يأتي ذكره (٣٣٢)
(٢) سورة النساء في الآيتين:٤٨ و١١٦.
1 / 10
وأنه سبحانه لا شريك له في المعنى المطْلَقْ لصفاته سبحانه ولأسمائه، ولا مُشَابِهَ له في المعنى المطلق لأسمائه وصفاته.
وأنَّ اشتراك بعض خلقه معه سبحانه في الصفات إنما هو اشتراك في مطلق المعنى وفي أصله لا في المعنى المطلق ولا في كماله ولا في الكيفية.
فيعتقد أنَّهُ لا شريك له في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله سبحانه، بل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] .
لأجل هذا المعنى العام، عَطَفَ عليها المصنف بقوله (ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه ولا إله غيره) كما سيأتي تفصيل الكلام على هذه المسائل في ذكر معنى هذه الجُمل الثلاث.
إذًا هذا إجمالٌ لمعنى التوحيد ونفي الشريك، ويأتي تفصيلها مع بيان كل مسألة:
توحيد الربوبية وأبحاثه، توحيد الأسماء والصفات وأبحاثه، توحيد الإلهية وأبحاث توحيد الإلهية.
بَقِيَ أن نقول: إنَّ في قوله (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) إنَّ هذه العبارة (لا شريكَ لَهُ) تفسيرها على طريقة أهل السنة ذكرناها.
وأمَّا أهل البدع فيقولون في تفسير (واحدٌ لا شريكَ لَهُ) عبارات مختلفة تجدونها في التفاسير، ويُكْثِرُ منها أهل البدع.
فيقولون في تفسير (واحدٌ):
واحد في ذاته لا قسيم له، وواحدٌ في صفاته لا شريك له، وواحدٌ في أفعاله لا نِدَّ له.
وفي قولهم في أوَّلِهَا (واحد في ذاته لا قسيم له) هذه من التعبيرات المحدثة، وإن كان يمكن أن تَحْتَمِلَ معنَىً صحيحًا؛ لكن التوحيد والأَحَدِيَة تُفسَّرُ بواحديته سبحانه وأحديته في ربوبيته وإلهيته وفي أسمائه وصفاته.
وأهل البدع في التوحيد اختلفت عباراتهم؛ وسبب اختلاف عباراتهم في التوحيد أنهم نظروا في تعريف التوحيد إلى حال النصارى وأهل الملل، فَفَسَّرُوا التوحيد بما يخالِفُ ما عليه بعض الطوائف.
فقالوا (واحدٌ في ذاته لا قسيم له) يعني نفيا للأقانيم الثلاثة التي هي صُوَرْ لله ﷿ مختلفة كما هو اعتقاد النصارى أو طائفة من النصارى، وكذلك اعتقاد السِّنَوِيَّة والذين يقولون أنَّ ثَمَّ إلهين، هو إله واحد لكن له أُقنومان شيءٌ للخير وشيءٌ للشر.
والله - واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، واحدٌ في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ـ.
سيأتي إن شاء الله مزيد بيان لقول المخالفين في تفسير الربوبية والألوهية والأسماء والصفات فيما نستقبل إن شاء الله تعالى.
نكتفي الليلة بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه أنْ يوفقكم لما يحب ويرضى، وأن يزيدني وإياكم من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يختم لنا برضاه، وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
1 / 11
الأسئلة:
س١/ قد يُفهم من الدرجة الثانية من توحيد الربوبية نفي الأسباب أو آثارها؟
ج/ لا يُفْهَم ذلك؛ لأنَّ المقصود أن يرى، أن يشهد آثار الأسماء والصفات، وشُهود آثار الأسماء والصفات، هذا ليس نفيًا للأسباب، بل هو جعل الأسباب أسبابًا، وعدم مجاوزتها لكونها أسبابًا، فيرى أنّ الفاعل هو الله ﷿، وأنه سبحانه أجرى الأسباب بجعلها أسبابًا، وأنْتَجَ ﷾ عنها مسبباتها، وأنَّ العِلَلْ تُنْتِجُ معلولاتها، وأنَّ المؤثرات تنتج الآثار، إلى غير ذلك مما هو معلوم من اعتقاد أهل التوحيد.
س٢/ ما نكاد نقرأ كتابا من كتب السنة، كالسنة لعبد الله، واللالكائي، والإبانة إلا ونجد فصلًا أو بابا في طعن الأئمة في أبي حنيفة فما هو السبب؟ وما موقفنا من هذه الآثار؟
ج/ هذا كان في ذلك الزمان لأنَّ أبا حنيفة ﵀ خالف السنة والآثار في مسائل كثيرة جدًا، ورَدَّ عليه أهل السنة والحديث حتى لا يأخذ الناس بكلامه في ذلك، فالتآليف هذه لأجل انتشار مذهب الحنفية في البلاد، فكتبوا ذلك تحذيرًا من اتِّبَاعِهِ فيما أخطأ فيه، لكن لمَّا استَقَرَّتْ المذاهب، واستقرت الفرق، وصار أبو حنيفة ﵀ أحد الأئمة الأعلام الذين يشار إليهم، والذين يُتَّبعون في مسائل الفقه، ترك أهل السنة إيراد ذلك بعد نهاية القرن الخامس، واجتمعوا على عدم ذكرها، بل عَدُّوهُ من الأئمة الأعلام كما عَقَدَ ذلك شيخ الإسلام في كتابه المعروف (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وذكر منهم أبا حنيفة ﵀.
فأخطأ هو في مسائل، وخالف السنة في مسائل، وعُدَّ من مرجئة الفقهاء، لكن ما ورد في تلك الكتب من شتمه ولعنه وسبه أو نحو ذلك، هذا تَرَكَهُ أهل السنة؛ فلم يَصِرْ من شعار أهل السنة أن يُفعَلَ ذلك، كما قرَّرَهُ الأئمة وفي كتبهم وتركوه في مؤلفاتهم بعد نهاية القرن الخامس.
س٣/ بعض أهل العلم يقسّم التوحيد إلى أربعة أقسام: توحيد الإلهية، توحيد الربوبية، توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الحاكمية فهل هذا التقسيم صحيح أم لا؟
ج/توحيد الحاكمية داخِلٌ إما في توحيد الربوبية أو في توحيد الإلهية أو فيهما معًا؛ لأنَّ الله ﷿ جعل الحكم إليه سبحانه بقوله ﴿إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (١)، وقال ﷿ ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:١٠]، ونحو ذلك من الآيات، وكقوله ﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غافر:١٢] .
فالحاكمية من جهة تحاكم الناس هذا فِعْلُ العبد، وفِعْلُ العبد داخلٌ في توحيد الإلهية، ولهذا أَدْخَلَ إمام الدعوة مباحث هذا النوع من التوحيد في (كتاب التوحيد) فعَقَدَ عدة أبواب في بيان هذه المسألة العظيمة المهمة، ولهذا نقول إنَّ إفراده بالذكر لا يصلح؛ لدخوله في توحيد الإلهية، فهو من ضمن مسائله الكثيرة.
لكن قد يُقْسَمْ التوحيد عند طائفة من أهل العلم إلى أربعة أقسام ويجعلون الرابع توحيد المتابعة؛ يعني متابعة النبي ﷺ، وهم يقصدون بهذا التقسيم ما دلَّتْ عليه الشهادتان.
فإذا قالوا (توحيد الله) قالوا ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
وإذا قالوا (التوحيد) بدون الإضافة إلى الله ﷿، جعلوه أربعة أقسام؛ ثلاثة مختصة بالله ﷿، والرابع هو توحيد المتابعة للنبي ﷺ، لأنْ لا يُتَّبَعَ في التشريع غير المصطفى ﷺ.
_________
(١) الأنعام:٥٧، يوسف:٤٠، يوسف:٦٧.
1 / 12
وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ، وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ
_________
هذه الجمل الثلاث وهي قوله (وَلا شيءَ مِثْلُهُ، وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ، وَلا إلهَ غَيْرُهُ) تفصيلٌ لما يعتقده في توحيد الله ﷿.
والتوحيد -كما ذكرنا- منقَسِمٌ إلى الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية.
فذَكَرَ هذه الأقسام الثلاث في قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ، وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ، وَلا إلهَ غَيْرُهُ) .
فقوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ) راجِعٌ إلى توحيد الأسماء والصفات والأفعال.
وقوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) راجع أو مُثْبِتٌ لتوحيد الربوبية.
وقوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) مثبتٌ لتوحيد العبادة والألوهية.
وقدَّمَ ﵀ ما يدل على توحيد الأسماء والصفات بعد ذِكْرِ توحيد الإلهية في قوله (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ)؛ لأنَّ النزاع كائنٌ في توحيد الإلهية وفي توحيد الأسماء والصفات.
فَمَعَ أهل الشرك النزاع في توحيد الإلهية، وهو الذي كان النزاع فيه ما بين الرسل وبين أقوامهم.
ولهذا قَدَّمَ ما يعتقده بقوله (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) لأنَّ هذا هو حقيقة النزاع بين الرسل وبين أقوامهم.
ثم قال (وَلا شيءَ مثْلُهُ) لأن هذا هو حقيقة النزاع ما بين أهل السنة والجماعة وما بين مخالفيهم من المبتدعة على أصنافهم من المجسمة والمعطلة والنفاة وأشباه هؤلاء.
وأيضا قَرَنَ بينهما لأنَّ البدع بريد الشرك، فإنَّ تَرْكَ تنزيه الله ﷿ عن مماثلة المخلوقين تؤدي إلى الشرك به ﷿، ولهذا قال من قال من السلف (المعطِّل يعبد عدما والممثل يعبد صنما) (١) .
فالتمثيل ثَمَّ اقترانٌ بينه وبين الشرك؛ لأنَّ الممثل اتَخَذَ صورَةً جَعَلَهَا على صفات معينة فصارت صنمًا له، كما أنَّ المشركين عبدوا الأصنام واتخذوها آلهة.
وأما قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) فهو توحيد الربوبية كما سيأتي ذلك مفصلا.
إذًا فترتيب المصنف الطحاوي ﵀ لهذه الجمل الأربع ترتيبٌ مناسب، وهو مَتَنَقِلٌ بِفَهْمٍ في أمور الاعتقاد وموقف أهل السنة وأهل الإسلام من مخالفيهم.
والجملة الأولى في هذا اليوم هي قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ) والكلام عليها يكون في مسائل:
_________
(١) مجموع الفتاوى (٥/١٩٦) / الصواعق المرسلة (١/١٤٨)
1 / 13
[المسألة الأولى]:
أنَّ قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ) مأخوذٌ من قول الله ﷿ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، ومن قوله ﷿ ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤]، ومن قوله ﷿ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥]، ومن قوله سبحانه ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال َإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٧٤]، وأشباه هذه الأدلة التي تدل على أنَّ الله سبحانه لا يماثله شيء من مخلوقاته.
1 / 14
[المسألة الثانية]:
أنَّ قوله (لا شيءَ مثْلُهُ) راجِعٌ لنفي المماثلة.
وهذا هو الذي جاء في الكتاب والسنة أنْ يُنْفَى عن الله ﷿ أن يُمَاثِلَ أحدًا أو شيئًا من خلقه، وكذلك يُنْفَى عن المخلوق أن يكون مُمَاثِلًَا لله ﷿.
وإذا كان كذلك، فالمماثلة أو التمثيل أو المِثلِيَّة تُعَرَّفُ بأنها المساواة في الكيف والوصف:
والمساواة في الكيفية راجعة إلى أَنْ يكون اتصافه بالصفة من جهة الكيفية مُمَاثِلٌ لاتصاف المخلوق، كقولهم: يد الله كأيدينا وسمعه كأسماعنا وأشباه ذلك.
وأما المماثلة في الصفات فهي أن يكون معنى الصفة بكماله التام في الخالق كما هو في المخلوق.
إذا تِقِرَّرَ ذلك، فإنَّ اعتقاد المماثلة في الكيفية أو في الصفات على النحو الذي ذكرتُ هذا تمثيل يَكْفُر صاحبه.
ولهذا كَفَّرَ أهلُ السنة النصارى، وكَفَّرَ أهلُ السنة المُجَسِّمَة؛ لأنَّ النصارى شَبَّهُوا المخلوق بالخالق، وشَبَّهُوا عيسى بالله ﷿، والمُجَسِّمَة شَبَّهُوا الله ﷿ ومثَّلُوه بخلقه.
1 / 15
[المسألة الثالثة]:
الفرق ما بين المماثلة والمثلية وبين التشبيه.
ولتقرير ذلك تنتبه إلى أنَّ الذي جاء نفيه في الكتاب والسنة إنما هو نفي المماثلة.
أما نفي المشابهة؛ -مشابهة الله لخلقه- فإنها لم تُنْفَ في الكتاب والسنة؛ لأنَّ المشابهة تحتملُ أن تكون مشابهةً تامة، ويحتمل أن تكون مشابهةً ناقصة.
فإذا كان المراد المشابهة التامة فإنَّ هذه المشابهة هي التمثيل وهي المماثلة، وذلك منفِيٌ، لقوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١] .
فإذًا لفظ المشابهة ينقسم:
- إلى مُوَافِقٍ للمماثلة، الشَبِيهْ موافِقٌ للمثيل وللمِثِلْ.
- وإلى غير موافق.
يعني قد يشترك معنى الشبيه والمثيل ويكون المعنى واحدًا، إذا أُريْدَ بالمشابهة المشابهة التامة في الكيفية وفي تمام معنى الصفة.
وأمَّا إذا كان المراد بالمشابهة المشابهة الناقصة وهي الاشتراك في أصل معنى الاتصاف، فإنَّ هذا ليس هو التمثيل المنفي، فلا يُنْفَى هذا المعنى الثاني، وهو أن يكون ثَمَّ مشابهة بمعنى أن يكون ثَمَّ اشتراك في أصل المعنى.
وإذا كان كذلك فإنَّ لفظ الشبيه والمثيل بينهما فرق -كما قَرَّرْتُ لك- ولفظ المشابهة لفظ مجمل لا يُنْفَى ولا يُثْبَتْ.
وأهل السنة والجماعة إذا قالوا: إنَّ الله ﷿ لا يماثله شيء ولا يشابهه شيء يعنون بالمشابهة المماثلة.
أما المشابهة التي هي الاشتراك في المعنى فنعلم قَطْعًَا أنَّ الله ﷿ لم ينفها؛ لأنه سبحانه سَمَّى نفسه بالملك ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:٤]، ﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ (١) وسَمَّى بعض خلقه بالمَلِكْ ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ (٢) وأشباه ذلك من الآيات، وكذلك سَمَّى نفسه بالعزيز، وسَمَّى بعض خلقه بالعزيز، وكذلك جَعَلَ نفسه سبحانه سميعًا، وأخبرنا بصفة السمع له، والبصر، والقوّة، والقدرة، والكلام، والاستواء، والرحمة، والغضب، والرضا وأشباه ذلك، وأثبت هذه الأشياء للإنسانِ فيما يناسبه منها.
فَدَلَّ على أَنَّ الاشتراك في اللفظ وفي بعض المعنى ليس هو التمثيل الممتنِع؛ لأنَّ كلام الله ﷿ حق وبعضه يفسر بعضًا.
فَنَفَى المماثلة سبحانه بقوله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، وأثبت اشتراكًا في الصفة.
وإذا قلتُ اشتراكًَا ليس معنى ذلك أنها من الأسماء المُشْتَرَكَة في الصفات، ولكن أثْبَتَ اشتراكًا في الوصف يعني شَرِكَةً فيه، فإنَّ الإنسان له مُلْكْ والله ﷿ له الملك، والإنسان له سمع والله ﷿ له سمع، والإنسان له بصر والله ﷿ له بصر، وهذا الإثبات فيه قَدْرٌ من المشابهة، لكنَّهَا مُشَابَهَةٌ في أصل المعنى، وليست مشابهة في تمام المعنى ولا في الكيفية.
فتحَصَّلَ من ذلك أنَّ المشابهة ثلاثة أقسام:
١ - الأول: مشابهة في الكيفية، وهذا ممتنع.
٢ - الثاني: مشابهةٌ في تمام الاتصاف ودلالة الألفاظ على المعنى لكمالها، وهذا ممتنع.
٣ - الثالث: مشابهة في معنى الصفة - في أصل المعنى - وهو مطلق المعنى وهذا ليس بمنفي.
ولهذا صار لفظ التمثيل، ونفي التمثيل، ونفي المِثْلِيَّة شرعيًا؛ لأنه واضح، دلالته غير مجملة.
وأما لفظ المشابهة فإنَّ دلالته مجملة فلم يأتِ نفيه.
ونحن نقول إنَّ الله ﷿ لا يماثله شيء ولا يشابهه شيء ﷾.
ونعني بقولنا (لا يشابهه شيء) معنى المماثلة في الكيفية أو المماثلة في تمام الاتصاف بالصفة وتمام دلالة اللفظ على كمال معناه.
_________
(١) طه:١١٤، المؤمنون:١١٦.
(٢) يوسف:٤٣، ٥٠، ٥٤.
1 / 16
[المسألة الرابعة]:
أَنَّ إثبات الصفات لله ﷿ قاعدته مأخوذةٌ من هذه الجملة (وَلا شيءَ مثْلُهُ) .
فإثبات الصفات مأخوذ من قوله سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، فنفى ﷾ وأَثْبَتْ.
وعند أهل السنة والجماعة أنَّ النفي يكون مُجْمَلًَا (لا شيءَ مثْلُهُ)، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وأنَّ الإثبات يكون مُفَصَّلًَا ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ .
وهذا بخلاف طريقة أهل البدع فإنهم يجعلون الإثبات مُجْمَلًَا، والنفي مُفَصَّلًَا، فيقولون في صفة الله ﷿: إن الله ليس بجسمٍ ولا بشبحٍ ولا بصورةٍ ولا بذي أعضاء ولا بذي جوارح ولا فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن شمال ولا قُدّام ولا خلف وليس بذي دم ولا هو خارج ولا داخل. إلى آخر تصنيفهم للمنفيات، وإذا أتى الإثبات، إنما أثبتوا مُجْمَلًَا.
فصار نفيهم وإثباتهم على خلاف ما دَلَّتْ عليه الآية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ .
فطريقة أهل السنة أنَّ النفي يكون مُجْمَلًَا وأن الإثبات يكون مُفَصَّلًَا على قوله سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ .
والنفي المُجْمَلْ فيه مدح، والإثبات المُفَصَّلْ فيه مدح.
والنفي المُجْمَلْ والإثبات المُفَصَّلْ من فروع معنى استحقاق الله ﷿ للحمد.
والله سبحانه أثْبَتَ أنه مَحْمُودٌ ومُسَبَّحٌ في سماواته وفي أرضه ﷿، كما قال سبحانه ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء:٤٤]، وكقوله ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الروم:١٨]، وكقوله ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم:١٧]، ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (١)، ونحو ذلك.
والجمع بين التسبيح والحمد هو جَمْعٌ بين النفي والإثبات؛ لأنَّ التسبيح نفي النقائص عن الله فجاء مُجْمَلًَا، والحمد إثبات الكمالات لله ﷿ فجاء مفصلًا.
فإثبات الكمالات من فروع حمده ـ، ولهذا صار محمودًا ﷿ على كل أسمائه وصفاته، وعلى جميع ما يستحقه سبحانه، وعلى أفعاله ﷿.
وتنزيهه سبحانه بالنفي - يعني بالتسبيح - أنْ يكون ثَمَّ مُمَاثِلْ له ﷾.
فمعنى (سبحان الله) تنزيهًا لله ﷿ عن أن يماثله شيء أو عن النقائص جميعًا.
والحمد إثبات الكمالات بالتفصيل.
فإذًا من نَفَى مُجْمَلًَا وأثْبَتَ مُفَصَّلًَا، فإنه وافق مقتضى التسبيح والحمد الذي قامت عليه السموات والأرض.
ومن نفى مُفَصَّلًَا وأثبت مُجْمَلًَا، فقد نافى طريقة الحمد والتسبيح الذي قامت عليه السماوات والأرض.
لهذا صارت طريقة القرآن أن يكون النفي مُجْمَلًَا والإثبات مُفَصَّلًَا، وطريقة أهل البدع بعكس ذلك.
_________
(١) الجمعة:١، التغابن:١.
1 / 17
[المسألة الخامسة]:
أنَّ قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، الذي هو دليل (وَلا شيءَ مثْلُهُ)، قد اختلَفَ فيه المفسرون في معنى الكاف في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .
والكاف هنا، على أي شيء تدل؟ على أقوال:
١ - القول الأول: أنَّ الكاف هذه بمعنى مِثْل، فيكون معنى قوله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ليس مِثْلَ مِثْلِه شيء، مبالغة في النفي عن وجودِ مِثْلِ المِثْل، فكيف يوجد المِثْلْ، فنَفْيُه من باب أولى.
ومجيء الكاف بمعنى الاسم هذا موجود في القرآن وكذلك في لغة العرب:
- فأما مجيئه في القرآن -مجيء الكاف بمعنى الاسم، وهي حرف- كما في قوله ﷿ ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة:٧٤]، فقوله (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) عَطَفَ الاسم على الكاف التي هي في قوله (كَالْحِجَارَةِ)؛ (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ)، ومعلوم أنَّ الاسم إنما يُعْطَفُ على الاسم فقوله (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) يعني فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.
- ومجيئه في اللغة أيضًا ظاهر ومحفوظ، كقول الشاعر:
لو كان في قلبي كقدر قُلَامَةٍ ****** حبا لغيركِ ما أتتكِ رسائلي
فقوله (لو كان في قلبي كقدر قلامة) هذا جَعَلَ شبه الجملة الجارّ والمجرور (في قلبي) مُقَدَّمْ، وجَعَلَ الاسم (كقدر) لكون الكاف بمعنى (مِثْل)؛ يعني لو كان في قلبي مِثْلُ قَدْرِ قُلَامة.
وهذا التوجيه الأول لطائفة من المفسرين في أنَّ الكاف هنا بمعنى (مِثْل) على ما ذكرنا.
وهذا التوجيه لهم وجيهٌ وظاهرٌ في اللغة ومستقيمُ المعنى أيضًا في الآية.
٢ - القول الثاني: أنَّ الكاف في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذه صلة، وهي التي تُسَمَّى عند النحويين زائدة؛ وزيادتها ليس زيادَةً للفظ، وإنما هو زيادَةٌ لها لكون المعنى زائدًا.
فليست زائدة بمعنى أن وجودها وعدم وجودها واحد، حاشا وكلا أنْ يكون في القرآن شيء من ذلك، وإنما تُزادْ ليكون مبالغةً في الدلالة على المعنى.
فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تكون الكاف صلة ومجيء الصلة في مقام تَكْرَارِ الجملة تأكيدًا.
كما حَرَّرَهُ ابن جِنِّي النحوي المعروف في كتابه (الخصائص) حيث قال:
إنَّ الصلة والزيادة تكون في الجمل لتأكيدها وتكون مقام تكريرها مرتين أو أكثر. أو كما قال.
فيكون معنى قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): ليس مِثْلَه شيء، ليس مثله شيء، ليس مثله شيء، وهو السميع البصير. وهذا تفهمه العرب في كلامها.
وجاءت الزيادة بالصلة في مواضع كثيرة من القرآن كقول الله ﷿ ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:١٥٩] .
فقوله ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ﴾ يعني: فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم. يعني ليس من جهتك وإنما هو رحمة من الله ﷾.
وكقوله ﷿ ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ﴾ [المائدة:١٣] يعني: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، وكقوله ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة:١] في أحد وجهي التفسير.
إذا تقرر لك ذلك فإنَّ الوجه الأَوْلى من هذين التفسيرين هو الثاني من كون الكاف صلة زائدة في مقام تكرير الجملة؛ يعني أنَّ النفي أُكِّد فتكون أبلغ من أنْ يُنْفَى مِثْلْ المِثْل؛ لأنه قد يُشْكِلْ في نفي مثل المثل أن يكون (١)
: [[الشريط الثاني]]:
نفيُ المِثْليِةِ الأولى ليس مستقيمًا دائمًا، أو ليس مفهومًا دائمًا.
أما الثاني فإنه واضح من جهة العربية، وواضح من جهة العقيدة، وواضح من جهة دلالته على تأكيد النفي الذي جاء في الآية.
هذا خلاصة الكلام على قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ) .
_________
(١) انتهى الشريط الأول
1 / 18
ثم قال ﵀ (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ)
_________
ومعنى (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) يعني أنه ﷾ لا شيء مما يصح أن يُطلق عليه أنه شيء يعجزه ﷿ ويُكْرِثُهُ ويُثْقِلُهُ ولا يكون قادرا عليه، بل هو سبحانه الموصوف بكمال القدرة وكمال العلم وكمال اتصافه بالصفات وكمال القوة، فلذلك لا شيء يعجزه ﷾.
(وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) فيها تقرير لتوحيد الربوبية كما ذكرنا آنفا؛ لأن نفي العجز لأجل كمال القدرة، كمال الغنى، وكمال قوته ﷾، وهذا راجع إلى أفراد توحيد الربوبية.
وفي الكلام على قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) مسائل:
1 / 19
[المسألة الأولى]:
أن هذا منتزع من قوله الله ﷿ ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر:٤٤]، فنفى سبحانه أن ثَمَّ شيءٌ يعجزه في السماوات وكذلك في الأرض، وعلَّلَ ذلك بكونه (عَلِيمًا قَدِيرًا) .
ونفي العجز في الآية جاء مُعَلَّلًا بكمال علمه وقدرته؛ وذلك لأنَّ العجز في الجملة:
- إما أن يرجع إلى عدم علم، فلأجل عدم علمه بالأمر عجز عنه.
- وإما أن يرجع لعدم القدرة، فَعَلِمَ ولكن لا يقدر على إنفاذ ما علم أو ما يريد.
- وإما أن يرجع إليهما معا.
ولذلك لما قال ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ عَلَّلَه بقوله ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾، ومن المتقرر في علم الأصول في مسالك العلة من أبواب القياس: أنّ التعليل في القرآن والسنة يُستفادُ من جهات؛ ومنها مجيء (إنَّ) بعد الخبر أو بعد الأمر والنهي.
وهنا لما أخبر عن نفسه بعدم العجز، وعلل ذلك بكونه سبحانه عليما قديرا، عَلِمْنَا أنَّ سبب عدم العجز هو كمال علمه سبحانه وكمال قدرته.
1 / 20